شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه
المؤلف : سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي (المتوفى : 793هـ)
 
بعض فاستخرجه قد سمى البعض أول الأربعة غريبا والثلاثة ملائمة ثم لا يخلو من
ـــــــ
وكطهارة سؤر الهرة" نظير اعتبار الجنس في الجنس "فإن لجنس الضرورة اعتبارا في جنس التخفيف وقد يتركب بعض الأربعة مع بعض فاستخرجه" كالصغر مثلا فإن لنوعه اعتبارا في جنس الولاية ولجنسه اعتبارا في جنسها فإن جنسه العجز والولاية ثابتة على العاجز كالمجنون مثلا وقس عليه البواقي والمركب ينقسم بالتقسيم العقلي أحد عشر قسما واحد منها مركب من الأربعة وأربعة منها مركبة من ثلاثة وستة مركبة من اثنين ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع ثم المركب من ثلاثة ثم المركب من اثنين ثم ما لا يكون مركبا "قد سمى البعض أول الأربعة غريبا والثلاثة ملائمة ثم لا يخلو من أن يكون له أصل
................................................................................................
لنوع ذلك الحكم كعدم دخول شيء في الجوف لعدم فساد الصوم أو علية ذلك النوع من الوصف لجنس ذلك الحكم كما في سقوط الزكاة عمن لا عقل له فإن العجز بواسطة عدم العقل مؤثر في سقوط ما يحتاج إلى النية وهو جنس لسقوط الزكاة أو علية جنس الوصف لجنس الحكم كما في سقوط الزكاة عن الصبي بتأثير العجز بسبب عدم العقل في سقوط ما يحتاج إلى النية, وأما أمثلة المتن ففي بعضها نظر لما سيأتي من أن السكر والصغر من قبيل المركب, ولما سبق من أن المراد هاهنا الجنس القريب والضرورة للطواف ليست كذلك بل قد عرفت أنه ليس بملائم فضلا عن المؤثر.
قوله: "وقد يتركب بعض الأربعة" لا خفاء في أن أقسام المفرد أربعة حاصلة من ضرب الاثنين في الاثنين; لأن المعتبر في جانب الوصف هو النوع أو الجنس, وكذا في جانب الحكم وحينئذ يلزم انحصار المركب في أحد عشر; لأن التركيب إما ثنائي أو ثلاثي أو رباعي أما الرباعي فواحد لا غير, وأما الثلاثي فأربعة; لأنه إنما يصير ثلاثيا بنقصان واحد من الرباعي وذلك الواحد إما أن يكون اعتبار النوع في النوع أو في الجنس أو اعتبار الجنس في النوع أو في الجنس, وأما الثنائي فستة; لأن كل واحد من الأقسام الأربعة للأفراد ويتركب مع كل من الثلاثة الباقية ويصير اثنا عشر حاصلة من ضرب الأربعة في الثلاثة فيسقط ستة بموجب التكرار, أو نقول اعتبار النوع في النوع إما أن يتركب مع اعتبار الجنس في النوع أو مع اعتبار النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في الجنس ثم اعتبار الجنس في النوع إما أن يتركب مع اعتبار النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في الجنس ثم اعتبار النوع في الجنس يتركب مع اعتبار الجنس في الجنس فإن قلت اعتبار النوع يستلزم اعتبار الجنس ضرورة أنه لا وجود للنوع بدون الجنس فلا يتصور الإفراد إلا في اعتبار الجنس في الجنس, وأما اعتبار النوع في النوع فيستلزم التركيب الرباعي ألبتة, واعتبار النوع في الجنس أو عكسه يستلزم التركيب الثنائي. قلت المراد الاعتبار قصدا لا ضمنا حتى إن الرباعي ما يكون كل من الاعتبارات الأربعة مقصودا على حدة فالمركب من الأربعة كالسكر فإنه مؤثر في الحرمة, وكذا جنسه الذي هو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثر في الحرمة ثم السكر يؤثر في وجوب الزاجر أعم من أن يكون أخرويا كالحرمة أو دنيويا كالحد ثم لما كان السكر مظنة للقذف صار المعنى المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثرا في وجوب الزاجر.
(2/155)
 
 
أن يكون له أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه ويسمى شهادة الأصل وهي أعم من أولى الأربعة مطلقا وبينها وبين أخيري الأربعة عموم وخصوص من وجه.
ـــــــ
معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه ويسمى شهادة الأصل وهي أعم من أولى الأربعة مطلقا" أي شهادة الأصل أعم من اعتبار نوع الوصف في نوع الحكم ومن اعتبار جنس الوصف في نوع الحكم; لأنه كلما وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم فقد وجد للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه لكن لا يلزم أنه كلما وجد له أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه فقد وجد اعتبار نوع
................................................................................................
وأما المركب من الثلاثة فالمركب مما سوى اعتبار النوع في النوع كالتيمم عند خوف فوت صلاة العيد فإن الجنس وهو العجز الحكمي بحسب المحل يحتاج إليه شرعا مؤثر في الجنس أي في سقوط الاحتياج في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إقامة لأحد العناصر مقام الآخر فإن التراب مطهر في بعض الأحوال بحسب نشف النجاسات وأيضا عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس وهو عدم وجوب استعماله لكن النوع وهو خوف الفوت لا يؤثر في النوع أي في التيمم من حيث إنه تيمم, والمركب مما سوى اعتبار الجنس في النوع كما في التيمم إذا لم يجد إلا ماء يحتاج إلى شربه فإن العجز الحكمي بحسب المحل عن استعمال ما يحتاج إليه شرعا مؤثر في سقوط الاحتياج فهذا تأثير الجنس في الجنس ثم النوع مؤثر في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} على ما ذكرنا وأيضا عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس أي في عدم استعماله دفعا للهلاك لكن الجنس غير مؤثر في النوع; لأن العجز المذكور لا يؤثر في التيمم من حيث هو التيمم والمركب مما سوى اعتبار النوع في الجنس كالحيض في حرمة القربان فهذا تأثير النوع في النوع, وجنسه وهو الأذى علة أيضا لحرمة القربان ولجنسه وهو وجوب الاعتزال والمركب مما سوى اعتبار الجنس في الجنس يقال الحيض علة لحرمة الصلاة فهذا تأثير النوع في النوع, وأيضا علة للجنس وهو حرمة القراءة أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها ولجنسه وهو الخروج من السبيلين تأثير في حرمة الصلاة لكن ليس له تأثير في الجنس وهو حرمة القراءة مطلقا.
وأما المركب من الاثنين فالمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في النوع كما في طهارة سؤر الهرة فإن الطواف علة للطهارة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين" وجنسه هو مخالطة نجاسة يشق الاحتراز عنها علة للطهارة كآبار الفلوات والمركب من اعتبار النوع في النوع مع النوع في الجنس كإفطار المريض فإنه مؤثر في الجنس وهو التخفيف في العبادة, وكذا في الإفطار بسبب الضرر, والمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في الجنس كولاية النكاح في المجنون جنونا مطبقا فإنه من حيث إنه عجز بسبب عدم العقل مؤثر في مطلق الولاية, ثم من حيث إنه عجز دائمي بسبب عدم العقل علة لولاية النكاح للحاجة بخلاف الصغر فإنه من حيث إنه صغر لا يوجب هذه الولاية. والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع الجنس في الجنس كالولاية في مال
(2/156)
 
 
الوصف أو جنسه في نوع الحكم "وبينها وبين أخيري الأربعة عموم وخصوص من وجه" أي قد يوجد شهادة الأصل بدون واحد من أخيري الأربعة وقد يوجد واحد من أخيري الأربعة بدون شهادة الأصل وقد يوجدان معا
................................................................................................
الصغير فإن العجز لعدم العقل مؤثر في مطلق الولاية ثم هو مؤثر في الولاية في المال للحاجة إلى بقاء النفس, والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع النوع في الجنس كخروج النجاسة فإنه مؤثر في وجوب الوضوء ثم خروجها من غير السبيلين كما في اليد وهي آلة التطهير مؤثر في وجوب إزالتها والمركب من اعتبار النوع في الجنس مع الجنس في الجنس كما في عدم الصوم على الصبي والمجنون, فإن العجز لعدم العقل مؤثر في سقوط العبادة للاحتياج إلى النية ثم الجنس وهو العجز لخلل في القوى مؤثر في سقوط العبادة كذا ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: "ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع" يعني أن قوة الوصف إنما هي بحسب التأثير والتأثير بحسب اعتبار الشارع وكلما كثر الاعتبار قوي الآثار فيكون المركب أقوى من البسيط, والمركب من أجزاء أكثر أقوى من المركب من أجزاء أقل وأنت خبير بأنه إنما يستقيم فيما سوى اعتبار النوع في النوع أنه أقوى الكل لكونه بمنزلة النص حتى يكاد يقر به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل فالمركب من غيره لا يكون أقوى منه.
قوله: "وقد سمى البعض" ذكر في بعض أصول الشافعية رحمهم الله تعالى أن المناسب الغريب ما يؤثر نوعه في نوع الحكم ولم يؤثر جنسه في جنسه كالطعم في الربا فإن نوع الطعم وهو الاقتيات مؤثر في ربوية البر ولم يؤثر جنس الطعم في ربوية سائر المطعومات كالخضراوات والملائم هو الأقسام الثلاثة الباقية.
قوله: "ثم لا يخلو" أي الحكم بعد التعليل لا يخلو من أن يكون مقرونا بشهادة الأصل أو لا يكون ففي الكلام حذف والمراد بشهادة الأصل أن يكون للحكم المعلل أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه وإنما قلنا المراد أنه لا يخلو من أن يكون له أصل أو لا يكون لما ذكر أن كلا من اعتبار النوع في الجنس واعتبار الجنس في الجنس قد يوجد بدون شهادة الأصل, فصار الحاصل أن كلا من اعتبار النوع في النوع واعتبار الجنس في النوع يستلزم شهادة الأصل وهو معنى العموم والخصوص المطلق, وأما اعتبار النوع في الجنس أو الجنس في الجنس فلا يستلزم شهادة الأصل بل قد يجتمعان, وقد يفترقان وهذا معنى العموم والخصوص من وجه فالتعليل بالوصف الذي اعتبر نوعه أو جنسه في نوع الحكم يكون قياسا لا محالة; لأن الحكم المعلل مقيس, والأصل الشاهد مقيس عليه, وكذا التعليل بالوصف الذي اعتبر نوعه في جنس الحكم أو جنسه في جنسه إذا كان مع شهادة الأصل, وأما إذا كان بدونها فهو تعليل مشروع مقبول بالاتفاق لكن عند بعضهم يسمى قياسا وعند بعضهم يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي بمنزلة ما قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن التعليل بالعلة المتعدية يكون قياسا وبالعلة القاصرة لا يكون قياسا بل يكون بيان علة شرعية للحكم, وقال شمس الأئمة رحمه الله تعالى: الأصح عندي أنه قياس على كل حال فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه وربما لا يقع
(2/157)
 
 
فالتعليل بهما بدون الشهادة حجة ويسمى عند البعض تعليلا لا قياسا وعند البعض هو قياس أيضا وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير لا يكون حجة عندنا ويسمى غريبا أيضا.
ـــــــ
"فالتعليل بهما بدون الشهادة حجة ويسمى عند البعض تعليلا لا قياسا وعند البعض هو قياس أيضا وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير لا يكون حجة عندنا ويسمى غريبا أيضا" اعلم أن التعليل بأولى الأربعة لا يكون إلا مع شهادة الأصل لما قلنا إنها أعم فيكون التعليل بكل منهما قياسا اتفاقا والتعليل بأخيري الأربعة إذا وجد مع شهادة الأصل يكون قياسا اتفاقا وإذا وجد بدون شهادة الأصل فعند البعض قياس وعند البعض لا ويسمى تعليلا لكنه مقبول اتفاقا وإنما الخلاف في تسميته قياسا وشهادة الأصل قد توجد بدون الأولين; لأنها أعم من كل منهما مطلقا وقد توجد بدون أخيري الأربعة; لأنها أعم من كل منهما من وجه فإذا وجدت بدون التأثير لا يقبل عندنا ويسمى غريبا أي يسمى الوصف الذي يوجد في صورة يوجد فيها نوع الحكم من غير تأثير غريبا فالغريب نوعان أحدهما مقبول وهو الوصف
................................................................................................
الاستغناء عنه فيذكر فعلى هذا لا يكون الخلاف في مجرد تسميته قياسا على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى بل عند البعض يكون التعليل بالوصف المؤثر مستلزما لشهادة الأصل لكنه قد يذكر, وقد لا يذكر وحينئذ يصح أن يحمل قوله ثم لا يخلو من أن يكون له أصل معين على ظاهره.
قوله: "وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير" يعني أن شهادة الأصل قد توجد بدون كل من الأنواع الأربعة للتأثير وحينئذ يسمى الوصف غريبا لعدم تأثيره فلا يقبل عندنا أي لا يجب قبوله; لأن شرط وجوب القبول هو التأثير أو المراد أنه لا يقبل ما لم يكن ملائما فإن قلت الملائم يجب أن يعتبر جنسه في جنس الحكم فهو أحد الأنواع الأربعة فالغريب لا يكون ملائما قلت أحد الأنواع هو اعتبار الجنس القريب في الجنس القريب على ما مر في تفسير المؤثر. والمعتبر في الملائم هو الجنس البعيد فالغريب بمعنى غير المؤثر يجوز أن يكون ملائما فظهر أن اسم الغريب يطلق على نوعين من الوصف أحدهما اعتبر نوعه في نوع الحكم على ما سبق من أن البعض يسمي أول الأربعة غريبا والثلاثة الباقية ملائمة وهو مقبول بالاتفاق, وثانيهما ما يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم لكن لا يعلم اعتباره, ولا إلغاؤه في نظر الشارع وهو مردود إذا لم يكن ملائما خلافا لأصحاب الطرد, وأشار المصنف رحمه الله تعالى في أثناء كلامه إلى إثبات شهادة الأصل بدون التأثير بأنها قد توجد بدون الأولين يعني اعتبار النوع أو الجنس في النوع لكونها أعم منها مطلقا وبدون الأخيرين يعني اعتبار النوع في الجنس أو الجنس في الجنس لكونها أعم منهما من وجه فتوجد بدون التأثير في الجملة لانحصاره في الأنواع الأربعة وما يتركب منها وفيه نظر; لأن التحقق بدون كل واحد من الأربعة لا يستلزم جواز التحقق بدون المجموع فيجوز أن يكون أعم من الأولين باعتبار أن يوجد في الأخيرين وبالعكس فبمجرد ذلك لا يلزم أن يوجد بدون التأثير.
(2/158)
 
 
وإنما اعتبرنا التأثير؛ لأنه أمر شرعي فيعتبر فيه اعتبار الشارع ولأن العلل المنقولة ليست إلا مؤثرة كقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين والطوافات عليكم" وقوله في المستحاضة: "إنه دم عرق انفجر" ولانفجار الدم من العرق وهو النجاسة تأثير في وجوب الطهارة وفي عدم كونه حيضا وفي كونه مرضا لازما فيكون له تأثير في
ـــــــ
الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم والثاني مردود وهو الوصف الذي يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم لكن لا نعلم أن الشارع اعتبر هذا الوصف أو لا.
"وإنما اعتبرنا التأثير; لأنه" أي القياس "أمر شرعي فيعتبر فيه" أي في القياس "اعتبار الشارع" وهو أن يكون القياس بوصف اعتبره الشارع أو اعتبر جنسه "ولأن العلل المنقولة ليست إلا مؤثرة كقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين والطوافات عليكم" وقوله في المستحاضة: "إنه دم عرق انفجر" ولانفجار الدم من العرق وهو النجاسة تأثير في وجوب الطهارة وفي عدم كونه حيضا وفي كونه مرضا لازما فيكون له تأثير في التخفيف وقوله عليه
................................................................................................
قوله: "وإنما اعتبرنا التأثير" في العلة لوجوب العمل بالقياس لوجهين: أحدهما أن القياس أمر شرعي فلا بد فيه من اعتبار الشارع. وثانيهما أن الأقيسة المنقولة عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كلها مبنية على العلل المؤثرة. وأجيب عن الأول أن يكون القياس أمرا شرعيا لا يقتضي إلا أن يكون له أصل في الشرع, وأما لزوم أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار الشارع نوع الوصف أو جنسه القريب في نوع الحكم أو جنسه القريب على ما فسرتم به التأثير فممنوع, ولم لا يكفي الجنس البعيد وحصول الظن بوجوه أخر من مسالك العلة؟ كيف وقد جوزتم العمل بغير المؤثر أيضا وعن الثاني بأنه لا يدل إلا على أن الأقيسة المنقولة كلها مبنية على علل معقولة مناسبة, وليس النزاع في ذلك بل في التأثير بالمعنى المذكور, ولا يخفى أن في كثير من الأقيسة المنقولة قد اعتبرت الأجناس البعيدة ولم يثبت اعتبار الوصف بنص أو إجماع بل بوجوه أخر. والظاهر أن مرادهم بالتأثير في هذا المقام ما يقابل الطرد فمعناه أن يكون الوصف مناسبا ملائما لإضافة الحكم إليه سواء كان مؤثرا بالمعنى الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى أو لا وحينئذ يتم الاستدلال وهذا ظاهر من النظر في كلامهم في هذا المقام ومن تقريرهم التأثير في الأمثلة المذكورة, ففي قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين" لجنس الطوف وهو الضرورة له أثر في الشرع في التخفيف وإثبات الطهارة ورفع النجاسة كمن أكل الميتة في المخمصة فإنه لا يجب عليه غسل اليد والفم للضرورة.
وأيضا لما كانت الهرة من الطوافين لم يمكن الاحتراز عن سؤرها إلا بحرج عظيم فسقط اعتبار النجاسة دفعا للحرج كما في حل الميتة في قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها دم عرق انفجر" 1
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الحيض باب 8. مسلم في كتاب الحيض حديث 62، 63. أبو داود في كتاب الطهارة باب 107. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 115 / 116. الموطأ في كتاب الطهارة / حديث 104. أحمد في مسنده 6/82، 187، 194.
(2/159)
 
 
التخفيف وقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء" الحديث وغيرها من أقيسة الرسول عليه السلام والصحابة رضي الله تعالى عنهم وعلى هذا قلنا مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف؛ لأن كونه مسحا مؤثر في التخفيف حتى لم
ـــــــ
الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء" الحديث وغيرها من أقيسة الرسول عليه السلام والصحابة رضي الله تعالى عنهم وعلى هذا قلنا مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف; لأن كونه مسحا مؤثر في التخفيف حتى لم يستوعب محله وأما قوله ركن فيسن تثليثه
................................................................................................
لانفجار الدم ووصوله إلى موضع يجب تطهيره عنه وهو معنى النجاسة أثر في وجوب طهارة وفي عدم كون انفجار الدم حيضا وفي كونه مرضا لازما مؤثرا في التخفيف, أما في وجوب الطهارة فلأن العبد لا يصلح للقيام بين يدي الرب إلا طاهرا, وأما في عدم كونه حيضا فلأن الحيض دم ثبت عادة راتبة في بنات آدم خلقها الله تعالى في أرحامهن وانفجار دم العرق ليس كذلك فلا يكون حيضا موقعا في الحرج الموجب لإسقاط الصلاة والوضوء, وأما في كونه مرضا فلأنه ليس في وسعها إمساكه ورده فيكون له تأثير في التخفيف بأن يحكم مع وجوده بقيام الطهارة في وقت الحاجة وهو وقت الصلاة للضرورة إذ لو وجبت عليها الطهارة لكل حدث لبقيت مشغولة بالطهارة أبدا ولم تفرغ للصلاة قطعا وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك", لعدم قضاء الشهوتين أثر في عدم انتقاض الصوم فكما أن المضمضة مقدمة شهوة البطن وليست في معنى الأكل كذلك القبلة مقدمة شهوة الفرج وليست في معنى الجماع لا صورة لعدم إيلاج فرج في فرج, ولا معنى لعدم الإنزال ففي الأمثلة المذكورة ليس التأثير بمعنى اعتبار النوع أو الجنس القريب.
قوله: "وغيرها" أي وكغير المذكورات من أقيسة النبي عليه السلام وأقيسة الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم الصدقة على بني هاشم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟" كذا أورده فخر الإسلام رحمه الله تعالى وغاية تقريره أن هذا تعليل بمعنى مؤثر وهو أن الصدقة مطهرة الأوزار والآثام فكانت وسخا بمنزلة الماء المستعمل فكما أن الامتناع من شرب الماء المستعمل أخذ بمعالي الأمور فكذلك حرمة الصدقة على بني هاشم تعظيم لهم وإكرام واختصاص بمعالي الأمور, وكما اختلفت الصحابة رضي الله عنهم في الجد مع الإخوة واحتج كل فريق بتمثيل مشتمل على معنى مؤثر هو القرابة من الجانبين أو الاتصال بالميت بطريق الجزئية فقال علي رضي الله تعالى عنه إنما مثل الجد مع الإخوة مثل شجرة أنبتت غصنا ثم تفرع عن الغصن فرعان فالقرب بين الفرعين أولى من القرب بين الفرعين والأصل لأن الغصن بين الفرعين والأصل واسطة, ولا واسطة بين الفرعين فهذا يقتضي رجحان الأخ على الجد إلا أن بين الفرعين والأصل جزئية وبعضية ليست بين الفرعين نفسهما فكان لكل منهما ترجيح فاستويا وقال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه مثل الجد مع الأخوين كمثل نهر ينشعب من واد ثم يتشعب من هذا النهر جدول ومثل الأخوين كمثل نهرين ينشعبان من واد فالقرب بين النهرين المتشعبين من الوادي أكثر من القرب بين الوادي والجدول بواسطة النهر. وقال
(2/160)
 
 
يستوعب محله وأما قوله ركن فيسن تثليثه كما في سائر الأركان فغير معقول وكذا جعلنا الصغر علة للولاية بخلاف البكارة وأيضا قلنا صوم رمضان متعين فلا يجب التعيين وقد ظهر تأثيره في الودائع والمغصوب وفي النقل فإن فرض رمضان فيه كالنقل في غيره.
وبعض العلماء احتجوا بالتقسيم فيه وهو أن يقول العلة إما هذا أو هذا أو هذا
ـــــــ
كما في سائر الأركان فغير معقول وكذا جعلنا الصغر علة للولاية بخلاف البكارة وأيضا قلنا صوم رمضان متعين فلا يجب التعيين وقد ظهر تأثيره" أي تأثير المتعين في عدم التعيين "في الودائع والمغصوب" فإن رد الوديعة والمغصوب واجب عليه ولا يجب عليه رد وغير هذا ولما كان هذا الرد متعينا لا يجب عليه تعيينه بأن يقول هذا الرد هو رد الوديعة فإن ردها مطلقا يصرف إلى الواجب عليه وهو رد الوديعة "وفي النقل" فإنه إذا نوى في غير رمضان صوما مطلقا ينصرف إلى النقل لتعينه ففي رمضان ينصرف إلى صوم رمضان لتعينه "فإن فرض رمضان فيه كالنقل في غيره.
وبعض العلماء احتجوا بالتقسيم فيه" أي على العلية في القياس "وهو أن يقول العلة إما هذا أو هذا أو هذا والأخيران باطلان فتعين الأول فإن لم يكن حاصرا لا يقبل وإن كان
................................................................................................
ابن عباس رضي الله تعالى عنه ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا, ولا يجعل أب الأب أبا اعتبر أحد طرفي القرابة وهو طرف الأصالة بالطرف الآخر وهو الجزئية في القرب.
قوله: "وعلى هذا" الأصل وهو اعتبار التأثير جزئيا في أقيستنا في المسائل المختلف فيها فعللنا بالعلل المؤثرة فإن للمسح أثرا في التخفيف فإنه أيسر من الغسل ويتأدى به الفرض, ولا يشترط فيه استيعاب المحل كما في المغسولات بخلاف الركنية فإنه لا أثر لها في التكرار وإبطال التخفيف وكون التثليث سنة اللهم إلا أن يقال إن الركنية تنبئ عن القوة والحصانة ووجوب الاحتياط فيناسب التكرار ليحصل باليقين أو بظن قريب منه. وكذا الصغر مؤثر في إثبات الولاية فإن ولاية النكاح لم تشرع إلا على وجه النظر للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة النكاح بنفسه وذلك في الصغر دون البكارة, وكذا تعيين الصوم الفرض في رمضان مؤثر في إسقاط وجوب التعيين; لأن أصل النية في العبادات إنما هو للتمييز بين العبادة والعادة, وتعيينها إنما هو للتمييز بين الجهات المتزاحمة فحيث لا تزاحم لا حاجة إلى التعيين بخلاف الفرضية; لأنه لا يعقل تأثيرها في إيجاب التعيين.
قوله: "وبعض العلماء" قد اشتهر فيما بين الأصوليين أن من مسالك العلة السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل الصالحة للعلية في عدد, ثم إبطال علية بعضها لتثبت علية الباقي فيكون هناك مقامان أحدهما بيان الحصر ويكفي في ذلك أن يقول بحثت فلم أجد سوى هذه
(2/161)
 
 
والأخيران باطلان فتعين الأول فإن لم يكن حاصرا لا يقبل وإن كان حاصرا بأن يثبت عدم علية الغير بالإجماع مثلا بعدما ثبت تعليل هذا النص يقبل كإجماعهم على أن علة الولاية، إما الصغر أو البكارة فهذا إجماع على نفي ما عداهما وبتنقيح المناط وهو أن يبين عدم علية الفارق ليثبت علية المشترك وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرضوا لهذين فإنه على تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النص أو الإجماع أو المناسبة وبالدوران
ـــــــ
حاصرا بأن يثبت عدم علية الغير" أي غير هذه الأشياء التي ردد فيها "بالإجماع مثلا" إنما قال مثلا; لأنه يمكن أن يثبت عدم علية الغير بالنص "بعدما ثبت تعليل هذا النص يقبل كإجماعهم على أن علة الولاية, إما الصغر أو البكارة فهذا إجماع على نفي ما عداهما وبتنقيح المناط وهو أن يبين عدم علية الفارق ليثبت علية المشترك" الفارق هو الوصف الذي يوجد في الأصل دون الفرع والمشترك هو الوصف الذي يوجد فيهما "وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرضوا لهذين فإنه على تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النص أو الإجماع أو المناسبة
................................................................................................
الأوصاف ويصدق; لأن عدالته وتدينه مما يغلب ظن عدم غيره إذ لو وجد لما خفي عليه أو; لأن الأصل عدم الغير وحينئذ للمعترض أن يبين وصفا آخر وعلى المستدل أن يبطل عليته وإلا لما ثبت الحصر فيما أحصاه فيلزم انقطاعه. وثانيهما إبطال علية بعض الأوصاف ويكفي في ذلك أيضا الظن وذلك بوجوه: الأول وجود الحكم بدونه في صورة فلو استقل بالعلية لانتفى الحكم بانتفائه. الثاني كون الوصف مما علم إلغاؤه في الشرع إما مطلقا كاختلاف بالطول والقصر أو بالنسبة إلى الحكم المبحوث فيه كالاختلاف بالذكورة والأنوثة في العتق. الثالث عدم ظهور المناسبة فيكفي للمستدل أن يقول بحثت فلم أجد له مناسبة, ولا يحتاج إلى إثبات ظهور عدم المناسبة; لأن التقدير أنه عدل أخبر عما لا طريق إلى معرفته إلا خبره وحينئذ للمعترض أن يدعي ذلك في الوصف الذي يدعي المستدل أنه علة يحتاج إلى الترجيح.
والمتمسكون بالسبر والتقسيم لا يشترطون إثبات التعليل في كل نص بل يكفي عندهم أن الأصل في النصوص التعليل وأن الأحكام مبنية على الحكم والمصالح إما وجوبا كما هو مذهب المعتزلة وإما تفضيلا كما هو مذهب غيرهم ولو سلم عدم الكلية فالتعليل هو الغالب في الأحكام وإلحاق الفرد بالأعم الأغلب هو الظاهر, ولا يشترطون في بيان الحصر إثبات عدم الغير بنص أو إجماع لحصول الظن بدون ذلك على ما بيناه, وأما على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى فيكون هذا من المسالك القطعية بمنزلة النص والإجماع ويكون مرجعه إليهما, وكذا الكلام في تنقيح المناط. قال ابن الحاجب إن الإخالة هي المناسبة وهي المسمى بتخريج المناط أي تنقيح ما علق الشارع الحكم به ومآله إلى التقسيم بأنه لا بد للحكم من علة وهي إما الوصف الفارق أو المشترك لكن الفارق ملغى فيتعين المشترك فيثبت الحكم لثبوت علته وذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن النظر والاجتهاد في مناط الحكم أي علته إما أن يكون في تحقيقه أو تنقيحه أو تخريجه, أما تحقيق المناط فهو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها بنص أو
(2/162)
 
 
وهو باطل عندنا ففسره بعضهم بأنه وجود الحكم في كل صور وجود الوصف وزاد بعضهم العدم عند العدم وشرط بعضهم قياس النص في الحالين ولا حكم له نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ لا يجب عليه الوضوء وإذا قعد وهو محدث يجب فعلم أن الوجوب دائر مع الحدث.
ـــــــ
وبالدوران وهو باطل عندنا ففسره بعضهم بأنه وجود الحكم في كل صور وجود الوصف وزاد بعضهم العدم عند العدم وشرط بعضهم قياس النص في الحالين" أي في حال وجود الوصف وعدمه "ولا حكم له نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ لا يجب عليه الوضوء وإذا قعد وهو محدث يجب فعلم أن الوجوب دائر مع الحدث" فإنا قد وجدنا وجوب الوضوء دائرا مع الحدث وجودا وعدما, والنص موجود في الحالين أي حال وجود الحدث وحال عدمه ولا حكم له; لأن النص يوجب أنه كلما وجد القيام إلى الصلاة وجب الوضوء وكلما لم يوجد لم يجب أما عند القائلين بالمفهوم فظاهر وأما عندنا فلأن
................................................................................................
إجماع أو استنباط, ولا يعرف خلاف في صحة الاحتجاج به إذا كانت العلة معلومة بنص أو إجماع, وأما تنقيح المناط فهو النظر في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين بخلاف الأوصاف التي لا مدخل لها في الاعتبار كما بين في قصة الأعرابي أنه لا مدخل في وجوب الكفارة لكونه ذلك الشخص أو من الأعراب إلى غير ذلك حتى يتعين وطء المكلف الصائم في نهار رمضان عامدا.
وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول, وأما تخريج المناط فهو النظر في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه دون علته كالنظر في إثبات كون السكر علة لحرمة الخمر وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولهذا أنكره كثير من الناس.
قوله: "بالدوران" احتج بعض الأصوليين على علية الوصف بدوران الحكم معه أي ترتبه عليه وجودا ويسمى الطرد وبعضهم وجودا وعدما ويسمى الطرد والعكس كالتحريم مع السكر فإن الخمر يحرم إذا كان مسكرا وتزول حرمته إذا زال إسكاره بصيرورته خلا وشرط البعض وجود النص في حالتي وجود الواصف وعدمه, والحال أنه لا حكم له أي للنص وذلك لدفع احتمال إضافة الحكم إلى الاسم وتعين إضافته إلى معنى الوصف فإن الحرمة تثبت للعصير إذا اشتد ويسمى خمرا وتزول عند زوال الشدة والاسم, فإذا كان الاسم قائما في الحالين ودار الحكم مع الوصف زال شبهة علية الاسم وتعين علية الوصف وإلا لما تخلف الحكم عن النص.
قوله: "لكن جعل هذا الحكم حكم النص مجازا" جواب عما يقال إن هذا الاشتراط لا يصح عند من لا يقول بمفهوم المخالفة إذ لا يكون النص قائما عند الوصف المنصوص عليه, ولا يكون له حينئذ موجب لا نفيا, ولا إثباتا, ولا يتناول أصلا مثلا إذا لم يقم إلى الصلاة بل قعد لم يتناوله النص إلا عند القائلين بمفهوم الشرط, وأما عند غيرهم فيكون عدم وجوب الوضوء مبنيا على عدم دليل الوجود فيجعل من حكم النص المذكور بطريق المجاز حيث عبر بعدم الوجوب المستند إلى النص عن مطلق عدم الوجوب.
(2/163)
 
 
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل عند شغله بغير الغضب، لهم أن علل الشرع أمارات
ـــــــ
الأصل هو العدم على ما مر في مفهوم المخالفة وموجب النص غير ثابت في الحالين أما حال عدم الحدث فإن ظاهر النص يوجب أنه إذا وجد القيام مع عدم الحدث يجب الوضوء وهذا غير ثابت وأما حال وجود الحدث فلأنه ينبغي أنه إذا لم يقم إلى الصلاة مع وجود الحدث لا يجب الوضوء أما عند القائلين بالمفهوم فلأن هذا الحكم هو مدلول النص وأما عندنا فلأن عدم وجوب الوضوء, وإن كان بناء على العدم الأصلي لكن جعل هذا الحكم حكم النص مجازا فعلم بهذا علية الحدث إذ لولا ذلك لما تخلف الحكم عن النص أصلا.
"قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل عند شغله بغير الغضب, لهم أن علل الشرع أمارات فلا
................................................................................................
قوله: "فإنه يحل القضاء وهو غضبان" يعني أن النص قائم في حال الغضب بدون شغل القلب مع عدم حكمه الذي هو حرمة القضاء عند الغضب وأيضا النص قائم في حال عدم الغضب وشغل القلب بنحو جوع أو عطش مع عدم حكمه الذي هو إباحة القضاء عند عدم الغضب إما بطريق مفهوم المخالفة أو الإباحة الأصلية أو بالنصوص المطلقة في القضاء ويجعل من حكم النص المذكور مجازا.
قوله: "والوجود عند الوجود" كان الأحسن أن يقول الوجود عند الوجود والعدم عند العدم لا يدل على العلية لجواز أن يكون ذلك بطريق اتفاق كلي أو تلازم تعاكس أو يكون المدار لازم العلة أو شرطا مساويا لها فلا يقيد ظن العلية; لأنها احتمال واحد وهذه الاحتمالات كثيرة, وقد يقال إذا وجد الدوران مع غير مانع من العلية من معية كما في المتضايفين أو تأخر كما في المعلول والعلة أو غيرهما كما في شرط المساوي فالعادة قاضية بحصول الظن بل القطع بالعلية كما إذا دعي إنسان باسم مغضب فغضب ثم ترك فلم يغضب وتكرر ذلك مرة بعد أخرى علم بالضرورة أنه سبب الغضب حتى إن من لا يتأتى منه النظر كالأطفال يعلمون ذلك ويتبعونه في الطرق ويدعونه بذلك الاسم ويجاب عنه بأن النزاع إنما هو في حصول الظن بمجرد الدوران وهو فيما ذكرتم من المثال ممنوع إذ لولا انتفاء ظهور غير ذلك إما بأنه بحث عنه فلم يوجد, وإما; لأن الأصل عدمه لما حصل الظن غايته أنه يفيد تقوية الظن الحاصل من غيره وربما يقال إن هذا إنكار للضروري وقدح في جميع التجريبيات فإن الأطفال يقطعون به من غير نظر واستدلال بما ذكرتم وأهل النظر كالمجتمعين على ذلك حتى كاد يجري مجرى المثل أن دوران الشيء مع الشيء آية كون المدار علة للدائر ويجاب بأن الأحكام العقلية لا تختلف باختلاف الأحوال بخلاف الأحكام الشرعية المبنية على المصالح فلا بد في بيان عللها من مناسبة أو اعتبار من الشارع إذ في القول بالطرد فتح لباب الجهل والتصرف في الشرع.
قوله: "ولا يشترط لها أيضا" زيادة تنبيه على بعد المناسبة بين الدوران والعلية يعني أن الوجود
(2/164)
 
 
فلا حاجة إلى معنى يعقل قلنا نعم في حقه تعالى أما في حق العباد فإنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كنسبة الملك إلى البيع والقصاص إلى القتل فإنه يجب القصاص مع أن المقتول ميت بأجله فلا بد من التمييز بين العلل والشروط، والوجود عند الوجود لا يدل على العلية؛ لأنه قد يقع اتفاقا وقد يقع في العلامة ولا يشترط لها أيضا؛ لأن التخلف لمانع لا يقدح فيها ثم العلة عين ذلك الوصف عند القائلين بتخصيصها، وذلك الوصف مع عدم المانع عند من لا يقول به ولا يشترط العدم عند العدم لأنه قد يوجد
ـــــــ
حاجة إلى معنى يعقل قلنا نعم في حقه تعالى أما في حق العباد فإنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كنسبة الملك إلى البيع والقصاص إلى القتل فإنه يجب القصاص مع أن المقتول ميت بأجله فلا بد من التمييز بين العلل والشروط, والوجود عند الوجود لا يدل على العلية; لأنه قد يقع اتفاقا وقد يقع في العلامة ولا يشترط لها أيضا" أي لا يشترط الوجود عند الوجود للعلية "; لأن التخلف لمانع لا يقدح فيها ثم العلة عين ذلك الوصف عند القائلين بتخصيصها, وذلك الوصف مع عدم المانع عند من لا يقول به" اعلم أن تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية أما عند القائلين بتخصيص العلة فلأن الشيء يمكن أن يكون علة والحكم تخلف عنه لمانع وهذا التخلف لا يقدح في العلية وأما عند من لا يقول بتخصيص العلة
................................................................................................
عند الوجود والعدم عند العدم كما أنه ليس بملزوم للعلية فكذلك ليس بلازم لها لجواز أن لا يوجد الحكم عند وجود العلة الظاهرة بناء على مانع أو على عدم تمامها حقيقة وأن لا ينعدم عند عدمها بناء على ثبوته بعلة أخرى كالحديث يثبت بخروج النجاسة والنوم وغير ذلك وقد يقال في تقرير هذا الكلام إن الوجود عند الوجود والعدم عند العدم لا يدل على صحة العلية كما أن العدم عند الوجود والوجود عند العدم لا يدل على فسادها اعتبارا لحالة الموافقة بحالة المخالفة في الصحة والفساد.
قوله: "وقيام النص" إشارة إلى بطلان كلام الفريق الثالث وذلك أن ما اشترطوا من قيام النص في الحالين من غير حكم أمر لا يوجد إلا نادرا, ولا عبرة بالنادر في أحكام الشرع فكيف يجعل أصلا فيما هو من أدلة الشرع بأن يبتنى عليه ثبوت العلية على أن وجوده بطريق الندرة أيضا في محل النزاع فإنا لا نسلم في المثالين المذكورين قيام النص في الحالين مع عدم حكمه أما في الآية فلأنا لا نسلم قيام النص بدون الحكم حال انتفاء الحدث وإنما يلزم ذلك لو لم يكن النص مقيدا بالحدث ومقيدا لوجوب الوضوء بشرط وجود الحدث وبيانه من وجهين أحدهما أن اشتراط الحدث في وجوب البدل وهو التيمم بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} اشتراط له في وجوب الأصل وهو الوضوء إذ البدل لا يفارق الأصل بسببه وإنما يفارقه بحاله بأن يجب في حال لا يجب فيها الأصل.
وبالجملة لما رتب وجوب التيمم على وجود الحدث عند فقد الماء فهم أن وجوب التوضؤ بالماء مرتب على الحدث, وثانيهما أن العمل بظاهر النص متعذر لاقتضائه وجوب التوضؤ عند كل
(2/165)
 
 
بعلة أخرى وقيام النص في الحالين ولا حكم له أمر لا يوجد إلا نادرا فكيف يجعل أصلا في باب القياس وأيضا هو غير مسلم في آية الوضوء؛ لأنه ثبت الحدث بالنص؛ لأن ذكره في الخلف ذكر في الأصل ولأن المعنى إذا قمتم من مضاجعكم، والنوم دليل الحدث ولما كان الماء مطهرا دل على قيام النجاسة فاكتفى فيه.
واختار في التيمم التصريح وأيضا فيه إيماء إلى أن الوضوء عند عدم الحدث سنة لكونه ائتمارا لظاهر الأمر وعند الحدث واجب بخلاف الغسل فإنه ليس بسنة لكل
ـــــــ
فإن العلة مجموع ذلك الوصف مع عدم المانع فالوصف يكون جزءا للعلة فمعنى قولنا إن التخلف لمانع لا يقدح فيها أن التخلف لمانع لا يقدح في كون الوصف جزءا للعلة "ولا يشترط العدم عند العدم لأنه قد يوجد بعلة أخرى وقيام النص في الحالين ولا حكم له أمر لا يوجد إلا نادرا فكيف يجعل أصلا في باب القياس وأيضا هو غير مسلم في آية الوضوء; لأنه ثبت الحدث بالنص; لأن ذكره في الخلف ذكر في الأصل ولأن المعنى إذا قمتم من مضاجعكم, والنوم دليل الحدث ولما كان الماء مطهرا دل على قيام النجاسة فاكتفى فيه" أي في الماء يعني في إيجاب الوضوء "بدلالة النص" أي على وجود الحدث.
"واختار في التيمم التصريح" أي بوجود الحدث وهو قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
................................................................................................
قيام وفي كل ركعة فلا يتصور أداء الصلاة فلا بد من إضمار, أي: إذا قمتم من مضاجعكم أو إذا أردتم القيام إلى الصلاة محدثين, والقيام من المضجع كناية عن التنبه من النوم, والنوم دليل الحدث فعلى الأول يكون ذكر الحدث بطريق دلالة النص, وأما على الثاني فالظاهر أنه من قبيل المضمر وإطلاق دلالة النص عليه إما لغوي بمعنى أنه يفهم من النص أو هو من قبيل المشاكلة أو التغليب أو باعتبار أن القيام من المضجع إنما يدل على النوم دلالة لا عبارة وهذا أنسب فإن قيل للبدل حكم الأصل فكانت قضية الترتيب أن يصرح بالحدث في وجوب الوضوء ويكتفى بالدلالة في وجوب التيمم فلما عكست أجيب بوجهين:
الأول أن الماء مطهر بنفسه فإيجاب استعماله دل على وجود النجاسة الحكمية المفتقرة إلى إزالتها بخلاف إيجاب استعمال التراب فإنه ملوث لا يقتضي سابقة حدث فصرح معه بالحدث.
الثاني أن في ترك التصريح بالحدث في نص الوضوء إشارة إلى أن الوضوء سنة عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى ظاهر إطلاق الأمر وتحقيقه أنه قد علم بدلالة النص والإجماع عدم وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة بدون الحدث فيحمل على الإيجاب عند الحدث عملا بحقيقة الأمر وعلى الندب عند عدم الحدث عملا بظاهر إطلاقه وترك هذا الإيماء في الغسل; لأنه لا يسن لكل صلاة بل للجمعة والعيدين فصرح معه بذكر الحدث وهذا مبني على ما يعتبره البلغاء في
(2/166)
 
 
صلاة والغضب لا يوجد بدون شغل القلب ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه.
ـــــــ
مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} "وأيضا فيه إيماء" أي في النص إشارة "إلى أن الوضوء عند عدم الحدث سنة لكونه ائتمارا لظاهر الأمر وعند الحدث واجب بخلاف الغسل فإنه ليس بسنة لكل صلاة" وهذا وجه آخر لترك التصريح بالحدث في الوضوء والتصريح به في التيمم "والغضب لا يوجد بدون شغل القلب ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه" هذا منع لقوله: فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب فما ذكر أن النص قائم في الحالين ولا حكم له ممنوع أما حال وجود الوصف فإنه لا يحل القضاء إلا بعد سكون النفس عن الغضب كما ذكر في المتن وأما حال عدم الوصف وهو غير مذكور في المتن فعندنا لا دلالة للنص على عدم الحكم عند عدم الوصف وكذا عند من يقول بالمفهوم; لأن من شرائط مفهوم المخالفة أن لا يثبت التساوي بين المنطوق والمسكوت وقد ذكرتم أن القضاء لا يحل عند شغل القلب بغير الغضب فيثبت التساوي بين المنطوق والمسكوت فلم يوجد شرط صحة مفهوم المخالفة فلا يكون النص حينئذ دالا على عدم الحكم عند عدم الوصف فبطل قوله: إن النص قائم في الحالين ولا حكم له.
................................................................................................
تركيبهم من الرموز لا على أن يتناول الأمر للمحدث إيجابا ولغيره ندبا; لأنه لا يراد من اللفظ معنياه المختلفان فإن قلت مبنى هذه المباحث على أن سبب الوضوء هو الحدث, وقد تقرر في موضعه أن سببه إرادة الصلاة لا الحدث. قلت هو مبني على التقدير أي لو سلم أن العلة هي الحدث فهي لم تثبت بالدوران على ما ذكرتم, وأما في الحديث فلأنا لا نسلم انتفاء حكم النص وهو حرمة القضاء مع وجود الوصف وهو الغضب وإنما يصح ذلك لو وجد الغضب بدون شغل القلب وهو ممنوع كيف والغضبان صيغة مبالغة بمعنى الممتلئ غضبا على ما نقل عن الزجاج فلا يتصور له فراغ القلب ما دام غضبان وبهذا يحصل المقصود وهو منع قيام النص في الحالين مع عدم حكمه; لأن الكل ينتفي بانتفاء البعض إلا أنه تعرض في الشرح لحال العدم أيضا زيادة لتحقيق المقصود يعني أنا لا نسلم أن من حكم هذا النص حل القضاء عند عدم الغضب وإنما يكون كذلك لو تحقق شرائط مفهوم المخالفة وهو ممنوع.
(2/167)
 
 
فصل: لا يجوز التعليل لإثبات العلة كإحداث تصرف موجب للملك
وقولنا
ـــــــ
"فصل: لا يجوز التعليل لإثبات العلة كإحداث تصرف موجب للملك" أي لا يجوز
................................................................................................
قوله: "فصل" ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن التعدية حكم لازم للتعليل عندنا جائز عند الشافعي رحمه الله تعالى فعندنا لا يجوز التعليل إلا لتعدية الحكم من المحل المنصوص إلى محل آخر فيكون التعليل والقياس واحدا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز لزيادة القبول وسرعة الوصول والاطلاع على حكمة الشارع فيوجد التعليل بدون القياس, والكلام في التعليل الغير
(2/167)
 
 
الجنس بانفراده يحرم النساء بالنص وهو نهي عن الربا والريبة وكون الأكل والشرب موجبا للكفارة بدلالة النص وكذا القصاص في القتل بالمثقل عندهما وصفتها كإثبات السوم في الأنعام ولإثبات الشرط أو صفته كالشهود في النكاح وككونهم رجالا أو
ـــــــ
بالقياس إحداث تصرف يكون علة لثبوت الملك "وقولنا الجنس بانفراده يحرم النساء بالنص وهو نهي عن الربا والريبة" جواب إشكال وهو أنكم أثبتم بالقياس شيئا هو علة لحرمة النساء وهو الجنس بانفراده أي بدون الكيل والوزن فأجاب بأن هذا النص وهو قول الراوي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا والريبة, والريبة: الشك والمراد بالريبة هنا شبهة الربا وشبهة الربا ثابتة فيما إذا كان الجنس بانفراده موجودا أو قد باع نسيئة; لأن للنقد مزية على النسيئة "وكون الأكل والشرب موجبا للكفارة بدلالة النص وكذا القصاص في القتل بالمثقل عندهما" أي ثابت بدلالة النص لا بالقياس المستنبط فلا يرد حينئذ إشكال "وصفتها" بالجر أي لا يجوز التعليل لإثبات صفة العلة "كإثبات السوم في الأنعام ولإثبات الشرط أو صفته كالشهود في النكاح" هذا نظير إثبات الشرط "وككونهم رجالا أو مختلطة" نظير إثبات صفة الشرط "ولإثبات
................................................................................................
المنصوص ثم جملة ما يقع التعليل لأجله أربعة: الأول إثبات السبب أو وصفه. الثاني إثبات الشرط أو وصفه. الثالث إثبات الحكم أو وصفه. الرابع تعدية حكم مشروع معلوم بصفته إلى محل آخر يماثله في التعليل فالتعليل مختص بالتعدية لا يجوز لأجل إثبات سبب أو صفته; لأنه إثبات الشرع بالرأي, ولا لإثبات شرط لحكم شرعي أو صفته بحيث لا يثبت الحكم بدونه; لأن هذا إبطال للحكم الشرعي ونسخ له بالرأي, ولا لإثبات حكم أو صفته ابتداء; لأنه نصب أحكام الشرع بالرأي فلا يجوز شيء من ذلك إلا إذا وجد له في الشريعة أصل صالح للتعليل فيعلل ويتعدى حكمه إلى محل آخر سواء كان الحكم إثبات سبب أو شرط أو وصفهما أو إثبات حكم آخر مثل الوجوب والحرمة وغيرهما فصار الحاصل أن التعليل لإثبات العلة أو الشرط أو الحكم ابتداء باطل بالاتفاق ولإثبات حكم شرعي مثل الوجوب والحرمة بطريق التعدية من أصل موجود في الشرع ثابت بالنص أو الإجماع جائز بالاتفاق. واختلفوا في التعليل لإثبات السببية أو الشرطية بطريق التعدية من أصل ثابت في الشرع بمعنى أنه إذا ثبت بنص أو إجماع كون الشيء سببا أو شرطا لحكم شرعي فهل يجوز أن يجعل شيء آخر علة أو شرطا لذلك الحكم قياسا على الشيء الأول عند تحقيق شرائط القياس مثل أن تجعل اللواطة سببا لوجوب الحد قياسا على الزنا وتجعل النية في الوضوء شرطا لصحة الصلاة قياسا على النية في التيمم فذهب كثير من علماء المذهبين إلى امتناعه, وبعضهم إلى جوازه وهو اختيار فخر الإسلام رحمه الله وأتباعه فلهذا احتاجوا إلى التفصيل والإشارة إلى التسوية بين الحكم والسبب والشرط في أنها تجوز أن تثبت بالتعليل إن وجد لها أصل في الشرع وتمتنع إن لم يوجد.
وقال صاحب الميزان لا معنى لقول من يقول إن القياس حجة في إثبات الحكم دون إثبات السبب أو الشرط; لأنه إن أراد معرفة علة الحكم بالرأي والاجتهاد فذلك جائز في الجميع; لأن
(2/168)
 
 
مختلطة ولإثبات الحكم أو صفته كصوم بعض اليوم وكصفة الوتر؛ لأن فيه نصب الشرع بالرأي فلا يجوز ابتداء أما إذا كان له أصل فيصح كاشتراط التقابض في بيع الطعام بالطعام فإن له أصلا وهو الصرف ولجوازه بدونه أصلا وهو بيع سائر السلع.
ـــــــ
الحكم أو صفته كصوم بعض اليوم" نظير إثبات الحكم "وكصفة الوتر" نظير إثبات صفة الحكم "; لأن فيه نصب الشرع بالرأي فلا يجوز ابتداء أما إذا كان له أصل فيصح كاشتراط التقابض في بيع الطعام بالطعام" أي عند الشافعي رحمه الله "فإن له" أي لاشتراط التقابض عند الشافعي رحمه الله "أصلا وهو الصرف ولجوازه بدونه أصلا" أي لجواز البيع بدون التقابض عندنا أصلا "وهو بيع سائر السلع" فالحاصل أن اشتراط التقابض عند الشافعي رحمه الله وإن كان إثبات الشرط فإنه يوجد له أصل وهو بيع الصرف وعدم اشتراطه عندنا كذلك يوجد له أصل وهو بيع سائر السلع
................................................................................................
المعرفة لا تختلف وإن أراد أن الجمع بين الأصل والفرع لا يتصور إلا في الحكم دون السبب أو الشرط فممنوع بل يتصور في الجميع وإن أراد أن القياس ليس بمثبت فمسلم والجميع سواء في أنه لا يثبت فيه شيء بالقياس بل يعرف به السبب والشرط كما يعرف به الحكم, واحتجاج الفريقين مذكور في أصول الشافعية ومقصود هذا الفصل مشهور فيما بين القوم مسطور في كتبهم.
قوله: "وقولنا الجنس قد توهم" ورود الإشكال بأنكم أثبتم بالقياس علية مجرد الجنس لحرمة الربا وعلية الأكل والشرب لوجوب الكفارة وعلية القتل بالمثقل لوجوب القصاص عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأجاب بأنا لم نثبت ذلك بالقياس بل بالنص عبارة في الأول ودلالة في الأخيرين على ما سبق في بحث دلالة النص ولم يورد فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذا المقام مسألة وجوب الكفارة بالأكل والشرب, ولا مسألة وجوب القصاص بالقتل بالمثقل; لأن جعلهما من قبيل دلالة النص دون القياس مبني على أن القياس لا يجري في الحدود والكفارات لا على أنه لا يجري في الأسباب والشروط; لأن مذهب فخر الإسلام رحمه الله أنه يصح إثبات السبب والشرط بالرأي والقياس إذا وجد له أصل في الشرع وهاهنا الوقاع أصل للأكل والشرب والقتل بالسيف أصل للقتل بالمثقل فكيف يتوهم أن يورد هذا إشكالا على إثبات السبب بالتعليل فيما لا يوجد له أصل وإنما وقع ذلك للمصنف رحمه الله من أصول ابن الحاجب وذلك أنه اختار أنه لا يصح إثبات السبب بالقياس فأورد القتل بالمثقل إشكالا فأجاب بأنا لا نبين سببية القتل بالمثقل قياسا على سببية القتل بالسيف بل نبين أن السبب هو القتل العمد العدوان سواء كان بالسيف أو بغيره فالسبب واحد لا غير.
وأما مسألة حرمة الربا بالجنس فأوردها فخر الإسلام رحمه الله مثالا لا إشكالا فقال أما تفسير القسم الأول أي بيان إثبات الموجب فمثل قولهم في الجنس بانفراده إنه يحرم النسيئة, وهذا خلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح إثباته, ولا نفيه بالرأي إذ لا نجد أصلا نقيسه عليه بل
(2/169)
 
 
فالتعليل لا يصح إلا للتعدية هذا ما قالوا والحق إثبات العلة أنه إن ثبت أن عليتها لمعنى آخر يصلح للتعليل فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى يحكم بعليته لكن لا يكون هذا إثبات العلة بالقياس؛ لأن العلة في الحقيقة ذلك المعنى وإن لم يثبت ذلك فلا؛ لأنه يكون تعليلا بالمرسل وهذا هو المختلف فيه.
ـــــــ
"فالتعليل لا يصح إلا للتعدية هذا ما قالوا" إنما قلت هذا; لأني نقلت هذا الفصل عن أصول الإمام فخر الإسلام رحمه الله ولم أدر ما مراده فإن أراد أن القياس لا يجري في هذه الأشياء أصلا فهذا لا يصح, وقد قال في آخر الباب وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح تعليله وأما إذا وجد له فلا بأس به وإن أراد أنه لا يصح التعليل في هذه الأمور إلا إذا كان لها أصل فلا معنى لتخصيص هذه الأمور بهذا الحكم ولا فائدة في تفصيلها بل يكفيه أن يقول لا يصح القياس إلا إذا كان له أصل وهذا المعنى معلوم من تعريف القياس فإنه تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة "والحق إثبات العلة أنه إن ثبت أن عليتها لمعنى آخر يصلح للتعليل فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى يحكم بعليته لكن لا يكون هذا إثبات العلة بالقياس; لأن العلة في الحقيقة ذلك المعنى وإن لم يثبت ذلك" فلا; لأنه يكون تعليلا بالمرسل وهذا هو المختلف فيه.
................................................................................................
يجب الكلام فيه بالنص عبارة أو إشارة أو دلالة أو اقتضاء وذلك أنه ثبت بالنص والإجماع حرمة الفضل الخالي عن العوض, وقد بينا أن العلة هي القدر والجنس ووجدنا حرمة الربا حكما يستوي فيه شبهته بحقيقته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الربا والريبة وللإجماع على حرمة البيع مجازفة كبيع صبرة حنطة بصبرة باعتبار تساويهما في رأي المتبايعين ووجدنا في النسيئة شبهة الفضل وهي الحلول إذ النقد خير من النسيئة وهذا وإن كان فضلا من جهة الوصف لكنه ثبت بصنع العبد فاعتبر كما في بيع الحنطة المقلية بغير المقلية لإمكان الاحتراز عنه بخلاف الفضل من جهة الجودة فإنه ثبت بصنع الله تعالى فجعل عفو التعذر الاحتراز عنه ولما كانت العلة هي القدر والجنس أخذ الجنس شبهة العلة من حيث إنه شطر العلة فأثبتنا به شبهة الربا احتياطا فيثبت سببية الجنس لحرمة النسيئة بدلالة النص الموجب لسببية القدر والجنس لحرمة حقيقة القدر.
قوله: "والحق" في مسألة إثبات العلة أنه إن ثبت علية شيء لحكم بناء على معنى صالح لتعليل ذلك الحكم به بأن يكون مؤثرا أو ملائما فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى المؤثر أو الملائم فهو علة لذلك الحكم بلا خلاف, ولا يكون هذا من إثبات العلة بالقياس; لأن العلة بالحقيقة هو ذلك المعنى المشترك بين الشيئين, وقد ثبت عليته بما هو من مسالك العلة فتكون العلة واحدة تتعدد باعتبار المحل مثلا إذا ثبت أن الوقاع علة لوجوب الكفارة بناء على أنه يوجد فيه هتك حرمة صوم رمضان فقد ثبت أن العلة هي هتك الحرمة وهو موجود في الأكل فيحكم بأنه علة لوجوب الكفارة, وإن لم يثبت أن علية ذلك الشيء للحكم مبني على اشتماله على ذلك المعنى بل وجد
(2/170)
 
 
فصل: القياس جلي و خفي
...
فصل: القياس جلي وخفي
فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام وهو حجة عندنا؛ لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ضمير وهو راجع إلى الاستحسان وقد أنكر بعض
ـــــــ
"فصل: القياس جلي وخفي فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي" فإن كل قياس خفي استحسان وليس كل استحسان قياسا خفيا; لأن الاستحسان قد يطلق على غير القياس الخفي أيضا كما ذكر في المتن لكن الغالب في كتب أصحابنا أنه إذا ذكر الاستحسان أريد به القياس الخفي "وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام" هذا تفسير الاستحسان وبعض الناس تحيروا في تعريفه, وتعريفه الصحيح هذا, وهو أنه دليل يقع في مقابلة القياس الجلي.
وقوله الذي يسبق إليه الأفهام تفسير للقياس الجلي "وهو حجة عندنا; لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ضمير وهو راجع إلى الاستحسان" وقد أنكر بعض الناس العمل بالاستحسان جهلا منهم فإن أنكروا هذه التسمية فلا مشاحة في الاصطلاحات وإن أنكروه من حيث المعنى فباطل أيضا; لأنا نعني به دليلا من الأدلة المتفق
................................................................................................
مجرد مناسبة ذلك المعنى لعلية الحكم لم يصح الحكم بعلية شيء آخر يوجد فيه ذلك المعنى المناسب قياسا على ما ثبت عليته; لأنه تعليل بالمرسل إذ لم يثبت تأثير ذلك المعنى المناسب, ولا ملائمته وهذا هو المختلف فيه من إثبات العلة بالقياس فيجوز عند من يقول بصحة التعليل بالمرسل, ولا يجوز عند من يشترط التأثير أو الملاءمة.
قوله: "فصل" في الاستحسان هو في اللغة عد الشيء حسنا, وقد كثر فيه المدافعة والرد على المدافعين ومنشؤهما عدم تحقيق مقصود الفريقين ومبنى الطعن من الجانبين على الجرأة وقلة المبالاة فإن القائلين بالاستحسان يريدون به ما هو أحد الأدلة الأربعة على ما سنبينه والقائلون بأن من استحسن فقد شرع يريدون أن من أثبت حكما بأنه مستحسن عنده من غير دليل من الشارع فهو الشارع لذلك الحكم حيث لم يأخذه من الشارع والحق أنه لا يوجد في الاستحسان ما يصلح محلا للنزاع إذ ليس النزاع في التسمية; لأنه اصطلاح وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن" 1 ونقل عن الأئمة إطلاق الاستحسان في دخول الحمام وشرب الماء من يد السقاء ونحو ذلك. وعن الشافعي رحمه الله أنه قال أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة.
وأما من جهة المعنى فقد قيل هو دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر عليه التعبير عنه فإن أريد بالانقداح الثبوت فلا نزاع في أنه يجب عليه العمل به, ولا أثر لعجزه عن التعبير عنه وإن أريد أنه وقع له شك فلا نزاع في بطلان العمل وقيل هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقيل:
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده 1/379.
(2/171)
 
 
الناس العمل بالاستحسان جهلا منهم فإن أنكروا هذه التسمية فلا مشاحة في الاصطلاحات وإن أنكروه من حيث المعنى فباطل أيضا؛ لأنا نعني به دليلا من الأدلة المتفق عليها يقع في مقابلة القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى من القيا؛ لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار وإما بالقياس الخفي، وذكروا له قسمين: الأول ما قوي أثره والثاني ما ظهر صحته وخفي فساده.
ـــــــ
عليها يقع في مقابلة القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى من القياس الجلي فلا معنى لإنكاره "لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار وإما بالقياس الخفي, وذكروا له" أي للقياس الخفي "قسمين: الأول: ما قوي أثره" أي تأثيره "والثاني: ما ظهر صحته وخفي فساده" أي إذا نظرنا إليه بادئ النظر نرى صحته ثم إذا تأملنا حق التأمل علمنا أنه فاسد
................................................................................................
العدول إلى خلاف الظن لدليل أقوى, ولا نزال في قبول ذلك وقيل تخصيص القياس بدليل أقوى منه فيرجع إلى تخصيص العلة وقال الكرخي رحمه الله هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه هو أقوى ويدخل فيه التخصيص والنسخ, وقال أبو الحسين البصري هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ بوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله: غير شامل عن ترك العموم إلى الخصوص وبقوله: وهو في حكم الطارئ عن القياس فيما إذا قالوا لو تركنا الاستحسان بالقياس وأورد على هذه التفاسير أن ترك الاستحسان بالقياس يكون عدولا عن الأقوى إلى الأضعف وأجيب بأنه إنما يكون بانضمام معنى آخر إلى القياس يصير به أقوى.
ولما اختلفت العبارات في تفسير الاستحسان مع أنه قد يطلق لغة على ما يهواه الإنسان ويميل إليه وإن كان مستقبحا عند الغير وكثر استعماله في مقابلة القياس على الإطلاق كان إنكار العمل به عند الجهل بمعناه مستحسنا حتى يتبين المراد منه إذ لا وجه لقبول العمل بما لا يعرف معناه وبعدما استقرت الآراء على أنه اسم لدليل متفق عليه نصا كان أو إجماعا أو قياسا خفيا إذا وقع في مقابلة قياس تسبق إليه الأفهام حتى لا يطلق على نفس الدليل من غير مقابلة فهو حجة عند الجميع من غير تصور خلاف ثم إنه غلب في اصطلاح الأصول على القياس الخفي خاصة كما غلب اسم القياس على القياس الجلي تمييزا بين القياسين, وأما في الفروع فإطلاق الاستحسان على النص والإجماع عند وقوعهما في مقابلة القياس الجلي شائع ويرد عليه أنه لا عبرة بالقياس في مقابلة النص أو الإجماع بالاتفاق فكيف يصح التمسك به والجواب أنه لا يتمسك به إلا عند عدم ظهور النص أو الإجماع.
قوله: "وذكروا له" قسمين الصحة تقارب الأثر والضعف يقارب الفساد وبهذا الاعتبار
(2/172)
 
 
وللقياس قسمان ما ضعف أثره وما ظهر فساده وخفي صحته فأول ذلك راجح على أول هذا لأن المعتبر هو الأثر لا الظهور وثاني هذا على ثاني ذلك فالأول كسؤر سباع الطير فإنه نجس قياسا على سؤر سباع البهائم، طاهر استحسانا لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم كسجدة التلاوة تؤدى بالركوع قياما؛ لأنه تعالى جعل الركوع مقام
ـــــــ
"وللقياس" أي للقياس الجلي "قسمان ما ضعف أثره وما ظهر فساده وخفي صحته فأول ذلك راجح على أول هذا" أي القسم الأول من الاستحسان وهو ما قوي أثره راجح على القسم الأول من القياس الجلي وهو ما ضعف أثره واعلم أنا إذا ذكرنا القياس نريد به القياس الجلي وإذا ذكرنا الاستحسان نريد به القياس الخفي فلا تنس هذا الاصطلاح "لأن المعتبر هو الأثر لا الظهور وثاني هذا على ثاني ذلك" أي القسم الثاني من القياس وهو ما ظهر فساده وخفي صحته راجح على القسم الثاني من الاستحسان وهو ما ظهر صحته وخفي فساده "فالأول" وهو أن يقع القسم الأول من الاستحسان في مقابلة القسم الأول من القياس كسؤر سباع الطير فإنه نجس قياسا على سؤر سباع البهائم, طاهر استحسانا لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر. والثاني وهو أن يقع القسم الثاني من الاستحسان في مقابلة القسم الثاني من القياس "كسجدة التلاوة تؤدى بالركوع قياما; لأنه تعالى جعل الركوع مقام السجدة
................................................................................................
يتحقق تقابل القسمين في كل من الاستحسان والقياس والمراد بظهور الصحة في الاستحسان ظهورها بالنسبة إلى فساد الخفي وهو لا ينافي خفاءها بالنسبة إلى ما يقابله من القياس والمراد بخفاء الصحة في القياس الجلي خفاؤها بأن ينضم إلى وجه القياس معنى دقيق يورثه قوة ورجحانا على وجه الاستحسان ثم الصحيح أن معنى الرجحان هاهنا تعين العمل بالراجح وترك العمل بالمرجوح, وظاهر كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنه الأولوية حتى يجوز العمل بالمرجوح.
قوله: "فالأول" يعني أن سؤر سباع الطير من البازي والصقر ونحوهما نجس قياسا على سؤر سباع البهائم كالفهد والذئب لمخالطته باللعاب المتولد من لحم نجس. فإن اختيار المحققين أن لحم سباع البهائم نجس لا يطهر بالزكاة; لأن الحرمة فيما يصلح للغذاء إذا لم تكن للضرورة أو الاستخباث أو الاحترام آية النجاسة إلا أنه لما اجتمع في السبع ما لا يؤكل وهو طاهر كالجلد والعظم والعصب والشعر وما يؤكل وهو نجس كاللحم والشحم أشبه دهنا ماتت فيه فأرة فجعل له حكم بين النجاسة والطهارة الحقيقيتين بأن حرم أكله وتنجس لعابه لكن جاز بيعه والانتفاع به ولم تجعل نجاسة سباع الطير أيضا بهذا الطريق; لأن الروايات إنما وردت في سباع البهائم دون الطيور فاحتيج فيها إلى القياس وهذا قياس ضعيف الأثر قليل الصحة لقصور علة التنجس في الفرع أعني المخالطة, وقد قابله استحسان قوي الأثر يقتضي طهارة سؤرها; لأنها تشرب بالمنقار على سبيل الأخذ ثم الابتلاع والمنقار عظم طاهر; لأنه جاف لا رطوبة فيه فلا يتنجس الماء بملاقاته فيكون سؤره طاهرا كسؤر الآدمي والمأكول لانعدام العلة الموجبة للنجاسة وهي الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة إلا أنه يكره لما أن سباع الطيور لا تحترز عن الميتة والنجاسة كالدجاجة المخلاة.
(2/173)
 
 
السجدة في قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً} استحسانا؛ لأن الشرع أمر بالسجود فلا تؤدى بالركوع كسجود الصلاة فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وهي أن السجود غير مقصود هنا وإنما الغرض ما يصلح تواضعا مخالفة للمتكبرين. وكما إذا اختلفا في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف وفي
ـــــــ
في قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً} استحسانا; لأن الشرع أمر بالسجود فلا تؤدى بالركوع كسجود الصلاة فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وهي أن السجود غير مقصود هنا وإنما الغرض ما يصلح تواضعا مخالفة للمتكبرين". واعلم أنهم جعلوا في هذه المسألة كون السجود يؤدى بالركوع حكما ثابتا بالقياس وعدمه حكما ثابتا بالاستحسان ولا أدري خصوصية الأول بالقياس والثاني بالاستحسان فلهذا أوردت مثالا آخر وهو قوله "وكما إذا اختلفا في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان; لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف وفي الاستحسان لا; لأنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه وذا لا يوجب التحالف لكن عملنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف في الأصل" اعلم أنه إذا اختلف المتعاقدان في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان وفي الاستحسان لا, وذلك لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف كما في المبيع.
................................................................................................
قوله: "والثاني" لما كان عدم تأدي المأمور به بالإتيان بغير المأمور به أمرا جليا وعكسه أمرا خفيا اشتبه على المصنف رحمه الله تعالى جهة جعل تأدي السجدة بالركوع قياسا وعدم تأديها به استحسانا ونقل عنه في توجيه ذلك أنه إذا جاز إقامة الركوع مقام السجدة ذكرا لما بينهما من المناسبة أعني اشتمالها على التعظيم والانحناء فجاز إقامته مقامه فعلا لتلك المناسبة وهذا أمر جلي تسبق إليه الأفهام فيكون قياسا إلا أن الاستحسان أن لا يتأدى به كالسجدة الصلاتية لا تتأدى بالركوع; لأن الأمر بالشيء يقتضي حسنه لذاته فيكون مطلوبا لعينه فلا يتأدى بغيره وهذا قياس خفي بالنسبة إلى الأول فيكون استحسانا, وفيه نظر إذ لا يخفى أن عدم تأدي المأمور به بغيره قياسا على أركان الصلاة أظهر وأجلى من تأديه به قياسا على جواز إقامة اسم الشيء مقام اسم غيره.
والأقرب أن يقال لما اشتمل كل من الركوع والسجود على التعظيم كان القياس فيما وجب بالتلاوة في الصلاة أن يتأدى بالركوع كما يتأدى بالسجود لما بينهما من المناسبة الظاهرة ولهذا صح التعبير عنه بالركوع في قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً} أي سقط ساجدا فهذا قياس جلي فيه فساد ظاهر هو العمل بالمجاز من غير تعذر الحقيقة, وصحة خفية هي أن سجدة التلاوة لم تجب قربة مقصودة ولهذا لا تلزم بالنذر كالطهارة وإنما المقصود هو التواضع ومخالفة المتكبرين وموافقة المطيعين على قصد العبادة ولهذا اشترط الطهارة واستقبال القبلة وهذا حاصل في الركوع في الصلاة إلا أن المأمور به هو السجود وهو مغاير للركوع فينبغي أن لا ينوب الركوع عنه كما لا ينوب عن السجدة الصلاتية مع قرب المناسبة بينهما لكونهما من أركان الصلاة وموجبات التحريمة وكما لا ينوب الركوع خارج الصلاة عن السجدة مع أنه لم يستحق بجهة أخرى بخلاف الركوع في
(2/174)
 
 
الاستحسان لا؛ لأنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه وذا لا يوجب التحالف لكن عملنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف في الأصل.
وبالتقسيم العقلي ينقسم كل إلى ضعيف الأثر وقويه وعند التعارض لا يرجع الاستحسان إلا في صورة واحدة وإلى صحيح الظاهر والباطن وفاسدهما وصحيح
ـــــــ
فهذا قياس جلي يسبق إليه الأفهام ثم إذا نظرنا علمنا أنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه; لأنهما اختلفا في الذراع, والذراع وصف; لأن زيادة الذراع توجب جودة في الثوب بخلاف الكيل والوزن وإذا كان الذراع وصفا والاختلاف في الوصف لا يوجب التحالف فهذا المعنى أخفى من الأول فيكون هذا استحسانا والأول قياسا هذا ما ذكروه. واعلم أنه لا دليل على انحصار القياس والاستحسان في هذين القسمين وعلى انحصار التعارض بينهما في هذين الوجهين فلهذا أوردت الأقسام الممكنة عقلا وقلت:
"وبالتقسيم العقلي ينقسم كل إلى ضعيف الأثر وقويه وعند التعارض لا يرجع الاستحسان إلا في صورة واحدة" وهي أن يكون القياس ضعيف الأثر والاستحسان قوي الأثر أما في الصور الثلاث الأخر فالقياس راجح على الاستحسان أما إذا كان القياس قوي الأثر والاستحسان ضعيف الأثر فواضح وأما إذا كانا قويين فالقياس يرجح لظهوره وأما إذا كانا ضعيفين فإما أن يسقط أو يعمل بالقياس لظهوره فلهذا أوردت الحكم المتيقن وهو أن الاستحسان لا يرجح على القياس في هذه الصور الثلاث ويرجح في صورة واحدة "وإلى
................................................................................................
الصلاة وهذا قياس خفي يسمى استحسانا وفيه أثر ظاهر هو العمل بالحقيقة وعدم تأدية المأمور به لغيره وفساد خفي هو جعل غير المقصود مساويا للمقصود فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وجعلنا سجدة التلاوة في الصلاة متأدية بالركوع ساقطة به كما تسقط الطهارة للصلاة بالطهارة لغيرها بخلاف الركوع خارج الصلاة; لأنه لم يشرع عبادة وبخلاف السجدة الصلاتية فإنها مقصودة بنفسها كالركوع بدليل قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} .
قوله: "بالتقسيم العقلي ينقسم" القياس والاستحسان تارة باعتبار القوة والضعف وتارة باعتبار الصحة والفساد أما بالاعتبار الأول فإما أن يكونا قويي الأثر أو ضعيفي الأثر أو القياس قويا والاستحسان ضعيفا أو بالعكس ففي الرابع يترجح الاستحسان قطعا وفي الثلاثة الباقية يتيقن عدم ترجيح الاستحسان, وأما ترجيح القياس ففي الأول والثالث متيقن لا في الثاني فإنه يحتمل سقوط الاستحسان والقياس لضعفهما وتسمية الاستحسان في جميع الأقسام تكون باعتبار خفائه إلا أنه يشكل بما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن سمينا ما ضعف أثره قياسا وما قوي أثره استحسانا, وأما بالاعتبار الثاني فإما أن يكون كل منهما صحيح الظاهر والباطن أو فاسدهما أو صحيح الظاهر فاسد الباطن أو بالعكس وفي الجميع يكون القياس جليا بمعنى سبق الأفهام إليه
(2/175)
 
 
الظاهر فاسد الباطن والعكس فالأول من القياس يرجح على كل استحسان وثانيه مردود بقي الأخيران فالأول من الاستحسان أي صحيح الظاهر والباطن يرجح عليهما أي على قياس صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه، وثانيه مردود أي ثاني الاستحسان وهو فاسد الظاهر والباطن بقي الأخيران أي من الاستحسان وهما صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه فالتعارض بينهما وبين أخيري القياس إن وقع مع خلاف النوع فما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس.
ـــــــ
صحيح الظاهر والباطن وفاسدهما وصحيح الظاهر فاسد الباطن والعكس فالأول من القياس يرجح على كل استحسان وثانيه مردود بقي الأخيران فالأول من الاستحسان أي صحيح الظاهر والباطن يرجح عليهما أي على قياس صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه, وثانيه مردود أي ثاني الاستحسان وهو فاسد الظاهر والباطن بقي الأخيران أي من الاستحسان وهما صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه فالتعارض بينهما وبين أخيري القياس إن وقع مع خلاف النوع فما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس" اعلم أن التعارض بين كل واحد من هذين القسمين من الاستحسان أي صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه وبين كل واحد من أخيري القياس إن وقع مع اختلاف النوع وهذا في
................................................................................................
والاستحسان خفيا بالإضافة إليه ويقع التعارض على ستة عشر وجها حاصلة من ضرب الأقسام الأربعة للقياس في الأقسام الأربعة للاستحسان فالقياس الصحيح الظاهر والباطن يترجح على جميع أقسام الاستحسان, والقياس الفاسد الظاهر والباطن يكون مردودا بالنسبة إلى الكل فتبقى ثمانية أوجه حاصلة من ضرب أقسام الاستحسان في أخيري القياس فالأول من الاستحسان يرجح عليها لصحته ظاهرا وباطنا والثاني يرد مطلقا لفساده ظاهرا وباطنا بقي أربعة أوجه حاصلة من ضرب أخيري الاستحسان في أخيري القياس: الأول تعارض الاستحسان الصحيح الظاهر الفاسد الباطن والقياس الفاسد الظاهر الصحيح الباطن والثاني بالعكس والثالث تعارض استحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن وقياس كذلك والرابع تعارض استحسان صحيح الباطن فاسد الظاهر وقياس كذلك وسمي اتفاق القياس والاستحسان في صحة الظاهر وفساد الباطن باتحاد النوع واختلافهما في ذلك باختلاف النوع وحكم برجحان الاستحسان في الوجه الثاني من هذه الأربعة وبرجحان القياس في الثلاثة الباقية وادعى أن الظاهر امتناع التعارض بين قياس واستحسان يتفقان في قوة الأثر أو صحة الباطن سواء كان مع الاتفاق في صحة الظاهر أو بدونه وبعد إقامة الدليل جزم بهذا الحكم, وقد علم من الاستدلال ومن سوق الكلام بالآخرة أن قوله إذا كان الاستحسان على صفة كان القياس على خلاف تلك الصفة مقيدا بالقوة والصحة الباطنة إذ لا امتناع في أن تعارض قياس ضعيف أو صحيح الظاهر فقط أو فاسد الظاهر والباطن أو الظاهر فقط لاستحسان كذلك.
قوله: "بالمعنى المذكور" أي بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف مطلقا أو بلا مانع يوجد ذلك الحكم.
(2/176)
 
 
ومع اتحاده إن أمكن فالقياس أولى وما ذكروا من حيث القوة والضعف فعند التحقيق داخل في هذا التفصيل أيضا.
ـــــــ
صورتين: إحداهما أن يعارض صحيح الظاهر فاسد الباطن من الاستحسان فاسد الظاهر صحيح الباطن من القياس وثانيتهما أن يعارض فاسد الظاهر صحيح الباطن من الاستحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن من القياس فلا شك أن ما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس سواء كان قياسا أو استحسانا.
"ومع اتحاده إن أمكن فالقياس أولى" أي إن وقع التعارض بينهما مع اتحاد النوع وهو أن يعارض استحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن قياسا كذلك أو يعارض استحسان فاسد الظاهر صحيح الباطن قياسا كذلك يكون القياس راجحا في الصورتين وإنما قلنا إن أمكن; لأنا لم نجد تعارض القياس والاستحسان على هذه الصفة والظاهر أنه إذا كان الاستحسان على صفة كان القياس على خلاف تلك الصفة; لأن القياس لا يكون صحيحا في نفس الأمر إلا وقد جعل الشرع وصفا من الأوصاف علة للحكم بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف مطلقا أو كلما وجد ذلك الوصف بلا مانع يوجد ذلك الحكم لكنه وجد ذلك الوصف بإحدى الصفتين المذكورتين في الفرع فيوجد ذلك الحكم فإن كان القياس بهذه الصفة لا يعارضه قياس صحيح سواء كان جليا أو خفيا; لأنه لا يمكن أن يجعل الشرع وصفا آخر علة لنقيض ذلك الحكم بالمعنى المذكور ثم يوجد ذلك الوصف في الفرع إذ لو كان كذلك يلزم حكم الشرع بالتناقض وهذا محال على الشارع تعالى وتقدس فعلم أن تعارض قياسين صحيحين في الواقع ممتنع وإنما يقع التعارض لجهلنا بالصحيح والفاسد فالتعارض لا يقع بين قياس قوي الأثر واستحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس صحيح الظاهر والباطن وبين استحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس فاسد الظاهر صحيح الباطن وبين استحسان كذلك "وما ذكروا من حيث القوة والضعف فعند التحقيق داخل في هذا التفصيل أيضا"; لأنه لا يخلو إما أن يكون صحيح الظاهر أو فاسد الظاهر وعلى كل من التقديرين لا يخلو من أنه إذا تؤمل حق التأمل يتبين صحته أو يتبين فساده وإذا كانت القسمة منحصرة في هذه الأقسام فقوي الأثر وضعيفه لا يخلو من أحد هذه الأقسام قطعا
................................................................................................
قوله: "وما ذكروا" هذا كلام قليل الجدوى; لأن تداخل الأقسام ضروري فيما إذا قسم الشيء تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة يقال اللفظ ثلاثي أو رباعي أو خماسي وباعتبار آخر اسم أو فعل أو حرف وباعتبار آخر معرب أو مبني إلى غير ذلك نعم لو صح ما ذكره البعض من أن المراد بالضعف والفساد واحد, وكذا بالقوة والصحة لكان أحد القسمين مستدركا.
(2/177)
 
 
والمستحسن بالقياس الخفي يعدى لا المستحسن بغيره نظيره أن في الاختلاف في الثمن قبل قبض المبيع اليمين على المشتري فقط قياسا؛ لأنه المنكر وعليهما قياسا خفيا؛ لأن البائع ينكر تسليم المبيع فيعدى إلى الوارثين وإلى الإجارة وأما بعد القبض فثبوته بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" فلا يعدى إلى الوارث وإلى حال هلاك السلعة والاستحسان ليس من باب تخصيص العلة على ما يأتي.
ـــــــ
"والمستحسن بالقياس الخفي يعدى لا المستحسن بغيره نظيره أن في الاختلاف في الثمن قبل قبض المبيع اليمين على المشتري فقط قياسا; لأنه المنكر وعليهما قياسا خفيا; لأن البائع ينكر تسليم المبيع" أي إنما يحلف البائع; لأنه ينكر وجوب تسليم المبيع بقبض ما هو ثمن في زعم المشتري وإنما يحلف المشتري; لأنه ينكر زيادة الثمن. ولما كان هذا ظاهرا لم يذكره في المتن "فيعدى إلى الوارثين" أي إذا اختلف وارثا البائع والمشتري في قدر الثمن قبل قبض المبيع تحالف الوارثان. "وإلى الإجارة" أي إذا اختلف المؤجر والمستأجر في مقدار الأجرة قبل استيفاء المنفعة تحالفا. "وأما بعد القبض فثبوته بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" فلا يعدى إلى الوارث وإلى حال هلاك السلعة والاستحسان ليس من باب تخصيص العلة على ما يأتي" بعض الناس زعموا أن الاستحسان من باب تخصيص العلة وليس كذلك لما يأتي في تخصيص العلة أن ترك القياس بدليل أقوى لا يكون تخصيصا.
"فصل: في دفع العلل المؤثرة" أي الاعتراضات الواردة على العلل المؤثرة منه النقض وهو وجود العلة في صورة مع تخلف الحكم ودفعه بأربع طرق أي الجواب عنه يكون بأربع طرق
................................................................................................
قوله: "والمستحسن" قد سبق أن الاستحسان دليل يقابل قياسا جليا سواء كان أثرا أو إجماعا أو ضرورة أو قياسا خفيا فهاهنا يريد الفرق بين المستحسن بالقياس الخفي والمستحسن بغيره في أن الأول تعدى إلى صورة أخرى; لأن من شأن القياس التعدية والثاني لا يقبل التعدية; لأنه معدول به عن سنن القياس مثلا إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن فالقياس أن يكون اليمين على المشتري فقط; لأنه المنكر وحده; لأنه لا يدعي شيئا حتى يكون البائع أيضا منكرا. فهذا قياس جلي على سائر التصرفات إلا أنه ثبت بالاستحسان التحالف أي وجوب اليمين على كل من البائع والمشتري أما قبل قبض المبيع فبالقياس الخفي وهو أن البائع ينكر وجوب تسليم المبيع بما أقر به المشتري من الثمن كما أن المشتري ينكر وجوب زيادة الثمن فيتوجه اليمين على كل منهما كما في سائر التصرفات فإن اليمين تكون على المنكر, وأما بعد قبض المبيع فبالأثر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" 1 فوجوب التحالف قبل القبض يتعدى إلى وارثي البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن بعد موت البائع والمشتري; لأن الوارث يقوم مقام المورث في حقوق العقد والحكم معقول, وكذا يتعدى إلى الإجارة قبل العمل حتى لو اختلف
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 16. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 19.
(2/178)
 
 
فصل: في دفع العلل المؤثرة
منه النقض وهو وجود العلة في صورة مع تخلف الحكم ودفعه بأربع طرق أي الجواب عنه يكون بأربع طرق.
الأول: منع وجود العلة في صورة النقض نحو: خروج النجاسة علة الانتقاض فنوقض بالقليل فيمنع الخروج فيه وكذا وجود ملك بدل المغصوب يوجب ملكه فنوقض بالمدبر فيمنع ملك بدله فإن ضمان المدبر ليس بدلا عن العين بل بدل عن اليد الفائتة.
ـــــــ
"الأول منع وجود العلة في صورة النقض نحو: خروج النجاسة علة الانتقاض فنوقض بالقليل فيمنع الخروج فيه وكذا وجود ملك بدل المغصوب يوجب ملكه" أو ملك المغصوب لئلا يجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد "فنوقض بالمدبر" أي إذا كان ملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب ففي غصب المدبر يكون كذلك لكن الحكم متخلف; لأن المدبر غير قابل للانتقال من ملك إلى ملك عندكم "فيمنع ملك بدله" أي ملك بدل المغصوب بأن يمنع في المدبر كون بدله بدل المغصوب فإنه ليس بدل العين بل بدل اليد الفائتة "فإن ضمان المدبر ليس بدلا عن العين بل بدل عن اليد الفائتة
................................................................................................
القصار ورب الثوب في مقدار الأجرة قبل أخذ القصار في العمل تحالفا; لأن كلا منهما يصلح مدعيا ومنكرا والإجارة تحتمل الفسخ وهو في التحالف ثم الفسخ دفع للضرر عن كل منهما.
وأما وجوب التحالف بعد القبض فلا يتعدى إلى الوارث ولا إلى حال هلاك السلعة; لأنه غير معقول المعنى إذ البائع لا ينكر شيئا فيقتصر على مورد النص وهو تحالف المتعاقدين حال قيام السلعة وما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتعاقدان تحالفا وترادا" 1 فهو أيضا يفيد التقييد بقيام السلعة; لأنه إن أريد رد المأخوذ فظاهر وإن أريد رد العقد فكذلك إذ الفسخ لا يرد إلا على ما ورد عليه العقد. فإن قلت قد سبق أن من شرط التعدية أن لا يكون الحكم ثابتا بالقياس من غير فرق بين الجلي والخفي فكيف يصح تعدية المستحسن بالقياس الخفي؟. قلت المعدى بالحقيقة هو حكم أصل الاستحسان كوجوب اليمين على المنكر في سائر التصرفات إلا أن صورة التحالف وجريان اليمين من الجانبين لما كانت حكم الاستحسان الذي هو القياس الخفي أضيفت التعدية إليه إذ لا يوجد في الأصل الذي هو سائر التصرفات يمين المنكر بهذه الكيفية, وهو أن يتوجه على المتنازعين في قضية واحدة.
قوله: "والاستحسان ليس من تخصيص العلة" هو ما توهمه البعض من أن القياس ثابت في صورة الاستحسان وفي سائر الصور, وقد ترك العمل به في صورة الاستحسان لمانع وعمل به في غيرها لعدم المانع فيكون باطلا لما سيأتي من إبطال تخصيص العلة وإنما قلنا إنه ليس من
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 16. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 19.
(2/179)
 
 
والثاني: منع معنى العلة في صورة النقض ولأجله لا يسن في المسح التثليث؛ لأنه لتوكيد التطهير المعقود فلا يفيد في المسح كما في التيمم ويفيد في الاستنجاء.
والثالث: قالوا هو الدفع بالحكم وذكروا له أمثلة خروج النجاسة علة للانتقاض وملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب وحل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي
ـــــــ
والثاني منع معنى العلة في صورة النقض" أي المعنى الذي صارت العلة علة لأجله وهو بالنسبة إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص "نحو: مسح الرأس مسح فلا يسن فيه التثليث كمسح الخف فنوقض بالاستنجاء فيمنع في الاستنجاء المعنى الذي في المسح وهو أنه تطهير حكمي غير معقول ولأجله" أي لأجل أنه تطهير حكمي غير معقول "لا يسن في المسح التثليث; لأنه لتوكيد التطهير المعقود فلا يفيد" أي التثليث "في المسح كما في التيمم ويفيد في الاستنجاء.
والثالث قالوا هو الدفع بالحكم" وهو أن يمنع تلف الحكم عن العلة في صورة النقض "وذكروا له أمثلة خروج النجاسة علة للانتقاض وملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب وحل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي عصمة المال كما في المخمصة فيضمن الجمل الصائل فنوقض بالمستحاضة والمدبر ومال الباغي فأجابوا في الأولين بالمانع لكن هذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به وفي الثالث بأنا لا نسلم حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي بل إنما انتفت بالبغي" أورد الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى للدفع بالحكم ثلاثة أمثلة: أحدها خروج النجاسة علة للانتقاض فنوقض بالمستحاضة أن خروج النجاسة موجود فيها بدون الانتقاض, وثانيها أن ملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب فنوقض بالمدبر فأجاب فخر الإسلام رحمه الله تعالى في الصورتين بأنه إنما تخلف الحكم في الصورتين
................................................................................................
تخصيص العلة; لأن انعدام الحكم في صورة الاستحسان إنما هو لانعدام العلة مثلا موجب نجاسة سؤر سباع الوحش هو الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة ولم يوجد ذلك في سباع الطير فانتفى الحكم لذلك وهذا معنى ترك القياس الجلي الضعيف الأثر بدليل قوي هو