غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر
المؤلف: أحمد بن محمد مكي، أبو العباس، شهاب الدين الحسيني الحموي الحنفي (المتوفى: 1098هـ)
عدد الأجزاء:4
[مُقَدِّمَة الْكتاب]
1 - قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، 2 - عَلَى مَا أَنْعَمَ.
قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. إخْبَارٌ صِيغَةً، إنْشَاءٌ مَعْنًى. وَلَا مَحْذُورَ فِي عَدَمِ مَحْمُودِيَّتِهِ فِي الْأَزَلِ بِمَا أَنْشَأَهُ الْعِبَادُ مِنْ الْمَحَامِدِ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ عَدَمُ اتِّصَافِهِ بِمَا يَحْمَدُونَهُ مِنْ الْكِمَالَاتِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرُ يَسْقُطُ مَا قِيلَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى كَوْنِهِ إنْشَاءً انْتِفَاءَ الِاتِّصَافِ بِالْجَمِيلِ قَبْلَ حَمْدِ الْحَامِدِ ضَرُورَةُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ يُقَارِنُ مَعْنَاهُ لَفْظَهُ فِي الْوُجُودِ (انْتَهَى) .
عَلَى أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ الْمُقَارَنَةِ انْتِفَاءُ وَصْفِ الْوَاصِفِ الْمُعَيَّنِ لَا الِاتِّصَافُ وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْإِنْشَاءِ أَقَلَّ مِنْ الْقَلِيلِ لِإِفَادَتِهَا الثَّبَاتَ وَالدَّوَامَ كَمَا قِيلَ وَفِيهِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ دَوَامُ الْإِنْشَاءِ أَوْ الْمَنْشَأِ كَالثَّنَاءِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَوْ مُتَعَلِّقُ إنْشَاءِ الِاتِّصَافِ بِالْجَمِيلِ فَدَوَامُ ذَلِكَ إنَّمَا يُسْتَفَادُ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ وَالْغَرَضُ الْإِنْشَاءُ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ إنْشَاءُ نِسْبَةِ الِاتِّصَافِ بِالْجَمِيلِ عَلَى الدَّوَامِ بِأَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ الِاتِّصَافُ بِذَلِكَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَصْدَ الْإِنْشَاءِ يُنَافِي إفَادَةَ الْجُمْلَةِ الدَّوَامَ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
(2) عَلَى مَا أَنْعَمَ: قِيلَ إنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الْحَمْدِ خَبَرِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا بِالْمُبْتَدَأِ وَهُوَ الْحَمْدُ وَالْمَعْنَى كُلُّ حَمْدٍ عَلَى أَنْعَامِهِ وَلِأَجْلِهِ، أَوْ جِنْسِ الْحَمْدِ عَلَى أَنْعَامِهِ وَلِأَجْلِهِ مِلْكٌ أَوْ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فَإِنَّ ثُبُوتَ كُلِّ حَمْدٍ أَوْ جِنْسِ الْحَمْدِ
(1/9)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
عَلَى أَنْعَامِ اللَّهِ لِلَّهِ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ (انْتَهَى) .
(أَقُولُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِخْبَارَ بِذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْذُورٌ مَانِعُ مِنْ كَوْنِ الْجُمْلَةِ حَمْدًا أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي أَوْ خَالِقِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِكُلِّ وَاحِدٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ مِنْ حُصُولِ الثَّوَابِ وَكَذَا قَوْلُك أَنْتَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَنَحْوُهُ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ حَمْدًا لَهُ فَإِنْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ خُصُوصِيَّةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْمُقْتَضَى فَلِتَكُنْ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي قَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ.
وَكَمْ فِي السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ مِنْ جُمَلٍ مَعْلُومَةٍ لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ بِالضَّرُورَةِ وَأَمَرَ الشَّارِعُ بِهَا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا (وَالثَّانِي بِالْحَمْدِ اللَّازِمِ لِهَذَا الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ حَمْدِي اللَّازِمُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لِأَجْلِ إنْعَامِهِ) .
أَقُولُ: لَك أَنْ تَقُولَ فِيهِ ارْتِكَابُ خِلَافِ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَهُمْ مِنْ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ لَفْظٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَظَاهِرُ أَنَّ الْحَمْدَ اللَّازِمَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ بِلَفْظٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَعْنًى لَزِمَ مِنْ الْمَعْنَى الْخَبَرِيِّ وَيُفْهَمُ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَحْمُودَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ (وَلَك أَنْ تَقُولَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ هُوَ الذَّاتُ أَوْ الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ) وَكَأَنَّهُ قَالَ حَمْدِي اللَّازِمُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لِأَجْلِ الْإِنْعَامِ صَادِرٌ فِي مُقَابِلَةِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ وَالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ (وَلَا يُقَالُ أَنَّ صُدُورَهُ لِأَجْلِ الْإِنْعَامِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الذَّاتِ) لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْمَحْمُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ بَاعِثًا حَقِيقِيًّا عَلَى الْحَمْدِ (وَالثَّالِثُ) تَعَلُّقُهُ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، أَعْنِي لِلَّهِ مَعَ حَمْلِ أَلْ عَلَى الْجِنْسِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ أَعْنِي لِلَّهِ مَعَ حَمْلِ أَلْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَلَا يَنْبَغِي جَوَازُهُ إذْ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ مَمْلُوكٌ أَوْ مُسْتَحَقٌّ لِأَجْلِ إنْعَامِهِ وَقَضِيَّتُهُ انْحِصَارُ عِلَّةِ مَمْلُوكِيَّةِ الْحَمْدِ أَوْ اسْتِحْقَاقِهِ فِي الْإِنْعَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ غَيْرُ الْإِنْعَامِ كَالذَّاتِ وَصِفَاتِهَا الذَّاتِيَّةِ تَكُونُ عِلَّةً أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مَعَ حَمْلِ أَلْ عَلَى الْجِنْسِ، إذْ مِلْكُ جِنْسِ الْحَمْدِ وَاسْتِحْقَاقُهُ لِأَجْلِ الْإِنْعَامِ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ وَاسْتِحْقَاقَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا وَكَذَا تَعَلُّقُهُ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ.
وَلِلَّهِ صِلَةُ الْمُبْتَدَأِ مَعَ حَمْلِ أَلْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَيْضًا إذْ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ كُلُّ حَمْدٍ لِلَّهِ كَائِنٌ لِأَجْلِ إنْعَامِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ بَعْضُ الْحَمْدِ كَائِنٌ لِأَجْلِ غَيْرِ الْإِنْعَامِ كَالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَعَ حَمْلِ أَلْ عَلَى الْجِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ إنْشَائِيَّةً يَنْبَغِي تَعَلُّقُ الظَّرْفِ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ أَصِفُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِمَالِكِيَّتِهِ كُلَّ وَصْفٍ جَمِيلٍ أَوْ جِنْسَهُ لِأَجْلِ إنْعَامِهِ أَوْ بِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ
(1/10)
 
 
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ بِجَمِيلٍ أَوْ جِنْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِنْعَامِ أَصِفُهُ تَعَالَى بِمَالِكِيَّتِهِ أَوْ اسْتِحْقَاقِهِ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ لِأَجْلِ إنْعَامِهِ.
وَبِالْمُبْتَدَأِ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَصِفُهُ بِمَالِكِيَّتِهِ كُلَّ وَصْفٍ بِجَمِيلٍ أَوْ جِنْسَهُ لِأَجْلِ إنْعَامِهِ أَوْ بِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ أَوْ لِاخْتِصَاصٍ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ بِجَمِيلٍ أَوْ جِنْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ إنْعَامِهِ أَصِفُهُ تَعَالَى بِمَالِكِيَّتِهِ أَوْ اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ الِاخْتِصَاصِ بِهِ وَلَا إشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ وَحُسْنِهِ.
(انْتَهَى) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ دَقِيقٌ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ بِجَمِيلٍ أَوْ جِنْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِنْعَامِ أَصِفُ اللَّهَ تَعَالَى بِمَالِكِيَّتِهِ إلَى آخِرِهِ.
فَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمُبْتَدَأِ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَصْدَرِ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ يَعْنِي يَذْكُرُ مُتَعَلِّقَهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
عَارَضَهُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ وَاخْتَارَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ أَوْ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَمْدُ أَيْ نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ.
وَفِي حَوَاشِي الْمَوْلَى عَلَاءِ الدِّينِ فِي مُصَنَّفِهِ عَلَى الْمُطَوَّلِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الظَّرْفَ مُسْتَقَرُّ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ لِيَظْهَرَ تَحَقُّقُ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ لَا لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَمْدِ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَامِلِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الذَّاتِيَّ أَقْدَمُ مِنْ الْوَصْفِيِّ كَمَا قِيلَ فَتَدَبَّرْ.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ لَا مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَعَلَى مَا قِيلَ يَجُوزُ جَعْلُهَا تَعْلِيلِيَّةً وَيَجُوزُ جَعْلُهَا لِلْمُصَاحَبَةِ وَبِمَعْنَى فِي وَبِمَعْنَى مَعَ وَيُمْكِنُ جَعْلُهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ إشَارَةً إلَى تَفْخِيمِ الْحَمْدِ (انْتَهَى) .
(أَقُولُ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَبَعِيدٌ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ إذْ لَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْحَمْدِ مَظْرُوفًا عَلَى الْإِنْعَامِ وَأَمَّا الرَّابِعُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الثَّانِي فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ وَأَمَّا الْخَامِسُ فَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْحَمْدَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ وَبِأَنَّ إرَادَةَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْإِنْعَامِ مُخِلٌّ بِالْبَلَاغَةِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ وَلِهَذَا كَانَتْ النِّعْمَةُ فِي الْغَالِبِ إذَا ذُكِرَتْ مَعَ الْحَمْدِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ تَقْتَرِنْ بِعَلَى وَحَيْثُ أُشِيرَ إلَى ذِكْرِ النِّعْمَةِ أُتِيَ بِعَلَى «كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» إشَارَةً إلَى سِتْرِ النِّعْمَةِ وَاسْتِيلَاءِ الْحَمْدِ عَلَيْهَا.
 
(3) وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ: صَلَّى فِعْلٌ مَاضٍ قِيَاسًا مَصْدَرُهُ التَّصْلِيَةُ وَهُوَ مَهْجُورٌ فَلَا يُقَالُ لِعَدَمِ السَّمَاعِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ. كَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَفِي الْقَامُوسِ مَا يُؤَيِّدُهُ حَيْثُ قَالَ صَلَّى صَلَاةً لَا تَصْلِيَةً دُعَاءً (انْتَهَى) . أَقُولُ دَعْوَى عَدَمِ السَّمَاعِ مَمْنُوعَةٌ فَقَدْ سُمِعَ فِي الشِّعْرِ الْقَدِيمِ كَمَا فِي الْعِقْدِ لِابْنِ عَبْدِ رَبِّهِ:
(1/11)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
تَرَكْت الْقِيَانَ وَعَزْفَ الْقَيَانِ ... وَأَدْمَنْت تَصْلِيَةً وَابْتِهَالًا
وَهُوَ مِنْ شِعْرٍ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرهَا ثُمَّ قَالَ قَوْلَهُ تَصْلِيَةً وَابْتِهَالًا تَصْلِيَةً مِنْ الصَّلَاةِ وَابْتِهَالًا مِنْ الدُّعَاءِ يُقَالُ صَلَّيْت صَلَاةً وَتَصْلِيَةً (انْتَهَى) . وَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّوْزَنِيُّ فِي مَصَادِرِهِ فَقَالَ: التَّصْلِيَةُ " نماز كردن ودروددان " (انْتَهَى) . وَكَأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ وَأَهْلُ اللُّغَةِ عِنَايَتُهُمْ بِالْمَصَادِرِ السَّمَاعِيَّةِ دُونَ الْقِيَاسِيَّةِ فَتَرْكُهُمْ لَهُ وَإِنْ سُمِعَ اتِّكَالًا عَلَى الْقِيَاسِ. وَعَلَى هَذَا فَتَرْكُ اسْتِعْمَالِ التَّصْلِيَةِ فِي الْخُطَبِ إنَّمَا هُوَ لِإِيهَامِ اللَّفْظِ مَا لَيْسَ مُرَادًا وَهُوَ التَّصْلِيَةُ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ فَإِنَّهُ مُصْدَرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يُقَالُ صَلَاهُ تَصْلِيَةً كَمَا يُقَالُ صَلَّى تَصْلِيَةً لَا لِعَدَمِ السَّمَاعِ. وَفِي شَرْحِ النُّقَايَةِ لِلْعَلَّامَةِ مُحَمَّدٍ الْقُهُسْتَانِيِّ وَالصَّلَاةُ اسْمٌ مِنْ التَّصْلِيَةِ وَكِلَاهُمَا مُسْتَعْمَلٌ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ بِمَعْنَى أَدَاءِ الْأَرْكَانِ، فَإِنَّ مَصْدَرَهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ الْوَاوِ وَلَمْ يُكْتَبْ بِهَا إلَّا فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ (انْتَهَى) . هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ وَأَمَّا مَعْنَاهَا فَفِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة: 55] أَنَّهَا تَحْرِيكُ الصَّلَاتَيْنِ حَقِيقَةً سُمِّيَتْ بِهَا الْأَرْكَانُ الْمَخْصُوصَةُ لِتَحَرُّكِهِمَا فِيهَا ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا الدُّعَاءُ تَشْبِيهًا لِلدَّاعِي بِالْمُصَلِّي فِي تَخَشُّعِهِ فَهِيَ فِي الدُّعَاءِ اسْتِعَارَةٌ مِنْ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَفِي الْكَشَّافِ أَيْضًا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى الِانْعِطَافِ عَلَى وَجْهِ التَّرَحُّمِ كَانْعِطَافِ عَائِدِ الْمَرِيضِ عَلَيْهِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى وَلَدِهَا لِوُجُودِهِ فِيهَا، ثُمَّ مِنْهُ إلَى الدُّعَاءِ فَيَكُونُ فِي الدُّعَاءِ مَجَازًا عَنْ الِاسْتِعَارَةِ (انْتَهَى) . وَفِي الْفَائِقِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقْوِيمُ الْعُودِ ثُمَّ قِيلَ لِلرَّحْمَةِ صَلَاةٌ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَقْوِيمِ الْعَمَلِ ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى الدُّعَاءِ فَهِيَ فِي الدُّعَاءِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ عَنْ الِاسْتِعَارَةِ (انْتَهَى) . وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنهمَا مِنْ الْخِلَافِ وَقَدْ تَعَقَّبَ مَا فِي الْكَشَّافِ الْعَلَّامَةُ سَعْد الدَّيْن فِي حَاشِيَتِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 3] بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِنْصَافَ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي الدُّعَاءِ مَجَازٌ فِي الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَحْسَنَ بَيَانٍ. وَهَذَا هُوَ مَا اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ. وَفِي بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ لِابْنِ الْقَيِّمِ قَوْلُهُمْ الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ،
(1/12)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
بَاطِلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَايَرَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وَالثَّانِي أَنَّ سُؤَالَ الرَّحْمَةِ يُشْرَعُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَالصَّلَاةَ تَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِآلِهِ فَهِيَ حَقٌّ لَهُ وَلِآلِهِ وَلِهَذَا مَنَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مُعَيَّنٍ غَيْرِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ التَّرَحُّمِ عَلَى مُعَيَّنٍ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَامَّةٌ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَصَلَاتَهُ خَاصَّةٌ بِخَوَاصِّ عِبَادِهِ وَقَوْلَهُمْ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ مُشْكِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصَّلَاةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْخَيْرِ وَالثَّانِي أَنَّ دَعَوْت يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَصَلَّيْت لَا يَتَعَدَّى إلَّا بِعَلَى وَدَعِي الْمُتَعَدِّي بِعَلَى لَيْسَ بِمَعْنَى صَلَّى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالثَّالِثُ أَنَّ فِعْلَ الدُّعَاءِ يَقْتَضِي مَدْعُوًّا وَمَدْعُوًّا لَهُ تَقُولُ دَعَوْت اللَّهَ لَك بِخَيْرٍ. وَفِعْلُ الصَّلَاةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَا تَقُولُ صَلَّيْت اللَّهَ عَلَيْك وَلَا لَك فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَاهُ فَأَيُّ تَبَايُنٍ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا؟ ، وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ يُعْمِي عَنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ فَإِيَّاكَ وَالْإِخْلَادَ إلَى أَرْضِهِ (انْتَهَى)
 
قَوْلُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ظَرْفٌ لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِصَلَى وَفِي كَلَامِهِ إطْلَاقُ السَّيِّدِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ حَكَاهَا ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْمُقْتَفَى أَحَدُهَا جَوَازُ إطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى غَيْرِهِ الثَّانِي لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَعَزَاهُ إلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ.
الثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالُوا لَهُ يَا سَيِّدَنَا قَالَ: إنَّمَا السَّيِّدُ اللَّهُ» .
وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» .
كَذَا فِي التَّعْلِيقِ وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أُسْتَاذُنَا عَنْ الْإِنْكَارِ حِكَايَةً عَنْ النَّحَّاسِ أَنَّهُ جَوَّزَ إطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يُعَرَّفَ قَالَ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى ثُمَّ قَالَ قَدْ عَرَفْت الْأَقْوَالَ أَرْبَعَةً وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى غَيْرِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ فِي اللَّهِ بِمَعْنَى الْعَظِيمِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَفِي غَيْرِهِ بِمَعْنَى الشَّرِيفِ الْفَاضِلِ الرَّئِيسِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْإِطْلَاقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إلَيْهِ وَلِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ مَنْ يَسُودُ قَوْمَهُ أَيْ يَرْأَسُهُمْ فَعِزُّهُ بِعِزِّهِمْ وَفَخْرُهُ بِكَوْنِهِ مَتْبُوعًا وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ الْغَنِيِّ عَنْ
(1/13)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
الْعَالَمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ تَعَالَى بِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُتَصَرِّفُ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ الْقَائِلُ بِالتَّفْصِيلِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْأَغْلَبِيِّ وَالْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَعْهُودُ بِالْعَظَمَةِ وَكَوْنُهُ مَلْجَأً أَوْ هُوَ أَيْضًا لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ لِمَا مَرَّ.
1 -
وَمُحَمَّدٌ عَلَمٌ شَخْصِيٌّ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ مَعْنَى اللَّقَبِ مِنْ حَيْثُ إشْعَارِهِ بِالْمَدْحِ ذَكَرَهُ مُلَّا شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَهُوَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ أَلْفٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ ثَلَثُمِائَةٍ وَقِيلَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ اسْمِ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمُضَعَّفِ أَيْ الْمُكَرَّرِ الْعَيْنِ وَهُوَ حُمِّدَ بِالتَّشْدِيدِ سَمَّاهُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِمَوْتِ أَبِيهِ فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ بِإِلْهَامٍ تَفَاؤُلًا بِأَنْ يَكْثُرَ حَمْدُ الْخَلْقِ لَهُ.
وَفِي السِّيَرِ قِيلَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِمَ سَمَّيْت ابْنَك مُحَمَّدًا وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ آبَائِكَ وَلَا قَوْمِك قَالَ رَجَوْت أَنْ يُحْمَدَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ.
وَقِيلَ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ إلَّا خَمْسَةُ عَشَرَ كَمَا بَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ وَأَمَّا اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْل وِلَادَتِهِ وَقِيلَ إنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَاشْتُقَّ لَهُ مِنْ الْحَمْدِ اسْمَانِ أَحَدُهُمَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَحْمُودِيَّةِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَالْآخَرُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْحَامِدِيَّةِ وَهُوَ أَحْمَدُ، وَاشْتَهَرَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْأَفْضَلُ عَلَى الْأَصَحِّ اشْتِهَارًا أَكْثَرَ وَخَصَّ بِهِ.
كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِمَا لَهُ مِنْ مَقَامِ الْمَحْمُودِيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَشْهُورٌ إلَّا التَّصْرِيحُ بِالْأَفْضَلِيَّةِ فَنَقَلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِ شُيُوخِنَا.
هَذَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ أَحْمَدَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْحَامِدِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ كَمَا قِيلَ بِهِ، فَلَا.
وَقَدْ ادَّعَى السَّخَاوِيُّ فِي سَفَرِ السَّعَادَةِ وَسَفِيرِ الْإِفَادَةِ أَنَّ أَحْمَدَ أَبْلَغُ مِنْ مُحَمَّدٍ كَمَا أَنَّ أَحْمَرَ أَبْلَغُ مِنْ مُحَمَّرٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَلَا هُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ إنَّمَا مِثَالُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لَك أَيْنَ مِنْ كَرَمَ أَفْعَلُ فَتَقُولُ أَكْرَمَ وَمِنْ هَذَا " اللَّهُ أَكْبَرُ ".
وَذَكَرَ الْكَافِيجِيُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ بِأَحْمَدَ قَبْلَ أَنْ سَمَّاهُ بِمُحَمَّدٍ لِلْآيَةِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] (انْتَهَى) .
وَفِيهِ تَأَمُّلٌ وَمَا اشْتَهَرَ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا مَنْقُولٌ مِنْ اسْمِ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمُضَعَّفِ كَمَا سَبَقَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَقِيلَ مَنْقُولٌ مِنْ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ كَمَا تَكُونُ اسْمَ مَفْعُولٍ كَمَا هُوَ الْكَثِيرُ تَكُونُ مَصْدَرًا كَمَا فِي
(1/14)
 
 
وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
قَوْله تَعَالَى {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وَقِيلَ أَنَّهُ مُرْتَجَلٌ وَمَشَى عَلَيْهِ ابْنُ مُعْطِي بَلْ صَرَّحَ الزَّجَّاجِيُّ بِأَنَّ الْأَعْلَامَ كُلَّهَا مُرْتَجِلَةٌ خِلَافًا لِسِيبَوَيْهِ فِي أَنَّهَا كُلَّهَا مَنْقُولَةٌ لِأَنَّ النَّقْلَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْدِ النَّقْلِ إذْ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ مِنْ الْوَاضِعِ.
وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ تَصْرِيحٌ.
أَقُولُ هَذَا لَا يَتِمُّ فِي اسْمِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ تَمَّ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ دَلِيلَ قَصْدِ النَّقْلِ مِنْ الْوَاضِعِ مَوْجُودٌ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمُتَقَدِّمُ.
وَفِي شَرْحِ الْهَادِي مُحَمَّدٌ مُفَعَّلٌ مِنْ الْحَمِيدِ وَالتَّكْرِيرُ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ مَنْقُولٌ مِنْ الصِّفَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ مُرْتَجَلٌ (انْتَهَى) .
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْته.
قَالَ أُسْتَاذُنَا كَأَنَّهُ أَيْ الْقَائِلُ بِالِارْتِجَالِ ادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا قَالَتْ فِي غَيْرِ الْعَلَمِ مَحْمُودٌ لَا مُحَمَّدٌ وَهَذَا مُرَادُ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدٌ.
فَتَدَبَّرْ (انْتَهَى) .
أَقُولُ وَجْهُ التَّدَبُّرِ أَنَّهُ سُمِعَ فِي الْوَصْفِيَّةِ بِغَيْرِ الْعَلَمِيَّةِ مُحَمَّدٌ قَالَ الْأَعْشَى:
إلَيْك أَبَيْت اللَّعْنَ كَانَ كَلَالَهَا ... إلَى الْمَاجِدِ الْفَرْعِ الْجَوَّادِ الْمُحَمَّدِ
(4) وَسَلَّمَ: أَيْ عَلَيْهِ وَحَذَفَ مِنْ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كَثِيرٌ وَمَصْدَرُ سَلَّمَ التَّسْلِيمُ، وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنْ النَّقَائِصِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ كَرِهَ إفْرَادَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخِرِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَنَا لَا يُكْرَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي وَهَذَا الْخِلَافُ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ كَرَاهَةِ الْأَفْرَادِ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُورِدَ نَقْلًا صَرِيحًا وَلَا يَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
كَذَا فِي شَرْحِ الْعَلَّامَةِ مَيْرَكٍ عَلَى الشَّمَائِلِ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا مَعْطُوفَتَانِ عَلَى جُمْلَةِ الْحَمْدِ عَطْفُ فِعْلِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ كَمَا فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ مِنْ الْبَابِ الثَّانِي.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هُمَا مَعْطُوفَتَانِ عَلَى جُمْلَةِ أَنْعَمَ وَالتَّقْدِيرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إنْعَامِهِ وَعَلَى صَلَاتِهِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَامِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَيَكُونَانِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالصِّنَاعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَوَاتُ إحْرَازِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ بِالْكِتَابَةِ وَإِنْ حَصَلَتْ بِالنُّطْقِ وَهُوَ خِلَافُ
(1/15)
 
 
وَبَعْدُ؛ فَإِنَّ الْفِقْهَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
مَا عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ فِي الْخُطَبِ
1 -
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي خُطْبَتِهِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ.
قِيلَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَشَهَّدَ بِاللِّسَانِ يَدْفَعُهُ صَرِيحُ لَفْظِ الْحَدِيثِ (انْتَهَى) .
أَقُولُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ صَرَاحَةٌ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالتَّشَهُّدِ فِي الْخُطْبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْكِتَابَةِ حَتَّى يَكُونَ دَافِعًا لِلْجَوَابِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَمَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ لِينًا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ بِفَرْضِ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ كَيْفَ وَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ؟ ، وَمَا قِيلَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ لَا فِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ بِدَلِيلِ ذِكْرِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْعَامَّ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَرِدَ مَا يُخَصِّصُهُ.
وَذِكْرُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا وَقَوْلُ التُّورْبَشْتِيِّ: الْمُرَادُ بِالتَّشَهُّدِ الْحَمْدُ رُدَّ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَتَانِ " وَبِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلتَّشَهُّدِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالشَّهَادَةِ وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ
 
(5) وَبَعْدُ فَإِنَّ الْفِقْهَ: بَعْدُ، كَلِمَةٌ يُؤْتَى بِهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى آخَرَ وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى كَثِيرًا وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَانِ وَيَصِحُّ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا هَاهُنَا وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ، لِحَذْفِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَنِيَّةٌ مَعْنَاهُ أَيْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، قَالَ ابْنُ الْمُلَقَّنِ فِي الْإِشَارَاتِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِ بَعْدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الضَّمُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، ثَانِيهَا مَعَ التَّنْوِينِ، ثَالِثهَا: النَّصْبُ وَالتَّنْوِينُ، رَابِعُهَا: فَتْحُ الدَّالِ مَعَ تَقْدِيرِ لَفْظِ الْمُضَافِ إلَيْهِ حَكَاهُ النَّحَّاسُ (انْتَهَى) .
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ تَأْتِي هُنَا مَا عَدَا النَّصْبَ مَعَ التَّنْوِينِ فَإِنَّهَا لَمْ تُرْسَمْ بِأَلْفٍ وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ هِشَامٍ تِلْكَ الْأَوْجُهَ وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ إذَا حُذِفَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَنُوِيَ مَعْنَاهُ وَتُعْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ مَا إذَا ذُكِرَ الْمُضَافُ إلَيْهِ أَوْ حُذِفَ وَنُوِيَ لَفْظُهُ أَوْ حُذِفَ وَلَمْ يُنْوَ شَيْءٌ وَلَمْ يُذْكَرْ الضَّمُّ مَعَ التَّنْوِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهَا فَاعِلٌ لَفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَهْمَا يَكُنْ بَعْدُ أَيْ يُوجَدُ.
قَالَ الشِّهَابُ أَحْمَدُ الْغَيْنَمِيُّ وَهُوَ قَرِيبٌ (انْتَهَى) .
(أَقُولُ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا فَهُوَ بَعِيدٌ فَمَا مَعْنَى نِسْبَةُ الْوُجُودِ إلَى بَعْدُ؟ وَكَوْنُ الْمُرَادُ لَفْظَهَا بَعِيدٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي التَّعْلِيقِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَبَعْدُ قَدْ
(1/16)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
اخْتَلَفُوا فِيهَا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا عَاطِفَةُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، أَيْ عَاطِفَةُ مَضْمُونٍ سِيقَ لِغَرَضِ سَبَبِ التَّصْنِيفِ عَلَى مَضْمُونٍ سِيقَ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ، وَالْعَامِلُ فِي بَعْدُ عَلَى هَذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَقُولُ.
وَنَحْوُهُ، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ لِلْإِشْعَارِ بِاللُّزُومِ أَوْ عَاطِفَةٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَأَقُولُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ.
كَذَا قِيلَ.
أَقُولُ لَا يَتَأَتَّى الْإِشْعَارُ بِاللُّزُومِ إذَا كَانَتْ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ إنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ لِتَوَهُّمِ: إمَّا إجْرَاءً لِلْمُتَوَهَّمِ مَجْرَى الْمُحَقَّقِ أَوْ لِتَقْدِيرِ " أَمَّا " قَبْلَ " بَعْدُ " عَلَى مَا جَوَّزَهُ الْجُرْجَانِيُّ.
وَقَدْ جَوَّزَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدٌ الْقُهُسْتَانِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى النُّقَايَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَبَعْدُ.
فَإِنَّ الْمُتَوَسِّلَ إلَى اللَّهِ بِأَقْوَى الذَّرِيعَةِ، أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَالْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ وَبَيَّنَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْبَعِيدِ ثُمَّ قَالَ وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِمَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الضَّعْفِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ " أَمَّا " مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْجَزَاءِ أَمْرًا وَنَهْيًا نَاصِبًا لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُفَسِّرًا لَهُ كَمَا فِي الرَّضِيِّ وَأَمَّا تَوَهُّمُ " أَمَّا " فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ أَحَدٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ (انْتَهَى) .
وَقَدْ جَوَّزَ الْفَاضِلُ الدَّمَامِينِيُّ فِي الْمَنْهَلِ الصَّافِي شَرْحِ الْوَافِي عِنْدَ قَوْلِهِ وَبَعْدُ فَقَالَ: أَضْعَفُ عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ عَاطِفَةً أَوْ زَائِدَةً وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِمَا يَطُولُ فَرَاجِعْهُ.
وَقِيلَ الْوَاوُ فِي وَبَعْدُ لَيْسَتْ عَاطِفَةً بَلْ عِوَضًا عَنْ أَمَّا وَالْعَامِلُ فِي بَعْدُ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي بَعْدُ هَاهُنَا الْوَاوُ النَّائِبَةُ عَنْ أَمَّا الْمُتَضَمِّنَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَفِعْلِهِ وَالتَّقْدِيرُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ (انْتَهَى) .
وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ بَحَثَ الْمُحَقِّقُ الْفَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَوَاشِي التَّلْوِيحِ فِي جَعْلِ الْوَاوِ عِوَضًا عَنْ أَمَّا بِأَنْ جَعَلَهَا عِوَضًا يَقْتَضِي مُنَاسَبَةً بَيْنَ الْوَاوِ وَأَمَّا مُصَحَّحَةً لِتَعْوِيضِهَا وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا (انْتَهَى) .
وَقَالَ ابْنُ إيَازٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْفُصُولِ وَأَمَّا حَذْفُ أَمَّا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَمَّا نَائِبَةٌ عَنْ الْفِعْلِ وَأَدَاةِ الشَّرْطِ مَعًا فَلَوْ حُذِفَ كَانَ فِيهِ حَذْفُ النَّائِبِ وَالْمَنُوبِ وَهَذَا إجْحَافٌ كَثِيرٌ وَقَدْ ارْتَكَبَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ هَذَا الْمَحْظُورَ وَاسْتَسْهَلُوهُ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أَمَّا مَعَ بَعْدُ فَيَقُولُونَ فِي أَمَّا بَعْدُ: وَبَعْدُ فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَا.
وَقَدْ صَنَعَ ابْنُ مُعْطِي فِي خُطْبَةِ أَلْفِيَّتِهِ هَذَا فَقَالَ: وَبَعْدُ فَالْعِلْمُ جَلِيلُ الْقَدْرِ.
وَمُرَادُهُ أَمَّا بَعْدُ (انْتَهَى) .
أَقُولُ فِي كَوْنِ مَا صَنَعَهُ ابْنُ مُعْطِي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْوَاوِ الْعَطْفَ لَا أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ أَمَّا، وَكَوْنُ مُرَادِهِ أَمَّا بَعْدُ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ فَقَدْ نَقَلَ الرَّضِيُّ أَنَّ أَمَّا يَجُوزُ حَذْفُهَا إذَا كَانَ الْجَزَاءُ
(1/17)
 
 
أَشْرَفُ الْعُلُومِ قَدْرًا، 7 - وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا، 8 - وَأَتَمُّهَا عَائِدَةً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
أَمْرًا نَهْيًا فَمَنْعُ جَوَازِ حَذْفِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ فَتَأَمَّلْ وَالْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِهَا بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ كَذَا فِي فُصُولِ الْبَدَائِعِ.
(6) أَشْرَفُ الْعُلُومِ قَدْرًا: الشَّرَفُ الْعُلُوُّ وَقَدْرًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَهُوَ مَبْلَغُ الشَّيْءِ وَأَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ كَمَا فِي الْمَغْرِبِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَرْتَبَةُ وَالْمَزِيَّةُ وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ أَشْرَفُ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَشْرَفُ مِنْ الْفِقْهِ لِأَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ مَوْضُوعِهِ وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْعُلُومِ أَشْرَفُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَحِينَئِذٍ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْفِقْهِ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا فَيَدْخُلُ عِلْمُ الْكَلَامِ فِيهِ لَكِنَّ الْمَقَامَ يُنْبِئُ عَنْهُ (انْتَهَى) .
وَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ نُبُوءِ الْمَقَامِ عَنْهُ غَيْرُ حَاسِمٍ لِمَادَّةِ الْإِشْكَالِ.
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ أَنَّ اللَّامَ فِي الْعُلُومِ لَيْسَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ بَلْ لِلْجِنْسِ وَالْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ لَا يَسْتَدْعِي الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ الْفِقْهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُفَضَّلًا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ إذَا أُضِيفَ وَقُصِدَ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا أُضِيفَ إلَيْهِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا مِمَّا أُضِيفَ إلَيْهِ؛ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لُغَةً خَارِجٌ عَنْهُ مُرَادًا كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمَقْصُودُ تَفْضِيلُهُ عَلَى مَا يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَفْهُومِ أَعْنِي مَفْهُومَ الشَّرَفِ فَلَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ عَلَى نَفْسِهِ كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فَلْيُحْفَظْ.
(7) وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا: الْعِظَمُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ضِدُّ الصِّغَرِ وَمَتَى وُصِفَ عَبْدٌ بِالْعَظَمَةِ فَهُوَ ذَمٌّ وَالْأَجْرُ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ كَالْإِجَارَةِ مُثَلَّثَةً وَالْجَمْعُ أُجُورٌ.
(8) وَأَتَمُّهَا عَائِدَةً: التَّمَامُ ضِدُّ النُّقْصَانِ وَالْعَائِدَةُ الْمَعْرُوفُ وَالصِّلَةُ وَالْعَطْفُ وَالْمَنْفَعَةُ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَخِيرُ (أَقُولُ) وَعَلَى كَوْنِ الْعَائِدِ بِمَعْنَى الصِّلَةِ يُعْجِبُنِي قَوْلُ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ:
لَقَدْ مَرِضْت وَعَادَنِي ... مَنْ لَيْسَ مَعَهُ خَرْدَلَةٌ
تَعْسًا لَهُ مِنْ زَائِرٍ ... وَعَائِدٍ بِلَا صِلَةٍ
(1/18)
 
 
وَأَعَمُّهَا فَائِدَةً، 10 - وَأَعْلَاهَا مَرْتَبَةً 11 - وَأَسْنَاهَا مَنْقَبَةً، 12 - يَمْلَأُ الْعُيُونَ نُورًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَأَعَمُّهَا فَائِدَةً: أَعَمُّ مِنْ الْعُمُومِ وَهُوَ الشُّمُولُ يُقَالُ أَعَمُّهُمْ بِالْعَطِيَّةِ أَيْ أَشْمَلُهُمْ فَلَمْ يَفُتْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَالْفَائِدَةُ لُغَةً مِنْ الْفُؤَادِ لِأَنَّهَا تُعْقَلُ بِهِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ أُسْتَاذِي:
مِنْ الْفُؤَادِ اُشْتُقَّتْ الْفَائِدَةُ ... وَالنَّفْسُ يَا صَاحِ بِذَا شَاهِدَةٌ
لِذَا تَرَى أَفْئِدَةَ النَّاسِ قَدْ ... مَالَتْ لِمَنْ فِي قُرْبِهِ فَائِدَةٌ
أَوْ مِنْ الْفَيْدِ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالزِّيَادَةِ تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فَادَتْ لَهُ فَائِدَةً وَفَيْدًا وَأَفَدْته أَعْطَيْته وَأَفَدْت مِنْهُ أَخَذَتْ وَعُرْفًا كُلُّ نَافِعٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ أَوْ هِيَ مَا يَكُونُ بِهِ الشَّيْءُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ بِغَيْرِهِ.
(10) وَأَعْلَاهَا مَرْتَبَةً: أَيْ أَرْفَعُهَا مَنْزِلَةً قَالَ فِي الْقَامُوسِ الرُّتْبَةُ بِالضَّمِّ وَالْمَرْتَبَةُ الْمَنْزِلَةُ.
(11) وَأَسْنَاهَا مَنْقَبَةً: السَّنَا ضَوْءُ الْبَرْقِ وَيُمَدُّ.
وَالْمَنْقَبَةُ بِالْفَتْحِ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ أَظْهَرُ الْعُلُومِ طَرِيقًا لِأَنَّ طَرِيقَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا أَوْ سُكُوتِيًّا وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ.
وَهَذِهِ فِي صِحَّةِ الدَّلَالَةِ وَظُهُورِهَا لَا يُضَاهِيهَا غَيْرُهَا مِنْ الدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطَّبْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ لِاخْتِلَافِهَا وَعَدَمِ انْضِبَاطِهَا لِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَالطِّبَاعِ وَالْعَادَاتِ وَفَسَّرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ الْمَنْقَبَةَ هُنَا بِالْفِعْلِ الْكَرِيمِ وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
(12) يَمْلَأُ الْعُيُونَ نُورًا: يَمْلَأُ مِنْ الْمِلْءِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنَاءُ إذَا امْتَلَأَ يُقَالُ مَلَأْت الْوِعَاءَ فَهُوَ مَلْءٌ وَامْتَلَأَ بَطْنُهُ وَتَمَلَّأَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَنْ الْمَجَازِ نَظَرْت إلَيْهِ فَمَلَأْت مِنْهُ عَيْنِي وَهُوَ مَلْآنُ مِنْ الْكَرَمِ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْعُيُونُ جَمْعُ عَيْنٍ الْبَاصِرَةُ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ وَالْمُرَادُ عَيْنُ الْبَصِيرَةِ لَا الْبَاصِرَةُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ. وَالنُّورُ بِالضَّمِّ قِيلَ أَنَّهُ كَيْفِيَّةٌ عَارِضَةٌ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَجْسَامِ بِعُرُوضِهَا تُصَيِّرُ الْمَرْئِيَّاتِ مُنْكَشِفَةً مُتَجَلِّيَةً؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ هُوَ الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ الثَّانِي مِنْ الْأَضْوَاءِ وَالْأَضْوَاءُ قِيلَ هِيَ أَجْسَامٌ شَفَّافَةٌ تَنْفَصِلُ عَنْ الْمُضِيءِ لِأَنَّهَا مُتَحَرِّكَةٌ بِدَلِيلِ
(1/19)
 
 
وَالْقُلُوبَ سُرُورًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
انْحِدَارِهَا عَنْ الْكَوَاكِبِ وَانْعِكَاسِهَا وَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ جِسْمٌ. وَرُدَّ بِمَنْعِ حَرَكَتِهَا. وَقَوْلُهُ لِأَنَّهَا مُتَحَرِّكَةٌ وَفِي نُسْخَةٍ مُنْحَدِرَةً وَمُنْعَكِسَةً قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ يُحْدِثُ فِي مُقَابِلَةِ الْمُقَابِلِ دَفَعَهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ مِنْ شَيْءٍ عَالٍ فِي مَكَان مُقَابِلٍ سَبَقَ إلَى الْوَهْمِ أَنَّهُ مُنْحَدِرٌ وَمُنْعَكِسٌ فَالْحَقُّ أَنَّهَا كَيْفِيَّاتٌ فَمِنْهَا مَا هُوَ ضَوْءٌ أَوَّلٌ وَهُوَ الْحَاصِلُ فِي الْجِسْمِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمُضِيءِ لِذَاتِهِ كَضَوْءِ وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيُسَمَّى ضِيَاءٌ إنْ قَوِيَ وَشُعَاعًا إنْ ضَعُفَ وَمِنْهَا مَا هُوَ ثَانٍ وَهُوَ الْحَاصِلُ فِي الْجِسْمِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمُضِيءِ بِالْغَيْرِ كَالضَّوْءِ الْحَاصِلِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقْتَ الْإِسْفَارِ وَعَقِيبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ صَارَ مُضِيئًا بِالْهَوَى الَّذِي صَارَ مُضِيئًا بِالشَّمْسِ وَكَالضَّوْءِ الْحَاصِلِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقْتَ الْإِسْفَارِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْقَمَرِ وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ نُورًا وَالْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ بِوَجْهٍ تَخْيِيلِيٍّ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْبِدْعَةُ وَكُلُّ مَا هُوَ جَهْلٌ يَجْعَلُ صَاحِبَهَا كَمَنْ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ فَلَا يَهْتَدِي لِلطَّرِيقِ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَنَالَ مَكْرُوهًا شُبِّهَتْ الْبِدْعَةُ بِالظُّلْمَةِ فَلَزِمَ أَنْ يُشَبَّهَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ وَكُلُّ مَا هُوَ عِلْمٌ وَهِدَايَةٌ بِالنُّورِ. وَشَاعَ هَذَا حَتَّى تُخُيِّلَ أَنَّهُ مِمَّا لَهُ بَيَاضٌ وَإِشْرَاقٌ كَذَا فِي التَّقْرِيرِ. أَقُولُ عَلَى هَذَا كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْقُلُوبِ دُونَ الْعُيُونِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلنُّورِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَأَنْ يُعَبِّرَ فِي الْفِقْرَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِالنُّفُوسِ بَدَلَ الْقُلُوبِ دُونَ الْعُيُونِ وَاعْلَمْ أَنَّ النُّور مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَلَهُ سِرٌّ عَظِيمٌ مَنْ كَتَبَهُ هَكَذَا " ن ور " خَمْسَ مَرَّاتٍ وَعَلَّقَهُ عَلَى مَنْ شَكَا وَجَعَ مَعِدَتِهِ وَخَفَقَانَ قَلْبِهِ أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَشْكُوهُ وَإِذَا وُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ أَلَمٍ سَكَنَ.
(13) وَالْقُلُوبَ سُرُورًا: الْقُلُوبُ جَمْعُ قَلْبٍ وَهُوَ الْفُؤَادُ أَوْ أَخُصُّ مِنْهُ وَالْعَقْلُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ الْقَلْبُ مُضْغَةٌ فِي الْفُؤَادِ مُعَلَّقَةٌ بِالنِّيَاطِ فَهُوَ أَخُصُّ مِنْ الْفُؤَادِ وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ. قَالَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ وَالْأَحْسَنُ قَوْلُ غَيْرِهِ الْفُؤَادُ غِشَاءُ الْقَلْبِ وَالْقَلْبُ حَبَّةُ سُوَيْدَاهُ وَيُؤَيِّدُ الْفَرْقَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلْيَنَ قُلُوبًا وَأَرَقَّ أَفْئِدَةً) وَفِي شَرْحِ الشِّفَاءِ لِلسَّيِّدِ عِيسَى الصَّفَوِيِّ أَنَّ الْفُؤَادَ ثَابِتٌ فِي الْجَنْبِ الْأَيْسَرِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّهُ مَحِلُّ الْعِلْمِ، وَالْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ قَائِمَةٌ بِهِ، لَا بِالدِّمَاغِ (انْتَهَى) . وَهُوَ مَنْبَعُ الْحَيَاةِ وَعُنْصُرٌ لِحَرَارَةِ الْجِسْمِ وَلِتَحْقِيقِ أَنَّهُ سِرٌّ لَطِيفٌ بِهِ يُدْرِكُ الْإِدْرَاكَ وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْجَارِحَةِ تَقْرِيبًا لِلْأَذْهَانِ. قِيلَ وَيُسَمَّى الْقَلْبُ قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ:
(1/20)
 
 
وَالصُّدُورَ انْشِرَاحًا 15 - وَيُفِيدُ الْأُمُورَ اتِّسَاعًا وَانْفِتَاحًا، 16 - هَذَا لِأَنَّ مَا بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ مِنْ الِاسْتِقْرَارِ عَلَى سُنَنِ النِّظَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
لِلصَّبِّ بَعْدَك حَالَةٌ لَا تُعْجِبُ ... وَتَتِيهُ مِنْ صَلَفٍ عَلَيْهِ وَتَعْجَبُ
وَأَقُولُ لِلْقَلْبِ الَّذِي لَا يَنْتَهِي ... عَنْ حُبِّهِ أَبَدًا وَلَا يَتَجَنَّبُ
قَدْ كَادَ أَنَّك لَا يُسَمِّيك الْوَرَى ... قَلْبًا لِأَنَّك عَنْهُ لَا تَتَقَلَّبُ
وَالسُّرُورُ الْفَرَحُ.
(14) وَالصُّدُورَ انْشِرَاحًا: الصُّدُورُ جَمْعُ صَدْرٍ أَعْلَى مُقَدِّمِ كُلِّ شَيْءٍ وَالصَّدْرُ مُذَكَّرٌ وَأُنِّثَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
وَتَشْرَقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْته ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدَّمِ
لِاكْتِسَابِهِ التَّأْنِيثَ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَقَدْ تَقَصَّيْت عَمَّا يَكْتَسِبُهُ الْمُضَافُ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَأَوْصَلْت ذَلِكَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَيْئًا وَلَمْ يَسْبِقنِي أَحَدٌ إلَى ذَلِكَ إذْ غَايَةُ مَا أَوْصَلَهَا الْجَمَالُ بْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي إلَى عَشْرَةٍ وَالْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ النَّحْوِيَّةِ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَقَدْ نَظَمْتهَا فِي أَبْيَاتٍ وَهِيَ:
ثَمَانٌ وَعَشْرٌ يَكْتَسِبُهَا الْمُضَافُ مِنْ ... مُضَافٍ إلَيْهِ فَأُسْمِعْتهَا مُفَصِّلًا
فَتَعْرِيفٌ تَخْصِيصٌ وَتَخْفِيفٌ بَعْدَهُ ... بِنَاءٌ وَإِعْرَابٌ وَتَصْغِيرٌ قَدْ تَلَا
وَتَذْكِيرٌ تَأْنِيثٌ وَتَصْدِيرٌ بَعْدَهُ ... إزَالَةُ قُبْحٍ وَالتَّجَوُّزُ يَا فَلَا
وَظَرْفِيَّةٌ جِنْسِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ ... وَشَرْطٌ وَتَنْكِيرٌ فَلَا تَكُ مُهْمِلَا
وَتَثْنِيَةٌ جَمْعٌ وَقَدْ تَمَّ جَمْعُنَا ... صَحِيحًا مِنْ الْأَدْوَا عَلَى رَغْمِ مَنْ قَلَا
وَالِانْشِرَاحُ مُطَاوِعٌ شَرَحْته فَانْشَرَحَ أَيْ وَسَّعْته فَاتَّسَعَ لَكِنَّ بَابَ الْمُطَاوَعَةِ تَخُصُّ بِكُلِّ فِعْلٍ عِلَاجِيٍّ وَشَرْحُ الصَّدْرِ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا مُعَالَجَةَ فِيهِ فَتَأَمَّلْ.
(15) وَيُفِيدُ الْأُمُورَ اتِّسَاعًا وَانْفِتَاحًا: الْإِفَادَةُ بَذْلُ الْفَائِدَةِ وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهَا وَالْأُمُورُ جَمْعُ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْحَادِثَةِ قَالَ الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ الشَّافِيَةِ يُطْلَقُ الْأَمْرُ عَلَى الشَّيْءِ فَيَشْتَمِلُ الْأَعْيَانَ وَالْمَعَانِيَ.
وَالِاتِّسَاعُ مُطَاوِعٌ وَسَّعَهُ فَاتَّسَعَ مِنْ وَسَّعَهُ تَوْسِيعًا ضِدُّ ضَيَّقَهُ وَالِانْفِتَاحُ مُطَاوِعُ فَتَحَهُ فَانْفَتَحَ ضِدُّ غَلَقَ.
(16) هَذَا لِأَنَّ مَا بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ مِنْ الِاسْتِقْرَارِ عَلَى سُنَنِ النِّظَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى
(1/21)
 
 
وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى وَتِيرَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِالْتِئَامِ،
17 - إنَّمَا هُوَ بِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَامِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَتِيرَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِالْتِئَامِ: كَلِمَةُ هَذَا مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا لِلرَّبْطِ أَيْ لِرَبْطِ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] وَالْإِشَارَةُ تَعُودُ إلَى اتِّصَافِ الْفِقْهِ بِمَا ذُكِرَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا رَبْطُ الْمَعْلُولِ بَعْلَتِهِ وَالْعَامُّ التَّامُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَاسْمُ جَمْعٍ لِلْعَامَّةِ ضِدُّ الْخَاصَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَالْخَاصُّ وَالْخَاصَّةُ ضِدُّ الْعَامِّ وَالْعَامَّةُ وَالْخُوَيْصَةُ تَصْغِيرُ الْخَاصَّةِ يَاؤُهَا سَاكِنَةٌ لِأَنَّ يَاءَ التَّصْغِيرِ لَا يَتَحَرَّكُ وَقَوْلُهُ مِنْ الِاسْتِقْرَارِ بَيَانٌ لِمَا فِي مَحِلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ أَقَرَّهُ فِي مَكَانِهِ فَاسْتَقَرَّ أَيْ ثَبَتَ.
وَقَوْلُهُ عَلَى سُنَنِ انْتِظَامِ ظَرْفٍ لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ.
وَالسُّنَنُ مُثَلَّثَةً وَبِضَمَّتَيْنِ الطَّرِيقُ الْوَاضِحَةُ وَالنِّظَامُ بِالْكَسْرِ كُلُّ خَيْطٍ يُنْظَمُ بِهِ لُؤْلُؤٌ وَنَحْوُهُ وَمَصْدَرٌ لَنَظَمْت الشَّيْءَ فَانْتَظَمَ أَيْ أَقَمْته فَاسْتَقَامَ وَهُوَ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ أَيْ نَهْجٍ غَيْرِ مُخْتَلِفٍ.
وَالِاسْتِمْرَارُ هُوَ الْمُضِيُّ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ.
الْوَتِيرَةُ الطَّرِيقَةُ أَوْ طَرِيقٌ تَلَازَقَ الْجَبَلَ وَالِالْتِئَامُ الْمُوَافَقَةُ مِنْ لَائَمَهُ مُلَاءَمَةً أَيْ وَافَقَهُ
 
(17) إنَّمَا هُوَ بِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَامِ: أَيْ بِتَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَامِ وَالْمَعْرِفَةُ الْعِلْمُ لَكِنَّهَا هُنَا مُتَضَمَّنَةٌ لِمَعْنَى التَّمْيِيزِ لَتَعَدِّيهَا بِمِنْ.
وَالْحَلَالُ يُفْتَحُ وَيُكْسَرُ، ضِدُّ الْحَرَام كَالْحِلِّ بِالْكَسْرِ وَالْحَرَامُ كَسَحَابٍ ضِدُّ الْحَلَالِ وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا ثَبَتَ الْمَنْعُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ تَحْرِيمًا مَا ثَبَتَ الْمَنْعُ عَنْهُ بِظَنِّيٍّ وَهُوَ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ بِمَعْنَى أَنَّ فَاعِلَهُ يَسْتَحِقُّ مَحْذُورًا دُونَ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ كَحِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ.
كَذَا فِي التَّلْوِيحِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ تَحْرِيمًا لَيْسَ فَوْقَ الْكَبِيرَةِ وَمُرْتَكِبَهَا لَيْسَ مَحْرُومًا مِنْ الشَّفَاعَةِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» فَكَيْفَ يَصِحُّ تَرَتُّبُ اسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ عَلَى فِعْلِهِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّخَلُّصِ عَنْ النَّارِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ بِالْحِرْمَانِ حِرْمَانٌ مُؤَقَّتٌ لَا مُؤَبَّدٌ بِأَنْ تَتَأَخَّرَ الشَّفَاعَةُ لِمُرْتَكِبِهِ عَنْ الشَّفَاعَةِ لِمَنْ لَمْ يَرْتَكِبْهُ وَلَوْ سُلِّمَ فَاسْتِحْقَاقُ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ لَا يُنَافِي وُقُوعَهَا كَمَا لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ عَفْوَهُ
(1/22)
 
 
وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْفَاسِدِ فِي وُجُوهِ الْأَحْكَامِ، 19 - بُحُورُهُ زَاخِرَةٌ، 20 - وَرِيَاضُهُ نَاضِرَةٌ، 21 - وَنُجُومُهُ زَاهِرَةٌ 22 - وَأُصُولُهُ ثَابِتَةٌ وَفُرُوعُهُ نَابِتَةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْفَاسِدِ فِي وُجُوهِ الْأَحْكَامِ: التَّمْيِيزُ عَزْلُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ وَإِفْرَازُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي الْمِصْبَاحِ مَيَّزْت الشَّيْءَ أَيْ عَزَلْته وَفَصَلْته مِنْ غَيْرِهِ وَالتَّفْعِيلُ مُبَالَغَةٌ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ نَحْوَ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37] وَالْجَائِزُ الْمَاضِي وَالنَّافِذُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُبَاحُ وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْجَائِزِ بِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ جَائِزٌ دُونَ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْجَوَازَ ضِدُّ الْحُرْمَةِ، وَالْإِبَاحَةَ ضِدُّ الْكَرَاهَةِ فَإِذَا انْتَفَى الْجَوَازُ ثَبَتَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْحُرْمَةُ فَتَنْتَفِي الْإِبَاحَةُ أَيْضًا وَإِذَا انْتَفَتْ الْإِبَاحَةُ ثَبَتَ ضِدُّهَا وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَلَا يَنْتَفِي بِهِ الْجَوَازُ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.
وَالْفَاسِدُ مِنْ الْفَسَادِ ضِدُّ الصَّلَاحِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا كُلُّ مَا مُنِعَ عَنْهُ شَرْعًا.
وَوُجُوهُ الْأَحْكَامِ طُرُقُهَا وَالْأَحْكَامُ جَمْعُ حُكْمٍ وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.
(19) بُحُورُهُ زَاخِرَةٌ: الْبَحْرُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ أَوْ الْمِلْحُ فَقَطْ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَزَاخِرَةٌ مِنْ زَخَرَ الْبَحْرُ ظَمَأَ وَتَمَلَّأَ وَفِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ مَكِنِيَّةٌ وَتَخْيِيلِيَّةٌ وَمُرَشَّحَةٌ.
(20) وَرِيَاضُهُ نَاضِرَةٌ: الرِّيَاضُ جَمْعُ رَوْضَةٍ وَيُجْمَعُ عَلَى رَوْضٍ وَالرِّيضَةُ بِالْكَسْرِ مِنْ الرَّمْلِ وَالْعُشْبِ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ لِاسْتِرَاضَةِ الْمَاءَ فِيهَا أَيْ لِاسْتِنْقَاعِهِ وَالنَّاضِرُ الشَّدِيدُ الْخُضْرَةِ وَيُبَالَغُ بِهِ فِي كُلِّ لَوْنٍ فَيُقَالُ أَخْضَرُ نَاضِرٌ أَوْ أَصْفَرُ أَوْ أَحْمَرُ نَاضِرٌ أَوْ فِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَخْيِيلِيَّةٌ وَتَرْشِيحِيَّةٌ.
(21) وَنُجُومُهُ زَاهِرَةٌ: النُّجُومُ جَمْعُ نَجْمٍ وَهُوَ الْكَوْكَبُ وَزَاهِرَةٌ مُنِيرَةٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ زَهِرَ زُهُورًا تَلَأْلَأَ.
(22) وَأُصُولُهُ ثَابِتَةٌ وَفُرُوعُهُ نَابِتَةٌ: الْأُصُولُ جَمْعُ أَصْلٍ وَهُوَ لُغَةً أَسْفَلُ الشَّيْءِ وَفِي الْعُرْفِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ.
وَالْفُرُوعُ جَمْعُ
(1/23)
 
 
لَا يَفْنَى بِكَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ كَنْزُهُ، 24 - وَلَا يَبْلَى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ عِزُّهُ، 25 -
وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ كُنْهَ صِفَاتِهِ ... وَلَوْ أَنَّ أَعْضَائِي جَمِيعًا تَكَلَّمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
فَرْعٍ ضِدُّ الْأَصْلِ وَفِي الْعُرْفِ مَا يُبْتَنَى عَلَى غَيْرِهِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَشْيَاءُ الثَّابِتَةُ أَحْكَامُهَا بِالْأُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَسْنُونِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً وَتَنْزِيهِيَّةً.
وَالنَّابِتُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ إذَا ظَهَرَ مِنْ الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ظُهُورُ أَحْكَامِ تِلْكَ الْفُرُوعِ.
(23) لَا يَفْنَى بِكَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ كَنْزُهُ: شَبَّهَ مَسَائِلَ الْفِقْهِ بِالشَّيْءِ النَّفِيسِ الْمُكْنَزِ تَحْتَ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ وَأَثْبَتَ لَهُ شَيْئًا مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ تَخْيِيلًا وَهُوَ الْكَنْزُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكِنِيَّةِ الْمُسْتَتْبَعَةِ لِلتَّخَيُّلِيَّةِ وَشَبَّهَ تَعَاطِيَ الْمَسَائِلَ الْفِقْهِيَّةَ بِالْإِفَادَةِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ الْمُسْتَتْبَعَةِ لِلتَّخَيُّلِيَّةِ وَشَبَّهَ تَعَاطِيَ الْمَسَائِلَ الْفِقْهِيَّةَ بِالْإِفَادَةِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ التَّصْرِيحِيَّةِ وَقَوْلُهُ بِكَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ أَيْ بِالْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا.
(24) وَلَا يَبْلَى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ عِزُّهُ: يَبْلَى مِنْ بَلِيَ الثَّوْبُ يَبْلَى بَلَاءً فَنِيَ وَقَوْلُهُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ الزَّمَانُ الطَّوِيلُ.
وَعَلَى بِمَعْنَى لَامَ التَّعْلِيلِ أَوْ بِمَعْنَى مِنْ وَالتَّقْدِيرُ لَا يَفْنَى عِزُّ الْعِلْمِ لِأَجْلِ مُضِيِّ الزَّمَانِ الطَّوِيلِ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَبْلَى بَلَاءً نَاشِئًا مِنْ طُولِ الزَّمَانِ وَالْمُرَادُ بِعِزِّ الْعِلْمِ الْجَاهُ وَالشَّرَفُ الْحَاصِلُ بِهِ وَفِي مَنْشُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ عِزٍّ فَإِلَى ذُلٍّ مَصِيرُهُ، إلَّا عَنْ الْعِلْمِ.
(25)
وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ كُنْهَ صِفَاتِهِ ... وَلَوْ أَنَّ أَعْضَائِي جَمِيعًا تَكَلَّمُ
بَيْتَ شَعْرٍ لَا أَعْلَمُ قَائِلَهُ وَالِاسْتِطَاعَةُ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ.
وَالْكُنْهُ بِالضَّمِّ جَوْهَرُ الشَّيْءِ وَقَدْرُهُ وَغَايَتُهُ.
وَالصِّفَاتُ جَمْعُ صِفَةٍ وَهِيَ مَا قَامَ بِالشَّيْءِ كَالْعِلْمِ وَالسِّيَادَةِ وَالْأَعْضَاءُ جَمْعُ عُضْوٍ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ كُلُّ لَحْمٍ وَافِرٍ بِعَظْمِهِ وَتَكَلَّمُ أَصْلِهِ تَتَكَلَّمُ فَحُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا وَالْمَعْنَى أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ ذِكْرِ غَايَةِ صِفَاتِهِ أَوْ قَدْرِ صِفَاتِهِ لَوْ فُرِضَ أَنَّ جَمِيعَ أَعْضَائِي تَتَكَلَّمُ بِصِفَاتِهِ فَمَا بَالُك وَلَيْسَ مِنْ أَعْضَائِي يَتَكَلَّمُ إلَّا عُضْوٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللِّسَانُ.
(1/24)
 
 
وَأَهْلُهُ قِوَامُ الدِّينِ وَقُوَّامُهُ، 27 - وَبِهِمْ ائْتِلَافُهُ وَانْتِظَامُهُ، 28 - وَإِلَيْهِمْ الْمَفْزَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَأَهْلُهُ قِوَامُ الدِّينِ وَقُوَّامُهُ: أَهْلُ الرَّجُلِ عَشِيرَتُهُ وَقَرَابَتُهُ وَأَهْلُ الْأَمْرِ وُلَاتُهُ وَأَهْلُ الْبَيْتِ سُكَّانُهُ وَأَهْلُ الْمَذْهَبِ مَنْ يَدِينُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَالْقِوَامُ بِالْكَسْرِ نِظَامُ الْأَمْرِ وَعِمَادُهُ وَمِلَاكُهُ وَالْقُوَّامُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ جَمْعُ قَيِّمٍ وَهُوَ مَنْ يَنْتَصِبُ لِلشَّيْءِ وَيَقُومُ بِخِدْمَتِهِ وَمِنْهُ قَيِّمُ الْوَقْفِ.
وَفَرَّقَ فِي الْمَبْسُوطِ بَيْنَ الْقَيِّمِ وَالْمُتَوَلِّي فَقَالَ الْقَيِّمُ مَنْ فُوِّضَ إلَيْهِ الْحِفْظُ وَالْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ وَالْقَيِّمُ تَحْتَ يَدِ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ يَفْعَلُ بِإِذْنِهِ.
(27) وَبِهِمْ ائْتِلَافُهُ وَانْتِظَامُهُ: الِائْتِلَافُ مَصْدَرُ أَلِفَهُ كَعَلِمَهُ بِمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ وَالِانْتِظَامُ مُطَاوِعٌ نَظَّمَهُ فَانْتَظَمَ أَيْ أَقَامَهُ فَاسْتَقَامَ وَذَلِكَ الِانْتِظَامُ الْحَاصِلُ بِهِمْ بِإِفَادَتِهِمْ لِمَسَائِلِ الدِّينِ تَقْرِيرًا وَتَحْرِيرًا.
(28) وَإِلَيْهِمْ الْمَفْزَعُ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا: الْمَفْزَعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الِالْتِجَاءِ وَالْآخِرَةُ وَالْأُخْرَى دَارُ الْبَقَاءِ وَالدُّنْيَا نَقِيضُ الْآخِرَةِ وَقَدْ يُنَوَّنُ وَالْجَمْعُ دُنَى كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي تَفْسِيرِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ عَرَفَةَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 85] مَا نَصُّهُ دُنْيَا فَعَلَى تَأْنِيثِ الْأَدْنَى مِنْ الدُّنُوِّ وَهُوَ الْقُرْبُ وَأَلِفُهَا لِلتَّأْنِيثِ وَلَا تُحْذَفُ مِنْهَا إلَّا ضَرُورَةً كَقَوْلِهِ:
يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّتْ ... فِي سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا مُدَّتْ
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ وَهِيَ كُلُّ فُعْلَى صِفَةٍ لَامُهَا وَاوٌ تُبْدَلُ يَاءً نَحْوَ الْعُلْيَا وَالدُّنْيَا فَأَمَّا قَوْلُهُمْ " الْقُصْوَى عِنْدَ تَمِيمٍ وَالْحَلْوَى عِنْدَ الْجَمِيعِ " فَشَاذٌّ فَلَوْ كَانَتْ فُعْلَى اسْمًا صَحَّتْ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ: إذَا رَأَى بِحُزْوَى هَجَتْ لَعَيْنِ عَبْرَةٍ فَاءَ الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرَقُ وَقَدْ اُسْتُعْمِلْت اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فَلَمْ يُذْكَرْ مَوْصُوفُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ فِي الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ: وَالدُّنْيَا مَقْصُورَةٌ مُؤَنَّثَةٌ تُكْتَبُ
(1/25)
 
 
وَالْمَرْجِعُ فِي التَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى، 30 - خُصُوصًا أَنَّ أَصْحَابَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَهُمْ خُصُوصِيَّةُ السَّبَقِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
بِالْأَلِفِ هَذَا لُغَةُ نَجْدٍ وَتَمِيمٍ إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ يُلْحِقُونَهَا وَنَظَائِرَهَا بِالْمَصَادِرِ ذَوَاتِ الْوَاوِ وَيَقْلِبُونَ دُنْوَى سُرْوَى وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِكُلِّ فُعْلَى مَوْضِعُ لَامِهَا وَاوٌ يَفْتَحُونَ أَوَّلَهَا وَيَقْلِبُونَ يَاءَهَا وَاوًا وَأَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ الْأُولَى فَيَضُمُّونَ الدَّالَ وَيَقْلِبُونَ الْوَاوَ يَاءً لِاسْتِثْقَالِهِمْ الْوَاوَ مَعَ الضَّمَّةِ.
(29) وَالْمَرْجِعُ فِي التَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى: الْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ وَهُوَ الْعُودُ إلَى الشَّيْءِ وَالتَّدْرِيسُ مِنْ دَرَسَ الْكِتَابَ قَرَأَهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يُدَرِّسُهُ
وَالْفُتْيَا وَالْفَتْوَى وَتُفْتَحُ مَا أَفْتَى بِهِ الْفَقِيهُ وَأَفْتَاهُ فِي الْأَمْرِ أَبَانَهُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي حَوَاشِي الْكَشَّافِ لِلسَّيِّدِ السَّنَدِ اشْتِقَاقُ الْفَتْوَى مِنْ الْفَتِيِّ لِأَنَّهَا جَوَابٌ فِي حَادِثَةٍ أَوْ إحْدَاثِ حُكْمٍ أَوْ تَقْوِيَةٍ لِبَيَانٍ مُشْكِلٍ يَعْنِي أَنَّهُ يُلَاحِظُ فِيهَا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْفَتِيُّ مِنْ الْحُدُوثِ أَوْ الْقُوَّةِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةً الِاشْتِقَاقُ. وَعَرَّفَهَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ بِأَنَّهَا الْإِخْبَارُ عَنْ الْحُكْمِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِلْزَامِ قِيلَ اُحْتُرِزَ بِالْقَيْدِ الْأَخِيرِ عَنْ الْقَضَاءِ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الْقَضَاءُ إنْشَاءٌ فَلَا يَصْدُقُ مَا قَبْلَ هَذَا الْقَيْدِ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفَتْوَى مَأْخُوذٌ عَنْ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الْقَوِيُّ سُمِّيَ الْحُكْمُ فَتْوَى لِتَقَوِّي السَّائِلِ بِهِ فِي جَوَابِ الْحَادِثَةِ وَفِيهِ أَنَّ الْفَتْوَى بَيَانُ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَهُوَ جَوَابُهَا لَا الْحُكْمُ كَمَا ذُكِرَ. قَالَ فِي الْمُجْمَلِ أَفْتَى الْفَقِيهُ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا بَيَّنَ حُكْمَهَا. قَالَ فِي الْبَيَانِ أَفْتُونِي أَجِيبُونِي عَنْ سُؤَالِ رُؤْيَايَ فِي الْمَنَامِ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أَجِيبُونِي. (30)
خُصُوصًا أَنَّ أَصْحَابَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَهُمْ خُصُوصِيَّةُ السَّبَقِ فِي هَذَا الشَّأْنِ: خُصُوصًا مَصْدَرُ خَصَّهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعَ مُلَاحَظَةِ مَفْعُولٍ بِهِ مُقَدَّرٍ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ أَخُصُّ أَصْحَابَنَا بِالْإِنْصَافِ بِمَا ذُكِرَ خُصُوصًا.
وَقَوْلُهُ إنَّ أَصْحَابَنَا إلَخْ تَعْلِيلٌ لِلتَّخْصِيصِ بِمَا ذُكِرَ مَعَ مُلَاحَظَةِ لَامِ التَّعْلِيلِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُتِحَتْ هَمْزَةُ أَنَّ وَالتَّقْدِيرُ إنَّمَا خَصَّصْت أَصْحَابَنَا بِالِاتِّصَافِ بِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا لَهُمْ خُصُوصِيَّةُ السَّبَقِ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَالْخُصُوصِيَّةُ بِالضَّمِّ وَتُفْتَحُ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَالْمُرَادُ
(1/26)
 
 
وَالنَّاسُ لَهُمْ أَتْبَاعٌ؛ 32 - وَالنَّاسُ فِي الْفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، 33 - وَلَقَدْ أَنْصَفَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: مِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الْفِقْهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، 34 - كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ وَهْبَانَ عَنْ حَرْمَلَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
بِأَصْحَابِنَا أَصْحَابُ مَذْهَبِنَا وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وَالسَّبَقُ التَّقَدُّمُ وَهَذَا الشَّأْنُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَنَحْوِهِمَا.
هَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَحِلُّ.
(31) وَالنَّاسُ لَهُمْ أَتْبَاعٌ: النَّاسُ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى دُخُولِ أَنَّ قَبْلَهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَدَاةِ التَّعْلِيلِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا إنَّمَا خَصَّصْت أَصْحَابَنَا بِالِاتِّصَافِ بِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ النَّاسَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِالرَّفْعِ وَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ أَصْحَابَنَا لَهُمْ خُصُوصِيَّةُ السَّبَقِ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَالْحَالُ أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ وَالنَّاسُ الْبَشَرُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ فَقِيلَ مِنْ نَاسَ يَنُوسُ إذَا تَحَرَّكَ وَقِيلَ مِنْ الْأُنْسِ وَهُوَ السُّكُونُ وَالْأُلْفَةُ وَقِيلَ مِنْ النِّسْيَانِ وَعَلَى الثَّانِي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأُنْسِهِ ... وَمَا الْقَلْبُ إلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
وَالْأَتْبَاعُ جَمْعُ تَبَعٍ مُحَرَّكَةً وَهُوَ مَنْ يَمْشِي خَلْفَك وَيَأْخُذُ بِقَوْلِك.
(32) وَالنَّاسُ فِي الْفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُقَالَ لِمَ كَانَ النَّاسُ أَتْبَاعًا لِأَصْحَابِك فِيمَا ذُكِرَ؟ فَقَالَ النَّاسُ فِي الْفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ كَالْعِيَالِ وَالْعِيَالُ كَكِتَابٍ جَمْعُ عَيِّلٍ وَهُوَ مَنْ يَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
(33) وَلَقَدْ أَنْصَفَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الْفِقْهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنْصَفَ مِنْ الْإِنْصَافِ وَهُوَ الْعَدْلُ وَحَيْثُ هُنَا ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْمَعْنَى وَلَقَدْ عَدَلَ الشَّافِعِيُّ وَقْتَ قَوْلِهِ هَذَا وَالتَّبَحُّرُ التَّوَسُّعُ يُقَالُ تَبَحَّرَ فِي الْعِلْمِ تَوَسَّعَ وَتَعَمَّقَ وَنَظَرَ الشَّيْءَ وَإِلَيْهِ تَأَمَّلَ بِالْبَصَرِ وَقَوْلُهُ إلَى كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُصَنَّفَةِ عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُصَنِّفْ شَيْئًا سِوَى الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى مَا اشْتَهَرَ.
(34) كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ وَهْبَانَ عَنْ حَرْمَلَةَ: أَيْ عَلَى مَا نَقَلَهُ وَإِلَّا مَا هُنَا عَيْنُهُ لَا مِثْلُهُ
(1/27)
 
 
وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
36 - وَلَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ مِنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ وَأَلَّفَهُ وَفَرَّعَ أَحْكَامَهُ عَلَى أُصُولِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
وَحَرْمَلَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرْمَلَةَ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَذَكَرَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالصَّحِيفَةِ فِي مَنَاقِبِ فَقِيهِ الْوَقْتِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُزَنِيّ رَوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هَذَا الَّذِي رَوَاهُ حَرْمَلَةُ وَنَقَلَ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الصَّبَّاحِ قَالَ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قِيلَ لِمَالِكٍ هَلْ رَأَيْت أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ نَعَمْ رَأَيْت رَجُلًا لَوْ كَلَّمَك فِي هَذِهِ السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ.
وَنَقَلَ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُفْلِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُقَاتِلٌ قَالَ سَمِعْت ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ إنَّ الْأَثَرَ قَدْ عُرِفَ وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى الرَّأْيِ فَرَأْيُ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَحْسَنُهُمْ رَأْيًا وَأَدَقُّهُمْ فِطْنَةً وَأَغْوَصُهُمْ عَلَى الْفِقْهِ وَهُوَ أَفْقَهُ الثَّلَاثَةِ.
(35) وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ سِيقَتْ لِبَيَانِ إحْرَازِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَصَبَ السَّبَقِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالصِّدِّيقُ كَسِكِّيتٍ لَقَبُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَيْخُ الْخُلَفَاءِ وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ابْتَدَأَ أَمْرًا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابْتَدَأَ تَدْوِينَ الْفِقْهِ وَكَانَ قَبْلَهُ مَحْفُوظًا فِي الصُّدُورِ وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ابْتَدَأَ جَمَعَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَشُورَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَذَا قِيلَ.
وَقِيلَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنهمَا أَنَّ الصِّدِّيقَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنْ الرِّجَالِ وَأَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ
 
(36) وَلَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ وَأَلَّفَهُ وَفَرَّعَ أَحْكَامَهُ عَلَى أُصُولِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: أَيْ أَجْرُ تَدْوِينِ الْفِقْهِ فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْفِقْهِ مَعَ مُلَاحَظَةِ الْمُضَافِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَأَجْرُ مَنْ دَوَّنَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا أَنَّ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْرُ جَمْعِ الْقُرْآنِ وَأَجْرُ مَنْ جَمَعَهُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يُقَالُ كَمَا أَنَّ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْرُ إيمَانِهِ وَأَجْرُ كُلِّ مَنْ آمَنَ بَعْدَهُ مِنْ الرِّجَالِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قُلْت وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَيْ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (أَقُولُ) الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ إذْ الْقُرْآنُ بَعْدَ مَا جُمِعَ لَا يُتَصَوَّرُ جَمْعُهُ ثَانِيًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ
(1/28)
 
 
وَإِنَّ الْمَشَايِخَ الْكِرَامَ 38 - قَدْ أَلَّفُوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
يُرَادَ مِنْ جَمْعِهِ ثَانِيًا كِتَابَتُهُ مَجْمُوعًا.
وَقِيلَ كَالصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي أَنَّ لَهُ أَجْرَ التَّصْدِيقِ وَأَجْرَ مَنْ صَدَّقَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ فَتَحَ بَابَ التَّصْدِيقِ وَقَوْلُهُ دَوَّنَهُ أَيْ جَعَلَهُ دِيوَانًا وَالدِّيوَانُ - وَيُفْتَحُ - مَجْمَعُ الصُّحُفِ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ فِيهِ أَهْلُ الْجَيْشِ وَأَهْلُ الْعَطِيَّةِ وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَقَوْلُهُ فَرَّعَ أَحْكَامَهُ أَيْ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ أُصُولِهَا بِقَوَاعِدِ الِاسْتِنْبَاطِ
 
(37) وَإِنَّ الْمَشَايِخَ الْكِرَامَ: عَطَفَ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَنَا.
وَالْمَشَايِخُ جَمْعُ شَيْخٍ وَهُوَ لُغَةً مَنْ اسْتَبَانَتْ فِيهِ السِّنُّ أَوْ مَنْ بَلَغَ خَمْسِينَ أَوْ إحْدَى وَخَمْسِينَ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ أَوْ إلَى الثَّمَانِينَ وَلَهُ جُمُوعٌ خِلَافُ هَذَا ذَكَرَهَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ فِي الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا السِّنَّ.
وَالْكِرَامُ جَمْعُ كَرِيمٍ وَهُوَ الصَّفُوحُ.
(38) قَدْ أَلَّفُوا: التَّأْلِيفُ جَعْلُ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ سَوَاءً كَانَ لِبَعْضِ أَجْزَائِهِ نِسْبَةٌ إلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ أَوْ لَا. وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّأْلِيفُ أَعُمَّ مِنْ التَّرْتِيبِ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ السَّنَدُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ وَأَعَمُّ مِنْ التَّصْنِيفِ وَهُوَ جَعْلُ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:
سُقْيًا لِحُلْوَانَ ذِي الْكُرُومِ ... وَمَا صُنِّفَ مِنْ تِينِهِ وَمِنْ عِنَبِهِ
فَالتَّأْلِيفُ لِكَوْنِهِ مُطْلَقَ الضَّمِّ أَعَمُّ مِنْ التَّصْنِيفِ لِكَوْنِهِ جَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ التَّأْلِيفُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إلَى جَمْعِ كَلَامِ الْغَيْرِ وَضَمِّهِ فَحَسْبُ وَالتَّصْنِيفُ إبْرَازُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَإِثْبَاتُ الْأَفْكَارِ الْغَرِيبَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ وَالْمُؤَلِّفُ مَنْ يَجْمَعُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَضُمُّهُ بِإِيقَاعِ الْأُلْفَةِ مِنْ غَيْرِ ابْتِكَارِ مَعْنَى مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاضِعُ الْعِلْمِ أَوْلَى بِاسْمِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْمُؤَلِّفِ وَإِنْ صَحَّ أَيْضًا فِيهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ جِنْسٌ وَمَا تَحْتَهُ مِمَّا فِي الظَّنِّ وَالْيَقِينِ نَوْعٌ فَوَاضِعُ الْعِلْمِ لَمَّا لَاحَظَ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَةَ لَهُ فَوَجَدَهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ وَضَعَهُ لِيَبْحَثَ عَنْهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فَقَيَّدَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ فَصَارَ صِنْفًا وَقِيلَ لِوَاضِعِهِ صَنَّفَ الْعِلْمَ أَيْ جَعَلَهُ صِنْفًا مُتَنَاسِبًا فَهُوَ بِاسْمِ الْمُصَنِّفِ أُوَفِّقُ.
(1/29)
 
 
مَا بَيْنَ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ 40 - مِنْ مُتُونٍ وَشُرُوحٍ وَفَتَاوَى، 41 - وَاجْتَهَدُوا فِي الْمَذْهَبِ وَالْفَتْوَى وَحَرَّرُوا وَنَقَّحُوا، شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
مَا بَيْنَ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ: أَيْ أَلَّفُوا تَأْلِيفًا مِنْهَا مُخْتَصَرٌ وَمِنْهَا مُطَوَّلٌ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَالْعِبَارَةُ لَا تُفِيدُهُ.
وَالْمُخْتَصَرُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ الِاخْتِصَارِ وَهُوَ تَقْلِيلُ اللَّفْظِ وَتَكْثِيرُ الْمَعْنَى.
وَالْمُطَوَّلُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ التَّطْوِيلِ وَهُوَ زِيَادَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُؤَدِّي أَصْلَ الْمُرَادِ مَعَ كَوْنِ الزَّائِدِ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ فَإِنْ تُعُيِّنَ فَهُوَ الْحَشْوُ وَيُوصَفُ الْكَلَامُ بِكَوْنِهِ طَوِيلًا عَرِيضًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِمُشَابِهَتِهِ لِلْجِسْمِ فِي اتِّصَالِ الْأَجْزَاءِ وَتَوَالِيهَا فَطُولُهُ كَثْرَةُ أَلْفَاظِهِ لِكَثْرَةِ مَعَانِيهِ وَعَرْضُهُ كَثْرَةُ أَلْفَاظِهِ لِتَوْضِيحِ مَعَانِيهِ وَالْإِيجَازُ أَدَاءُ الْمَقْصُودِ بِأَقَلَّ مِنْ عِبَارَتِهِ الْمُتَعَارَفَةِ وَالْإِطْنَابُ أَدَاؤُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا.
(40) مِنْ مُتُونٍ وَشُرُوحٍ وَفَتَاوَى: بَيَانٌ لِمَا.
(41) وَاجْتَهَدُوا فِي الْمَذْهَبِ وَالْفَتْوَى وَحَرَّرُوا وَنَقَّحُوا شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُمْ: أَيْ فِي تَقْرِيرِ مَسَائِلِهِ وَتَحْرِيرِهَا وَالْمَذْهَبُ لُغَةً مَوْضِعُ الذَّهَابِ وَهُوَ الْمُرُورُ فَحَاصِلُهُ الطَّرِيقُ ثُمَّ نَقَلَ مِنْهُ إلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ طَرَائِقُ الْمُجْتَهِدِينَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا بِأَقْدَامِ عُقُولِهِمْ الرَّاجِحَةُ لِتَحْصِيلِ الظَّنِّ بِهَا وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي الْعُرْفِ وَهُوَ مَا اُخْتُصَّ بِهِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَهَذَا يَشْتَمِلُ جَمِيعَ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَالتَّعْرِيفُ الْخَاصُّ لِمَذْهَبِ إمَامِنَا هُوَ مَا اُخْتُصَّ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَعَرَّفَ بَعْضُهُمْ الْمَذْهَبَ بِأَنَّهُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ وَأَسْبَابُهَا وَشُرُوطُهَا وَمَوَانِعُهَا وَالْحِجَجُ الْمُثْبِتَةُ لِلْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ نَفْسَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِمَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُ الْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ الَّتِي يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِنْ جُمْلَةِ مَبَادِهَا التَّصَوُّرِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَالْمَانِعِ وَالْحَجَّةِ لَيْسَ بِوَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ أَصَالَةً وَإِنَّمَا وَظِيفَتُهُ قَصْدًا وَأَصَالَةً هُوَ الْبَحْثُ عَنْ الْأَحْكَامِ سَوَاءً كَانَتْ أَحْكَامَ الْأَدِلَّةِ وَالْأَسْبَابِ أَوْ الشُّرُوطِ أَوْ الْمَوَانِعِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْكَرَاهِيَةُ.
وَالِاجْتِهَادُ لُغَةً تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي أَمْرٍ. وَاصْطِلَاحًا اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ الظَّنِّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.
(1/30)
 
 
إلَّا أَنِّي لَمْ أَرَ لَهُمْ كِتَابًا يَحْكِي كِتَابَ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيّ الشَّافِعِيّ مُشْتَمِلًا عَلَى فُنُونٍ فِي الْفِقْهِ، وَقَدْ كُنْت لَمَّا وَصَلْت فِي شَرْحِ الْكَنْزِ 43 - إلَى تَبْيِيضِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، أَلَّفْت كِتَابًا مُخْتَصَرًا 44 - فِي الضَّوَابِطِ وَالِاسْتِثْنَاءَات مِنْهَا، 45 - سَمَّيْته بِالْفَوَائِدِ الزَّيْنِيَّةِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيَّةِ وَصَلَ إلَى خَمْسِمِائَةِ ضَابِطَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[غمز عيون البصائر]
إلَّا أَنِّي لَمْ أَرَ لَهُمْ كِتَابًا يَحْكِي كِتَابَ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيّ الشَّافِعِيِّ مُشْتَمِلًا عَلَى فُنُونٍ فِي الْفِقْهِ وَقَدْ كُنْت لَمَّا وَصَلْت فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ قَدْ أَلَّفُوا.
وَقَوْلُهُ: يَحْكِي أَيْ يُشَابِهُ وَقَوْلُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُنُونٍ فِي الْفِقْهِ مِنْ اشْتِمَالِ الْكُلِّ عَلَى أَجْزَائِهِ كَاشْتِمَالِ السَّكَنْجَبِينِ عَلَى الْخَلِّ وَالْعَسَلِ فَلَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الْمُشْتَمِلِ وَالْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ.
وَالِاشْتِمَالُ عَلَى الشَّيْءِ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاشْتِمَالِ وَالشُّمُولِ أَنَّ الشُّمُولَ يُوصَفُ بِهِ الْمَفْهُومُ الْكُلِّيُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ وَالِاشْتِمَالُ يُوصَفُ بِهِ الْكُلُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَجْزَائِهِ كَذَا فِي حَوَاشِي الْمَوْلَى؛ زَادَهُ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ.
وَالْفُنُونُ جَمْعُ فَنٍّ وَهُوَ النَّوْعُ وَالضَّرْبُ مِنْ الشَّيْءِ يُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَفْنَانٍ.
(43) إلَى تَبْيِيضِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَلَّفْت كِتَابًا مُخْتَصَرًا: التَّبْيِيضُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُصَنِّفِينَ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الضَّبْطِ وَالتَّحْرِيرِ مِنْ غَيْرِ شَطْبٍ بَعْدَ كِتَابَتِهِ كَيْفَ مَا اتَّفَقَ.
(44) فِي الضَّوَابِطِ وَالِاسْتِثْنَاءَات مِنْهَا: الضَّوَابِطُ جَمْعُ ضَابِطَةٍ وَهُوَ عَلَى مَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي دِيبَاجَةِ الْفَنِّ الثَّانِي مَا يَجْمَعُ فُرُوعًا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ مَا يَجْمَعُهَا مِنْ أَبْوَابٍ شَتَّى، وَالِاسْتِثْنَاءَات جَمْعُ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى الْمُسْتَثْنَى وَلِذَا جَمَعَهُ وَإِلَّا فَالْمَصْدَرُ لَا يُثْنَى وَلَا يُجْمَعُ إلَّا إذَا قُصِدَ بِهِ التَّنْوِيعُ أَوْ لَحِقَتْهُ تَاءُ الْوَحْدَةِ.
(45) سَمَّيْته بِالْفَوَائِدِ الزَّيْنِيَّةِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيَّةِ وَصَلَ إلَى خَمْسِمِائَةِ ضَابِطَةٍ: فِي الصِّحَاحِ سَمَّيْت