شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه
المؤلف : سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي (المتوفى : 793هـ)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
الحمد لله الذي أحكم بكتابه أصول الشريعة الغراء، ورفع بخطابه فروع الحنيفية السمحة البيضاء، حتى أضحت كلمته الباقية راسخة الأساس شامخة البناء. كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أوقد من مشكاة السنة لاقتباس أنوارها سراجا وهاجا، وأوضح لإجماع الآراء على اقتفاء آثارها قياسا ومنهاجا، حتى صادفت بحار العلم والهدى تتلاطم أمواجا. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، والصلاة على من أرسله لساطع الحجة معوانا وظهيرا، وجعله لواضح المحجة سلطانا ونصيرا، محمد المبعوث هدى للأنام مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ثم على من التزم بمقتضى إشاراته الدالة على طريق العرفان، واعتصم فيها بما تواتر من نصوصه الظاهرة البيان، واغتنم في شريف ساحته كرامة الاستصحاب والاستحسان، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وبعد فإن علم الأصول الجامع بين المعقول والمنقول، النافع في الوصول إلى مدارك المحصول أجل ما يتنسم في إحكام أحكام الشرع قبول القبول، وأعز ما يتخذ لإعلاء أعلام الحق عقول العقول، وإن كتاب التنقيح - مع شرحه المسمى بالتوضيح للإمام المحقق والنحرير المدقق علم الهداية وعالم الدراية معدل ميزان المعقول، والمنقول، ومنقح أغصان الفروع والأصول صدر الشريعة والإسلام، أعلى الله درجته في دار السلام - كتاب شامل لخلاصة كل مبسوط واف، ونصاب كامل من خزانة كل منتخب كاف، وبحر محيط بمستصفى كل مديد وبسيط، وكنز مغن عما سواه من كل وجيز ووسيط، فيه كفاية لتقديم ميزان الأصول وتهذيب أغصانها، وهو نهاية في تحصيل مباني الفروع وتعديل أركانها، نعم قد سلك منهاجا بديعا في كشف أسرار التحقيق، واستولى على الأمد الأقصى من رفع منار التدقيق، مع شريف زيادات ما مستها أيدي الأفكار، ولطيف ما فتق بها رتق آذانهم أولو الأبصار، ولهذا طار كالأمطار في الأقطار، وصار كالأمثال في الأمصار، ونال في الآفاق حظا من الاشتهار، ولا اشتهار الشمس في نصف النهار. وقد صادفت مجتازي ما وراء النهر لكثير من فضلاء الدهر أفئدة تهوى إليه وأكبادا هائمة عليه، وعقولا جاثية بين يديه، ورغبات مستوقفة المطايا لديه، معتصمين في كشف أستاره بالحواشي والأطراف، قانعين في بحار أسراره على اللآلئ بالأصداف لا تحل أنامل الأنظار عقد معضلاته ولا يفتح بنان البيان أبواب مغلقاته فلطائفه بعد تحت حجب الألفاظ مستورة وخرائده في خيام الأستار مقصورة ترى حواليها همما مستشرفة
(1/5)
 
 
حامدا لله تعالى أولا وثانيا ولعنان الثناء إليه ثانيا وعلى أفضل رسله وآله مصليا
................................................................................................
الأعناق، ودون الوصول إليها أعينا ساهرة الأحداق، فأمرت بلسان الإلهام، لا كوهم من الأوهام، أن أخوض في لجج فوائده وأغوص على غرر فرائده، وأنشر مطويات رموزه، وأظهر مخفيات كنوزه، وأسهل مسالك شعابه، وأذلل شوارد صعابه، بحيث يصير المتن مشروحا، ويزيد الشرح بيانا ووضوحا، فطفقت أقتحم موارد الشهر في ظلم الدياجر، وأحتمل مكابد الفكر في ظمإ الهواجر، راكبا كل صعب وذلول، لاقتناص شوارد الأصول، ونازفا غلالة الجد في الأصول إلى مقاصد الأبواب والفصول، حتى استوليت على الغاية القصوى من أسرار الكتاب، وأمطت عن وجوه خرائد قناع الارتياب، ثم جمعت هذا الشرح المرسوم بالتلويح إلى كشف حقائق التنقيح. مشتملا على تقرير قواعد الفن وتحرير معاقده، وتفسير مقاصد الكتاب وتكثير فوائده، مع تنقيح لما آثر فيه المصنف بسط الكلام، وتوضيح لما اقتصر فيه على ضبط المرام، في ضمن تقريرات تنفتح لورودها أصداف الآذان، وتحقيقات تهتز لإدراكها أعطاف الأذهان، وتوجيهات ينشط لاستماعها الكسلان، وتقسيمات يطرب عند سماعها الثكلان، معولا في متون الرواية على ما اشتهر من الكتب الشريفة، ومعرجا في عيون الدراية على ما تقرر من النكت اللطيفة، وسيحمد الغائص في بحار التحقيق الفائض عليه أنوار التوفيق، ما أودعت هذا الكتاب الذي لا يستكشف القناع عن حقائقه إلا الماهر من علماء الفريقين، ولا يستهل للاطلاع على دقائقه إلا البارع في أصول المذهبين، مع بضاعة في صناعة التوجيه والتعديل، وإحاطة بقوانين، الاكتساب والتحصيل، والله سبحانه ولي الإعانة والتأييد، والملي بإفاضة الإصابة والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قوله: "حامدا" حال من المستكن في متعلق الباء أي بسم الله أبتدئ الكتاب حامدا آثر طريقة الحال على ما هو المتعارف عندهم من الجملة الاسمية والفعلية نحو الحمد لله وأحمد الله تسوية بين الحمد والتسمية ورعاية للتناسب بينهما فقد ورد في الحديث: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجزم" فحاول أن يجعل الحمد قيدا للابتداء حالا عنه كما وقعت التسمية كذلك إلا أنه قدم التسمية؛ لأن النصين متعارضان ظاهرا، إذ الابتداء بأحد الأمرين يفوت الابتداء بالآخر وقد أمكن الجمع بأن يقدم أحدهما على الآخر فيقع الابتداء به حقيقة وبالآخر بالإضافة إلى ما سواه فعمل بالكتاب الوارد بتقديم التسمية والإجماع المنعقد عليه وترك العاطف لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية ولا يجوز أن يكون حامدا حالا من فاعل يقول؛ لأن قوله وبعد فإن العبد على ما في النسخة المقررة عند المصنف صارف عن ذلك. وأما على النسخة القديمة الخالية عن هذا الصارف فالظاهر أنه حال عنه. وأما تفصيل الحمد بقوله أولا وثانيا فيحتمل وجوها: الأول أن الحمد يكون على النعمة وغيرها فالله تعالى يستحق الحمد أولا بكمال ذاته وعظمة صفاته وثانيا بجميل نعمائه وجزيل
آلائه التي من جملتها التوفيق لتأليف هذا الكتاب الثاني أن نعمة الله تعالى على كثرتها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولا وإيجاد وإبقاء ثانيا فيحمده على القسمين تأسيا بالسور المفتتحة بالتحميد حيث أشير في الفاتحة إلى الجميع وفي الأنعام إلى الإيجاد وفي الكهف إلى الإبقاء أولا وفي السبأ إلى الإيجاد وفي الملائكة إلى الإبقاء. ثانيا الثالث الملاحظة لقوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص:70]
(1/6)
 
 
وفي حلبة الصلوات مجليا ومصليا. وبعد: فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة
................................................................................................
على معنى أنه يستحق الحمد في الدنيا على ما يعرف بالحجة من كماله ويصل إلى العباد من نواله وفي الآخرة على ما يشاهد من كبريائه ويعاين من نعمائه التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] فإن قلت فقد وقع التعرض للحمد على الكبرياء والآلاء في داري الفناء والبقاء فما معنى قوله ولعنان الثناء ثانيا أي: صارفا عطفا على "حامدا" قلت: معناه قصد تعظيمه ونية التقرب إليه في كل ما يصلح لذلك من الأقوال والأفعال وصرف الأموال إشارة إلى أنواع العبادات فإن نعم الله تعالى تستوجب الشكر بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان، وفيه إشارة إلى أن الأخذ في العلوم الإسلامية ينبغي أن يعرض عن جانب الخلق ويصرف أعنة الثناء من جميع الجهات إلى جناب الحق تعالى وتقدس عالما بأنه المستحق للثناء وحده، فإن قلت: من شرط الحال المقارنة للعامل والأحوال المذكورة أعني حامدا وغيره لا تقارن الابتداء بالتسمية قلت: ليس الباء صلة ل "أبتدئ" بل الظرف حال والمعنى متبركا بسم الله أبتدئ الكتاب، والابتداء أمر عرفي يعتبر ممتدا من حين الأخذ في التصنيف إلى الشرع في البحث ويقارنه التبرك بالتسمية والحمد والصلاة، فإن قلت: فعلى الوجه الثالث يكون حامدا ثانيا بمعنى ناويا للحمد وعازما عليه ليكون مقارنا للعامل وحينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز قلت: يجعل من قبيل المحذوف أي وحامدا ثانيا بمعنى عازما عليه فلا يلزم الجمع.
قوله: "وعلى أفضل رسله مصليا" لما كان أجل النعم الواصلة إلى العبد هو دين الإسلام، وبه التوصل إلى النعم الدائمة في دار السلام، وذلك بتوسط النبي عليه الصلاة والسلام صار الدعاء له تلو الثناء على الله تعالى فأردف الحمد بالصلاة، وفي ترك التصريح باسم النبي عليه السلام على ما في النسخة المقررة تنويه بشأنه وتنبيه على أن كونه أفضل الرسل عليه السلام أمر جلي لا يخفى على أحد. والحلبة بالسكون خيل تجمع للسباق من كل أوب استعيرت للمضمار. والمجلي هو السابق من أفراس السباق والمصلي هو الذي يتلوه؛ لأن رأسه عند صلويه، ومعنى ذلك تكثير الصلاة وتكريرها أو أشار بالمجلي إلى الصلاة على النبي وبالمصلي إلى الصلاة على الآل؛ لأنها إنما تكون ضمنا وتبعا، ثم لا يخفى حسن ما في قرائن الحمد والصلاة من التجنيس وما في القرينة الثانية من الاستعارة بالكناية والتخييل والترشيح وما في الرابعة من التمثيل، وإن تقديم المعمولات في القرائن الثلاث الأخيرة لرعاية السجع والاهتمام، إذ الحصر لا يناسب المقام، وإن انتصاب أولا وثانيا على الظرفية. وأما التنوين في أولا مع أنه أفعل التفضيل بدليل الأولى والأوائل كالفضل والأفاضل فلأنه هاهنا ظرف بمعنى قبل، وهو حينئذ منصرف لا وصفية له أصلا، وهذا معنى ما قال في الصحاح إذا جعلته صفة لم تصرفه تقول لقيته عاما أول وإذا لم تجعله صفة صرفته تقول لقيته عاما أولا ومعناه في الأول أول من هذا العام، وفي الثاني قبل هذا العام.
قوله: "سعد جده" فيه إيهام، إذ الجد البخت وأب الأب.
قوله: "وفقني الله" التوفيق جعل الأسباب متوافقة ويعدى باللام وتعديته بالباء تسامح أو
(1/7)
 
 
عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وأنجح جده يقول لما وفقني الله بتأليف تنقيح الأصول أردت أن أشرح مشكلاته وأفتح مغلقاته معرضا عن شرح المواضع التي من يحلها بغير إطناب لا يحل له النظر في ذلك الكتاب واعلم أني لما سودت كتاب التنقيح، وسارع بعض الأصحاب إلى انتساخه ومباحثته وانتشر النسخ في بعض الأطراف ثم بعد ذلك وقع فيه قليل من التغييرات وشيء من المحو والإثبات فكتبت في هذا الشرح عبارة المتن على النمط الذي تقرر عندي لتغيير النسخ المكتوبة قبل التغييرات إلى هذا النمط.
ثم لما تيسر إتمامه وفض بالاختتام ختامه مشتملا على تعريفات وحجج مؤسسة على قواعد المعقول وتفريعات مرصصة بعد ضبط الأصول وترتيب أنيق لم يسبقني على مثله أحد مع تدقيقات غامضة لم يبلغ فرسان هذا العلم إلى هذا الأمد سميت هذا الكتاب بالتوضيح في حل غوامض التنقيح، والله تعالى مسئول أن يعصم عن الخطأ والخلل كلامنا وعن السهو والزلل أقلامنا وأقدامنا.
................................................................................................
تضمين لمعنى التشريف والمصنف كثيرا ما يتسامح في صلاة الأفعال ميلا منه إلى جانب المعنى.
قوله: "وفض" من فضضت ختم الكتاب فتحته والفض الكسر بالتفريق واختتمت الكتاب بلغت آخره والختام الطين الذي يختم به جعل الكتاب قبل التمام لاحتجابه عن نظر الأنام بمنزلة الشيء المختوم الذي لا يطلع على مخزوناته ولا يحاط بمستودعاته، ثم جعل عرضه على الطالبين بعد الاختتام وعدم منعهم عن مطالعته بعد التمام بمنزلة فض الختام.
قوله: "مؤسسة على قواعد المعقول" أي مبنية على الوجوه والشرائط المذكورة في علم الميزان لا كما هو دأب قدماء المشايخ من الاقتصار على حصول المقصود.
قوله: "وترتيب أنيق" أي: حسن معجب يريد به بعض ما تصرف فيه من التقديم والتأخير في المباحث والأبواب على الوجه الأحسن الأليق لم يسبقني والصواب لم يسبقني إلى مثله سبقت العالمين إلى المعالي.
قوله: "لم يبلغ" صفة تدقيقات والعائد محذوف أي لم يبلغها فرسان علم الأصول إلى هذه الغاية من الزمان أو المراد لم يصل فرسان هذا العلم إلى تلك الغاية من التدقيق فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير وتعدية البلوغ بإلى لجعله بمعنى الوصول والانتهاء.
قوله: "سميت هذا الكتاب" جواب لما وضع اسم الإشارة موضع الضمير لكمال العناية بتمييزه، فإن قلت: لما لثبوت الثاني لثبوت الأول فيقتضي سببية ما ذكره بعد لما لتسمية هذا الكتاب بالتوضيح فما وجهه قلت: وجهه أن الضمير في إتمامه للشرح المذكور الموصوف بأنه شرح لمشكلات التنقيح وفتح لمغلقاته وإتمام مثل هذا الشرح مع اشتماله على الأمور المذكورة يصلح سببا لتسميته بالتوضيح في حل غوامض التنقيح.
(1/8)
 
 
إليه يصعد الكلم الطيب من محامد لأصولها من مشارع الشرع ماء ولفروعها من قبول القبول نماء على أن جعل أصول الشريعة ممهدة المباني وفروعها رقيقة الحواشي بنى على أربعة أركان قصر الأحكام وأحكمه بالمحكمات غاية الإحكام وجعل المتشابهات مقصورات خيام الاستتار ابتلاء لقلوب الراسخين والنصوص منصة عرائس أبكار أفكار المتفكرين وكشف القناع عن جمال مجملات كتابه بسنة نبيه المصطفى وفصل خطابه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما رفع أعلام الدين بإجماع المجتهدين ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين.
ـــــــ
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] افتتح بالضمير قبل الذكر ليدل على حضوره في الذهن، فإن ذكر الله تعالى كيف لا يكون في الذهن سيما عند افتتاح الكلام كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105] وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] وقوله الطيب صفة الكلم. والكلم إن كان جمعا وكل جمع يفرق بينه وبين واحدة بالتاء يجوز في وصفه التذكير والتأنيث نحو نخل خاوية ونحو "منقعر", "من محامد لأصولها من مشارع
................................................................................................
قوله: "إليه يصعد" افتتاح غريب واقتباس لطيف أتى بالضمير قبل الذكر دلالة على حضور ذكر الله تعالى في قلب المؤمن سيما عند افتتاح الكلام في أصول الشرع وإشارة إلى أن الله تعالى متعين لتوجه المحامد إليه لا يفتقر إلى التصريح بذكره ولا يذهب الوهم إلى غيره، إذ له العظمة والجلالة ومنه العطاء والنوال وإيماء إلى أن الشارع في العلوم الإسلامية ينبغي أن يكون مطمح نظره ومقصد همته جناب الحق تعالى وتقدس ويقتصر على طلب رضاه ولا يلتفت إلى ما سواه لا يقال: إن ابتدأ المتن بالتسمية فلا إضمار قبل الذكر، وإن لم يبدأ لزم ترك العمل بالسنة؛ لأنا نقول يكفي في العمل بالسنة أن تذكر التسمية باللسان أو تخطر بالبال أو تكتب على قصد التبرك من غير أن تجعل جزءا من الكتاب وعلى كل تقدير يكون الإضمار قبل ذكر المرجع في الكتاب، والصعود الحركة إلى المعالي مكانا وجهة استعير للتوجه إلى العالي قدرا ومرتبة والكلم من الكلمة بمنزلة التمر من التمرة يفرق بين الجنسي وواحده بالتاء، واللفظ مفرد إلا أنه كثيرا ما يسمى جمعا نظرا إلى المعنى الجنسي ولاعتبار جانبي اللفظ والمعنى يجوز في وصفه التذكير والتأنيث قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20] أي منقطع عن مغارسه ساقط على وجه الأرض وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] أي متآكلة الأجواف، ثم الكلم غلب على الكثير لا يستعمل في الواحد ألبتة حتى توهم بعضهم أنها جمع كلمة وليس على حد تمر وتمرة إلا أن الكلم الطيب بتذكير الوصف يدل على ما ذكرنا مع أن "فعلا" ليس من أبنية الجمع فلا ينبغي أن يشك في أنه اسم جمع كتمر وركب وأنه ليس بجمع كنسب ورتب ففي قوله والكلم إن كان جمعا حرازة لا تخفى والصواب، وإن كان بالواو.
قوله: "من محامد" حال من الكلم بيانا له على ما قال النبي عليه السلام "هو سبحان الله
(1/9)
 
 
الشرع ماء ولفروعها من قبول القبول نماء" القبول الأول ريح الصبا "على أن جعل أصول الشريعة ممهدة المباني وفروعها رقيقة الحواشي" أي لطيفة الأطراف والجوانب ودقيقة
................................................................................................
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل" ، وإنما صلح الجمع المنكر بيانا للمعرف المستغرق لما سيجيء من أن النكرة تعم بالوصف كامرأة كوفية، ولأن التنكير هاهنا للتكثير، وهو يناسب التعميم. والمحامد جمع محمدة بمعنى الحمد، وهو مقابلة الجميل من نعمة أو غيرها بالثناء والتعظيم باللسان. والشكر مقابلة النعمة بالإظهار وتعظيم المنعم قولا أو عملا أو اعتقادا فلاختصاص الحمد باللسان كان بيان الكلم بها أنسب والمشارع جمع مشرعة الماء وهي مورد الشاربة والشرع والشريعة ما شرع الله تعالى لعباده من الدين أي أظهر وبين وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من النبي عليه السلام جعلها على طريق الاستعارة المكنية بمنزلة روضات وجنات فأثبت لها مشارع يردها المتعطشون إلى زلال الرحمة والرضوان وبهذا الطريق أثبت لقبول العبادة الذي هو مهب ألطاف الرحمن ومطلع أنوار الغفران ريح الصبا التي بها روح الأبدان ونماء الأغصان فإن القبول الأول ريح الصبا ومهبها المستوي مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ويقابلها الدبور والعرب تزعم أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء، ثم تسوقه فإذا علا كشف عنه واستقبلته الصبا فوزعت بعضه على بعض حتى يصير كسفا واحدا، ثم ينزل مطرا تنمي به الأشجار والقبول الثاني من المصادر الشاذة لم يسمع له ثان والنماء الزيادة والارتفاع نما ينمي نماء ونما ينمو نموا وحقيقة النمو الزيادة في أقطار الجسم على تناسب طبيعي، ثم في وصف المحامد بما ذكر تلميح إلى قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم:24] فإن المحامد لما كانت هي الكلم الطيب والكلمة الطيبة كشجرة طيبة فالمحمدة شجرة لها أصل هو الإيمان والاعتقادات وفروع هو الأعمال والطاعات وتحقيق ذلك أن الحمد، وإن كان في اللغة فعل اللسان خاصة إلا أن حمد الله تعالى على ما صرح به الإمام الرازي في تفسيره ليس قول القائل الحمد لله، بل ما يشعر بتعظيمه وينبئ عن تمجيده من اعتقاد اتصافه بصفات الكمال والترجمة عن ذلك بالمقال والإتيان بما يدل عليه من الأعمال فالاعتقاد أصل لولاه لكان الحمد كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار والعمل فرع لولاه لما كان للحمد نماء إلى الله تعالى وقبول عنده بمنزلة دوحة لا غصن لها وشجرة لا ثمرة عليها، إذ العمل هو الوسيلة إلى نيل الجنات ورفع الدرجات قال الله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وفي الحديث: "فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل" فأشار المصنف إلى أن لشجرة المحامد أصلا ثابتا هو الاعتقاد الراسخ الإسلامي المبتنى على علم التوحيد والصفات وفرعا ناميا إلى الله تعالى مقبولا عنده هو العمل الصالح الموافق للشريعة المطهرة المبتنى على علم الشرائع والأحكام وأشار إلى الاختصاص والدوام بقوله إليه يصعد بتقديم الظرف المفيد للاختصاص ولفظ المضارع المنبئ عن الاستمرار.
قوله: "على أن جعل" تعليق للمحامد ببعض النعم إشارة إلى عظم أمر العلم الذي وقع التصنيف فيه ودلالة على جلالة قدره والشريعة نعم الفقه وغيره من الأمور الثابتة بالأدلة السمعية
(1/10)
 
 
المعاني "بني على أربعة أركان قصر الأحكام وأحكمه بالمحكمات غاية الإحكام وجعل المتشابهات مقصورات خيام الاستتار ابتلاء لقلوب الراسخين" فإن إنزال المتشابهات على مذهبنا وهو الوقف اللازم على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]
................................................................................................
كمسألة الرؤية والمعاد وكون الإجماع والقياس حجة وما أشبه ذلك وأصول الشريعة أدلتها الكلية ومباني الأصول ما تبتنى هي عليه من علم الذات والصفات والنبوات وتمهيدها تسويتها وإصلاحها بكونها على وفق الحق ونهج الصواب وفروع الشريعة أحكامها المفصلة المبينة في علم الفقه ومعانيها العلل الجزئية التفصيلية على كل مسألة ودقتها كونها غامضة لطيفة لا يصل إليها كل أحد بسهولة وجميع ذلك نعم تستوجب الحمد، إذ بالشريعة نظام الدنيا وثواب العقبى وبدقة معاني الفقه رفعة درجات العلماء ونيلهم الثواب في دار الجزاء، وفي هذا الكلام إشارة إلى أن علم الأصول فوق الفقه ودون الكلام؛ لأن معرفة الأحكام الجزئية بأدلتها التفصيلية موقوفة على معرفة أحوال الأدلة الكلية من حيث توصل إلى الأحكام الشرعية وهي موقوفة على معرفة الباري وصفاته وصدق المبلغ ودلالة معجزاته ونحو ذلك مما يشتمل عليه علم الكلام الباحث عن أحوال الصانع والنبوة والإمامة والمعاد وما يتصل بذلك على قانون الإسلام.
قوله: "بني على أربعة أركان" بمنزلة البدل من الجملة السابقة شبه الأحكام الشرعية بقصر من جهة أن الملتجئ إليها يأمن من غوائل عدو الدين وعذاب النار فأضاف المشبه به إلى المشبه كما في لجين الماء والأحكام تستند إلى أدلة جزئية ترجع مع كثرتها إلى أربعة دلائل هي أركان قصر الأحكام فذكرها في أثناء الكلام على الترتيب الذي بنى الشارع الأحكام عليها من تقديم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم العمل بالقياس ذكر الثلاثة الأول صريحا والقياس بقوله ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين أي القائلين المتأملين في النصوص وعلل الأحكام من قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] تقول اعتبرت الشيء إذا نظرت إليه وراعيت والعلم الأثر الذي يستدل به على الطريق عبر به عن علة الحكم التي بها يستدل على ثبوت الحكم في المقيس، فإن قلت: ليس ترتيب الشارع تقديم السنة على الإجماع مطلقا، بل إذا كانت قطعية قلت: الكلام في متن السنة ولا خفاء في تقدمه، وإنما يؤخر حيث يؤخر لعارض الظن في ثبوته، ثم ذكر بعض أقسام الكتاب إشارة إلى أنه كما يشتمل القصر على ما هو غاية في الظهور وعلى ما هو دونه وعلى ما هو غاية في الخفاء والاستتار بحيث لا يصل إليه غير رب القصر وعلى ما هو دونه كذلك قصر الأحكام يشتمل على محكم هو غاية في الظهور ونص هو دونه وعلى متشابه هو غاية في الخفاء ومجمل هو دونه وسيجيء تفسيرها.
قوله: "مقصورات" أي محبوسات جعل خيام الاستتار مضروبة على المتشابه محيطة به بحيث لا يرجى بدوه وظهوره أصلا على ما هو المذهب من أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وفائدة إنزاله ابتلاء الراسخين في العلم بمنعهم عن التفكير فيه والوصول إلى ما هو غاية متمناهم من العلم بأسراره فكما أن الجهال مبتلون بتحصيل ما هو غير مطلوب عندهم من العلم والإمعان في
(1/11)
 
 
لابتلاء الراسخين في العلم بكبح عنان ذهنهم عن التفكر فيها، والوصول إلى ما يشتاقون إليه من العلم بالأسرار التي أودعها فيها ولم يظهر أحدا من خلقه عليها "والنصوص منصة عرائس أبكار أفكار المتفكرين" منصة العروس مكان يرفع العروس عليه للجلوة "وكشف القناع عن جمال مجملات كتابة بسنة نبيه المصطفى وفصل خطابه" أي الخطاب الفاصل بين الحق
................................................................................................
الطلب كذلك العلماء مبتلون بالوقف وترك ما هو محبوب عندهم، إذ ابتلاء كل أحد إنما يكون بما هو على خلاف هواه وعكس متمناه.
قوله: "بكبح عنان ذهنهم" تقول كبحت الدابة إذا جذبتها إليك باللجام لكي تقف ولا تجري.
قوله: "أودعها فيها" أي أودع الله الأسرار في المتشابهات والإيداع متعد إلى مفعولين تقول أودعته مالا إذا دفعته إليه ليكون وديعة عنده، وإنما عداه بفي تسامحا أو تضمينا بمعنى الإدراج والوضع.
قوله: "منصة" بفتح الميم المكان الذي يرفع عليه العروس للجلوة من نصصت الشيء رفعته والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما يجمع المؤنث على عرائس والمذكر على عرس بضمتين، وفي هذا الكلام نوع حزازة؛ لأن المعاني التي أظهرت بالنصوص وجليت بها على الناظرين هي مفهوماتها والأحكام المستفادة منها وهي ليست نتائج أفكار المتفكرين، بل أحكام الملك الحق المبين فكأنه أراد أن المجتهدين يتأملون في النصوص فيطلعون على معان ودقائق ويستخرجون أحكاما وحقائق وهي نتائج أفكارهم الظاهرة على النصوص بمنزلة العروس على المنصة.
قوله: "وفصل خطابه" أي خطابه الفاصل المميز بين الحق والباطل أو خطابه المفصول الذي يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه على أن الفصل مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، وهذا من عطف الخاص على العام تنبيها على عظم أمره وفخامة قدره، إذ السنة ضربان قول وفعل والقول هو الموضوع لبيان الشرائع المبني عليه أكثر الأحكام المتفق على حجيته بين الأنام.
قوله: "ما رفع" أي ما دام رايات مراسم الدين مرفوعة عالية بإجماع المجتهدين الباذلين وسعهم في إعلاء كلمة الله وإحياء مراسم الدين فإن الحكم المجمع عليه مرفوع لا يوضع ومنصوب لا يخفض.
قوله: "جليل الشأن" أي عظيم الأمر باهر البرهان أي غالب الحجة وفائقها مركوز أي مدفون من ركزت الرمح غرزته في الأرض والكنوز الأموال المدفونة والصخور والحجارة العظام شبه بها عباراته الصعبة الجزلة لصعوبة التوصل بها إلى فهم المعاني التي هي بمنزلة الجواهر النفيسة والرمز الإشارة بالشفتين أو الحاجب تعدى بإلى فأصل الكلام مرموز إلى غوامض حذف الجار وأوصل الفعل فصار غوامض مسندا إليه والنكتة اللطيفة المنقحة من نكت في الأرض بالقضيب إذا ضرب فأثر فيها يعني قد أومأ إلى النكت الخفية اللطيفة في أثناء إشاراته الدقيقة والنظر تأمل الشيء
(1/12)
 
 
والباطل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما رفع أعلام الدين بإجماع المجتهدين، ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين. أراد بمعالم العلم العلل التي يعلم القائس بها الحكم في المقيس، وأراد بالمعتبرين بكسر الباء القائسين، ومسالكهم هي مواقع سلوكهم بأقدام الفكر من مواد النصوص إلى الأحكام الثابتة في الفروع، فمبدأ سلوكهم هو لفظ النص فيعبرون منه إلى معانيه اللغوية الظاهرة، ثم منها إلى معانيه الشرعية الباطنة فيجدون فيها علامات وأمارات وضعها الشارع ليهتدوا بها إلى مقاصدهم، ولما قال بني على أربعة أركان قصر الأحكام ذكر الأركان الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الوجه الذي بنى الشارع قصر الأحكام عليها.
................................................................................................
بالعين والإمعان فيه واللحظ النظر إلى الشيء بمؤخر العين واللحاظ بالفتح مؤخر العين والتنقيح التهذيب تقول نقحت الجذع وشذبته إذا قطعت ما تفرق من أغصانه ولم يكن في لبه وتنظيم الدرر في السلك جمعها كما ينبغي مترتبة متناسقة والكلام لا يخلو عن تعريض ما بان في أصول فخر الإسلام زوائد يجب حذفها وشتائت يجب نظمها ومغالق يجب حلها وأنه ليس بمبني على قواعد المعقول بأن يراعى في التعريفات والحجج شرائطها المذكورة في علم الميزان، وفي التقسيمات عدم تداخل الأقسام إلى غير ذلك مما لم يلتفت إليه المشايخ.
قوله: "موردا فيه" في ذلك المنقح الموصوف يعني كتابه وكذا الضمائر التي تأتي بعد ذلك.
قوله: "الإعجاز في الكلام أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق" ليس تفسير المفهوم إعجاز الكلام؛ لأنه لا يلزم أن يكون بالبلاغة، بل هو عبارة عن كون الكلام بحيث لا يمكن معارضته والإتيان بمثله من أعجزته جعلته عاجزا ولهذا اختلفوا في جهة إعجاز القرآن من الاتفاق على كونه معجزا فقيل إنه ببلاغته وقيل بإخباره عن المغيبات، وقيل بأسلوبه الغريب وقيل بصرف الله العقول عن المعارضة، بل المراد أن إعجاز كلام الله تعالى إنما هو بهذا الطريق، وهو كونه في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة على ما هو الرأي الصحيح فباعتبار أنه يشترط في إعجاز الكلام كونه أبلغ من جميع ما عداه يكون واحدا لا تعدد فيه بخلاف سحر الكلام فإنه عبارة عن دقته ولطف مأخذه، وهذا يقع على طرق متعددة ومراتب مختلفة فلهذا قال أهداب السحر بلفظ الجمع وعروة الإعجاز بلفظ المفرد وهدب الثوب ما على أطرافه وعروة الكوز كليته الذي تؤخذ عنه أخذه وهي أقوى من الهدب فخصها بالإعجاز الذي هو أوثق من السحر، وفي الصحاح السحر الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، ومعنى تمسكه بذلك مبالغته في تلطيف الكلام وتأدية المعاني بالعبارات اللائقة الفائقة حتى كأنه يتقرب إلى السحر والإعجاز وهاهنا بحثان الأول أن كون طريق تأدية المعنى أبلغ من جميع ما عداه من الطرق المحققة الموجودة غير كاف في الإعجاز، بل لا بد من العجز عن معارضته والإتيان بمثله من الطرق المحققة والمقدرة حتى لا يمكن الإتيان بمثله غير مشروط؛ لأن الله تعالى قادر على الإتيان بمثل القرآن مع كونه معجزا فما معنى قوله أبلغ من جميع ما عداه والثاني أن الطرف الأعلى من البلاغة وما يقرب منه من المراتب العلية التي لا يمكن للبشر الإتيان بمثله كلاهما معجز على ما ذكر في المفتاح ونهاية الإعجاز
(1/13)
 
 
وبعد: فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وجد سعده يقول لما رأيت فحول العلماء مكبين في كل عهد وزمان على مباحثة أصول الفقه للشيخ الإمام مقتدى الأئمة العظام فخر الإسلام علي البزدوي بوأه الله تعالى دار السلام وهو كتاب جليل الشأن باهر البرهان مركوز كنوز معانيه في صخور عباراته ومرموز غوامض نكته في دقائق إشاراته ووجدت بعضهم طاعنين على ظواهر ألفاظه لقصور نظرهم عن مواقع ألحاظه.
أدرت تنقيحه وتنظيمه وحاولت تبيين مراده وتفهيمه وعلى قواعد المعقول تأسيسه وتقسيمه موردا فيه زبدة مباحث المحصول وأصول الإمام المدقق جمال العرب ابن الحاجب مع تحقيقات بديعة وتدقيقات غامضة منيعة تخلو الكتب عنها سالكا فيه مسلك الضبط والإيجاز متشبثا بأهداب السحر متمسكا بعروة الإعجاز.
وسميته: تنقيح الأصول والله تعالى مسؤول أن يمتع به مؤلفه وكاتبه وقارئه وطالبه ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم.
ـــــــ
"وبعد فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وجد سعده يقول لما رأيت فحول العلماء مكبين في كل عهد وزمان على مباحثة أصول الفقه", أي: مقبلين عليها من أكب على وجهه سقط عليه فإن من أقبل على الشيء غاية الإقبال فكأنه أكب عليه "للشيخ الإمام مقتدى الأئمة العظام فخر الإسلام علي البزدوي بوأه الله تعالى دار السلام وهو كتاب جليل الشأن باهر البرهان مركوز كنوز معانيه في صخور عباراته ومرموز غوامض نكته في دقائق إشاراته ووجدت بعضهم طاعنين على ظواهر ألفاظه؛ لقصور نظرهم عن مواقع ألحاظه". أي لا يدركون بإمعان لنظر ما يدركه هو بلحاظ عينه من غير أن ينظر إليه قاصدا "أردت تنقيحه وتنظيمه وحاولت", أي طلبت "تبيين مراده وتفهيمه وعلى قواعد المعقول وتأسيسه وتقسيمه موردا فيه زبدة مباحث المحصول وأصول الإمام المدقق جمال العرب ابن الحاجب مع تحقيقات بديعة وتدقيقات غامضة منيعة تخلو الكتب عنها سالكا فيه مسلك الضبط والإيجاز متشبثا بأهداب السحر متمسكا بعروة الإعجاز", اختار في الإعجاز العروة و في السحر الأهداب لأن الإعجاز أقوى و أوثق من السحر و اختار في العروة لفظ الواحد و في الأهداب لفظ الجمع لأن الإعجاز في الكلام أن يؤدي المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق و لا يكون هذا إلا واحدا و أما السحر في الكلام فهو دون الإعجاز و طرقه فوق الواحد فأورد فيه لفظ الجمع.
"وسميته بتنقيح الأصول، والله تعالى مسئول أن يمتع به مؤلفه وكاتبه وقارئه وطالبه
................................................................................................
وحينئذ يتعدد طريق الإعجاز أيضا بأن يكون على الطرف الأعلى أو على بعض المراتب القريبة
(1/14)
 
 
أصول الفقه
مدخل
تعريف الأصل
...
أصول الفقه
الأصل ما يبتني عليه غيره وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد لأنه لا يطلق على الفاعل والصورة والغاية والشروط.
ـــــــ
ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم أصول الفقه أي هذا أصول الفقه أو أصول الفقه ما هي فنعرفها أولا باعتبار الإضافة وثانيا باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف والمضاف إليه فقال "الأصل ما يبتنى عليه غيره" فالابتناء شامل للابتناء الحسي وهو ظاهر والابتناء العقلي وهو ترتب الحكم على دليله "وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد" وقد عرفه الإمام في المحصول بهذا، واعلم أن التعريف، إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية، وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية كما إذا ركبنا شيئا من أمور هي أجزاؤه باعتبار تركيبنا، ثم وضعنا لهذا المركب اسما كالأصل والفقه والجنس والنوع ونحوها فالتعريف الاسمي هو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع "وشرط لكلا التعريفين الطرد" أي كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود "والعكس" أي كل ما صدق ما عليه المحدود صدق عليه الحد فإذا قيل في تعريف الإنسان: إنه حيوان ماش لا يطرد ولو قيل حيوان إن كان بالفعل لا ينعكس "ولا شك أن تعريف الأصل تعريف اسمي" أي بيان أن لفظ الأصل لأي شيء وضع فالتعريف الذي ذكر في المحصول لا يطرد "لأنه" أي الأصل "لا يطلق على الفاعل" أي العلة الفاعلية "والصورة" أي العلة الصورية "والغاية" أي العلة الغائبة "والشروط" كأدوات الصناعة مثلا فعلم أن هذا التعريف صادق على هذه الأشياء لكونها محتاجا إليها والمحدود لا يصدق عليها؛ لأن شيئا من هذه الأشياء لا يسمى أصلا فلا يصح هذا التعريف الاسمي.
................................................................................................
منه والجواب عن الأول أن الإعجاز ليس إلا في كلام الله تعالى ومعنى كونه أبلغ من جميع ما عداه أنه أبلغ من كل ما هو غير كلام الله تعالى محققا ومقدرا حتى لا يمكن الإتيان للغير بمثله وعن الثاني أن الإعجاز سواء كان في الطرف الأعلى أو فيما يقرب منه متحد باعتبار أنه حد من الكلام هو أبلغ مما عداه بمعنى أنه لا يمكن للغير معارضته والإتيان بمثله بخلاف سحر الكلام فإنه ليس له حد يضبطه.
قوله: "أصول الفقه" الكتاب مرتب على مقدمة وقسمين؛ لأن المذكور فيه إما مقاصد الفن أو لا الثاني المقدمة والأول إما أن يكون البحث فيه عن الأدلة، وهو القسم الأول عن الأحكام، وهو القسم الثاني، إذ لا يبحث في هذا الفن عن غيرهما والقسم الأول مبني على أربعة أركان الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهو مذيل ببابي الترجيح والاجتهاد والثاني على ثلاثة أبواب في الحكم والمحكوم به والمحكوم عليه وستعرف بيان الانحصار والمقدمة مسوقة لتعريف العلم وتحقيق موضوعه؛ لأن من حق الطالب للكثرة المضبوطة بجهة واحدة أن يعرفها بتلك الجهة ليأمن من
(1/15)
 
 
تعريف الفقه
...
والفقه: معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا لتخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصوف ومن لم يرد أراد الشمول.
ـــــــ
"والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا ليخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصوف ومن لم يزد أراد الشمول" هذا التعريف منقول عن أبي حنيفة فالمعرفة إدراك الجزئيات عن دليل فخرج التقليد وقوله ما لها وما عليها يمكن أن يراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة كما في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، فإن أريد بهما الثواب والعقاب فاعلم أن ما يأتي به المكلف، إما واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه كراهة تنزيه أو مكروه كراهة تحريم أو حرام فهذه ستة، ثم لكل واحد طرفان طرف الفعل وطرف الترك يعني عدم الفعل فصارت اثني عشر ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه وفعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب مما يعاقب عليه والباقي لا يثاب، ولا يعاقب عليه فلا يدخل في شيء من القسمين.
................................................................................................
فوات المقصود والاشتغال بغيره وكل علم هو كثرة مضبوطة بتعريفه الذي به يتميز عند الطالب وموضوعه الذي به يمتاز في نفسه عن سائر العلوم فحين تشوفت نفس السامع إلى التعريف ليتميز العلم عنده قال المصنف هذا الذي أذكره أصول الفقه إغناء للسامع عن السؤال وقال عن لسانه أصول الفقه ما هي، ثم أخذ في تعريفه وأصول الفقه لقب لهذا الفن منقول عن مركب إضافي فله بكل اعتبار تعريف قدم بعضهم التعريف اللقبي نظرا إلى أن المعنى العلمي هو المقصود في الإعلام وأنه من الإضافي بمنزلة البسيط من المركب والمصنف قدم الإضافي نظرا إلى أن المنقول عنه مقدم وإلى أن الفقه مأخوذ في التعريف اللقبي، فإن قدم تفسيره أمكن ذكره في اللقبي كما قال المصنف هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها الفقه وإلا احتيج إلى إيراد تفسيره تارة في اللقبي وتارة في الإضافي كما في أصول ابن الحاجب ولما كان أصول الفقه عند قصد المعنى الإضافي جمعا وعند قصد المعنى اللقبي مفردا كعبد الله قال فنعرفها أولا باعتبار الإضافة بتأنيث الضمير، وقال فالآن نعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص بتذكيره واللقب علم يشعر بمدح أو ذم وأصول الفقه علم لهذا الفن مشعر بكونه مبنى الفقه الذي به نظام المعاش ونجاة المعاد، وذلك مدح.
قوله: "أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف" ، وهو الأصول. "والمضاف إليه"، وهو الفقه؛ لأن تعريف المركب يحتاج إلى تعريف مفرداته الغير البينة ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه ويحتاج إلى تعريف الإضافة أيضا؛ لأنها بمنزلة الجزء الصوري إلا أنهم لم يتعرضوا له للعلم بأن معنى إضافة المشتق وما في معناه اختصاص المضاف إليه باعتبار مفهوم المضاف مثلا دليل المسألة ما يختص بها باعتبار كونه دليلا عليها فأصل الفقه ما يختص به من حيث إنه مبني له ومستند إليه فالأصول جمع أصل، وهو في اللغة ما يبنى عليه الشيء من حيث إنه يبتنى عليه وبهذا القيد خرج أدلة الفقه مثلا من حيث تبتنى على علم التوحيد فإنها بهذا الاعتبار فروع لا أصول وقيد الحيثية لا بد منه في تعريف الإضافيات إلا أنه كثيرا ما يحذف لشهرة أمره. ثم
(1/16)
 
 
وإن أريد بالنفع عدم العقاب وبالضرر العقاب ففعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب يكون من القسم الثاني أي مما يعاقب عليه والتسعة الباقية تكون من الأول أي مما لا يعاقب عليه وإن أريد بالنفع الثواب وبالضرر عدم الثواب ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه، ثم العشرة الباقية مما لا يثاب عليه عليها ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يجب عليها ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها وفعل الواجب وترك الحرام والمكروه تحريما مما يجب عليها بقي فعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب خارجين عن القسمين ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يحرم عليها فيشملان جميع الأصناف.
إذا عرفت هذا فالحمل على وجه لا يكون بين القسمين واسطة أولى، ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان ونحوه والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات هي علم الكلام ومعرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات هي علم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحو ذلك، ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح، فإن أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها وإن أردت ما يشمل الأقسام الثلاثة لم تزد وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد عملا؛ لأنه أراد الشمول أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات، ثم سمى الكلام فقها أكبر.
................................................................................................
نقل الأصل في العرف إلى معان أخر، مثل الراجح والقاعدة الكلية والدليل فذهب بعضهم إلى أن المراد هاهنا الدليل وأشار المصنف إلى أن النقل خلاف الأصل ولا ضرورة في العدول إليه؛ لأن الابتناء كما يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدران وابتناء أعالي الجدران على أساسه وأغصان الشجر على دوحته كذلك يشمل الابتناء العقلي كابتناء الحكم على دليله فهاهنا يحمل على المعنى اللغوي وبالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء هاهنا عقلي فيكون أصول الفقه ما يبنى هو عليه ويستند إليه لا معنى بمستند العلم ومبتناه إلا دليله وبهذا يندفع ما يقال إن المعنى العرفي أعني الدليل مراد قطعا فأي حاجة إلى جعله بالمعنى اللغوي الشامل للمقصود وغيره. فإن قلت: ابتناء الشيء على الشيء إضافة بينهما، وهو أمر عقلي قطعا قلت: أراد بالابتناء الحسي كون الشيئين محسوسين وحينئذ يدخل فيه مثل ابتناء السقف على الجدار وابتناء المشتق على المشتق منه كالفعل على المصدر أو أراد ما هو المعتبر في العرف من أن ابتناء السقف على الجدار بمعنى كونه مبتنيا عليه وموضوعا فوقه مما يدرك بالحس وحينئذ يخرج مثل ابتناء الفعل على المصدر من الحسي ولا يدخل في العقلي بتفسيره والحق أن ترتب الحكم على دليله لا يصلح تفسيرا للابتناء العقلي، وإنما هو مثال له للقطع بأن ابتناء المجاز على الحقيقة والأحكام الجزئية على القواعد الكلية والمعلولات على عللها والأفعال على المصادر وما أشبه ذلك ابتناء عقلي.
(1/17)
 
 
تعريف العلم
...
وقيل: العلم بالأحكام الشرعية العلمية من أدلتها التفصيلة.
ـــــــ
"وقيل العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" فالعلم جنس، والباقي فصل فقوله بالأحكام يمكن أن يراد بالحكم هاهنا إسناد أمر إلى آخر ويمكن أن يراد
.....................................................................................................
قوله: "واعلم أن التعريف إما حقيقي" الماهية إما أن يكون لها تحقق وثبوت مع قطع النظر عن اعتبار العقل أو لا الأولى الماهية الحقيقية أي الثابتة في نفس الأمر ولا بد فيها من احتياج بعض الأجزاء إلى البعض إذا كانت مركبة والثانية الماهية الاعتبارية أي الكائنة بحسب اعتبار العقل كما إذا اعتبر الواضع عدة أمور فوضع بإزائها اسما من غير احتياج الأمور بعضها إلى بعض كالأصل الموضوع بإزاء الشيء ووصف ابتناء الغير عليه والفقه الموضوع بإزاء المسائل المخصوصة والجنس الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المختلفة الحقيقة والنوع الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو والتمثيل بالمركبة من عدة أمور لا ينافي كون بعض الماهيات الاعتبارية بسائط على أن الحق أنها إنما يقال لها الأمور الاعتبارية لا الماهيات الاعتبارية إذا تمهد هذا فنقول ما يتعقله الواضع ليضع بإزائه اسما إما أن يكون له ماهية حقيقة أو لا وعلى الأول إما أن يكون متعقله نفس حقيقة ذلك الشيء أو وجودها واعتبارات منه فتعريف الماهية الحقيقية لمسمى الاسم من حيث إنها ماهية حقيقة تعريف حقيقي يفيد تصور الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها أو بالعرضيات أو بالمركب منهما وتعريف مفهوم الاسم وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه تعريف اسمي يفيد تبيين ما وضع الاسم بإزائه بلفظ أشهر كقولنا الغضنفر الأسد أو بلفظ يشتمل على تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا كقولنا الأصل ما يبتنى عليه غيره فتعريف المعلومات لا يكون إلا اسميا، إذ لا حقائق لها، بل مفهومات وتعريف الموجودات قد يكون اسميا وقد يكون حقيقيا، إذ لها مفهومات وحقائق. فإن قلت: ظاهر عبارته مشعر بأن تعريف الماهيات الحقيقية حقيقي ألبتة كما أن تعريف الماهيات الاعتبارية اسمي ألبتة قلت: في العدول عن ظاهر العبارة سعة إلا أن التحقيق أن الماهية الحقيقية قد تؤخذ من حيث إنها حقيقة مسمى الاسم وماهيته الثابتة في نفس الأمر وتعريفها بهذا الاعتبار حقيقي ألبتة؛ لأنه جواب ل "ما" التي لطلب الحقيقة وهي متأخرة عن "هل" البسيطة الطالبة لوجود الشيء المتأخرة عن "ما" التي لطلب تفسير الاسم وبيان مفهومه وقد تؤخذ من حيث إنها مفهوم الاسم ومتعقل الواضع عند وضع الاسم وتعريفا بهذا الاعتبار اسمي ألبتة؛ لأنه جواب عن "ما" التي لطلب مفهوم الاسم ومتعقل الواضع فهذا التعريف قد يكون نفس حقيقة ذلك الشيء بأن يكون متعقل الواضع نفس الحقيقة وقد يكون غيرها ولهذا صرحوا بأنه قد يتحد التعريف الاسمي والحقيقي إلا أنه قبل العلم بوجود الشيء يكون اسميا وبعد العلم بوجوده ينقلب حقيقيا مثلا تعريف المثلث في مبادئ الهندسة بشكل يحيط به ثلاثة أضلاع تعريف اسمي وبعد الدلالة على وجوده يصير هو بعينه تعريفا حقيقيا.
قوله: "وشرط لكلا التعريفين" أي الحقيقي والاسمي الطرد والعكس أما الطرد فهو صدق المحدود على ما صدق عليه الحد مطردا كليا أي كلما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود، وهو معنى قولهم كلما وجد الحد وجد المحدود فبالاطراد يصير الحد مانعا عن دخول غير المحدود.
(1/18)
 
 
الحكم المصطلح، وهو خطاب الله تعالى المتعلق إلخ، فإن أريد الأول يخرج العلم بالذوات والصفات التي ليست بأحكام عن الحد أي يخرج التصورات ويبقي التصديقات وبالشرعية يخرج العلم بالأحكام العقلية والحسية كالعلم بأن العالم محدث والنار محرقة وإن أريد الثاني فقوله بالأحكام يكون احترازا عن علم ما سوى خطاب الله تعالى المتعلق إلى آخره فالحكم بهذا التفسير قسمان شرعي أي خطاب الله تعالى بما يتوقف على الشرع وغير شرعي أي خطاب الله تعالى بما لا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام ونحوهما مما لا يتوقف على الشرع لتوقف الشرع عليه.
ثم الشرعي، إما نظري، وإما عملي فقوله العملية يخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية كالعلم بأن الإجماع حجة وقوله من أدلتها أي العلم الحاصل للشخص الموصوف به من أدلتها المخصوصة بها وهي الأدلة الأربعة، وهذا القيد يخرج التقليد؛ لأن المقلد وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة وقوله التفصيلية يخرج الإجمالية كالمقتضي والنافي، وقد زاد ابن الحاجب على هذا قوله بالاستدلال، ولا شك أنه مكرر. ولما عرف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية وجب تعريف الحكم وتعريف الشرعية فقال:
................................................................................................
وأما العكس فأخذه بعضهم من عكس الطرد بحسب متفاهم العرف، وهو جعل المحمول موضوعا مع رعاية الكمية بعينها كما يقال كل إنسان ضاحك وبالعكس أي كل ضاحك إنسان وكل إنسان حيوان ولا عكس أي ليس كل حيوان إنسانا فلهذا قال في العكس إن كل ما صدق عليه المحدود صدق عليه الحد عكسا لقولنا كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود فصار حاصل الطرد حكما كليا بالمحدود على الحد والعكس حكما كليا بالحد على المحدود وبعضهم أخذه من أن عكس الإثبات نفي ففسره بأنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود أي كلما لم يصدق عليه الحد لم يصدق عليه المحدود فصار العكس حكما كليا بما ليس بمحدود على ما ليس بحد والحاصل واحد، وهو أن يكون الحد جامعا لأفراد المحدود كلها.
قوله: "ولا شك أن تعريف الأصل اسمي"؛ لأنه تبيين أن لفظ الأصل في اللغة موضوع للمركب الاعتباري الذي هو الشيء مع وصف ابتناء الغير عليه أو احتياج الغير إليه، وهذا لا دخل له في بيان فساد التعريف، إذ عدم الاطراد مفسد له اسميا كان أو غيره ففي الجملة تعريف الأصل بالمحتاج إليه غير مطرد، إذ لا يصدق أن كل محتاج إليه أصل؛ لأن ما يحتاج إليه الشيء إما داخل فيه أو خارج عنه والأول إما أن يكون وجود الشيء معه بالقوة، وهو المادة كالخشب للسرير أو بالفعل، وهو الصورة كالهيئة السريرية له. والثاني إن كان ما منه الشيء فهو الفاعل كالنجار للسرير، وإن كان ما لأجله الشيء فهو الغاية كالجلوس على السرير وإلا فهو الشرط كآلات النجار وقابلية الخشب ونحو ذلك فهذه أقسام خمسة للمحتاج إليه لا يطلق لفظ الأصل لغة إلا على واحد منها هو المادة كما يقال أصل هذا السرير خشب كذا والأربعة الباقية يصدق على كل واحد منها أنه محتاج إليه
(1/19)
 
 
ولا يصدق عليه أنه أصل فلا يكون التعريف مطردا مانعا وهاهنا بحث من وجوه أحدها منع اشتراط الطرد في مطلق التعريف لا سيما في الاسمي فإن كتب اللغة مشحونة بتفسير الألفاظ بما هو أعم من مفهوماتها وقد صرح المحققون بأن التعريفات الناقصة يجوز أن تكون أعم بحيث لا يفيد الامتياز إلا عن بعض ما عدا المحدود وأن الغرض من تفسير الشيء قد يكون تميزه عن شيء معين فيكتفى بما يفيد الامتياز عنه كما إذا قصد التمييز بين الأصل والفروع فيفسر الأول بالمحتاج إليه والثاني بالمحتاج وثانيها منع عدم صدق الأصل على الفاعل كيف والفعل مترتب عليه ومستند إليه ولا معنى للابتناء إلا ذلك. وثالثها أن كلامه في باب المجاز عند بيان جريان الأصالة والتبعية من الجانبين يدل على أن كل محتاج إليه فهو أصل. ورابعها أنا إذا قلنا الفكر ترتيب أمور معلومة فلا شك أن الأمور المعلومة مادة للفكر وأصل له مع أن ابتناء الفكر عليها ليس حسيا، وهو ظاهر ولا عقليا بتفسير المصنف، وهو ترتب الحكم على دليله.
قوله: "والفقه" نقل للمضاف تعريفين مقبولا ومزيفا وللمضاف إليه تعريفين صرح بتزييف أحدهما دون الآخر، ثم ذكر من عنده تعريفا ثالثا فالأول: معرفة النفس ما لها وما عليها يجوز أن يريد بالنفس العبد نفسه؛ لأن أكثر الأحكام متعلقة بأعمال البدن وأن يريد النفس الإنسانية، إذ بها الأفعال ومعها الخطاب، وإنما البدن آلة وفسر المعرفة بإدراك الجزئيات عن دليل والقيد الأخير مما لا دلالة عليه أصلا لا لغة ولا اصطلاحا وذهب في قوله ما لها وما عليها إلى ما يقال إن اللام للانتفاع وعلى للتضرر وقيدهما بالأخروي احترازا عما تنتفيه النفس أو تتضرر في الدنيا من اللذات والآلام والمشعر بهذا التقيد شهرة أن الفقه من العلوم الدينية فذكر على هذا التقدير ثلاثة معان، ثم ذكر معنيين آخرين فصارت المعاني المحتملة خمسة: ثلاثة منها تشمل جميع أقسام ما يأتي به المكلف واثنان لا تشملها كلها والأقسام اثنا عشر؛ لأن ما يأتي به المكلف إن تساوى فعله وتركه فمباح وإلا، فإن كان فعله أولى فمع المنع عن الترك واجب وبدونه مندوب، وإن كان تركه أولى فمع المنع عن الفعل بدليل قطعي حرام وبدليل ظني مكروه كراهة التحريم وبدون المنع عن الفعل مكروه كراهة التنزيه هذا على رأي محمد رحمه الله، وهو المناسب هاهنا؛ لأن المصنف جعل المكروه تنزيها مما يجوز فعله والمكروه تحريما مما لا يجوز فعله، بل يجب تركه كالحرام، وهذا لا يصح على رأيهما، وهو أن ما يكون تركه أولى من فعله فهو مع المنع عن الفعل حرام وبدونه مكروه كراهة التنزيه إن كان إلى الحل أقرب بمعنى أنه لا يعاقب فاعله لكن يثاب تاركه أدنى ثواب وكراهة التحريم إن كان إلى الحرام أقرب بمعنى أن فاعله مستحق محذورا دون العقوبة بالنار كحرمان الشفاعة، ثم المراد بالواجب ما يشمل الفرض أيضا؛ لأن استعماله بهذا المعنى شائع عندهم كقولهم الزكاة واجبة والحج واجب بخلاف إطلاق الحرام على المكروه تحريما. والمراد بالمندوب ما يشمل السنة والنقل فصارت الأقسام ستة ولكل منها طرفا فعل أي إيقاع على ما هو المعنى المصدري وترك أي عدم فعل فتصير اثني عشر والمراد بما يأتي به المكلف الفعل بمعنى الحاصل من المصدر كالهيئة التي تسمى صلاة والحالة التي تسمى صوما ونحو ذلك مما هو أثر صادر عن المكلف وطرف فعله إيقاعا وطرف تركه عدم إيقاعه والأمور المذكورة من الواجب والحرام وغيرهما، وإن كانت في الحقيقة من صفات فعل المكلف خاصة إلا أنها قد تطلق على عدم الفعل
(1/20)
 
 
أيضا فيقال عدم مباشرة الواجب حرام وعدم مباشرة الحرام واجب، وهو المراد هاهنا، وإنما فسر الترك بعدم الفعل ليصير قسما آخر، إذ لو أريد به كف النفس لكان ترك الحرام مثلا فعل الواجب بعينه، فإن قلت: أي حاجة إلى اعتبار الفعل والترك وجعل الأقسام اثني عشر وهلا اقتصر على الستة بأن يراد بالواجب مثلا أهم من الفعل والترك قلت؛ لأنه إذا قال الواجب يدخل فيما يثاب عليه لم يصح ذلك في الواجب بمعنى عدم فعل الحرام فلا بد من التفصيل المذكور، ثم لا يخفى أن المراد أن عدم الإتيان بالواجب يستحق العقاب إلا أنه قد لا يعاقب لعفو من الله تعالى أو سهو من العبد أو نحو ذلك وباقي كلامه واضح إلا أن فيه مباحث.
الأول: أنه جعل ترك الحرام مما لا يثاب عليه ولا يعاقب واعترض عليه بأنه واجب والواجب يثاب عليه، وفي التنزيل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] وجوابه أن المثاب عليه فعل الواجب لا عدم مباشرة الحرام وإلا لكان لكل أحد في كل لحظة مثوبات كثيرة بحسب كل حرام لا يصدر عنه ونهي النفس كفها عن الحرام، وهو من قبيل فعل الواجب ولا نزاع في أن ترك الحرام بمعنى كف النفس عنه عند تهيؤ الأسباب وميلان النفس إليه مما يثاب عليه. والثاني أن المراد بالجواز في الوجه الرابع عدم منع الفعل والترك على ما يناسب الإمكان الخاص ليقابل الوجوب، وفي الخامس عدم منع الفعل على ما يناسب الإمكان العام ليقابل الحرمة، فإن قلت: إن أريد بالجواز عدم منع الفعل والترك لم يصح قوله ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها؛ لأن ما سوى الحرام والمكروه تحريما يشمل الواجب مع أنه لا يجوز بهذا المعنى وكذا ترك ما سوى الواجب يشمل ترك الحرام والمكروه تحريما مع أنه لا يجوز قلت: هذا مخصوص بقرينة التصريح بدخوله فيما يجب عليها. والثالث أن ما يحرم عليها في الوجه الخامس بمعنى المنع عن الفعل يشمل الحرام والمكروه تحريما والرابع أن ليس المراد بمعرفة ما لها وما عليها تصورهما ولا التصديق بثبوتهما لظهور أن ليس الفقه عبارة عن تصور الصلاة وغيرها ولا عن التصديق بوجودها في نفس الأمر، بل المراد معرفة أحكامها من الوجوب وغيره كالتصديق بأن هذا واجب وذاك حرام وإليه أشار بقوله كوجوب الإيمان فأحكام الوجدانيات من الوجوب ونحوه تدرك بالدليل وثبوتها في نفس الأمر بالوجدان كما في العمليات بعرف وجوب الصلاة بالدليل ووجودها بالحس، ثم لا يخفى أن اعتراضه على التعريف الثاني بأنه لا يجوز أن يراد بالأحكام كلها ولا بعضها المعين ولا المبهم وارد هاهنا فيما لها وما عليها مع أن إطلاق اللفظ المحتمل للمعاني المتعددة مع عدم تعين المراد غير مستحسن في التعريفات.
قوله: "وقيل العلم" عرف أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى الفقه بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية", وبيان ذلك أن متعلق العلم إما حكم أو غيره والحكم إما مأخوذ من الشرع أو لا والمأخوذ من الشرع إما أن يتعلق بكيفية العمل أو لا والعمل إما أن يكون العلم به حاصلا من دليله التفصيلي الذي نيط به الحكم أو لا فالعلم المتعلق بجميع الأحكام الشرعية العملية الحاصل من أدلتها التفصيلية هو الفقه وخرج العلم بغير الأحكام من الذوات والصفات والعلم بالأحكام الغير المأخوذة من الشرع كالأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم
(1/21)
 
 
تعريف الحكم
...
والحكم :
قيل خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما وبعضهم قد
ـــــــ
"والحكم قيل خطاب الله تعالى" هذا التعريف منقول عن الأشعري فقوله خطاب الله تعالى يشمل جميع الخطابات. وقوله "المتعلق بأفعال المكلفين" يخرج ما ليس كذلك فبقي
................................................................................................
حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع وخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية وتسمى اعتقادية وأصلية ككون الإجماع حجة والإيمان واجبا وخرج أيضا علم الله تعالى وعلم جبريل والرسول عليهما الصلاة والسلام وكذا علم المقلد؛ لأنه لم يحصل من الأدلة التفصيلية.
قوله: "يمكن أن يراد بالحكم" الحكم يطلق في العرف على إسناد أمر إلى آخر أي نسبته إليه بالإيجاب أو السلب، وفي اصطلاح الأصول على خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وفي اصطلاح المنطق على إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة ويسمى تصديقا، وهو ليس بمراد هاهنا؛ لأنه علم والفقه ليس علما بالعلوم الشرعية والمحققون على أن الثاني أيضا ليس بمراد وإلا لكان ذكر الشرعية والعملية تكرارا، بل المراد النسبة التامة بين الأمرين التي العلم بها تصديق وبغيرها تصور وإلى هذا أشار بقوله يخرج التصورات ويبقى التصديقات فيكون الفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العمل تصديقا حاصلا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا وفوائد القيود ظاهرة على هذا التقدير والمصنف جوز أن يراد بالحكم هاهنا مصطلح الأصول فاحتاج إلى تكلف في تبيين فوائد القيود وتعسف في تقدير مراد القوم فذهب إلى أن المراد بالشرعي ما يتوقف على الشرع ولا يدرك لولا خطاب الشارع والأحكام منها ما هو خطاب بما يتوقف على الشرع كوجوب الصلاة والصوم ومنها ما هو خطاب بما لا يتوقف عليه كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام؛ لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور فالتقييد بالشرعية يخرج هذه الأحكام؛ لأنها ليست شرعية بمعنى التوقف على الشرع، وإنما قال الخطاب بما يتوقف أو لا يتوقف؛ لأن الحكم المفسر بالخطاب قديم عندهم فكيف يتوقف على الشرع ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي عليه السلام وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي عليه السلام على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق، وهو غير مفيد ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع.
قوله: "ثم الشرعي" أي المتوقف على الشرع إما نظري لا يتعلق بكيفية عمل وإما عملي
(1/22)
 
 
عرف الحكم الشرعي بهذا والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا كالخلق على المخلوق يرد عليه أن الحكم المصطلح بين ما ثبت بالخطاب لا هو
ـــــــ
في الحد نحو: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مع أنه ليس بحكم فقال "بالاقتضاء" أي الطلب وهو إما طلب الفعل جازما كالإيجاب أو غير جازم كالندب وأما
................................................................................................
يتعلق بها فالتقييد بالعملية لإخراج النظرية يكون الإجماع حجة، وهذا إنما يصح على التقدير الثاني لو كان الحكم المصطلح شاملا للنظري، وفيه كلام سيجيء.
قوله: "أي العلم الحاصل" قد يتوهم أن قوله من أدلتها متعلق بالأحكام وحينئذ لا يخرج علم المقلد؛ لأنه علم بالأحكام الحاصلة عن أدلتها التفصيلية، وإن لم يكن علم المقلد حاصلا عن الأدلة فدفع ذلك متعلق بالعلم لا بالأحكام إذ الحاصل من الدليل هو العلم بالشيء لا الشيء نفسه على أنه إذا أريد بالحكم الخطاب فهو قديم لا يحصل من شيء، ومعنى حصول العلم من الدليل أنه ينظر في الدليل فيعلم منه الحكم فعلم المقلد، وإن كان مستندا إلى قول المجتهد المستند إلى علمه المستند إلى دليل الحكم لكنه لم يحصل من النظر في الدليل وقيد الأدلة بالتفصيلية؛ لأن العلم بوجوب الشيء لوجود المقتضي أو بعدم وجوده لوجود النافي ليس من الفقه.
قوله: "ولا شك أنه مكرر" ذهب ابن الحاجب إلى أن حصول العلم بالأحكام عن الأدلة قد يكون بطريق الضرورة كعلم جبريل والرسول عليهما السلام وقد يكون بطريق الاستدلال أو الاستنباط كعلم المجتهد والأول لا يسمى فقها اصطلاحا فلا بد من زيادة قيد الاستدلال أو الاستنباط احترازا عنه والمصنف توهم أنه احتراز عن علم المقلد فجزم بأنه مكرر لخروجه بقوله من أدلتها التفصيلية، فإن قيل حصول العلم عن الدليل مشعر بالاستدلال، إذ لا معنى لذلك إلا أن يكون العلم مأخوذا عن الدليل فيخرج علم جبريل والرسول عليهما السلام أيضا قلنا لو سلم فذكر الاستدلال للتصريح بما علم التزاما أو لدفع الوهم أو للبيان دون الاحتراز ومثله شائع في التعريفات.
قوله: "ولما عرف الفقه" المذكور في كتب الشافعية أن خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعريف للحكم الشرعي المتعارف بين الأصوليين لا للحكم المأخوذ في تعريف الفقه والمصنف ذهب إلى أنه تعريف له وأن الشرعي قيد زائد على خطاب الله تعالى وأن كونه تعريفا للحكم الشرعي إنما هو رأي بعض الأشاعرة كل ذلك لعدم تصفحه كتبهم فنقول عرف بعض الأشاعرة الحكم الشرعي بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين والخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، ثم نقل إلى ما يقع به التخاطب، وهو هاهنا الكلام النفسي الأزلي ومن ذهب إلى أن الكلام لا يسمى في الأزل خطابا فسر الخطاب بالكلام الموجه للإفهام أو الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ لفهمه، ومعنى تعلقه بأفعال المكلفين تعلقه بفعل من أفعالهم وإلا لم يوجد حكم أصلا، إذ لا خطاب يتعلق بجميع الأفعال فدخل في الحد خواص النبي عليه السلام كإباحة ما فوق الأربع من النساء وخرج خطاب الله المتعلق بأحوال ذاته وصفاته
(1/23)
 
 
وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إلا أن يقال يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا لا أنه ثبت بالقياس وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال
ـــــــ
طلب الترك جازما كالتحريم أو غير جازم كالكراهة "أو التخيير" أي الإباحة "وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما" اعلم أن الخطاب نوعان، إما تكليفي، وهو المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وإما وضعي، وهو الخطاب بأن هذا سبب
................................................................................................
وتنزيهاته وغير ذلك مما ليس بفعل المكلف لا يقال إضافة الخطاب إلى الله تعالى تدل على أن لا حكم إلا خطابه تعالى وقد وجب طاعة النبي عليه السلام وأولي الأمر والسيد فخطابهم أيضا حكم؛ لأنا نقول إنما وجبت طاعتهم بإيجاب الله تعالى إياها فلا حكم إلا حكمه تعالى، ثم اعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع؛ لأنه يدخل فيه القصص المبينة لأحوال المكلفين وأفعالهم والأخبار المتعلقة بأعمالهم كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مع أنها ليست أحكاما فزيد على التعريف قيد يخصصه ويخرج ما دخل فيه من غير أفراد المحدود، وهو قولهم بالاقتضاء أو التخيير، فإن تعلق الخطاب بالأفعال في القصص والإخبار عن الأعمال ليس تعلق الاقتضاء أو التخيير، إذ معنى التخيير إباحة الفعل والترك للمكلف، ومعنى الاقتضاء طلب الفعل منه مع المنع عن الترك، وهو الإيجاب أو بدونه، وهو الندب أو طلب الترك مع المنع عن الفعل، وهو التحريم أو بدونه، وهو الكراهة وقد يجاب بأنه لا حاجة إلى زيادة قولهم بالاقتضاء أو التخيير؛ لأن قيد الحيثية مراد والمعنى خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث هو فعل المكلف وليس تعلق الخطاب بالأفعال في صور النقض من حيث إنها أفعال المكلفين، وهو ظاهر.
قوله: "وقد زاد البعض" اعترضت المعتزلة على هذا التعريف بثلاثة أوجه الأول أن الخطاب عندكم قديم والحكم حادث لكونه متصفا بالحصول بعد العدم كقولنا حلت المرأة بعد ما لم تكن حلالا ولكونه معللا بالحادث كقولنا حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق الثاني أنه يشتمل على كلمة أو، وهو للتشكيك والترديد فينا في التعريف والتحديد. الثالث أنه غير جامع للأحكام الوضعية مثل سببية الدلوك لوجوب الصلاة وشرطية الطهارة لها ومانعية النجاسة عنها والمصنف أهمل في تفسير الخطاب الوضعي ذكر المانعية فأجابت الأشاعرة عن الأول بمنع اتصاف الحكم بالحصول بعد العدم، بل المتصف بذلك هو التعلق والمعنى تعلق الحل بها بعد ما لم يكن متعلقا وبمنع تعليل الحكم بالحادث بمعنى تأثير الحادث فيه، بل معناه كون الحادث أمارة عليه ومعرفا له، إذ العلل الشرعية أمارات ومعرفات لا موجبات ومؤثرات والحادث يصلح أمارة ومعرفا للقديم كالعالم للصانع وعن الثاني بأن أو هاهنا لتقسيم المحدود وتفصيله؛ لأنه نوعان نوع له تعلق الاقتضاء ونوع له تعلق التخيير فلا يمكن جمعهما في حد واحد بدون التفصيل. وأما الثالث فالتزمه بعضهم وزاد في التعريف قيدا يعمه ويجعله شاملا للحكم الوضعي فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع أي وضع الشارع وجعله وأجاب بعضهم بأنا لا نسلم أن خطاب الوضع حكم ونحن لا نسميه حكما، وإن اصطلح غيرنا على تسميته حكما فلا مشاحة معه وعليه تغيير التعريف، ولو سلم
(1/24)
 
 
المكلفين إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح.
ـــــــ
ذلك أو شرطه كالدلوك سبب للصلاة والطهارة شرط فلما ذكر أحد النوعين، وهو التكليفي وجب ذكر النوع الآخر، وهو الوضعي والبعض لم يذكر الوضعي؛ لأنه داخل في الاقتضاء أو التخيير؛ لأن المعنى من كون الدلوك سببا للصلاة أنه إذا وجد الدلوك وجبت الصلاة حينئذ والوجوب من باب الاقتضاء لكن الحق هو الأول؛ لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر، والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعا "وبعضهم قد عرف الحكم الشرعي بهذا" أي بعض المتأخرين من متابعي الأشعري قالوا الحكم الشرعي خطاب الله تعالى "فالحكم على هذا إسناد أمر إلى آخر والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا" بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول "كالخلق على المخلوق" لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا، وهو حقيقة اصطلاحية "يرد عليه" أي على تعريف الحكم، وهو خطاب الله تعالى إلخ "إن الحكم المصطلح بين" الفقهاء "ما ثبت بالخطاب لا هو" أي لا الخطاب فلا يكون ما ذكر تعريفا للحكم المصطلح بين الفقهاء، وهو المقصود بالتعريف هنا
................................................................................................
فلا نسلم خروجها عن الحد فإن مرادنا من الاقتضاء والتخيير أعم من التصريح والضمني وخطاب الوضع من قبيل الضمني، إذ معنى سببية الدلوك وجوب الصلاة عنده، ومعنى شرطية الطهارة وجوبها في الصلاة أو حرمة الصلاة بدونها، ومعنى مانعية النجاسة حرمة الصلاة معها أو وجوب إزالتها حالة الصلاة وكذا في جميع الأسباب والشروط والموانع وذهب المصنف أن الحق زيادة القيد؛ لأن الخطاب نوعان تكليفي ووضعي فلما ذكر أحدهما وجب ذكر الآخر ولا وجه لجعل الوضع داخلا في الاقتضاء أو التخيير أي في التكليفي؛ لأنهما مفهومان متغايران ولزوم أحدهما للآخر في بعض الصور لا يدل على اتحادهما وأنت خبير بأنه لا توجيه لهذا الكلام أصلا أما أولا فلأن الخصم يمنع كون الخطاب الوضعي حكما ويصطلح على تسمية بعض أقسام الخطاب حكما دون البعض فكيف يجب عليه ذكر الوضعي في تعريف الحكم، بل كيف يصح. وأما ثانيا فلأنه يمنع كونه خارجا عن التعريف ويجعل الخطاب التكليفي أعم منه شاملا له فأي ضرر له في تغاير مفهوميهما، بل كيف يتحد مفهوم العام والخاص على أن قوله المفهوم من الخطاب الوضعي تعلق شيء بشيء فيه تسامح؟ والمعنى أن المفهوم منه الخطاب بتعلق شيء بشيء لكونه شرطا له أو سببا أو مانعا.
قوله: "وبعضهم عرف" ذكر في بعض المختصرات أن الحكم خطاب الله تعالى إشارة إلى الحكم الشرعي المعهود وصرح في كثير من الكتب بأن الحكم الشرعي خطاب الله تعالى فتوهم المصنف أن هذا تعريف للحكم عند البعض وللحكم الشرعي عند البعض ولا خلاف لأحد من الأشاعرة في أن هذا التعريف للحكم الشرعي قال المصنف إذا كان تعريفا للحكم فمعنى الشرعي
(1/25)
 
 
تعريف الشرعية
...
والشرعية :
ما لا تدرك لولا خطاب الشارع فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين ولا يزاد عليه التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل بل هو
ـــــــ
"وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي" كجواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة ونحو ذلك فإنه ليس بمتعلق بأفعال المكلفين مع أنه حكم، فإن قيل هو حكم باعتبار تعلقه بفعل وليه قلنا هذا في الإسلام والصلاة لا يصح. وأما في غير الإسلام والصلاة فإن تعلق الحق بماله أو بذمته حكم شرعي، ثم أداء الولي حكم آخر مترتب على الأول لا عينه وسيجيء في باب الحكم الأحكام المتعلقة بأفعاله، فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إذ لا خطاب هنا، "إلا أن يقال" اعلم أن المصادر قد تقع ظرفا، نحو "آتيك طلوع الفجر", أي وقت طلوعه فقوله: "إلا أن يقال هذا القبيل", فإنه استثناء
................................................................................................
ما يتوقف على الشرع ليكون قيدا مفيدا مخرجا لوجوب الإيمان ونحوه وإذا كان تعريفا للحكم الشرعي فمعنى الشرعي ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع وإلا لكان الحد أعم من المحدود لتناوله مثل وجوب الإيمان مع أن المحدود لا يتناوله حينئذ لعدم توقفه على الشرع.
قوله: "فالحكم على هذا" أي على تقدير أن يكون خطاب الله إلخ تعريفا للحكم الشرعي إسناد أمر إلى آخر لا خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف وإلا لكان ذكر الشرعية مكررا لما سبق من أن الشرع على هذا التقدير ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع، فإن قيل فيدخل في الأحكام الشرعية مثل وجوب الإيمان من أنه ليس من الفقه قلنا يخرج بقيد العملية.
قوله: "والفقهاء" يريد أن الحكم في اصطلاح الفقهاء حقيقة فيما ثبت بالخطاب من الوجوب والحرمة ونحوهما، وهو مجاز لغوي حيث أطلق المصدر أعني الحكم على المفعول أعني المحكوم به.
قوله: "يرد عليه" إشارة إلى اعتراضات على تعريف الحكم مع الجواب عن البعض الأول أن المقصود تعريف الحكم المصطلح بين الفقهاء، وهو ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة وغيرهما مما هو من صفات فعل المكلف لا نفس الخطاب الذي هو من صفات الله تعالى، وهذا مما أورد في كتب الشافعية وأجيب عنه بوجوه: الأول أنه كما أريد بالحكم ما حكم به أريد بالخطاب ما خوطب به للقرينة العقلية على أن الوجوب ليس نفس كلام الله الثاني أن الحكم هو الإيجاب والتحريم ونحوهما وإطلاقه على الوجوب والحرمة تسامح الثالث، وهو للعلامة المحقق عضد الملة والدين أن الحكم نفس خطاب الله تعالى فالإيجاب هو نفس قوله افعل وليس للفعل منه صفة حقيقية فإن القول ليس لمتعلقه منه صفة لتعلقه بالمعدوم، وهو إذا نسب إلى الحاكم يسمى إيجابا وإذا نسب إلى ما فيه الحكم وهو الفعل يسمى وجوبا وهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار فلذلك تراهم يجعلون أقسام الحكم الوجوب والحرمة مرة والإيجاب والتحريم
(1/26)
 
 
العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها.
ـــــــ
مفرغ من قوله ويخرج منه ما ثبت بالقياس أي جميع الأوقات إلا وقت قوله في جواب الإشكال "يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا إلا أنه ثبت بالقياس" فإن القياس مظهر للحكم لا مثبت فاندفع الإشكال "وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا" أي من الحد مع أنها حكم فالمراد بالإيمان هنا التصديق فوجوب التصديق حكم مع أنه ليس من الأفعال إذ المراد
................................................................................................
أخرى وتارة الوجوب والتحريم كما في أصول ابن الحاجب الثاني أنه غير منعكس لخروج الأحكام المتعلقة بأفعال الصبيان فالأولى أن يقال المتعلق بأفعال العباد وقد أجيب عن ذلك في كتبهم بأن الأحكام التي يتوهم تعلقها بفعل الصبي إنما هي متعلقة بفعل الولي مثلا يجب عليه أداء الحقوق من مال الصبي ورده المصنف أولا بأنه لا يصح في جواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة وثانيا بأن تعلق الحق بمال الصبي أو ذمته حكم شرعي وأداء الولي حكم آخر مترتب عليه، وهذا السؤال لا يتأتى على مذهب من عرف الحكم بهذا التعريف فإنهم مصرحون بأن لا حكم بالنسبة إلى الصبي إلا وجوب أداء الحق من ماله، وذلك على الولي، ثم لا يخفى أن تعلق الحكم بماله أو ذمته لا يدخل في تعريف الحكم، وإن أقيم العباد مقام المكلفين لانتفاء التعلق بالأفعال بأن الصحة والفساد ليسا من الأحكام الشرعية؛ لأن كون المأتي به موافقا لما ورد به الشرع أو مخالفا أمر يعرف بالعقل ككون الشخص مصليا أو تاركا للصلاة، ومعنى جواز البيع صحته، ومعنى كون صلاته مندوبة أن الولي مأمور بأن يحرضه على الصلاة ويأمره بها لقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع" 1 الثالث أن التعريف غير متناول للحكم الثابت بالقياس لعدم خطاب الله تعالى وأجاب بأن القياس مظهر للحكم لا مثبت ولا يخفى عليك أن السؤال وارد فيما ثبت بالسنة والإجماع أيضا والجواب أن كلا منهما كاشف عن خطاب الله ومعرف له، وهذا معنى كونها أدلة الأحكام الرابع أنه غير شامل للأحكام المتعلقة بأفعال القلب، مثل وجوب الإيمان أي التصديق ووجوب الاعتبار أي القياس؛ لأن الظاهر من الأفعال أفعال الجوارح. الخامس أنه لما أخذ في تعريف الحكم المتعلق بفعل المكلف اختص بالعمليات وخرجت النظريات بناء على اختصاص الفعل بالجوارح فيكون ذكر العملية في تعريف الفقه مكررا وأجاب عنهما بأن المراد بالفعل ما يعم القلب والجوارح وبالعمل ما يخص الجوارح فلا يخرج مثل وجوب الإيمان والاعتبار عن تعريف الحكم ولا يكون ذكر العملية مكررا لإفادته خروج ما لا يتعلق بفعل الجوارح عن تعريف الفقه ولقائل أن يقول إذا حمل الحكم في تعريف الفقه على المصطلح فذكر العملية مكرر قطعا؛ لأن مثل وجوب الإيمان خارج بقيد الشرعية على ما مر ومثل كون الإجماع حجة غير داخل في الحكم المصطلح لخروجه بقيد الاقتضاء أو التخيير لا يقال معنى كون السنة والإجماع والقياس حججا وجوب العمل بمقتضاها فيدخل في الاقتضاء الضمني؛ لأنا نقول فحينئذ لا يخرج بقيد العملية،
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 026أحمد في مسنده "2/180،187"
(1/27)
 
 
بالأفعال المذكورة أفعال الجوارح ووجوب الاعتبار أي القياس حكم مع أنه ليس من أفعال الجوارح. "ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال المكلفين"؛ لأنه قال في حد الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية والحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فيكون حد الفقه العلم بخطابات الله تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين الشرعية العملية فيقع التكرار "إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح" فاندفع بهذه العناية التكرار وخرج جواب الإشكال المتقدم، وهو قوله يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا؛ لأنهما من أفعال القلب. "والشرعية ما لا تدرك لولا خطاب الشارع" سواء كان الخطاب واردا في عين هذا الحكم أو واردا في صورة يحتاج إليها هذا الحكم كالمسائل القياسية فتكون أحكامها شرعية إذ لولا خطاب الشارع في المقيس عليه لا يدرك الحكم في المقيس "فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين" اعلم أن عندنا وعند جمهور المعتزلة حسن بعض الأفعال وقبحها يدركان عقلا وبعضها لا بل يتوقف على
................................................................................................
ويلزم أن يكون العلم به من الفقه ويمكن أن يقال إن التقييد بالعملية يقيد إخراج مثل جواز الإجماع ووجوب القياس، وهو حكم شرعي.
قوله: "والشرعية ما لا يدرك لولا خطاب الشارع" بنفس الحكم أو بأصله المقيس هو عليه فيخرج عنها وجوب الإيمان ويدخل مثل كون الإجماع أو القياس حجة على تقدير أن يكون حكما، وإنما لم يفسر الشرعية بما ورد به خطاب الشرع؛ لأن التقدير أن الحكم مفسر بخطاب الله تعالى إلى آخره وحينئذ يكون تقييده بالشرع تكرارا أو عند الأشاعرة ما ورد به خطاب الشرع في قوله ما لا يدرك لولا خطاب الشرع، إذ لا مجال للعقل في درك الأحكام فلو كان خطاب الله تعالى إلى آخره تعريفا للحكم على ما زعم المصنف لا للحكم الشرعي لكان ذكر الشرعي تكرارا ألبتة أي تفسير فسر.
قوله: "فيدخل" يريد أن تعريف الفقه على رأي الأشاعرة شامل للعلم عن دليل بحسن الجود والتواضع أي وجوبهما أو ندبهما وقبح البخل والتكبر أي حرمتهما أو كراهتهما وما أشبه ذلك؛ لأنها أحكام لا تدرك لولا خطاب الشرع على رأيهم مع أن العلم بها من علم الأخلاق لا من علم الفقه وأقول إنما يلزم ذلك لو كانت هذه الأحكام عملية بالمعنى المذكور، وهو ممنوع. كيف والأمور المذكورة أخلاق ملكات نفسانية جعل المصنف العلم بحسنها وقبحها من علم الأخلاق وقد صرح فيما سبق بأنه يزاد عملا على معرفة النفس ما لها وما عليها ليخرج علم الأخلاق وبأن معرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات أي الأخلاق الباطنية والملكات النفسانية علم الأخلاق، ومن العمليات علم الفقه فكأنه نسي ما ذكره ثمة أو ذهل عن قيد العملية هاهنا.
قوله: "ولا يراد عليه" المصطلح بين الشافعية أن العلم بالأحكام إنما يسمى فقها إذا كان حصوله بطريق النظر والاستدلال حتى أن العلم بوجوب الصلاة والصوم ونحو ذلك مما اشتهر كونه من الدين بالضرورة بحيث يعلمه المتدين وغيره لا يعد من الفقه اصطلاحا ولهذا يذكرون قيد
(1/28)
 
 
خطاب الشارع فالأول لا يكون من الفقه، بل هو علم الأخلاق والثاني هو الفقه وحد الفقه يكون صحيحا جامعا مانعا على هذا المذهب. وأما عند الأشعري وأتباعه فحسن كل فعل وقبحه شرعي فيكونان من الفقه مع أن حسن التواضع والجود ونحوهما وقبح أضدادهما لا يعدان من الفقه المصطلح عند أحد فيدخل في حد الفقه المصطلح ما ليس منه فلا يكون هذا تعريفا صحيحا للفقه المصطلح على مذهب الأشعري. "ولا يزاد عليه" أي على حد الفقه المصطلح "التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل" اعلم أن هذا القيد ذكر في المحصول ليخرج مثل الصلاة والصوم وأمثالهما إذ لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها وليس كذلك فأقول هذا القيد ضائع؛ لأنا لا نسلم أنه لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها؛ لأن المراد بالأحكام ليس بعضها وإن قل فإن الشخص العالم بمائة مسألة من أدلتها سواء يعلم كونها من الدين ضرورة أو لا يعلم كالمسائل الغريبة التي في كتاب الرهن ونحوه لا يسمى فقيها فالعلم بوجوب الصلاة والصوم من الفقه مع أن العالم بذلك وحده لا يسمى فقيها كالعلم بمائة مسألة غريبة فإنه من الفقه لكن العالم بها وحدها ليس بفقيه فلا معنى لإخراجهما منه بذلك العذر الفاسد.
ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام الكل؛ لأن الحوادث لا تكاد تتناهى، ولا ضابط يجمع أحكامها، ولا يراد كل واحد لوجود لا أدري، ولا بعض له نسبة معينة بالكل كالنصف أو
................................................................................................
الاكتساب والاستدلال فالإمام قيد في المحصول الأحكام بالتي لا يعلم كونها من الدين بالضرورة، وقال هو احتراز عن العلم بوجوب الصلاة والصوم فإنه لا يسمى فقها بمعنى أنه لا يدخل في مسمى الفقه ولا يعد منه على ما صرح به في قيد العملية لا بمعنى أنه لو لم يحترز عنه لزم أن يكون العالم بمجرد وجوبهما فقيها على ما فهمه المصنف فاعترض بمنع لزوم ذلك بناء على أن الفقيه من له الفقه والفقه ليس علما ببعض الأحكام، وإن قل حتى يكون العالم بمسألة أو مسألتين فقيها، بل العالم بمائة مسألة غريبة استدلالية وحدها لا يسمى فقيها، ثم إذا كان اصطلاحهم على أن العلم بضروريات الدين ليس من الفقه فلا بد من إخراجها عن تعريفهم الفقه فلا يكون القيد المخرج لها ضائعا ولا القول بكونها من الفقه صحيحا عندهم ولا الاصطلاح على ذلك صالحا للاعتراض عليهم.
قوله: "ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام" اعتراض على تعريف الفقه بأن المراد بالأحكام إما الكل أي المجموع، وإما كل واحد، وإما بعض له نسبة معينة إلى الكل كالنصف أو الأكثر كالثلثين مثلا، وإما البعض مطلقا، وإن قل والأقسام بأسرها باطلة، أما الأول فلأن الحوادث، وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاص