فتح القدير للكمال ابن الهمام 009

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
 
أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هَاهُنَا الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ.
 
(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ) قَالَ (الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ يَرِثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُحْتَاطُ لِلْقَاضِي وَيَنْتَظِرُ مُدَّةً هَلْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ أَمْ لَا ثُمَّ يَقْضِي بِكُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْوَالِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ؛ فَيَقْضِي فِي الزَّوْجِ بِالرُّبْعِ وَالزَّوْجَةِ بِالثُّمُنِ إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْضِي بِالْأَكْثَرِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ وَيَأْخُذُ الْقَاضِي كَفِيلًا عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ كَفَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
 
[فُرُوعٌ] إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرَا سَبَبًا يَرِثُ بِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ حَتَّى يُبَيِّنَا سَبَبَ الْإِرْثِ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ ابْنُ عَمِّهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ جَدَّتُهُ لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَا طَرِيقَ الْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ: أَيْ يُبَيِّنَا الْأَسْبَابَ الْمُوَرِّثَةَ لِلْمَيِّتِ أَنَّهُ لِأَبٍ أَوْ شَقِيقٌ وَيَنْسُبَا الْمَيِّتَ وَالْوَارِثَ حَتَّى يَلْتَقِيَا إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، وَيَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّهُ وَارِثُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ إرْثُهُ فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْوَلَدِ؟ قِيلَ يُشْتَرَطُ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ وَارِثُهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ لَا يُحْجَبُ بِحَالٍ لَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ وَارِثُهُ. وَفِي الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِنْتُ ابْنِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي الشَّهَادَةِ أَنَّهُ مَوْلَاهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ اسْمِ أَبٍ الْمَيِّتِ، حَتَّى لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ أَبُو أَبِيهِ وَوَارِثُهُ وَلَمْ يُسَمُّوا أَبَا الْمَيِّتِ قُبِلَتْ.
وَفِي الْأَقْضِيَةِ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ وَقَضَى لَهُ بِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَادَّعَى أَنَّهُ أَبُو الْمَيِّتِ وَبَرْهَنَ فَالثَّانِي أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ وَوَارِثُهُ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ شَهِدَ هَذَانِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ بَلْ يَضْمَنَانِ لِلِابْنِ مَا أَخَذَ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِرْثِ، وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الثَّانِيَ ابْنُ الْمَيِّتِ تُقْبَلُ. وَفِي الزِّيَادَاتِ: شَهِدَا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَضَى بِأَنَّ هَذَا وَارِثٌ فَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَالْقَاضِي يَحْتَاطُ وَيَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ نَسَبِهِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَمْضَى الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ قَضَى لِلثَّانِي، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَإِنْ زَاحَمَهُ بِأَنْ كَانَ مَثَلًا الْأَوَّلُ ابْنًا وَالثَّانِي أَبًا قَضَى بِالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا.
 
[بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ]
(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ (قَوْلُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ)
(7/461)
 
 
جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
جَائِزَةٌ فِي كُلِّ (حَقٍّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ) فَخَرَجَ مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهَا وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ. فَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَفِي الْأَجْنَاسِ مِنْ نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَنَصَّ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي الْأَقَارِيرِ وَالْحُقُوقِ وَأَقْضِيَةِ الْقُضَاةِ وَكُتُبِهِمْ وَكُلِّ شَيْءٍ إلَّا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَبِقَوْلِنَا هَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْضًا لِأَنَّ الْفُرُوعَ عُدُولٌ، وَقَدْ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمْ وَصَارُوا كَالْمُتَرْجِمِ وَسَيَنْدَفِعُ (قَوْلُهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ) أَيْ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَجَبَتْ عَلَى الْأَصْلِ وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ حَتَّى لَا تَجُوزَ الْخُصُومَةُ فِيهَا وَالْإِجْبَارُ عَلَيْهَا.
وَالنِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِ إنْسَانٍ يَنْفُذُ عَلَى مِثْلِهِ وَيَلْزَمُهُ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ
(7/462)
 
 
(وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ إلَّا الْأَرْبَعُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَهُوَ يَنْفِيهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ إنَّمَا عُرِفَ حُجَّةً شَرْعًا عِنْدَ قَدْرٍ مِنْ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَهُوَ مَا فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَذِبِ وَالسَّهْوِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَذَلِكَ عِنْدَ زِيَادَةِ الِاحْتِمَالِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الثَّابِتُ ضَعْفَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِي الْأَصْلَيْنِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْمُدَّعِي وَفِي الْفَرْعَيْنِ مَا يَشْهَدَانِ بِهِ مِنْ شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ لِمَوْتِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ فَيَضِيعُ الْحَقُّ أَثْبَتَهَا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ.
لَا يُقَالُ: يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِجِنْسِ الشُّهُودِ بِأَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى كُلِّ حَقٍّ عَشَرَةٌ مَثَلًا فَيَبْعُدُ مَوْتُ الْكُلِّ قَبْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي. لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُدَّعِي جَازَ كَوْنُهُ وَارِثَ وَارِثِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مِثْلِهِ، وَقَدْ انْقَرَضَ الْكُلُّ فَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ إلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ الْحُقُوقُ مِنْهَا مَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَمِنْهَا مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ الِاحْتِيَاطَ فِي دَرْئِهِ وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لَوْ أَجَزْنَا فِيهَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَعَ ثُبُوتِ ضَعْفِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ كَانَ خِلَافًا لِلشَّرْعِ وَالْمُصَنِّفُ عَلَّلَ بِهَذَا وَبِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ، فَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَصْلٍ مَعَ فَرَعَيْنَ، إذْ الْبَدَلُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ هُنَا بِحَسَبِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِنَّا عَلِمْنَا بِثُبُوتِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِلْأُصُولِ فِيهِ شُبْهَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى لَا بِحَسَبِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عِيَانٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَبَعْدَ تَحَمُّلِهِ يَرُدُّهُ إلَى التَّعْلِيلِ الْآخَرِ وَهُوَ كَثْرَةُ الِاحْتِمَالِ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ فَلَا يَكُونَانِ تَعْلِيلَيْنِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، لَا جَرَمَ أَنَّ أَصْلَ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا قَالَ فِيهِ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَا حَقِيقَتُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ قَاضِي بَلَدِ كَذَا حَدَّ فُلَانًا فِي قَذْفٍ تُقْبَلُ حَتَّى تَرِدَ شَهَادَةُ فُلَانٍ. أُجِيبَ بِأَنْ لَا نَقْضَ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْقَاضِي وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الشَّهَادَةُ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهَا الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَأَوْرَدَ أَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي مُوجِبٌ لِرَدِّهَا وَرَدُّهَا مِنْ حَدِّهِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ الْمُوجِبُ لِرَدِّهَا إنْ كَانَ مِنْ حَدِّهِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ هُوَ الْقَذْفُ نَفْسُهُ عَلَى أَنَّ فِي الْمُحِيطِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ
 
(قَوْلُهُ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ) أَوْ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) يَعْنِي إذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَيَكُونُ لَهُمَا شَهَادَتَانِ شَهَادَتُهُمَا مَعًا عَلَى شَهَادَةِ هَذَا وَشَهَادَتُهُمَا أَيْضًا عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ.
أَمَّا لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا بِمَعْنَى شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَالْآخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا لَكِنْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِهِ فِي إيصَالِ
(7/463)
 
 
وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلِأَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ الْحُقُوقِ فَهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ ثُمَّ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ فَتُقْبَلُ.
 
(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.
 
(وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتَبَرُوهُ بِرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ (وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ.
وَاَلَّذِي فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ الْمَيِّتِ إلَّا رَجُلَانِ. وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَكُونَا اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنْ الْأَصْلَيْنِ هِيَ الْمَشْهُودُ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى كُلِّ مَشْهُودٍ بِهِ شَاهِدَانِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَةٌ مَعَ الْأُصُولِ لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَتِهَا إلَّا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تَجُوزُ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَالْمَرْأَتَيْنِ، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهِمَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ كَانَ أَصْلًا فَشَهِدَ شَهَادَةً ثُمَّ شَهِدَ مَعَ فَرْعٍ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ لَا تَجُوزُ اتِّفَاقًا، فَكَذَا إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ تَجُوزُ كَقَوْلِنَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ هُوَ شَهَادَةُ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ، ثُمَّ شَهِدَ بِحَقٍّ آخَرَ هُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِ الْآخَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ بِحُقُوقٍ كَثِيرَةٍ، بِخِلَافِ أَدَاءِ الْأَصْلِ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ مَعَ آخَرَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِهِ وَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ حَيْثُ يَجُوزُ.
 
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ) فِيهِ نَظَرٌ، إذْ كُتُبُهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى الْأَصْلِ لَا تَجُوزُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةً عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَقَلَ هَذَا عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفَرْعَ كَرَسُولٍ، وَكَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ. وَيَدْفَعُهُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ حَقٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ. وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعَبِ
(7/464)
 
 
لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ (وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ، وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ، وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِلْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ: لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ فُرُوعٍ لِيَشْهَدَ كُلُّ فَرَعَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ
 
(قَوْلُهُ وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ) أَيْ إشْهَادُ شَاهِدِ الْأَصْلِ شَاهِدَ الْفَرْعِ (أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) وَإِنَّمَا شَرَطَ إشْهَادَ الْأَصْلِ الْفَرْعَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ (لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ) وَذَلِكَ بِالتَّحْمِيلِ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ تَجُوزُ عَلَى الْمُقِرِّ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ شَاهَدَ أَمْرًا غَيْرَ الشَّهَادَةِ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ كَالْإِقْرَارِ وَالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ (عَلَى مَا مَرَّ) يَعْنِي فِي فَصْلِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةَ النَّائِبِ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ فَرْعَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَأَصْلُ الِامْتِنَاعِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ لَكِنَّهُ جَائِزٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ) أَيْ شَاهِدُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْفَرْعِ (كَمَا يَشْهَدُ) شَاهِدُ الْأَصْلِ (عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ الْفَرْعُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ) شَاهِدُ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْفَرْعِ.
قَوْلُهُ (وَأَشْهَدَنِي) يَعْنِي الْمُقِرَّ (عَلَى نَفْسِهِ) بِذَلِكَ (جَازَ) لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْفَرْقِ. وَإِذَا وَقَعَ التَّحْمِيلُ بِمَا ذُكِرَ (فَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) وَيُعَرِّفُهُ (أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَرْعِ جَرَّ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَلَزِمَ فِيهِ خَمْسُ شِينَاتٍ، وَذَلِكَ (لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْفَرْعِ مِنْ شَهَادَتِهِ وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالتَّحْمِيلِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَهَا) أَيْ لِشَهَادَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْفَرْعِ (لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ)
(7/465)
 
 
وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا.
 
(وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي: فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ جَمِيعًا حَتَّى اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَمَّا الْأَطْوَلُ فَأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا الْآنَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَيَلْزَمُ ثَمَانُ شِينَاتٍ، وَأَمَّا الْأَقْصَرُ فَأَنْ يَقُولُ الْفَرْعُ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِأَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا فَفِيهِ شِينَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ وَأُسْتَاذِهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَحَكَى فَتْوَى شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ بِهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
وَحُكِيَ أَنَّ فُقَهَاءَ زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ خَالَفُوا وَاشْتَرَطُوا زِيَادَةَ تَطْوِيلٍ، فَأَخْرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ الرِّوَايَةَ مِنْ السَّيْرِ الْكَبِيرِ فَانْقَادُوا لَهُ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: فَلَوْ اعْتَمَدَ أَحَدٌ عَلَى هَذَا كَانَ أَسْهَلَ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى خَمْسِ شِينَاتٍ حَيْثُ حَكَاهُ، وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَّ أَطْوَلَ مِنْهُ وَأَقْصَرَ، ثُمَّ قَالَ (وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا) وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ شَارِحُ الْقُدُورِيِّ أَقْصَرَ آخَرَ وَهُوَ ثَلَاثُ شِينَاتٍ.
قَالَ: وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ لَفَظَاتٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ: يَعْنِي الْقُدُورِيَّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ.
ثُمَّ حَكَى خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ. قَالَ: وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْهَدَ مِثْلَ شَهَادَتِهِ وَهُوَ كَذِبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْمِيلِ فَلَا يَثْبُتُ الثَّانِي بِالشَّكِّ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَمْرَ الشَّاهِدِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ فَيُحْمَلُ لِذَلِكَ عَلَى التَّحْمِيلِ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ فِي شُهُودِ الزَّمَانِ الْقَوْلُ بِقَوْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْعَارِفُ الْمُتَدَيِّنُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ خُصُوصًا الْمُتَّخِذَ بِهَا مَكْسَبَةً لِلدَّرَاهِمِ، وَقَوْلُهُمْ فِي إعْطَاءِ الصُّوَرِ: أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ وَنَحْوُهَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ شَاهِدَ الْأَصْلِ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: شُهُودُ الْفَرْعِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَ الْأُصُولِ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ حَتَّى لَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَعْرِفُهُمَا أَشْهَدَانَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِكَذَا وَقَالَا لَا نُسَمِّيهِمَا. أَوْ لَا نَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمَا لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُمَا تَحَمَّلَا مُجَازَفَةً لَا عَنْ مَعْرِفَةِ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي إلَخْ) أَيْ إذَا قَالَ شَاهِدٌ عِنْدَ آخَرَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا لَا يَسَعُ السَّامِعَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ
(7/466)
 
 
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ. .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ. وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ.
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ يَقُولُ بِاشْتِرَاكِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي الضَّمَانِ إذَا رَجَعُوا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُحَمَّدًا يُخَيِّرُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنْ أَنَّهُ يُضَمِّنُ الْكُلَّ مَعًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْفُرُوعِ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْأُصُولِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ يَتَخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ رَجَعَ عَلَى غَاصِبِهِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا قَالَ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ (لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ) يَعْنِي إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي (لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ) بِالنَّقْلِ (تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ) يَعْنِي شَهَادَةَ الْأُصُولِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ التَّحْمِيلِ لِوُجُوبِ النَّقْلِ، وَالنَّقْلُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ، حَتَّى لَوْ سَمِعَ شَاهِدًا يَقُولُ لِرَجُلٍ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي إلَى آخِرِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ، فَإِذَا نَقَلَ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ التَّحْمِيلُ فَتَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحُجَّةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَمِعَ قَاضِيًا يَقُولُ لِآخَرَ قَضَيْت عَلَيْك بِكَذَا أَوْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ بِلَا تَحْمِيلٍ لِأَنَّ قَضَاءَهُ حُجَّةٌ كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ نَفْسُهَا حُجَّةً حَتَّى تَصِلَ إلَى الْقَاضِي.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ النَّقْلِ إلَى الْقَاضِي وَالْحُجِّيَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّحْمِيلِ شَرْعًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْأَصَحِّ
(7/467)
 
 
قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ) لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا سَبِيلُ هَذَا الْحُكْمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْإِشْهَادُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِلَّا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُ، بَلْ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ فَإِخْرَاجُ الْإِقْرَارِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى فُلَانٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ فِي وَجْهِهِ أَمْرًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ لَهُ مَنْفَعَةُ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إذَا طَلَبَ مِنْهُ مَنْ هِيَ لَهُ؛ وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى التَّوْكِيلِ وَالتَّحْمِيلِ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ لَكِنْ فِيهَا مَضَرَّةُ إهْدَارِ وِلَايَتِهِ فِي تَنْفِيذِ قَوْلِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَيُشْتَرَطُ كَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ إنْكَاحِ صَغِيرَةٍ لَوْ نَكَحَهَا إنْسَانٌ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ
 
(قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَلَيَالِيِهَا (فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ) فَقُدِّرَتْ بِمَسَافَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ بَعِيدَةً حَتَّى أَثْبَتَ رُخَصًا عِنْدَهَا مِنْ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَامْتِدَادِ مَسْحِ الْخُفِّ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ صَحَّ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ) يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الشَّرْعِ
(7/468)
 
 
وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
 
قَالَ (فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ (وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
(وَالثَّانِي أَرْفَقُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ) وَفِي الذَّخِيرَةِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ أَخَذُوا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ (وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ) وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ كَيْفَمَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَهِدَ الْفَرْعُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى تُقْبَلُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجِبُ أَنْ تَجُوزَ عَلَى قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا بِلَا رِضَا الْخَصْمِ، وَعِنْدَهُ لَا إلَّا بِرِضَاهُ وَإِلَّا قُطِعَ، صَرَّحَ بِهِ عَنْهُمَا فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا فِي الْمِصْرِ.
 
[فُرُوعٌ] خَرِسَ الْأَصْلَانِ أَوْ عَمِيَا أَوْ جُنَّا أَوْ ارْتَدَّا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِسْقًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ
 
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَبِ دُونَ قَضَائِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ فِيهِمَا: وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ صَحَّ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي النَّسَبِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي.
وَفِي الْأَصْلِ: لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ نِصْفُهُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ وَرُبْعُهُ بِشَهَادَتِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ.
وَلَمْ يَزِدْ فِي شَرْحِ الشَّافِي عَلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ أَصْلٌ وَشَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ بَدَلٌ وَلَا يَجْتَمِعَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ آخَرَ يَصِحُّ. .
 
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى حَضَرَ الْأَصْلَانِ وَنَهَيَا الْفُرُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَحَّ النَّهْيُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرُوا. سَمِعَا قَوْلَ حَاكِمٍ حَكَمْت بِكَذَا عَلَى هَذَا ثُمَّ نُصِّبَ حَاكِمٌ غَيْرُهُ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَا سَمِعَا مِنْ الْقَاضِي فِي الْمِصْرِ أَوْ سَوَادِهِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَقْيَسُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إنْ سَمِعَاهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَهَذَا أَحْوَطُ
 
(قَوْلُهُ فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ إلَخْ) شُهُودَ الْأَصْلِ مَنْصُوبٌ مَفْعُولًا وَشُهُودُ الْفَرْعِ فَاعِلٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ الْفَرْعَانِ فَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي عَدَالَةَ كُلٍّ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ قُضِيَ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَةَ الْأُصُولِ وَعَلِمَ عَدَالَةَ الْفُرُوعِ سَأَلَ الْفُرُوعَ عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ فَإِنْ عَدَّلُوهُمْ جَازَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ فَتُقْبَلُ (وَكَذَا لَوْ شَهِدَا اثْنَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا) وَهُوَ مَعْلُومُ الْعَدَالَةِ لِلْقَاضِي (الْآخِرَ جَازَ) خِلَافًا لِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ
(7/469)
 
 
لِمَا قُلْنَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ، كَيْفَ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ فَلَا تُهْمَةَ. قَالَ (وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ جَازُوا نَظَرَ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا يُقْبَلُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ، وَإِذَا نَقَلُوا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ بِتَعْدِيلِهِ رَفِيقَهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ) يَعْنِي أَنَّ شَهَادَةَ نَفْسِهِ تَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِر الشَّرْعُ مَعَ عَدَالَتِهِ ذَلِكَ مَانِعًا كَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ (وَإِنْ سَكَتُوا) أَيْ الْفُرُوعُ عَنْ تَعْدِيلِ الْأُصُولِ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي (جَازَتْ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (وَنَظَرَ الْقَاضِي) فِي حَالِ الْأُصُولِ، فَإِنْ عَدَّلَهُمْ غَيْرُهُمْ قَضَى وَإِلَّا لَا (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ)
إذَا سَكَتُوا أَوْ قَالُوا لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمْ (لَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ لِأَنَّ قَبُولَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا نَقْلُ شَهَادَةٍ وَلَمْ تَثْبُتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ) أَيْ الْوَاجِبَ (عَلَى الْفُرُوعِ لَيْسَ إلَّا نَقْلُ) مَا حَمَلَهُمْ الْأُصُولُ (دُونَ تَعْدِيلِهِمْ) فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى حَالُهُمْ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا نَقَلُوا مَا حَمَلُوهُمْ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ وَصَارَ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْأُصُولُ بِنَفْسِهِمْ وَشَهِدُوا وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ سُؤَالُ الْقَاضِي الْفُرُوعَ عَنْ الْأُصُولِ لَازِمًا عَلَيْهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ غَيْرَ أَنَّ الْفُرُوعَ حَاضِرُونَ وَهُمْ أَهْلُ التَّزْكِيَةِ إنْ كَانُوا عُدُولًا فَسُؤَالُهُمْ أَقْرَبُ لِلْمَسَافَةِ مِنْ سُؤَالِ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فَقَدْ قَصُرَتْ الْمَسَافَةُ وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى تَعَرُّفِ حَالِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ النَّاصِحِيُّ فِي تَهْذِيبِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ.
(7/470)
 
 
قَالَ (وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَهُوَ شَرْطٌ.
 
(وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَا أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ وَقَالَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ الْفُرُوعُ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ لَا نُخْبِرُك بِشَيْءٍ لَمْ تَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا: أَيْ الْفُرُوعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي الْجَرْحِ كَمَا لَوْ قَالُوا نَتَّهِمُهُمْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَرْحًا. لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ تَوْقِيفًا فِي حَالِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ جَرْحًا بِالشَّكِّ انْتَهَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيُسْأَلُ غَيْرُهُمَا. وَلَوْ قَالَا: لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمَا وَلَا عَدَمَهَا، فَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ. وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيَسْأَلُ عَنْ الْأُصُولِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقِيَ مَسْتُورًا فَيُسْأَلُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي عَدْلٍ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً وَلَا يُدْرَى أَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ أَمْ لَا؟ فَشَهِدَا عَلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَجِدْ الْحَاكِمُ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ، إنْ كَانَ الْأَصْلُ مَشْهُورًا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا عَنْهُ لِأَنَّ عَثْرَةَ الْمَشْهُورِ يُتَحَدَّثُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ لَا يَقْضِي بِهِ، وَلَوْ أَنَّ فَرَعَيْنَ مَعْلُومًا عَدَالَتُهُمَا شَهِدَا عَنْ أَصْلٍ وَقَالَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَزَكَّاهُ غَيْرُهُمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا لَا يُلْتَفَتُ إلَى جَرْحِهِ.
وَفِي التَّتِمَّةِ: إذَا شَهِدَ أَنَّهُ عَدْلٌ لَيْسَ فِي الْمِصْرِ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَوْضِعٌ لِلْمَسْأَلَةِ: يَعْنِي بِأَنْ تُخْفَى فِيهِ الْمَسْأَلَةُ سَأَلَهُمَا عَنْهُ أَوْ بَعَثَ مَنْ يَسْأَلُهُمَا عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ عَدَّلَاهُ قُبِلَ وَإِلَّا اكْتَفَى بِمَا أَخْبَرَاهُ عَلَانِيَةً (قَوْلُهُ وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ إنْكَارَهُمَا الشَّهَادَةَ إنْكَارٌ لِلتَّحْمِيلِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَوَقَعَ فِي التَّحْمِيلِ تَعَارُضُ خَبَرِهِمَا بِوُقُوعٍ، وَخَبَرُ الْأُصُولِ بِعَدَمِهِ وَلَا ثُبُوتَ مَعَ التَّعَارُضِ
 
(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) هَكَذَا عِبَارَةُ الْجَامِعِ وَتَمَامُهُ فِيهِ. فَيَقُولَانِ قَدْ أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا وَيَجِيئَانِ بِامْرَأَةٍ فَيَقُولَانِ لَا نَدْرِي هِيَ هَذِهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ الْفُلَانِيَّةُ بِعَيْنِهَا فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ.
وَالْمُصَنِّفُ أَفْرَدَ فَقَالَ (فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ) يَعْنِي الْمُدَّعِيَ جَاءَ بِهَا
(7/471)
 
 
لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّهَادَةِ حُدُودُ مَا فِي يَدِهِ. .
 
قَالَ (وَكَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَهُوَ أَنْسَبُ وَهَذَا (لِأَنَّ الشَّهَادَةَ) بِالْأَلْفِ (عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ) بِالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْفُرُوعِ (وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي) الْأَلْفَ (عَلَى حَاضِرِهِ جَازَ كَوْنُهَا غَيْرَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْحَاضِرَةِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ) الَّتِي بِهَا شَهِدَا بِالْأَلْفِ عَلَيْهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا شَهَادَةً بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً) قَالَ قَاضِي خَانْ: وَهَذَا كَرَجُلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ فُلَانًا اشْتَرَى دَارًا فِي بَلَدِ كَذَا بِحُدُودِ كَذَا وَلَا يَعْرِفَانِ الدَّارَ بِعَيْنِهَا يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَحْدُودَةَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْقَضَاءُ.
وَهَذَا التَّصْوِيرُ أَوْفَقُ بِالْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودٍ. وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَصَارَ كَرَجُلٍ ادَّعَى مَحْدُودًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَشَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّ هَذَا الْمَحْدُودَ الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ مِلْكُهُ وَفِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِي غَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشُّهُودُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ مَحْدُودٌ بِهَذِهِ الْحُدُودِ.
ثُمَّ تَصْوِيرُ الْمُصَنِّفِ يَصْدُقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي شَفِيعًا وَالْمَحْدُودُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَاهُ لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي الْعَيْنُ الَّذِي فِي يَدِي بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ لَيْسَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ.
 
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالَ) يَعْنِي مُحَمَّدًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ
(7/472)
 
 
لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ (وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخِذِهَا) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامَّةِ وَهِيَ عَامَّةٌ إلَى بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
شَاهِدَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَاهَا إلَى فَخْذِهَا) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَتَبَ فِي كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ أَنَّ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاقْضِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَالَ هِيَ هَذِهِ يَقُولُ لَهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ الَّتِي أَحْضَرْتهَا هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْقَاضِي وَحْدَهُ لِأَنَّهُ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ شَهِدَ عَلَى الْأُصُولِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ فَقَالَ إنَّ لِلْقَاضِي زِيَادَةَ وَفَوْرِ وِلَايَةٍ لَيْسَتْ لِلشُّهُودِ فَقَامَتْ تِلْكَ مَعَ دِيَانَتِهِ مَقَامَ قَوْلِ الِاثْنَيْنِ فَانْفَرَدَ بِالنَّقْلِ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ: وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ فَلَفْظُ قَالَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ نَقْلًا لِلَفْظِ الْجَامِعِ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا: أَيْ قَالَ فِي الْجَامِعِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ: أَيْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَنْسِبُوهَا إلَى فَخْذِهَا، يُرِيدُ الْقَبِيلَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لَيْسَ مَنْ دُونَهَا أَخَصُّ مِنْهَا، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ اللُّغَوِيِّينَ وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ.
وَفِي الْجَمْهَرَةِ جَعَلَ الْفَخْذَ دُونَ الْقَبِيلَةِ وَفَوْقَ الْبَطْنِ وَأَنَّهُ بِتَسْكِينِ الْخَاءِ وَالْجَمْعُ أَفْخَاذٌ، وَجَعَلَهُ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الْبَطْنِ
وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالزُّبَيْرُ فَقَالَ: وَالْعَرَبُ عَلَى سِتِّ طَبَقَاتٍ: شَعْبٌ، وَقَبِيلَةٌ، وَعِمَارَةٌ، وَبَطْنٌ، وَفَخْذٌ، وَفَصِيلَةٌ؛ فَالشَّعْبُ تَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ تَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ وَالْفَخْذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ؛ فَمُضَرُ شَعْبٌ وَكَذَا رَبِيعَةُ وَمَذْحِجُ وَحِمْيَرُ، وَسُمِّيَتْ شُعُوبًا لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَتَشَعَّبُ مِنْهَا، وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَةُ، وَقُصَيٌّ بَطْنٌ، وَهَاشِمٌ فَخْذُ، وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْفَخْذِ مَا لَمْ يَنْسُبْهَا إلَى الْفَصِيلَةِ لِأَنَّهَا دُونَهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] وَقَدَّمْنَا فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ
(7/473)
 
 
وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ. وَقِيلَ الْفَرْغَانِيَّةُ نِسْبَةٌ عَامَّةٌ وَالْأُوزَجَنْدِيَّةُ خَاصَّةٌ، (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) وَقِيلَ إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ، وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ.
ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّهُ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْأَدْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
(فَصْلٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْفَصِيلَةِ الْعَشِيرَةَ.
وَالْعِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَأَسْلَفْنَا هُنَاكَ ذِكْرَهَا مَنْظُومَةً فِي شَعْرٍ. ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ نَحْوِ التَّمِيمِيَّةِ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ عَامَّةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا التَّعْرِيفُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ ذَلِكَ.
وَنَقَلَ فِي الْفُصُولِ عَنْ قَاضِي خَانْ: إنْ حَصَلَ التَّعْرِيفُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَلَقَبِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْجَدِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ. وَفِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ: رَأَيْت بِخَطِّ ثِقَةٍ: لَوْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَفَخِذَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَدَّ تُقْبَلُ. وَشَرْطُ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَكَرَ لَقَبَهُ وَاسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ هَلْ يَكْفِي؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي. وَفِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ الْجَدِّ اخْتِلَافٌ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِدُونِ ذِكْرِ الْجَدِّ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، قَالَ: كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ. وَلَا يَخْفَى أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَنْ يَعْرِفَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى مِائَةِ جَدٍّ وَإِلَى صِنَاعَتِهِ وَمَحَلَّتِهِ بَلْ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ وَيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ اثْنَانِ فِي اسْمِهِمَا وَاسْمِ أَبِيهِمَا وَجَدِّهِمَا أَوْ صِنَاعَتِهِمَا وَلَقَبِهِمَا، فَمَا ذُكِرَ عَنْ قَاضِي خَانْ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَعَ ذِكْرِ الْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ.
الْأَوْجَهُ مِنْهُ مَا نَقَلَ فِي الْفُصُولِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي اللَّقَبِ مَعَ الِاسْمِ هَلْ هُمَا وَاحِدٌ أَوْ لَا، وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ فِي النَّسَبِ مَا ذُكِرَ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْبُلْدَانِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ نِسْبَةٌ إلَى جَدٍّ مَشْهُورٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْفَرْغَانِيَّةُ وَكَذَا الْبَلْخِيَّةُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) بِخِلَافِ الْأُوزْجَنْديَّةِ (وَقِيلَ) فِي النِّسْبَةِ (إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ) ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ ذِكْرَ الْجَدِّ (عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّ الْفَخِذَ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى) أَيْ الْجَدُّ الْأَعْلَى فِي ذَلِكَ الْفَخِذِ الْخَاصِّ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْخَاصِّ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْقُولِ فِي الْجَامِعِ: إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فُلَانَةُ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبَاهَا إلَى فَخِذِهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا قَالَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَدٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفُلَانِيَّةَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ إذَا كَانَ نِسْبَةٌ إلَى أَخَصِّ الْآبَاءِ.
 
[فَصْلٌ شَاهِدُ الزُّورِ]
(فَصْلٌ)
(7/474)
 
 
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ وَلَا أُعَزِّرُهُ. وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شَاهِدُ الزُّورِ إلَخْ) أَخَّرَ حُكْمَ شَهَادَةِ الزُّورِ لِأَنَّهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، إذْ الْأَصْلُ الصِّدْقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِطْرَةِ كَوْنُهَا عَلَى الْحَقِّ وَالِانْحِرَافُ عَنْهُ لِعَارِضٍ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَشَاهِدُ الزُّورِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الدَّعْوَى أَوْ الشَّاهِدَ الْآخَرَ أَوْ تَكْذِيبُ الْمُدَّعِي لَهُ إذْ قَدْ يَكُونُ مُحِقًّا فِي الْمُخَالَفَةِ أَوْ لِلْمُدَّعِي غَرَضٌ فِي أَذَاهُ.
وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِ وَاحِدٍ فَيَجِيءَ حَيًّا، وَلَوْ قَالَ غَلِطْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ قِيلَ هُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ شَاهِدَ زُورٍ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُعَزَّرُ بِتَشْهِيرِهِ عَلَى الْمَلَإِ فِي الْأَسْوَاقِ لَيْسَ غَيْرُ (وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا أُعَزِّرُهُ لَا أَضُرُّ بِهِ. فَالْحَاصِلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَعْزِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَشْهِيرِ حَالِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرْبِ خُفْيَةً أَوْ هُمَا أَضَافَا إلَى ذَلِكَ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَبِقَوْلِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَمَالِكٌ (لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا) رَوَاهُ ابْن أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُطَالُ حَبْسُهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.
وَقَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ. أَخْبَرَنِي أَبُو الْأَحْوَصِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَ بِشَاهِدِ الزُّورِ أَنْ يُسَخَّمَ وَجْهُهُ وَتُلْقَى عِمَامَتُهُ فِي عُنُقِهِ وَيُطَافُ بِهِ فِي الْقَبَائِلِ.
فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِمَّنْ يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ظَاهِرٌ، أَمَّا مَنْ لَا يَرَاهُ فَبِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ النَّكِيرِ فِيمَا فَعَلَ عُمَرُ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُتَّجَهُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ النَّكِيرُ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا السُّكُوتِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ قَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَا يَسْكُتُ» وَقَرَنَ تَعَالَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشِّرْكِ فَقَالَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً وَلَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ، وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ وَهُوَ لَا يَنْفِيهِ، بَلْ قَالَ بِهِ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ لَكِنَّهُ يَنْفِي الزِّيَادَةَ فِيهِ بِالضَّرْبِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَنْفِي ضَرْبَهُ وَهُمَا يُثْبِتَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ
(7/475)
 
 
وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ. وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيَكْتَفِي بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَحَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
زِيَادَةً فِي التَّعْزِيرِ فَلْيَكُنْ إذْ قَدْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فِيهِ بِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شُرَيْحًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ) رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ شَاهِدَ الزُّورِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ قَالَ لِلرَّسُولِ قُلْ لَهُمْ إنَّ شُرَيْحًا يُعَرِّفُكُمْ وَيَقُولُ لَكُمْ إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ أَرْسَلَ بِهِ إلَى مَجْلِسِ قَوْمِهِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا فَقَالَ لِلرَّسُولِ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.
وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ شَاهِدَ الزُّورِ إلَى مَسْجِدِ قَوْمِهِ أَوْ إلَى السُّوقِ وَيَقُولُ إنَّا زَيَّفْنَا شَهَادَةَ هَذَا. وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يَكْتُبُ اسْمَهُ عِنْدَهُ.
وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ بِشَاهِدِ الزُّورِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ وَكِيعٍ وَأَبِي حُصَيْنٍ سُفْيَانَ. وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِهِ بَلْ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفِي هَذَا أَنْ يَقُولَ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ.
ثُمَّ وَجَدْنَا هَذَا الْمُحْتَمَلَ مَرْوِيًّا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقُ: أَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ الْجَعْدِ بْنِ ذَكْوَانَ قَالَ: أُتِيَ شُرَيْحُ بِشَاهِدِ زُورٍ فَنَزَعَ عِمَامَتَهُ عَنْ رَأْسه وَخَفَقَهُ بِالدُّرَّةِ خَفَقَاتٍ وَبَعَثَ بِهِ إلَى مَسْجِدٍ يَعْرِفُهُ النَّاسُ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ الضَّرْبُ وَقَدْ قُلْنَا إنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ شَاهِدُ الزُّورِ بِإِقْرَارِهِ فَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَدْرِيَ شَاهِدُ الزُّورِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ فَرَجَعَ، فَحِينَ تَرَتَّبَ عَلَى رُجُوعِهِ الضَّرْبُ وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي النُّفُوسِ يَكُونُ صَارِفًا لَهُ عَنْ الرُّجُوعِ وَحَامِلًا عَلَى التَّمَادِي فَوَجَبَ أَنْ يُتْرَكَ وَيُكْتَفَى بِمَا ذَكَرْت مِنْ التَّعْزِيرِ، هَذَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا بِالنَّقْلِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي نَفْيِهِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَعْنًى آخَرَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ضَرْبِ عُمَرَ
(7/476)
 
 
ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَنْقُولٌ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا، وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا، وَيَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا.
وَالتَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْزِيرِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: شَاهِدَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَمْ يُضْرَبَا وَقَالَا يُعَزَّرَانِ) وَفَائِدَتُهُ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ هُوَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالتَّسْخِيمِ كَانَ سِيَاسَةً، فَإِذَا رَأَى الْحَاكِمُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ يُرَدُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِ عُمَرَ بِهِ إلَى عُمَّالِهِ فِي الْبِلَادِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى السِّيَاسَةِ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ إلَى الْحُدُودِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجِيزُهُ، وَقَدْ أَجَازَ عَالَمُ الْمَذْهَبِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَبْلُغَ بِهِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَتِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ فَجَازَ كَوْنُ رَأْيِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَلِكَ.
وَأَمَّا كَوْنُ التَّسْخِيمِ مُثْلَةً مَنْسُوخَةً فَقَدْ يَكُونُ رَأْيُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُثْلَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْبَدَنِ وَيَدُومُ، لَا بِاعْتِبَارِ عَرَضٍ يُغْسَلُ فَيَزُولُ
(7/477)
 
 
(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ) (قَالَ: إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ شَهِدْت فِي هَذِهِ بِالزُّورِ وَلَا أَرْجِعُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ لَا يُعَزَّرُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ.
فَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْزِيرِ الِانْزِجَارُ وَقَدْ انْزَجَرَ بِدَاعِي اللَّهِ تَعَالَى. وَجَوَابُهُمَا فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالتَّسْخِيمِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ: يُقَالُ سَخَّمَ وَجْهَهُ، إذَا سَوَّدَهُ مِنْ السُّخَامِ وَهُوَ سَوَادُ الْقِدْرِ، وَقَدْ جَاءَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْأَسْحَمِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ. وَفِي الْمُغْنِي: وَلَا يُسَحَّمُ وَجْهُهُ بِالْخَاءِ وَالْحَاءِ
 
[كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ]
(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ) لَمَّا كَانَ هَذَا إيجَابَ رَفْعِ الشَّهَادَةِ وَمَا تَقَدَّمَ إيجَابَ إثْبَاتِهَا فَكَانَا مُتَوَازِيَيْنِ فَتَرْجَمَ هَذَا بِالْكِتَابِ كَمَا تَرْجَمَ ذَاكَ لِلْمُوَازَاةِ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِهَذَا أَبْوَابٌ لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَسَائِلِهِ لِيَكُونَ كِتَابًا كَمَا لِذَلِكَ وَلِتَحَقُّقِهِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، إذْ لَا رَفْعَ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّ وُجُودَهُ بَعْدَهُ وَخُصُوصَ مُنَاسَبَتِهِ لِشَهَادَةِ الزُّورِ هُوَ أَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَّا لِتَقَدُّمِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً (قَوْلُهُ إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ سَقَطَتْ) عَنْ الِاعْتِبَارِ فَلَا يُقْضَى بِهَا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ تَنَاقَضَ حَيْثُ قَالُوا نَشْهَدُ بِكَذَا لَا نَشْهَدُ بِهِ وَلَا يُقْضَى بِالْمُتَنَاقِضِ، وَلِأَنَّهُ أَيْ كَلَامَهُ الَّذِي نَاقَضَ لَهُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي احْتِمَالِهِ الصِّدْقَ كَالْأَوَّلِ، فَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَوَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا.
قَالُوا: وَيُعَزِّرُ الشُّهُودَ سَوَاءً رَجَعُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ لِأَنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ الزُّورِ إنْ تَعَمَّدَهُ، أَوْ التَّهَوُّرِ وَالْعَجَلَةِ إنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ
(7/478)
 
 
بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ) لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِمْ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ (وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ) لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
حَدٌّ مُقَدَّرٌ (قَوْلُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمْ لَمْ يُتْلِفُوا شَيْئًا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ فَإِنْ حُكِمَ إلَخْ) إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ كَلَامِهِمْ الْأَوَّلِ، وَلَا الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ الثَّانِي فَتَعَارَضَا، وَلَا تَرْجِيحَ قَبْلَ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْكَلَامَيْنِ فَلَا يُحْكَمُ بِأَحَدِهِمَا، وَبَعْدَهُ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِحُكْمِهِ وَقَعَ فِي حَالٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ فَلَا يُنْقَضُ الْأَقْوَى بِالْأَدْنَى، لَكِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُتْلِفِينَ بِسَبَبِ لُزُومِ حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ: أَعْنِي اتِّصَالَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَبِالرُّجُوعِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِهِ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْإِتْلَافِ كَانَ تَعَدِّيًا لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَالتَّسَبُّبُ فِي الْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا سَبَبٌ لِلضَّمَانِ.
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلًا يَقُولُ: يَنْظُرُ إلَى حَالِ الشُّهُودِ، إنْ كَانَ حَالُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ فِي الْعَدَالَةِ صَحَّ رُجُوعُهُمْ فِي حَقِّ نَفْسِهِمْ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَيُعَزَّرُونَ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ كَحَالِهِمْ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ دُونَهُ يُعَزَّرُونَ، وَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشَّاهِدِ.
وَهَذَا قَوْلُ أُسْتَاذِهِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ. ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا يُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَهُوَ قَوْلُهُمَا (قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ) سَوَاءً كَانَ هُوَ الْقَاضِيَ الْمَشْهُودَ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ
(7/479)
 
 
لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي أَيَّ قَاضٍ كَانَ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ.
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا لَا يَحْلِفَانِ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِرُجُوعِهِمَا وَيُضَمِّنَهُمَا الْمَالَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ (وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا) أَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا (لَا يَحْلِفَانِ وَكَذَا) لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا الرُّجُوعِ (لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا) وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِلْزَامُ الْيَمِينِ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى دَعْوًى صَحِيحَةٍ.
ثُمَّ قَالَ (حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ) فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقْيِيدِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ، وَنُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ. وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ تَوَقُّفَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ وَبِالضَّمَانِ، وَتَرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُصَنِّفِي الْفَتَاوَى هَذَا الْقَيْدَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إمَّا تَرَكَهُ تَعْوِيلًا عَلَى هَذَا الِاسْتِبْعَادِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ شَاهِدٌ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ وَبِالْتِزَامِ الْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ،
(7/480)
 
 
(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِهَذَا الرُّجُوعِ، وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ قَاضٍ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا صَحَّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ هَذَا رُجُوعًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي لَا الَّذِي أَسْنَدَ رُجُوعَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ جَحَدَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِمَا وَيَقْضِي بِالضَّمَانِ عَلَيْهِمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِاشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ، فَكَمَا اُشْتُرِطَ لِلشَّهَادَةِ الْمَجْلِسُ كَذَلِكَ لِفَسْخِهَا، وَعَلَى الْمُلَازَمَةِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ مَعَ إبْدَاءِ الْفَرْقِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَجْلِسِ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ عِنْدَهُ بِالضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ يَتَحَقَّقُ سَبَبُ الضَّمَانِ مِنْهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهِ وُجُودُ الْمَبِيعِ فَكَذَا فِي فَسْخِهِ، أَوْ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُلَازَمَةِ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ أَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَهُوَ التَّرَادُّ، وَالتَّرَادُّ يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِهِ، بِخِلَافِ حُكْمِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ الضَّمَانُ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مَعَ ثُبُوتِهِ دُونَ الْمَجْلِسِ. ثُمَّ هُوَ قَدْ أَوْرَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الِابْتِدَاءِ شَرْطُ الْبَقَاءِ فِي السَّلَمِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِابْتِدَائِهِ حُضُورُ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ فَسْخِهِ. وَأَجَابَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّ الِابْتِدَاءَ لَا يُوجَدُ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ كَيْ لَا يَلْزَمَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي فَسْخِهِ فَلِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي فَسْخِهِ مَا شُرِطَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْمَجْلِسِ ابْتِدَاءٌ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ. ثُمَّ تَمْهِيدُ الْجَوَابِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ لَا يُنَاسِبُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ الرَّفْعُ. نَعَمْ الرَّفْعُ يُرَدُّ عَلَى حَالَةِ بَقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِهَا، وَلَوْ تَسَهَّلْنَا إلَى جَعْلِ ذَلِكَ بَقَاءَ نَفْسِ الشَّهَادَةِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ شَرْطًا لِبَقَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ أَرْخَيَا الْعَنَانَ فِي الْآخَرِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَشْرُوطُ لِلْبَقَاءِ الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ، وَالْمَجْلِسُ الْمَشْرُوطُ هُنَا مَجْلِسٌ آخَرُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ وَنَقْضٌ لِلشَّهَادَةِ فَكَانَ مُقَابِلًا لَهَا فَاخْتَصَّ بِمَوْضِعِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْعُ الْمُلَازَمَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَمَّا كَانَا مُتَضَادَّيْنِ اُشْتُرِطَ لِلتَّضَادِّ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا شَرْطٌ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَضَادَّيْنِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ شَرْطٍ لِكُلٍّ مِنْ الشَّهَادَةِ وَنَقْضِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ عَنْ ذَنْبِ الْكَذِبِ وَكَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْتَصُّ التَّوْبَةُ عَنْهُ بِمَجْلِسِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمٍ فِيهِ فَبَيَّنُوا لَهُ مُلَازَمَةً شَرْعِيَّةً بِحَدِيثِ «مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَوْصِنِي، فَقَالَ: عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى مَا اسْتَطَعْت، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا عَمِلْت شَرًّا فَأَحْدِثْ تَوْبَةَ السِّرِّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ بِالْعَلَانِيَةِ» وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِعْلَانِ فِي مَحَلِّ الذَّنْبِ بِخُصُوصِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بَلْ فِي مِثْلِهِ مِمَّا فِيهِ عَلَانِيَةٌ وَهُوَ إذَا أَظْهَرَ الرُّجُوعَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُعْلِنًا
 
(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ وَلَا
(7/481)
 
 
سَبَّبَ الضَّمَانَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَقَدْ سَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ. قُلْنَا: تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ، وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ وَتَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ التَّسْبِيبُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عِبْرَةَ بِالتَّسَبُّبِ، وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ. قُلْنَا: الْمُبَاشِرُ الْقَاضِي وَالْمُدَّعِي. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَضَاءِ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِافْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَإِذَا أَلْجَأَهُ الشَّرْعُ لَا يَضْمَنُهُ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ قَبُولِ الْقَضَاءِ مِنْ أَحَدٍ.
وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلِأَنَّهُ أَخَذَ بِحَقٍّ ظَاهِرٍ مَاضٍ لِأَنَّ خَبَرَ الرُّجُوعِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِيَنْقُضَ الْحُكْمَ، وَإِذَا لَمْ يَنْقُضْ لَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ عَلَى إعْطَاءِ مَا أَخَذَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَاضِي شَرْعًا. وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَى الْمُبَاشِرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِالتَّسَبُّبِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الشُّهُودَ يَضْمَنُونَ كَمَذْهَبِنَا، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَنْقُضُ. وَلَا يَرُدُّ الْمَالَ مِنْ الْمُدَّعِي وَلَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ وَهُوَ عَيْنُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ حَالُهُمَا وَقْتَ الرُّجُوعِ مِثْلَهُ عِنْد الْأَدَاءِ. وَقَدْ نُقِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُقْتَصُّ وَالْقَاضِي. وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِشَاهِدَيْ السَّرِقَةِ بَعْدَمَا قَطَعَ وَرَجَعُوا وَجَاءُوا بِآخَرَ وَقَالُوا هَذَا الَّذِي سَرَقَ: لَوْ عَلِمْت أَنّ