شرح مختصر الروضة 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : شرح مختصر الروضة
المؤلف : سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى : 716هـ)
عدد الأجزاء : 3
بِمَا لَا يُرِيدُ، وَأَنْ يُرِيدَ مَا لَا يَأْمُرُ بِهِ.
أَمَّا الْأَمْرُ بِمَا لَا يُرَادُ ; فَكَأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْكُفَّارَ بِالْإِيمَانِ، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهِ مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ أَرَادَهُ مِنْهُمْ، لَكَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ إِيمَانِهِمْ مُرَادًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ: هُوَ تَعَلُّقُ إِرَادَتِهِ بِهِ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِهِ هُوَ تَخْصِيصُهَا بِحُدُوثِهِ مِنْهُمْ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، إِذْ شَأْنُ الْإِرَادَةِ التَّخْصِيصُ، وَشَأْنُ الْقُدْرَةِ التَّأْثِيرُ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ ; فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِحُّ وُجُودُهُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَكَذَلِكَ: لَوْ عُوتِبَ شَخْصٌ عَلَى مُعَاقَبَةِ عَبْدِهِ ; فَادَّعَى مُخَالَفَتَهُ لَهُ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ عُذْرِهِ عِنْدَ مُعَاتِبِهِ ; فَقَالَ لِعَبْدِهِ: اذْهَبْ ; فَافْعَلْ كَذَا ; فَهَذَا أَمْرٌ لَهُ بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُرِيدُ مِنْهُ الِامْتِثَالَ قَطْعًا، لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِهِ عِنْدَ مُعَاتِبِهِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ عُذْرِهِ عِنْدَهُ.
وَكَذَلِكَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا قِيلَ لَهُ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] ، وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، إِقَامَةً لِرَسْمِ الدَّعْوَةِ، وَلَا يُرِيدُونَهُ مِنْهُمْ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِفْضَاءُ إِيمَانِهِمْ إِلَى تَكْذِيبِ خَبَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(2/363)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: اسْتِحَالَةُ إِيمَانِهِمْ، لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِهِ، وَالْمُحَالُ غَيْرُ مُرَادٍ.
وَأَمَّا إِرَادَةُ مَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ ; فَهُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ، إِذِ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مَا يُرِيدُ شَيْئًا، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، خَوْفًا، أَوْ حَيَاءً، أَوْ تَدَيُّنًا، كَمَا لَوْ حَرَّمَ السُّلْطَانُ عَصْرَ الْعِنَبِ خَمْرًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ عَصْرَهُ، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ عَبْدَهُ، وَلَا وَلَدَهُ، وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، خَوْفًا أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ ; فَيُعَاقَبُ، وَالصَّائِمُ قَدْ يُرِيدُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، وَلَا يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِإِحْضَارِهِ، لِيَتَنَاوَلَ مِنْهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُحَافَظَةً عَلَى الدِّينِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ يَتَفَاكَّانِ، «فَلَا يَتَلَازَمَانِ» .
أَيْ: لَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، «وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ» .
أَيْ: لَوْ تَلَازَمَا مَعَ صِحَّةِ تَفَاكِّهِمَا، لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ تَفَاكُّهُمَا، وَعَدَمُ تَفَاكِّهِمَا، أَوْ تَلَازُمُهُمَا وَعَدَمُ تَلَازُمِهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ.
(2/364)
 
 
ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ ; وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ النَّدْبَ حَمْلًا لَهُ عَلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ، وَنَفْيًا لِلْعِقَابِ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَقِيلَ: الْإِبَاحَةَ لِتَيَقُّنِهَا.
وَقِيلَ: الْوَقْفَ لِاحْتِمَالِهِ كُلَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ وَلَا مُرَجِّحَ.
لَنَا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النُّورِ: 63] ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 48] ، ذَمَّهُمْ وَذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، وَدَعْوَى قَرِينَةِ الْوُجُوبِ، وَاقْتِضَاءُ تِلْكَ اللُّغَةِ لَهُ دُونَ هَذِهِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ; وَإِنَّ السَّيِّدَ لَا يُلَامُ عَلَى عِقَابِ عَبْدِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ مُجَرَّدِ أَمْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«ثُمَّ هُنَا» ، أَيْ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ «مَسَائِلُ» :
الْأُولَى: الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ «، إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا أَوْ مُجَرَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِقَرِينَةٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوُجُوبُ، أَوِ النَّدْبُ، أَوِ الْإِبَاحَةُ، حُمِلَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةٍ ; فَهُوَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْجِبَائِيِّ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ يَقْتَضِي النَّدْبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ» حَمْلًا لَهُ «، أَيْ: لِلْأَمْرِ» عَلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ، وَنَفْيًا لِلْعِقَابِ بِالِاسْتِصْحَابِ «، هَذَا تَوْجِيهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ.
(2/365)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ تَارَةً لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَتَارَةً لِلنَّدْبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الضُّحَى، وَالْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ خِلَافُ الْأَصْلِ ; فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهُوَ مُطْلَقُ رُجْحَانِ الْفِعْلِ.
وَأَمَّا الْعِقَابُ عَلَى التَّرْكِ ; فَيَنْتَفِي بِالِاسْتِصْحَابِ، أَيْ: اسْتِصْحَابِ حَالِ عَدَمِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَصْلِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهُ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي» الْمُخْتَصَرِ «، وَالْأَوْلَى أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، يَجْعَلُ نَفْيَ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، مُسْتَفَادًا مِنْ لَفْظِ النَّدْبِ ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ رُجْحَانِ الْفِعْلِ، وَجَوَازِ التَّرْكِ. وَإِذَا جُعِلَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، كَانَ نَفْيُ الْعِقَابِ مُسْتَفَادًا مِنِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَانِ مَذْهَبَانِ، وَتَوْجِيهُهُمَا مَا ذُكِرَ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ هَذَا الْفَرْقِ.
قَوْلُهُ:» وَقِيلَ: الْإِبَاحَةُ «، أَيْ: وَقِيلَ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْإِبَاحَةُ» لِتَيَقُّنِهَا «، أَيْ: أَنَّ الْأَمْرَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَهِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ ; فَلْيَكُنِ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهَا، وَيَقِفُ حَمْلُهُ عَلَى خُصُوصِيَّةِ النَّدْبِ، أَوِ الْوُجُوبِ عَلَى الدَّلِيلِ ; لِأَنَّهُمَا مَشْكُوكٌ فِيهِمَا ; فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْإِقْدَامِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ ; فَلْيَكُنِ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، دَفْعًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ.
- قَوْلُهُ:» وَقِيلَ: الْوَقْفَ «، أَيْ: وَقِيلَ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوَقْفَ، أَوْ حُكْمُهُ الْوَقْفُ،» لِاحْتِمَالِهِ كُلَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنْ إِبَاحَةٍ، وَنَدْبٍ، وَوُجُوبٍ، وَلَا مُرَجِّحَ «لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ; فَيَجِبُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرَجِّحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ،
(2/366)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ هَاهُنَا، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَعُمْدَتُهُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ، وَاتِّجَاهُ الْقَدْحِ فِيهَا ; فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَلَى حُجَّةِ الْقَادِحِ فِيهَا.
قُلْتُ: وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ فِي الْمُطَالَبَةِ الْقَطْعِيَّةِ، أَمَّا الظَّنِّيَّةُ ; فَيَكْفِي فِيهَا ظُهُورُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَادِحٌ مَا.
هَذِهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالْوَقْفُ. وَقَدْ ذُكِرَ تَوْجِيهُ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي تَوْجِيهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْوُجُوبُ.
قَوْلُهُ:» لَنَا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} إِلَى آخِرِهِ.
أَيْ: لَنَا عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّورِ: 63] ; فَتَوَعَّدَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ بِالْعَذَابِ، وَالْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجِبٌ، وَلَا يَعْنِي بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا هَذَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْكُفَّارِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الْمُرْسَلَاتِ: 48، 49] ، وَلَمَّا أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ ; فَأَبَى، قَالَ لَهُ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} إِلَى قَوْلِهِ:
(2/367)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الْأَعْرَافِ: 12 - 18] ; فَذَمَّ الْكُفَّارَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ عِبَادَةً، وَذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ تَحِيَّةً، وَذَلِكَ ذَمٌّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، إِذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَدَعْوَى قَرِينَةِ الْوُجُوبِ، وَاقْتِضَاءِ تِلْكَ اللُّغَةِ لَهُ، دُونَ هَذِهِ، غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ» . هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ، يُورِدُهُ الْخَصْمُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ، بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذَّمَّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، بَلِ اقْتَرَنَ بِالْأَمْرِ فِيهَا قَرِينَةٌ أَفَادَتِ الْوُجُوبَ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْقَرِينَةُ، لَمْ يَقْتَضِ الْوُجُوبَ، وَلَا الْوَعِيدَ وَالذَّمَّ عَلَى التَّرْكِ.
فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ الْأُولَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، الْمُفِيدِ لِلْوُجُوبِ، بِقَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَتَقْدِيرُ الثَّانِيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} ، وَاسْتَفَادُوا الْوُجُوبَ بِقَرِينَةٍ، أَوْ تَصْرِيحٍ بِهِ.
وَذَلِكَ أَمْرُ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ، اقْتَرَنَ بِهِ قَرِينَةٌ أَفَادَتِ الْوُجُوبَ ; فَكَانَ ذَمُّهُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ; فَلِذَلِكَ ذَمَّ
(2/368)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ لُغَتِنَا هَذِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ; لِأَنَّهَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ حُجَّةٍ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ اقْتِرَانُ الْأَمْرِ بِمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ ; فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ، وَمُجَرَّدُ احْتِمَالِهَا لَا يَكْفِي، وَلَا يُتْرَكُ لَهُ ظَاهِرُ الْخِطَابِ.
وَأَمَّا اقْتِضَاءُ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ الْوُجُوبَ، دُونَ هَذِهِ ; فَخِلَافُ الظَّاهِرِ أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَكَى لَنَا الْحِكَايَةَ بِلُغَةٍ، وَالْأَصْلُ مُطَابَقَةُ الْحِكَايَةِ لِلْمَحْكِيِّ، وَمُوَافَقَتُهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ، بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ حَكَى الْقِصَّةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ صَادِقٌ فِي إِخْبَارِهِ، وَالصِّدْقُ يَقْتَضِي مُطَابَقَةَ الْمُخْبَرِ بِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُطَابَقَةً مَعْنَوِيَّةً، وَهُوَ إِيرَادُ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ يَعْزُبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الدَّعْوَى إِذَا قُوبِلَتْ بِظَاهِرِ الْحَالِ، كَانَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خَالَفَ مُجَرَّدَ أَمْرِ سَيِّدِهِ ; فَعَاقَبَهُ، لَمْ يُلَمْ عَلَى عِقَابِهِ، بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَلَوْلَا إِفَادَةُ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْوُجُوبَ، لَاتَّجَهَ لَوْمُ السَّيِّدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَّجِهُ ; فَدَلَّ عَلَى إِفَادَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَمُبَادَرَةِ الذِّهْنِ، أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، ثَبَتَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ ; فَيَضْعُفُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ لِلنَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ ; حَمْلًا لَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَقَوْلُ مَنْ تَوَقَّفَ لِظُهُورِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
(2/369)
 
 
الثَّانِيَةُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِمَا هِيَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَقِيلَ: إِنْ وَرَدَ بِصِيغَةِ افْعَلْ فَكَالْأَوَّلِ لِلْعُرْفِ، وَإِلَّا فَكَالثَّانِي، نَحْوَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِكَذَا، لِعَدَمِهِ فِيهِ، وَالْحَقُّ اقْتِضَاؤُهَا الْإِبَاحَةَ عُرْفًا لَا لُغَةً.
لَنَا: فَهْمُ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ بَعْدَ مَنْعِهِ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا كَذَلِكَ، نَحْوَ: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [الْمَائِدَةِ: 2] ، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا) [الْجُمُعَةِ: 10] ، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) [الْبَقَرَةِ: 222] ، وَنَحْوِهَا، وَاسْتِفَادَةُ وُجُوبِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 12] وَنَحْوِهَا، لَا مِنْ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] .
وَفِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ التَّحْرِيمَ أَوِ الْكَرَاهَةَ خِلَافٌ، وَيَحْتَمِلُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا، وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ إِذْ هَذَا رَفْعٌ لِلْإِذْنِ بِكُلِّيَّتِهِ، وَمَا قَبْلَهُ رَفْعٌ لِلْمَنْعِ ; فَيَبْقَى الْإِذْنُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الثَّانِيَةُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِمَا هِيَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ "، يَعْنِي مِنْ إِيجَابٍ أَوْ إِبَاحَةٍ " عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ "، أَيْ: إِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْحَظْرِ لِلْوُجُوبِ ; فَهِيَ لَهُ بَعْدَ الْحَظْرِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِبَاحَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ.
" وَقِيلَ: إِنْ وَرَدَ "، يَعْنِي الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ، " بِصِيغَةِ افْعَلْ فَكَالْأَوَّلِ "، أَيْ: يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ " لِلْعُرْفِ "، أَيْ: لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. " وَإِلَّا "، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بَعْدَ الْحَظْرِ بِصِيغَةِ افْعَلْ " فَكَالثَّانِي "،
(2/370)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: فَهُوَ كَالثَّانِي، أَيْ: يَكُونُ لِمَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ، مِنْ وُجُوبٍ، أَوْ إِبَاحَةٍ " نَحْوَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِكَذَا "، إِذْ هَذَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، لَا الْأَمْرِ، " لِعَدَمِهِ " أَيْ: لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ بِخِلَافِ الْوَارِدِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. هَذَا نَقْلُ " الْمُخْتَصَرِ " وَأَصْلُهُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ، اقْتَضَى الْوُجُوبَ عِنْدَ الْبَاجِيِّ، وَمُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، وَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَحَكَى الْآمِدِيُّ الْوُجُوبَ، وَالْإِبَاحَةَ، وَالْوَقْفَ، وَاخْتَارَهُ.
قَوْلُهُ: " وَالْحَقُّ اقْتِضَاؤُهَا الْإِبَاحَةَ عُرْفًا، لَا لُغَةً ". هَذَا تَفْصِيلٌ اخْتَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ، لَا اللُّغَةُ، إِذْ هُوَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، كَمَا سَبَقَ. وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: فَهْمُ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ ". هَذَا دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا مَنَعَ عَبْدَهُ مِنْ طَعَامٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْهُ ; فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْإِبَاحَةَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ لُغَةً، أَوْ عُرْفًا، أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
قَوْلُهُ: " وَهُوَ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا كَذَلِكَ ": هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْوُقُوعِ، أَيْ: وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ الْحَظْرِ غَالِبًا، أَيْ: فِي غَالِبِ مَوَارِدِهِ كَذَلِكَ، أَيْ: لِلْإِبَاحَةِ ; فَقَدْ تَطَابَقَ الدَّلِيلُ وَالْوُقُوعُ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} بَعْدَ
(2/371)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [الْمَائِدَةِ: 1] ; فَفُهِمَ مِنْهُ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الْجُمُعَةِ: 10] ، اقْتَضَى إِبَاحَةَ الِانْتِشَارِ بَعْدَ الْمَنْعِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، اقْتَضَى إِبَاحَةَ الْوَطْءِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَوَارِدِ هَذِهِ الصِّيغَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ، هُوَ لِلْإِبَاحَةِ ; فَلْتَكُنْ هِيَ مُقْتَضَاهُ.
- قَوْلُهُ: " وَاسْتِفَادَةُ وُجُوبِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ، وَنَحْوِهَا، لَا مِنْ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اسْتَفَدْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التَّوْبَةِ: 5] ، وُجُوبَ قَتْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، بِحُكْمِ الْعَهْدِ ; فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ كَمَا سَبَقَ.
وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَنْعِهِ، لَمْ نَسْتَفِدْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بَلْ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التَّوْبَةِ: 12] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، نَحْوَ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 191] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَلَوْ تُرِكْنَا وَظَاهِرَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ، لَمَا فَهِمْنَا إِلَّا إِبَاحَةَ قِتَالِهِمْ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْوُجُوبُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ ; فَتَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبٍ، كَوُجُوبِ قِتَالِ
(2/372)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ عَلَى نَدْبٍ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 103] ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنْدُوبٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ; فَذَلِكَ دَلِيلٌ آخَرُ.
- قَوْلُهُ: " وَفِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ، التَّحْرِيمُ أَوِ الْكَرَاهَةُ، خِلَافٌ ". هَذِهِ عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّ تِلْكَ فِي وُرُودِ صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَهَذِهِ فِي وُرُودِ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ، كَمَا إِذَا قَالَ: صَلِّ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُصَلِّ، هَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمُ عَمَلًا بِمُقْتَضَى النَّهْيِ، أَوِ الْكَرَاهَةِ، كَمَا اقْتَضَى الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ الْإِبَاحَةَ؟ فِيهِ خِلَافٌ.
قَوْلُهُ: " وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا "، أَيْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَصَّلَ هُنَا، كَمَا فُصِّلَ فِي الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ ; فَيُقَالُ هَاهُنَا: إِنَّ النَّهْيَ بَعْدَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ عُرْفًا، وَالتَّحْرِيمَ لُغَةً، كَمَا قُلْنَا هُنَاكَ: إِنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ عُرْفًا وَالْوُجُوبَ لُغَةً ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَظْرَ هُنَاكَ لَمَّا كَانَ قَرِينَةً فِي حَمْلِ الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا قَرِينَةٌ فِي حَمْلِ النَّهْيِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
- قَوْلُهُ: " وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: الْأَشْبَهُ فِي النَّظَرِ، أَنَّ النَّهْيَ بَعْدَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، حَيْثُ لَمْ يَقْتَضِ الْوُجُوبَ عُرْفًا.
وَتَقْرِيرُ الْفَرْقِ: أَنَّهُ مَثَلًا إِذَا قَالَ لَهُ: صُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَصُمْ ; فَقَدْ رَفَعَ بِهَذَا النَّهْيِ الْإِذْنَ لَهُ أَوَّلًا فِي الصَّوْمِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَإِذَا قَالَ لَهُ: لَا تَصِدْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: صِدْ ; فَهَاهُنَا لَمْ يَرْفَعِ الْإِذْنَ فِي الصَّيْدِ بِكُلِّيَّتِهِ، بَلْ رَفَعَ الْمَنْعَ مِنْهُ ; فَبَقِيَ الْإِذْنُ فِيهِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(2/373)
 
 
الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ تَكَرُّرَ لَفْظِ الْأَمْرِ نَحْوَ: صَلِّ غَدًا، صَلِّ غَدًا اقْتَضَاهُ تَحْصِيلًا لِفَائِدَةِ الْأَمْرِ الثَّانِي، وَإِلَّا فَلَا.
وَقِيلَ: إِنْ عُلِّقَ الْأَمْرُ عَلَى شَرْطٍ، اقْتَضَى التَّكْرَارَ كَالْمُعَلَّقِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ، إِذْ هِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْمُقْتَرِنُ بِالشَّرْطِ لَيْسَ مُطْلَقًا، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ لُغَةً، لَا التَّكْرَارَ.
لَنَا: لَا دَلَالَةَ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ، لَا عَلَى كَمِّيَّةِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: صَلِّ مَرَّةً، أَوْ مِرَارًا، لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ نَقْضًا، وَلَا الثَّانِي تَكْرَارًا.
قَالُوا: النَّهْيُ يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّرْكِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِيهِ ; فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ; فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِ الضِّدِّ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِفِعْلِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي زَمَنٍ مَا، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَرْكَهَا، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا فِي كُلِّ زَمَنٍ ; فَافْتَرَقَا.
وَعَنِ الثَّانِي: بِمَنْعِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَإِنْ سُلِّمَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَضْدَادٌ فَيَتَلَبَّسَ بِغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهَا ; وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ لَا يَتَمَشَّى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ "، مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ " مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي " أَبِي يَعْلَى، " وَبَعْضِ
(2/374)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّافِعِيَّةِ "، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، قَالُوا: هُوَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَهُ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ، وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ نَفَى احْتِمَالَ التَّكْرَارِ، قَالَ: لَا يَحْتَمِلُهُ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِيهِ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ ; لِأَنَّهَا مَقْطُوعٌ بِإِرَادَتِهَا، مَعَ احْتِمَالِ التَّكْرَارِ.
" وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ، نَحْوَ: صَلِّ غَدًا، صَلِّ غَدًا ".
اقْتَضَى التَّكْرَارَ " تَحْصِيلًا لِفَائِدَةِ الْأَمْرِ الثَّانِي "، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ، لَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ مُكَرَّرًا كَذِكْرِهِ غَيْرَ مُكَرَّرٍ ; فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ كُرِّرَ تَأْكِيدًا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إِذْ فَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ " وَإِلَّا فَلَا "، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظُ الْأَمْرِ، نَحْوَ: صَلِّ غَدًا، لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ.
" وَقِيلَ: إِنْ عُلِّقَ الْأَمْرُ عَلَى شَرْطٍ "، نَحْوَ: إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَوْ زَالَتْ، أَوْ غَرَبَتْ فَصَلِّ ; " اقْتَضَى التَّكْرَارَ " بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، " كَالْمُعَلَّقِ عَلَى الْعِلَّةِ " يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِهَا، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْلُهُ: " وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ "، أَيْ: لَيْسَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَصْلُحُ دُخُولُهَا تَحْتَ فَرْضِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ، هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا؟ " وَالْمُقْتَرِنُ بِالشَّرْطِ لَيْسَ مُطْلَقًا " فَالتَّكْرَارُ فِيهِ لِقَرِينَةِ الشَّرْطِ، لَا لِكَوْنِهِ أَمْرًا. وَكَذَلِكَ لَوِ اقْتَرَنَ بِالْأَمْرِ قَرِينَةُ تَكْرَارٍ غَيْرِ الشَّرْطِ، أَوْ قَرِينَةُ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ; وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْقَرِينَةِ.
(2/375)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إِذَا تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ ; فَيَقْتَضِي التَّكْرَارَ، أَوْ لَا ; فَلَا ; فَغَيْرُ مُؤَثِّرٌ ; لِأَنَّ تَكْرَارَ لَفْظِ الْأَمْرِ، إِنَّمَا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لُغَةً لَا التَّكْرَارَ.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ أَنْ فَائِدَةَ التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ ; فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَوْلُهُ: " لَنَا ": إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ عَدَمِ التَّكْرَارِ وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا دَلَالَةَ لَهَا " إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ " وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى كَمِّيَّتِهِ، أَيْ: عَلَى مِقْدَارِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ. فَإِذَا قَالَ لَهُ: صَلِّ ; فَإِنَّمَا اقْتَضَى ذَلِكَ إِيقَاعَ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ، لَا عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا مُطْلَقٍ، حَتَّى يَجِبَ لِأَجْلِهِ التَّكْرَارُ. وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَيَخْرُجُ بِهَا عَنِ الْعُهْدَةِ ; فَلَا يَجِبُ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ الْمُرَادُ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ لَوِ اقْتَضَى التَّكْرَارَ، لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: صَلِّ مَرَّةً، تَنَاقُضًا ; لِأَنَّ صَلِّ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَبِقَوْلِهِ: مَرَّةً، قَدْ نَقَضَ مُقْتَضَاهُ فِي التَّكْرَارِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: صَلِّ مِرَارًا، لَكَانَ تَكْرَارًا ; لِأَنَّ صَلِّ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ; فَقَوْلُهُ: " مِرَارًا " ; لَمْ يُفِدْ فَائِدَةً زَائِدَةً ; فَكَانَ تَكْرَارًا، لَكِنَّ قَوْلَهُ: صَلِّ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا ; لَيْسَ نَقْضًا وَلَا تَكْرَارًا ; فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ لِلتَّكْرَارِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّكْرَارِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ نَقِيضُ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّ " النَّهْيَ يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّرْكِ "
(2/376)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِاتِّفَاقٍ ; فَالْأَمْرُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُهُ يَجِبُ أَنْ يَقْتَضِيَ تَكْرَارَ الْأَمْرِ.
الثَّانِي: أَنْ " الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ "، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْأَمْرُ تَكْرَارَ تَرْكِ ذَلِكَ الضِّدِّ، وَذَلِكَ بِتَكْرَارِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ. مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ لَهُ: صُمْ ; فَقَدْ نَهَاهُ عَنِ الْفِطْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّوْمِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْفِطْرِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَكْرَارِ الصَّوْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
قَوْلُهُ: " وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ "، أَيْ: عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ دَلِيلِهِمْ - وَهُوَ قِيَاسُ الْأَمْرِ عَلَى النَّهْيِ، فِي اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ - بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ مَاهِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ " بِفِعْلِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا، فِي زَمَنٍ مَا مِنَ الْأَزْمَانِ "، أَيَّ زَمَنٍ كَانَ، كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ، حَصَلَ مُصَلِّيًا بِفِعْلِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي تَرْكَ مَاهِيَّتِهِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ " لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ "، كَمَا إِذَا نَهَاهُ عَنِ الزِّنَى ; فَالْمَقْصُودُ تَرْكُ مَاهِيَّتِهِ، بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِهَا مَا عَاشَ، حَتَّى لَوْ عُمِّرَ أَلْفَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَزَنَى فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ عُمُرِهِ لَعُدَّ مُخَالِفًا عَاصِيًا. وَإِذَا كَانَ مُقْتَضَى النَّهْيِ إِعْدَامَ الْمَاهِيَّةِ مُطْلَقًا ; وَمُقْتَضَى الْأَمْرِ إِيجَادَهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِهَا مَرَّةً، لَمْ يَلْزَمْ مِنِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ التَّكْرَارَ، اقْتِضَاءُ الْأَمْرِ لَهُ ; فَافْتَرَقَا.
وَأُجِيبَ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِ الضِّدِّ بِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ تَكْرَارِ تَرْكِ الضِّدِّ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ لِكَوْنِنَا قَدْ قُلْنَا بِهِ فِيمَا بَعْدُ، لَكِنْ " لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ " ; فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَضْدَادٌ فَيَتَلَبَّسُ بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْهَا "، مِثَالُهُ: أَنَّ الْقِيَامَ
(2/377)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْقُعُودَ وَالِاضْطِجَاعَ ; أَضْدَادٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهَا، فَإِذَا أُمِرَ بِالْقِيَامِ ; فَالْقُعُودُ ضِدٌّ لَهُ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ ضَرُورَةً، صَحَّ إِتْيَانُهُ بِالْقِيَامِ. فَإِذَا تَرَكَ الْقُعُودَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِالْقِيَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَسْجُدَ أَوْ يَرْكَعَ أَوْ يَضْطَجِعَ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُنَا: " فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ "، وَهُوَ الْقُعُودُ هَاهُنَا، " فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ " وَهُوَ الْقِيَامُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ: " الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ; فَيَقْتَضِي تَكْرَارُ تَرْكِ الضِّدِّ " ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ لَوْ كَانَ تَكْرَارُ تَرْكِ الضِّدِّ، وَهُوَ الْقُعُودُ مَثَلًا، يَسْتَلْزِمُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الْقِيَامُ، لِيَكُونَ فِعْلُهُ مُتَكَرِّرًا. لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ التَّلَبُّسِ بِالْوَاسِطَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ: " وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ لَا يَتَمَشَّى "، هَذَا تَضْعِيفٌ لِهَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي عَلَى تَقْرِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي قَدْ أَطَلْنَا فِيهِ آنِفًا. وَبَيَانُ ضَعْفِهِ أَنَّ قَوْلَنَا: " لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ " ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَضْدَادِهِ بِحَيْثُ إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَاحِدًا مِنْهَا، وَتَبْقَى بَقِيَّةُ أَضْدَادِهِ يَجُوزُ التَّلَبُّسُ بِهَا فَتَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ; الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا قَرَّرْنَا. لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الصَّحِيحُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ نَهْيٌ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ جَمِيعًا.
وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْأَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، التَّلَبُّسُ بِالضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ ; فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَكْرَارُ فِعْلِهِ بِوَاسِطَةِ وُجُوبِ تَكْرَارِ تَرْكِ أَضْدَادِهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْلَمُ لَهُمْ دَلِيلُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِ الضِّدِّ "، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَكْرَارُ الْمَأْمُورِ بِهِ.
قُلْتُ: فَيُشْبِهُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ ذَوَاتِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ الْكَعْبِيِّ
(2/378)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ لِذَاتِهِ بِوَضْعِهِ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا، وَبِاسْتِلْزَامِ تَكْرَارِ تَرْكِ أَضْدَادِهِ تَكْرَارُهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ; فَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَعَدَمَهُ، بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ. فَإِنْ صَحَّ لَنَا هَذَا رَجَعَ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًا، إِذْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: الْأَمْرُ بِوَضْعِهِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَآخَرِينَ قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِالِالْتِزَامِ كَمَا تَقَرَّرَ.
(2/379)
 
 
الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَمْرٍ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا الصِّيغَةُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
لَنَا: الْآمِرُ بِالسُّكُونِ نَاهٍ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَبِالْعَكْسِ ضَرُورَةٌ.
قَالُوا: قَدْ يَأْمُرُ بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ ضِدِّهِ، وَالْأَمْرُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ ضَرُورِيٌّ، لَا اقْتِضَائِيٌّ طَلَبِيٌّ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ تَرْكُ الْحَرَكَةِ بِدُونِ السُّكُونِ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ.
قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا الصِّيغَةُ "، أَيْ مِنْ جِهَةِ الِالْتِزَامِ عَقْلًا " خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ "، هَذَا نَقْلُ " الْمُخْتَصَرِ " - وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ هَلْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ، وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ.
قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: لَيْسَ الْأَمْرُ بِعَيْنِهِ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَهَلْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى؟ مَنَعَهُ قُدَمَاؤُهُمْ، وَأَثْبَتَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْإِيجَابِ، دُونَ النَّدْبِ.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ ; لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَإِلَّا كَانَ نَهْيًا عَنْهَا مُطْلَقًا، فِي أَمْرِ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ، بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ.
قُلْتُ: وَهُوَ تَحْقِيقٌ جَيِّدٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ مِنْ حَيْثُ
(2/380)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَعْنَى، لَا الصِّيغَةُ، أَوْ نَهْيٌ عَنْهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ الْتِزَامِيٌّ، لَا لَفْظِيٌّ، كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُمْ، غَيْرُ قَوْلِهِ: لَا تَقْعُدْ، وَقَوْلُهُ: تَحَرَّكْ، غَيْرُ قَوْلِهِ: لَا تَسْكُنْ، لَفْظًا وَمَعْنًى، وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ قِيَامِهِ أَنْ لَا يَقْعُدَ، وَمِنْ حَرَكَتِهِ أَنْ لَا يَسْكُنَ، لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ.
وَمَنْ يَقُولُ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَحَدِ أَضْدَادِهِ بِعَيْنِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: قُمْ، يُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْتِفَادَةُ لَفْظِيَّةِ عَدَمِ الْقُعُودِ، لَا اسْتِفَادَةٌ الْتِزَامِيَّةٌ، أَيْ أَنَّ طَلَبَ عَدَمِ الْقِيَامِ بِعَيْنِهِ هُوَ طَلَبُ الْقُعُودِ، وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرْجِعُ هَؤُلَاءِ إِلَى الْأَوَّلِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: فِعْلُ الضِّدِّ هُوَ عَيْنُ تَرْكِ ضِدِّهِ الْآخَرِ ; فَالسُّكُونُ عَيْنُ تَرْكِ الْحَرَكَةِ، وَالْبُعْدُ مِنَ الْمَغْرِبِ هُوَ الْقُرْبُ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ مَعْنَيَانِ إِضَافِيَّانِ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ مَعْنَيَانِ حَقِيقِيَّانِ ; فَلَا يَصِحُّ التَّنْظِيرُ وَالْقِيَاسُ.
عُدْنَا إِلَى تَوْجِيهِ كَلَامِ " الْمُخْتَصَرِ ".
قَوْلُهُ: " لَنَا ": أَيْ: عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ: أَنَّ " الْآمِرَ بِالسُّكُونِ نَاهٍ عَنِ الْحَرَكَةِ. وَبِالْعَكْسِ، أَيْ: وَالْآمِرُ بِالْحَرَكَةِ نَاهٍ عَنِ السُّكُونِ " ضَرُورَةَ " أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْأَضْدَادِ لَا يَجْتَمِعَانِ ; فَالْأَمْرُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْآخَرِ، كَمَا تَسْتَلْزِمُ الْحَرَكَةُ تَرْكَ السُّكُونِ، وَالسُّكُونُ تَرْكَ الْحَرَكَةِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ، ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِ
(2/381)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمِيعِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْقِيَامِ مَعَ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقُعُودِ، وَالِاضْطِجَاعِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْأَمْرِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَعَ أَضْدَادِهِ الْبَاقِيَةِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، كَالْحَرَكَةِ مَعَ السُّكُونِ ; فَالْأَمْرُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الضِّدِّ. أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ ; فَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَضْدَادِهِ، إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ، لِاسْتِحَالَةِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بِدُونِ التَّلَبُّسِ بِمَا يُنَافِيهِ، لِيَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ التَّلَبُّسُ ضَرُورِيٌّ، يَنْدَفِعُ بِفِعْلِ ضِدٍّ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِيجَادَ بَقِيَّةِ الْأَضْدَادِ، كَمَا فِي الْأَمْرِ ; فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ أَوْ أَضْدَادٌ، تَعَيَّنَ النَّهْيُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، تَعَيَّنَ الْأَمْرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ ; فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْهَا وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ، ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَلَى فِعْلِ الضِّدِّ، الْمُعَيَّنِ أَوِ الْمُبْهَمِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا "، يَعْنِي الْمَانِعِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ: " قَدْ يَأْمُرُ بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ " مَنْ يَغْفُلُ عَنِ الْآخَرِ، وَيَنْهَى عَنْ أَحَدِهِمَا مَنْ يَغْفُلُ عَنِ الْآخَرِ ; فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا نَهْيًا عَنِ الْآخَرِ، أَوِ النَّهْيُ عَنْ أَحَدِهِمَا أَمْرًا بِالْآخَرِ، لَمَا صَحَّتِ الْغَفْلَةُ عَنْ أَحَدِهِمَا، إِذِ الْأَمْرُ بِهِ، أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ لَا يُتَصَوَّرُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَسْتَدْعِيَانِ تَصَوُّرَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِيَصِحَّ تَوَجُّهُ الْقَصْدِ إِلَيْهِمَا، لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِهِمَا. قَالُوا: وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ تَوَقُّفِ فِعْلِ
(2/382)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدِ الضِّدَّيْنِ، عَلَى تَرْكِ الْآخَرِ، " هُوَ ضَرُورِيٌّ، لَا اقْتِضَائِيٌّ طَلَبِيٌّ "، أَيْ: هُوَ مِنْ حَيْثُ ضَرُورَةُ التَّوَقُّفِ الْمَذْكُورِ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنِ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ، وَطَلَبِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ، يَعْنِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَطْلُبُ بِقَوْلِهِ: تَحَرَّكْ، تَرْكَ السُّكُونِ، بَلْ تَرْكُ السُّكُونِ وَجَبَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْحَرَكَةَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ تَرْكُ الْحَرَكَةِ مَثَلًا، بِدُونِ السُّكُونِ، أَوِ التَّحَرُّكِ، بِدُونِ تَرْكِ السُّكُونِ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ "، أَيْ: هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا الصِّيغَةُ، أَيْ: أَنَّ تَرْكَ أَضْدَادِهِ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِمُقْتَضَى لَفْظِ الْأَمْرِ، بَلْ لِضَرُورَةِ تَوَقُّفِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحَالَةِ فِعْلِ الشَّيْءِ بِدُونِ تَرْكِ أَضْدَادِهِ.
 
أَقْسَامُ الْمَعْلُومَاتِ: فَرْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَعْلُومَاتُ كُلُّهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: نَقِيضَانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ، كَوُجُودِ زَيْدٍ وَعَدَمِهِ، وَضِدَّانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَخِلَافَانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ يَجْتَمِعَانِ وَيَرْتَفِعَانِ كَالْحَرَكَةِ وَالْبَيَاضِ. وَمِثْلَانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مَعَ تَسَاوِي الْحَقِيقَةِ، كَالْبَيْضِ وَالْبَيَاضِ.
قُلْتُ: فَالْجَامِعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالضِّدَّيْنِ، وَالْمِثْلَيْنِ: عَدَمُ إِمْكَانِ
(2/383)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاجْتِمَاعِ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ: جَوَازُ الِارْتِفَاعِ فِيهِمَا، دُونَ النَّقِيضَيْنِ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالْمِثْلَيْنِ: اخْتِلَافُ الْحَقِيقَةِ فِي الضِّدَّيْنِ، وَتَسَاوِيهِمَا فِي الْمِثْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ جَوَازُ الِاجْتِمَاعِ فِيهِمَا دُونَهَا.
وَدَلِيلُ حَصْرِ الْمَعْلُومَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: أَنَّ الْمَعْلُومَيْنِ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ اجْتِمَاعُهُمَا أَوْ لَا، فَإِنْ أَمْكَنَ ; فَهُمَا الْخِلَافَانِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اجْتِمَاعُهُمَا ; فَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ ارْتِفَاعُهُمَا، وَهُمَا النَّقِيضَانِ، أَوْ يُمْكِنَ ارْتِفَاعُهُمَا، فَإِنْ كَانَ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَةِ ; فَهُمَا الضِّدَّانِ، وَإِلَّا ; فَهُمَا الْمِثْلَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ فِي الضِّدَّيْنِ: إِنَّهُمَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مُشْكِلٌ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، لَا يَرْتَفِعَانِ عَنِ الْجِسْمِ، وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، وَالْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، لَا يَرْتَفِعَانِ عَنِ الْحَيِّ، وَهِيَ مِنْ بَابِ الْأَضْدَادِ.
قُلْنَا: إِمْكَانُ الِارْتِفَاعِ أَعَمُّ مِنْهُ، مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ أَوْ عَدَمِهِ، وَنَحْنُ نُرِيدُ إِمْكَانَ ارْتِفَاعِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ، لَمْ يَكُنْ جِسْمٌ مُتَحَرِّكٌ وَلَا سَاكِنٌ، وَلَا حَيَوَانٌ حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ، وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ ; فَقَدْ صَحَّ ارْتِفَاعُهُمَا لِارْتِفَاعِ مَحَالِّهَا، بِخِلَافِ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَرْتَفِعَا قَبْلَ الْعَالَمِ، بَلْ كَانَ الْعَدَمُ ثَابِتًا.
الْفَرْعُ الثَّانِي: زَعَمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النِّزَاعَ فِي وُجُوبِ النِّكَاحِ وَعَدِمِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، قَالَ: لِأَنَّا إِذَا
(2/384)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْنَا بِذَلِكَ ; فَالْمُكَلَّفُ مَنْهِيٌّ عَنِ الزِّنَى ; فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِضِدِّهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ; فَيَكُونُ النِّكَاحُ وَاجِبًا.
قُلْتُ: وَهَذَا تَخْرِيجٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ ; فَالنَّهْيُ عَنْ أَمْرٍ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ، وَالزِّنَى لَمْ يَنْحَصِرْ ضِدُّهُ فِي النِّكَاحِ، بَلْ لَيْسَ ضِدًّا لَهُ أَصْلًا، إِنَّمَا ضِدُّ الزِّنَى تَرْكُهُ، لَكِنَّ تَرْكَهُ قَدْ يَكُونُ بِالنِّكَاحِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّسَرِّي، وَقَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِعْفَافِ مَعَ التَّعَزُّبِ ; فَلَا يَتَعَيَّنُ النِّكَاحُ لِلتَّلَبُّسِ بِهِ، بَلْ يَلْزَمُ قَائِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ، الْمَنْهِيُّ عَنِ الزِّنَى، مَأْمُورًا بِالنِّكَاحِ، أَوِ التَّسَرِّي عَلَى التَّخْيِيرِ ; لِأَنَّ تَرْكَ الزِّنَى يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ; فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ. فَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ، صَحَّ لَهُ التَّخْرِيجُ الْمَذْكُورُ، لَكِنَّ التَّسَرِّيَ لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ، تَعْيِينًا وَلَا تَخْيِيرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/385)
 
 
الْخَامِسَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْفَوْرُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فِي الْفَوْرِ وَالتَّكْرَارِ وَضِدِّهِمَا، لِلتَّعَارُضِ. لَنَا: {وَسَارِعُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 133] ، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [الْحَدِيدِ: 21] ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَلَوْ أَخَّرَ الْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ الْمُجَرَّدِ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَأَوْلَى الْأَزْمِنَةِ بِالِامْتِثَالِ عَقِيبَ الْأَمْرِ احْتِيَاطًا وَتَحْصِيلًا لَهُ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ إِمَّا لَا إِلَى غَايَةٍ ; فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا لَا إِلَى بَدَلٍ ; فَيُلْحَقُ بِالْمَنْدُوبَاتِ. أَوْ إِلَى بَدَلٍ ; فَهُوَ إِمَّا الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ، لِعَدَمِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهَا، أَوِ الْعَزْمِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ لِوُجُوبِهِ قَبْلَ وَقْتِ الْمُبْدَلِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْبَدَلِ حِينَئِذٍ.
أَوْ إِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ ; فَهُوَ جَهَالَةٌ، أَوْ مَعْلُومَةٌ ; فَتَحَكُّمٌ وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
أَوْ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ إِدْرَاكُهُ ; فَبَاطِلٌ، لِإِتْيَانِ الْمَوْتِ بَغْتَةً.
قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ ; فَالتَّخْصِيصُ بِالْفَوْرِ تَحَكُّمٌ، وَتَعَلُّقُ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ ضَرُورِيٌّ، وَالضَّرُورَةُ تُدْفَعُ بِأَيِّ زَمَنٍ كَانَ ; وَلِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ ; فَلَا يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ كَالْمَكَانِ وَالْآلَةِ وَالْمَحَلِّ، وَالْأَدِلَّةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَقَوْلُ الْوَاقِفِيَّةِ ضَعِيفٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الْخَامِسَةُ: الْأَمْرُ إِنِ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةُ فَوْرٍ أَوْ تَرَاخٍ ; عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا، أَيْ: مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةٍ ; فَهُوَ
(2/386)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلْفَوْرِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْفَوْرُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ " وَمَالِكٍ، " وَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ " وَعِنْدَ مَغَارِبَةِ الْمَالِكِيَّةِ. " وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فِي الْفَوْرِ وَالتَّكْرَارِ، وَضِدِّهِمَا "، مَعَ التَّرَاخِي وَالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْوَاقِفِيَّةَ، تَوَقَّفُوا فِي اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ، فَلَمْ يَجْزِمُوا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَكَذَلِكَ تَوَقَّفُوا فِي اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ وَالْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ. وَقَدْ سَبَقَتْ مَسْأَلَةُ التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: كُلُّ مَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّكْرَارِ، حَمَلَهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُبَادِرُ مُمْتَثِلٌ قَطْعًا ; لَكِنْ هَلْ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالتَّوَقُّفُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤَخِّرِ ; هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُبَادِرُ أَيْضًا مُتَوَقَّفٌ فِيهِ ; هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ أَوْ لَا؟ وَخَالَفَ بِذَلِكَ إِجْمَاعَ السَّلَفِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ بِفِعْلِهِ مُمْتَثِلٌ ; قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَمَعْنَى الْفَوْرِ: هُوَ الشُّرُوعُ فِي الِامْتِثَالِ عَقِيبَ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَتِ الْقِدْرُ، إِذَا غَلَتْ، وَذَهَبْتُ مَكَانَ كَذَا، ثُمَّ أَتَيْتُ فُلَانًا مِنْ فَوْرِي، أَيْ: قَبْلَ أَنْ أَسْكُنَ. وَالتَّرَاخِي تَأْخِيرُ الِامْتِثَالِ عَنِ انْقِضَاءِ الْأَمْرِ، زَمَنًا يُمْكِنُ إِيقَاعُ الْفِعْلِ فِيهِ ; فَصَاعِدًا.
- قَوْلُهُ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ; إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِيهِ خِلَافًا عَنْ أَحْمَدَ ; فَإِنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي، مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهُوَ
(2/387)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي هَذَا الْأَصْلِ ; اسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَجِّ ; فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ وَالْأُصُولَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ عَنْهُ نَصٌّ، بِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى التَّرَاخِي ; فَذَاكَ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: سَارِعُوا، سَابِقُوا "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 133] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الْحَدِيدِ: 21] .
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالْمُسَارَعَةِ، وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ، وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ مُسَارَعَةً إِلَى الْمَغْفِرَةِ، أَيْ: إِلَى سَبَبِهَا، وَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، " وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ "، كَمَا سَبَقَ ; فَيَكُونُ الْفَوْرُ وَاجِبًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخَّرَ أَمْرَ سَيِّدِهِ الْمُطْلَقِ، زَمَنًا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ
(2/388)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ ; اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ أَمْكَنَ امْتِثَالُهُ، فِي أَيِّ زَمَنٍ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ، لَكِنَّ أَوْلَى الْأَزْمِنَةِ بِأَنْ يُمْتَثَلَ الْأَمْرُ فِيهِ، الزَّمَنُ الَّذِي هُوَ عَقِيبُ الْأَمْرِ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحْوَطُ، لِاحْتِمَالِ الْعِقَابِ عَلَى التَّأْخِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ عَقِيبَ الْأَمْرِ، يُعَدُّ بِهِ مُمْتَثِلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا أَخَّرَ، كَانَ مُخْتَلَفًا فِي امْتِثَالِهِ، لَكِنْ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، إِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُبَادَرَةَ أَوْلَى، لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ، لَكِنْ قَدْ يُوَجَّهُ الْوُجُوبُ، بِأَنَّ فِي الْمُبَادَرَةِ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ ; فَيَكُونُ وَاجِبًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّأْخِيرَ لَوْ جَازَ، لَكَانَ إِمَّا لَا إِلَى غَايَةٍ، أَوْ إِلَى غَايَةٍ.
وَالْأَوَّلُ: وَهُوَ التَّأْخِيرُ لَا إِلَى غَايَةٍ، مُفَوِّتٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُؤَخِّرَهُ لَا إِلَى بَدَلٍ ; فَيُلْحَقُ بِالْمَنْدُوبَاتِ، أَيْ: يَصِيرُ مَنْدُوبًا، إِذِ الْمَنْدُوبُ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، وَتَرْكُهُ لَا إِلَى بَدَلٍ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، لَا يُؤَخَّرُ إِلَّا إِلَى بَدَلٍ، كَمَا فِي الْمُوَسَّعِ، أَوْ يُؤَخِّرُهُ إِلَى بَدَلٍ ; فَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا الْوَصِيَّةُ بِفِعْلِهِ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَصِحُّ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، لِعَدَمِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهِمَا، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْعَزْمَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ الْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْمُبْدَلِ، كَالْعَزْمِ عَلَى الظُّهْرِ
(2/389)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْلَ الزَّوَالِ هُوَ وَاجِبٌ، وَالظُّهْرُ الَّتِي يُقَدَّرُ أَنَّهَا مُبْدَلٌ ; لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ ; فَثَبَتَ أَنَّ الْعَزْمَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ الْفِعْلِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ، إِذْ شَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُبْدَلِ، وَالْعَزْمُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، إِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنِ التَّعْجِيلِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْوَاجِبِ كَمَا سَبَقَ، وَإِذَا بَطَلَ تَأْخِيرُ الِامْتِثَالِ إِلَى بَدَلٍ، أَوْ لَا إِلَى بَدَلٍ، بَطَلَ تَأْخِيرُهُ لَا إِلَى غَايَةٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ ; فَبَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ تِلْكَ الْغَايَةَ ; إِمَّا مَجْهُولَةٌ، أَوْ مَعْلُومَةٌ، أَوْ مُغَلَّبَةٌ عَلَى الظَّنِّ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ ; فَالْقَوْلُ بِتَأْخِيرِ الِامْتِثَالِ إِلَى غَايَةٍ بَاطِلٌ: أَمَّا التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ ; فَهُوَ جَهَالَةٌ لَا تُنَاطُ بِهَا الْأَحْكَامُ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَضْيِيعِهَا، وَغَرَضُ الشَّرْعِ حِفْظُهَا.
وَأَمَّا التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ ; فَبَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْغَايَاتِ الزَّمَانِيَّةِ، بِالتَّأْخِيرِ إِلَيْهِ، دُونَ بَعْضٍ، تَحَكُّمٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، إِذِ الْأَزْمِنَةُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيقَاعِ الْفِعْلِ مُتَسَاوِيَةٌ، عَدَا الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ عَقِيبُ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ بِقُرْبِهِ مِنْ زَمَنِ الْأَمْرِ ; فَلَوْ قِيلَ لِلْمُكَلَّفِ: صُمْ أَوْ صَلِّ، أَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: سَافِرْ إِلَى بِلَادِي ; فَانْظُرْ فِي مَصَالِحِهَا ; فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ الْآنَ عَلَى الْفَوْرِ، لَكِنِّي أَفْعَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ لَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْلَى بِالِامْتِثَالِ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ أَوِ السَّبْتِ؟ فَإِنْ طَلَبَ الْمُرَجِّحَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: الْمُرَجِّحُ اخْتِيَارِي لِذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَبْدٌ مَأْمُورٌ، لَا اخْتِيَارَ لَكَ.
وَأَمَّا التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ مُغَلَّبَةٍ عَلَى الظَّنِّ، أَيْ: تَأْخِيرُ الْفِعْلِ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ
(2/390)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى ظَنِّهِ إِدْرَاكُهُ ; فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً ; فَلَا يُمْكِنُهُ الْجَزْمُ بِظَنٍّ مِنَ الظُّنُونِ، إِذِ الْمَوْتُ رُبَّمَا أَسْرَعَ إِلَى الشَّابِّ الْجَذَعِ، وَتَأَخَّرَ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَلَيْسَ لِوَقْتِ مَجِيئِهِ ضَابِطٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَوَّزْتُمْ تَأْخِيرَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، مَعَ الْعَزْمِ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ الْبَقَاءُ إِلَيْهِ، فَلِمَ لَا يُجَوَّزُ هَاهُنَا كَذَلِكَ؟ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ: بِأَنَّ الْمُوَسَّعَ وَقَعَتْ فِيهِ الْمُسَامَحَةُ الزَّمَانِيَّةُ، مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، بِالتَّوَسُّعِ، بِخِلَافِ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَلَسْنَا عَلَى يَقِينٍ، وَالظَّنُّ مِنَ الْمُتَسَامَحِ فِيهِ ; فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
- قَوْلُهُ: " قَالُوا: " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّرَاخِي، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ " الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا " مِنْ زَمَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: صَلِّ، إِنَّمَا يَقْتَضِي إِيقَاعَ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ ; فَوَجَبَ أَنْ يُجَوَّزَا
(2/391)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمِيعًا، وَإِلَّا كُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا مَا لَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ حَرَامٌ ; فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَيْضًا حَرَامٌ ; فَإِيجَابُ الْفَوْرِ إِذَنْ حَرَامٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ " نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ "، لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَلِصِحَّةِ وُقُوعِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْهَا، وَإِذَا اسْتَوَتْ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِهَا، كَانَ تَخْصِيصُهُ بِالْفَوْرِ تَحَكُّمًا، وَتَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ " تَعَلُّقَ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ "، أَيْ: احْتِيَاجُ الْفِعْلِ إِلَى الزَّمَانِ، " ضَرُورِيٌّ "، أَيْ: لِضَرُورَةِ أَنَّ الْفِعْلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ لَا فِي زَمَانٍ، وَإِذَا كَانَ تَعَلُّقُ الزَّمَنِ بِهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ; فَهِيَ تَنْدَفِعُ بِإِيقَاعِهِ فِي أَيِّ زَمَنٍ كَانَ، تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَوْرَ لَا يَتَعَيَّنُ، وَأَنَّ التَّأْخِيرَ جَائِزٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ " الزَّمَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ "، أَيْ: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ، وَالْآلَةَ، وَالْمَحَلَّ مِنْ لَوَازِمِهِ أَيْضًا، ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ مَكَانٍ، أَوْ آلَةٍ، أَوْ مَحَلٍّ، دُونَ غَيْرِهِ ; فَلِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ زَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: تَوَضَّأْ، لَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، بِأَيِّ
(2/392)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَاءٍ طَهُورٍ شَاءَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْوُضُوءِ مَكَانٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا مَاءٌ مِنَ الْمِيَاهِ الطَّهُورِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اصْنَعْ لِي سَرِيرًا أَوْ بَابًا ; لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَمَلِ الْبَابِ مَكَانٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا قَدُومٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا خَشَبٌ دُونَ خَشَبٍ، وَهُوَ مَحَلُّ الْفِعْلِ ; فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ زَمَانٌ دُونَ غَيْرِهِ.
- قَوْلُهُ: " وَالْأَدِلَّةُ مُتَقَارِبَةٌ "، يَعْنِي أَدِلَّةَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي مِنَ الطَّرَفَيْنِ، مُتَقَارِبَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَلِكُلٍّ مِنْهَا اتِّجَاهٌ، فَإِنْ جَازَ لَنَا نُصْرَةُ الْمَذْهَبِ الظَّاهِرِ - وَهُوَ الْفَوْرُ - أَجَبْنَا عَنْ أَدِلَّةِ أَصْحَابِ التَّرَاخِي.
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ لَا غَيْرَ ; فَبِأَنَّ هَذَا مُطَالَبَةٌ بِدَلِيلِ الْفَوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِأَدِلَّتِنَا.
وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ ; فَالتَّخْصِيصُ بِالْفَوْرِ تَحَكُّمٌ ; فَبِأَنْ نَقُولَ: نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، إِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ قَصْدُ الشَّرْعِ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ تَحَكُّمًا، كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ، وَهُوَ جَوَازُ عُقُوبَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى تَأْخِيرِ الِامْتِثَالِ.
وَأَمَّا عَنِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ ضَرُورِيٌّ ; فَبِنَحْوِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ ضَرُورِيٌّ عَقْلًا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ، لَا فِي زَمَانٍ. أَمَّا شَرْعًا ; فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، يَخْتَارُ الشَّرْعُ إِيقَاعَهُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ
(2/393)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضٍ لِأَجْلِهَا ; فَلَا يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِالْفِعْلِ حِينَئِذٍ ضَرُورِيًّا، بَلِ اخْتِيَارِيًّا.
وَأَمَّا عَنِ الرَّابِعِ ; فَبِالْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ تَعْيِينِ الزَّمَانِ لِلْفِعْلِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِهِ وَإِضَاعَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، بِخِلَافِ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ، وَالْآلَةِ، وَالْمَحَلِّ ; فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَعْيِينِ زَمَانِ الْفِعْلِ ; فَالزَّمَنُ الْأَوَّلُ وَهُوَ زَمَنُ الْفَوْرِ أَوْلَى بِالتَّعْيِينِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخَّرَ امْتِثَالَ أَمْرِ سَيِّدِهِ عَنْ زَمَنِ فَوْرِهِ، جَازَ لَهُ عُقُوبَتُهُ، وَلَوْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْأَمْرِ ; لَمْ يَجُزْ لَهُ عُقُوبَتُهُ ; فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
- قَوْلُهُ: " وَقَوْلُ الْوَاقِفِيَّةِ ضَعِيفٌ "، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُجَّتَهُمْ أَنَّ أَدِلَّةَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي تَعَارَضَتْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ; فَوَجَبَ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرَجِّحِ.
وَبَيَانُ ضَعْفِهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مُطْلَقُ التَّعَارُضِ يُبِيحُ الْوَقْفَ، بَلِ التَّعَارُضُ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، لَا التَّعَارُضُ فِي بَادِي الرَّأْيِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ طَرَفَ الْفَوْرِ رَاجِحٌ ; فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. فَلَا يَتَّسِعُ لَهُمْ أَنْ يَقِفُوا عَنْ مُتَابَعَةِ مَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الرُّجْحَانُ ; فَتَوَقَّفْنَا.
(2/394)
 
 
السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَا يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ، خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ وَالْأَكْثَرِينَ.
لَنَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ شَغْلِ الذِّمَّةِ إِلَّا بِامْتِثَالٍ أَوْ إِبْرَاءٍ.
قَالُوا: الْمُوَقَّتُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ أَمْرًا بِالْآخَرِ.
قُلْنَا: بَلْ مُقْتَضَى الْمُوَقَّتِ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ وُجُوبُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ: «السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَا يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ» ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، «خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ، وَالْأَكْثَرِينَ» ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ، عِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: مَا إِذَا أَمَرَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ; فَهَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُ قَضَائِهَا عَلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ؟
أَوْ لَا تَسْقُطُ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي وَجَبَتْ بِهِ صَلَاةُ الْفَجْرِ فِي وَقْتِهَا؟
أَوْ يَجِبُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ، كَمَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ؟
يُرِيدُ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عُهِدَ مِنْهُ إِيثَارُ اسْتِدْرَاكِ عُمُومِ الْمَصَالِحِ الْفَائِتَةِ، عَلِمْنَا مِنْ عَادَتِهِ بِذَلِكَ، أَنَّهُ يُؤْثِرُ اسْتِدْرَاكَ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، بِقَضَائِهِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي ; فَكَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنَ الْقِيَاسِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ شَغْلِ الذِّمَّةِ، إِلَّا بِامْتِثَالٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ» . هَذَا
(2/395)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دَلِيلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَسْقُطُ بِتَرْكِهِ فِي وَقْتِهِ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ بَعْدَهُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الذِّمَّةَ إِذَا اشْتَغَلَتْ بِوَاجِبٍ لِلشَّرْعِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ، لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ إِلَّا بِالِامْتِثَالِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْوَاجِبِ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّرْعُ: نَسَخْتُ عَنْكَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، أَوِ الْآدَمِيُّ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَتِ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِالْوَاجِبِ، مَا لَمْ يُوجَدْ أَدَاءٌ لَهُ، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ ; فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ بِالْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ فِي وَقْتِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ إِبْرَاءٌ ; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ ; فَتَكُونُ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْأَدَاءِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ، لَكِنَّ الْإِبْرَاءَ صَارَ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَنِ الْوَحْيِ مُمْتَنِعًا ; فَتَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ اصْطِلَاحًا قَدْ فَاتَ بِالتَّأْخِيرِ ; فَتَعَيَّنَ الْقَضَاءُ فِيمَا بَعْدَهُ، لِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْمُؤَقَّتُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ أَمْرًا بِالْآخَرِ» .
هَذَا حُجَّةُ الْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مَثَلًا: صَلِّ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَمْرٌ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ. وَقَوْلُهُ: اقْضِ هَذَا الْفَائِتَ، أَمْرٌ مُطْلَقٌ، لَا تَقْيِيدَ فِيهِ، وَالْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا، أَيْ: بِالْمُقَيَّدِ، لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْآخَرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِالْوَقْتِ، كَتَخْصِيصِ الْفِعْلِ بِمَكَانٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ جِهَةٍ ; فَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتِ الزَّوَالِ، وَشَهْرِ رَمَضَانَ، كَتَخْصِيصِ الْحَجِّ بِمَكَّةَ، وَالزَّكَاةِ بِالْمَسَاكِينِ،
(2/396)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْقَتْلِ بِالْكُفَّارِ، وَالصَّلَاةِ بِالْقِبْلَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَا عُلِّقَ بِمَكَانٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ جِهَةٍ، لَا يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ ; فَلَا يَجُوزُ الْحَجُّ فِي غَيْرِ مَكَّةَ، وَلَا صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ أَصْنَافِهَا الْمَذْكُورَةِ، وَلَا قَتْلُ غَيْرِ مَنْ خُصَّ الْقَتْلُ بِهِ، مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْعُصَاةِ، وَلَا الصَّلَاةُ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ ; فَكَذَلِكَ مَا عُلِّقَ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، لَا يُعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا جَوَابُ دَلِيلِ الْخَصْمِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُؤَقَّتَ غَيْرُ الْمُطْلَقِ، بَلِ الْمُطْلَقُ جُزْءُ الْمُؤَقَّتِ، عَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ، اقْتَضَى الْإِتْيَانَ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَاجِبُ، وَهُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ مَثَلًا.
وَالثَّانِي: إِيقَاعُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، بِالتَّأْخِيرِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَضَاهُمَا الْأَمْرُ بَقِيَ وُجُوبُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْآخَرُ ; فَيَأْتِي بِهِ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، لِاسْتِحَالَةِ إِيقَاعِهِ فِي غَيْرِ زَمَانٍ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ إِيقَاعُهُ لَا فِي زَمَانٍ، لَمَا أَوْجَبْنَا إِلَّا حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مُجَرَّدَةً ; لِأَنَّهَا الْبَاقِي فِي الذِّمَّةِ مِنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَصَارَ هَذَا تَخْصِيصًا ضَرُورِيًّا ; فَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْعَامَّ إِذَا خُصَّ مِنْهُ صُورَةٌ بِدَلِيلٍ، وَجَبَ امْتِثَالُهُ فِيمَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(2/397)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَمَا لَوْ أُمِرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمَيْنِ ; فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَيْنِ ; فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ; لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيُعْتِقَ الْبَاقِيَ، بِمُوجِبِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ، عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمَكَانِ، وَالشَّخْصِ، وَالْجِهَةِ ; فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّمَانَ حَقِيقَةٌ سَيَّالَةٌ، غَيْرُ قَارَّةٍ ; فَالْمُتَأَخِّرُ مِنْهُ تَابِعٌ لِلْمُتَقَدِّمِ ; فَمَا ثَبَتَ فِيهِ، ثَبَتَ فِيمَا بَعْدَهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ ; بِخِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْجِهَاتِ ; فَإِنَّهَا حَقَائِقُ قَارَّةٌ، لَيْسَ بَعْضُهَا تَابِعًا لِبَعْضٍ، حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِبَعْضِهَا مَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ.
قُلْتُ: فَتَلْخِيصُ مَأْخَذِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّنَا نَحْنُ نَقُولُ: الْوَاجِبُ الْوَاقِعُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، هُوَ جُزْءُ الْوَاجِبِ فِي زَمَنِ الْأَدَاءِ، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: هُوَ غَيْرُهُ. وَقَدْ بَانَ تَقْرِيرُ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/398)
 
 
السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِذَا أَتَى بِجَمِيعِ مُصَحِّحَاتِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
لَنَا: لَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ، لَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ عَبَثًا، وَلِأَنَّ الذِّمَّةَ اشْتَغَلَتْ بَعْدَ بَرَاءَتِهَا مِنْهُ ; فَالْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَتِهِ بِفِعْلِهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
قَالُوا: يَجِبُ إِتْمَامُ الْحَجِّ الْفَاسِدِ، وَلَا يُجْزِئُ. وَظَانُّ الطَّهَارَةِ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَلَا تُجْزِئُهُ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ; فَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ إِيجَابَ مِثْلِهِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ لِفَوَاتِ بَعْضِ الْمُصَحِّحَاتِ، وَلَسْنَا فِيهِ، وَالْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ مَمْنُوعٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ: حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ; إِذَا أَتَى بِجَمِيعِ مُصَحِّحَاتِهِ» مِنْ رُكْنٍ وَشَرْطٍ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ» مِنْهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَتْبَاعُهُ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ فِعْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، بِجَمِيعِ مُصَحِّحَاتِهَا، هَلْ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ، بِحَيْثُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا فِيمَا بَعْدُ؟
قَوْلُهُ: «لَنَا: لَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ، لَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ عَبَثًا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْزَاءِ.
وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَوْ لَمْ يَقَعْ مُجْزِئًا ; لَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ عَلَى الشَّرْعِ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهُ مُجْزِئًا ; لَكَانَ وَجُوُدُهُ كَعَدَمِهِ، وَمَا كَانَ وُجُودُهُ كَع