المحرر الوجيز لابن عطية ج ص معتمد 012

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
خفي منه وما ظهر. وقالت فرقة بل قوله بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ تعم جميع المعاصي، وكذلك الفاحشة كيف وردت. ولما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله تعالى ونواهيه قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب، والإشارة بالفاحشة إلى الزنا وغيره، وقرأ ابن كثير وشبل وعاصم «مبيّنة» بالفتح في الياء، وقرأ نافع وأبو عمرو وقتادة «مبينة» بكسر الياء، وقرأت فرقة «يضعف» بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه خارجة «نضاعف» بالنون المضمومة ونصب «العذاب» وهي قراءة ابن محيصن، وهذه مفاعلة من واحد كطارقت النعل وعاقبت اللص، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «يضاعف» بالياء وفتح العين، «العذاب» رفعا، وقرأ أبو عمرو «يضعّف» على بناء المبالغة بالياء «العذاب» رفعا وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى، وقرأ ابن كثير وابن عامر «نضعّف» بالنون وكسر العين المشددة «العذاب» نصبا وهي قراءة الجحدري. وقوله ضِعْفَيْنِ معناه أن يكون العذاب عذابين، أي يضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر مثله، وقال أبو عبيدة وأبو عمرو، وفيما حكى الطبري عنهما، بل يضاعف إليه عذابان مثله فتكون ثلاثة أعذبة وضعفه الطبري، وكذلك هو غير صحيح وإن كان له باللفظ تعلق احتمال ويكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة، والإشارة بذلك إلى تضعيف العذاب. ويَقْنُتْ معناه يطيع ويخضع بالعبودية قاله الشعبي وقتادة، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يقنت» بالياء، «وتعمل» بالتاء، و «نؤتها» بالنون، وهي قراءة الجمهور، قال أبو علي أسند «يقنت» إلى ضمير فلما تبين أنه المؤنث حمل فيما يعمل على المعنى، وقرأ حمزة والكسائي كل الثلاثة المواضع بالياء حملا في الأولين على لفظ مَنْ وهي قراءة الأعمش وأبي عبد الرحمن وابن وثاب، وقرأ الأعمش «فسوف يؤتها الله أجرها» ، و «الاعتداد» التيسير والإعداد، و «الرزق الكريم» الجنة، ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي، أي أن رزقها في الدنيا على الله وهو كريم من حيث ذلك هو حلال وقصد وبرضى من الله في نيله، وقال بعض المفسرين الْعَذابُ الذي توعد به ضِعْفَيْنِ هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة على ما هي عليه حال الناس بحكم حديث عبادة بن الصامت، وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره. ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد، بل هن أفضل بشرط التقوى لما منحهن من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في لحفهن، وإنما خصص لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله، وقد أشار إلى هذا قتادة ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول، و «لا تخضعن» معناه ولا تلن، وقد يكون الخضوع في القول في نفس الألفاظ ورخامتها، وإن لم يكن المعنى مريبا، والعرب تستعمل لفظة الخضوع بمعنى الميل في الغزل ومنه قول ليلى الأخيلية حين قال لها الحجاج: هل رأيت قط من توبة شيئا تكرهينه، قالت: لا والله أيها الأمير إلا أنه أنشدني يوما شعرا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشدته: [الطويل]
(4/382)
1
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
الحكاية، وقال ابن زيد: خضوع القول ما يدخل في القلوب الغزل، وقرأ الجمهور «فيطمع» بالنصب على أنه نصب بالفاء في جواب النهي، وقرأ الأعرج وأبان بن عثمان «فيطمع» بالجزم وكسر للالتقاء وهذه فاء عطف محضة وكأن النهي دون جواب ظاهر، وقراءة الجمهور أبلغ في النهي لأنها تعطي أن الخضوع سبب الطمع، قال أبو عمرو الداني قرأ الأعرج وعيسى بن عمر «فيطمع» بفتح الياء وكسر الميم، و «المرض» في هذه الآية قال قتادة هو النفاق، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
قرأ الجمهور «وقرن» بكسر القاف، وقرأ عاصم ونافع «وقرن» بالفتح، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار تقول وقر يقر فقرن مثل عدن أصله أو قرن، ويصح أن تكون من القرار وهو قول المبرد تقول قررت بالمكان بفتح القاف والراء أقر فأصله أقررن حذفت الراء الواحدة تخفيفا، كما قالوا في ظللت ظلت ونقلوا حركتها إلى القاف واستغني عن الألف، وقال أبو علي: بل أعل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الراء بعدها، وأما من فتح القاف فعلى لغة العرب قررت بكسر الراء أقر بفتح القاف في المكان وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف، وذكرها الزجاج وغيره، وأنكرها قوم، منهم المازني وغيره، قالوا وإنما يقال قررت بكسر الراء من قرت العين، وأما من القرار فإنما هو من قررت بفتح الراء، وقرأ عاصم «في بيوتكن» بكسر الباء، وقرأ ابن أبي عبلة «واقررن» بألف وصل وراءين الأولى مكسورة، فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها، وذكر أن سودة قيل لها لم لا تحجين ولا تعمرين كما يفعل أخواتك، فقالت قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي قال الراوي: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها.
قال القاضي أبو محمد: وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل وحينئذ قال لها عمار: إن الله أمرك أن تقري في بيتك، و «التبرج» ، إظهار الزينة والتصنع بها ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون، واختلف الناس في الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى فقال الحكم بن عيينة ما بين آدم ونوح وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة، وقال الكلبي وغيره ما بين نوح وإبراهيم، وقال ابن عباس ما بين نوح وإدريس وذكر قصصا، وقالت فرقة ما بين موسى وعيسى، وقال عامر الشعبي ما بين عيسى ومحمد، وقال أبو العالية هو زمان سليمان وداود كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين.
(4/383)
1
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام فقالوا جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في الْجاهِلِيَّةِ يقول إلى غير هذا، والرِّجْسَ اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أَهْلَ الْبَيْتِ، ونصب أَهْلَ الْبَيْتِ على المدح أو على النداء المضاف، أو بإضمار أعني، واختلف الناس في أَهْلَ الْبَيْتِ من هم، فقال عكرمة ومقاتل وابن عباس هم زوجاته خاصة لا رجل معهن، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة: هي الجمهور أَهْلَ الْبَيْتِ علي وفاطمة والحسن والحسين، وفي هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وفاطمة والحسن والحسين» رضي الله عنهم، ومن حجة الجمهور قوله عَنْكُمُ ويُطَهِّرَكُمْ بالميم، ولو كان النساء خاصة لكان عنكن.
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر إليّ أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة، ف أَهْلَ الْبَيْتِ زوجاته وبنته وبنوها وزوجها، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من أَهْلَ الْبَيْتِ لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن، أما أن أم سلمة قالت نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال «هؤلاء أهل بيتي» ، وقرأ الآية وقال اللهم «أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» ، قالت أم سلمة فقلت: وأنا يا رسول الله، فقال «أنت من أزواج النبي وأنت إلي خير» ، وقال الثعلبي قيل هم بنو هاشم فهذا على أن الْبَيْتِ يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 34 الى 35]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
اتصال هذه الألفاظ التي هي وَاذْكُرْنَ تعطي أن أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] نساؤه، وعلى قول الجمهور هي ابتداء مخاطبة أمر الله تعالى أزواج النبي عليه السلام على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن، ولفظ الذكر هنا يحتمل مقصدين كلاهما موعظة وتعديد نعمة: أحدهما أن يريد
(4/384)
1
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
اذْكُرْنَ أي تذكرنه واقدرنه قدره وفكرن في أن من هذه حاله ينبغي أن تحسن أفعاله. والآخر أن يريد اذْكُرْنَ بمعنى احفظن واقرأن والزمنه الألسنة، فكأنه يقول واحفظوا أوامر الله ونواهيه، وذلك هو الذي يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ، وذلك مؤد بكن إلى الاستقامة، ووَ الْحِكْمَةِ هي سنة الله على لسان نبيه دون أن يكون في قرآن متلو، ويحتمل أن يكون وصفا للآيات، وفي قوله تعالى: لَطِيفاً تأنيس وتعديد لنعمه، أي لطف بكن في هذه النعمة، وقوله خَبِيراً تحذير ما، وقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية روي عن أم سلمة أنها قالت: إن سبب هذه الآية أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شيء ولا يذكرنا، فنزلت الآية في ذلك، وروى قتادة أن نساء من الأنصار دخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لهن: ذكركن الله في القرآن ولم يذكر سائر النساء بشيء فنزلت الآية في ذلك، وروي عن ابن عباس أن نساء النبي قلن ما له تعالى يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات، فنزلت الآية في ذلك، وبدأ تعالى بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصا وتنبيها على أنه عظم الإسلام ودعامته، و «القانت» : العابد المطيع، و «الصادق» معناه: فيما عوهد عليه أن يفي به ويكمله، و «الصابر» : عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط، و «الخاشع» : الخائف لله المستكين لربوبيته الوقور، و «المتصدق» : بالفرض والنفل، وقيل هي في الفرض خاصة، والأول أمدح، و «الصائم» كذلك: في الفرض والنفل، و «حفظ الفرج» هو:
من الزنا وشبهه وتدخل مع ذلك الصيانة من جميع ما يؤدي إلى الزنا أو هو في طريقه، وفي قوله:
الْحافِظاتِ حذف ضمير يدل عليه المتقدم تقديره والحافظاتها، وفي الذَّاكِراتِ أيضا مثله، و «المغفرة» هي ستر الله ذنوبهم والصفح عنها، و «الأجر العظيم» الجنة.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 37]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
قوله تعالى: وَما كانَ لفظه النفي ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا، وهذه العبارة «ما كان» و «ما ينبغي» ونحوها تجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60] ، وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ [الشورى: 51] ، وربما كان حظره بحكم شرعي كهذه الآية، وربما كان في المندوبات كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل ونحو هذا، وسبب هذه الآية فيما قال قتادة وابن عباس ومجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش فظنت أن الخطبة لنفسه فلما
(4/385)
1
بين أنه إنما يريدها لزيد بن حارثة كرهت وأبت فنزلت الآية فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته، وقال ابن زيد إنما نزلت بسبب أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، وقالا إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا غيره، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، والْخِيَرَةُ مصدر بمعنى التخير، وهذه الآية في ضمن قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] وهذه الآية تقوى في قوله تعالى:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68] أن تكون ما نافية لا مفعولة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى «أن تكون» بالتاء على لفظ الْخِيَرَةُ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن «أن يكون» على معنى الْخِيَرَةُ وأن تأنيثها غير حقيقي، وقوله في الآية الأخرى ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68] دون علامة تأنيث يقوي هذه القراءة التي بالياء، ثم توعد عز وجل وأخبر أن مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ، وهذا العصيان يعم الكفر فما دونه، وكل عاص يأخذ من الضلال بقدر معصيته، ثم عاتب تعالى نبيه بقوله: وَإِذْ تَقُولُ الآية، واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظما بالشرف قال له: اتق الله فيما تقول عنها وأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، وقالوا خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا، وقرأ ابن أبي عبلة «ما الله مظهره» ، وقال الحسن: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أشد عليه من هذه الآية، وقال هو وعائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه، وروى ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب زيدا في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال سبحان الله مقلب القلوب.
قال القاضي أبو محمد: وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها، وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها، ورووا عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: «اتق الله» أي في أقوالك و «أمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر قد أباحه الله تعالى له وإن قال أَمْسِكْ مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال، وقوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام وغير ذلك، وقوله: وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة، وزينب هي بنت جحش،
(4/386)
1
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنها ليست كحرمة النبوة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد: ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ، قال فذهبت ووليتها ظهري توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم وخطبتها ففرحت، وقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها، و «الوطر» : الحاجة والبغية، والإشارة هنا إلى الجماع، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم «وطرا زوجتكها» .
قال الفقيه الإمام القاضي: وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ [القصص: 7] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في الآيتين، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان غائبان فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون، وقوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور أي التي شأنها أن تفعل، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة: أنا التي سبقت صفتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة في سرقة حرير، وقالت زينب: أنا التي زوجني الله من فوق سبع سماوات.
وقال الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 44]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة، أعلمهم أنه لا حرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نيل ما فرض الله له وأباحه من تزويج زينب بعد زيد، ثم أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء من أن ينالوا ما أحل الله لهم، وحكى الثعلبي عن مقاتل وابن الكلبي أن الإشارة إلى داود عليه السلام حيث جمع الله بينه وبين من فتن بها، وسُنَّةَ نصب على المصدر أو على إضمار فعل تقديره الزم أو
(4/387)
1
نحوه. أو على الإغراء كأنه قال فعليه سنة الله، والَّذِينَ خَلَوْا هم الأنبياء بدليل وصفهم بعد بقوله الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ، وأَمْرُ اللَّهِ في الآية أي مأمورات الله والكائنات عن أمره فهي مقدورة، وقوله قَدَراً فيه حذف مضاف، أي ذا قدر، وقرأ ابن مسعود «الذين بلغوا رسالات الله، وقوله وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ تعريض بالعتاب الأول في خشية النبي عليه السلام الناس، ثم رد الأمر كله إلى الله وأنه المحاسب على جميع الأعمال والمعتقدات وَكَفى به لا إله إلا هو، ويحتمل أن يكون حَسِيباً بمعنى محسب أي كافيا، وقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ إلى قوله تعالى: كَرِيماً أذهب الله تعالى في هذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم من نقد تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب زوجة دعيه زيد بن حارثة لأنهم كانوا استعظموا أن تزوج زوجة ابنه، فنفى القرآن تلك البنوة وأعلم أن محمدا لم يكن في حقيقة أمره أبا أحد من رجال المعاصرين له، ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد فيحتاج إلى الاحتجاج بأمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين ومن احتج بذلك فإنه تأول نفي البنوة عنه بهذه الآية على غير ما قصد بها، وقرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس «ولكن رسول الله» بالرفع على معنى هو رسول الله، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج وعيسى «رسول الله» بالنصب على العطف على أَبا، وهؤلاء قرؤوا «ولكن» بالتخفيف، وقرأت فرقة «ولكنّ» بشد النون ونصب «رسول» على أنه اسم «لكنّ» والخبر محذوف، وقرأ عاصم وحده والحسن والشعبي والأعرج بخلاف «وخاتم» بفتح التاء بمعنى أنهم به ختموا فهو كالخاتم والطابع لهم، وقرأ الباقون والجمهور «خاتم» بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم أي جاء آخرهم، وروت عائشة أنه عليه السلام قال: «أنا خاتم الأنبياء» بفتح التاء، وروي عنه عليه السلام أنه قال: «أنا خاتم ألف نبي» ، وهذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وما ذكره القاضي ابن الطيب في كتابه المسمى بالهداية من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، وما ذكره الغزالي في هذه الآية وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد إلحاد عندي وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوءة، فالحذر الحذر منه والله الهادي برحمته، وقرأ ابن مسعود «من رجالكم ولكن نبينا ختم النبيين» ، قال الرماني ختم به عليه السلام الاستصلاح فمن لم يصلح به فميئوس من صلاحه، وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً والمقصد به هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح بمحمد وبما قدره في الأمر كله، ثم أمر تعالى عباده بأن يذكروه ذِكْراً كَثِيراً، وجعل تعالى ذلك دون حد ولا تقدير لسهولته على العبد ولعظم الأجر فيه، قال ابن عباس لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله، وقال الكثير أن لا تنساه أبدا، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون» ، وقوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أراد في كل الأوقات مجدد الزمان بطرفي نهاره وليله، وقال قتادة والطبري وغيره الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذه الآية مدنية فلا تعلق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أولا صلاتين في طرفي النهار، والرواية بذلك ضعيفة، والأصيل من العصر إلى الليل، ثم عدد تعالى على عباده
(4/388)
1
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
نعمته في الصلاة عليهم وصلاة الله تعالى على العبد هي رحمته له وبركته لديه ونشره عليه الثناء الجميل، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين، وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله كيف صلاة الله على عباده؟ قال «سبوح قدوس رحمتي سبقت غضبي» .
قال الفقيه الإمام القاضي: واختلف في تأويل هذا القول، فقيل إن هذا كله من كلام الله وهي صلاته على عباده، وقيل سبوح قدوس هو من كلام محمد تقدمت بين يدي نقطة باللفظ الذي هو صلاة الله وهو رحمتي سبقت غضبي، وقدم عليه السلام هذا من حيث فهم من السائل أنه توهم في صلاة الله تعالى على عباده وجها لا يليق بالله عز وجل، فقدم التنزيه لله والتعظيم بين يدي أخباره، وقوله لِيُخْرِجَكُمْ أي صلاته وصلاة ملائكته لكي يهديكم وينقذكم من الكفر إلى الإيمان، ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيسا لهم، وقوله يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ قيل يوم القيامة المؤمن تحييه الملائكة ب «السلام» ومعناه السلامة من كل مكروه، وقال قتادة يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام، أي سلمنا وسلمت من كل مخوف، وقيل تحييهم الملائكة يومئذ، و «الأجر الكريم» ، جنة الخلد في جواره تبارك وتعالى.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 49]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
هذه الآية فيها تأنيس للنبي عليه السلام وللمؤمنين وتكريم لجميعهم، وشاهِداً، معناه على أمتك بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم في تبليغ أنبيائهم ونحو ذلك ومُبَشِّراً معناه للمؤمنين، برحمة الله تعالى وبالجنة، وَنَذِيراً معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد، قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا فبعثهما إلى اليمن وقال «اذهبا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أنزل علي» وقرأ الآية. والدعاء إلى الله تعالى هو تبليغ التوحيد والأخذ به ومكافحة الكفرة.
وبِإِذْنِهِ معناه هنا بأمره إياك وتقديره ذلك في وقته وأوانه، وَسِراجاً مُنِيراً استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه فكأن المهديين به والمؤمنين يخرجون به من ظلمة الكفر، وقوله وَبَشِّرِ الواو عاطفة جملة على جملة والمعنى منقطع من الذي قبله، أمره الله تعالى بأن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله.
قال القاضي أبو محمد: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى لأن الله تعالى أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ عنده فَضْلًا كَبِيراً، وقد بين تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ
(4/389)
1
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
[الشورى: 22] ، فالآية التي في هذه السورة خبر والتي في حم عسق [الشورى: 1] تفسير لها، وقوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نهي له عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب وفي أشياء كانوا يدخلونها مدخل النصائح وهي غش إلى نحو هذا المعنى، وقوله تعالى:
وَدَعْ أَذاهُمْ يحتمل معنيين: أحدهما أن يأمره بترك أن يؤذيهم هو ويعاقبهم فكأن المعنى واصفح عن زللهم ولا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين وناسخه آية السيف، والمعنى الثاني أن يكون قوله وَدَعْ أَذاهُمْ بمعنى أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل، وهذا تأويل مجاهد. ثم أمره تعالى بالتوكل عليه، وأنسه بقوله وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا، ففي قوة الكلام وعد بنصر وتقدم القول في كَفى بِاللَّهِ، والوكيل الحافظ القائم على الأمر، ثم خاطب تعالى المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، واستدل بعض الناس بقوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وبمهلة ثم على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها فإن ذلك لا يلزمه، وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام، سمى البخاري منهم اثنين وعشرين، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم: إن طلاق المعينة الشخص أو القبيل أو البلد لازم قبل النكاح، فمنهم مالك وجميع أصحابه وجمع عظيم من علماء الأمة، وقرأ جمهور القراء «تمسوهن» ، وقرأ حمزة والكسائي وطلحة وابن وثاب «تماسوهن» والمعنى فيهما الجماع وهذه العدة إنما هي لاستبراء الرحم وحفظ النسب في الحمل، فمن لم تمس فلا يلزم ذلك فيها، وقرأ جمهور الناس «تعتدّونها» بشد الدال على وزن تفتعلونها من العدد، وروى ابن أبي بزة عن أبي بكر «تعتدونها» بتخفيف ضمة الدال من العدوان، كأنه قال فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن، والقراءة الأولى أشهر عن أبي بكر، وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة، ثم أمر تعالى بتمتيع المطلقة قبل البناء، واختلف الناس في المتعة، فقالت فرقة هي واجبة، وقالت فرقة هي مندوب إليها منهم مالك وأصحابه، وقالت فرقة المتعة للتي لم يفرض لها ونصف المهر للتي فرض لها، وقال سعيد بن المسيب: بل المتعة كانت لجميعهن بهذه الآية، ثم نسخت آية البقرة بالنصف لمن فرض لها ما تضمنته هذه الآية من المتعة.
وهذه الآية خصصت آيتين إحداهما، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، فخصصت هذه الآية من لم يدخل بها، وكذلك خصصت من ذوات الثلاثة الأشهر، وهن من قعدن عن المحيض، ومن لم يحضن من صغر المطلقات قبل البناء، و «السراح الجميل» هو الطلاق تتبعه عشرة حسنة وكلمة طيبة دون مشادة ولا أذى.
قوله عز وجل:
(4/390)
1
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
قرأ الجمهور «اللاتي» بالتاء من فوق، وقرأ الأعمش «اللايي» بياءين من تحت، وذهب ابن زيد والضحاك في تفسير قوله إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلى أن المعنى أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها وأباح له تعالى كل النساء بهذا الوجه وأباح له ملك اليمين وبنات العم والعمة والخال والخالة ممن هاجر معه، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفا وتنبيها منهن إذ قد تناولهن على تأويل ابن زيد قوله تعالى: أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، وأباح له الواهبات خاصة له فهو على تأويل ابن زيد إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى ذوات المحارم، لا سيما على ما ذكر الضحاك أن في مصحف ابن مسعود «وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك» ، ثم قال بعد هذه تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ [الأحزاب: 51] أي من هذه الأصناف كلها، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى:
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ [الأحزاب: 52] فيجيء هذا الضمير مقطوعا من الأول عائدا على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك، وتأول غير ابن زيد قوله أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أن الإشارة إلى عائشة وحفصة ومن في عصمته ممن تزوجها بمهر، وأن ملك اليمين بعد حلال له، وأن الله تعالى أباح له مع المذكورات بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه والواهبات خاصة له، فيجيء الأمر على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء وكان ذلك يشق على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى سر نساؤه بذلك.
قال الفقيه الإمام القاضي: لأن ملك اليمين إنما يفعله في النادر من الأمر وبنات العم والعمات والخال والخالات يسير، ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، لا سيما وقد قيد ذلك شرط الهجرة معه والواهبة أيضا من النساء قليل، فلذلك سر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بانحصار الأمر، ثم يجيء قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ [الأحزاب: 51] إشارة إلى من تقدم ذكره، ثم يجيء قوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الأحزاب: 52] إشارة إلى أزواجه اللاتي تقدم النص عليهن بالتحليل فيأتي الكلام متسقا مطردا أكثر من اطراده على التأويل الأول، و «الأجور» المهور، وقوله مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي رده إليك في الغنائم، يريد وعلى أمتك لأنه فيء عليه، و «ملك اليمين» أصله الفيء من الغنائم أو ما تناسل ممن سبي والشراء من الحربيين كالسباء، ومباح السباءة هو من الحربيين، ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه، ويسمى سبي الخبثة، وقوله تعالى: وَبَناتِ عَمِّكَ الآية، يريد قرابته، وروي عن أم هاني بنت أبي طالب أنها قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم نزلت هذه الآية فحرمني عليه لأني لم أهاجر معه وإنما كنت من الطلقاء، وقرأ جمهور الناس «إن وهبت» بكسر الألف وهذا يقتضي استئناف الأمور، إن وقع فهو حلال له، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين.
(4/391)
1
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد، وقرأ الحسن البصري وأبيّ بن كعب والثقفي والشعبي، «أن وهبت» بفتح الألف فهي إشارة إلى ما وقع من الهبات قبل نزول الآيات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكسر الألف يجري مع تأويل ابن زيد الذي قدمناه، وفتح الألف يجري مع التأويل الآخر، ومن قرأ بفتح الألف قال الإشارة إلى من وهب نفسه من النساء للنبي صلى الله عليه وسلم على الجملة، قال ابن عباس فيما حكى الطبري هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين هي أم شريك، وقال عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة أم المساكين، وقال أيضا عروة بن الزبير خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمي ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وامرأة مؤمنة وهبت» دون «إن» ، وقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل، وأجمع الناس على أن ذلك لا يجوز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف أنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
قال الفقيه الإمام القاضي: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطها هي أفعال النكاح بعينه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويظهر من لفظ أبيّ بن كعب أن معنى قوله خالِصَةً لَكَ يراد به جميع هذه الإباحة لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع، وقوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ يريد الولي والشاهدين والمهر والاقتصار على أربع قاله قتادة ومجاهد، وقال أبيّ بن كعب هو مثنى وثلاث ورباع، وقوله تعالى لِكَيْلا أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك في شيء، ثم أنس تعالى الجميع من المؤمنين بغفرانه ورحمته.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 51 الى 52]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
تُرْجِي معناه تؤخر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «ترجيء» بالهمز، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «ترجي» بغير همز وهما لغتان بمعنى، وَتُؤْوِي معناه تضم وتقرب وقال المبرد هو معدى رجى يرجو تقول رجى الرجل وأرجيته جعلته ذا رجاء، ومعنى هذه الآية أن الله فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء، والضمير في مِنْهُنَّ عائد على من تقدم ذكره من الأصناف حسب الخلاف المذكور في ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني، منها أن معناه في القسم أن تقرب من شئت في
(4/392)
1
القسمة لها من نفسك، وتؤخر عنك من شئت، وتكثر لمن شئت، وتقل لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله تعالى لك وقضاؤه زالت الأنفة والتغاير عنهن ورضين وقرت أعينهن وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك.
قال الفقيه الإمام القاضي: لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايرا وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات، وقال أبو رزين وابن عباس المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته وإمساك من شاء، قال أبو زيد: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له أقسم لنا ما شئت فكان ممن أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة وآوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى في تزويج من شاء من النساء وترك من شاء، وقالت فرقة المعنى في ضم من شاء من الواهبات وتأخير من شاء.
قال القاضي أبو محمد: وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة له، قالت عائشة: لما قرأ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
قال الفقيه الإمام القاضي: وذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ له إلى أن قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الآية ناسخ لقوله لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية، وقال ليس في كتاب الله تعالى ناسخ تقدم المنسوخ إلا هذا.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكلامه يضعف من جهات، وقوله عز وجل وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ يحتمل معاني: أحدها أن تكون مَنْ للتبعيض، أي من إرادته وطلبته نفسه ممن قد كنت عزلته فلا جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليه بعد عزلته، ووجه ثان وهو أن يكون مقويا ومؤكدا لقوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ وَتُؤْوِي مَنْ تَشاءُ فيقول بعد وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فذلك سواء فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في جمعه، وهذا كما تقول من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك شاكر وأنت تريد من لقيك ومن لم يلقك، وهذا المعنى يصح أن يكون في معنى القسم، ويصح أن يكون في الطلاق والإمساك وفي الواهبات، وبكل واحد قالت فرقة. وقرأ جمهور الناس «ذلك أدنى أن تقر أعينهن» برفع «الأعين» ، وقرأ ابن محيصن «أن تقر أعينهن» بضم التاء ونصب «الأعين» ، وقوله بِما آتَيْتَهُنَّ أي من نفسك ومالك، وقرأ جمهور الناس «كلّهن» بالرفع على التأكيد للضمير في يَرْضَيْنَ ولم يجوز الطبري غير هذا، وقرأ جويرية بن عابد بالنصب على التأكيد في آتَيْتَهُنَّ.
قال الفقيه الإمام القاضي: والمعنى أنهن يسلمن لله ولحكمه وكن قبل لا يتسامحن بينهن للغيرة ولا يسلمن للنبي صلى الله عليه وسلم أنفة، نحا إلى هذا المعنى ابن زيد وقتادة، وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خبر عام، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون. وقوله حَلِيماً صفة تقتضي صفحا وتأنيسا في هذا المعنى، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب، واتفقت الروايات على أنه
(4/393)
1
عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالفضل، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمنا لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قيل كما قدمنا إنها خطرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كنّ عنده، فكأن الآية ليست متصلة بما قبلها، قال ابن عباس وقتادة لما هجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، وآلى منهن ثم خرج وخيرهن فاخترن الله ورسوله، جازاهن الله بأن حظر عليه النساء غيرهن وقنعه بهن وحظر عليه تبديلهن، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء، وقال أبيّ بن كعب وعكرمة قوله لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد الأصناف التي سميت، ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا تأويل فيه بعد، وإن كان روي عن مجاهد، وكذلك روي أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات، وهذا قول أبي رزين وسعيد بن جبير، وقال أبيّ بن كعب مِنْ بَعْدُ يعني لا يحل لك العمات والخالات ونحو ذلك، وأمر مع ذلك بأن لا يتبدل بأزواجه التسع منه من أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن قاله الضحاك، وقيل بمن تزوج وحصل في عصمته أي لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته قال ابن زيد وهذا شيء كانت العرب تفعله.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول ضعيف أنكره الطبري وغيره في معنى الآية، وما فعلت العرب قط هذا، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه الحميراء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة، فقال عيينة: يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة العرب جمالا ونسبا فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول، وقرأ أبو عمرو بخلاف «لا تحل» بالتاء على معنى جماعة النساء، وقرأ الباقون «لا يحل» بالياء من تحت على معنى جميع النساء وهما حسنان لأن تأنيث لفظ النساء ليس بحقيقي، وقوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، قال ابن عباس نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس أعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب وفي هذه اللفظة أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما» وقال عليه السلام لآخر: «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» ، قال الحميدي يعني «صغرا» ، وقال سهل بن أبي حثمة رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك على أجار من أجاجير المدينة فقلت له أتفعل هذا؟ فقال نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها» ، وقوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ما في موضع رفع بدل من النِّساءُ، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، وفي النصب ضعف، ويجوز أن تكون ما مصدرية والتقدير إلا ملك يمينك وملك بمعنى مملوك، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول، و «الرقيب» فعيل بمعنى فاعل أي راقب.
قوله عز وجل:
(4/394)
1
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس والثانية في أمر الحجاب، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس، فلما طعموا، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك، قال أنس بن مالك: فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل، ونزلت الآية بسبب ذلك، وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي: إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة والأول أشهر، وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون، وقال إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفا، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولا فناداها عمر قد عرفناك يا سودة حرصا على الحجاب.
وقالت له زينب بنت جحش: عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث: منها الحجاب، ومقام إبراهيم، وعسى ربه إن طلقكن الحديث، وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام، وناظِرِينَ معناه منتظرين وإِناهُ مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آنا، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل خاتمة تمام
(4/395)
1
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه» وأمالها حمزة والكسائي، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عند الإذن، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر، وقوله وَلا مُسْتَأْنِسِينَ عطف على قوله غَيْرَ ناظِرِينَ وغَيْرَ منصوبة على الحال من الكاف والميم في لَكُمْ أي ناظرين ولا مستأنسين، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم» ، وقرأ الأعمش «آناءه» على جمع «أنى» بمدة بعد النون، وقرأت فرقة «فيستحيي» بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة، وقرأت فرقة «فيستحيي» بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها، وقوله وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي معناه لا يقع منه ترك قوله الْحَقِّ ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر، وقوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً الآية هي آية الحجاب، و «المتاع» عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا، وقوله ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال، وقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله.
قال الفقيه الإمام القاضي: لله در ابن عباس، وهذا عندي لا يصح على طلحة، الله عاصمه منه، وروي أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر:
مهلا يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجابا وقد أبانتها منه ردتها مع قومها، فسكن أبو بكر، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 55]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً توبيخ ووعيد لمن تقدم به التعريض في الآية قبلها ممن أشير إليه بقوله ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ [الأحزاب: 53] ومن أشير إليه في
(4/396)
1
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
قوله وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] فقيل لهم في هذه إن الله يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها، ثم ذكر تعالى الإباحة فيمن سمي من القرابة إذ لا تقضي أحوال البشر إلا مداخلة من ذكر وكثرة ترداده وسلامة نفسه من أمر الغزل لما تتحاماه النفوس من ذوات المحارم، فمن ذلك الآباء والأولاد والإخوة وأبناؤهم وأبناء الأخوات، وقوله: وَلا نِسائِهِنَّ دخل فيه الأخوات والأمهات وسائر القرابات ومن يتصل من المتصرفات لهن، هذا قول جماعة من أهل العلم، ويؤيد قولهم هذه الإضافة المخصصة في قوله نِسائِهِنَّ وقال ابن زيد وغيره إنما أراد جميع النساء المؤمنات وتخصيص الإضافة إنما هو في الإيمان، وقوله تعالى: وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قالت طائفة من الإماء دون العبيد، وقالت طائفة من العبيد والإماء، ثم اختلفت هذه الطائفة، فقالت فرقة: ما ملكت من العبيد دون من ملك سواهن، وقالت فرقة: بل من جميع العبيد كان في ملكهن أو في ملك غيرهن، والكاتب إذا كان معه ما يؤدي فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الحجاب دونه، وفعلت ذلك أم سلمة مع مكاتبها نبهان، ذكره الزهراوي، وقالت فرقة دخل الأعمام في الآباء، وقال الشعبي وعكرمة لم يذكرهم لإمكان أن يصفوا لأبنائهم، وكذلك الخال وكرها أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها، واختلف المتأولون في المعنى الذي رفع فيه الجناح بهذه الآية فقال قتادة هو الحجاب، أي أبيح لهذه الأصناف الدخول على النساء دون حجاب ورؤيتهن، وقال مجاهد ذلك في رفع الجلباب وإبداء الزينة، ولما ذكر تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة على جملة وهذا في نهاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال اقتصرن على هذا وَاتَّقِينَ اللَّهَ تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره، ثم توعد تعالى بقوله وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام وذكر منزلته منه وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء في أمر أزواجه ونحو ذلك، وقوله يُصَلُّونَ، قالت فرقة الضمير فيه لله وللملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب عند النبي صلى الله عليه وسلم: من أطاع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد ضل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس الخطيب أنت» قالوا لأنه ليس لأحد من البشر أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير واحد ولله تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء، وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره إن الله يصلي على النبي وملائكته يصلون، ودل الظاهر من القول على ما ترك، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وقالت فرقة: بل جمع الله
(4/397)
1
تعالى الملائكة مع نفسه في ضمير وذلك جائز للبشر فعله، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس الخطيب أنت» لهذا المعنى وإنما قاله لأن الخطيب وقف على «ومن يعصهما» وسكت سكتة، ومما يؤيد هذا أن في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في مصنف أبي داود «ومن يعصهما» فجمع ذكر الله تعالى مع رسوله في ضمير، ومما يؤيد القول الأول أن في كتاب مسلم «بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له «بئس الخطيب أنت» (أصلح له بعد ذلك جميع كلامه لأن فصل ضمير اسم الله تعالى من ضمير غيره أولى لا محالة فقال له:
«بئس الخطيب أنت» لموضع) خطأه في الوقف وحمله على الأولى في فصل الضميرين. وإن كان جمعهما جائزا، وقرأ الجمهور «وملائكته» بنصب التاء عطفا على المكتوبة، وقرأ ابن عباس «وملائكته» رفعا عطفا على الموضع قبل دخول إِنَّ وفي هذا نظر، وصلاة الله رحمة منه وبركة، وصلاة الملائكة دعاء، وصلاة المؤمنين دعاء وتعظيم، والصلاة على رسول الله في كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه، وقال عليه السلام: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود» وصفتها ما ورد عنه عليه السلام في كتاب الطبري من طريق ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية قال له قوم من الصحابة: هذا السلام عليك يا رسول الله قد عرفناه فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وارحم محمدا وآل محمد كما رحمت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد» وفي بعض الروايات زيادة ونقص هذا معناه، وقرأ الحسن «يا أيها الذين آمنوا فصلوا عليه» وهذه الفاء تقوي معنى الشرط أي صلى الله فصلوا أنتم، كما تقول أعطيتك فخذ، وفي حرف عبد الله «صلوا عليه كما صلى الله عليه وسلموا تسليما» ، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ الآية، قال الجمهور معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه ووصفه بما لا يليق به، وفي الحديث قال الله شتمني عبدي فقال إن لي ولدا وكذبني فقال إنه لن يبعث، وقال عكرمة معناه بالتصوير والتعريض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وخلقها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المصورين» ، وقالت فرقة ذلك على حذف مضاف تقديره يؤذون أولياء الله، وإذاية الرسول هي بما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد من الأفعال أيضا، قال ابن عباس نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت حيي.
قال الفقيه الإمام القاضي: والطعن في تأمير أسامة إذاية له عليه السلام، ولعنوا معناه أبعدوا من كل خير، وإذاية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة والبهتان والكذب الفاحش المختلف، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوما لأبيّ بن كعب: إني قرأت هذه الآية البارحة ففزعت منها وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الآية والله إني لأضربهم وأنهرهم، فقال له: اي يا أمير المؤمنين لست منهم إنما أنت معلم ومقوم، وذكر أبو حاتم أن عمر بن الخطاب قرأ «إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات» ثم قال يا أبي كيف تقرأ هذه الآية فقرأها كما قال عمر.
(4/398)
1
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن أمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأمرهن بإدناء الجلابيب، ليقع سترهن ويبين الفرق بين الحرائر والإماء، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلا أو شابا وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت الآية بسبب ذلك، و «الجلباب» ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه، فقال ابن عباس وعبيدة السلماني ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال ابن عباس أيضا وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أي على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي، وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها الذرة محافظة على زي الحرائر، وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى، وفيها تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
اللام في قوله تعالى: لَئِنْ هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في لَنُغْرِيَنَّكَ هي لام القسم، وتوعد الله تعالى هذه الأصناف في هذه الآية، وقرن توعده بقرينة متابعتهم وتركهم الانتهاء، فقالت فرقة: إن هذه الأصناف لم تنته ولم ينفذ الله تعالى عليها هذا الوعيد، فهذه الآية دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة، وقالت فرقة: إن هذه الأصناف انتهت وتستر جميعهم بأمرهم وكفوا وما بقي من أمرهم أنفذ الله تعالى وعيدا بإزائه، وهو مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم إلى غير ذلك مما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين من الإذلال في إخراجهم من المسجد وما نزل فيهم في سورة براءة وغير ذلك، فهم لم يمتثلوا الانتهاء جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا. والْمُنافِقُونَ صنف يظهر الإيمان ولا يبطنه، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هو الغزل وحب الزنا قاله عكرمة، ومنه قوله تعالى:
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32] والْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ هم قوم من المنافقين كانوا
(4/399)
1
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
يتحدثون بغزو العرب المدينة وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيغلب، ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين، فيحتمل أن تكون هذه الأصناف مفترقة بعضها من بعض، ويحتمل أن تكون داخلة في جملة المنافقين، لكنه نص على هاتين الطائفتين وهو قد ضمهم عموم لفظة النفاق تنبيها عليهم وتشريدا بهم وغضا منهم، و «نغرينك» معناه نحضك عليهم بعد تعيينهم لك، قال ابن عباس المعنى لنسلطنك عليهم، وقال قتادة لنحرشنك بهم، وقوله تعالى: ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة والقتل، وقوله إِلَّا قَلِيلًا يحتمل أن يريد إلا جوارا قليلا أو وقتا قليلا، ويحتمل أن يريد إلا عددا قليلا، كأنه قال إلا أقلاء، وقوله تعالى: مَلْعُونِينَ يجوز أن ينتصب على الذم قاله الطبري، ويجوز أن يكون بدلا من أقلاء الذي قدرناه قبل في أحد التأويلات، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في يُجاوِرُونَكَ كأنه قال ينتفون ملعونين، فلما تقدر لا يُجاوِرُونَكَ تقدير ينتفون، حسن هذا، واللعنة الإبعاد، وثُقِفُوا معناه حصروا وقدر عليهم، وأُخِذُوا معناه أسروا، والأخيذ الأسير ومنه قول العرب أكذب من الأخيذ الصيحان، وقرأ جمهور الناس «وقتّلوا» بشد التاء، ويؤيد هذا المصدر بعدها، وقرأت فرقة بتخفيف التاء والمصدر على هذه القراءة على غير قياس، قال الأعمش كل ما في القرآن غير هذا الموضع فهو «قتلوا» بالتخفيف، وقوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ نصب على المصدر، ويجوز فيه الإغراء على بعد، والَّذِينَ خَلَوْا هم منافقو الأمم وقوله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي من مغالب يستقر تبديله فيخرج على هذا تبديل العصاة والكفرة، ويخرج عنه أيضا ما يبدله الله من سنة بسنّة بالنسخ.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة متى هي فلم يجب في ذلك بشيء، ونزلت الآية آمرة بأن يرد العلم فيها إلى الله تعالى إذ هي من مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، ثم توعد العالم بقربها في قوله وَما يُدْرِيكَ الآية، أي فينبغي أن تحذر، وقَرِيباً ظرف لفظه واحد جمعا، وإفرادا، ومذكرا ومؤنثا، ولو كان صفة للساعة لكان قريبة، ثم توعد تعالى الْكافِرِينَ بعذاب لا ولي لهم منه ولا ناصر، وقوله تعالى: يَوْمَ يجوز أن يكون متعلقا بما قبله والعامل يَجِدُونَ، وهذا تقدير الطبري، ويجوز أن يكون العامل فيه يَقُولُونَ ويكون ظرفا للقول.
وقرأ الجمهور «تقلّب وجوههم» على المفعول الذي لم يسم فاعله بضم التاء وشد اللام المفتوحة، وقرأ أبو حيوة «تقلب» بفتح التاء بمعنى تتقلب، وقرأ ابن أبي عبلة «تتقلب» بتاءين، وقرأ خارجة وأبو حيوة «نقلب» بالنون، وقرأ عيسى بن عمر الكوفي «تقلب» بكسر اللام وضم التاء أي تقلب السعير. وبنصب الوجوه في
(4/400)
1
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
هاتين القراءتين، فيتمنون يومئذ الإيمان وطاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم التمني، ثم لاذوا بالتشكي من كبرائهم في أنهم أضلوهم، وقرأ جمهور الناس «سادتنا» وهو جمع سيد، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن عامر وحده من السبعة وأبو عبد الرحمن وقتادة وأبو رجاء والعامة في المسجد الجامع بالبصرة «ساداتنا» على جمع الجمع، والسَّبِيلَا مفعول ثان لأن «أضل» معدى بالهمزة، وضل يتعدى إلى مفعول واحد فيما هو مقيم كالطريق والمسجد وهي سبيل الإيمان والهدى، ثم دعوا بأن يضاعف العذاب للكبراء المضلين أي عن أنفسهم وعمن أضلوا، وقرأ عاصم وابن عامر وحذيفة بن اليمان والأعرج بخلاف عنه «لعنا كبيرا بالباء من الكبر، وقرأ الجمهور والباقون «لعنا كثيرا» بالثاء ذات الثلاث والكثرة أشبه بمعنى اللعنة من الكبر أي العنهم مرات كثيرة.
قوله عز وجل:
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
الذين آذَوْا مُوسى هم قوم من بني إسرائيل، واختلف الناس في الإذاية التي كانت وبرأه الله منها، فقالت فرقة هي قصة قارون، وإدخاله المرأة البغي في أن تدعي على موسى ثم تبرئتها له وإشهارها بداخلة قارون، وقد تقدمت القصة في ذكر قارون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي أن موسى وهارون خرجا من فحص التيه إلى جبل مات هارون فيه، فجاء موسى وحده، فقال قوم هو قتله، فبعث الله تعالى ملائكة حملوا هارون حتى طافوا به في أسباط بني إسرائيل ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى ولم يكن فيه أثر، وروي أنه حيي فأخبرهم بأمره وببراءة موسى، وقال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة هي ما تضمنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هود آدر أو أبرص أو به آفة فاغتسل موسى يوما وحده وجعل ثيابه على حجر ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى يقول ثوبي حجر ثوبي حجر، فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل، فرواه سليمان مما ظن به، الحديث بطوله خرجه البخاري فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا و «الوجيه» المكرم الوجه، وقرأ الجمهور «وكان عند الله» ، وقرأ ابن مسعود «وكان عبد الله» ، ثم وصى عز وجل المؤمنين بالقول السداد، وذلك يعم جميع الخيرات، وقال عكرمة: أراد لا إله إلّا الله، و «السداد» يعم جميع هذا وإن كان ظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين، ثم وعد تعالى بأنه يجازي على القول السديد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
(4/401)
1
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
اختلف الناس في الْأَمانَةَ فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها، وروي عنه أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال، وذهبت فرقة، هي الجمهور، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، فالشرع كله أمانة، قال أبيّ بن كعب من الأمانة ان ائتمنت المرأة على فرجها، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة، ومعنى الآية إِنَّا عَرَضْنَا على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت، ويحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة، ويروى أنها قالت «رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي ولا أريد ثوابا» ، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير، وقال الحسن حَمَلَهَا معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق.
قال الفقيه الإمام القاضي: والعصاة على قدرهم، وقال ابن عباس والضحاك وغيره الْإِنْسانُ آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة، وروي أن الله تعالى قال له: «يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها» . قال: وما فيها؟ قال: «إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت» ، قال نعم قد حملتها. قال ابن عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه، وقال ابن عباس وابن مسعود الْإِنْسانُ ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره، وقال بعضهم الْإِنْسانُ النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة، وقال الزجاج معنى الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه من أوامرنا وشرعنا.
قال الفقيه الإمام القاضي: والْإِنْسانُ على تأويله الكافر والعاصي، وتستقيم هذه الآية مع قوله تعالى: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] فعلى التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى:
أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] إجابة لأمر أمرت به، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقا من أمر عرض عليها وخيرت فيه، وروي أن الله تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت، فلما عرضها الله تعالى على آدم قال: أنا أحملها بين أذني وعاتقي، فقال الله تعالى له: إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
قال الفقيه الإمام القاضي: وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصارا لعدم صحتها، وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت
(4/402)
1
لأبتها وأشفقت فعبر عن هذا المعنى بقوله إِنَّا عَرَضْنَا الآية، وهذا كما تقول عرضت الحمل على البعير فأباه وأنت تريد بذلك قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه، وقوله لِيُعَذِّبَ اللَّهُ اللام لام العاقبة لأن الإنسان لم يحمل ليقع العذاب لكن حمل فصار الأمر وآل إلى أن يعذب من نافق ومن أشرك وأن يتوب على من آمن وقرأ الجمهور و «يتوب» بالنصب عطفا على قوله لِيُعَذِّبَ وقرأ الحسن بن أبي الحسن و «يتوب» بالرفع على القطع والاستئناف، وباقي الآية بين.
نجزت السورة والحمد لله.
(4/403)
1
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
 
سورة سبأ
هذه السورة مكية واختلف في قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ: 6] الآية، فقالت فرقة هي مكية، والمراد المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة هي مدنية والمراد من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأشباهه.
قوله عز وجل:
 
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِ