فتح القدير للكمال ابن الهمام 011

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا لِلْأَعْلَى أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ وَلَائِهِ لِعَدَمِ اللُّزُومِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا، بِخِلَافِ مَا إذَا عَقَدَ الْأَسْفَلُ مَعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَلَى وُجُوبِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِ الْكَافِي: قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى غَيْرِهِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، هَذَا لَفْظُ الْكَافِي بِعَيْنِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْمُوَالَاةِ بَلْ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ كَافٍ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا وَالَيْتُك وَالْآخَرُ قَبِلْت، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَذْكُرْ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمُوَالَاةِ بَلْ جَعَلَهُمَا حُكْمًا لَهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا فَافْهَمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ. يُوَضِّحُهُ قَوْلُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ: وَتَفْسِيرُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتَّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْتُ وَقَالَ الْآخَرُ قَبِلْت فَيَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالتَّيْكَ وَالْآخَرُ قَبِلْت، وَكَذَا إذَا عَقَدَ مَعَ رَجُلٍ غَيْرِ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، إلَى هُنَا لَفْظُ التُّحْفَةِ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ فِي صِحَّةِ الْمُوَالَاةِ.
أَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ وُقُوعِ الصَّرِيحِ بِاشْتِرَاطِهِمَا هُنَاكَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ تَضَمُّنِ الْمُوَالَاةِ اشْتِرَاطَهُمَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَوَلَاءٌ فِي قَوْلِهِ إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا وَالَيْتُك وَالْآخَرُ قَبِلْت كَافٍ فِي تَمَامِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ، وَجَعْلُ نَفْسِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ حُكْمًا لِلْمُوَالَاةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ ذِكْرِهِمَا فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْد كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَى يَدِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ: فَلِأَنَّ مَحِلَّ تَوَهُّمِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالَيْتُكَ وَالْآخَرُ قَبِلْت، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالَيْتُكَ بَدَلَ قَوْلِهِ أَنْتَ مَوْلَايَ فَقَطْ لَا بَدَلَ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتَّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْتُ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِمَا. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِشَرْطٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَبَيَانِ صُورَةِ الْمُوَالَاةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِهِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ مِنْ بَيَانِهِمْ إيَّاهُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، أَلَا يُرَى أَنَّ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ شَرَائِطَ كَثِيرَةً، كَكَوْنِ الْمُوَالِي مَجْهُولَ النَّسَبِ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَقٍ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَبَيَانِ صُورَتِهِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا) أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ سَبَبَ اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْعَزْلِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ تَضَرُّرُ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ عِنْدَ رُجُوعِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ
(9/230)
 
 
مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ. قَالَ (وَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِهِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ نَالَهُ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا لَا يَتَحَوَّلُ وَلَدُهُ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ لِأَنَّهُمْ فِي حَقِّ الْوَلَاءِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ.
 
قَالَ (وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا) لِأَنَّهُ لَازِمٌ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَظْهَرُ الْأَدْنَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَلَى مَا مَرَّ فِي الْوَكَالَةِ، فَمَا مَعْنَى اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ سَبَبَ الِاشْتِرَاطِ هَاهُنَا هُوَ السَّبَبُ هُنَالِكَ وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفِي تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ، وَنَفْسُ إلْزَامِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ ضَرَرٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ عَقْدِ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ كَلَا عَقْدٍ، وَفِيهِ إبْطَالُ فِعْلِهِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْعِلْمِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَقَصَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ذِكْرَ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَهُ أَيْضًا.
أَقُولُ: هَذَا الْوَجْهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ، فَإِنَّ كَوْنَ نَفْسِ إلْزَامِ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرًا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِيهِ إبْطَالَ فِعْلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَأَمَّا مَدْخَلِيَّةُ عَدَمِ عِلْمِ الْآخَرِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ فِي كَوْنِهِ ضَرَرًا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عِلْمِ الْآخِرِ بِلَا رَيْبٍ فَيَتَحَقَّقُ إبْطَالُ فِعْلِ الْآخَرِ فِي صُورَةِ الْعِلْمِ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَكْرَهُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِذَنْ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ سَبَبِ اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ الضَّرَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: دَفْعُ الضَّرَرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ هَاهُنَا كَمَا تَعَيَّنَ فِي صُورَةِ الْعَزْلِ عَنْ الْوَكَالَةِ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ بِإِرْضَاءِ الْآخَرِ بِالْبِرِّ وَالْمُجَازَاةِ، لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فَسْخَ أَحَدِهِمَا هَذَا الْعَقْدَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ يَتَضَمَّنُ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَسْفَلِ فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَمُوتُ الْأَسْفَلُ فَيَحْسِبُ الْأَعْلَى أَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لَهُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَعْلَى فَلِأَنَّ الْأَسْفَلَ رُبَّمَا يُعْتِقُ عَبِيدًا عَلَى حُسْبَانِ أَنَّ عَقْلَ عَبِيدِهِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَوْ صَحَّ فَسْخُ الْأَعْلَى يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى الْأَسْفَلِ بِدُونِ عِلْمِهِ فَيَتَضَرَّرُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ. أَقُولُ: هَذَا الْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ فِي الْفَسْخِ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِهِ ضَرَرَ الِاغْتِرَارِ، وَفِي الْإِعْلَامِ دَفْعُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ لِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبَةَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ؟ قُلْنَا: إنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ مَمْنُوعٍ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ مُدَلَّلًا وَمَشْرُوحًا، وَالثَّانِي أَنَّ قِيَاسَ الْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَصِحَّ مَعَ الْأَوَّلِ إذْ النَّسَبُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ إنْسَانٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ آخَرَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ كَذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، فَمِنْ أَيْنَ يُتَصَوَّرُ الِاسْتِدْلَال بِصِحَّةِ عَقْدِ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي عَلَى بُطْلَانِ عَقْدِهِ مَعَ الْأَوَّلِ
(9/231)
 
 
[كِتَابُ الْإِكْرَاهِ]
ِ قَالَ (الْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ النَّسَبَ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ أَوَّلًا لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ ثَانِيًا، وَثُبُوتُ نَسَبِ وَلَدِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْهُمَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا ادَّعَيَاهُ مَعًا.
وَأَمَّا إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا وَالْآخَرُ ثَانِيًا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَمَا فُصِّلَ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُجَرَّدِ عَدَمِ صِحَّةِ اجْتِمَاعِ ثُبُوتِهِ لِلشَّخْصَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَ ثُبُوتُهُ لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ لَا فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِانْتِقَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ آخَرُ نَاشِئٌ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ لَازِمًا وَعَقْدُ الْوَلَاءِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيُخَالِفُ النَّسَبَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَلِهَذَا يَصِحُّ الِانْتِقَالُ فِيهِ دُونَ النَّسَبِ فَتَأَمَّلْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
 
(كِتَابُ الْإِكْرَاهِ) قِيلَ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَضْعِ لَمَّا ذَكَرَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُكَاتَبِ، وَذَكَرَ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ لِمُنَاسَبَةِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ لَاقَ إيرَادُ الْإِكْرَاهِ عَقِيبَ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَغَيُّرَ حَالِ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمَوْلَى الْأَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ تَنَاوُلِ مَالِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى حِلِّهِ بِالْإِرْثِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمُكْرَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى حِلِّهَا فِي عَامَّةِ الْمَوَاضِعِ.
ثُمَّ إنَّ الْإِكْرَاهَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ، يُقَالُ أَكْرَهْت فُلَانًا إكْرَاهًا: أَيْ حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْعَدِمَ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالِابْتِلَاءُ يُقَرِّرُ الْخِطَابَ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ، وَيَأْثَمُ مَرَّةً وَيُؤْجَرُ أُخْرَى وَهُوَ آيَةُ الْخِطَابِ
(9/232)
 
 
لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا خَافَ الْمُكْرَهُ تَحْقِيقَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ.
فَقَدْ قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَلَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ، ثُمَّ كَمَا تُشْتَرَطُ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ يُشْتَرَطُ خَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعَ مَا يُهَدَّدُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ.
 
قَالَ (وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ أَوْ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ فَأُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ وَرَجَعَ بِالْمَبِيعِ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُكْرِهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى فَيَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ.
وَذَكَرَ فِي الْوَافِي أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْدِيدِ الْقَادِرِ غَيْرَهُ عَلَى مَا هَدَّدَهُ بِمَكْرُوهٍ عَلَى أَمْرٍ بِحَيْثُ يَنْتَفِي بِهِ الرِّضَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَك أَنْ تَخْتَارَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَيَّهَا شِئْت
قُلْت: وَقَدْ اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ عِبَارَةَ الْمَبْسُوطِ كَمَا تَرَى، وَسَيَجِيءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِهَا. وَأَمَّا شَرْطُهُ وَحُكْمُهُ فَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَثْنَاءَ الْمَسَائِلِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ حَمْلًا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَيَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ " لَا " فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، فَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْإِكْرَاهِ الثَّلَاثَةُ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: قَدْ خَرَجَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَنْ سَنَنِ الصَّوَابِ، وَسَلَكَ مَسْلَكًا لَا يَرْتَضِيهِ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَإِنْ شِئْت مَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَاسْتَمِعْ لِمَا نَتْلُو عَلَيْك مِنْ الْكَلَامِ: فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِقَتْلٍ أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ
(9/233)
 
 
الْعُقُودِ التَّرَاضِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمُلْجِئُ، وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِضَرْبٍ أَوْ بِقَيْدٍ أَوْ بِحَبْسٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ الْغَيْرُ الْمُلْجِئِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَلَا الْخِطَابَ.
وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فَقَالَ فِي أُصُولِهِ: الْإِكْرَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ. وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ، وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يُعْدِمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يَهُمَّ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَاهُ. وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ:
الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْإِكْرَاهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشْفِ، إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ.
وَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشْفِ، وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ إدْخَالِ ذَلِكَ الْقِسْمِ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ شَرْعًا عَدَمُ تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَانْكَشَفَ عِنْدَك أَيْضًا سِتْرُ مَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ تَنْوِيعِ الْإِكْرَاهِ إلَى نَوْعَيْنِ فَقَطْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْوَالُ مَا هُوَ الْوَاقِعُ كَمَا عَرَفْت غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ مَعَ أَنَّ مُقَابَلَةَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ رِضَاهُ تَمْنَعُهُ قَطْعًا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ: إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا، وَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ: أَيْ بِدُونِ تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، لِأَنَّ فَسَادَ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الرِّضَا لَا نَفْيَ عَدَمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِتَقْدِيرِ " لَا " كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا، إذْ بِتَقْدِيرِ لَا يَصِيرُ الْمَعْنَى أَوْ لَا يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهُ مَعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ لَا تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا لِجَوَازِ أَنْ يَصِحَّ الِاخْتِيَارُ وَانْعِدَامُ الرِّضَا كَمَا فِي النَّوْعِ الْغَيْرِ الْمُلْجِئِ مِنْ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَا فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَلٌّ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ جِدًّا سِيَّمَا فِي مَقَامِ التَّعْرِيفِ لَا يُجْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةَ إلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ نَفْيَ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يُفِيدُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الرِّضَا بَلْ تُحَقِّقُ عَدَمَ الرِّضَا أَيْضًا كَمَا عَرَفْت آنِفًا فَلَا تَحْصُلُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ عَلَى تَقْدِيرِ كَلِمَةِ " لَا " فِيهِ إلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ الْإِكْرَاهِ لِصِدْقِهِ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَمَا تَرَى، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: نَفْيُ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ فِي مُقَابَلَةِ انْتِفَاءِ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الرِّضَا فِي الْمُقَابِلِ فَيَخْرُجُ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ هَاهُنَا إلَى الْمُصَنِّفِ كَانَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ أَوْ لَا بِمَعْنَى أَوْ لَا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، فَهَلْ يُجَوِّزُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتْرُكَ ذَاكَ اللَّفْظَ الْأَقْصَرَ الْخَالِي عَنْ التَّمَحُّلَاتِ بِأَسْرِهَا لَوْ أَرَادَ إفَادَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ إلَيْهِ وَيَخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ الْأَطْوَلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَمَحُّلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي إفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَعَمْرِي إنَّ رُتْبَةَ الْمُصَنِّفِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِهِ رِضَاهُ بِدُونِ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ
(9/234)
 
 
وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا، وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكْذِبُ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اخْتِيَارُهُ فَإِنَّ الْعَامَّ إذَا قُوبِلَ بِالْخَاصِّ يُرَادُ بِهِ مَا عَدَا ذَلِكَ الْخَاصَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فَكَانَ قَوْلُهُ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ إشَارَةً إلَى أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُلْجِئِ، وَقَوْلُهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ إشَارَةٌ إلَى النَّوْعِ الْآخَر مِنْهُمَا وَهُوَ الْمُلْجِئُ فَانْتَظَمَ كَلَامُهُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا وَانْطَبَقَ لِمَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ
 
(قَوْلُهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا) أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَالْحَبْسَ الْمَدِيدَ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ أَظْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى قَدْ خَفِيَ عَلَى الشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ: يَعْنِي بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْبَيْعَ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لَا مِنْ الْمُكْرَهِ بِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ سَائِرِ سَقَطَاتِهِ فِي كِتَابِهِ هَذَا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّحْرِيرِ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا وَإِلَّا لَمَا قَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ مَا إذَا ضُرِبَ بِسَوْطٍ أَوْ حُبِسَ يَوْمًا أَوْ قُيِّدَ يَوْمًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ فَتَنَاقَضَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ كَمَا مَرَّ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَاتِيك الصُّوَرِ، وَاَلَّذِي نَفَاهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ تَحَقُّقُ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فَلَا تَنَاقُضَ.
وَلَك أَنْ تَقُولَ: التَّعْبِيرُ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَفْظُ الْإِكْرَاهِ هُنَالِكَ حَقِيقَةً لَا لُغَوِيَّةً وَلَا شَرْعِيَّةً، بَلْ يَصِيرُ مَجَازًا فَلَا تَنَاقُضَ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ: أَيْ وَالْإِقْرَارُ أَيْضًا يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي غَيْرِ الْإِكْرَاهِ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً اهـ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي إلَى قَوْلِهِ فَيَفْسُدُ لَا عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذَا الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ
(9/235)
 
 
وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ، أَمَّا هَاهُنَا الرَّدُّ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الثَّانِي.
قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَمَنْ جَعَلَ الْبَيْعَ الْجَائِزَ الْمُعْتَادَ بَيْعًا فَاسِدًا يَجْعَلُهُ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَتَّى يَنْقَضِ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِفَوَاتِ الرِّضَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رَهْنًا لِقَصْدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ وَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جَعَلُوهُ بَيْعًا جَائِزًا مُفِيدًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يُعْدِمُ الرِّضَا بَعْضُ الدَّلِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْكُبْرَى مِنْ غَيْرِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَعَطْفُ قَوْلِهِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي حَقِّ فَسَادِ الْإِقْرَارِ بِالْإِكْرَاهِ غَيْرُ مُسْتَمَدٍّ بِمُقَدِّمَةٍ مِنْ الدَّلِيلِ السَّابِقِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَجْمُوعِ الدَّلِيلِ السَّابِقِ لَا عَلَى بَعْضِهِ، وَالذَّوْقُ الصَّحِيحُ يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى الْهَزْلِ أَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ هَازِلًا اهـ، أَقُولُ: لَمْ يَقُلْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا
(9/236)
 
 
عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ
 
قَالَ (فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ طَوْعًا فَقَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ طَائِعًا، بِأَنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لَا عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْهِبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّفْعَ فَوَهَبَ وَدَفَعَ حَيْثُ يَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ بِالدَّفْعِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَدَخَلَ الدَّفْعُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ. قَالَ (وَإِنْ قَبَضَهُ مُكْرَهًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ) لِفَسَادِ الْعَقْدِ.
 
قَالَ (وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرِ مُكْرَهٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ) مَعْنَاهُ وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ هَازِلٌ حَقِيقَةً حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، بَلْ قَالَ: إنَّهُ كَالْهَازِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ هُنَاكَ لَا يَقْصِدُ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ هَازِلًا حَقِيقَةً أَنْ تَجْرِيَ الْمُوَاضَعَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ بِأَنْ يُقَالَ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ الْعَقْدِ هَازِلًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَفِي صُورَةِ بَيْعِ الْوَفَاءِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّرْطُ قَطْعًا، وَيُرْشِدُ إلَى كَوْنِ الْمُرَادِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَى الْهَازِلِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ بِحَسَبِ الذَّاتِ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْعِلَّةِ.
(9/237)
 
 
(وَلِلْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ) لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي نَفَذَ كُلُّ شِرَاءٍ كَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ لَوْ تَنَاسَخَتْهُ الْعُقُودُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ، وَلَا يَنْفُذُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ قَبْضِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَ الْمَالِكُ الْمُكْرَهَ عَقْدًا مِنْهَا حَيْثُ يَجُوزُ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَهُوَ الْمَانِعُ فَعَادَ الْكُلُّ إلَى الْجَوَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
 
[فَصْلٌ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ]
فَصْلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَصْلٌ)
قَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ: لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
(9/238)
 
 
(وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، إنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ) وَكَذَا عَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا إذَا خَافَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ، حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ (وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَتْلٍ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرُوهُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: إنَّمَا فَصَلَ بِفَصْلٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحِلُّ فِعْلُهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَمَسَائِلُ الْفَصْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحْظُورَةٌ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ (قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إلَخْ) أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إشْكَالٌ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا خِيفَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ كَانَ طَرَفَا الْفِعْلِ رَاجِحًا بَلْ فَرْضًا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، فَإِطْلَاقُ الْمُبَاحِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُنَافِيًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْمُبَاحِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ فَرْضًا لِذَلِكَ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ فَسَادٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُبَاحَ إنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَالْإِتْيَانُ بِهِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، وَهَاهُنَا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمُ فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا، لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْمُبَاحَ هَاهُنَا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا؟ كَيْفَ وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَمَا صَارَ طَرَفُ تَرْكِهِ حَرَامًا لَا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ قَطْعًا، فَلَوْ صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا لَزِمَ اجْتِمَاعُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا فِي حَالَةٍ قَدْ يَصِيرُ تَرْكُهُ حَرَامًا فِي حَالَةٍ أُخْرَى لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَيَنْقَلِبُ وَاجِبًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّ نَحْوَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ إنَّمَا كَانَ مُبَاحًا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ دُونَ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ
(9/239)
 
 
لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ فَكَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ. قُلْنَا: حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَا مُحَرَّمَ فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءٌ فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. .
 
قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ سَبِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
صَيْرُورَةَ تَرْكِهِ حَرَامًا إنَّمَا هِيَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَيْضًا، إذْ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يَصِيرُ تَرْكُهُ وَاجِبًا قَطْعًا فَلَزِمَ أَنْ تَجْتَمِعَ إبَاحَتُهُ وَحُرْمَةُ تَرْكِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْقِلَابُ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْوُجُوبِ بِحَسَبِ الْحَالَتَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
لَا يُقَالُ: سَبَبُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ حَيْثُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ بِاسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَسَبَبُ حُرْمَةِ التَّرْكِ فِيهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ إنَّمَا هُوَ إفْضَاءُ التَّرْكِ فِيهِ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ أَوْ إلَى قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّا نَقُولُ: اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُ اسْتِوَائِهِمَا مُتَنَاقِضَانِ قَطْعًا، فَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَقَّقَهُ الْفَاضِلُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ عُلِّلَ بِهِمَا لَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى كُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا وَمُسْتَغْنِيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ.
قَالَ: لَا يُقَالُ مَنْشَأُ الِاحْتِيَاجِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هُوَ عِلِّيَّتُهَا لَهُ، وَمَنْشَأُ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا عِلِّيَّةُ الْأُخْرَى لَهُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا. لِأَنَّا نَقُولُ: احْتِيَاجُ الشَّيْءِ إلَى آخَرَ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ فِيهِ مُتَنَاقِضَانِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ مَا فِي كَلَامِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلْيُنْظَرْ إلَيْهِ وَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى تَلِفَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي إتْلَافِ نَفْسِهِ انْتَهَى، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ، إذْ لَا مُمَانَعَةَ لِلْعِلْمِ فِي أَنْ لَا يَأْثَمَ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبَاحٌ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِهِ وَإِنْ عَلِمَ إبَاحَتَهُ، بَلْ بِالْعِلْمِ بِإِبَاحَتِهِ يَنْكَشِفُ عَدَمُ الْإِثْمِ فِي تَرْكِهِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَمَّا يُقَالُ إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ
(9/240)
 
 
يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا مَرَّ، فَفِي الْكُفْرِ وَحُرْمَتُهُ أَشَدُّ أَوْلَى وَأَحْرَى. قَالَ (وَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَمَرُوهُ بِهِ وَيُوَرِّي، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك؟ قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] » الْآيَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِثْمِ عَلَى تَقْدِيرِ الصَّبْرِ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ فِيمَا إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا بِالْجَهْلِ فِي أَمْثَالِ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْخَفَاءِ
 
(قَوْلُهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» إلَخْ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» إنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لَا إلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالطُّمَأْنِينَةِ جَمِيعًا كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ، لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُبَاحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنْكَشِفُ حُرْمَتُهُ أَصْلًا انْتَهَى.
وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ لِلتَّرْخِيصِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ النَّسَفِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ الْكَافِي: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَنْفِي الْحَظْرَ، فَإِنَّ الْمَحْظُورَ قَدْ يُرَخَّصُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ فَوْقَهُ كَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَقَطْعِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا كَذَلِكَ انْتَهَى.
أَقُولُ: مُرَادُ الشُّرَّاحِ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ مَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي التَّرْخِيصِ وَنَحْوِهِ مَجَازًا، وَلَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تُوجَدْ الْقَرِينَةُ فَلَا جَرْمَ نَحْمِلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ هَاهُنَا بِصَرْفِ الْإِعَادَةِ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ دُونَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَا بَيَّنُوا.
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ النَّسَفِيُّ هَاهُنَا أَيْ عُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَمَا قِيلَ فَعُدْ إلَى مَا كَانَ مِنْك مِنْ النَّيْلِ مِنِّي وَذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِخَيْرِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَأْمُرُ
(9/241)
 
 
وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ. قَالَ (فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ كَانَ مَأْجُورًا) لِأَنَّ «خُبَيْبًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ. .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الشِّرْكِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ دَلِيلٌ مَعْقُولٌ.
وَوَجْهه أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَفُوتُ بِهَذَا الْإِظْهَارِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ قَائِمٌ حَقِيقَةً، وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا، لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَكَأَنَّمَا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا وَفَوْتُ حَقِّ اللَّهِ تَوَهُّمًا فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ التَّكْرَارِ لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْإِقْرَارِ تَقْدِيرًا، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ لَا يَطْرَأَ عَلَيْهِ مَا يُضَادُّهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَفْرُوضُ هَاهُنَا طَرَيَانُهُ عَلَيْهِ، إذْ الْكَلَامُ فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَهُوَ مُضَادٌّ لِلْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ. فَإِنْ قُلْت: إظْهَارُهَا إكْرَاهًا لَا يُضَادُّهُ الْإِقْرَارُ طَوَاعِيَةً، وَإِنَّمَا يُضَادُّهُ إظْهَارُهَا طَوَاعِيَةً. قُلْت: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ إظْهَارِهَا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، فَأَخْذُهُ فِي أَثْنَاءِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا مُصَادَرَةٌ فَبِهَذَا ظَهَرَ سُقُوطُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَاهُنَا إنَّهُ كَكَلَامِ النَّاسِي وُجُودُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فَيَسْتَلْزِمُ الْمُصَادَرَةَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَكَانَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا، وَفَوْتُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَوَهُّمًا يُشْعِرُ بِعَدَمِ فَوْتِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً هَاهُنَا أَصْلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَوْلَا فَوْتُ حَقِّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً أَصْلًا لَمَا كَانَ مَأْجُورًا فِيمَا إذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ، وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ فَوْتِ حَقِّهِ تَعَالَى بِدُونِ أَنْ يَفُوتَ حَقِيقَةً، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ حَرَامٌ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحُرْمَةُ أَصْلًا، وَأَنَّ فِيهِ تَرْكَ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ كُفْرٌ صُورَةً فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ، وَكُفْرٌ صُورَةً وَمَعْنًى فِي حَالَةِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، إلَّا أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَعْذُورًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ عِنْدَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ مَعَ بَقَاءِ حُرْمَتِهِ أَبَدًا.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ) ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ (وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُسْتَثْنًى بِقَوْلِهِ {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]
(9/242)
 
 
قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ) لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ (وَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ قَوْلِهِ {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ) .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَشَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَبَاحَ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِمْ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَالْغَضَبَ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْغَضَبِ وَهُوَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ عَدَمُ الْعِلَّةِ كَمَا فِي شُهُودِ الشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَإِنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ وَالْحُكْمُ مُتَأَخِّرٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ مُنْتَفِيًا مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْغَضَبِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ إبَاحَةُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُصْطَلَحَ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا السَّبَبَ الشَّرْعِيَّ كَمَا مَثَّلَ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وَلَا دَلِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ نَخْتَارَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ شِقَّيْ التَّرْدِيدِ وَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَصْلًا، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعِلَّةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَهُوَ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ مُؤَثِّرًا فِيهِ.
قَوْلُهُ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ وُجُوبَ مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْمَعْلُولِ إنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهَا، وَهُوَ مَا كَانَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ وَهُوَ مَا كَانَ عِلَّةً اسْمًا فَقَطْ أَوْ اسْمًا وَمَعْنًى كَمَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي فَلَا يَمْتَنِعُ التَّخَلُّفُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ
(9/243)
 
 
آلَةً لَهُ وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ وَيَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا) لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةٍ مَا فَكَذَا بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ. .
 
قَالَ (وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا) قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِمَا. لِزُفَرَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً وَحِسًّا، وَقَرَّرَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِثْمُ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ فَأُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ، وَبِهَذَا يَتَمَسَّكُ الشَّافِعِيُّ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ، وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ، وَلِلتَّسْبِيبِ فِي هَذَا حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَهُ كَمَا فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَتْلَ بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى التَّأْثِيمِ، وَأُضِيفَ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْحَمْلِ فَدَخَلَتْ الشُّبْهَةُ فِي كُلِّ جَانِبٍ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِطَبْعِهِ إيثَارًا لِحَيَاتِهِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ يُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَلَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى دِينِهِ فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ كَمَا نَقُولُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِيهِ بَلْ كَانَ مُوصِلًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَوْلُهُ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ
(9/244)
 
 
وَفِي إكْرَاهِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرَهِ فِي الْإِتْلَافِ دُونَ الذَّكَاةِ حَتَّى يَحْرُمَ كَذَا هَذَا.
 
قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِهِ فَفَعَلَ وَقَعَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ. قَالَ (وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ مُطْلَقًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ يَجُوزُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ، إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ، فَمَا لَمْ تَتَحَقَّقْ تِلْكَ الْعِلَّةُ لَا يَتَحَقَّقُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ، وَهَذَا أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ مُقَرَّرًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ مَفْهُومٌ مِنْ نَفْسِ مَعْنَى السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْإِيصَالَ فِي الْجُمْلَةِ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ الْحُكْمِ، وَالْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَوَابِ لَيْسَ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ بَلْ هُوَ مَسُوقٌ لِمُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ، فَتَحَقُّقُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحُكْمِ هُنَاكَ لَا يَقْتَضِي قِيَامَ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي كُلِّ صُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ حَدِيثَ خُبَيْبٍ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ الْحُرْمَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ نَفَى حُكْمَهُ وَهُوَ الْغَضَبُ، فَإِنَّ خُبَيْبًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أُكْرِهَ عَلَى إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَصَبَرَ وَلَمْ يُظْهِرْهَا حَتَّى قُتِلَ مَدَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ سَمَّاهُ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ «هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» وَلَوْ لَمْ تَبْقَ الْحُرْمَةُ أَبَدًا فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمَا وَسِعَهُ الصَّبْرُ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ، وَلَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُبَاحِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إعَانَةَ الْغَيْرِ عَلَى إهْلَاكِ نَفْسِهِ وَهِيَ حَرَامٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَأْثَمَ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ كَمَا مَرَّ
 
(قَوْلُهُ وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَمَنَعَ صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ فَكَذَا فِي حَقِّ مَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ وَهُوَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِيهِ، وَالتَّلَفُّظُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِتْلَافِ دُونَ التَّلَفُّظِ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الِانْفِكَاكَ فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ التَّلَفُّظِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْإِعْتَاقِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْإِعْتَاقِ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ
(9/245)
 
 
فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْإِعْتَاقُ بِدُونِ التَّلَفُّظِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي صُورَةِ إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْثِيلُ وَلَا التَّقْرِيبُ.
وَكَأَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَهُمُّنَا ثُبُوتُ الْإِعْتَاقِ لَا فِي ضِمْنِ التَّكَلُّمِ كَمَا إذَا وَرِثَ الْقَرِيبَ اهـ. أَقُولُ: لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ، فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي صُورَةِ إنْ وَرِثَ الْقَرِيبَ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ دُونَ الْإِعْتَاقِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ مُفَصَّلًا، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الْإِعْتَاقِ دُونَ مُجَرَّدِ الْعِتْقِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَا يَتِمُّ التَّمْثِيلُ بِتِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا وَلَا التَّقْرِيبُ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَا فَائِدَةَ لِحَدِيثِ الِانْفِكَاكِ أَصْلًا فِي الْجَوَابِ هَاهُنَا فَإِنَّ كَوْنَ ثُبُوتِ الْإِتْلَافِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا يَقْبَلُ الْإِنْكَارَ، فَيَكُونُ مَدَارُ الْوُرُودِ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِهِ انْفِكَاكُ الْإِتْلَافِ عَنْ التَّلَفُّظِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى.
فَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْمُكْرَهِ لِلْآلِيَّةِ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ عَدَمُ صَلَاحِيَّتِهِ لَهَا فِي حَقِّ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ الْإِتْلَافُ، لِأَنَّ عَدَمَ صَلَاحِيَّتِهِ لَهَا فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ لِعِلَّةِ امْتِنَاعِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي حَقِّ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ مِنْ الْإِتْلَافِ، فَإِنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ وَيُلْقِيَهُ عَلَى الْمَالِ فَيُتْلِفَهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا مَرَّ (قَوْلُهُ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا) لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضَمَّنَ الْمُكْرِهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بِعِوَضٍ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ وَهُوَ الْوَلَاءُ، وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ إنَّمَا يَكُونُ كَلَا إتْلَافَ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ عِوَضٌ، أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَمَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ إذَا أَتْلَفَهَا مُكْرَهًا، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ الدُّخُولِ، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْوَلَاءِ إذَا رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ يُشْكِلُ بِمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مِنْهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَرْجِعُ هُنَاكَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضٌ هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ لَيْسَتْ بِمَالٍ كَالْوَلَاءِ، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ كَمَا قَالُوا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ عِنْدَ الدُّخُولِ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَعْتَقَ
(9/246)
 
 
وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِإِتْلَافِهِ. قَالَ (وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مُسَمًّى يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْمُتْعَةِ) لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ كَانَ عَلَى شَرْفِ السُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ إتْلَافًا لِلْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُضَافُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالدُّخُولِ لَا بِالطَّلَاقِ.
 
(وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَبْدَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، لِأَنَّ السِّعَايَةَ تَجِبُ ثَمَّةَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَبِخِلَافِ الرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَدَلَ ذَلِكَ: بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ اهـ.
أَقُولُ: لَمْ أَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ سِوَى شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ لِهَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ هَاهُنَا: وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ حَقُّ الْغَيْرِ أَيْضًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى السِّعَايَةِ لِذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَتِهِ. وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ اهـ.
ولَعَلَّهُ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فَاغْتَرَّ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يَقْدِرَ مُعْتِقُهُ عَلَى إيفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ وَهُوَ مُعْسِرٌ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ زَادُوا قَيْدَ الْإِعْسَارِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الرَّاهِنَ فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى إعْتَاقِ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ فَفَعَلَ يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِمَا ضُمِّنَهُ الْمُكْرِهُ مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ
(9/247)
 
 
بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ زَوَالُ مِلْكِهِ إذَا بَاشَرَ الْوَكِيلُ، وَالنَّذْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِمَا لَزِمَهُ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُطَالَبُ بِهِ فِيهَا، وَكَذَا الْيَمِينُ، وَالظِّهَارُ لَا يَعْمَلُ فِيهِمَا الْإِكْرَاهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِمَا الْفَسْخَ، وَكَذَا الرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِيهِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ، وَالْخُلْعُ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ، فَلَوْ كَانَ هُوَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُلْعِ دُونَهَا لَزِمَهَا الْبَدَلُ لِرِضَاهَا بِالِالْتِزَامِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ إلَخْ لَا يَكَادُ يَصِحُّ هَاهُنَا لِأَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ دَاخِلَةٌ هَاهُنَا فِي إطْلَاقِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْمُخَالَفَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، بِخِلَافِ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ فَإِنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُغَايِرَتَانِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ إلَخْ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْمُخَالَفَةِ أَيْضًا بَيْنَ تِلْكَ الصُّورَةِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَمَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي إطْلَاقِ مَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ لَانْتَقَضَ بِهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ
(9/248)
 
 
قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ، إذْ لَا تَخْرِيجَ إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ خَرَجَ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ إلَيْهَا ثَانِيًا فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي ذَيْلِ شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعْلِيلِ كَافٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ سَالِمٌ عَنْ النَّقْضِ.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَمُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا أَعْتَقَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ عِنْدَهُمَا وَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَهُ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيُزَادُ لَهُمَا فِي التَّعْلِيلِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ انْتَهَى تَأَمَّلْ تَفْهَمْ
 
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِكْرَاهِ كَوْنُهُ مُلْجِئًا وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى الْإِيقَاعِ وَخَوْفِ الْمُكْرَهِ الْوُقُوعَ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَكْثَرُ تَحَقُّقًا، لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ فَهُوَ ذُو أَنَاةٍ فِي أَمْرِهِ وَغَيْرُهُ يَخَافُ الْفَوْتَ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ فَيُعَجِّلُ فِي الْإِيقَاعِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَعْجَزُ عَنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ إذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَلْتَجِئُ إلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ اللِّصِّ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
أَقُولُ: يَتَّجِهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ
(9/249)
 
 
قَالَ (وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ) لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْتُ مِنْك وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُقَالَ: نُدْرَةُ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَوُقُوعُ ظَفَرِ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِالنَّاسِ وَعَجْزُهُمْ عَنْ دَفْعِ شَرِّ هَؤُلَاءِ الْمُتَغَلِّبَةِ سِيَّمَا فِي الْمَوَاضِعِ النَّائِيَةِ عَنْ الْعُمْرَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَئِنْ سَلَّمَ النُّدْرَةَ فَأَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مِنْ الْحُدُودِ سِيَّمَا فِي حَدِّ الزِّنَا كَمَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فَضْلًا عَنْ الْوُقُوعِ بِطَرِيقِ النُّدْرَةِ.
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَدَلِيلُهُمَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَأْتِي مِنْ السُّلْطَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا مَدْفَعَ لَهُ عَادَةً، وَفِي مِثْلِ هَذَا السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ اُعْتُبِرَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةً إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ السُّلْطَانِ فَيَنْدَفِعُ، وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى النَّادِرِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ كَمَا فِي غَيْرِ الْمِصْرِ نَعْتَبِرُهُ كَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْكَافِي انْتَهَى.
أَقُولُ: عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْدَفِعَ مَنْعُ النُّدْرَةِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَنْعُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى حَالِهِ. ثُمَّ أَقُولُ: إطْلَاقُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَإِطْلَاقَاتِ عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ عِنْدَهُ وَعَامٌّ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عِنْدَهُمَا مِمَّا لَا يُسَاعِدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ وَتَتَبُّعِ سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ مِنْ فَتَاوَاهُ: الْإِكْرَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ فَهُوَ إكْرَاهٌ صَحِيحٌ شَرْعًا. وَالِاخْتِلَافُ عَلَى