غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر
المؤلف: أحمد بن محمد مكي، أبو العباس، شهاب الدين الحسيني الحموي الحنفي (المتوفى: 1098هـ)
عدد الأجزاء:4
الْمُعَلَّقُ يَتَأَخَّرُ وَالْمُضَافُ يُقَارِنُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةً مَهْجُورَةً، وَالْحَقِيقَةُ الْمَهْجُورَةُ كَالْمَجَازِ، وَلِهَذَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ مِنْ الْوِفَاقِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةً مَهْجُورَةً وَنَظِيرُ وُقُوعِهِ أَوَّلًا لِلْوَاحِدِ وَانْصِرَافُهُ إلَى الْكُلِّ بِالنِّيَّةِ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ، أَوَّلًا إلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ لَيْلًا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ، وَلَوْ نَوَى النَّهَارَ صَدَقَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ، وَلَوْ نَوَى فِي الْجِنْسِ عَدَدًا مُعَيَّنًا لَا يَصْدُقُ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ فَرْدٌ فَالْفَرْدِيَّةُ مُرَاعَاةٌ فِي الْجُمْلَةِ، أَعْنِي الْوَاحِدَ عِنْدَ التَّعَذُّرِ أَوْ الْكُلَّ عِنْدَ عَدَمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فَرْدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَاقِي الْأَجْنَاسِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَإِسْقَاطِ مَعْنَى التَّوْحِيدِ، أَمَّا فِي الْجَمْعِ إذَا نَوَى فِيهِ الْكُلَّ أَوْ الْعَدَدَ صَدَقَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَدَدِ، وَالْفَرْدِيَّةُ لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ فِيهِ. كَذَا فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْجَامِعِ لِلْفَخْرِ الْمَارْدِينِيِّ. وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْعَتَّابِيِّ: وَلَوْ قَالَ نِسَاءً أَوْ عَبِيدًا فَثَلَاثٌ لِلْجَمْعِ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الْكَامِلِ، وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ الْجَمِيعَ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ وَإِنْ نَوَى الْوَاحِدَ يَصْدُقُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَفِيهِ تَغْلِيظٌ.
 
(37) قَوْلُهُ: الْمُعَلَّقُ يَتَأَخَّرُ وَالْمُضَافُ يُقَارِنُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ يَنْزِلُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْمُضَافُ يَنْزِلُ مُقَارِنًا لِلْوَقْتِ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَهَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُقَارِنُ السَّبَبَ بَلْ يُوجَدُ عَقِيبَهُ، وَالْمُضَافُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَا يَمْنَعُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ مُقَارِنًا لِلْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يُقَدَّمُ، أَمَّا الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الشَّرْطِ عَلَى السَّبَبِ يَمْنَعُ اتِّصَالَهُ بِمَحَلِّهِ، وَبِدُونِ الِاتِّصَالِ بِالْمَحَلِّ لَا يُسَمَّى سَبَبًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالْمُرْسَلِ عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ عَقِيبَ الشَّرْطِ لِيَقَعَ الْحُكْمُ عَقِيبَ سَبَبِهِ.
لَكِنَّ الْمُضَافَ إنْ فَارَقَ الْمُعَلَّقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ وَافَقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْوَقْتِ الَّذِي أَضَافَهُ إلَيْهِ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ مَا الْتَزَمَ الطَّلَاقَ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ تِلْكَ الصِّفَةِ كَالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَرَضُهُ
(2/160)
 
 
قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِشَهْرٍ أَوْ أُطَلِّقَ لَا يَنْعَقِدُ، 39 - وَلَوْ قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَهْرٍ، فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشَّهْرِ لَا تَطْلُقُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
التَّنْجِيزُ لَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَخْصَرَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْأَخْصَرِ دَلَّ عَلَى مُرَادِهِ التَّأْخِيرَ.
(38) قَوْلُهُ: قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِشَهْرٍ إلَخْ. الْمَقَامُ مَقَامُ التَّفْرِيعِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يَقْبَلُهُ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: فَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إلَخْ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِشَهْرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلِانْعِدَامِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهُوَ شَهْرٌ قَبْلَ التَّزَوُّجِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ التَّزَوُّجَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِيَقَعَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُضَافٌ إلَى الْوَقْتِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَكَانَ التَّزَوُّجُ مُوجِدًا لِلشَّرْطِ وَالْمُوجِدُ لِلشَّرْطِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
(39) قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك إلَخْ يَعْنِي فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ شَهْرٍ لَا تَطْلُقُ لِانْعِدَامِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ شَهْرٍ، ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهَا تَطْلُقُ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهَا طَلُقَتْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ وَقْتَ التَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ بِكَلِمَةِ إذَا وَهِيَ لِلْوَقْتِ فَيَتَعَلَّقُ بِوَقْتِ التَّزَوُّجِ وَيَقَعُ عَقِبَهُ لَكِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ وَقْتَ التَّزَوُّجِ وَاقِعًا بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فَيَلْغُو، كَمَا لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَنَّهُ يَقَعُ فِي تِلْكَ وَيَلْغُو قَوْلُهُ أَنْ أَتَزَوَّجَك. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخِلَافَ فِي الْمُطْلَقِ دُونَ الْمُقَيَّدِ بِشَهْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ. لِأَبِي يُوسُفَ تَقْدِيمُ الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك إذَا تَزَوَّجْتُك، حَيْثُ يَقَعُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّضَادِّ مِنْ الْمُقَارَنَةِ وَالتَّأَخُّرِ وَالْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ فَيُجْعَلُ آخِرُهُمَا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ؛ وَبَيَانُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى مَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ قَبْلَهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالتَّزَوُّجِ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ قَبْلَهُ فَيَتَحَقَّقُ التَّنَافِي فَيُجْعَلُ آخِرُهُمَا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ. وَمِنْ هُنَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ تَقْدِيمِ الْجَزَاءِ
(2/161)
 
 
وَبَعْدُ تَطْلُقُ
41 - النِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْمَلْفُوظِ 42 -
وَهِيَ مَسْأَلَةُ إنْ أَكَلْت وَنَوَى طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَتَأْخِيرِهِ، فَتَقُولُ إذَا قُدِّمَ الْجَزَاءُ وَأُخِّرَ التَّعْلِيقُ انْتَسَخَتْ الْإِضَافَةُ وَبَطَلَتْ الْقَبْلِيَّةُ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك وَإِذَا قُدِّمَ التَّعْلِيقُ نَسَخَتْهُ الْإِضَافَةُ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك فَلَا يَقَعُ، وَشَاهِدُ اعْتِبَارِ تَرْجِيحِ الْمُتَأَخِّرِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ يَبْطُلُ ذِكْرُ الْغَدِ، وَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الْيَوْمَ وَقَعَ، فَقَدْ اجْتَمَعَ الْإِضَافَةُ وَالتَّعْلِيقُ وَبَطَلَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّقَدُّمِ كَمَا تَرَى.
(40) قَوْلُهُ: وَبَعْدَهُ تَطْلُقُ. قِيلَ عَلَيْهِ: إنَّ لَفْظَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى التَّزَوُّجِ ظَاهِرًا وَقَضِيَّتُهُ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ أَجْنَبِيَّةٌ فَمَا وَجْهُ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ (انْتَهَى) .
أَقُولُ وَجْهُ التَّفْصِيلِ عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ شَهْرٍ لَا تَطْلُقُ لِانْعِدَامِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ شَهْرٍ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ وَقْتَ التَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ بِكَلِمَةِ إذَا وَهِيَ لِلْوَقْتِ فَيَتَعَلَّقُ بِوَقْتِ التَّزَوُّجِ وَيَقَعُ عَقِبَهُ وَيَلْغُو قَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ
 
(41) قَوْلُهُ: النِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْمَلْفُوظِ أَيْ لَا فِي غَيْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّيَّةَ يُقْصَدُ بِهَا التَّمْيِيزُ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي لَفْظٍ مُحْتَمِلٍ كَعَامٍّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ أَوْ مُجْمَلٍ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ أَوْ مُشْتَرَكٍ يُعَيِّنُ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا يَبْقَى مُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلِهَذَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، ثُمَّ اللَّفْظُ الَّذِي يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ إنْ احْتَمَلَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَنَوَى أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهُ وَإِنْ احْتَمَلَ أَحَدَهَا احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَنَوَى ذَلِكَ الْمَرْجُوحَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ يَصْدُقُ أَيْضًا دِيَانَةً وَقَضَاءً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَوَى وَإِنْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لَا يَصْدُقُ دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ يَخْلُو عَنْ اللَّفْظِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا حُكْمَ لَهَا عَلَى الِانْفِرَادِ.
(42) قَوْلُهُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ إنْ أَكَلْت وَنَوَى طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ يَعْنِي إذَا ذَكَرَ فِعْلًا وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ الْمَفْعُولَ وَنَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بِأَنْ نَوَى طَعَامًا مُعَيَّنًا لَا يَصْدُقُ دِيَانَةً وَلَا
(2/162)
 
 
إلَّا إذَا قَالَ إنْ خَرَجْت وَنَوَى السَّفَرَ الْمُتَنَوِّعَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
قَضَاءً؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْعَامِّ وَهِيَ تَعْمَلُ فِي الْمَلْفُوظِ وَالْمَذْكُورِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ لَا عُمُومَ لَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ وَعَلَيْهَا اعْتَمَدَ الْخَصَّافُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَفْعُولَ فِعْلِهِ وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلْفُوظًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَلْفُوظِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَسْتَدْعِيهِ وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَحَلًّا فَصَحَّتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَصْدُقُ قَضَاءً.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْفِعْلُ وَلَا عُمُومَ لَهُ، كَذَا نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْفِعْلَ وُجُودُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ بِقَدْرِ مَا بَاشَرَهُ وَالْمَفْعُولُ لَيْسَ بِثَابِتٍ لَفْظًا، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ قِيلَ: الْفِعْلُ فِيمَا لَوْ قَالَ إذَا اغْتَسَلْت وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَكِنَّهُ يَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ وَوَاجِبٍ وَمَسْنُونٍ وَمُسْتَحَبٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يُجَوِّزَ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ نَظَرًا إلَى أَنْوَاعِهِ قُلْنَا هَذَا التَّنَوُّعُ شَرْعِيٌّ وَالْأَلْفَاظُ وُضِعَتْ بِإِزَاءِ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ دُونَ الْحُكْمِيَّةِ لِتَقَدُّمِ وَضْعِهَا.
وَالتَّخْصِيصُ إنَّمَا يَجْرِي فِي اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ لَا الْعَارِضِيِّ وَإِنْ ذَكَرَ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ مَفْعُولًا بِأَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً أَوْ إنْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ إنْ اغْتَسَلَ أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَفَاعِيلِ الْمَذْكُورَةِ نَكِرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَيَعُمُّ فَيَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الشَّيْءِ وَإِرَادَةِ بَعْضِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ} [البقرة: 260] الْآيَةَ.
وَكَانَتْ أَرْبَعَةَ جِبَالٍ لَكِنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
(43) قَوْلُهُ: إلَّا إذَا قَالَ إنْ خَرَجْت وَنَوَى السَّفَرَ إلَخْ يَعْنِي أَنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَفْعُولَ مَعَ الْفِعْلِ.
وَقَوْلُهُ أَوْ نَوَى السَّفَرَ الْمُتَنَوِّعَ صَوَابُهُ: وَنَوَى السَّفَرَ لِلتَّنَوُّعِ كَمَا فِي تَلْخِيصِ الْجَامِعِ أَيْ لِتَنَوُّعِ الْخُرُوجِ وَهُوَ يَرِدُ نَقْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ فِعْلِ الِاغْتِسَالِ مَعَ تَنَوُّعِهِ إلَى فَرْضٍ وَغَيْرِهِ.
وَبَيَانُ النَّقْضِ أَنَّهُ فِعْلٌ ذُكِرَ وَحْدَهُ وَاعْتُبِرَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ لِتَنَوُّعِهِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ فِي فِعْلِ الِاغْتِسَالِ مَعَ تَنَوُّعِهِ، حَتَّى قَالَ الْقَاضِي أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَّحِدَ الْجَوَابُ وَإِلَيْهِ مَالَ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو نَصْرٍ الصَّفَّارُ
(2/163)
 
 
وَفِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ، وَنَوَى حَبَشِيَّةً أَوْ عَرَبِيَّةً
45 - الْمُعَرَّفُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُنَكَّرِ. قَالَ إنْ دَخَلَ دَارِي هَذِهِ أَحَدٌ أَوْ كَلَّمَ غُلَامِي هَذَا أَوْ ابْنِي هَذَا أَوْ أَضَافَ إلَى غَيْرِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
عَنْ الْقُضَاةِ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا فِيمَا إذَا قَالَ إنْ خَرَجْت خُرُوجًا. قَالُوا وَنَصَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ عَلَى هَذَا. وَالْفَرْقُ عَلَى الظَّاهِرِ هُوَ أَنَّ الْخُرُوجَ مُتَنَوِّعٌ فِي نَفْسِهِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْفِصَالِ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إلَى مَكَانِ قَصْدِهِ، وَذَلِكَ الْمَكَانُ تَارَةً يَكُونُ قَرِيبًا وَتَارَةً يَكُونُ بَعِيدًا، وَلِهَذَا يُقَالُ سَافَرَ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْخُرُوجِ، فَيَجْعَلُونَ الْخُرُوجَ عَيْنَ السَّفَرِ، فَإِذَا نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ الْخُرُوجِ فَقَدْ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ فَيَصْدُقُ دِيَانَةً بِخِلَافِ فِعْلِ الِاغْتِسَالِ فَإِنَّهُ مُتَنَوِّعٌ شَرْعًا لَا لُغَةً؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ إذْ هُوَ وَاقِعٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ وَإِنَّمَا الْمُغْتَسِلُ مِنْهُ هُوَ الْمُتَنَوِّعُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ لَفْظًا فَإِذَا نَوَى نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُغْتَسَلِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَنْوِيُّ عَيْنَ الْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ نَوْعًا لَهُ فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ فِيهِ، فَوَضَحَ الْفَرْقُ. قِيلَ قَيَّدَ بِنِيَّةِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى مَكَانًا بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت، لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَلَا هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ.
(44) قَوْلُهُ: وَفِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ وَنَوَى حَبَشِيَّةً أَوْ عَرَبِيَّةً. رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت وَنَوَى حَبَشِيَّةً أَوْ عَرَبِيَّةً فَإِنَّهُ دِينٌ وَلَوْ نَوَى كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً لَا يَصْدُقُ دِيَانَةً وَلَا قَضَاءَ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْيَمِينَ هَهُنَا لِلْمَنْعِ وَمَنْعُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَنْهَا بِالْيَمِينِ لَا يَلِيقُ عَادَةً؛ لِأَنَّ الْمَدَنِيَّةَ جَامِعَةٌ لِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ غَالِبًا وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فِي الْعَادَةِ. كَذَا فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْفَخْرِ عُثْمَانَ الْمَارْدِينِيِّ
 
(45) قَوْلُهُ: الْمُعَرَّفُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُنَكَّرِ. أَطْلَقَ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ وَفِيهِ مَا فِيهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُعَرَّفَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُنَكَّرِ هُوَ الْمُعَرَّفُ بِالتَّعْرِيفِ الْكَامِلِ لِمَا بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ مِنْ التَّضَادِّ، وَأَمَّا الْمُعَرَّفُ تَعْرِيفًا نَاقِصًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْمُنَكَّرِ لِبَقَاءِ التَّنْكِيرِ مِنْ وَجْهٍ فَجَانَسَ الْمُنَكَّرَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دُخُولُ الْمُعَرَّفِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَا، فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَصْلِ بَيْنَ التَّعْرِيفِ الْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ، فَالْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يَنْقَطِعُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَغَيْرِهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَبِّحَ مَعَهُ ذَلِكَ
(2/164)
 
 
لَا يَدْخُلُ الْمَالِكُ لِتَعْرِيفِهِ، 47 - بِخِلَافِ النِّسْبَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
الِاسْتِفْهَامَ عَنْهُ كَالْإِضَافَةِ إلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْإِشَارَةِ وَكَافِ الْخِطَابِ وَالضَّمَائِرِ، وَالنَّاقِصُ مَا لَا يَنْقَطِعُ مَعَهُ الِاشْتِرَاكُ يَحْسُنُ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ كَالتَّعْرِيفِ بِاسْمِ الْعِلْمِ وَالنِّسْبَةِ فَإِنَّ غَيَّرَ الْمُعَرَّفِ يُشَارِكُ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَصَارَ مُعَرَّفًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُعَرَّفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَحَدَيْهِمَا أَعْرَفُ يَغْلِبُ الْأَعْرَفُ مِنْهُمَا، أَلَا تَرَى أَنْ تَقُولَ أَنَا وَأَنْتَ قُمْنَا فَتُغَلِّبُ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ وَكَذَا أَنْتَ وَهُوَ قِيمَتُهَا فَتَغَلُّبُ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ أَعْرَفُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيُقَالُ: يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ أَعْرَفَ مِنْ الِاسْمِ الْعَلَمِ وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ عَلَى عَكْسِهِ وَلِهَذَا جَازَ نَعْتُ الْعَلَمِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الْعَكْسِ فَلَا يُقَالُ: جَاءَ هَذَا زَيْدٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَيُقَالُ: إنَّ الْعَلَمَ وَإِنْ كَانَ أَعْرَفَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَعْرِيفَ الْعَلَمِيَّةِ لَا يُفَارِقُ الْمُعَرَّفَ حَاضِرًا كَانَ أَوْ غَائِبًا حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، بِخِلَافِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، لَكِنَّهُ فِي قَطْعِ الِاشْتِرَاكِ دُونَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ أَعْرَفُ مِنْ الْعَلَمِ؛ لِأَنَّ لِتَعَرُّفِهِ حَظًّا مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ. وَالْعِلْمُ حَظُّهُ مِنْ الْقَلْبِ خَاصَّةً، وَيَنْتَقِضُ بِمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلَ دَارِي هَذِهِ أَحَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ هِيَ طَلُقَتْ. فَقَدْ دَخَلَ الْمُعَرَّفُ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمُعَرَّفَ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُنَكَّرِ وَهُوَ الْمُعَرَّفُ الْوَاقِعُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلَ دَارِي هَذِهِ أَحَدٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَدَخَلَ الْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ التَّضَادَّ بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. عَلَى أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ الْمُعَرَّفَ فِي حَيِّزِ الْجَزَاءِ حِينَ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ (أَحَدٌ) لَمْ يَكُنْ التَّنْكِيرُ الَّذِي دَخَلَ تَحْتَ النَّكِرَةِ.
(46) قَوْلُهُ: لَا يَدْخُلُ الْمَالِكُ لِتَعْرِيفِهِ. أَرَادَ بِالْمَالِكِ الْمُتَكَلِّمَ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي أُضِيفَتْ الدَّارُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا رَاجِعٌ إلَيْهِ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ، فَلَا يُدْرَجُ تَحْتَ لَفْظِ أَحَدٍ الَّذِي هُوَ نَكِرَةٌ، وَبِهِ يَظْهَرُ كَوْنُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ.
(47) قَوْلُهُ: بِخِلَافِ النِّسْبَةِ أَيْ بِخِلَافٍ بِالنِّسْبَةِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلَ دَارَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدٌ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَالْحَالِفُ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَدَخَلَ يَحْنَثُ لِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّكِرَةِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالنِّسْبَةِ قَاصِرٌ فَلَا يَزُولُ التَّنْكِيرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ
(2/165)
 
 
وَلَوْ لَمْ يُضِفْ يَدْخُلُ لِتَنْكِيرِهِ، 49 - إلَّا فِي الْأَجْزَاءِ كَالْيَدِ وَالرَّأْسِ، 50 - وَإِنْ لَمْ يُضِفْ لِلِاتِّصَالِ
51 - الْفِعْلُ يَتِمُّ بِفَاعِلِهِ مَرَّةً وَبِمَحَلِّهِ أُخْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالنِّسْبَةِ مُعْتَبَرٌ كَالْإِضَافَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِغَائِبٍ سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ.
قُلْنَا إنَّ التَّعْرِيفَ بِالنِّسْبَةِ لَا تَنْقَطِعُ مَعَهُ الشَّرِكَةُ وَلِهَذَا كَانَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِهِ فِي الْغَائِبِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ التَّعْرِيفِ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ فِي حَالَةِ الْحُضُورِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ تَعْرِيفُ نَفْسِهِ بِالْإِضَافَةِ، فَحَيْثُ أَعْرَضَ عَنْهَا مَعَ كَوْنِهَا أَبْلَغُ وَأَخْصَرُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ إرَادَةِ دُخُولِهِ تَحْتَ النَّكِرَةِ فَيَدْخُلُ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِلْغَائِبِ بِمُجَرَّدِ النِّسْبَةِ وَنَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهَا قَاطِعَةٍ لِلِاشْتِرَاكِ.
(48) قَوْلُهُ: وَلَوْ لَمْ يُضِفْ إلَخْ أَيْ إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ أَحَدٌ أَوْ كَلَّمَ هَذَا الْعَبْدَ أَحَدٌ وَالدَّارُ وَالْعَبْدُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَدَخَلَ الْحَالِفُ الدَّارَ أَوْ كَلَّمَ الْعَبْدَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ النَّكِرَةِ هُوَ التَّعْرِيفُ، وَلَمْ يُوجَدْ فَيَدْخُلُ الْحَالِفُ تَحْتَ عُمُومِ النَّكِرَةِ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ.
(49) قَوْلُهُ: إلَّا فِي الْأَجْزَاءِ كَالْيَدِ إلَخْ أَيْ إلَّا فِي الْأَجْزَاءِ الْمُتَّصِلَةِ سَوَاءٌ أَضَافَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ إنْ قَطَعَ يَدِي هَذِهِ أَحَدٌ أَوْ لَمْ يُضِفْ بِأَنْ قَالَ إنْ قَطَعَ هَذِهِ الْيَدَ أَحَدٌ وَأَشَارَ إلَى يَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، أَمَّا فِي الْإِضَافَةِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي الْإِشَارَةِ مَعَ قَطْعِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا صَارَ مُعَرَّفًا بِالْإِشَارَةِ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ مُعَرَّفًا، إذْ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بَعْضُهُ مُعَرَّفًا بِالْإِشَارَةِ وَبَعْضُهُ مُنْكَرًا، فَلِهَذَا يَنْقَطِعُ الِاسْتِفْهَامُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ
(50) قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يُضِفْ لِلِاتِّصَالِ أَيْ لِاتِّصَالِهَا بِالْحَالِفِ بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ كَالدَّارِ وَنَحْوِهَا، حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَالِكُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْرِيفِهَا تَعْرِيفُ مَالِكِهَا لِلِانْفِصَالِ
 
(51) قَوْلُهُ: الْفِعْلُ يَتِمُّ بِفَاعِلِهِ مَرَّةً وَبِمَحَلِّهِ أُخْرَى. اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ مَتَى كَانَ مُقَيَّدًا
(2/166)
 
 
قَالَ إنْ شَتَمْته فِي الْمَسْجِدِ أَوْ رَمَيْت إلَيْهِ، فَشَرْطُ حِنْثِهِ كَوْنُ الْفَاعِلِ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
بِزَمَانٍ أَوْ مَكَان وَهُوَ يَسْتَدْعِي مَفْعُولًا فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّرْطُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا فَإِنْ كَانَ قَوْلًا فَالْمُعْتَبَرُ وُجُودُ الْفَاعِلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَحَلِّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ يَتِمُّ بِالْفَاعِلِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتِمَّ بِالْفَاعِلِ وَحْدَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْمَحَلِّ أَوْ لَا يَتِمَّ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْمَحَلِّ.
فَفِي الْأَوَّلِ يُكْتَفَى بِوُجُودِ الْفَاعِلِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَوْلِ وَفِي الثَّانِي يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَفْعُولُ خَاصَّةً، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ لَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ عَلَاقَةٍ بِهَا يُسَمَّى الْفَاعِلُ فَاعِلًا وَالْمَفْعُولُ مَفْعُولًا وَهُوَ الْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنْ الْفَاعِلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ سُمِّيَ مَفْعُولًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِيهِ فَالْعَلَاقَةُ نَفْسُ الْفِعْلِ فَيُكْتَفَى بِوُجُودِ الْفَاعِلِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَفْعُولًا إلَّا بِأَثَرِ ذَلِكَ فَالْعَلَاقَةُ نَفْسُ الْفِعْلِ مَعَ أَثَرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَنْ قَامَ بِهِ ذَلِكَ الْأَثَرُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اعْتَبَرْت وُجُودَهُمَا جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُؤَثِّرَ إنْ لَمْ يَتِمَّ بِالْفَاعِلِ وَحْدَهُ كَذَا لَا يَتِمُّ بِالْمَفْعُولِ وَحْدَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ وُجُودُهُمَا. قُلْنَا سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ وَرَجَّحْنَا الْمَفْعُولَ الَّذِي هُوَ الْمَحَلُّ الْقَائِمُ بِالْأَثَرِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ هُوَ الْمَقْصُودُ الذَّاتِيُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُنْفَى بِالْيَمِينِ هُوَ أَثَرُ الْفِعْلِ لَا ذَاتُهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ وَقُبْحَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ لَا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى الْفِعْلُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ فَإِنَّهُ لَوْ رَمَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ قَارُورَةً سُمِّيَ كَسْرًا وَلَوْ أَصَابَ إنْسَانًا وَمَاتَ سُمِّيَ قَتْلًا وَلَوْ لَمْ يَمُتْ سُمِّيَ جُرْحًا أَوْ شَجًّا أَوْ ضَرْبًا فَلِهَذَا رَجَّحْنَا مَنْ قَامَ بِالْمَقْصُودِ. وَكَذَا فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْفَخْرِ الْمَارْدِينِيِّ.
(52) قَوْلُهُ: قَالَ إنْ شَتَمْته فِي الْمَسْجِدِ أَوْ رَمَيْت إلَيْهِ إلَخْ يَعْنِي إذَا قَالَ الرَّجُلُ إنْ شَتَمْتُك فِي الْمَسْجِدِ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَشَتَمَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَشْتُومُ خَارِجَهُ يَحْنَثُ وَبِالْعَكْسِ لَا، لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّتْمَ يَتِمُّ بِالشَّاتِمِ وَحْدَهُ إذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ وَلِهَذَا يُشْتَمُ الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا الْيَمِينِ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ الْفُحْشِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِكَوْنِهِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ تَمَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: إنْ رَمَيْت إلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ الْمَقْرُونَ بِإِلَى لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِصَابَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّتْمِ،
(2/167)
 
 
وَإِنْ ضَرَبْته أَوْ جَرَحْته أَوْ قَتَلْته وَرَمَيْته؛ كَوْنُ الْمَحَلِّ فِيهِ
54 - الشَّرْطُ مَتَى اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ، يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَالْجَامِعُ عَدَمُ الْأَثَرِ بِالْمَحَلِّ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ مَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَشَرْطُ حِنْثِهِ كَوْنُ الْفَاعِلِ فِيهِ مِنْ التَّسَاهُلِ فَإِنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ الشَّتْمُ وَالرَّمْيُ وَكَوْنُ الْفَاعِلِ فِيهِ تَمَامُ الشَّرْطِ.
(53) قَوْلُهُ: وَإِنْ ضَرَبْته أَوْ جَرَحْته أَوْ قَتَلْته أَوْ رَمَيْته كَوْنُ الْمَحَلِّ فِيهِ. أَيْ شَرْطُ حِنْثِهِ كَوْنُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْحَالِفُ خَارِجَهُ، لَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ لَا يَحْنَثُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْمَفْعُولِ وَأَنَّهُ هُوَ الْقَائِمُ بِالْأَثَرِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ مِنْ التَّلْوِيثِ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَفْعُولِ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَنْ ذَبَحَ شَاةً فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْهُ، لَا تُذْبَحْ فِي الْمَسْجِدِ وَجَعَلَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُ رَمَيْته بِمَنْزِلَةِ شَتَمْته وَقَالَ لِأَنَّ الرَّمْيَ يَتِمُّ بِهِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ رَمَاهُ فَأَخْطَأَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَظِيرُ الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَفْعُولَ فِعْلِهِ بِذَكَرِ ضَمِيرِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِصَابَةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ فِي رَمَيْت إلَيْهِ، أَمَّا رَمَيْته فَلَمْ أُصِبْهُ فَخَطَأٌ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ النَّاشِئِ عَنْ كَمَالِ التَّحْرِيرِ سَقَطَ مَا قِيلَ.
قَدْ يُقَالُ قَوْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا وَالْفِعْلُ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ فِيهِمَا مَعًا فَمَا وَجْهُ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْفَاعِلِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْأَوَّلِ وَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَفْعُولِ فِيهِ فِي الثَّانِي؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَحَكُّمٌ، نَعَمْ إذَا اُعْتُبِرَ قَصْدًا لِمُتَكَلِّمٍ وَجُعِلَ الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ قَصْدِهِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَطْلَقَ فِي مَحَلِّ التَّقْيِيدِ
 
(54) قَوْلُهُ: الشَّرْطُ مَتَى اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ يَعْنِي: الشَّرْطُ مَتَى اُعْتُرِضَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْجَزَاءِ يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُمَا شَرْطًا لِانْعِدَامِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَتَعَذَّرَ جَعْلُ الثَّانِي مَعَ الْجَزَاءِ جَزَاءَ الْأَوَّلِ لِانْعِدَامِ حَرْفِ الْجَزَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا هُوَ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَتَى قُدِّمَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الرَّابِطِ فَقُدِّمَ الْمُؤَخَّرُ لِذَلِكَ، كَمَا لَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَهِيَ طَالِقٌ فَيُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرَ لِمَا قُلْنَا فِي تَقْرِيرِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَعْلُ الشَّرْطَيْنِ وَاحِدًا لِعَدَمِ الْعَطْفِ وَلَا
(2/168)
 
 
الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَنْزِلُ عِنْدَ آخِرِهِمَا. 56 - وَبِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْأَوَّلِ، 57 - وَالْمُضَافُ بِالْعَكْسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
جَعْلُ الْأَوَّلِ مَعَ الْجَزَاءِ جَزَاءً لِلْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْفَاءِ فَيُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ ضَرُورَةً فَيَصِيرُ الْكَلَامُ شَرْطًا لِانْعِقَادِ يَمِينِ التَّزَوُّجِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ لَا قَبْلَهُ، وَلَوْ نَوَى تَقْدِيرَ الْفَاءِ لَصِيرَ يَمِينُ التَّزَوُّجِ شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَلَا يَصْدُقُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ. أَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى
{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34] الْآيَةَ. مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، إنْ أَرَدْت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ؛ لِأَنَّ النُّصْحَ إنَّمَا لَمْ يَنْفَعْ لِتَقَدُّمِ إرَادَةِ الْإِغْوَاءِ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] الْآيَةَ. مَعْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّ إرَادَةَ النِّكَاحِ سَابِقَةٌ عَلَى الْهِبَةِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْأَوَّلُ هُوَ الْجَزَاءَ وَالْيَمِينُ التَّامُّ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَالْجَزَاءُ يَصْلُحُ جَزَاءً كَمَا يَصْلُحُ الْجَزَاءُ الْمُجَرَّدُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ وَالْمَنْعَ يَحْصُلُ بِخَوْفِ لُزُومِ الْيَمِينِ التَّامِّ كَمَا يَحْصُلُ بِخَوْفِ الْجَزَاءِ
 
(55) قَوْلُهُ: الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَنْزِلُ عِنْدَ آخِرِهِمَا. مِثَالُ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطَيْنِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ زَيْدٌ وَعُمَرُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ آخِرِهِمَا.
(56) قَوْلُهُ: وَبِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْأَوَّلِ أَيْ يَنْزِلُ عِنْدَ الْأُولَى كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا جَاءَ زَيْدٌ وَعُمَرُ وَيَقَعُ عِنْدَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ عِنْدَ آخِرِهِمَا لَكَانَ مُعَلَّقًا بِهِمَا.
(57) قَوْلُهُ: وَالْمُضَافُ بِالْعَكْسِ أَيْ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتَيْنِ يَنْزِلُ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا ظَرْفًا لِلْوَاقِعِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْوُقُوعِ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ ظَرْفًا، ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الثَّانِي ظَرْفًا أَيْضًا لِذَلِكَ الْوَاقِعِ، فَلَوْ نَزَلَ عِنْدَ آخِرِهِمَا لَكَانَ الظَّرْفُ الْأَخِيرَ، وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ عَنْ الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ جَعْلُهُمَا ظَرْفًا لِيَكُونَ مَوْصُوفُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فِي الْوَقْتَيْنِ، وَإِذَا أَضَافَ إلَى أَحَدِهِمَا يَنْزِلُ عِنْدَ آخِرِهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا لَكَانَ كِلَاهُمَا ظَرْفًا وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ
(2/169)
 
 
مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَنْقَسِمُ وَبِالْمُفْرَدِ لَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
هَذَا بَلْ قَصَدَ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِتِلْكَ الصِّفَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتَيْنِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْمُضَافُ بِالْعَكْسِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ سَقَطَ مَا قِيلَ. ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ بِالْعَكْسِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُوَ مُشْكِلٌ فِي الثَّانِيَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدُمُ زَيْدٌ أَوْ يَجِيءُ عَمْرٌو، وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْعَكْسِ نُزُولُ الْجَزَاءِ عِنْدَ آخِرِهِمَا تَحَقُّقًا وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الصَّادِقُ عَلَى السَّابِقِ تَحَقُّقًا فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ
 
(58) قَوْلُهُ: مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَنْقَسِمُ وَبِالْمُفْرَدِ لَا يَعْنِي مَتَى قَابَلَ جُمْلَةَ الْأَفْعَالِ بِجُمْلَةِ الْأَشْخَاصِ انْصَرَفَ كُلُّ فِعْلٍ إلَى شَخْصٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَشْخَاصِ، وَلَا تُصْرَفُ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا إلَى كُلِّ شَخْصٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَنْقَسِمُ، ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] لِيَدْخُلَ كُلٌّ مِنْكُمْ مِنْ بَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِمْ رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ وَلَبِسُوا ثِيَابَهُمْ، وَنُقِضَ هَذَا بِقَوْلِهِمْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ الْكَافِرِينَ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الِانْقِسَامَ بِالْفَرْدِ بَلْ ثُبُوتَ الْجَمْعِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَضْعَ اللَّفْظِ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَوُقُوعَ فِعْلِ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ انْقِسَامٍ إذَا أَمْكَنَ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَنْقُوضِ بِهِ، وَكَلَامَنَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَحَقَّقُ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ إلَّا بِطَرِيقِ الِانْقِسَامِ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ ضَرُورَةً، فَإِنْ قِيلَ: إذَا انْقَسَمَ عَلَى الْفَرْدِ لَا يَبْقَى لِلْجَمْعِ الَّذِي هُوَ صَرِيحُ اللَّفْظِ اعْتِبَارٌ قُلْنَا مُرَاعَاةُ الْجَمْعِ مَوْجُودَةٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْدَ إذَا قُوبِلَ بِالْمُفْرَدِ يَنْضَمُّ إلَيْهِ أَفْرَادٌ أُخَرُ عَلَى نَحْوِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَمَتَى قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْمُفْرَدِ اقْتَضَى وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْ الْجَمْعِ فِي ذَلِكَ الْمُفْرَدِ كَقَوْلِهِمْ دَخَلَ الْقَوْمُ دَارًا وَضَرَبُوا رَجُلًا وَهَذَا أَغْلَبِيٌّ وَقَدْ اقْتَضَى تَعْمِيمَ الْمُفْرَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] الْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُقَابَلَةَ الْمُثَنَّى بِالْمَثْنَى مَعَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِنْ أَفْرَادِ الْقَاعِدَةِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إذَا وَلَدْتُمَا وَلَدَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا طَلُقَتَا وَلَا يُشْتَرَطُ وِلَادَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدَيْنِ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْجَمْعِ هَهُنَا مَا قَابَلَ الْوَاحِدَ.
(2/170)
 
 
وَصْفُ الشَّرْطِ كَالشَّرْطِ. 60 - الْخَبَرُ لِلصِّدْقِ وَغَيْرِهِ. 61 - إلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِالْبَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
قَوْلَةُ: وَصْفُ الشَّرْطِ كَالشَّرْطِ يَعْنِي أَنَّ وَصْفَ الشَّرْطِ يُرَاعَى كَمَا يُرَاعَى أَصْلُهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ غَيْرَ رَاكِبَةٍ لَا تَطْلُقْ.
(60) قَوْلُهُ: الْخَبَرُ لِلصِّدْقِ وَغَيْرِهِ: الْخَبَرُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ لُغَةً. فِي الصِّحَاحِ يُقَالُ: مِنْ أَيْنَ أُخْبِرْت هَذَا الْأَمْرَ، أَيْ مِنْ أَيْنَ عَلِمْته، وَالِاسْمُ الْخُبْرُ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، فَمُقْتَضَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ أَنْ يَقَعَ عَلَى الصِّدْقِ خَاصَّةً لِيَحْصُلَ بِهِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْعِلْمُ إلَّا أَنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ لِلْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا، وَلِهَذَا يُقَالُ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ كَاذِبًا وَالْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ وَتَأَيَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الْآيَةَ. فَلَوْ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْكَذِبِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الصِّدْقِ لَمَا أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ إذْ لَوْ كَانَ لِلصِّدْقِ خَاصَّةً لَمْ يَكُنْ لِلتَّبْيِينِ مَعْنًى وَالنَّبَأُ وَالْخَبَرُ وَاحِدٌ.
(61) قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِالْبَاءِ. أَيْ الْخَبَرَ. كَأَنْ يَقُولَ: إنْ أَخْبَرْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَأَخْبَرَهُ يُشْتَرَطُ لِلْحِنْثِ صِدْقُهُ عَلِمَ الْمُخَبِّرُ أَمْ لَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ عَتَقَ الْعَبْدُ صَادِقًا كَانَ الْمُخْبِرُ أَوْ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْإِخْبَارِ وَقَدْ وُجِدَ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ هُنَاكَ بِخَبَرٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُلْصَقًا بِقُدُومِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ الْقُدُومِ لَا مَحَالَةَ لِيَتَحَقَّقَ الْإِلْصَاقُ، وَهُنَا اُشْتُرِطَ لِحِنْثِ الْخَبَرِ عَنْ قُدُومِهِ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَ، وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ الْخَبَرِ يَقَعُ عَنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لِمَعْنَى الْقَوْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْت لِي إنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَالْقَوْلُ يَكُونُ صِدْقًا وَكَذِبًا فَانْتَظَمَهَا الْيَمِينُ فَكَذَا الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَاهُ.
أَمَّا الْمَوْصُولُ بِالْبَاءِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: إنْ قُلْت بِقُدُومِ فُلَانٍ فَلَمْ يَكُنْ كَالْإِخْبَارِ السَّاذَجِ.
(2/171)
 
 
وَكَذَا الْكِتَابَةُ. 63 - وَالْعِلْمُ وَالْبِشَارَةُ عَلَى الصِّدْقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
(62) قَوْلُهُ: وَكَذَا الْكِتَابَةُ أَيْ الْكِتَابَةُ كَالْخَبَرِ يَقَعُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ تَارَةً يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقَلَمِ فَكَمَا أَنَّ الْخَبَرَ وَهُوَ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الصِّدْقِ، فَكَذَا الْكِتَابَةُ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمِّ بَعْضِ الْحُرُوفِ إلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَتَبَ إلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَتْ الْحَقِيقَةُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا وَحُصُولُ الْعِلْمِ مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَبِانْعِدَامِ الثَّمَرَةِ لَا يَنْعَدِمُ الْأَصْلُ كَالْخَبَرِ، فَلَوْ قَالَ: إنْ كَتَبْت إلَيَّ أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ، لَا يُشْتَرَطُ الصِّدْقُ حَتَّى لَوْ كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدِمَ فَلَمْ يَصِلْ الْكِتَابُ إلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ أَوْ وَصَلَ قَبْلَ قُدُومِهِ عَتَقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمُطْلَقٍ وَقَدْ وُجِدَ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ كَتَبْت إلَيَّ بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَهُوَ عَلَى الْكِتَابَةِ بِالصِّدْقِ فَلَوْ كَتَبَ إلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ وَالْكَاتِبُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ عَتَقَ الْعَبْدُ بَلَغَ الْكِتَابُ إلَى الْحَالِف أَوْ لَا؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَقْتَ الْكِتَابَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ عَمَلُهُ وَلَا وُصُولُ كِتَابِهِ.
(63) قَوْلُهُ: وَالْعِلْمُ وَالْبِشَارَةُ عَلَى الصِّدْقِ.
كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَالْأَعْلَامُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْبَابِ وَالْوَاوُ فِيهِ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ وَفِي الْبِشَارَةِ عَاطِفَةٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ عَلَى الصِّدْقِ خَبَرُهُمَا أَيْ الْعِلْمُ وَالْبِشَارَةُ لَا يَقَعَانِ إلَّا عَلَى الصِّدْقِ، سَوَاءٌ وَصَلَا بِالْبَاءِ أَمْ لَا أَمَّا الْعِلْمُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِعْلَامُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَإِحْدَاثِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ جَاهِلًا بِالْمُعَلَّمِ بِهِ لِتَحَقُّقِ حَدِّ الْعِلْمِ عِنْدَهُ وَتَحْصِيلِهِ لَدَيْهِ وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَلِأَنَّهَا اسْمٌ لِخَبَرٍ صَادِقٍ سَارٍّ تَتَغَيَّرُ بِهِ الْبَشَرَةُ وَلَيْسَ عِنْدَ الْمُبَشَّرِ عِلْمٌ بِالْمُبَشَّرِ بِهِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ اسْمًا لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ سَارًّا كَانَ أَوْ ضَارًّا، لَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي التَّغْيِيرِ مِنْ الْفَرَحِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهَا، فَإِنْ قِيلَ: وَجَبَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِيهَا الصِّدْقُ كَالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْبَشَرَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِالصِّدْقِ يَحْصُلُ بِالْكَذِبِ، قُلْنَا: الْخَبَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا لَا يَكُونُ تَبْشِيرًا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْبَشَرَةِ نَاشِئٌ عَنْ السُّرُورِ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ أَوَّلًا، وَذَلِكَ نَتِيجَةُ الصِّدْقِ إذْ هُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ حَتَّى قِيلَ: إنَّ الْخَبَرَ السَّارَّ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ اسْمُ الْبِشَارَةِ حَقِيقَةً لِتَوَهُّمِ الْكَذِبِ وَإِنْ كَانَتْ الْبَشَرَةُ تَتَغَيَّرُ بِهِ مَا لَمْ يَقِفْ الْمُبَشِّرُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَيَطَّلِعْ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فَحِينَئِذٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبِشَارَةِ حَقِيقَةً.
(2/172)
 
 
فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ وَتُجْعَلُ شَرْطًا لِلتَّعَذُّرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
(64) قَوْلُهُ: فِي لِلظَّرْفِيَّةِ وَتُجْعَلُ شَرْطًا لِلتَّعَذُّرِ. كَلِمَةُ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ لُغَةٌ كَزَيْدٍ فِي الدَّارِ وَالثَّوْبِ فِي الْجَوَابِ فَإِنْ أَدْخَلَهَا فِي ظَرْفِ الْمَكَانِ بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ أَوْ فِي الْكُوفَةِ يَقَعُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، فَإِذَا وَقَعَ فِي مَكَان فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا فَكَانَ تَنْجِيزًا، إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَنَيْت إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَيَصْدُقُ دِيَانَةً إذْ هُوَ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ كَنَّى بِالْمَكَانِ عَنْ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِيهِ أَوْ أَضْمَرَ الْفِعْلَ فِي كَلَامِهِ وَكِلَاهُمَا مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ، فَالْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْمُجَاوَرَةِ كَالْغَائِطِ وَالثَّانِي مِنْ بَابِ جَعْلِ الْمَحْذُوفِ كَالْمَنْطُوقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] الْآيَةَ. وَإِنْ أَدْخَلَهَا عَلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ وَهُوَ مَاضٍ، كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ أَوْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ فِي زَمَنِ الْمَاضِي، وَقَدْ وَصَفَهَا فِي الْحَالِ بِطَلَاقٍ وَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْمَاضِي فَيَقَعُ فِي الْحَالِ وَكَذَا إنْ كَانَ الزَّمَانُ حَاضِرًا مِثْلَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ أَوْ فِي هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِصِفَةٍ مَوْجُودَةٍ.
وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ مُسْتَقْبَلًا لَا يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّمَانِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ لِذَلِكَ وَإِذَا اخْتَصَّ بِالزَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا وَوَصَفَهُ بِزَمَانٍ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهُ كَمَا إذَا وَصَفَهُ بِشَرْطٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ جَعَلُهَا لِلظَّرْفِيَّةِ بِأَنْ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ أَعْنِي الْمَصْدَرَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِك الدَّارِ تُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيقِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتُجْعَلُ شَرْطًا لِلتَّعَذُّرِ وَذَلِكَ لِمَا بَيْنَ الظَّرْفِ وَالشَّرْطِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الْجَامِعَةِ وَهِيَ أَنَّ الظَّرْفَ يُقَارِنُ الْمَظْرُوفَ مُقَارَنَةً لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا مَعَهَا زَمَانًا، وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ مَعَ الْمَشْرُوطِ لَكِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ فِيهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَقِيمُ ذِكْرُهَا مَعَ الْمَشْرُوطِ لَوْ حُمِلَتْ كَلِمَةُ (فِي) عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى التَّعْلِيقِ كَمَا ذُكِرَ وَلَمْ يَفْعَلْ كَذَلِكَ بَلْ جُعِلَتْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى مَعَ؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي لِلْمُقَارَنَةِ مِثْلَ مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] وَكَقَوْلِهِمْ دَخَلَ الْأَمِيرُ فِي جَيْشِهِ أَيْ مَعَهُمْ، وَكَلِمَةُ مَعَ تُفِيدُ التَّعْلِيقَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ دُخُولِك الدَّارِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ
(2/173)
 
 
صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ تَزُولُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا لَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
بِالدُّخُولِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهَا إنَّمَا حُمِلَتْ عَلَى التَّعْلِيقِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ مَعَ. فَالْمُنَاسِبُ إذَنْ ذِكْرُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ (فِي) وَ (مَعَ) ثُمَّ بَيْنَ (مَعَ) وَبَيْنَ الشَّرْطِ. لَكِنَّ اللَّفْظَ إذَا اُسْتُعِيرَ لِغَيْرِهِ يَكُونُ الْعَمَلُ لِلْمُسْتَعَارِ دُونَ الْمُسْتَعَارِ لَهُ عِنْدَنَا، وَالْمُسْتَعَارُ هُنَا كَلِمَةُ (فِي) لَا كَلِمَةُ (مَعَ) فَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الظَّرْفِ وَالشَّرْطِ. كَذَا فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْفَخْرِ الْمَشْرُوطِ عَقِبَهُ كَمَا هُوَ حُكْمُ الشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَقَعُ مَعَهُ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْمُضَافِ؛ فَلَوْ قَالَ: وَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَكَانَ أَوْلَى وَأَظْهَرَ كَمَا لَا يَخْفَى
 
(65) قَوْلُهُ: صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ تَزُولُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا لَا. كَذَا فِي النُّسَخِ وَالصَّوَابُ: وَكَوْنُهُ مُشْتَرِيًا كَمَا فِي تَلْخِيصِ الْجَامِعِ.
أَصْلُ هَذَا أَنَّ صِفَةَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مَالِكًا لَا تَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ فِي الْعُرْفِ وَأَنَّ صِفَةَ كَوْنِهِ مُشْتَرِيًا تَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَرَى إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الشِّرَاءِ الْمِلْكُ، كَالْوَكِيلِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ حَنِثَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا اسْتَفَادَ صِفَةَ كَوْنِهِ مُشْتَرِيًا بِفِعْلِهِ، إذْ الشِّرَاءُ يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ وَلَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُ فِعْلِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَرَى. أَمَّا الْمَالِكُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ قَهْرًا بِالْمِيرَاثِ فَعُلِمَ أَنَّهُ اسْتَفَادَ صِفَةَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِحُصُولِ الْمِلْكِ لَا بِفِعْلِهِ فَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ زَالَ مَا بِهِ تَثْبُتُ الصِّفَةُ.
وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْعُرْفِ أَنَّ الْفَرْعَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْمِلْكِ، وَمُقْتَضَى الِاسْتِحْسَانِ التَّفْرِقَةُ، وَمُسْتَنَدُهُ الْعُرْفُ وَهُوَ رَجُلٌ قَالَ: إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ مَلَكْت مِائَتِي دِرْهَمٍ هِيَ صَدَقَةٌ. فَشَرْطُ نُزُولِ الْعِتْقِ وَوُجُوبِ الصَّدَقَةِ حُصُولُ الْعَبْدِ كَامِلًا فِي مِلْكِهِ وَوُصُولُ الدَّرَاهِمِ كَامِلَةً فِي مِلْكِهِ فَيَحْنَثُ. فَلَوْ مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ مَلَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ لَا يَعْتِقُ هَذَا النِّصْفُ وَكَذَا لَوْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَنْفَقَهَا ثُمَّ مَلَكَ مِائَةً أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهَذِهِ الْمِائَةِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ فَيَعْتِقَ النِّصْفُ الَّذِي اشْتَرَاهُ ثَانِيًا وَيَتَصَدَّقُ بِالْمِائَةِ الَّتِي مَلَكَهَا ثَانِيًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ مِلْكُ الْعَبْدِ وَالْمِائَتَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ الْكَمَالِ أَيْ الِاجْتِمَاعِ، فَإِذَا مَلَكَ عَبْدًا أَوْ مِائَتَيْنِ، وَلَوْ بِصِفَةِ الِافْتِرَاقِ، فَقَدْ حَصَلَ شَرْطُ الْحِنْثِ كَمَا فِي الْمُعَيَّنِ وَالْمُشْتَرَى.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ عِنْدَ وُجُودِ دَلِيلِ التَّقْيِيدِ وَالدَّلِيلُ تَارَةً يَكُونُ لَفْظِيًّا وَتَارَةً عُرْفِيًّا، وَالْمُقَيَّدُ
(2/174)
 
 
الْأَوَّلُ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
هُنَا عُرْفِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْعُرْفِ بِالْمِلْكِ ثُبُوتُ الْغِنَى؛ وَلِهَذَا يَقُولُ النَّاسُ فِي تَخَاطُبِهِمْ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا وَكَذَا، وَمُرَادُهُمْ إثْبَاتُ غِنَاهُ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِمِلْكٍ مُتَفَرِّقٍ. وَمِنْهُ يَقُولُ الرَّجُلُ لِنَفْيِ الْغِنَى: مَا مَلَكْت فِي عُمْرِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يُرِيدُ مَا اجْتَمَعَتْ فِي مِلْكِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا مَلَكَ مُتَفَرِّقًا أَضْعَافَ ذَلِكَ وَلَا عُرْفَ فِي الْمُعَيَّنِ وَالْمُشْتَرَى كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ إلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ فَقَالَ: إنْ مَلَكْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ مَلَكْت هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فَهِيَ صَدَقَةٌ، فَمَلَكَهَا مُتَفَرِّقًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ.
وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا عُرْفَ فِيهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا مَلَكَ عَبْدًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَلَى صِفَةِ التَّفَرُّقِ لَا يُسْتَحْسَنُ قَوْلُهُ فِي الْعُرْفِ مَا مَلَكْت هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَاتَيْنِ الْمِائَتَيْنِ، فَإِذَا انْتَفَى فِي الْمُعَيَّنِ التَّقْيِيدُ الْعُرْفِيُّ بَقِيَ اللَّفْظُ عَلَى إطْلَاقِهِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي الْحِنْثِ بَيْنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعَيَّنَ حَاضِرٌ وَالِاجْتِمَاعُ وَصْفٌ وَالْوَصْفُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ بِخِلَافِ الْمُنَكَّرِ، فَإِنَّ الْوَصْفَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، وَلَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا أَوْ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ وَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْآخَرَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ فِي الْمِلْكِ إنَّمَا تَقَيَّدَ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ. لَكَانَ الْعُرْفُ، وَلَيْسَ فِي الشِّرَاءِ عُرْفٌ مُقَيَّدٌ بَلْ الْعُرْفُ فِيهِ عَلَى وِفَاقِ الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت مِائَةَ جَارِيَةٍ وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاؤُهُنَّ مُتَفَرِّقًا وَكَذَا لَوْ قَالَ إذَا اشْتَرَيْت بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ ثُمَّ بِدِرْهَمٍ حَتَّى اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَتَقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ اشْتَرَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا فَوَجَبَ حِينَئِذٍ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى إطْلَاقِهِ فَصَارَ الْمُعَيَّنُ وَغَيْرُهُ وَالْمُجْتَمِعُ وَالْمُتَفَرِّقُ فِي الْحِنْثِ سَوَاءً، فَلَمَّا عَنَى بِالْمِلْكِ الشِّرَاءَ أَوْ بِالْعَكْسِ صَدَقَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةُ الْمِلْكِ. وَلَا خَفَاءَ فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ لِافْتِقَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ أَمَّا افْتِقَادُ الْعِلَّةِ فَلِأَنَّ الْعِلَلَ لَمْ تُشْرَعْ لِذَوَاتِهَا بَلْ لِأَحْكَامِهَا، وَأَمَّا افْتِقَارُ الْحُكْمِ فَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعِلَّةٍ فَلِذَلِكَ جَازَ اسْتِعَارَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ بِخِلَافِ السَّبَبِ الْمَحْضِ مَعَ الْحُكْمِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، لَكِنَّهُ إذَا ادَّعَى بِالْمِلْكِ الشِّرَاءَ يَصْدُقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِي عَكْسِهِ يَصْدُقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ.
(66) قَوْلُهُ: الْأَوَّلُ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ أَيْ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ أَمَّا كَوْنُهُ فَرْدًا فَلَا إشْكَالَ فِيهِ لُغَةً.
وَلِهَذَا يُثَنَّى وَيُجْمَعُ وَأَمَّا كَوْنُهُ سَابِقًا غَيْرَهُ فَلِأَنَّهُ بِالسَّبْقِ اسْتَحَقَّ هَذَا
(2/175)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
الِاسْمَ ثُمَّ هَذَا الْفَرْدُ إذَا وُصِفَ بِصِفَةٍ لَمْ تُفِدْ غَيْرَهَا إفَادَةَ الْفَرْدِ الْمَوْصُوفِ لَا تُعْتَبَرُ تِلْكَ الصِّفَةُ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ صَدْرُ الْكَلَامِ، وَإِنْ أَفَادَتْ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ الْفَرْدُ الْمَوْصُوفُ اُعْتُبِرَتْ وَتَغَيَّرَ بِهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، كَمَا إذَا قَالَ: رَأَيْت أَسَدًا يَزْأَرُ وَيَفْتَرِسُ، لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ صَدْرُ الْكَلَامِ وَلَوْ قَالَ يَرْمِي يَتَغَيَّرُ بِهِ صَدْرُ الْكَلَامِ، إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَمَلَكَ عَبْدًا وَنِصْفَ عَبْدٍ جُمْلَةً عَتَقَ الْعَبْدُ.
وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ كُرٍّ أَمْلِكُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ فَمَلَكَ كُرًّا وَنِصْفَ كُرٍّ جُمْلَةً لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ وَالْفَرْقُ أَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ الزَّائِدِ لَا يُخْرِجُ الْعَبْدَ عَنْ الْفَرْدِيَّةِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ إجْمَالِهِ فَتَحَقَّقَ شَرْطُ الْحِنْثِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّصْفَ لَا يَقْبَلُ الِانْضِمَامَ إلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ مِمَّا لَا يَتَبَعَّضُ، فَإِنَّك إذَا أَخَذْت هَذَا النِّصْفَ فَضَمَمْته إلَى أَيِّ نِصْفٍ شِئْت مِنْ نِصْفَيْ الْعَبْدِ لَا يُسَمَّى بِهِ عَبْدًا كَامِلًا فَصَارَ انْضِمَامُ النِّصْفِ إلَيْهِ كَانْضِمَامِ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ. أَمَّا النِّصْفُ الزَّائِدُ عَلَى الْكُرِّ فَإِنَّ مُزَاحِمَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْفَرْدِيَّةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ اسْمٌ لِأَرْبَعِينَ قَفِيزًا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ أَوَّلُ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا أَمْلِكُهَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَمَلَكَ سِتِّينَ قَفِيزًا جُمْلَةً لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ. وِزَانُهُ أَوَّلُ أَرْبَعِينَ عَبْدًا أَمْلِكُهُمْ فَهُمْ أَحْرَارٌ، فَمَلَكَ سِتِّينَ جُمْلَةً لَا يَعْتِقُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النِّصْفَ فِي الْكُرِّ يَقْبَلُ الِانْضِمَامَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ يَتَبَعَّضُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّك إذَا أَخَذْت أَيَّ نِصْفٍ شِئْت مِنْ نِصْفَيْ الْكُرِّ وَضَمَمْته إلَى النِّصْفِ الزَّائِدِ يَصِيرُ كُرًّا كَامِلًا فَوَضَحَ الْفَرْقُ وَكُلُّ مَا لَا يَتَبَعَّضُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْعَبْدِ وَكُلُّ مَا يَتَبَعَّضُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْكُرِّ.
وَلَوْ مَلَكَ عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ عَبْدًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَا يَعْتِقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلِ عَبْدٍ وَهُوَ فَرْدٌ سَابِقٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَلَمْ يُوجَدْ أَمَّا الْمَمْلُوكَانِ مَعًا فَلِعَدَمِ الْفَرْدِيَّةِ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِعَدَمِ السَّبْقِ، وَلِهَذَا جَازَ تَسْمِيَتُهُ آخَرَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ بَعْدَهُ عَبْدًا.
وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ وَاحِدًا أَوْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَعْتِقُ الثَّالِثُ وَلَوْ قَالَ وَحْدَهُ يَعْتِقُ وَالْفَرْقُ أَنَّ وَاحِدًا يَقْتَضِي الِانْفِرَادَ فِي الذَّاتِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ابْتِدَاءِ الْعَدَدِ فَلَمْ يُفِدْ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ أَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ أَفَادَ شَيْئَيْنِ الْفَرْدِيَّةَ وَالسَّبَقَ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَاحِدًا مُقَرِّرًا لِأَحَدِ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ التَّفَرُّدُ وَمُكَرِّرًا لَهُ فَلَمْ يُفِدْ غَيْرَ التَّأْكِيدِ وَلَا تَزِيدُ دَلَالَتُهُ عَلَى دَلَالَةِ الْمُؤَكَّدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فَبَقِيَ قَوْلُهُ أَوَّلُ عَبْدٍ، وَلَا يَعْتِقُ الثَّالِثُ لِعَدَمِ الْأَوَّلِيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّفَرُّدَ فِي الصِّفَةِ إذْ هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ
(2/176)
 
 
وَالْأَوْسَطُ فَرْدٌ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَالْآخَرُ فَرْدٌ لَاحِقٌ
68 - (أَوْ) فِي النَّفْيِ تَعُمُّ وَفِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُتَصَوَّرِ وَقَدْ صَارَ التَّمَلُّكُ الْوَاقِعُ عَلَى الْعَبْدِ الثَّالِثِ هُنَا صِفَةً لَهُ فَيَقْتَضِي الِانْفِرَادَ فِي فِعْلِ التَّمَلُّكِ الْمَقْرُونِ بِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ يَتَّصِفُ بِتَمَلُّكِي إيَّاهُ مُنْفَرِدًا فَهُوَ حُرٌّ وَالثَّالِثُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَعْتِقُ فَإِنْ عَنَى بِأَحَدِهِمَا الْآخَرَ صُدِّقَ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَعْنَى الْجَامِعِ وَهُوَ الْوَحْدَةُ لَكِنَّهُ لَوْ عَنَى بِقَوْلِهِ وَاحِدًا وَحْدَهُ صَدَقَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِمَا فِيهِ مِنْ التَّغْلِيظِ وَفِي عَكْسِهِ يَصْدُقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ.
(67) قَوْلُهُ: وَالْأَوْسَطُ فَرْدٌ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ إلَخْ هَذَا التَّعْرِيفُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّحْرِيرِ شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الثَّانِيَ مُتَوَسِّطٌ وَطَرَفَاهُ لَيْسَ بِعَدَدَيْنِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَرَّفَ بِأَنَّهُ اسْمٌ لِفَرْدٍ مَسْبُوقٍ بِمِثْلِ مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اسْتَقَلَّ فَهُوَ حُرٌّ إلَّا أَوْسَطَهُمْ، وَمَلَكَ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ ثُمَّ عَبْدَيْنِ أَوْ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا عَتَقُوا لِتَعَذُّرِ الْوَصْفِ، أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَطَ أَصْلًا وَأَمَّا الْآخَرِينَ مِنْهُمْ فَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْسَطَ اسْمٌ لِفَرْدٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِمَا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ الْفَرْدِيَّةَ مُتَقَدِّمَةٌ فِيهِمَا. وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمْ لَا يَصِيرُ أَوْسَطَ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ بَعْدَهُ وَهُمَا الْعَبْدَانِ لَيْسَ يُمَاثِلُ لِمَا قَبْلَهُ فَانْعَدَمَ حَدُّ الْأَوْسَطِ فِيهِ. وَأَمَّا الْعَبْدَانِ فَلِمَا قُلْنَا مِنْ انْعِدَامِ الْفَرْدِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَعْتِقُ حِينَ اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ يَصِيرُ أَوْسَطَ سَاقِطٌ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا حِينَ شِرَاءِ الْعَبْدَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ شِرَائِهِمَا كَانَ بِفَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ أَوْسَطَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَشْتَرِيَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ فَلَمَّا اشْتَرَى الْعَبْدَيْنِ سَقَطَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا الْعَبْدَانِ فَإِنَّهُمَا يَعْتِقَانِ حِينَ اشْتَرَاهُمَا. قُلْنَا مِنْ عَدَمِ الْفَرْدِيَّةِ وَتَمَامِ تَفَارِيعِ الْأَصْلِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَشُرُوحِهِ
 
(68) قَوْلُهُ: أَوْ فِي النَّفْيِ تَعُمُّ وَفِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ إلَخْ يَعْنِي إذَا دَخَلَتْ (أَوْ) بَيْنَ نَفْيَيْنِ أَفَادَتْ الْعُمُومَ فِيهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ وَلَا
(2/177)
 
 
الْوَصْفُ الْمُعْتَادُ مُعْتَبَرٌ فِي الْغَائِبِ لَا فِي الْعَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
كَفُورًا. وَإِنْ دَخَلَتْ بَيْنَ إيجَابَيْنِ كَانَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا كَآيَةِ التَّكْفِيرِ. وَمُوجَبُهُ التَّخْيِيرُ لَا الشَّكُّ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ يَقَعُ فِي الْأَخْبَارِ لَا فِي الْإِنْشَاءِ، لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَذَا الْفَصْلُ هُوَ الْأَصْلُ فِي مَوْضُوعِ (أَوْ) فَإِنَّهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَضْعًا أَمَّا عُمُومُ النَّفْيِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِعَارَةِ. قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ: قَدْ تُسْتَعَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلْعُمُومِ بِدَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ بِهَا فَتَصِيرُ شَبِيهَةً بِوَاوِ الْعَطْفِ ثُمَّ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] . ثُمَّ أَشَارَ إلَى فَرْقٍ لَطِيفٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْ الْوَاوِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا هُوَ أَنَّهُ عَلَى مُقْتَضَى كَلِمَةِ (أَوْ) تَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِطَاعَةِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ وَعَلَى مُقْتَضَى الْوَاوِ لَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِطَاعَةِ أَحَدِهِمَا بَلْ بِطَاعَتِهِمَا. كَقَوْلِهِ: لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِدُخُولِ أَحَدِهِمَا مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلِمَةَ أَوْ فِي الْآيَةِ أَيْضًا مُتَنَاوِلَةً أَحَدَهُمَا عَلَى بَابِهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ وَلَفْظُهُ: فَإِنْ قُلْت مَعْنَى (أَوْ) وَلَا تُطِعْ أَحَدَهُمَا فَلَا جِيءَ بِالْوَاوِ لِيَكُونَ نَهْيًا عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا، قُلْت: لَوْ قِيلَ: لَا تُطِعْهُمَا لَجَازَ أَنْ يُطِيعَ أَحَدَهُمَا فَإِذَا قِيلَ لَا تُطِعْ أَحَدَهُمَا عُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِهِمَا هُوَ عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا (انْتَهَى) .
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إذَا نَهَى عَنْ أَنْ يَقُولَ لِأَبَوَيْهِ أُفٍّ عُلِمَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ ضَرْبِهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ وَضْعِ (أَوْ) لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إيجَابًا.
وَقَوْلُهُ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ، مُنْتَقِضٌ بِالْإِبَاحَةِ، فَإِنَّهَا إثْبَاتٌ وَكَلِمَةُ (أَوْ) فِيهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِمْ جَالِسِ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ. وَفِي التَّلْوِيحِ: التَّحْقِيقُ أَنَّ (أَوْ) لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَجَوَازُ الْجَمْعِ وَامْتِنَاعِهِ بِحَسَبِ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ (انْتَهَى) .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا، يَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا وَبِهِمَا وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي التَّعْيِينِ وَعُمُومُهُمَا عَلَى الْإِفْرَادِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَيَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا بِخِلَافِ الْوَاوِ.
 
(69) قَوْلُهُ: الْوَصْفُ الْمُعْتَادُ يُعْتَبَرُ فِي الْغَائِبِ لَا فِي الْعَيْنِ أَيْ الْحَاضِرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَصْفِ التَّعْرِيفُ، وَالْإِشَارَةُ فِي الْمُعَيَّنِ أَبْلَغُ مِنْ الْوَصْفِ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الِاشْتِرَاكَ وَالْوَصْفَ وَلِأَنَّ تَعْرِيفَهَا مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْعَيْنِ وَمَنْ الْقَلْبِ وَتَعْرِيفُ
(2/178)
 
 
إضَافَةُ مَا يَمْتَدُّ إلَى زَمَنٍ لِاسْتِغْرَاقِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ
71 - الْوَقْتُ الْمَوْصُوفُ مُعَرَّفٌ لَا شَرْطٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
الْوَصْفِ مِنْ جِهَةِ الْقَلْبِ لَا غَيْرُ أَمَّا الْغَائِبُ فَلَا يُعَرَّفُ إلَّا بِوَصْفِهِ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ فِيهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْوَصْفُ لِلتَّعْرِيفِ فَقَطْ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَصْفُ الْمُعْتَادُ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ وَلَا شَرْطًا، أَمَّا إذَا كَانَ دَاعِيًا أَوْ شَرْطًا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْحَاضِرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ مَعَ الْإِشَارَةِ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيفِ، فَإِذَا كَانَ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ أَفَادَ شَيْئًا آخَرَ زِيَادَةً عَنْ التَّعْرِيفِ وَهُوَ تَقَيُّدُ الْيَمِينِ بِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الرُّطُوبَةِ دَاعٍ إلَى الْيَمِينِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا ضَرَّهُ أَكْلُ الرُّطَبِ دُونَ التَّمْرِ. وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَصْفُ شَرْطًا كَقَوْلِهِ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يُؤْتَى بِهِ لِلتَّعْرِيفِ بَلْ لِتَعْلِيقِ الشَّرْطِ بِهِ
 
(70) قَوْلُهُ: إضَافَةُ مَا يَمْتَدُّ إلَى زَمَنٍ لِاسْتِغْرَاقِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. يَعْنِي أَنَّ الْفِعْلَ إذَا أُضِيفَ إلَى الْوَقْتِ وَالْفِعْلُ مِمَّا يَمْتَدُّ صَارَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى لَا يَسْتَوْعِبَ ذَلِكَ الْوَقْتَ، كَالصَّوْمِ وَالرُّكُوبِ وَاللِّبْسِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا وَلِهَذَا يَضْرِبُ لَهَا مُدَّةً، يُقَالُ: صُمْت يَوْمًا وَرَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ صَارَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِوُجُودِهِ فِيهِ وَلَا يُشْرَطُ اسْتِيعَابُهُ، كَالْمُسَاكَنَةِ وَالْكَلَامِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُشَارَكَةِ وَالْقُدُومِ وَالْخُرُوجِ وَالضَّرْبِ
 
(71) قَوْلُهُ: الْوَقْتُ الْمَوْصُوفُ مُعَرَّفٌ لَا شَرْطٌ يَعْنِي مَتَى جُعِلَ الْوَقْتُ الْمَوْصُوفُ ظَرْفًا لِشَرْطِ الْحِنْثِ ثُمَّ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمَوْصُوفُ يَصِيرُ مُعَرَّفًا لِلشَّرْطِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ إذَا وُجِدَ لَا يُعْلَمُ حَالَ وُجُودِهِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ أَمْ لَا، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمَوْصُوفُ عُلِمَ أَنَّ الشَّرْطَ حِينَ وُجُودِهِ كَانَ شَرْطًا لِلْحِنْثِ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ. فَشَرْطُ الْحِنْثِ هُوَ الْكَلَامُ، وَالْمُعَرِّفُ لِلشَّرْطِ هُوَ الْقُدُومُ الَّذِي وُصِفَ الظَّرْفُ بِهِ، فَإِذَا كَلَّمَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْقُدُومِ أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاقِعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَانَ شَرْطًا وَلَزِمَ مِنْ كَوْنِهِ مُعَرِّفًا أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا؛ لِأَنَّ الْمُعَرِّفَ لِلشَّرْطِ غَيْرُهُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الْمُعَرِّفَ إنْ لَمْ
(2/179)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
يَكُنْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ بَلْ كَانَ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَالْقُدُومِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَنِدُ الْحِنْثُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْقُدُومِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ كَانَ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ كَالْمَوْتِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُعَرِّفًا مَحْضًا وَتَمَامُ التَّفْرِيعِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَشَرْحِهِ
(2/180)
 
 
كِتَابُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ 1 - إذَا صَارَ الشَّافِعِيُّ حَنَفِيًّا ثُمَّ عَادَ إلَى مَذْهَبِهِ يُعَزَّرُ عِنْدَ الْبَعْضِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْمَذْهَبِ الْأَدْوَنِ، كَذَا فِي شُفْعَةِ الْبَزَّازِيَّةِ
2 - مَنْ آذَى غَيْرَهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُعَزَّرُ، 3 - كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
[كِتَابُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ]
قَوْلُهُ: إذَا صَارَ الشَّافِعِيُّ حَنَفِيًّا إلَخْ عِبَارَةُ الْبَزَّازِيَّةِ نَصُّهَا: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَطَاءُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ شَافِعِيٍّ صَارَ حَنَفِيًّا ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ إلَى مَذْهَبِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: الثَّبَاتُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ خَيْرٌ وَأَوْلَى.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْرَبُ وَأَوْلَى إلَى الْأُلْفَةِ مِمَّا قَالَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّهُ يُعَزَّرُ أَشَدَّ التَّعْزِيرِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْمَذْهَبِ الْأَدْوَنِ (انْتَهَى) .
أَقُولُ: وَجْهُ كَوْنِهِ أَدْوَنُ أَنَّهُ خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَمَا انْتَقَلَ عَنْهُ صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنَّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَنْقُلَ عِبَارَةَ الْبَزَّازِيَّةِ بِرُمَّتِهَا أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا فِيهِ الْأُلْفَةُ مِنْ عِبَارَتِهَا.
وَفِي الْفَتْحِ قَالُوا: الْمُنْتَقِلُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ بِاجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ آثِمٌ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فَبِلَا اجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ أَوْلَى (انْتَهَى) .
وَفِي مِنَحِ الْغَفَّارِ شَرْحِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِكَثْرَةِ بِرِّ الشَّفْعَوِيِّ عُزِّرَ وَيُنْفَى مِنْ الْبَلَدِ (انْتَهَى) .
وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى وَقَدْ عُقِدَ فِي الْقُنْيَةِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى آخَرَ
 
(2) قَوْلُهُ: مَنْ آذَى غَيْرَهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ إلَخْ قِيلَ عَلَيْهِ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ فِي عَامَّةِ الْمُتُونِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ وَبَيْنَ مَا لَا يُوجِبُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَعَ حُصُولِ الْأَذَى بِالْقِسْمَيْنِ مَعًا قَطْعًا حَتَّى صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ يَا خِنْزِيرُ لَا يُعَزَّرُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ التَّأَذِّي التَّامِّ.
(3) قَوْلُهُ: كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة. أَقُولُ: قَدْ أَخَلَّ بِنَقْلِ عِبَارَتِهَا فَإِنَّ نَصَّهَا مَنْ آذَى مُسْلِمًا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَلَوْ بِغَمْزِ عَيْنٍ عُزِّرَ.
(2/181)
 
 
وَلَوْ بِغَمْزِ الْعَيْنِ. 5 - وَلَوْ قَالَ لِذِمِّيٍّ يَا كَافِرُ يَأْثَمْ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ. كَذَا فِي الْقُنْيَةِ
6 - وَضَابِطُ التَّعْزِيرِ: 7 - كُلُّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَرَّرٌ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
(4) قَوْلُهُ: وَلَوْ بِغَمْزِ الْعَيْنِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ بِهِ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِلْقَوَاعِدِ؛ لِأَنَّهُ غِيبَةٌ وَهِيَ حَرَامٌ فَإِذَا ارْتَكَبَهُ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَهُوَ الضَّابِطُ فِي التَّعْزِيرِ.
وَقَدْ صَرَّحَ فِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ بِأَنَّ الْغَمْزَ غِيبَةٌ حَيْثُ قَالَ: الْغِيبَةُ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى اللِّسَانِ بَلْ التَّعْرِيضُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالتَّصْرِيحِ وَكَذَا الْفِعْلُ كَالْقَوْلِ، وَكَذَا الْإِيمَاءُ وَالْغَمْزُ وَالرَّمْزُ وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغِيبَةِ وَهِيَ حَرَامٌ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأْتُ بِيَدَيَّ أَيْ قَصِيرَةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ اغْتَبْتِهَا» .
وَمَنْ ذَلِكَ الْمُحَاكَاةُ كَأَنْ يَمْشِيَ مُتَعَارِجًا أَوْ كَمَا يَمْشِي فَهُوَ غِيبَةٌ بَلْ أَشَدُّ مِنْ الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ فِي التَّصْوِيرِ وَالتَّفْهِيمِ وَتَمَامُهُ فِي الشِّرْعَةِ أَقُولُ قَوْلُهُ بَلْ التَّعْرِيضُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالتَّصْرِيحِ مُعَارَضٌ بِمَا فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي مِنْ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالشَّتْمِ وَغَيْرِهِ لَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ (انْتَهَى) . بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ بِالتَّعْرِيضِ وَجَبَ التَّعْزِيرُ كَمَا فِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ.
(5) قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ لِذِمِّيٍّ: يَا كَافِرُ يَأْثَمُ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ إلَخْ قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ مُوجِبَ الْإِثْمِ (انْتَهَى) . أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ لَا يُعَزَّرُ لِمَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ التَّعْزِيرِ (انْتَهَى) قُلْت وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ كُلُّ إثْمٍ مُوجِبًا لِلتَّعْزِيرِ فَلْيُحَرَّرْ
 
(6) قَوْلُهُ: وَضَابِطُهُ التَّعْزِيرُ أَيْ ضَابِطُ مُوجِبِ التَّعْزِيرِ.
(7) قَوْلُهُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ. فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ التَّعْزِيرِ أَنَّ مَنْ ارْتَكَبَ مُنْكَرًا أَوْ آذَى مُسْلِمًا بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ إلَّا إذَا كَانَ ظَاهِرَ الْكَذِبِ كَ " يَا كَلْبُ " (انْتَهَى) . قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ فِي يَا كَلْبُ لِارْتِكَابِ الْكَذِبِ (انْتَهَى) .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ إبْلِيسُ أَوْ أَنْتَ فِرْعَوْنُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّرَ إذَا آذَاهُ وَلَمْ أَرَهُ لِأَئِمَّتِنَا (انْتَهَى) . أَقُولُ مُقْتَضَى مَا مَرَّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ.
(2/182)
 
 
وَظَاهِرُ اقْتِصَارِهِمْ 9 - أَنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى مَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ.
10 - وَلَمْ أَرَهُ. مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَارْتَكَبَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْعُقُوبَةَ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْنَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، 11 - إلَّا فِي الْقَتْلِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
12 - يُعَزَّرُ عَلَى الْوَرَعِ الْبَارِدِ كَتَعْرِيفِ نَحْوِ تَمْرَةٍ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
13 - قَالَ لَهُ يَا فَاسِقُ ثُمَّ أَرَادَ إثْبَاتَ فِسْقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
(8) قَوْلُهُ: ظَاهِرُ اقْتِصَارِهِمْ.
أَقُولُ: لَعَلَّ الصَّوَابَ وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَيْ الْمَعْصِيَةَ.
(9) قَوْلُهُ: إنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى مَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً.
(10) قَوْلُهُ: وَلَمْ أَرَ إلَخْ. إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِشُمُولِ الضَّابِطَةِ لِمَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَقَالَ: لَمْ أَرَ؛ لِأَنَّ الضَّابِطَةَ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً.
(11) قَوْلُهُ: إلَّا فِي الْقَتْلِ. الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِمَّا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ.
(12) قَوْلُهُ: يُعَزَّرُ عَلَى الْوَرَعِ الْبَارِدِ إلَخْ أَصْلُهُ كَمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ تَمْرَةً مُلْقَاةً فِي سُوقِ الْم