من أصول الفقه على منهج أهل الحديث

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: من أصول الفقه على منهج أهل الحديث
المؤلف: زكريا بن غلام قادر الباكستاني
عدد الأجزاء: 1
 
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أخرج البخاري "71" ومسلم "1524" من حديث معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس".
وفي رواية للترمذي "2193" من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة".
وقد تتابعت كلمات الأئمة أن هذه الطائفة المنصورة هم أهل الحديث، قال أبو الفتوح الطائي الهمذاني في كتاب الأربعين "163 - مكتبة
(1/5)
 
 
المعارف": نقل عن الجم الغفير والعدد الكثير من علماء الأمة، وأعيان الأئمة، مثل عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويزيد بن هارون، وإبراهيم بن الحسن ديزيل الهمذاني أن المراد بالطائفة المذكورة في الحديث: هم أصحاب الحديث وأهل الآثار الذين نهجوا الدين القويم وسلكوا الصراط المستقيم، فتمسكوا بالسبيل الأقوم، والمنهاج الأرشد. انتهى.
وإذا كان أهل الحديث هم الطائفة المنصورة، فلا شك أنهم يكونون أفقه الناس وأصولهم أصح الأصول، لأن هذا من مقومات الطائفة المنصورة، وإنما يعيب أهل الحديث بقلة الفقه من لا يعرف الفقه الصحيح أولا يعرف أهل الحديث حق المعرفة، أو ما قرأ تبويبات البخاري في صحيحه، أو مسائل أحمد بن حنبل، أو الأم للشافعي، أو شرح السنة للبغوي، أو مجموع الفتاوى لابن تيمية أو غيرها من كتب أهل الحديث.
وقد ذكرت في هذا الكتاب ثناء الأئمة على فقه أهل الحديث وأصولهم، وذكرت أيضا على ماذا ينبني فقه أهل الحديث، وذكرت أيضا المسائل الأصولية على منهج أهل الحديث.
وأسأل الله عز وجل أن يحشرنا في زمرة أهل الحديث، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
وكتبه:
زكريا بن غلام قادر الباكستاني
(1/6)
 
 
ثناء الأئمة على فقه أهل الحديث
قال الخطيب البغدادي في كتاب شرف أصحاب الحديث "8": وقد جعل الله تعالى أهله "أي أهل الحديث" أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتخير إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، وإذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع فما حكموا به فهو المقبول المسموع، ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم وسبيلهم السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر وهو على الإفصاح بغير مذاهبم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من
(1/7)
 
 
اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير.
وقال أيضا "ص - 10": فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، في اقتباس ما شرع المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأى ولا هوى، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً، حتى ثبَّتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها. انتهى.
وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث "51": فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوا مظانه، وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً، وشرقاً وغرباً، يرحل الواحد منهم راجلاً مقوياً في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي فنبهوا على ذلك حتى نجم بعد أن كان عافياً، وبسق بعد أن كان دارساً، واجتمع بعد أن كان متفرقاً، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا، وتنبه عليها من كان عنها غافلا. انتهى.
وقال ابن حبان في مقدمة صحيحه "1/34" بعد الثناء على الله عز
(1/8)
 
 
وجل قال:
ثم اختار طائفة لصفوته، وهداهم لزوم طاعته، من اتباع سبل الأبرار، في لزوم السنن والآثار، فزين قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف أعلام دينه، واتباع سنن نبيه، بالدؤوب في الرحل والأسفار، وفراق الأهل والأوطار، في جمع السنن، ورفض الأهواء، والتفقه فيها بترك الآراء، فتجرد القوم للحديث وطلبوه ورحلوا فيه وكتبوه، وسألوا عنه وأحكموه، وذاكروا به ونشروه، وتفقهوا فيه، وأصلوه، وفرعوا عليه وبذلوه، وبينوا المرسل من المتصل، والموقوف من المنفصل، والناسخ من المنسوخ، والمحكم من المفسوخ، والمفسر من المجمل، والمستعمل من المهمل، والعموم من الخصوص، والدليل من المنصوص، والمباح من المزجور، والغريب من المشهور، والعرض من الإرشاد، والحتم من الإيعاد، والعدول عن المجروحين، والضعفاء من المتروكين، وكيفية المعمول، والكشف عن المجهول..، حتى حفظ الله بهم الدين على المسلمين، فصانه على ثلب القادحين، وجعلهم عند التنازع أئمة الهدى، وفي النوازل مصابيح الدجى، فهم ورثة الأنبياء، ومأنس الأصفياء، وملجأ الأتقياء، ومركز الأولياء. انتهى.
وقال السمعاني كما في صون المنطق "165 - 167": ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم ووزانهم،
(1/9)
 
 
وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، ويجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، وفعلهم واحد.. إلى أن قال: وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريقة النقل فأورثهم الاتفاق والائتلاف وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف. انتهى.
وقال اللكنوي في كتابه إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام "228": ومن نظر بنظر الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً عن الإعتساف، يعلم علما يقيناً أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف العلماء فيها، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم، وإني كلما أسير في شعب الاختلاف أجد قول المحدثين فيه قريبا من الإنصاف فلله دّرُّهُم، كيف لا وهم ورثة النبي حقاً ونُوَّاب شرعه صدقاً. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "34/113": موافقة أحمد للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظمهما، ويرجح أصول مذهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما، ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي
(1/10)
 
 
وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما. انتهى.
وقال في كتاب علم الحديث "44": بعض أئمة أهل الكلام تكلموا في أهل الحديث، وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم ودقة فهمهم، ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول، وآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، ولكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية أهل الملل، فكل شرٍّ في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم. انتهى.
وقال شيخ الإسلام أيضا كما في مجموع الفتاوى "4/91": من المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم وهو بذلك أقوم، كان أحق بالإختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم خاصته مثل: الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسالم مولى أبي حذيفة، وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول، وأعلمهم
(1/11)
 
 
بباطن أموره وأتبعهم لذلك. انتهى.
وقال في نقض المنطق "42": إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من القول إلى قول، وجزما بالقول في موضع، وجزما بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل على عدم يقين..، وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء، وأتباعهم من المتقدمين، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لا بد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الناس أن يكون فيها من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه أهل السنة والحديث ما يوجب قبولها، إذ الباطل المحض لا يقبل بحال، وبالجملة: فالثبات والإسقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة. انتهى.
وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى "3/346": إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعا لها تصديقاً وعملاً وحباً وموالاةً لمن والاها،
(1/12)
 
 
ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه. انتهى.
(1/13)
 
 
على ماذا يبني أهل الحديث فقههم؟
أهل الحديث يبنون فقههم على قواعد مأخوذة من الكتاب والسنة والصحيحة وعلى ما كان عليه السلف الصالح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "10/362": بعد أن أثنى على أهل الحديث: فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم، إن لم تكن تابعة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه.
وقال ابن رجب في كتاب فضل علم السلف: "57": ومن ذلك أعنى محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية، ورد فروع الفقه إليها سواء خالفت السنة أم وافقتها، طرداً لتلك القواعد المتقررة، وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلان يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام. انتهى.
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "10/362": فمن بنى الكلام في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة. انتهى.
(1/14)
 
 
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين "2/368": أما أن نقعد قاعدة ونقول هذا هو الأصل، ثم ترد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة، فلعمر الله، لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من ردَّ حديث واحد. انتهى.
(1/15)
 
 
التنبيه على المسائل الدخيلة في أصول الفقه
أول من صنف في أصول الفقه هو الإمام الشافعي في كتابه الرسالة وهو من أنفع الكتب وأحسنها فقد بنى كتابه على الأدلة الشرعية والآثار السلفية، ثم كثرت التصانيف بعد ذلك، وكانت أكثر الكتب الأصولية أصحابها من الأشاعرة أو من المعتزلة فأفسدوا علم أصول الفقه فأدخلوا فيه علم الكلام، ومسائل لا ثمرة من ذكرها، ومسائل لا تعلق لها بأصول الفقه، وعقدوا العبارات وجعلوا اللغة هي الأصل، فانصرف الناس عن دراسة أصول الفقه بسبب هذه الأمور والتعقيدات التي دخلت في مسائل الأصول، قال العلامة طاهر الجزائري في كتاب توجيه النظر إلى أصول الأثر "237": وقد وقع في كتب أصول الفقه مسائل كثيرة مبنية على مجرد الفرض وهي ليست داخلة فيه وكثيراً ما أوجب ذلك حيرة المطالع النبيه حيث يطلب لها أمثلة فيرجع بعد الجد والاجتهاد ولم يحظ بمثال واحد فينبغي الانتباه لهذا الأمر ولما ذكره بعض العلماء وهو: أن كل مسألة تذكر في أصول الفقه ولا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أولا تكون عوناً في ذلك فهي غير داخلة في أصول الفقه، وذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له، ومحققاً
(1/16)
 
 
للاجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك لم يكن أصلا له ويخرج على هذا كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيه كمسائل ابتداء وضع اللغات ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا؟ ومسألة أمر المعدوم؟ وكذلك كل مسألة ينبني عليها فقه إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه مثل مسألة الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة كما في كفارة اليمين، فقيل: إن الأمر بذلك يوجب واحداً منها لا بعينه وقيل إنه يوجب الكل ويسقط الكل بفعل واحد منها، وقيل: إنه يوجب ما يختاره المكلف فإن فعل الكل فقيل الواجب أعلاها، وإن تركها فقيل يعاقب على أدناه فهذه المسألة وما أشبهها من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه غير داخله في أصوله. انتهى.
وقال الشوكاني في منتهى الأرب في أدب الطلب "174": ومن أسباب التعصب الحائلة بين من أصيب بها وبين المتمسك بالإنصاف: التباس ما هو من الرأي البحت بشيء من العلوم التي هي مواد الاجتهاد. وكثيراً ما يقع ذلك في أصول الفقه فإنه قد اختلط فيها المعروف بالمنكر والصحيح بالفاسد والجيد بالرديء، فربما يتكلم أهل هذا العلم على مسائل من مسائل الرأي ويحررونها ويقررونها، وليست منه في شيء ولا تعلق لها به بوجه. فيأتي الطالب لهذا العلم إلى تلك المسائل فيعتقد أنها منه فير إليها المسائل الفروعية، ويرجع إليها عند تعارض الأدلة. ويعمل بها في كثير من المباحث، زاعماً أنها من أصول الفقه. ذاهلاً عن كونها من علم الرأي. ولو علم بذلك لم يقع فيه ولا ركن إليه. فيكون هذا
(1/17)
 
 
وأمثاله قد وقعوا في التعصب وفارقوا مسلك الإنصاف، ورجعوا إلى علم الرأي وهم لا يشعرون بشيء من ذلك ولا يفطنون به، بل يعتقدون أنهم متشبثون بالحق متمسكون بالدليل واقفون على الإنصاف خارجون عن التعصب. وقلَّ من يسلم من هذه الدقيقة وينجو من غبار هذه الأعاصير. بل هم أقل من القليل. وما أخطر ذلك وأعظم ضرره وأشد تأثيره وأكثر وقوعه وأسرع نفاقه على أهل الإنصاف وأرباب الاجتهاد.
فإن قلتَ: إذا كان هذا السبب كما زعمت من الغموض والدقة ووقوع كثير من المنصفين فيه وهم لا يشعرون فما أحقه بالبيان وأولاه بالإيضاح وأجدره بالكشف حتى يتخلص عنه الواقعون فيه وينجوا منه المتهافتون إليه؟
قلتُ: اعلم أن ما كان من أصول الفقه راجعاً إلى لغة العرب رجوعاً ظاهراً مكشوفاً كبناء العام على الخاص. وحمل المطلق على المقيد ورد المجمل إلى المبيَّن. وما يقتضيه الأمر والنهي ونحو هذه الأمور. فالواجب على المجتهد أن يبحث عن مواقع الألفاظ العربية. وموارد كلام أهلها وما كانوا عليه في مثل ذلك. فما وافقه فهو الأحق بالقبول والأولى بالرجوع إليه. فإذا اختلف أهل الأصول في شيء من هذه المباحث كان الحق بيد من هو أسعد بلغة العرب. هذا على فرض عدم وجود دليل شرعي يدل على ذلك. فإن وجد فهو المقدم"1" على كل
__________
"1 في "ب" المقدر.
(1/18)
 
 
شيء وإذا أردت الزيادة في البيان والكثير من الإيضاح بضرب من التمثيل وطرف من التصوير: فاعلم، أنه قد وقع الخلاف في أنه هل يُبنى العام على الخاص مطلقاً أو مشروطاً بشرط أن يكون الخاص متأخراً. ووقع الخلاف في أنه هل يُحمل المطلق على المقيّد مع اختلاف السبب أم لا. ووقع الخلاف في معنى الأمر الحقيقي هل هو الوجوب أو غيره. ووقع الخلاف في معنى النهي الحقيقي هل هو التحريم أو غيره. فإذا أردت الوقوف على الحق في بحث من هذه الأبحاث، فانظر في اللغة العربية واعمل على ما هو موافق لها مطابق لما كان عليه أهلها. واجتنب ما خالفها، فإن وجدت ما يدل على ذلك من أدلة الشرع كما ستقف عليه في الأدلة الشرعية من كون الأمر يفيد الوجوب والنهي يفيد التحريم فالمسألة أصولية لكونها قاعدة كلية شرعية لكون دليلها شرعياً كما أن ما يستفاد من اللغة من القواعد الكلية أصولية لغوية. فهذه المباحث وما يشابهها من مسائل النسخ ومسائل المفهوم والمنطوق الراجعة إلى لغة العرب المستفادة منها على وجه يكون قاعدة كلية هي مسائل الأصول. والمرجع لها الذي يعرف به راجحها من مرجوحها هو العلم الذي هي مستفادة منه مأخوذة من موارده ومصادره. وأما مباحث القياس فغالبها من بحث الرأي الذي لا يرجع إلى شيء مما تقوم به الحجة، وبيان ذلك أنهم جعلوا للعلة مسالك عشرة لا تقوم الحجة بشيء منها إلا ما كان راجعاً إلى الشرع. كمسلك النص على العلة. أو ما كان معلوماً من لغة العرب كالإلحاق بمسك إلغاء الفارق. وكذلك قياس الأولى المسمى عند
(1/19)
 
 
البعض بفحوى الخطاب. وأما المباحث التي يذكرها أهل الأصول في مقاصده كما فعلوه في مقصد الكتاب ومقصد السنة والإجماع. فما كان من تلك المباحث الكلية مستفاداً من أدلة الشرع فهو أصولي شرعي, وما كان مستفاداً من مباحث اللغة فهو أصولي لغوي. وما كان مستفاداً من غير هذين فهو من علم الرأي الذين كررنا عليك التحذير منه. ومن المقاصد المذكورة في الكتب الأصولية التي هي من محض الرأي الاستحسان والاستصحاب والتلازم.
وأما المباحث المتعلقة بالاجتهاد والتقليد وشرع من قبلنا والكلام على أقوال الصحابة، فهي شرعية فما انتهض عليه دليل الشرع منها فهو حق. وما خالفه فباطل.
وأما المباحث المتعلقة بالترجيح، فإن كان المرجح مستفاداً من الشرع فهو شرعي. وإن كان مستفاداً من علم من العلوم المدونة فالاعتبار بذلك العلم فإن كان له مدخل في الترجيح كعلم اللغة فإنه مقبول وإن كان لا مدخل له إلا لمجرد الدعوى كعلم الرأي فإنه مردود. انتهى.
(1/20)
 
 
الدليل
القاعدة الأولى: الدليل هو الأصل الذي تبنى عليه المسألة
...
الدليل
القاعدة الأولى: الدليل هو الأصل الذي تبنى عليه أو المسألة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "30/269": قد ينص النبي صلى الله عليه وسلم نصاً يوجب قاعدة ويخفى النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة، وينازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص، مثل اتفاقهم على المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص، والمضاربة ليس فيها نص وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنه، ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلاً بالنص، ويفرعون عليه، لا يتنازعون في الأصل المنصوص ويوافقون فيما لا نص فيه. انتهى.
(1/21)
 
 
القاعدة الثانية: الأحكام الشرعية تؤخذ من الحديث الصحيح ولا يجوز أخذها من الحديث الضعيف
لا يجوز في دين الله عز وجل أن يؤخذ فيه بحكم من الأحكام إلا من الحديث الصحيح، وأما الحديث الضعيف فيطرح ولا يعمل به، فقد ميَّز
(1/21)
 
 
الله عز وجل هذه الأمة بالإسناد، فالإسناد من قوام الدين فيجب العمل بالإسناد الصحيح ويترك الإسناد الضعيف، ولا يشرع لأي مسلم أن يأخذ حكما من حديث ما حتى ينظر فيه أولاً: هل صح سند ذلك الحديث أم لا؟ .
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل "كما في إعلام الموقعين 4/179": سألت أبي عن الرجل يكون وعنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ولا الإسناد القوي عن الضعيف فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيفتي به ويعمل به؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح، ويسأل عن ذلك أهل العلم. انتهى.
وقال الإمام مسلم صاحب الصحيح في كتاب التمييز "218": اعلم رحمك الله أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفين بها دون غيرهم إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السنن والآثار المنقولة من عصر إلى عصر من لدن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا.
وقال ابن رجب في فضل علم السلف "57": فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "1/250": لا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست
(1/22)
 
 
صحيحة ولا حسنه. انتهى.
وقال الأنصاري في فتح الباقي في شرح ألفية العراقي: من أراد الاحتجاج بحديث من السنن أو المسانيد إن كان متأهلاً لمعرفة ما يحتج به من غيره فلا يحتج به حتى ينظر في اتصال إسناده وأصول رواته، وإلا فإن وجد أحداً من الأئمة صححه أو حسنه فله تقليده، وإلا فلا يحتج به. انتهى.
(1/23)
 
 
القاعدة الثالثة: لا فرق في عدم جواز العمل بالحديث الضعيف بين أن يكون في فضائل الأعمال أو في غير فضائل الأعمال
الأحكام التكليفية لا يشرع القول بها إلا بدليل صحيح، والاستحباب نوع من أنواع الحكم التكليفي، وعليه فلا يشرع استحباب شيء إلا بدليل صحيح، ففضائل الأعمال يجب إثباتها بالدليل الصحيح لأنها داخلة في الحكم التكليفي ألا وهو الاستحباب، والسلف الصالح ما كانوا يفرقون بين الحديث الوارد في فضائل الأعمال والحديث الوارد في بقية أمور الدين، ويوضح هذا أنهم تكلموا في التثبت في الأسانيد والتشديد في الأخذ بها والعمل بالصحيح منها، وما كانوا يستثنون من ذلك الحديث الوارد في فضائل الأعمال، ولا جاء عن أحد منهم في ذلك شيء قط، فإن قيل قد جاء عن الإمام أحمد وبعض الأئمة أنهم قالوا: إذا روينا في الأحكام والحلال والحرام تشدَّدنا، وإذا روينا في
(1/23)
 
 
الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا.
والجواب: أن المراد بهذا القول هو التساهل في الرواية وليس مشروعية العمل بذلك الضعيف في فضائل الأعمال، قال المعلمي في الأنوار الكاشفة "87": كان من الأئمة من إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من الصحيح، أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده، فإذا كان دون ذلك لم يروه البتة ومنهم إذا وجد الحديث غير شديد الضعف وليس فيه حكم ولا سنة إنما هو في فضيلة عمل متفق عليه كالمحافظة على الصلوات ونحو ذلك لم يمتنع من روايته فهذا هو المراد بالتساهل في عبارتهم. انتهى.
وقد ذهب النووي إلى أن الحديث الضعيف في فضائل الأعمال يعمل به بالإجماع. وفي القول بالإجماع نظر، قال شيخ الإسلام ابن تيميه كما في مجموع الفتاوى "1/251": وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي، وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب، جاز أن يكون الثواب حقاً، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع. انتهى.
قلت: فقول شيخ الإسلام يدل على أن الإجماع على خلاف ما ادعاه النووي. والذي يظهر أن الخلاف حدث بعد العصور المتقدمة.
وقال شيخ الإسلام أيضا كما في مجموع الفتاوى "18/65":
(1/24)
 
 
وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به، فإن الاستحباب حكم شرعي، فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن خبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليل شرعي، فقد شرع في الدين مالم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل في الدين مشروع. انتهى.
وقال الشوكاني في وبل الغمام "1/54": وقد سوغ بعض أهل العلم العمل بالضعيف في ذلك مطلقا، وبعضهم منع من العمل بما لم تقم به الحجة مطلقاً، وهو الحق، لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام، فلا يحل أن ينسب إلى الشرع مالم يثبت كونه شرعاً، لأن ذلك من التقول على الله بمالم يقل، وكان في فضائل الأعمال، إذ جعل العمل منسوبا إليه نسبة المدلول إلى الدليل، فلا ريب أن العامل به، وإن كان لم يفعل إلا الخير من صلاة أو صيام أو ذكر، لكنه مبتدع في ذلك الفعل من حيث اعتقاده مشروعيته بما ليس شرع، وأجر ذلك العمل لا يوازي وزر الابتداع، ولم يكن فعل مالم يثبت مصلحة خالصة، بل معه عرضة بمفسدة هي إثم البدعة، ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح..، وقيل: إن كان ذلك العمل الفاضل الذي دل عليه الحديث الضعيف داخلاً تحت عموم صحيح يدل على فضله ساغ العمل بالحديث الضعيف في ذلك، وإلا فلا، مثلاً: لو ورد حديث ضعيف يدل على فضيلة صلاة ركعتين
(1/25)
 
 
في غير وقت كراهة فلا بأس بصلاة تلك الركعتين لأنه قد دل الدليل العام على فضلية الصلاة مطلقا إلا ما خص. يقال: إن كان العمل بذلك العام الصحيح فلا ثمرة للاعتداد بالخاص الذي لم يثبت إلا مجرد الوقوع في البدعة، وإن كان العمل بالخاص عاد الكلام الأول؛ وإن كان العمل بمجموعهما كان فعل الطاعة مشوبا ببدعة، من حيث إثبات عبادة شرعية بدون شرع. انتهى.
وقال ابن حجر في تبيين العجب "22": لا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو الفضائل، إذ الكل شرع. انتهى.
وللعلامة الألباني رحمه الله تعالى تفصيل طويل رائع في هذه المسألة في مقدمة صحيح الترغيب والترغيب فليرجع إليه.
(1/26)
 
 
القاعدة الرابعة: يجب فهم الدليل على ما فهمه السلف الصالح
السلف الصالح جاءت الأدلة بتزكيتهم واتباع طريقهم، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ والذِينَ اتَّبَعُوهم بإحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهَارُ خَالِدينَ فيهَا أبَدًا ذَلكَ الفوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". أخرجه البخاري "6429" ومسلم "2535"
(1/26)
 
 
فهم القدوة وهم الأسوة، فيجب على كل مسلم اتباعهم فيما ذهبوا إليه من فهم أدلة الكتاب والسنة لأنهم أعلم الناس وأفهم الناس بدلالة النصوص الشرعية، فإذا أخذ المسلم بغير فهمهم فإنه يضلُّ عن الصراط المستقيم، لأنهم عن بصيرة وقفوا وبعلم ثاقب نظروا.
قال ابن أبي زيد القيرواني في الجامع "117": التسليم للسنن لا تعارض برأي ولا تدفع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوا ورأوه من الحديث، ولا نخرج عن جماعتهم فيما اختلفوا فيه أو تأويله، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث.
وقال السمعاني كما في صون المنطق "158": إنا أمرنا بالإتباع وندبنا إليه، ونهينا عن الإبتداع وزجرنا عنه، وشعار أهل السنة اتباعهم للسلف الصالح، وتركهم كل ما هو مبتدع محدث. انتهى.
وقال قوام السنة الأصبهاني في كتابة الحجة في بيان المحجة "2/437، 440": وليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو الإتباع والاستعمال، يقتدي بالصحابة والتابعين، وإن كان قليل العلم، ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال، وإن كان كثير العلم.. إلى أن قال: وذلك أنه تبين للناس أمر دينهم فعلينا الإتباع، لأن الدين إنما جاء، من قبل الله تعالى لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم السنة لأمته،
(1/27)
 
 
وأوضحها لأصحابه، فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل. انتهى.
وقال ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف "72": فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعهيم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك. انتهى.
وقال شيخ الإسلام في كتاب الإيمان "114": وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل "يعني الإيمان" عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس، ولهذا نجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة، ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، إنما يعتمدون على العقل واللغة، ونجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثور، والحديث وآثار السلف.
وقال كما في مجموع الفتاوى "10/362": فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما ما جاء عمن
(1/28)
 
 
بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً، وإن كان صاحبه معذوراً، بل مأجوراً لاجتهاد أو تقليد، فمن بنى الكلام في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة السابقين فقد أصاب طريق النبوة وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى، تجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة قال: هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه..، وكذلك في الزهد والرقائق والأحوال فإنه اعتمد في كتاب الزهد على المأثور على الأنبياء صلوات الله عليهم من آدم إلى محمد ثم على طريق الصحابة والتابعين ولم يذكر من بعدهم. انتهى.
(1/29)
 
 
القاعدة الخامسة: يجب الأخذ بظاهر الدليل وعدم تأويله
أهل الحديث وسط بين الذين بالغوا في الأخذ بالظاهر ولم يلتفتوا إلى معاني الأدلة وبين الذين فرطوا في الأخذ بالظاهر، فردوا ظاهر الدليل بأدنى شيء أو أولوا الحديث حتى يوفقوا بين الحديث وبين قول إمامهم، فأهل الحديث يمشون على ظاهر الدليل.
ولا يأولونه ويخرجونه عن ظاهره إلا بدليل يدل على صحة ذلك
(1/29)
 
 
التأويل، ولهذا كان السلف يقولون: أمروها كما جاءت.
وهذا وإن كان ورد في باب الأسماء والصفات، لكن مما لا شك فيه أن جميع الأحكام الشرعية على منوال واحد وطريقة سوية، ولذلك ما كان السلف يؤولون الأحاديث الواردة في الأحكام، بل كانوا يجرونها على ظاهرها.
فمثلاً: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمَّا سئل عن الوضوء من لحوم الإبل: "توضئوا منها".
أخرجه مسلم "360" وأبو داود "184" والترمذي "81".
فالوضوء يطلق على غسل اليدين فقط ويطلق أيضا على الوضوء المعروف في الشرع، وظاهر الحديث أن المراد هو الوضوء المعروف في الشرع، وقد مشى الصحابة على هذا الظاهر فقد كانوا يتوضؤون من لحوم الإبل الوضوء الشرعي المعروف ولم يكونوا يأولونه بغسل اليدين فقط.
قال الخطيب في الفقه والمتفقه "1/222": ويجب أن يحمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمومه وظاهره إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير ذلك فيعدل إلى ما دل الدليل عليه، قال الشافعي: ولو جاز في الحديث أن يحال شيء منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عدداً من المعاني فلا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره، ولكن الحق فيها واحد إنما هو على ظاهرها وعمومها إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(1/30)
 
 
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين "3/108": الواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله، وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك. انتهى.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان "7/438": التحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامة المسلمين: أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح. انتهى.
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول "263": واعلم أن الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ. انتهى.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين "4/148": ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن
(1/31)
 
 
تلك الألفاظ لا تفي بما تفي النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فألفاظ النصوص عصمة وحجة، بريئة من الخطأ والتناقض، والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك وهَلمَّ جرَّا..، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون قال الله كذا، قال رسول الله كذا، ولا يعدلون عن ذلك وما وجدوا إليه سبيلاً قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور. انتهى.
وقال الشوكاني في منتهى الأرب في أدب الطلب "235": ومن جملة ما ينبغي له تصوره ويعنيه استحضاره أن يعلم أن هذه الشريعة المباركة هي ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من الأوامر والنواهي والترغيبات والتنفيرات وسائر ما له مدخل في التكليف، من غير قصد إلى التعمية والإلغاز ولا إرادة لغير ما يفيده الظاهر، ويدل عليه التركيب ويفهمه أهل اللسان العربي. فمن زعم أن حرفاً من حروف الكتاب والسنة لا يراد به المعنى الحقيقي والمدلول الواضح فقد زعم على الله ورسوله زعماً يخالف اللفظ الذي جاءنا عنهما، فإن كان ذلك لمسوّغ شرعي تتوقف عليه الصحة الشرعية أو العقلية التي يتفق العقلاء عليها، لا مجرد ما يدعيه أهل المذاهب والنحل على العقل، مطابقاً لما قد حببه إليهم
(1/32)
 
 
التعصب، وأدناه من عقولهم البُعد عن الإنصاف فلا بأس بذلك، وإلاّ فدعوى التجوز مردودة مضروب بها في وجه صاحبها، فاحرص على هذا فإنه وإن وقع الاتفاق على أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة وقرينة كما صُرح به في الأصول وغيرها، فالعمل في كتب التفسير والحديث والفقه يخالف هذا لمن تدبره وأعمل فكره. ولم يغتر بالظواهر ولا جمد على قبول ما يُقال من دون بحث عن موارده ومصادره. وكثيراً ما تجد المتعصبين يحامون عن مذاهبهم ويؤثرونها على نصوص الكتاب والسنة. فإذا جاءهم نص لا يجدون عنه متحولاً وأعياهم رده وأعجزهم دفعه. ادعوا أنه مجاز وذكروا للتجوز علاقة هي من البعد بمكان، وقرينة ليس لها في ذلك المقام وجود ولا تدعو إليها حاجة. وأعانهم على هذه الترهات استكثارهم من تعداد أنواع القرائن والعلاقات، حتى جعلوا من جملة ما هو من العلاقات المسوّغة للتجوز التضاد، فانظر هذا التلاعب، وتدبر هذه الأبواب التي فتحوها على أدلة الكتاب والسنة. وقَبِلَها عنهم من لم يمعن النظر ويطيل التدبر فجعلها علماً وقبلها على كتاب الله وسنة رسوله. وأصلها دعوى افتراها على أهل اللغة متعصب قد آثر مذهبه على الكتاب والسنة، ولم يستطع التصريح بترجيح المذهب على الدليل، فدقّقَ الفكر وأعمق النظر فقال: هذا الدليل وإن كان معناه الحقيقي يخالف ما نذهب إليه فهو ههنا مجاز والعلاقة كذا والقرينة كذا، ولا علاقة ولا قرينة. فيأتي بعد عصر هذا المتعصب من لا يبحث عن المقاصد ولا يتدبر المسالك كما ينبغي فيجعل
(1/33)
 
 
تلك العلاقة التي افتراها ذلك المتعصب من جملة العلائق المسوغة للتجوز. ولهذا صارت العلاقات قريباً من ثلاثين علاقة. ثم لما كان من جملة أنواع القرائن، القرائن العرفية والعقلية افترى كل متعصب على العقل والعرف ما شاء وصنع في مواطن الخلاف ما أراد والله المستعان. انتهى.
(1/34)
 
 
القاعدة السادسة: لا يصرف الدليل عن ظاهره بقول جمهور العلماء
قول الجمهور ليس بحجة، لأن الله عز وجل لم يتعبدنا بقول الجمهور، فلا يصرف الحديث عن ظاهره لأن الجمهور صرفوه عن ظاهره، فمثلا: لا يصرف ظاهر الأمر من الوجوب إلى الاستحباب لقول الجمهور، ولا يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة لقول الجمهور، ولا يصرف العام إلى الخاص لقول الجمهور، وذلك لأن قول الجمهور ليس بحجة، وظاهر الحديث حجة، فلا يترك ما هو حجة لأجل ما ليس بحجة، قال العلامة صديق حسن كما في قواعد التحديث "91 ": اعلم أنه لا يضر الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه، لأن قول الأكثر ليس بحجة. انتهى.
(1/34)
 
 
القاعدة السابعة: لا يسقط الاستدلال بالدليل بمجرد تطرق الاحتمال إليه
الدليل لا يسقط بمجرد تطرق الاحتمال إليه، وقول العلماء: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، مرادهم بذلك الاحتمال
(1/34)
 
 
القوي الذي احتفت به القرائن واعتضد بالاعتبارات لا بأي احتمال، لأنه ما من دليل إلا ويتطرق إليه الاحتمال، ولو فتح باب الاحتمال لم يبق شيء من الأدلة إلا وسقط الاستدلال به بدعوى تطرق الاحتمال إليه، ثم إن المراد بسقوط الاستدلال به، أي على تعيين ذلك الوجه المراد الاستدلال به من الدليل، لا أن الاستدلال بالدليل يسقط جملة وتفصيلا.
أخرج البخاري "الفتح 1/413" ومسلم "1/145" عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتها.
فهذا الحديث يدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، واعترض عليه باحتمال الخصوصية أو أن المس كان بحائل.
وقد تعقب هذا الكلام العلامة أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي "1/142" فقال: ومن البين الواضح أن هذا التعقيب لا قيمة له، بل هو باطل، لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح، واحتمال الحائل لا يفكر فيه إلا متعصب! انتهى.
(1/35)
 
 
القاعدة الثامنة: لا فرق بين الدليل المتواتر والآحاد في جميع القواعد والأحكام
الحديث الآحاد كالتواتر في جميع القواعد والأحكام الشرعية فكما أن المتواتر ينسخ المتواتر فكذلك الآحاد ينسخ المتواتر وكما أن المتواتر
(1/35)
 
 
يخصص العام، فكذلك الآحاد يخصص العام، وكما أن المتواتر مقدم على القياس، فكذلك الآحاد مقدم على القياس، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح فإنهم كانوا لا يفرقون في شيء من القواعد والأحكام بين المتواتر والآحاد، بل التفريق بين المتواتر والآحاد بدعة حدثت بعدهم، فقد أخذ الصحابة بقول الواحد في النسخ وذلك لما كانوا في الصلاة تجاه بيت المقدس وأخبرهم شخص واحد بأن القبلة تحولت إلى الكعبة فتحولوا وهم في الصلاة.
قال الشوكاني في إرشاد الفحول "236" بعد أن ذكر أن الآحاد يخصص عموم المتواتر: واحتج ابن المسمعاني على الجواز بإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله تعالى: {يُوصَيكُمُ الله فِي أوْلادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" وخصوا قوله "فاقْتُلُوا المشْرِكِينَ" بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس وغير ذلك كثير، وأيضا يدل على جواز التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تقييد فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبا وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية، وقد استدل المانعون مطلقا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح، فقال عمر: كيف نترك
(1/36)
 
 
كتاب ربنا لقول امرأة؟ يعني قوله: {أسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] وأجيب عن ذلك بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث لا لرده تخصيص عموم الكتاب بالسنة الآحادية فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي بل قال: كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة؟ ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره بلفظ قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لعلها حفظت أو نسيت فأفاد هذا أن عمر إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت ولو علم بأنها حفظت ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته. انتهى.
وبيَّن الشنقيطي في كتابه مذكرة في أصول الفقه "86" خطأ من قال إن الآحاد لا ينسخ المتواتر.
(1/37)
 
 
القاعدة التاسعة: يجب العمل بالدليل وإن لم يعرف أن أحداً عمل به
الحديث حجة بنفسه لا يحتاج إلى الاحتجاج به أن يكون أحد من الأئمة عمل به، قال الشافعي في الرسالة "422": أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست قال الشافعي: لما كان معروفا - والله أعلم - عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في اليد بخمس، وكانت
(1/37)
 
 
اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع نزلها منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه، وفي الحديث دلالتان:
أحدهما: قبول الخبر.
والآخر: أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا.
ودلالة على أنه لو مضى عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين "4/204": إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه فهل له أن يفتي بما يجده؟ ، فقالت طائفة من المتأخرين: ليس له ذلك لأنه قد يكون منسوخاً أو له معارض أو يفهم من دلالته خلاف ما دل عليه فلا يجوز له العمل ولا الفتيا به حتى يسأل أهل الفقه والفتيا. وقال طائفة بل له أن يعمل به ويفتي به بل يتعين عليه كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث به بعضهم بعضاً بادروا إلى العمل به من غير توقف ولا بحث عن معارض ولا يقول أحد منهم قط: هل عمل بهذا فلان وفلان، ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا عليه
(1/38)
 
 
أشد الإنكار وكذلك التابعون وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القول وسيرتهم وطول العهد بالنسبة، وبعد الزمان وعتقها لا يسوغ ترك الأخذ بها والعمل بغيرها ولو كانت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان أو فلان لكان قول فلان أو فلان عياراً على السنن، ومزكيا لها، وشرطاً في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله الحجة برسوله دون آحاد الأمة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ سنته ودعا لمن بلَّغها، فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان والإمام فلان لم يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان.
وقال أيضا في إعلام الموقعين "4/212": فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا، يقول من قال بهذا؟ ويجعل هذا دفعاً في صدر الحديث أو يجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفته وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل وأنه لا يحل دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل، وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، هذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع وهو جهله ودعم عمله بمن قال بالحديث، فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة والله المستعان. ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام البتة قال: لا نعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نعرف من عمل به.
(1/39)
 
 
وقال في كتاب الروح "264": فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله، بل اذهب إلى النص، ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعاً ولكن لم يصل إليك. انتهى.
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة "حديث رقم: 163": لا يضر الحديث ولا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. انتهى.
وقال ابن حزم في الإحكام "5/662": فكل من أداه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن إلى قول ما، ولم يعرف أن أحد قبله قال بذلك القول ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان، ومن خالفه فقد خالف الحق ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى، ولم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به، بل أنكر على من قاله إذ يقول عز وجل حاكيا عن الكفار منكراً عليهم أنهم قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين وجميع الفقهاء بعدهم، لأن المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم من الاعتقاد والفتيا، فكلها محصور مضبوط، معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين وعلمائهم، فكل مسألة لم يرد فيها قول عن صاحب لكن عن تابع فمن بعده، فإن ذلك التابع قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك، وكذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب ولا تابع وتكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله. انتهى.
(1/40)
 
 
القاعدة العاشرة: يجب العمل بالدليل ولو خالفه من خالفه من السلف الصالح رضوان الله عليهم
يجب ردُّ كل قول خالف الدليل على قائله كائناً من كان حتى ولو كان من الخلفاء الراشدين فضلاً عمن دونهم في العلم لأن الله عز وجل أمرنا باتباع السنة، قال ابن القيم في الصواعق المرسلة "3/1063": كان عبد الله بن عباس يحتج في مسألة متعة الحج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها فيقولون له: إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا، فلما أكثروا عليه قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر..، ولقد مثل عبد الله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إن أباك نهى عنها! فقال: إن أبي لم يرد ما تقولون فلما أكثروا عليه قال: أَقَوْلُ رسول الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟ .
وقال في إعلام الموقعين "1/23": فإذا وجد النص "أي الإمام أحمد" أفتى بموجبه ولم يلتفت إلا ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في التميم للجنب لحديث عمار بن ياسر ولا خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة..، ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكفار لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث
(1/41)
 
 
المناع من التوارث, ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك، وهذا كثير جداً. انتهى.
(1/42)
 
 
القاعدة الحادية عشر: لا يشرع ترك الدليل وإن عمل الناس بخلافه
قال ابن القيم في إعلام الموقعين "2/395": لو تركت السنن للعمل لتعطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرست رسومها، وعفت آثارها، وكم من عمل قد اطرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن، وكل وقت تترك سنة ويعمل بخلافها، ويستمر عليها العمل، فتجد يسيراً من السنة معمولاً به على نوع تقصير، وخذ بلا حساب ما شاء الله من سنن قد أهملت وتعطل العمل بها جملة، فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس: تركت السنة. فقد تقرر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل البتة، وإنما يقع من طريق الاجتهاد، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردوداً. انتهى.
وقال ابن حزم في المحلى "5/661": إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو بعضهم، والجماعة والجملة هم أهل الحق، ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد، فهو الجماعة، وهو الجملة،
(1/42)
 
 
وقد أسلم أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما فقط، فكانا هما الجماعة، وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير الرسول صلى الله عليه وسلم أهل شذوذ وفرقة. انتهى.
(1/43)
 
 
القاعدة الثانية عشر: الأدلة لا تعارض بالعقل، بل يسلم للدليل تسليما من غير اعتراض عليه
عن علي بن أبي طالب قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. أخرجه أبو داود "162" وهو صحيح.
قال السمعاني كما في صون المنطق "166": وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما وما وقع من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله عز وجل، حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل.
وقال أيضا "ص: 175": وأما أهل السنة سلمهم الله فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب والسنة ويحتجون له بالحجج الواضحة والدلائل الصحيحة على حسب ما أذن فيه الشرع، وورد به السمع،
(1/43)
 
 
ولا يدخلون بآرائهم في صفات الله ولا في غيرها من أمور الدين، وعلى هذا وجدوا سلفهم وأئمتهم. انتهى.
(1/44)
 
 
القاعدة الثالثة عشر: الأحكام التي وردت في الأدلة مطلقة لا يجوز تحديدها
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "19/236": فما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام من الأمر والنهي والتحليل والتحريم لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله، فمن ذلك اسم الماء مطلق في الكتاب والسنة ولم يقسمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: طهور وغير طهور، فهذا التقسيم مخالف للكتاب والسنة..، ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة ولم يقدر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضين مع عموم بلوى الأمة بذلك، واحتياجهم إليه.. ثم قال "ص: 243": والله ورسوله علقا القصر والفطر بمسمى السفر ولم يحده بمسافة ولا فرق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدودة لبينه الله ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكل ما يسميه أهل اللغة سفراً فإنه يجوز فيه القصر والفطر كما دلَّ عليه الكتاب والسنة. انتهى.
(1/44)
 
 
القاعدة الرابعة عشرة: الأعيان المذكورة في الدليل لا يلحق بها ما لم يذكر في الدليل
الأصل في الأعيان المذكورة في دليل ما أنها مرادة ومقصودة لذاتها فلا يلحق بها غيرها، ولا يقال أنها خرجت مخرج الغالب ولا الحصر إلا بدليل يدل على أنها خرجت مخرج الغالب، وكذلك لا يقال: أن تعيينها إنما هو للتنبيه على غيرها إلا إذا جاء دليل يدل على ذلك، مثاله: حديث أبي موسى ومعاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما حين أرسلهما إلى اليمن: "لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر". أخرجه البيهقي "4/125" وصححه الألباني في الإرواء "801".
ففي هذا الحديث تخصيص الزكاة بأربعة أشياء مما يخرج من الأرض، فلا يلحق بها غيرها، قال أبو عبيد في كتاب الأموال "575": إلا أن الذي اختار من ذلك الاتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لا صدقة إلا في الأصناف الأربعة التي سماها، وسنها مع قول من قاله من الصحابة والتابعين، ثم اختيار ابن أبي ليلى، وسفيان إياه. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خص هذه بالصدقة وأعرض عما سواها، قد كان يعلم أن للناس أموالاً مما تخرج الأرض، فكان تركه ذلك عندنا، عفواً منه، كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق وإنما يحتاج إلى النظر والتشبيه والتمثيل إذا لم توجد سنة قائمة، فإذا وجدت السنة لزم الناس اتباعها. انتهى.
(1/45)
 
 
القاعدة الخامسة عشر: لا احتياط فيما ورد به الدليل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "26/54": فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع لجميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي حتى من كان منهم مفرداً أو قارناً والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم ولهذا كان فسخ الحج إلى التمتع مستحبا عند أحمد ولم يجعل اختلاف العلماء في جواز الفسخ موجبا للاحتياط بترك الفسخ، فإن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تبين فاتباعها أولى. انتهى.
وقال ابن القيم في تهذيب السنن "1/72": الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك المكلف منها عملاً لآخر احتياطاً، وأما الأحكام الشرعية والأخبار عن الله ورسوله فطريق الاحتياط فيها أن لا يخبر عنه إلا بما أخبر به، ولا يثبت إلا ما أثبته ثم إن الاحتياط هو في ترك هذا الإحتياط، فإن الرجل تحضره الصلاة وعنده قُلَّة ماء قد وقعت فيها شعرة ميتة، فتركه الوضوء منها مناف للاحتياط، فهلاَّ أخذتم بهذا الأصل هنا، وقلتم، ما ثبت تنجيسه بالدليل الشرعي نجسناه، وما شككنا فيه رددناه إلى أصل الطهارة. انتهى.
(1/46)
 
 
القاعدة السادسة عشر: يجب تفسير الدليل وفهمه باعتدال من غير إفراط ولا تفريط
قال ابن القيم في كتاب الروح "62": ينبغي أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلوٍّ ولا تقصير فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدي والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد. انتهى.
(1/47)
 
 
القاعدة السابعة عشر: الحكم الوارد في قصة ما لا يكون خاصاً بصاحب القصة بل يكون الاستدلال بذلك الحكم الوارد في تلك القصة داخلاً فيه غير صاحب القصة أيضاً:
هناك بعض الصحابة وقعت لهم واقعة من الواقعات وفي تلك الواقعة ورد فيها حكم ما، فإن ذلك الحكم لا يكون خاصاً بمن وقعت له تلك الواقعة وحدثت له تلك القصة، بل يكون الحكم عاماً وشاملاً لكل أحد، كقصة المجامع في نهار رمضان، فإن تلك القصة دليل على أن من كان مثل ذلك الرجل لا يجد ما يتصدق به كفارة لإتيانه لأهله في نهار رمضان أن تلك الكفارة ساقطة عنه، ولا يكون هذا الحكم خاصاً بذلك الرجل، إلا إذا أتى ما يدلُ على أن ذلك الحكم خاص بصاحب
(1/47)
 
 
القصة مثل حديث أبي بردة بن نيار أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يجزئه ذبح جذعة في الأضحية، فقال: "نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك". أخرجه البخاري "955"
(1/48)
 
 
الإجماع
القاعدة الأولى: الإجماع حجة من الحجج الشرعية
الإجماع: هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور.
وهو حجة بدليل الكتاب والسنة، أما دليل الكتاب فهو قوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "19/193":.. كلاًّ من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول، ومخالفة الإسلام والقرآن فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار..، فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعاً، والآية توجب ذم
(1/49)
 
 
ذلك، وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول؟ قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصاً عن الرسول فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب. انتهى.
والدليل من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة".
وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود "4253" والترمذي "2167" وابن ماجة "3590".
قال الشافعي في الرسالة "475": ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله. انتهى.
(1/50)
 
 
القاعدة الثانية: الإجماع لا بد أن يكون له مستند من الكتاب أو السنة
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "19/195": فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من
(1/50)
 
 
لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن وكذلك الإجماع دليل آخر كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.. ثم قال: وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصاً فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم، وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، وكما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع. انتهى.
(1/51)
 
 
القاعدة الثالثة: الإجماع لا يقدم على الكتاب أو السنة
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "19/200": ومن قال من المتأخرين: إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم: إن أكثر
(1/51)
 
 
الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها فإنما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتها على الأحكام..، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم "أي الصحابة" ولا يحتاجون إليه، إذ هم أهل الإجماع فلا إجماع قبلهم، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح " اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك، وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس ". وعمر قدم الكتاب ثم السنة، وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر: قدم الكتاب ثم السنة ثم الإجماع، وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر، وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء وهو الصواب، ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد بأن ينظر أولاً في الإجماع فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم الإجماع نسخه! والصواب طريقة السلف. انتهى.
(1/52)
 
 
القاعدة الرابعة: الإجماع لا ينسخ النص
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "33/94": وقد نقل عن طائفة: كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك: أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب
(1/52)
 
 
والسنة، وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخاً، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوِّز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم كما تقول النصارى من أن المسيح سوغ لعلمائهم. أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين، ولو كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله. انتهى.
وقال أيضا في "19/201": وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك. انتهى.
(1/53)
 
 
القاعدة الخامسة: الإجماع الذي يغلب على الظن وقوعه هو الإجماع على ما هو معلوم من الدين بالضرورة
قال الشافعي في الرسالة "534": لست أقول ولا أحد من أهل العلم "هذا مجتمع عليه" إلا لما لا تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك وحكاه عن من قاله كالظهر أربع، وكتحريم الخمر وما أشبه هذا.
قال الشيخ أحمد شاكر معلقا على كلام الشافعي: يعني أن الإجماع لا
(1/53)
 
 
يكون إجماعاً إلا في الأمر المعلوم من الدين بالضرورة كما أوضحنا ذلك وأقمنا الحجة عليه مراراً في كثير من حواشينا على الكتب المختلفة. انتهى.
وقال الشافعي أيضا لمن سأله عن وجود الإجماع "كما في جماع العلم 7/257": نعم بحمد الله، كثير في جملة من الفرائض التي لا يسع أحداً جهلها فذلك الإجماع هو الذي لو قلت فيه أجمع الناس لم تجد حولك أحداً يقول لك ليس هذا بإجماع فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى الإجماع فيها، وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه.
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول "111" ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه.. ثم قال: ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال: من ادعى الإجماع فهو كاذب. انتهى.
(1/54)
 
 
القاعدة السادسة: إجماع الصحابة ممكن وقوعه وأما إجماع من بعدهم فمتعذر غالباً
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "11/341": الإجماع متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام
(1/54)
 
 
وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك. انتهى.
(1/55)
 
 
القاعدة السابعة: إذا اختلف عالمان في الإجماع على مسألة ما فإنه يقدم قول من نقل الخلاف في تلك المسألة لأنه مثبت
قال شيخ الإسلام كما في المجموع "19/271": وإذا نقل عالم الإجماع ونقل آخر النزاع: إما نقلا سمى قائله وإما نقلا بخلاف مطلقاً ولم يسم قائله، فليس لقائل أن يقول: نقل لخلاف لم يثبت، فإنه مقابل بأن يقال: ولا يثبت نقل الإجماع، بل ناقل الإجماع ناف للخلاف، وهذا مثبت، والمثبت مقدم على النافي، وإذا قيل: يجوز في ناقل النزاع أن يكون قد غلط فيما أثبته من الخلاف: إما لضعف الإسناد، أو لعدم الدلالة، قيل له: ونافي النزاع غلطه أجوز فإنه قد يكون في المسألة أقوال لم تبلغه، أو بلغته وظن ضعف إسنادها وكانت صحيحة عند غيره، أو ظن عدم الدلالة وكانت دالة، فكل ما يجوز على المثبت من الغلط يجوز على النافي مع زيادة عدم العلم بالخلاف. انتهى.
(1/55)
 
 
القاعدة الثامنة: عدم العلم بالمخالف لا يصح به دعوى الإجماع
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "19/271": فإن عدم العلم ليس علما بالعدم لاسيما في أقوال علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يحصيها إلا رب العالمين، ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء: من ادعى الإجماع فقد كذب، وهذه دعوى المريسي والأصم، ولكن يقول: لا أعلم نزاعاً، والذين كانوا يذكرون الإجماع كالشافعي وأبي ثور وغيرهما يفسرون مرادهم: بأنا لا نعلم نزاعاً، ويقولون هذا هو الإجماع الذي ندعيه.
وقال شيخ الإسلام أيضا "20/10": وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن الإجماع، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن كثير من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعاً ولا يكون الأمر كلك. انتهى.
(1/56)
 
 
القاعدة التاسعة: إجماع أهل المدينة لا يعتبر حجة
قال الشوكاني في إرشاد الفحول "124": إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور لأنهم بعض الأمة، وقال مالك: إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم.. وقال الباجي: إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقه النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون
(1/56)
 
 
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء. انتهى.
وقد قسم شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع أهل المدينة إلى أربعة أقسام فقال كما في مجموع الفتاوى "20/303": والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة أن منه ما هو متفق عليه المسلمون، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب: -
الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد وكترك صدقة الخضروات والأحباس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء.
الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان فهذا حجة في مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق، وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها..، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه
(1/57)
 
 
لا يرجح بعمل أهل المدينة، ولأصحاب أحمد وجهان: أحدهما: أنه لا يرجح، والثاني: أنه يرجح به، قيل هذا هو المنصوص عن أحمد ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية.. فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة.
وأما المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا؟ فالذي عليه أئمة المسلمين أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك..، ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر، ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك الإمكان كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة. انتهى.
(1/58)
 
 
القاعدة العاشرة: قول جمهور العلماء في مسألة من المسائل لا يعتبر حجة
الحجة إنما هو في الكتاب والسنة والإجماع، وقول الجمهور ليس بإجماع فلا يعتبر حجة على القول الآخر، ولو كان القائل بالقول الآخر
(1/58)
 
 
أفراد من العلماء، وإنما يؤخذ بالقول الذي معه الحجة، وتؤيده القواعد الشرعية، ولا عبرة بالكثرة في مقابل الحجة، والسلف الصالح ما كانوا يقدمون قول الأكثر على الأقل، وإنما كانوا يأخذون بالقول الذي معه الحجة.
عن أبي هريرة أنه قال: إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ مالا يحفظون. أخرجه البخاري "118".
قال ابن حزم في الإحكام "1/599": ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من السنن ما ليس عند الجماعة، وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره فهو المصيب في فتياه بهذا دون غيره.. وبينا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك، كثر القائلون به أو قلُّوا، وهذا باب ينبغي أن يتقى فقد عظم الضلال به، ونعوذ بالله العظيم من البلادة. انتهى.
(1/59)
 
 
القياس
القاعدة الأولى: القياس حجة من الحجج الشرعية
القياس حجة من الحجج الشرعية دلَّ على حجيته:
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له وإجماع الصحابة عليه، أما دليل الإقرار فهو حديث عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود" قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان" أخرجه مسلم "510".
ووجه الدلالة من الحديث أن أبا ذر قاس الكلب الأحمر والأصفر على الكلب الأسود فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القياس ولكن بين له أن العلة في الكلب الأسود غير موجودة في الكلاب الأخرى فافترق الحكم.
وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى.. ثم قس الأمور بعضها ببعض، وانظر أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاتبعه. أخرجه الإسماعيلي
(1/60)
 
 
"كما في مسند الفاروق 2/546" بإسناد صحيح.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين "1/176، 177": وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره..، ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها من بعض سرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق..، قال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهلم جرا استعملوا القياس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم. انتهى.
(1/61)
 
 
القاعدة الثانية: لا قياس في مقابل النص
إذا ثبت النص بطل القياس لأنه لا قول لأحد مع قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأن النص هو الأصل والقياس فرع، والأصل يبطل الفرع، ولا يُبطل الفرع الأصل، وفي الحقيقة أنه ليس هناك نص في الكتاب والسنة يخالف القياس أبداً، وإذا قيل بأن قياساً مخالف للنص فهذا يدل على بطلان ذلك القياس، قال ابن القيم في إعلام الموقعين "4/24" بعد أن ذكر مجموعة من النصوص وافق بينها وبين القياس قال: فهذه نبذة يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجوداً وعدماً
(1/61)
 
 
كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجوداً وعدماً فلم يخبر الله ولا رسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل. انتهى.
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "19/288": ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد ولا يوجد نص يخالف قياساً صحيحاً كما لا يوجد معقول صريح مخالف للمنقول الصحيح. انتهى.
(1/62)
 
 
القاعدة الثالثة: القياس لا يصار إليه إلا عند الضرورة
أهل الحديث لا يتوسعون في استعمال القياس، وإنما يستعملون القياس حين تضيق السبل بالأدلة الأخرى، قال الإمام أحمد "كما في كتاب أصول البدع والسنن/87": سألت الشافعي عن القياس فقال: عند الضرورة.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين "1/304": وأما أصحاب الرأي والقياس فإنهم لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها فوسعوا طرق الرأي والقياس وقالوا بقياس الشبه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللاً لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها. انتهى.
(1/62)
 
 
القاعدة الرابعة: يصح القياس على ما ثبت خلافاً للأصل
قال السمعاني في قواطع الأدلة "1/119": يجوز القياس على أصل مخالف في نفسه الأصول بعد أن يكون ذلك الأصل ورد به الشرع ودل عليه الدليل.. ثم قال "ص 121": والمعتمد أن ما ورد به الخبر صار أصلا بنفسه فالقياس عليه يكون كالقياس على سائر الأصول.
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى "20/555": فذهب طائفة من الفقهاء إلى أن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه، ويحكى هذا عن أصحاب أبي حنيفة، والجمهور أنه يقاس عليه، وهذا هو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وقالوا: إنما ينظر إلى شروط القياس فما عُلمت علته ألحقنا به ما شاركه في العلة، سواء قيل: إنه على خلاف القياس أو لم يُقل، وكذلك ما علم انتفاء الفارق فيه بين الأصل والفرع، والجمع بدليل العلة كالجمع بالعلة، وأما إذا لم يقم دليل على أنه كالأصل فهذا لا يجوز فيه القياس، سواء قيل إنه على وفق القياس أو خلافه، ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها ما كان في معانيها، وحقيقة الأمر أنه لم يُشرع شيء على خلاف القياس الصحيح، بل ما قيل: إنه على خلاف القياس: فلا بد من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التي خالفها واقتضى مفارقته لها في الحكم، وإذا كان كذلك فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه، وإلا كان من الأمور المفارقة له. انتهى.
(1/63)
 
 
القاعدة الخامسة: القياس الصحيح مقدم على الحديث الضعيف
الحديث الضعيف لا اعتبار به في الأحكام وإنما الأحكام مبنية على الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع والقياس، فيقدم القياس على الحديث الضعيف، وفي البحر المحيط "8/46": وقال الشافعي: لا يجوز القياس مع نص القرآن أو خبر مسند صحيح وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم.. وحكى الشيخ شهاب أبو شامة أنه سمع أبا الوفاء بن عقيل في رحلته إلى العراق يقول: مذهب أحمد أن ضعيف الأثر خير من قوي النظر، قال ابن العربي: وهذه وهلة من أحمد، وقال بعض أئمة الحنابلة المتأخرين، هذا ما حكاه عن أحمد ابنه عبد الله، ذكره في مسائله، ومراده بالضعيف غير ما اصطلح عليه المتأخرون من قسم الصحيح والحسن، بل عنده الحديث قسمان صحيح وضعيف، والضعيف ما انحط عن درجة الصحيح وإن كان حسناً.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين "1/25": ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب ... انتهى.
(1/64)
 
 
القاعدة السادسة: قول الصحابي الذي لم يخالفه صحابي آخر مقدم على القياس
قول الصحابي مقدم على القياس وذلك لأن الصحابي أدرى ممن أتى بعده بمسالك العلة وطرق القياس وكيفية النظر والاعتبار، يقول شيخ
(1/64)
 
 
الإسلام في رسالته في القياس "50": وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها، وأعتبر هذا بمسائل الأيمان والنذور والعتق والطلاق وغير ذلك، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك، وقد بينت فيما كتبته أن المنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال قضاء وقياساً، وعليه يدل الكتاب والسنة وعليه دور القياس الجلي، وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف للنصوص، وكذلك في مسائل غير هذه، مثل مسألة ابن الملاعنة، ومسألة ميراث المرتد، وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال المنقولة عن الصحابة وإلى ساعتي هذه ما علمت قولاً قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا وكان القياس معه. انتهى.
(1/65)
 
 
القاعدة السابعة: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً
فال ابن القيم في إعلام الموقعين "4/90": الحكم يدور مع علته وسببه وجوداً وعدماً، ولهذا إذا علق الشارع حكماً بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالهما كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خلا زال الحكم، وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه، والشريعة مبنية على هذه القاعدة فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله
(1/65)
 
 
لأن يمينه تعلقت به لذلك الوصف فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "18/274": العلة إذا عدمت عدم الحكم المتعلق بها بعينه، لكن يجوز وجود مثل ذلك الحكم بعلة أخرى، فإذا وجد ذلك الحكم بدون علة أخرى علم أنها عديمة التأثير وبطلت، وأما إذا وجد نظير ذلك الحكم بعلة أخرى كان نوع ذلك الحكم معللاً بعلتين وهذا جائز، كما إذا قيل في المرأة المرتدة: كفرت بعد إسلامها فتقتل قياساً على الرجل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً فقتل بها". فإذا قيل له: لا تأثير لقولك: كفر بعد إسلامه فإن الرجل يقتل بمجرد الكفر، وحينئذ فالمرأة لا تقتل بمجرد الكفر، فيقول: هذه علة ثابتة بالنص وبقوله: "من بدَّل دينه فاقتلوه" وأما الرجل فما قتلته لمجرد كفره بل لكفره وجراءته، ولهذا لا أقتل من كان عاجزاً عن القتال كالشيخ الهرم ونحوه، وأما الكفر بعد الإسلام فعلة أخرى مبيحة للدم، ولهذا قُتل بالردة من كان عاجزاً عن القتال كالشيخ الكبير. انتهى.
(1/66)
 
 
القاعدة الثامنة: العلة لا تثبت إلا بدليل
علة الأحكام لا تثبت بالظن والتخمين وإنما تثبت بالدليل، قال الخطيب في الفقيه والمتفقه "1/210، 214": اعلم أن العلة الشرعية
(1/66)
 
 
إمارة على الحكم ودلالة عليه، ولا بد في رد الفرع إلى الأصل من علة تجمع بينهما، ويلزم أن يدل دليل على صحتها لأن العلة شرعية كما أن الحكم شرعي، فكما لا بد من الدلالة على الحكم فكذلك لابد من الدلالة على العلة، والذي يدل على صحة العلة شيئان: أصل واستنباط، فأما الأصل فهو قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإجماع الأمة، فأما قول الله وقول رسوله فدلالتهما من وجهين: أحدهما من جهة النطق، والثاني من جهة الفحوى والمفهوم، فأما دلالتهما من جهة النطق فمن وجوه بعضها أجلى من بعض، فأجلاها ما صرح فيه بلفظ التعليل،.. عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بودان أو بالأبواء حماراً وحشياً فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بوجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أننا حرم" فبين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول المعنى الذي لأجله رده، ليعلم أن اصطياد المحرم وما صيد له وأهدي إليه بمنزلة واحدة..، ويليها في البيان أن يعلق الحكم على عين موصوفة بصفة وقد يكون هذا بلفظ الشرط كقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فالظاهر أن حمل المرأة على وجوب النفقة، وقد يكون بغير لفظ الشرط كقول الله تعالى: {والسَّارقُ والسَّارِقةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} [المائدة: 38] ظاهر أن السرقة على وجوب القطع، وأما دلالتها من جهة الفحوى والمفهوم فمن وجوه بعضها أجلى من بعض أيضا، فأوضحها ما دل عليه بالتنبيه كقول
(1/67)
 
 
الله تعالى: {فَلا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . لفظ الآية يدل بالتنبيه عند سماعه على أن الضرب أولى بالمنع من التأفيف..، ويلي ما ذكرناه في البيان أن يذكر صفة فيفهم من ذكرها المعنى الذي تتضمنه