فتح القدير للكمال ابن الهمام 010

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
[كِتَابُ الْإِقْرَارِ]
ِ) ذِكْرُ كِتَابِ الدَّعْوَى مَعَ ذِكْرِ مَا يَقْفُوهُ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ وَالْمُضَارَبَةِ الْوَدِيعَةِ ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي إذَا تَوَجَّهَتْ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَإِنْكَارُهُ سَبَبٌ لِلْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلصُّلْحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وَبَعْدَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمَالِ إمَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالصُّلْحِ فَأَمْرُ صَاحِبِ الْمَالِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ مِنْهُ أَوْ لَا، فَإِنْ اسْتَرْبَحَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اسْتِرْبَاحَهُ بِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هُنَاكَ بِمَا قَبْلَهُ، وَذَكَرَ هَاهُنَا اسْتِرْبَاحَهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْبِحْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حِفْظَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَبَقِيَ حِفْظُهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
 
ثُمَّ إنَّ مَحَاسِنَ الْإِقْرَارِ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا إسْقَاطُ وَاجِبِ النَّاسِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَقَطْعُ أَلْسِنَتِهِمْ عَنْ مَذَمَّتِهِ. وَمِنْهَا إيصَالُ الْحَقِّ إلَى صَاحِبِهِ وَتَبْلِيغُ الْمَكْسُوبِ إلَى كَاسِبِهِ فَكَانَ فِيهِ إنْفَاعُ صَاحِبِ الْحَقِّ وَإِرْضَاءُ خَالِقِ الْخَلْقِ. وَمِنْهَا إحْمَادُ النَّاسِ الْمُقِرَّ بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَوَصْفُهُمْ إيَّاهُ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ وَإِنَالَةِ النَّوْلِ. ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا احْتِيَاجًا إلَى بَيَانِ الْإِقْرَارِ لُغَةً وَشَرِيعَةً، وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ وَدَلِيلِ كَوْنِهِ حُجَّةً. أَمَّا الْإِقْرَارُ لُغَةً فَهُوَ إفْعَالٌ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إذَا ثَبَتَ، فَالْإِقْرَارُ إثْبَاتٌ لِمَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْجُحُودِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَأَمَّا شَرِيعَةً فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ الْإِقْرَارُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَارِ فَكَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ مَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا. وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَقَدْ أَصَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ لُغَةً وَلَمْ يُصِبْ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ شَرِيعَةً. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أَخْذَ الْإِقْرَارِ فِي تَعْرِيفِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ لُغَةً كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى الْمُصَادَرَةِ مِمَّا يَخْتَلُّ بِهِ الْمَعْنَى، إذْ لَا مَعْنَى
(8/317)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِكَوْنِ إثْبَاتِ مَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ هُوَ أَحَدُ ذَيْنِك الشَّيْئَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَيْضًا إنَّ الْإِقْرَارَ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِإِثْبَاتِ مَا تَزَلْزَلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِإِثْبَاتِ كُلِّ مَا تَزَلْزَلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُطْلَقًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَأْخَذُ اشْتِقَاقِهِ وَهُوَ الْقَرَارُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ يَتَنَاوَلُ الدَّعْوَةَ وَالشَّهَادَةَ أَيْضًا
وَإِنَّمَا يَمْتَازُ الْإِقْرَارُ الشَّرْعِيُّ عَنْهُمَا بِقَيْدٍ لِلْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الدَّعْوَى إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالشَّهَادَةَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِذَا زِيدَ فِي تَعْرِيفِ الْإِقْرَارِ الشَّرْعِيِّ قَيْدٌ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فَعَلَهُ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ يَخْرُجُ عَنْهُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ.
وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ فَيَخْتَلُّ التَّعْرِيفُ ثُمَّ أَقُولُ: فِي تَعْرِيفِ الْعَامَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ إمَّا إثْبَاتَاتٌ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِمَّا إسْقَاطَاتٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِقِسْمِ الْإِسْقَاطَاتِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْرِيفُهُمْ الْمَذْكُورُ جَامِعًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمُكْرَهِ لِآخَرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ غَيْرُ صَحِيحٍ شَرْعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْرِيفُهُمْ الْمَزْبُورُ مَانِعًا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ كَوْنَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ غَيْرَ صَحِيحٍ شَرْعًا، إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ صَحِيحًا شَرْعًا لَا أَنْ لَا يَكُونَ إقْرَارًا مُطْلَقًا فِي الشَّرْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُمْ تَعْرِيفَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فِي الشَّرْعِ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، وَعَنْ هَذَا تُرَى التَّعْرِيفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لِكَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ مِنْهُ وَالْفَاسِدَ، حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَرَكُوا قَيْدَ التَّرَاضِي فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ لِيَتَنَاوَلَ بَيْعَ الْمُكْرَهِ كَسَائِرِ الْبَيْعَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا سَبَبُ الْإِقْرَارِ فَإِرَادَةُ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ وَإِعْلَامِهِ لِئَلَّا يَبْقَى فِي تَبِعَةِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا شَرْطُهُ فَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ. وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا يَجِبُ بِهِ مُوجَبُ الْإِقْرَارَ. وَأَمَّا حُكْمُهُ فَظُهُورُ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا ثُبُوتُهُ
(8/318)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ابْتِدَاءً؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِنْشَاءُ يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرَمِهِ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلَا تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِرَدِّهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ إذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّهُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ: وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: إحْدَاهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ. وَالثَّالِثَةُ أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَتِهِمْ.
وَالرَّابِعَةُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ. وَأَمَّا دَلِيلُ كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْمُقِرِّ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] بَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِمْلَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْإِمْلَاءِ شَيْءٌ لَمَا أَمَرَ بِهِ وَالْإِمْلَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ، وَأَيْضًا نَهَى عَنْ الْكِتْمَانِ وَهُوَ آيَةٌ عَلَى لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ كَمَا فِي نَهْيِ الشُّهُودِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ.
وقَوْله تَعَالَى {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] بَيَانُهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ الْإِقْرَارَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ حُجَّةً لَمَا طَلَبَهُ. وقَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: شَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ. " وقَوْله تَعَالَى {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَيْ شَاهِدٌ بِالْحَقِّ " وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا» وَقَالَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِالِاعْتِرَافِ وَالْحَدِيثَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ حُجَّةً لَمَا طَلَبَهُ وَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِهِ وَإِذَا كَانَ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي غَيْرِهِ أَوْلَى وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ ظَهَرَ رُجْحَانُ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَى الصِّدْقِ وَالصَّارِفِ عَنْ الْكَذِبِ، لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَحْمِلَانِهِ عَلَى الصِّدْقِ وَيَزْجُرَانِهِ عَنْ الْكَذِبِ، وَنَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ رُبَّمَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا فَصَارَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ وَطَبْعُهُ دَوَاعِيَ إلَى الصِّدْقِ زَوَاجِرَ عَنْ الْكَذِبِ، فَكَانَ الصِّدْقُ ظَاهِرًا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
(8/319)
 
 
قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ لَزِمَهُ إقْرَارُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ لَزِمَهُ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ (إقْرَاره) أَيْ مُوجَبُ إقْرَارِهِ أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ.
أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِمَا إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُهُ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الطَّائِعِ أَيْضًا لَا يُقَالُ: تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ كَوْنِ الطَّوْعِ وَالرِّضَا مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ ظُهُورُهُ بِمَثَابَةِ ظُهُورِ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَدَارُ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا وَلَمْ يَتْرُكْهُمَا
(8/320)
 
 
مَجْهُولًا كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَعْلُومًا) اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِوُقُوعِهِ دَلَالَةً؛ أَلَا تَرَى كَيْفَ أَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرَّجْمَ بِإِقْرَارِهِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةَ بِاعْتِرَافِهَا. وَهُوَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ.
وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَجْهُولًا كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَعْلُومًا) هَذَا أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي لَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلُزُومِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا أَقَرَّ بِهِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ) أَرَادَ بِهَذَا، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيمَا مَضَى لَا إنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَرِدَ الْإِشْكَالُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِخَمْرٍ لِلْمُسْلِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِقْرَارِ إخْبَارًا عَمَّا ثَبَتَ فِيمَا مَضَى لَا إنْشَاءً فِي الْحَالِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِيمَا مَرَّ، وَلَمْ يَرُدَّ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ الْإِقْرَارِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ الْأَغْيَارِ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ (وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ) أَيْ وَأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الْمُقِرِّ مَا أَقَرَّ (بِهِ لِوُقُوعِهِ) أَيْ لِوُقُوعِ الْإِقْرَارِ (دَلَالَةً) أَيْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فِيمَا مَرَّ.
وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى بَعْضٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى كَيْفَ أَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا الرَّجْمَ بِإِقْرَارِهِ) أَيْ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا (وَتِلْكَ الْمَرْأَةَ) أَيْ وَكَيْفَ أَلْزَمَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ الْغَامِدِيَّةُ الرَّجْمَ (بِاعْتِرَافِهَا) أَيْ بِاعْتِرَافِهَا بِالزِّنَا أَيْضًا، فَإِذَا كَانَ مُلْزِمًا فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا فِي غَيْرِهِ أَوْلَى كَذَا قَالُوا. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ مَنْعُ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فَكَانَ مُلْزَمًا فِي حَقِّهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (وَهُوَ) أَيْ الْإِقْرَارُ (حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ) أَيْ قَاصِرَةٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى الْغَيْرِ (لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ مَجْهُولُ الْأَصْلِ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُدَبَّرِيهِ وَمُكَاتَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ أَوْ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ لِهَؤُلَاءِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْقَضَاءِ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَتَتَعَدَّى إلَى الْكُلِّ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ فَيُنَفَّذُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرُوا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوْقَ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ وَرَاءَ التَّعْدِيَةِ وَالِاقْتِصَارِ، فَاتِّصَافُ الْإِقْرَارِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ وَالشَّهَادَةِ بِالتَّعَدِّيَةِ إلَى الْغَيْرِ لَا يُنَافِي اتِّصَافَهُ بِالْقُوَّةِ، وَاتِّصَافَهَا بِالضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ دُونَهَا (وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا) أَيْ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ (فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ) حَتَّى إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ
(8/321)
 
 
لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَوْ بِوَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ غَصْبٍ يَصِحُّ (لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَكَأَنَّ هَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ قَوْلِهِ إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ، وَلَعَلَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ بِصَحِيحٍ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى أَنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ قَالَ فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ بَابِ النَّوَافِلِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ: فَإِنْ قِيلَ: التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ قُلْنَا: ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ دُونَ الرِّوَايَاتِ انْتَهَى. فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ لُزُومَ إقْرَارِ غَيْرِ الْحُرِّ وَعَدَمَ لُزُومِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا يَقْصِدُ نَفْيَ لُزُومِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ اسْتِدْرَاكُ قَيْدِ الْحُرِّ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ ذِكْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِمَعْذِرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَحَجْرِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ دُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ الْعَاقِلُ النَّاظِرُ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا إلَخْ فِي أَنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْمَعْذِرَةُ عَنْ ذِكْرِ قَيْدِ الْحُرِّ لَا بَيَانُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ قَوْلِهِ: وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَوْقِعٌ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ بَلْ هُوَ مُخِلٌّ بِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَّحِدُونَ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَالْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَعْذِرَةَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقُيُودِ الثَّلَاثَةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِأَنَّ قَيْدَ الْحُرِّيَّةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا لَا شَرْطُ صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الْقَيْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ: أَعْنِي الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ تَأَمَّلْ تَقِفْ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ بَحْثٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَقَطْعِ يَدِ الرَّجُلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إقْرَارِ الْحُرِّ بِتِلْكَ الْأُمُورِ فَكَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْحُرِّ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفَرْضِ وَالْمُبَالَغَةِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، فَمَا مَعْنَى نَفْيِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُ هَاهُنَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ فِي الْحَالِ لَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا فَيُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَقْصُودَهُ هَاهُنَا تَوْجِيهُ
(8/322)
 
 
لِأَنَّ إقْرَارَهُ عُهِدَ مُوجِبًا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَهِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَبِخِلَافِ الْحَدِّ وَالدَّمِ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَذْكُورُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لُزُومُ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا: أَيْ بِلَا تَقْيِيدٍ بِالْحَالِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَأَيْضًا عَدَمُ اللُّزُومِ فِي الْحَالِ يُوجَدُ فِي الْحُرِّ أَيْضًا كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَكَمَا إذَا أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ، وَإِذَا مَلَكَهَا يَوْمًا يَلْزَمُهُ وَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، عَلَى أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَدَمُ صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَا عَدَمُ لُزُومِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ عَدَمُ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ فِي الْحَالِ فَلَا يَتِمُّ التَّوْفِيقُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تُحْمَلَ الصِّحَّةُ هَاهُنَا عَلَى اللُّزُومِ.
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يُنَفَّذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ حَتَّى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ، فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ، وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَكَوْنُ الْمُقِرِّ حُرًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ وَيَنْفُذَ فِي الْحَالِ فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَفِيمَا فِيهِ تُهْمَةٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ مَوْلًى، وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ لِلْحَالِ، وَأَمَّا إذَا مَلَكَهَا يَوْمًا يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا (لِأَنَّ إقْرَارَهُ) أَيْ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (عُهِدَ) أَيْ عُرِفَ (مُوجِبًا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ) لِأَنَّ ذِمَّتَهُ ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ فَانْضَمَّتْ إلَيْهَا مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (وَهِيَ) أَيْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى لِقُصُورِ الْحُجَّةِ (بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَأْذُونَ (مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ (مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ إذْنٌ لَهُ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ انْحَسَمَ عَلَيْهِ بَابُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُبَايِعُونَهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ، إذْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الِاسْتِشْهَادُ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ يَعْمَلُونَهَا مَعَهُ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالذَّخِيرَةِ (وَبِخِلَافِ الْحَدِّ وَالدَّمِ) أَيْ الْقِصَاصِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْعَبْدَ (مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي الْحَدِّ وَالدَّمِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَوْ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى أَيْضًا كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] (حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ) أَيْ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ بِنَاءً عَلَى الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَكَوْنُهُ مُكَلَّفًا مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ
(8/323)
 
 
وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ، إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ، وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَاقِيَةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالْآدَمِيَّةُ لَا تَزُولُ بِالرِّقِّ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ لَا يُدْفَعُ مَا لَوْ قِيلَ فِي إقْرَارِهِ بِالْقِصَاصِ إهْلَاكَ رَقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ انْتَهَى.
أَقُولُ: بَلْ ذَلِكَ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ وَإِهْلَاكُ مَالِيَّةِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّبَعِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَصَالَةً، وَلَا يَضُرُّهُ لُزُومُ إهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ بِالتَّبَعِ، إذْ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالدَّمَ حَقُّهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِمَا فِي الْبَقَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إتْلَافَهُمَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ يَتَوَجَّهُ إلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا وَالْمُخَلَّصُ مَا حَقَقْنَاهُ (وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ) فَلَا يَلْزَمُ إقْرَارَهُمَا شَيْءٌ (إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ) فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ (لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ) لَا بِخِيَارِ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فَيُعْتَبَرُ كَالْبَالِغِ وَالنَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُمَا شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ بِالْحُقُوقِ كُلِّهَا إلَّا بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَالرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ تَنْفُذُ مِنْ السَّكْرَانِ كَمَا تَنْفُذُ مِنْ الصَّاحِي، كَذَا فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ (لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا) يَعْنِي أَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ مَجْهُولًا (بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِرَاحَاتِ أَنْ يَسْتَأْنِيَ حَوْلًا فَلَا يَعْلَمُ فِي الْحَالِ مُوجَبَهُ (أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ) أَيْ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحِسَابِ (عِلْمُهُ وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ) أَيْ فَيَصِحُّ بِكَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مَجْهُولًا.
فَإِنْ قُلْت: الشَّهَادَةُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ تُمْنَعُ صِحَّتُهَا بِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قُلْت: الشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّهَادَةَ حُجَّةً إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ لَا يُتَصَوَّرُ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَمُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَيَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ) يَعْنِي أَنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ (لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا) ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَالنَّاطِفِيُّ فِي وَاقِعَاتِهِ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ لَهُ إنَّمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ إذَا
(8/324)
 
 
(وَيُقَالُ لَهُ: بَيِّنْ الْمَجْهُولَ) لِأَنَّ التَّجْهِيلَ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ (فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ) لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ وَذَلِكَ بِالْبَيَانِ.
 
(فَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا) ، فَإِذَا بَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُونُ رُجُوعًا. قَالَ (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَانَتْ مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَلَا تَمْنَعُ ذَلِكَ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِلْمَجْهُولِ، وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْجَبْرُ عَلَى الْبَيَانِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَفِي الْكَافِي: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ، إذْ فَائِدَتُهُ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَطَرِيقُ الْوُصُولِ ثَابِتٌ لِأَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَخْذِهِ فَلَهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ انْتَهَى. قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُقِرِّ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ: لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ نَقْلًا عَنْهُ. أَقُولُ: فِي تَمْثِيلِ جَهَالَةِ الْمُقِرِّ بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ فِي الْمُقَرِّ عَلَيْهِ لَا فِي الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ، وَالْأَوْلَى فِي تَمْثِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ أَحَدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ مِنْ اثْنَيْنِ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمْ أَوْ أَيَّهُمَا قَالَ ذَلِكَ (وَيُقَالُ لَهُ بَيِّنْ الْمَجْهُولَ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي يُقَالُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ بَيِّنْ الْمَجْهُولَ (لِأَنَّ التَّجْهِيلَ مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ: يَعْنِي أَنَّ الْإِجْمَالَ وَقَعَ مِنْ جِهَتِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ نَحْوُ أَنْ يُبَيِّنَ حَبَّةً أَوْ فَلْسًا أَوْ جَوْزَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
أَمَّا إذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: عَنَيْت حَقَّ الْإِسْلَامِ أَوْ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوَهُ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ) أَيْ فَصَارَ إقْرَارُهُ بِالْمَجْهُولِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَيْهِ (فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ) أَيْ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُقِرُّ مَا أَجْمَلَهُ (أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ) بِالْبَاءِ الْجَارَّةِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِصَرِيحِ إقْرَارِهِ (وَذَلِكَ) أَيْ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ (بِالْبَيَانِ) لَا غَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ: إنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى وَامْتَنَعَ عَنْ التَّفْسِيرِ يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْكَارًا مِنْهُ وَيُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَصَرَّ جُعِلَ نَاكِلًا عَنْ الْيَمِينِ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ أَقَرَّ ابْتِدَاءً يُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ: ادَّعِ حَقَّك فَإِذَا ادَّعَى وَأَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.
 
(فَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظَةُ عَلَيَّ لِأَنَّهَا لِلْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ (وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا) أَيْ فِي الذِّمَّةِ (فَإِذَا بَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ) أَيْ غَيْرَ مَا لَهُ قِيمَةٌ (يَكُونُ رُجُوعًا) عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يُقْبَلُ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْمُقِرِّ (مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا بَيَّنَهُ، يَعْنِي إذَا بَيَّنَ الْمُقِرُّ مَا لَهُ قِيمَةٌ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ
(8/325)
 
 
لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْكِرُ فِيهِ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ) لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَكِيلًا كَانَ أَوْ مَوْزُونًا أَوْ عَدَدِيًّا نَحْوُ كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ جَوْزَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ سَاعَدَهُ أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ بَلْ ادَّعَى عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْمُقِرَّ (هُوَ الْمُنْكِرُ فِيهِ) أَيْ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ) أَيْ لَزِمَهُ هُنَا أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا. وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالْمُسْتَزَادِ: وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ مَفْصُولًا عَنَيْت بِهِ حَقَّ الْإِسْلَامِ لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ بَيَانٌ يُعْتَبَرُ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْعُرْفِ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، كَذَا فِي الْكَافِي (وَكَذَا لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ يَعْنِي لَوْ قَالَ: غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ الْبَيَانُ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ وَتَحَقُّقِهِ إعْلَامُ مَا صَادَفَهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَالْإِقْرَارُ بِهِ مَعَ الْجَهَالَةِ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ كَالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ أَوْ أَوْدَعَهُ مَالًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْغَصْبُ الْوَدِيعَةُ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ وَتَحَقُّقِهِ إعْلَامُ مَا صَادَفَهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَالْإِقْرَارُ بِهِ مَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ أَجَّرَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ كَذَا بِشَيْءٍ لَا يَصِحُّ وَلَا يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى تَسْلِيمِ شَيْءٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً.
وَلَوْ عَايَنَّا أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا مَجْهُولًا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ بِحُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ فَاسِدًا فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، وَلَوْ عَايَنَّا أَنَّهُ غَصَبَ شَيْئًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، وَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ مَعَ الْجَهَالَةِ يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ حَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ (وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ) أَيْ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ: رَجُلٌ قَالَ: غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُهُ مَا يُبَيِّنُهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مَالًا، كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ، إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْغَصْبَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مَالٌ، وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ كَقَوْلِهِ: اشْتَرَيْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَكُونُ إقْرَارًا بِشِرَاءِ مَا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَغَصَبَهُ وَهَذَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ، فَإِذَا بَيَّنَ شَيْئًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُبِلَ بَيَانُهُ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُقَرَّرٌ لِأَصْلِ كَلَامِهِ وَبَيَانُ التَّقْرِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا، وَيَسْتَوِي أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَوْ لَا يُضْمَنُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى إذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ خَمْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَا إذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَيَانُهُ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً، وَالتَّمَانُعُ
(8/326)
 
 
(وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ بِهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَبَيَانُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ إنْكَارًا لِحُكْمِ الْغَصْبِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ.
وَصَرَّحَ فِي الْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَبُولُ بَيَانِهِ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ بَيَانِهِ بِذَلِكَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَإِذَا قَدْ عَرَفْت ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ هَاهُنَا قَوْلَ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ حَيْثُ قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ: يَعْنِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْغَصْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى أَخْذِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي الْعُرْفِ. هَذَا وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَكَذَا لَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ لَا يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَقِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ فِي حَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِغَصْبِ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُكَذِّبَةً لَهُ فِي بَيَانِهِ، وَلَوْ بَيَّنَ فِي الْعَقَارِ أَوْ فِي خَمْرِ الْمُسْلِمِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْغَصْبُ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ وَهُوَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْعَقَارِ وَخَمْرِ الْمُسْلِمِ فَلَزِمَ نَقْضُ التَّعْرِيفِ أَوْ عَدَمُ قَبُولِ الْبَيَانِ فِيهِمَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهُ، وَقَدْ تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ: الْعَادَةِ تُنَافِي صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ أَصِحِّيَّةِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيمَا لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ مِنْ أَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ مَشَايِخَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ: إنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً، وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ فِي ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيلُ أَصَحِّيَّةِ اخْتِيَارِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيهِ بِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ خَصَّصَتْهُ بِالْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَبَّةَ حِنْطَةٍ أَوْ قَطْرَةَ مَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَأَمَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا فَلَا إشَارَةَ إلَيْهِ فِي كَلَامِهِ أَصْلًا، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي كَلَامِهِ إشَارَةً إلَيْهِ لَمَا صَحَّ الْقَوْلُ مِنْهُ بِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَالًا، إذْ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ قَطْعًا عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ إطْلَاقًا جَارِيًا عَلَى اللُّغَةِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَسُوقٌ عَلَى مَا هُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ دُونَ مُخْتَارِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خَلْطٌ لِلْمَذْهَبَيْنِ.
 
(وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ) وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي لَوْ قَالَ أَحَدٌ فِي إقْرَارِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالرُّجُوعُ إلَى الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ قَدْرِ الْمَالِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُقِرَّ هُوَ الْمُجْمِلُ وَالرُّجُوعُ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ إلَى الْمُجْمِلِ (وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ) وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ، فَإِنَّهُ) أَيْ الْمَالُ (اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ) وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (إلَّا أَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرَّ (لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَالٌ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَجْهُهُ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ
(8/327)
 
 
لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا (وَلَوْ قَالَ: مَالٌ عَظِيمٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ وَالنِّصَابُ عَظِيمٌ حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ، وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ، وَعَنْهُ مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ (لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا) فَإِنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْكُسُورِ وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَالِ عَلَيْهِ عَادَةً، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ وَدِرْهَمٌ مَالٌ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذَا بَيَّنَ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ مُنْطَلِقٌ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَسُدُسِ دِرْهَمٍ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الدِّرْهَمِ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الِالْتِزَامِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ فَحَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَهُ اهـ.
وَقَالَ النَّاطِفِيُّ فِي أَجْنَاسِهِ: وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِدِرْهَمٍ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْهَارُونِيُّ: لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ هُوَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَجْنَاسِ (وَلَوْ قَالَ مَالٌ عَظِيمٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَعَلَيْهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ قُلْنَا: فِيهِ إلْغَاءٌ لِوَصْفِ الْعِظَمِ فَلَا يَجُوزُ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ) أَيْ مَوْصُوفٍ بِوَصْفِ الْعِظَمِ (فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِمَا يُعَدُّ عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ (وَالنِّصَابُ) مَالٌ (عَظِيمٌ) فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، (حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ) فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةَ الْفُقَرَاءِ (وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ) فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا رِعَايَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَاخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ الْمَشَايِخِ عَنْهُ فِيهِ، فَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ ذَلِكَ فَقَالَ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ (أَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ (لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ) وَنِصَابُ الْمَهْرِ أَيْضًا (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ هَذَا النِّصَابَ (عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ) وَيُسْتَبَاحُ بِهِ الْبِضْعُ الْمُحْتَرَمُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ) أَيْ مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا حَتَّى تَجِبَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ اهـ.
وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِقِيلٍ خَلَا قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ كَوْنَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّ إيجَابَنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَظِيمَ مَاذَا؟ هَلْ هُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ أَمْ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ؟ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ، إذْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَقُولَ: بَلْ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ قَطْعُ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ
(8/328)
 
 
وَهَذَا إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، أَمَّا إذَا قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ فَالتَّقْدِيرُ فِيهَا بِالْعِشْرِينِ، وَفِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ وَفِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ بِقِيمَةِ النِّصَابِ (وَلَوْ قَالَ: أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ فَنٍّ سَمَّاهُ) اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ (وَلَوْ قَالَ: دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَيُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ الْمُحْتَرَمُ وَهُوَ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّقْرِيبُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى حَالِ الْمُقِرِّ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، فَإِنَّ الْقَلِيلَ عِنْدَ الْفَقِيرِ عَظِيمٌ، وَأَضْعَافُ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَنِيِّ حَقِيرٌ، وَكَمَا أَنَّ الْمِائَتَيْنِ عَظِيمٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَالْعَشَرَةُ عَظِيمٌ فِي حُكْمِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، وَتَقْدِيرُ الْمَهْرِ بِهَا فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمُقِرِّ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ (وَهَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ) أَيْ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ قَالَ كَذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ بَيَّنَ مُرَادَهُ مِنْ الْمَالِ الْعَظِيمِ بِالدَّرَاهِمِ فَقَوْلُ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَذَا إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ: أَيْ بَيَّنَ وَقَالَ: إنَّ مُرَادِي بِالْمَالِ الْعَظِيمِ الدَّرَاهِمُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ (أَمَّا إذَا قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ) أَيْ إذَا قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ ثَانِيًا عِنْدَ الْبَيَانِ (فَالتَّقْدِيرُ فِيهَا) أَيْ فِي الدَّنَانِيرِ (بِالْعِشْرِينِ) أَيْ بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا لِأَنَّهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ (وَفِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ) يَعْنِي وَفِيمَا إذَا قَالَ مِنْ الْإِبِلِ يُقَدَّرُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ إبِلًا (لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ) كَعِشْرِينَ مِثْقَالًا فِي الدَّنَانِيرِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الدَّرَاهِمِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ بِجِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ فَالْمُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ نِصَابًا فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ لِأَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَكَانَ صَاحِبُهَا بِهَا غَنِيًّا. قُلْنَا: هِيَ مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ عَظِيمٍ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَجِبَ فِيهَا مِنْ جِنْسِهَا، فَاعْتَبَرْنَا مَا ذَكَرْنَا لِيَكُونَ عَظِيمًا مُطْلَقًا إذْ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ (وَفِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ بِقِيمَةِ النِّصَابِ) يَعْنِي وَفِيمَا إذَا بَيَّنَ بِغَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ يُقَدَّرُ بِقِيمَةِ النِّصَابِ: أَيْ بِقَدْرِ النِّصَابِ قِيمَةً (وَلَوْ قَالَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ) أَيْ وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَمْوَالٌ عِظَامٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (فَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ فَنٍّ سَمَّاهُ) أَيْ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ سَمَّاهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ التَّقْدِيرُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ كَانَ بِسِتِّينَ مِثْقَالًا، وَلَوْ قَالَ مِنْ الْإِبِلِ كَانَ بِخَمْسٍ وَسَبْعِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ (اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ) فَإِنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ عِظَامٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ مِنْ جِنْسِ مَا سَمَّاهُ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ مَالٌ نَفِيسٌ أَوْ كَرِيمٌ أَوْ خَطِيرٌ أَوْ جَلِيلٌ قَالَ النَّاطِفِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ مَنْصُوصًا، وَكَانَ الْجُرْجَانِيُّ يَقُولُ يَلْزَمُهُ مِائَتَانِ، وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ وَالذَّخِيرَةِ وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ يَلْزَمُهُ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ وَالتَّضْعِيفُ أَقَلُّهُ مَرَّةٌ فَيُضَعَّفُ مَرَّةً، قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً أَوْ قَالَ مُضَاعَفَةً أَضْعَافًا عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِأَنَّ الْأَضْعَافَ جَمْعُ الضِّعْفِ فَيُضَاعَفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَانَتْ تِسْعَةً، وَقَوْلُهُ مُضَاعَفَةً يَقْتَضِي ضِعْفَ ذَلِكَ فَيَقْتَضِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ الدَّرَاهِمُ الْمُضَاعَفَةُ سِتَّةٌ وَأَضْعَافُهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةً عَلَيْهِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّ أَضْعَافَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثُونَ فَإِذَا ضُمَّتْ إلَى الْعَشَرَةِ كَانَ أَرْبَعِينَ فَأَوْجَبَهَا مُضَاعَفَةً فَيَكُونُ ثَمَانِينَ (وَلَوْ قَالَ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ) أَيْ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ (لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يُصَدَّقُ
(8/329)
 
 
لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُمَا فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ: رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّرَاهِمَ مَثَلًا بِصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ فَيَلْغُو ذِكْرُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ إثْبَاتَ صِفَةِ الْكَثْرَةِ لِمِقْدَارٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ الْكَثِيرَةِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَصْدُقُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ فَلِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَكَمْ مِنْ كَثِيرٍ عِنْدَ قَوْمٍ قَلِيلٌ عِنْدَ الْآخَرِينَ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْعَشَرَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَبِمَا دُونَهُ عِنْدَ الْآخَرِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمِائَتَيْنِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهَا أَصْلًا فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا لَغَا ذِكْرُهَا فَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِ دَرَاهِمَ وَيَنْصَرِفُ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ) يَعْنِي صَاحِبَ نِصَابِ الزَّكَاةِ (مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ) بِدَفْعِ زَكَاتِهِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفَقِيرِ (بِخِلَافِ مَا دُونَهُ) أَيْ بِخِلَافِ مَا دُونَ النِّصَابِ. فَإِنَّ صَاحِبَهُ مُقِلٌّ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا: وَقَالَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا: أَيْ بِالْكَثْرَةِ حُكْمًا لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ نِصَابَ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ عِنْدَنَا لَهُ أَيْضًا كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ ثُبُوتِ قَطْعِ الْيَدِ وَاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ، وَكَذَا الْأَكْثَرُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فِي الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الْحَجِّ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَاتِيك الْكَثْرَاتِ الْحُكْمِيَّةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِإِحْدَاهَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةً حُكْمِيَّةً لَا يُجْدِي شَيْئًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ؛ لِأَنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْإِلْغَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ كَثْرَةٌ أُخْرَى فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا: وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ تَعَذَّرَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْعُرْفُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَكِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا حُكْمًا، وَلَا يُلْغَى مِنْ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْكَثْرَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَتَّى لَا تَلْغُوَ هَذِهِ الصِّفَةُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ حُكْمًا، وَالدَّرَاهِمُ الْكَثِيرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ شَرْعًا فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَالْمَهْرِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ.
فَأَمَّا الْعَشَرَةُ إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَجَوَازِ النِّكَاحِ فَفِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ قَلِيلَةٌ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ لَا إلَى النَّاقِصِ، وَأَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَثْرَةِ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَأَمَّا الْعَشَرَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَكَانَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ حُكْمًا انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا بَسَطَهُ وَإِنْ أَفَادَ فِي الظَّاهِرِ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِ الدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْعَشَرَةِ لَكِنْ لَمْ يُفِدْ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِهَا عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمَا أَدْرَجَهُ نَفْسُهُ أَيْضًا فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ أَفَادَ أَوْلَوِيَّةَ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ هُوَ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الْكَثْرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَجِّ أَيْضًا مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَأَمَّا الْمِائَتَانِ فَهُوَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِالنَّظَرِ إلَى حُكْمِ الْحَجِّ
(8/330)
 
 
وَلَهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ، يُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ (وَلَوْ قَالَ دَرَاهِمُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ) لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَكَانَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ حُكْمًا فَلَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ تَأَمَّلْ (وَلَهُ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ) أَيْ عِنْدَ كَوْنِهِ مُمَيِّزًا لِلْعَدَدِ (يُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا) يَعْنِي أَنَّ الْعَدَدَ إذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ يَصِيرُ مُمَيَّزُهُ مُفْرَدًا لَا جَمْعًا (فَيَكُونُ) أَيْ الْعَشَرَةُ (هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ) أَيْ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ (فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ إذَا كَانَ مُمْكِنًا وَلَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ الصَّرْفِ إلَيْهِ لَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.
لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ الْكَثْرَةَ صَارَ كَذِكْرِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ اللَّفْظَ مَا يَصْلُحُ لَهُ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْعَشَرَةِ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ اقْتِرَانِ اسْمِ الْجَمْعِ بِالْعَدَدِ بِأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لَهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا، لَا عِنْدَ انْفِرَادِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِجَمْعِ الْكَثْرَةِ حَالَ الِانْفِرَادِ مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِاللُّغَةِ، وَمَسْأَلَتُنَا مَفْرُوضَةٌ فِي حَالِ انْفِرَادِ الدَّرَاهِمِ عَنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ، فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ حُكْمٍ خَالٍ الِاقْتِرَانُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ؟ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ أَقَلُّهُ عَشَرَةٌ.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ لَا عَشَرَةٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ الْفَاضِلُ الرَّضِيُّ: قَالُوا مُطْلَقُ الْجَمْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قِلَّةٌ، وَكَثْرَةٌ؛ وَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَالْحَدَّانِ دَاخِلَانِ وَبِالْكَثِيرِ مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ انْتَهَى.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عِلَّةُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَوْنَ أَقَلِّ جَمْعِ الْكَثْرَةِ عَشَرَةً لَزِمَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ أَيْضًا عِنْدَهُ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشَرَةٍ فِيمَا إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ بِدُونِ ذِكْرِ وَصْفِ الْكَثْرَةِ مَعَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ هُنَاكَ فِي ثَلَاثَةٍ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا سَيَأْتِي. وَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ نَصًّا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَصِيرَ صِفَةُ الْكَثْرَةِ لَغْوًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ مُتَعَذِّرٌ، وَمَا ثَبَتَ مُقْتَضَى صِحَّةِ الْغَيْرِ يُثْبِتُ أَدْنَى مَا يَصِحُّ بِهِ الْغَيْرُ، وَأَدْنَى مَا يُثْبِتُ بِهِ الْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ الْقَطْعَ مُتَعَلِّقٌ شَرْعًا بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمَالِ لَا بِالْقَلِيلِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» ، ثُمَّ اعْتَبَرَ النِّصَابَ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ عَشَرَةً فَيَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ انْتَهَى.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ: دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مَالٌ عَظِيمٌ أَنَّ قَوْلَهُ: دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ يُفِيدُ الْعَدَدَ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ تَكُونُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَاعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ وَقَوْلَهُ: مَالٌ عَظِيمٌ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُسْتَعْظَمِ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، وَالْعَظِيمُ فِي الشَّرْعِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَنِيًّا فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَاعْتَبِرْ ذَلِكَ (وَلَوْ قَالَ: دَرَاهِمُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ) يَعْنِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ جَمْعٌ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَفْظُ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ صِفَةَ الْجَمْعِ كَمَا هُوَ مُتَبَادِرٌ مِنْ ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ.
يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَيْسَ بِجَمْعٍ صَحِيحٍ بَلْ هُوَ جَمْعٌ مُكَسَّرٌ فَلَمْ يُطَابِقْ الدَّلِيلَ الْمُدَّعَى، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِأَقَلَّ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي لِأَنَّهُ أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بِخِلَافِ الْمُثَنَّى يُتَّجَهُ عَلَيْهِ
(8/331)
 
 
(إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْهَا) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ (وَلَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدَ عَشَرَ (وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَجْهٍ عَلَى نَظِيرِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةً إنَّمَا هُوَ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ دُونَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ أَقَلَّ جَمْعِ الْكَثْرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ آنِفًا وَالدَّرَاهِمُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ النَّحْوِ أَنَّ جَمِيعَ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ الْمُكَسَّرِ جَمْعُ كَثْرَةٍ سِوَى الْأَمْثِلَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ أَفْعَلُ وَأَفْعَالُ وَأَفْعِلَةُ وَفَعَلَةُ عِنْدَ الْكُلِّ، وَسِوَى فَعَلَةٍ كَأَكَلَةٍ عِنْدَ الْفَرَّاءِ، وَسِوَى أَفْعِلَاءٍ كَأَصْدِقَاءٍ فِي نَقْلِ التَّبْرِيزِيِّ، وَلَفْظُ الدَّرَاهِمِ لَيْسَ مِنْ أَحَدِ هَاتِيك الْأَمْثِلَةِ فَكَانَ جَمْعَ كَثْرَةٍ قَطْعًا فَلَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ التَّرْدِيدِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَاضِلَ الرَّضِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّ كُلَّ جَمْعِ تَكْسِيرٍ لِلرُّبَاعِيِّ الْأَصْلِ حُرُوفُهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَانَ أَقَلُّهُ الْمُتَيَقَّنُ هُوَ الثَّلَاثَةَ فَتَمَّ الْمَطْلُوبُ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُحَقِّقَ التَّفْتَازَانِيَّ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ فِي أَوَائِلِ مَبَاحِثِ أَلْفَاظِ الْعَامِّ بِصَدَدِ تَحْقِيقِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ جَم