شرح مختصر الروضة 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : شرح مختصر الروضة
المؤلف : سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى : 716هـ)
عدد الأجزاء : 3
فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ، وَحُكْمُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
الثَّالِثُ: دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ إِشْعَارَ الْوَصْفِ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ، كَمَا تُذْكَرُ أَمْثِلَتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ. وَذَكَرَ النِّيلِيُّ أَنَّ وُقُوعَ الْقِيَاسِ فِي مُصَادَمَةِ النَّصِّ قَدْ يُسَمَّى فَسَادَ الْوَضْعِ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْعُرْفَ خَصَّ اعْتِبَارَ الْعِلَّةِ فِي ضِدِّ مُقْتَضَاهَا بِفَسَادِ الْوَضْعِ، وَاعْتِبَارَهَا فِي خِلَافِ مُقْتَضَاهَا بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ، وَسَيَأْتِي أَمْثِلَةُ الضِّدِّ وَالْخِلَافِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ اصْطِلَاحِيٌّ لَا يَضُرُّ، وَإِطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ لَا يُنَافِي اللُّغَةَ، بَلْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ فِيهَا.
مِثَالُ مَا عُلِّقَ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ ضِدَّ مَا تَقْتَضِيهِ: قَوْلُنَا فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ: لَفْظُ «يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ» كَلَفْظِ «الْإِجَارَةِ» . فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ «انْعِقَادَ غَيْرِ النِّكَاحِ» بِلَفْظِ الْهِبَةِ «يَقْتَضِي» وَيُنَاسِبُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي انْعِقَادِ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ - وَهُوَ الْهِبَةُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ حَظًّا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ فَلْيَنْعَقِدْ بِهِ، كَالْهِبَةِ، وَيَلْتَزِمُ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ، أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ إِنْ أَمْكَنَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: قَتْلُ الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ، فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا وَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ كَبِيرَةً يَقْتَضِي
(3/473)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ، لَا التَّخْفِيفَ عَنْهُ، وَفِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ تَغْلِيظٌ، وَفِي إِسْقَاطِهَا تَخْفِيفٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الشَّفْعَوِيِّ فِي تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ: مَسْحٌ، فَيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ، كَالْمَسْحِ فِي الِاسْتِجْمَارِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مَسْحًا مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَمُنَاسِبٌ لَهُ، وَالتَّكْرَارُ مُنَافٍ لَهُ.
وَمِثَالُ مَا عُلِّقَ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ بِضِدٍّ، قَوْلُنَا: فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْجِرَاحَاتِ جِنَايَةٌ عَلَى آدَمِيٍّ، فَيُضْرَبُ بَدَلَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ كَالنَّفْسِ، فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ، إِذْ جِنَايَةُ الشَّخْصِ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ضَمَانِهَا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، عَمَلًا بِمُوجَبِ النَّصِّ وَالْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي أَنَّ الْعَبْدَ تَتَقَدَّرُ قِيمَتُهُ، لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، فَتَقَدَّرَتْ قِيمَتُهُ كَالْحُرِّ، فَيُقَالُ: هَذَا عَلَى خِلَافِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
قُلْتُ: هَكَذَا ذَكَرَ النِّيلِيُّ فِي أَمْثِلَةِ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ ضِدَّ حُكْمِهَا وَخِلَافِهِ، وَلَعَلَّ فِيهِ نَظَرًا، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْقِيمَةِ وَعَدَمَهُ، وَاخْتِصَاصَ الْجِنَايَةِ بِالْجَانِي وَعَدَمَهُ، نَحْوٌ مِنَ اقْتِضَاءِ الْكَبِيرَةِ الْكَفَّارَةَ وَعَدَمِهَا، وَانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالْخِلَافَيْنِ، وَالْمِثْلَيْنِ، وَالنَّقِيضَيْنِ، وَبِعَرْضِ هَذَا عَلَى ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ.
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ الِاقْتِضَاءِ الْمَذْكُورِ، أَوْ بِأَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ
(3/474)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْجَحُ» . أَيْ: وَجَوَابُ فَسَادِ الْوَضْعِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا بِأَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ عِلَّتِهِ تَقْتَضِي نَقِيضَ مَا عُلِّقَ بِهَا، أَوْ بِأَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ، لَكِنْ يُبَيِّنَ أَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، هُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَعْنَى الْآخَرِ، فَيُقَدَّمُ لِرُجْحَانِهِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ انْعِقَادَ الْهِبَةِ بِلَفْظِهَا، أَوْ كَوْنِ لَفْظِ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ.
قَوْلُكُمْ: انْعِقَادُ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُودِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْهِبَةُ، أَمَّا غَيْرُهُ، فَلَا لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَأْثِيرَ اللَّفْظِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضُوعِهِ، لِإِشْعَارِهِ بِخَوَاصِّهِ، وَدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْوَضْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةُ لَهَا خَوَاصٌّ لَا يُشْعِرُ بِهَا لَفْظُ الْهِبَةِ، فَيَضْعُفُ عَنْ إِفَادَتِهَا، وَالتَّأْثِيرِ فِي انْعِقَادِهَا بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ تَجَوُّزٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّجَوُّزِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قُوَّةَ اللَّفْظِ وَسُلْطَانَهُ، وَظُهُورَ دَلَالَتِهِ، لَمَّا كَانَتْ فِي مَوْضُوعِهِ، كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهِ تَفْرِيقًا لِقُوَّتِهِ، وَكَالتَّغْرِيبِ لَهُ عَنْ مَوْطِنِهِ، فَيَضْعُفُ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْثِيرِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ انْعِقَادَ غَيْرِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَكِنِ اقْتِضَاؤُهُ لِعَدَمِ انْعِقَادِهِ أَقْوَى مِنَ اقْتِضَائِهِ لِانْعِقَادِهِ، لِأَنَّ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ; يَقْتَضِي أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ مَجَازٌ فِي النِّكَاحِ عَنِ الْهِبَةِ،
(3/475)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي نَفْيَهُمَا، وَتَخْصِيصُ كُلِّ عَقْدٍ بِلَفْظٍ هُوَ وَفْقُ الْأَصْلِ، وَمَا وَافَقَ الْأَصْلَ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا خَالَفَهُ.
وَعَلَى هَذَا النَّمَطِ يَكُونُ الْجَوَابُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمِثَالِ، فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الْعَمْدِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تَقْتَضِي التَّغْلِيظَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ بِأَنَّ لِلشَّرْعِ أَنْ يُقَابِلَ الْكَبِيرَةَ بِيَسِيرِ الْعُقُوبَةِ، وَالصَّغِيرَةَ بِعَظِيمِ الْعُقُوبَةِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَرْحَمَ الْعَاصِيَ، وَيُعَذِّبَ الطَّائِعَ، وَيُغْنِيَ الطَّالِحَ، وَيُفْقِرَ الصَّالِحَ. وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ الْأَفْعَالُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَفَاسِدَ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ. أَمَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي عُقُوبَاتٍ بِحَسَبِهَا صِغَرًا وَكِبَرًا فَلَا. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُتَّجِهًا كَمَا تَرَاهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمَأْلُوفَ مِنَ الشَّرْعِ يَرُدُّهُ، حَيْثُ جَعَلَ الْعُقُوبَاتِ تَابِعَةً لِصِغَرِ الْأَفْعَالِ وَكِبَرِهَا.
سَلَّمْنَا أَنَّ كَوْنَهَا كَبِيرَةً يَقْتَضِي التَّغْلِيظَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِسْقَاطَ الْكَفَّارَةِ تَخْفِيفٌ، بَلْ هُوَ تَغْلِيظٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْكَبِيرَةِ قَدْرًا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَتَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ يُخَفِّفُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَكَانَ تَأْخِيرُهُ بِكَمَالِهِ عَلَيْهِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ أَغْلَظَ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُؤْمِنَ تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا، لِيَلْقَى اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ، وَيُعَجَّلُ لَهُمْ مَعْرُوفُهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِيُلَاقُوا عَذَابَ الْآخِرَةِ كَامِلًا، لَمْ يُخَفَّفْ مِنْهُ شَيْءٌ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ.
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَحْثٌ قَدِ اسْتَقْصَيْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» لَمْ يَتَّسِعْ هَذَا الْمَكَانُ لِذَكَرِهِ، وَلَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ إِنَّمَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ
(3/476)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي الصِّنَاعَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ فِي الْمِثَالَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُوَ عَنْ قَوْلِ الْمُعْتَرِضِ: إِنَّ جِنَايَةَ الْآدَمِيِّ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ضَمَانِهَا بِهِ، وَإِنَّ وَصْفَ الْآدَمِيِّ لَا يُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرِ قِيمَتِهِ; فَبِنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجِنَايَةَ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الضَّمَانِ بِفَاعِلِهَا، إِذْ لِلشَّرْعِ أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَ زَيْدٍ أَمَارَةً عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعَمْرٍو، كَمَا جَازَ أَنْ يُجْعَلَ عَمَلُ زَيْدٍ فِي نِيَابَةِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَابِلَةِ لِلنِّيَابَةِ، وَإِهْدَاءِ ثَوَابِ الْقُرْبِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ الْمَالِيَّةِ، عَلَمًا وَأَمَارَةً عَلَى نَفْعِ عَمْرٍو، وَبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ.
قُلْتُ: لَكِنَّ هَذَا خِلَافُ مَنْصُوصِ الشَّرْعِ وَمَأْلُوفِهِ، سَلَّمْنَا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، لَكِنَّ عِنْدَنَا مُنَاسِبٌ رَاجِحٌ، وَهُوَ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ عَنْ صَاحِبِهِمْ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَرِفْقًا بِهِ، لِانْقِهَارِهِ بِكَثْرَةِ الْغَرَامَاتِ، لِكَثْرَةِ الْجِنَايَاتِ خَطَأً، وَصَارَ ذَلِكَ عَدْلًا عَامًّا مِنَ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ تَارَةً يَكُونُ حَامِلًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَحْمُولًا عَنْهُ، وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ أَعَمُّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَصْفَ الْآدَمِيِّ لَا يُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرِ قِيمَتِهِ، بَلْ هُوَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ وَصْفٌ شَرِيفٌ، وَشَرَفُهُ يَقْتَضِي صِيَانَتَهُ عَنِ الْإِهْدَارِ، وَالصِّيَانَةُ تَقْتَضِي تَقْدِيرَ بَدَلِ نَفْسِهِ، لِئَلَّا يَدْخُلَهُ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَإِذَا كَانَتِ الْأَغْرَاضُ مِنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ تُضْبَطُ أَبْدَالُهَا بِأَمْثَالِهَا وَقِيمَتِهَا، لِيَرْجِعَ إِلَيْهَا عِنْدَ حَاجَةِ التَّضْمِينِ، احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ دُخُولِ الْغَرَرِ فِيهَا، فَالْإِنْسَانُ الَّذِي
(3/477)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُوَ أَشْرَفُ مِنْهَا أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ لَهُ.
سَلَّمْنَا عَدَمَ إِشْعَارِ الْوَصْفِ بِتَقْدِيرِ الْقِيمَةِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالتَّقْدِيرِ، بَلْ لَنَا ذَلِكَ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْأُصُولِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِذَلِكَ كَالْحُرِّ، وَقَدْ قَدَّرَ الشَّرْعُ بَدَلَهُ، فَيَلْحَقُ الْعَبْدُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُفَوِّضُ بُضْعَهَا، فَيُعْقَدُ عَلَيْهَا بِلَا مَهْرٍ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْهُ مُقَدَّرًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، خُصُوصًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا الْمَهْرَ حَقًّا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ثَابِتًا لِشَرَفِ الْمَحَلِّ، لِئَلَّا يُسْتَبَاحَ بِلَا عِوَضٍ، وَمَصْرِفُهُ الْمَرْأَةُ، كَالزَّكَاةِ حُقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَصْرِفُهُ الْفُقَرَاءُ، وَإِذَا شَهِدَتِ الْأُصُولُ لِلْحُكْمِ بِالِاعْتِبَارِ; لَمْ يَضُرَّ فَقْدُ الْمُنَاسَبَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ وَضْعِيَّةٌ لَا تَلْزَمُهَا الْمُنَاسَبَةُ، بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ ذَكَرَ الْخَصْمُ شَاهِدًا لِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرَهُ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ» . يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا عَلَّلَ بِوَصْفٍ، فَادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى، وَذَكَرَ لَهُ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ فِي اقْتِضَاءِ النَّقِيضِ; كَانَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً مِنْهُ لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَانْتِقَالًا مِنْ سُؤَالِ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى إِيرَادِ الْمُعَارَضَةِ، وَهُوَ انْقِطَاعٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ انْقِطَاعًا، فَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ، لِكَوْنِهِ نَشْرًا لِلْكَلَامِ، وَانْتِقَالًا مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: لَفْظُ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ، إِذِ انْعِقَادُ غَيْرِ
(3/478)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النِّكَاحِ بِهِ يَقْتَضِي انْعِقَادَهُ بِهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ حَيْثُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ الْبَيْعِ، وَهُوَ السَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ، فَإِنَّ هَذَا صَارَ خُرُوجًا عَنْ خُصُوصِيَّةِ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى طَرِيقِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمُسْتَدِلِّ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، لَكِنْ عِنْدِي مَا يُعَارِضُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ، قَدِ انْعَقَدَ بِهِ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا.
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ، إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مَسْحٌ، فَيُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَمَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: وَصْفُكَ يَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِكَ، إِذِ الْمَسْحُ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّكْرَارِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّثْقِيلِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مَسْحُ الْخُفِّ، يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ، لَمَّا كَانَ مَسْحُ الْخُفِّ مُشْعِرًا بِالتَّخْفِيفِ، فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ: أَنْتَ مُنْقَطِعٌ بِانْتِقَالِكَ عَنْ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ إِلَى الْمُعَارَضَةِ، فَإِنْ سَامَحَهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ بِمَا يُجِيبُ بِهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ.
فَيَقُولُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّلَمَ وَالْإِجَارَةَ يَنْعَقِدَانِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، حَتَّى يَجُوزَ مِثْلُهُ فِي لَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ النِّكَاحِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّلَمَ وَالْإِجَارَةَ مُغَايِرَانِ لِلْبَيْعِ، بَلْ هُمَا نَوْعَانِ لَهُ، إِذِ الْبَيْعُ يَنْقَسِمُ إِلَى بَيْعِ مَنْفَعَةٍ وَهِيَ الْإِجَارَةُ، وَإِلَى بَيْعِ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ، أَوْ مَوْصُوفَةٍ، وَهُوَ غَالِبُ أَنْوَاعِهِ، أَوْ مَعْدُومَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ السَّلَمُ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْهِبَةِ، مُخْتَصٌّ
(3/479)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهَا بِخَوَاصٍّ لَا يُشْعِرُ بِهَا لَفْظُهَا كَمَا سَبَقَ.
وَفِي الْمِثَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ يُكَرَهُ تَكْرَارُهُ كَمَا فِي مُبْدَلِهِ، وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلِ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ إِنَّمَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ، لِكَوْنِهِ مَسْحًا عَلَى الْخُفِّ، لَا لِكَوْنِهِ مَسْحًا مُطْلَقًا، لِأَنَّ تَكْرَارَهُ يَضُرُّ بِالْخُفِّ، وَيُتْلِفُ مَالِيَّتَهُ، وَفِي ذَلِكَ إِضَاعَةُ مَالٍ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَيْضًا لَيْسَ هُوَ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِنَظَائِرِهِ، مِمَّا هُوَ أَصْلٌ فِيهَا بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ لَا مَالِيَّةَ فِيهِ تُتْلَفُ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَقَرُبَ إِلْحَاقُهُ بِنَظَائِرِهِ فِي التَّكْرَارِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
فَحَاصِلُ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي الْجَوَابِ: إِمَّا مَنْعُ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ، أَوِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُكْمِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ، عَلَى أَنَّ فِي قِيَاسِ تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى تَكْرَارِ مَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ نَظَرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قِيَاسُ أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ عَلَى أَمْرٍ مَعْقُولٍ، وَشَرْطُ الْقِيَاسِ وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّطْهِيرِ مَوْجُودًا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، كَوُجُودِهِ فِي مَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّأْسَ يَجِبُ مَسْحُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِطَهَارَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إِلَّا مُسَمَّى الطَّهَارَةِ، وَهُوَ شَبَهٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا نَحْنُ ذَكَرْنَا مِثَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَعْفِ الْقِيَاسِ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/480)
 
 
الرَّابِعُ: الْمَنْعُ، وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ؛ وَمَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ فَيُثْبِتُهُ حِسًّا أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا بِدَلِيلِهِ، أَوْ وُجُودِ أَثَرٍ، أَوْ لَازِمٍ لَهُ، وَمَنْعُ عِلِّيَّتِهِ، وَمَنْعُ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ، فَيُثْبِتُهُمَا بِطُرُقِهِمَا كَمَا سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الرَّابِعُ: الْمَنْعُ» .
قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ» لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ جِنْسِ الْمَنْعِ فِي مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ. وَشَرَعَ فِي ذِكْرِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ:
أَوَّلُهَا: «مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ» .
الثَّانِي: «مَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً» أَيْ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الَّذِي ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ.
الثَّالِثُ: مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ.
الرَّابِعُ: مَنْعُ وَجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْمَنْعُ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَمَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ، وَمَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، وَمَنْعُ وَجُودِهِ فِي الْفَرْعِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا قُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، إِمَّا جَهْلًا بِالْحُكْمِ، أَوْ عِنَادًا، فَهَذَا مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ؛ لَكَانَ هَذَا مَنْعَ
(3/481)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، لَكَانَ هَذَا مَنْعَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ؛ لَكَانَ هَذَا مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، فَفِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ مُنُوعٍ، وَفِي الْفَرْعِ مَنْعٌ وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصَحِّ» أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: يَنْقَطِعُ، لِأَنَّا لَوْ مَكَّنَّاهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ، لَانْتَشَرَ الْكَلَامُ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ حَنْبَلِيٌّ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ: إِنَّهُ نَجِسٌ، فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، كَجِلْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ حُكْمَ الْأَصْلِ؛ وَهُوَ أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ بَلْ يَطْهُرُ عِنْدِي، فَشَرَعَ الْمُسْتَدِلُّ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ: أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، كَجِلْدِ الْخِنْزِيرِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يَتَسَلْسَلُ الْمَنْعُ، مِثْلُ أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحُكْمَ فِي جِلْدِ الْخِنْزِيرِ، أَوِ الْوَصْفَ فِي جِلْدِ الْكَلْبِ، فَيَخْرُجُ قَانُونُ النَّظَرِ عَنْ وَضْعِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْمَنْعُ جَلِيًّا فِي مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، مَشْهُورًا، يَعْلَمُهُ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ، انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْآحَادُ وَالْخَوَاصُّ،
(3/482)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَمْ يَنْقَطِعْ.
وَالْفَرْقُ: أَنَّ خَفَاءَ الْمَنْعِ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، فَيُمَكَّنُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْكَمُ بِانْقِطَاعِهِ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَالْمُفَرِّطِ إِذَا قَاسَ عَلَى أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، حَيْثُ عَرَّضَ الْكَلَامَ لِلتَّسَلْسُلِ وَالِانْتِشَارِ.
وَقَدْ مَثَّلَ الْمَنْعَ الْجَلِيَّ بِقَوْلِهِ: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، قِيَاسًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَهُوَ جَلِيٌّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ.
وَكَقَوْلِنَا: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ نَقْصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْحَاضِرِ، كَمَا يُقْضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ نَقْصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ مَنْعًا جَلِيًّا مَشْهُورًا.
وَمُثِّلَ الْمَنْعُ الْخَفِيُّ بِقَوْلِنَا فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ: صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ كَالْقَضَاءِ، وَقَوْلِنَا فِي الْوُضُوءِ: عِبَادَةٌ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الْمَنْعَ فِي ذَلِكَ خَفِيٌّ، إِذْ مَنْعُ احْتِيَاجِ الْقَضَاءِ إِلَى النِّيَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ زُفَرَ، وَأَمَّا افْتِقَارُ التَّيَمُّمِ إِلَى النِّيَّةِ، فَلَا أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ فِيهِ خِلَافًا.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ خَفَاءَ الْمَنْعِ وَظُهُورَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَدِلِّ فِي عِلْمِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَقْوَالِ النَّاسِ، وَظُهُورِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِأَمَارَاتِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِكَ، فَهُوَ جَلِيٌّ فِي حَقِّكَ، لَكِنْ عَلَى هَذَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا ادَّعَى خَفَاءَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَقَدِ ادَّعَى مُمْكِنًا، وَالْأَصْلُ عَلَى وَفْقِهِ، وَهُوَ عَدَمُ عِلْمِهِ، فَلَوْ حُكِمَ بِانْقِطَاعِهِ بِذَلِكَ لَأَفْضَى إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَالْأَشْبَهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُرْجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ. إِنْ قَالَ: عَلِمْتُ الْمَنْعَ، انْقَطَعَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَلْزَمُهُ
(3/483)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
أَمَّا ضَبْطُ خَفَاءِ الْمَنْعِ وَظُهُورِهِ بِمَا يَعْلَمُهُ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَكِنَّهُ مُتَفَاوِتٌ جِدًّا، إِذْ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِ خَصْمِهِمْ، كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ يَبْلُغُ الْفَقِيهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَيَخْفَى عَنْهُ غَالِبُ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فِي هَذَا الْقَوْلِ التَّفْصِيلِيِّ نَظَرٌ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى عُرْفِ أَهْلِ بَلَدِ الْمُنَاظَرَةِ، إِنْ كَانُوا يَعُدُّونَ مَنْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ انْقِطَاعًا، انْقَطَعَ؛ وَإِلَّا فَلَا، إِذْ لِلْجَدَلِ مَرَاسِمُ وَحُدُودٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي الْوُقُوفُ مَعَهَا.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَدِلِّ مَدْرَكٌ، يَعْنِي طَرِيقًا إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ غَيْرَ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا بِالْمَنْعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْرَكٌ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ خَفِيًّا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِلَّا انْقَطَعَ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ ذَكَرَهُ فِي «الْجَدَلِ» .
وَاخْتَارَ فِي «الْمُنْتَهَى» : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ، وَالَّذِي صُحِّحَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَوَجْهُهُ: أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ لَهُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَرْكَانِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ: أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، فَضَمِنَ، قِيَاسًا عَلَى الْغَاصِبِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَغْصُوبِ، بَلْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ، إِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَعُودَ الْعَبْدُ، أَوْ تُوجَدَ الضَّالَّةُ،
(3/484)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ، وَيَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْعَيْنَ، بِحَيْثُ إِذَا عَادَتْ كَانَتْ لَهُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ: أَنَّ الْغَصْبَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَكُونُ حَرَامًا، فَيَجِبُ تَرْكُهُ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَالِكِهِ، وَمَا وَجَبَ رَدُّهُ مَعَ بَقَائِهِ، وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ عِنْدَ فَوَاتِهِ، لِأَنَّهَا بَدَلُهُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَعَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ لَكِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَجَابَ عَنْ تَمَلُّكِ الْغَاصِبِ الْعَيْنَ بِالْقِيمَةِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَهُوَ نَصٌّ، فَلَا يُسْمَعُ الِاجْتِهَادُ مَعَهُ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: يَجِبُ غَسْلُ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ سَبْعًا، قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي الْكَلْبِ، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ عِنْدِي ثَلَاثًا، أَوْ يُكَاثِرُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّلِيلُ عَلَى غَسْلِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ سَبْعًا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ. . . الْحَدِيثَ.
(3/485)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ» ، أَيْ: إِذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ حُكْمَ الْأَصْلِ لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ، وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ» . هَذَا هُوَ الْمَنْعُ الثَّانِي، وَقَدْ سَبَقَ مِثَالُهُ.
قَوْلُهُ: «فَيُثْبِتُهُ» أَيْ: إِذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ وُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، فَيُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ «حِسًّا، أَوْ عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا» أَيْ: يُثْبِتُهُ بِالْحِسِّ، كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ مَحْسُوسَةٌ، أَوْ بِالْعَقْلِ؛ كَالْعُدْوَانِيَّةِ، أَيْ: كَوْنِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا. وَالشِّدَّةُ مُطْرِبَةٌ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ عُدْوَانٌ، وَأَنَّ هَذَا الشَّرَابَ مُسْكِرٌ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقَتْلِ عُدْوَانًا وَالشَّرَابِ مُسْكِرًا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ بِدَوَرَانِ زَوَالِ الْعَقْلِ مَعَ شُرْبِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، أَوْ بِالشَّرْعِ، كَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فِي قَوْلِنَا: طَاهِرٌ، فَجَازَ بَيْعُهُ، أَوْ نَجِسٌ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: «بِدَلِيلِهِ، أَوْ وُجُودِ أَثَرٍ، أَوْ لَازِمٍ لَهُ» ، أَيْ: يُثْبِتُ الْوَصْفَ إِذَا مَنَعَهُ بِدَلِيلِهِ مِنْ حِسٍّ، أَوْ عَقْلٍ، أَوْ شَرْعٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِهِ بِوُجُودِ لَازِمٍ لَهُ، أَوْ أَثَرٍ مِنْ آثَارِهِ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: بِوُجُودِ أَثَرٍ أَوْ أَمْرٍ مُلَازِمٍ لَهُ، أَوْ بِوُجُودِ مَلْزُومِهِ، لِأَنَّ
(3/486)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَلْزُومِ، بِخِلَافِ الْأَثَرِ، فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْمُؤَثِّرِ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى لَازِمِهِ، وَالْأَمْرُ الْمُلَازِمُ لِلشَّيْءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمُلَازَمَةِ وُجُودِ النَّهَارِ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ لِوُجُودِ النَّهَارِ.
وَهَكَذَا عِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ أَثَرٍ، أَوْ أَمْرٍ يُلَازِمُهُ، وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ كَدَلَالَةِ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ عَلَى كَوْنِهِ عَمْدًا، لِأَنَّ الْعَمْدَ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْرِيمِ، وَدَلَالَةِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِهِ، وَدَلَالَةِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ لَازِمٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ، وَكَلُحُوقِ النَّسَبِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ، لِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ آثَارِ الْوَطْءِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَكَدَلَالَةِ فَسَادِ الْعَقْلِ عَلَى إِسْكَارِ الشَّرَابِ، وَجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِصْحَابِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ عِلِّيَتِهِ، وَمَنْعُ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ» . هَذَانِ الْمَنْعَانِ الْآخَرَانِ، أَيْ: وَمِنَ الْمُنُوعِ مَنْعُ عِلَّةِ الْوَصْفِ، أَيْ: مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، وَمَنْعُ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ مِثَالُهُ، فَيُثْبِتُهُمَا الْمُسْتَدِلُّ بِطَرِيقِهِمَا «كَمَا سَبَقَ» إِشَارَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ إِثْبَاتِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَهِيَ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَالسَّبْرُ، وَالدَّوَرَانُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ دَلِيلِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مِنْ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَنَحْوِهِ.
(3/487)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَحُرِّمَ كَالْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةٌ، وَلَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ. لَكَانَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ، لِإِفْضَائِهِ إِلَى مَصْلَحَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عَنِ الْفَسَادِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ إِمَّا لِلَوْنِهِ، أَوْ مَيَعَانِهِ، أَوْ إِزْبَادِهِ، أَوْ كَوْنِهِ مِنَ الْعِنَبِ، أَوْ لِإِسْكَارِهِ، وَالْأَوْصَافُ كُلُّهَا طَرْدِيَّةٌ إِلَّا الْإِسْكَارَ، فَكَانَ هُوَ الْعِلَّةَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ، بِدَلِيلِ الْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، فَإِنَّ الشَّارِبَ لَهُ يَجِدُ النَّشَاطَ، وَغُرُوبَ الْعَقْلِ، وَدَبِيبَ الْأَعْضَاءِ، وَكَذَلِكَ يَرَى زَوَالَ الْعَقْلِ يَدُورُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَذَلِكَ دَلِيلُ كَوْنِهِ مُسْكِرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/488)
 
 
الْخَامِسُ: التَّقْسِيمُ: وَمَحَلُّهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّهُ مَنْعٌ، وَهُوَ تَسْلِيمٌ، وَهُوَ مَقْبُولٌ بَعْدَ الْمَنْعِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَهُوَ حَصْرُ الْمُعْتَرِضِ مَدَارِكَ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً وَإِلْغَاءُ جَمِيعِهَا، وَشَرْطُهُ صِحَّةُ انْقِسَامِ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى مَمْنُوعٍ وَمُسَلَّمٍ، وَإِلَّا كَانَ مُكَابَرَةً، وَحَصْرُهُ لِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ، وَإِلَّا جَازَ أَنْ يَنْهَضَ الْخَارِجُ عَنْهَا بِغَرَضِ الْمُسْتَدِلِّ وَمُطَابَقَتِهِ لِمَا ذَكَرَهُ، فَلَوْ زَادَ عَلَيْهِ؛ لَكَانَ مُنَاظِرًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُسْتَدِلِّ.
وَطَرِيقُ صِيَانَةِ التَّقْسِيمِ أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ: إِنْ عَنَيْتَ بِمَا ذَكَرْتَ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مُسَلَّمٌ، وَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ، وَإِنْ عَنَيْتَ غَيْرَهُ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الْخَامِسُ: التَّقْسِيمُ» ، وَقَدْ ذُكِرَ مَعْنَاهُ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: «وَمَحَلُّهُ» ، أَيْ: وَمَحَلُّ سُؤَالِ التَّقْسِيمِ، وَمَوْضِعُهُ مِنَ الْأَسْئِلَةِ «قَبْلَ» سُؤَالِ «الْمُطَالَبَةِ» ، وَهُوَ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً كَمَا سَبَقَ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَحَلُّهُ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ؛ «لِأَنَّهُ» - يَعْنِي سُؤَالَ التَّقْسِيمِ - «مَنْعٌ» لِوُجُودِ الْعِلَّةِ كَمَا ذُكِرَ بَعْدُ «وَهُوَ» - يَعْنِي الْمُطَالَبَةَ - «تَسْلِيمٌ» ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرْتَهُ، هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ الَّذِي ادَّعَيْتَهُ؟ يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ. وَإِذَا كَانَ التَّقْسِيمُ مَنْعًا لِلْعِلَّةِ، وَالْمُطَالَبَةُ تَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَهَا، فَالتَّسْلِيمُ «مَقْبُولٌ بَعْدَ الْمَنْعِ، بِخِلَافِ
(3/489)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَكْسِ» وَهُوَ الْمَنْعُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: الْأُرْزُ مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِيهِ: إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْقُوتُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ يَصْلُحُ عِلَّةً، وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْتُ أَنَّ الْبُرَّ مُشْتَمِلٌ عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا، لَكِنْ لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْكَيْلَ هُوَ الْعِلَّةُ؟ لَصَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ بَعْدَ مَنْعٍ، وَرُجُوعٌ عَنِ النِّزَاعِ فِي وُجُودِ الْوَصْفِ.
وَلَوْ قَالَ أَوَّلًا: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ؟ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: الْعِلَّةُ إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْقُوتُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ عِلَّةٌ؛ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ سُؤَالَهُ عَنْ دَلِيلِ عِلِّيَّةِ الْكَيْلِ تَسْلِيمٌ لِوُجُودِهِ، وَلِصَلَاحِيَتِهِ لِلْعِلَّةِ، وَإِنْكَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَلَاحِيَتَهُ لِلتَّعْلِيلِ إِنْكَارٌ لِمَا سَلَّمَهُ.
قُلْتُ: وَفِي تَحَقُّقِ هَذَا نَظَرٌ، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ التَّقْسِيمِ وَالْمُطَالَبَةِ، حَتَّى يَكُونَ إِيرَادُ التَّقْسِيمِ بَعْدَهَا إِنْكَارًا بَعْدَ اعْتِرَافٍ، إِذْ حَاصِلُ التَّقْسِيمِ هُوَ إِنْكَارُ وُجُودِ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتَهُ عِلَّةٌ؟
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: الْأُرْزُ مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ الرِّبَا كَالْبُرِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ؛ كَانَ هَذَا إِنْكَارًا
(3/490)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِعِلِّيَّةِ الْكَيْلِ. ثُمَّ لَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الْقُوتُ، أَوِ الطَّعْمُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ صَالِحٌ لِلْعِلَّةِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا صَحِيحًا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهُ، إِذْ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ عِلِّيَّةِ الْكَيْلِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَتَّجِهُ التَّنَافِي بَيْنَ التَّقْسِيمِ وَالْمُطَالَبَةِ، لَوْ كَانَ مَعْنَى التَّقْسِيمِ إِنْكَارَ نَفْسِ الْوَصْفِ، وَالْمُطَالَبَةُ طَلَبَ الدَّلِيلِ عَلَى عِلِّيَّتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةُ الرِّبَا؟ ثُمَّ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْبُرَّ مَكِيلٌ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ وُجُودَ الْكَيْلِ بَعْدَ طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى عِلِّيَّتِهِ إِنْكَارٌ لَهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهِ. أَمَّا إِنْكَارُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ بَعْدَ طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا إِنْكَارٌ لَهَا، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْإِنْكَارِ الْحَاصِلِ مِنَ التَّقْسِيمِ.
نَعَمْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ ذِكْرَ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ التَّقْسِيمِ تَكْرَارٌ لِأَنَّ حَاصِلَهَا مَنْعُ الْعِلِّيَّةِ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنَ التَّقْسِيمِ كَمَا عُرِفَ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي كَوْنِ التَّقْسِيمِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إِنْكَارًا بَعْدَ اعْتِرَافٍ - كَمَا ذَكَرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَأَصَّلَهُ - نَظَرًا قَدْ أَوْضَحْتُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» - يَعْنِي التَّقْسِيمَ - «حَصْرُ الْمُعْتَرِضِ مَدَارِكَ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً، وَإِلْغَاءُ جَمِيعِهَا» .
الْمَدَارِكُ: جَمْعُ مَدْرَكٍ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِدْرَاكِ الشَّيْءِ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا: أَنَّ التَّقْسِيمَ هُوَ أَنْ يَحْصِرَ الْمُعْتَرِضُ
(3/491)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطُّرُقَ الَّتِي يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْوَصْفِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً، ثُمَّ يُلْغِي جَمِيعَ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ لَهُ ذَلِكَ، بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِلَّا فَلَهُ تَصْحِيحُ مَا ادَّعَاهُ؛ بِالْقَدْحِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، وَكَأَنَّ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ انْحِرَافًا عَنِ الْمَقْصُودِ عَنْ عِبَارَةِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْصِرَ الْمُعْتَرِضُ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ إِلْغَاءَهَا وَعَدَمَ صَلَاحِيَّتِهَا لِلتَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْقُوتُ، وَلَا وَاحِدَ مِنْهَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا عِلَّةَ لَهُ، فَيَنْقَطِعُ الْإِلْحَاقُ كَمَا سَبَقَ، أَوْ أَنَّ الْعِلَّةَ وَصْفٌ غَيْرُ ذَلِكَ، فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُسْتَدِلُّ إِبْدَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا سَلَّمْنَاهُ، وَإِلَّا أَلْغَيْنَاهُ كَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: التَّقْسِيمُ تَرْدِيدُ اللَّفْظِ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ، وَاخْتِصَاصُ كُلِّ احْتِمَالٍ بِاعْتِرَاضٍ مُخَالِفٍ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ فِي أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ، وَجَبَ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَلَوِ اشْتَرَكَ الِاحْتِمَالَانِ فِي اعْتِرَاضٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى.
قُلْتُ: وَهَذَا أَوْلَى بِتَفْسِيرِ التَّقْسِيمِ الْمُرَادِ هَهُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي أَرَادَهُ فِي «الرَّوْضَةِ» لَكِنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ بِهِ غَايَةَ الْإِفْصَاحِ، فَوَهِمْتُ فِيهِ عِنْدَ الِاخْتِصَارِ، وَذَهَبْتُ فِيهِ إِلَى التَّقْسِيمِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْسِيمَ فِي الْقِيَاسِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ النَّاظِرِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْعِلَّةِ بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِثَالَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالثَّانِي: تَقْسِيمٌ مِنَ الْمُعْتَرِضِ الْمُنَاظِرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَهَذَا هُوَ
(3/492)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُرَادُ هَهُنَا، وَسَيَأْتِي لَهُ أَمْثِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَشَرْطُهُ: صِحَّةُ انْقِسَامِ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى مَمْنُوعٍ وَمُسَلَّمٍ، وَإِلَّا كَانَ مُكَابَرَةَ، وَحَصْرَهُ لِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ، وَإِلَّا جَازَ أَنْ يَنْهَضَ الْخَارِجُ عَنْهَا بِغَرَضِ الْمُسْتَدِلِّ، وَمُطَابَقَتِهِ لِمَا ذَكَرَهُ» .
أَيْ: وَشَرْطُ التَّقْسِيمِ، أَيْ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِمَّا يَصِحُّ انْقِسَامُهُ إِلَى مَا يَجُوزُ مَنْعُهُ وَتَسْلِيمُهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: احْتِمَالًا مُتَسَاوِيًا، لَكِنْ يَكْفِي الْمُعْتَرِضَ بَيَانُ مُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ التَّسَاوِي لِتَعَذُّرِهِ، أَوْ لِصُعُوبَتِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي نَذْرِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ: إِنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَنْعَقِدُ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هُوَ مَعْصِيَةٌ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ لِعَيْنِهِ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي.
الْمَثَّالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ فِي الصَّبِيِّ إِذَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ: إِنَّهَا وَظِيفَةٌ صَحَّتْ مِنَ الصَّبِيِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهَا، كَالْبَالِغِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: صَحَّتْ مِنْهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِهَا، فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْضًا مَعَ عَدَمِ الْخِطَابِ بِهَا، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يُجَزِئُ عَنِ الْفَرْضِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْبَالِغِ، فَإِنَّهَا صَحَّتْ
(3/493)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَرْضًا، فَلِذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ غَيْرُ مَحْضَةٍ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ سُقُوطُهَا عَنْ مَالِهِ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ جِهَةٍ؛ وَمُؤْنَةٌ مَالِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ، فَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ نُوجِبُهَا فِي مَالِهِ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ، وَالْمُخَاطَبُ بِإِخْرَاجِهَا الْوَلِيُّ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا كَانَ مُكَابَرَةً» . أَيْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَصِحُّ انْقِسَامُهُ إِلَى مَمْنُوعٍ وَمُسَلَّمٍ؛ كَانَ التَّقْسِيمُ مُكَابَرَةً وَشَغَبًا وَلَعِبًا، كَمَا لَوْ قَالَ: شَرَابٌ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ مَثَلًا: مُسْكِرٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ لُغَوِيٌّ، أَوْ عَقْلِيٌّ؟ أَوْ يَقُولُ: مُسْكِرٌ ذَوْقِيٌّ، أَوْ حَقِيقِيٌّ؟ وَكَمَا لَوْ قَالَ: مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَكِيلٌ لُغَوِيٌّ، أَوْ شَرْعِيٌّ؟ فَإِنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ تَقْسِيمٌ لَا مَعْنًى لَهُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَيَكُونُ عِنَادًا، أَوْ لَعِبًا، أَوْ جَهْلًا، فَلَا يُسْمَعُ.
الْأَمْرُ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ: أَنْ يَكُونَ حَاصِرًا لِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْمُسْتَدِلِّ، كَمَا ذَكَرَ مِنِ انْحِصَارِ الْمَعْصِيَةِ فِي كَوْنِهَا لِعَيْنِهَا أَوْ لِغَيْرِهَا، وَانْحِصَارِ الصَّلَاةِ فِي كَوْنِهَا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِرًا، لَمْ يَصِحَّ التَّقْسِيمُ، لِجَوَازِ أَنْ يَنْهَضَ الْقِسْمُ الْبَاقِي الْخَارِجُ عَنِ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُعْتَرِضُ بِفَرْضِ الْمُسْتَدِلِّ. وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْعَدَدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِهَذَا الْعَدَدِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ يَكُونُ أَكْثَرَ، وَهُوَ مُرَادِي.
(3/494)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، فَكَانَ مُجْزِئًا، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ؟ فَيَقُولُ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ: لْوَتْرُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، لِأَنَّهُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَا فَرْضٌ وَلَا نَفْلٌ، بَلْ وَاجِبٌ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ فِي الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ: تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ، لِأَنَّهَا عَاقِلَةٌ، فَصَحَّ مِنْهَا التَّصَرُّفُ لِلْمَصْلَحَةِ كَالرَّجُلِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَعْنِي بِالْعَقْلِ؛ التَّجْرِبَةُ، أَوْ كَمَالُ الرَّأْيِ وَحُسْنُ السِّيرَةِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، فَيَقُولُ: لَا هَذَا، وَلَا هَذَا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ قُوَّةٌ غَرِيزِيَّةٌ، يَتَأَتَّى بِهَا دَرْكُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ: «مُطَابَقَتُهُ لِمَا ذَكَرَهُ» الْمُسْتَدِلُّ، أَيْ: إِنَّ الْمُعْتَرِضَ لَا يُورِدُ فِي التَّقْسِيمِ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فِي دَلِيلِهِ، فَإِنْ زَادَ فِي التَّقْسِيمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُنَاظِرًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُسْتَدِلِّ، حَيْثُ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الْمُعْتَرِضِ هَدْمُ مَا يَبْنِيهِ، لَا بِنَاءَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقَصَاصَ، قِيَاسًا عَلَى الْحُرِّ بِالْحُرِّ، فَيُقَالُ لَهُ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ فِي رَقِيقٍ أَوْ غَيْرِ رَقِيقٍ؟ وَكَذَا إِذَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ إِجْبَارِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ: إِنَّهَا عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِ الرَّجُلِ، فَيُقَالُ: عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ، وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ
(3/495)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَيْسَتْ بِبَكْرٍ؟ فَهَذَا تَقْسِيمٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرَّقِيقِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، وَلَا لِلْبِكْرِ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي، وُجُودًا وَلَا عَدَمًا، فَذِكْرُ الْمُعْتَرِضِ لَهُ تَقْوِيلًا لِلْمُسْتَدِلِّ مَا لَمْ يَقُلْ، أَوْ إِعْرَاضًا عَنْ مُنَاظَرَتِهِ إِلَى مُنَاظَرَةِ الْمُعْتَرِضِ نَفْسَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ جَهْلًا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمُنَاظَرَةِ. وَأَيًّا مَا كَانَ يَبْطُلُ التَّقْسِيمُ.
وَإِذَا تَوَجَّهَ سُؤَالُ التَّقْسِيمِ، فَلِلْمُسْتَدِلِّ فِي دَفْعِهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيِّنَ فَسَادَهُ، بِانْتِفَاءِ شُرُوطِهِ أَوْ بَعْضِهَا، فَيَقُولُ مَثَلًا: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظِي يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْتَ مِنَ التَّقْسِيمِ، أَوْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ تَقْسِيمَكَ حَاصِرٌ، بَلْ هُنَاكَ قِسْمٌ آخَرُ مُرَادِي، أَوْ أَنَّكَ زِدْتَ فِي تَقْسِيمِكَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، فَأَنْتَ تُنَاظِرُ نَفْسَكَ، وَلَا يَلْزَمُنِي جَوَابُكَ.
الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ ظُهُورَهُ فِي بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ: التَّقْسِيمِ بِالْوَضْعِ، أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا، أَوْ بِقَرِينَةٍ، وَإِذَا بَانَ ظُهُورُهُ فِي بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَجَبَ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ التَّقْسِيمُ.
مِثَالُ الظَّاهِرِ بِالْوَضْعِ: لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ فِي مَسْأَلَةِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ مَعْصِيَةً لِعَيْنِهِ، وَكَوْنُهُ لِغَيْرِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَلَا يَصِحُّ التَّقْسِيمُ إِلَيْهِ.
وَمِثَالُ الظَّاهِرِ بِالْعُرْفِ شَرْعًا: مَا يُذْكَرُ مِنَ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ، فَلَا يَصِحُّ التَّقْسِيمُ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا قَسَّمَ الْمُعْتَرِضُ إِلَيْهِ اللَّفْظَ مُتَّحِدٌ، وَلَكِنَّهُ وَهِمَ فِي اعْتِقَادِ التَّعَدُّدِ، أَوْ أَنَّ الْأَقْسَامَ كُلَّهَا مُرَادَةٌ لَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَهُ دَلَّ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ.
(3/496)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمْثِلَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ بِمَا يَسْتَشْعِرُهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَيُحْتَمَلُ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ.
قَوْلُهُ: «وَطَرِيقُ صِيَانَةِ التَّقْسِيمِ: أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ: إِنْ عَنَيْتَ بِمَا ذَكَرْتَ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مُسَلَّمٌ، وَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ، وَإِنْ عَنَيْتَ غَيْرَهُ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ مَمْنُوعٌ» .
أَيْ أَنَّ التَّقْسِيمَ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ يَعْرِضُ لَهُ الْفَسَادُ، لِجَوَازِ فَوَاتِ بَعْضِ الْأَقْسَامِ، فَيَبْطُلُ، فَالطَّرِيقُ إِلَى صِيَانَتِهِ وَحِفْظِهِ عَنْ ذَلِكَ، أَنْ يَجْعَلَ الْمُعْتَرِضُ تَقْسِيمَهُ دَائِرًا بَيْنَ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَعُمُّ مَا سِوَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَقْسَامِ، فَيَقُولُ: إِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ كَذَا، فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ غَيْرَهُ، فَمَمْنُوعٌ، لِأَنَّ لَفْظَ: غَيْرُهُ، يَتَنَاوَلُ مَا عَدَا الْقِسْمَ الْمُصَرَّحَ بِهِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْعَدَدُ إِمَّا مُسَاوٍ أَوْ غَيْرُ مُسَاوٍ فَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمُسَاوِي وَالْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ، فَتَنْحَصِرُ الْأَقْسَامُ، وَيَقُولُ: مَا تَعْنِي بِقَوْلِكَ: مَأْمُورٌ بِهِ، أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ غَيْرُهُ؟ ، وَصِحَّةُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ فَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ؟ وَتُرِيدُ بِالْعَقْلِ: التَّجْرِبَةَ، أَوْ غَيْرَهَا؟ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مُسَلَّمٌ» ، أَيْ: إِنْ أَرَدْتَ كَذَا، فَمُحْتَمَلٌ تَنْزِيلُ لَفْظِكَ عَلَيْهِ، وَمُسَلَّمٌ صَلَاحِيَتُهُ لِلْعِلِّيَّةِ، «وَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ» ، أَيْ: أَنَا أُطَالِبُكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَتِهِ لِلْعِلِّيَّةِ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَإِنْ أَرَدْتَ غَيْرَ ذَلِكَ، «فَهُوَ مُمْتَنِعٌ مَمْنُوعٌ» ، أَيْ: يَمْتَنِعُ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ لَفْظِكَ عَلَيْهِ، وَمَمْنُوعٌ صَلَاحِيَتُهُ لِلْعِلِّيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/497)
 
 
السَّادِسُ: الْمُطَالَبَةُ: وَهِيَ طَلَبُ دَلِيلِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ، وَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ، وَوُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَهُوَ ثَالِثُ الْمُنُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
السَّابِعُ: النَّقْضُ: وَهُوَ إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ بِدُونِ الْحُكْمِ، وَفِي بُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِهِ خِلَافٌ، وَيَجِبُ احْتِرَازُ الْمُسْتَدِلِّ فِي دَلِيلِهِ عَنْ صُورَةِ النَّقْضِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَدَفْعُهُ إِمَّا بِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ أَوِ الْحُكْمِ فِي صُورَتِهِ، وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ قَوْلُهُ: لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِيهَا، إِذْ دَلِيلُهُ صَحِيحٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَشْكُوكٍ فِيهِ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وَغَصْبٌ، أَوْ بِبَيَانٍ مَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءِ شَرْطٍ تَخَلَّفَ لِأَجْلِهِ الْحُكْمُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، وَيُسْمَعُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ نَقْضُ أَصْلِ خَصْمِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْعُذْرُ عَنْهُ، لَا أَصْلَ نَفْسِهِ، نَحْوَ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُنِي؟ إِذْ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ كَمَحَلِّ النِّزَاعِ، أَوْ بِبَيَانِ وُرُودِ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ كَالْعَرَايَا عَلَى الْمَذَاهِبِ، وَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: دَلِيلُ عِلِّيَّةِ وَصْفِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، غَيْرُ مَسْمُوعٍ، إِذْ هُوَ نَقْضٌ لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، لَا لِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ انْتِقَالٌ، وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي رَدِّهِ أَدْنَى دَلِيلٍ يَلِيقُ بِأَصْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «السَّادِسُ» : سُؤَالُ «الْمُطَالَبَةِ» وَهِيَ طَلَبُ دَلِيلِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ، أَيْ أَنْ يَطْلُبَ الْمُعْتَرِضُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي جَعَلَهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِلَّةً، كَقَوْلِهِ فِيمَا إِذَا قَالَ: مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، أَوْ مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ
(3/498)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّحْرِيمِ، وَإِنَّ الْكَيْلَ عِلَّةُ الرِّبَا؟ وَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ عِلَّةُ الْقَتْلِ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْسَانٌ بَدَّلَ دِينَهُ فَقُتِلَ كَالرَّجُلِ؟
قَوْلُهُ: «وَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ، وَوُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ» . أَيْ: سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْمُسْتَدِلِّ.
أَمَّا تَضَمُّنُهُ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ، كَتَسْلِيمِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا، وَوُجُوبِ الْقَتْلِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَرْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، لِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْهُ، وَالْحُكْمَ أَصْلٌ لَهَا، فَمُنَازَعَةُ الْمُعْتَرِضِ فِي الْفَرْعِ - الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ - يُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ الْأَصْلِ - الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ - إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لَهُ، لَكَانَ مَنْعُهُ أَوْلَى وَأَجْدَى عَلَى الْمُعْتَرِضِ.
وَأَمَّا تَضَمُّنُهُ تَسْلِيمَ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، فَلِأَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ عِلِّيَتِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْوَصْفِ فِي نَفْسِهِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، لَكَانَ مَنْعُهُ وُجُودَ الْوَصْفِ أَوْلَى بِهِ، وَأَجْدَى عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي سُؤَالِ الْمَنْعِ أَنَّ أَقْسَامَهُ أَرْبَعَةٌ، وَتَرْتِيبُهَا فِي الِاصْطِلَاحِ هَكَذَا: مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ فِيهِ، ثُمَّ مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ.
وَصُورَةُ إِيرَادِهَا فِي قَوْلِنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ؛ أَنْ يُقَالَ: لَا
(3/499)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِيهِ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ عِلَّةً، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ، فَقَوْلُهُ: لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ عِلَّةً هُوَ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ، «وَهُوَ ثَالِثُ الْمُنُوعِ» ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَبْتَدِئُ بِالْمُنُوعِ أَوَّلَ أَوَّلَ، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَنْعٍ إِلَّا وَقَدْ سَلَّمَ الَّذِي قَبْلَهُ، انْقِطَاعًا أَوْ تَنَزُّلًا. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ مَنْعَيْنِ، فَيَتَضَمَّنُ إِيرَادُهُ تَسْلِيمَهُمَا، وَبَعْدَهُ مَنْعُ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ فَرْعٌ عَلَيْهِ، فَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَهُ أَيْضًا كَمَا تَقَرَّرَ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي سُؤَالَ الْمُطَالَبَةِ «ثَالِثُ الْمُنُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ» يَعْنِي أَقْسَامَ الْمَنْعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَفِي مَوْضِعِهَا فِي السُّؤَالِ الرَّابِعِ، وَالْإِشَارَةُ بِكَوْنِهِ ثَالِثَ الْمُنُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ هَهُنَا بِالْجَوَابِ هُنَاكَ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى عِلِّيَّتِهِ بِمَا سَبَقَ، مِنْ نَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوِ اسْتِنْبَاطٍ. وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ قَبُولِ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا لَا حَاصِلَ لَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهِ: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِمَّا لَا يَعْتَقِدُ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ الَّذِي يَذْكُرُهُ فَيَحْرُمْ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ، وَلَا يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ عِلِّيَّتَهُ، فَإِمَّا تَحَكُّمًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يُقْبَلُ، أَوْ بِدَلِيلٍ، فَيَجِبُ إِبْدَاؤُهُ لِتَحْصُلَ بِهِ الْفَائِدَةُ، وَيَلْزَمُ الِانْقِيَادُ، وَكَالنَّبِيِّ، لَا يُسْمَعُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةِ، حَتَّى يُبَرْهِنَ عَلَيْهَا بِالْمُعْجِزَةِ.
 
السُّؤَالُ " السَّابِعُ: النَّقْضُ ".
اعْلَمْ أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّقْضِ فِي الْمَعَانِي كَالْعِلَّةِ وَالْوُضُوءِ وَالرَّأْيِ وَنَحْوِهَا
(3/500)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَجَازٌ، وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ فِي الْبِنَاءِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمَعَانِي بِعَلَاقَةِ الْإِبْطَالِ، وَتَغْيِيرِ الْوَضْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْمَعْنَى الْمَنْقُوضَيْنِ.
قَوْلُهُ: " وَهُوَ إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ بِدُونِ الْحُكْمِ "، وَقِيلَ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الْوَصْفِ، وَقِيلَ: إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ، مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وِفَاقًا، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.
وَمِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، كَسَارِقِ مَالِ الْحَيِّ، فَيُقَالُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْوَالِدِ يَسْرِقُ مَالَ وَلَدِهِ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ يَسْرِقُ مَالَ مَدْيُونِهِ، فَإِنَّ الْوَصْفَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا، وَلَا يُقْطَعَانِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقَصَاصَ، فَقِيلَ: يَنْتَقِضُ بِقَتْلِ الْأَبِ وَلَدَهُ، وَالسَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ، فَإِنَّ الْوَصْفَ مَوْجُودٌ، وَالْقِصَاصَ مُنْتَفٍ.
قَوْلُهُ: " وَفِي بُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِهِ " أَيْ: بِالنَّقْضِ، " خِلَافٌ " سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَرَجَّحْنَا هُنَاكَ عَدَمَ الْبُطْلَانِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَوْلُهُ: " وَيَجِبُ احْتِرَازُ الْمُسْتَدِلِّ فِي دَلِيلِهِ عَنْ صُورَةِ النَّقْضِ عَلَى الْأَصَحِّ ".
مِثَالُهُ فِي الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ؛ أَنْ يَقُولَ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ أَبًا وَلَا مَدْيُونًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ، وَيَقُولُ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، خَالٍ عَنْ مَانِعِ الْإِيلَادِ، وَالْمِلْكِ، وَالتَّفَاوُتِ فِي الدِّينِ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، وَلَا نِزَاعَ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا الِاحْتِرَازِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي وُجُوبِهِ، فَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ يَقُولُ: إِنَّ النَّقْضَ سُؤَالٌ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجِبُ إِدْخَالُهُ فِي
(3/501)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صُلْبِ الْقِيَاسِ، بَلْ إِذَا أَوْرَدَهُ الْمُعْتَرِضُ، لَزِمَ جَوَابُهُ بِمَا يَدْفَعُهُ كَسَائِرِ الْأَسْئِلَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا لِلْمُعْتَرِضِ عَلَى مَوْضِعِ النَّقْضِ، وَفِي ذَلِكَ نَشْرُ الْكَلَامِ وَتَبَدُّدُهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ، قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الشَّغْبِ، وَانْتِشَارَ الْكَلَامِ، وَسَدًّا لِبَابِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ الْكَلَامِ عَنِ التَّبْدِيلِ، وَلِلْقَوْلَيْنِ اتِّجَاهٌ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: سُؤَالُ النَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْقِيَاسِ، إِلَّا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ وَالْمُصَحِّحَ لَهُ خَلَلٌ فِي طَلَبِ الْقِيَاسِ، فَوَجَبَ الِاعْتِنَاءُ بِسَدِّهِ، كَسُجُودِ السَّهْوِ مَعَ الصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُمْ: فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُعْتَرِضِ عَلَى مَوْضِعِ النَّقْضِ.
قُلْنَا: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَقْدَحُ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ، لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ الْمَشْرُوعَةَ مَقَامُ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ، يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ لَهُ وَعَلَيْهِ، مُتَوَخِّيًا لِلْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْتُمْ مَانِعًا مِنْ الِاحْتِرَازِ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ غَلَبَةَ الْخَصْمِ بِالْمُخَادَعَةِ، وَتَخْيِيلِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحْلِ: 125] ،
(3/502)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 46] ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ صُورَةِ النَّقْضِ أَحْسَنُ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْكَلَامِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ النَّقْضِ وَالنَّشْرِ، فَكَانَ وَاجِبًا، عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِهِ.
قَوْلُهُ: " وَدَفْعُهُ: إِمَّا بِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ، أَوِ الْحُكْمِ فِي صُورَتِهِ ".
أَيْ: وَدَفْعُ سُؤَالِ النَّقْضِ بِالْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لِأَنَّ النَّقْضَ إِنَّمَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ، وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا، فَإِذَا مُنِعَ وُجُودُ الْعِلَّةِ، لَمْ يَتَحَقَّقِ النَّقْضُ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّمَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِي عَكْسًا، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَائِهَا.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، كَمَا فِي الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَنْتَقِضُ بِقَتْلِ الْمُعَاهَدِ، فَإِنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، وَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ، فَيَقُولُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ عُدْوَانٌ، فَيَنْدَفِعُ النَّقْضُ بِذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ لَهُ.
وَهَلْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: لَا، لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَصِيرُ مُسْتَدِلًّا، وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا، فَتَنْقَلِبُ قَاعِدَةُ النَّظَرِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُعَاهَدِ عُدْوَانٌ: إِنَّهُ قَتْلٌ مُخْفِرٌ لِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُخْفِرًا لِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عُدْوَانٌ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخْفِرٌ لِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَيُفْضِي إِلَى مَا ذَكَرْنَا.
الثَّانِي: لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ سُؤَالُهُ، وَيَتِمُّ مَقْصُودُهُ، أَشْبَهَ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا
(3/503)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنَعَ حُكْمَ الْأَصْلِ، لَهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ.
الثَّالِثُ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ - إِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُعْتَرِضِ الِاعْتِرَاضُ بِغَيْرِ النَّقْضِ، جَازَ لَهُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي صُورَتِهِ، تَحْصِيلًا لِفَائِدَةِ النَّظَرِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الِاعْتِرَاضُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْقَاعِدَةِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي جَوَابِ النَّقْضِ مَنْعُ الْحُكْمِ فِي صُورَتِهِ.
مِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي الْمُعَاهِدِ، فَإِنَّ عِنْدِي يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُعَاهَدِ، وَهُوَ عَدَمُ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: " وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ قَوْلُهُ: لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِيهَا، إِذْ دَلِيلُهُ صَحِيحٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَشْكُوكٍ فِيهِ "، أَيْ: إِذَا نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ عِلَّتَهُ بِصُورَةٍ، فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُجِيبَ عَنِ النَّقْضِ بِالتَّصْرِيحِ بِمَنْعِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَفَاهُ ذَلِكَ فِي دَفْعِهِ، لِأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى الْعِلَّةِ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قَتْلُ عَمْدٍ عَدْوَانٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الرِّوَايَةَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ، فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِهَا، فَيَرِدُ، وَإِذَا احْتُمِلَ وُرُودُهُ وَعَدَمُ وُرُودِهِ، وَعِلَّةُ الْقِيَاسِ صَحِيحَةٌ بِإِحْدَى الطُّرُقِ الْمُصَحَّحَةِ لِلْعِلَّةِ، فَلَا يَبْطُلُ بِأَمْرٍ مُتَرَدَّدٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ: " وَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ "، أَيْ: عَلَى ثُبُوتِ الْعِلَّةِ
(3/504)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوِ الْحُكْمِ، إِذَا مَنَعَهُمَا الْمُسْتَدِلُّ " فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ " عَنْ مَحَلِّ النَّظَرِ، " وَغَصْبٌ " لِمَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ، حَيْثُ يَنْقَلِبُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا وَقَدْ سَبَقَ هَذَا، وَبَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلَّةِ دُونَ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: " أَوْ بِبَيَانٍ مَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءِ شَرْطٍ تَخَلَّفَ لِأَجْلِهِ الْحُكْمُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ ".
هَذَا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ عَنِ النَّقْضِ، وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وُجُودَ مَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءَ شَرْطٍ يُحِيلُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، كَمَا إِذَا أَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ قَتْلَ الْوَالِدِ وَلَدَهُ، عَلَى عِلَّةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: تَخَلَّفَ الْحُكْمُ لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ، وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فَقُطِعَ، فَأَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ السَّرِقَةَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِيهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ، وَهُوَ الْحِرْزُ، وَكَمَا إِذَا قَالَ: نِصَابٌ كَامِلٌ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْمَضْرُوبِ، فَأَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ مَالَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَدْيُونِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَاتَ فِيهِ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ، وَمَالُ الْمَدْيُونِ وُجِدَ فِيهِ مَانِعُ الدَّيْنِ، فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ.
قَوْلُهُ: وَيُسْمَعُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ نَقْضُ أَصْلِ خَصْمِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْعُذْرُ عَنْهُ، لَا أَصْلَ نَفْسِهِ، نَحْوَ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُنِي؟ ، إِذْ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَمَحَلِّ النِّزَاعِ ".
يَعْنِي أَنَّ النَّقْضَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى أَصْلِ خَصْمِهِ الْمُسْتَدِلِّ، أَوْ إِلَى أَصْلِ نَفْسِهِ - يَعْنِي الْمُعْتَرِضَ - فَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مُتَوَجِّهًا إِلَى أَصْلِ
(3/505)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُسْتَدِلِّ، لَزِمَهُ الْجَوَابُ وَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ، كَمَا سَبَقَتْ أَمْثِلَتُهُ، لِاخْتِصَاصِ النَّقْضِ بِمَذْهَبِهِ، فَبِدُونِ الْجَوَابِ عَنْهُ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ، كَمَا إِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ: إِنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ، قِيَاسًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ: هَذَا يَنْتَقِضُ عَلَى أَصْلِكَ بِمَا إِذَا قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ مَوْجُودَةٌ، وَالْقِصَاصُ مُنْتَفٍ عِنْدَكَ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ بِأَدْنَى عُذْرٍ يَلِيقُ بِمَذْهَبِهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَأْخَذِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ ذَلِكَ قَتْلًا، وَلَيْسَ عَمْدًا، أَوْ مَا شَاءَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مُتَوَجِّهًا مِنَ الْمُعْتَرِضِ إِلَى أَصْلِ نَفْسِهِ، لَمْ يَقْدَحْ فِي عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْعُذْرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قَالَ الْحَنْبَلِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ قِيَاسًا عَلَى الْحَرْبِيِّ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِي، إِذْ هُوَ بَاطِلٌ بِالْمُعَاهَدِ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَيُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ عِنْدِي. وَكَذَا لَوْ قَالَ حَنْبَلِيٌّ: يُقْطَعُ النَّبَّاشُ، لِأَنَّهُ سَارِقٌ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِي بِسَارِقِ الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ، فَإِنَّهُ سَارِقٌ، وَلَا يَجِبُ قَطْعُهُ عِنْدِي، وَإِذَا كَانَ وَصْفُكَ أَيُّهَا الْمُسْتَدِلُّ غَيْرَ مُطَّرِدٍ عِنْدِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُنِي؟ فَهَذَا لَا يُسْمَعُ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ - وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَهُوَ الْكُفْرُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَالسَّرِقَةُ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ - حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَرِضِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَمَا أَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: الْعِلَّةُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ عِنْدِي كَوْنُهُ سَارِقًا، فَأَنَا أَقُولُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي الصُّورَتَيْنِ: صُورَةِ النِّزَاعِ، وَهُوَ قَطْعُ النَّبَّاشِ، وَصُورَةِ النَّقْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ، فَالْوَصْفُ الَّذِي
(3/506)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَكَرْتَهُ حُجَّةٌ عَلَيْكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ قَادِحٌ فِي نَفْسِ الْعِلَّةِ، فَأَبْدِهِ.
أَمَّا كَوْنُهَا لَا تَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِكَ، فَلَا يَلْزَمُنِي، إِذْ هَذَا حَمْلٌ لِي عَلَى مَذْهَبِكَ بِالْقُوَّةِ.
قَوْلُهُ: " أَوْ بِبَيَانِ وُرُودِ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، كَالْعَرَايَا عَلَى الْمَذَاهِبِ ".
هَذَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ عَنِ النَّقْضِ، وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ، أَنَّ صُورَةَ النَّقْضِ وَارِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ خَصْمِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مَكِيلٌ، فَحَرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، فَأَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ الْعَرَايَا، إِذْ هِيَ مَكِيلٌ، وَقَدْ جَازَ فِيهِ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمْرِ الْمَبِيعِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: هَذَا وَارِدٌ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا، فَلَيْسَ بُطْلَانُ مَذْهَبِي بِهِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ مَذْهَبِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَلَيْسَ فِي " الْمُخْتَصَرِ "، بَلْ ذَكَرَهُ النِّيلِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةٌ، فَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ بِالنَّصِّ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا نَقْضٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] إِذَا عَلَّلَ بِالسَّرِقَةِ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ وَغَيْرِهِ، فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضَ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَلِكَ عِلَّةُ الْعَرَايَا مَنْصُوصَةٌ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا النَّقْضُ بِالْعَرَايَا.
قَوْلُهُ: " وَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: دَلِيلُ عِلِّيَّةِ وَصْفِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، غَيْرُ مَسْمُوعٍ، إِذْ هُوَ نَقْضٌ لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، لَا لِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ انْتِقَالٌ " يَعْنِي إِذَا نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةَ الْمُسْتَدِلِّ بِصُورَةٍ، فَأَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَحَدِ الْأَجْوِبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إِمَّا بِمَنْعِ الْعِلَّةِ، أَوِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، أَوْ يُورِدُ النَّقْضَ
(3/507)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ وَصْفَكَ الَّذِي عَلَّلْتَ بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعَ عِلَّةٌ؛ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، فَيَلْزَمُكَ الْإِقْرَارُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهَا، عَمَلًا بِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لَهُ، لَكِنَّكَ لَمْ تَقُلْ بِهِ، فَيَلْزَمُكَ النَّقْضُ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ: لَا أُسَلِّمُ أَ