المحرر الوجيز لابن عطية ج ص معتمد 011

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل إلا جاء القرآن بِالْحَقِّ في ذلك بالجلية ثم هو أَحْسَنَ تَفْسِيراً وأفصح بيانا وتفصيلا، ثم توعد الكفار بما ينزل بهم يوم القيامة من الحشر على وجوههم إلى النار وذهب الجمهور، إلى أن هذا المشي على الوجوه حقيقة، وروي في ذلك من طريق أنس بن مالك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل يا رسول الله كيف يقدرون على المشي على وجوههم، وقال إن الذي أقدرهم على المشي على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، وقالت فرقة المشي على الوجوه استعارة للذلة المفرطة والهوان والخزي وقوله تعالى: شَرٌّ مَكاناً القول فيه كالقول في قوله خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] .
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 39]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
هذه الآية التي ذكر فيها الأمم هي تمثيل لهم وتوعد أن يحل بهم ما حل بهؤلاء المعذبين، والْكِتابَ التوراة، والوزير المعين، وهو من تحمل الوزر أي ثقل الحال أو من الوزر الذي هو الملجأ، والْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا هم فرعون وملؤه من القبط، ثم حذف من الكلام كثير دل عليه ما بقي، وتقدير المحذوف فأديا الرسالة فكذبوهما فدمرناهم. وقرأ علي بن أبي طالب ومسلمة بن محارب «فدمرانهم» أي كونا سبب ذلك، قال أبو الفتح ألحق نون التوكيد ألف التثنية كما تقول اضربان زيدا.
قال الفقيه الإمام القاضي: وروي عن علي رضي الله عنه «فدمراهم» ، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «فدمرناهم» بكسر الميم خفيفة، قال وروي عنه «فدمروا بهم» على الأمر لجماعة وزيادة باء، والذي فسر أبو الفتح وهم وإنما القراءة «فدمرا بهم» بالباء، وكذلك المهدوي، ونصب قوله وَقَوْمَ نُوحٍ بفعل مضمر يدل عليه أَغْرَقْناهُمْ، وقوله الرُّسُلَ وهم إنما كذبوا نوحا فقط معناه أن الأمة التي تكذب نبيا واحدا ففي ضمن ذلك تكذيب جميع الأنبياء فجاءت العبارة بما يتضمنه فعلهم تغليظا في القول عليهم، وقوله آيَةً أي علامة على سطوة الله تعالى بكل كافر بأنبيائه، وعاد وثمود يصرف، وجاء هاهنا مصروفا، وقرأ ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى «وعادا» مصروفا «وثمود» غير مصروف، واختلف الناس في أَصْحابَ الرَّسِّ فقال ابن عباس هم قوم ثمود، وقال قتادة هم أهل قرية من اليمامة يقال لها الرَّسِّ والفلج، وقال مجاهد هم أهل قرية فيها بير عظيمة إلخ ... يقال لها الرَّسِّ، وقال كعب ومقاتل والسدي الرَّسِّ بير بأنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين، وقال الكلبي أَصْحابَ الرَّسِّ قوم بعث إليهم نبي فأكلوه، وقال قتادة أَصْحابَ الرَّسِّ وأصحاب ليكة قومان أرسل إليهما
(4/210)
1
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
شعيب عليه السلام، وقاله وهب بن منبه وقال علي رضي الله عنه في كتاب الثعلبي أَصْحابَ الرَّسِّ قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت، رسوا نبيهم في بير حفروه له في حديث طويل، والرَّسِّ في اللغة كل محفور من بير أو قبر أو معدن ومنه قول الشاعر [النابغة الجعدي] : [المتقارب]
سبقت إلى فرط بأهل ... تنابلة يحفرون الرساسا
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الرس المشار إليهم في هذه الآية قوم أخذوا نبيهم فرسوه في بير وأطبقوا عليه صخرة، قال فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى تلك البير فيعينه الله على تلك الصخرة إلى أن ضرب الله يوما على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل، قال الطبري فيمكن أنهم كفروا به بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية، وقوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً إبهام لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل وقد تقدّم شرح القرن وكم هو، ومن هذا اللفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى، ويروى أن ابن عباس قاله، «كذب النسابون من فوق عدنان لأن الله تعالى أخبر عن كثير من الخلق والأمم ولم يحد» ، ثم قال تعالى إن كل هؤلاء «ضرب له الأمثال» ، ليهتدي فلم يهتد، «فتبره» الله أي أهلكه، والتبار الهلاك ومنه تبر الذهب أي المكسر المفتت، وكذلك يقال لفتات الرخام والزجاج تبر، وقال ابن جبير إن أصل الكلمة نبطي ولكن العرب قد استعملته.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 40 الى 44]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
قال ابن عباس وابن جريج والجماعة الإشارة إلى مدينة قوم لوط وهي سدوم بالشام، ومَطَرَ السَّوْءِ حجارة السجيل، وقرأ أبو السمال «السّوء» بضم السين المشددة، ثم وقفهم على إعراضهم وتعرضهم لسخط الله بعد رؤيتهم العبرة من تلك القرية، ثم حكم عليهم أنهم إذا رأوا محمدا صلى الله عليه وسلم استهزؤوا به واستحقروه وأبعدوا أن يبعثه الله رسولا، فقالوا على جهة الاستهزاء أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وفي بَعَثَ ضمير يعود على الذي حذف اختصارا وحسن ذلك في الصلة، ثم أنس النبي صلى الله عليه وسلم عن كفرهم بقوله أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية، والمعنى لا تتأسف عليهم ودعهم لرأيهم ولا تحسب أنهم على ما يجب من التحصيل والعقل بل هم كالأنعام في الجهل بالمنافع وقلة التحسس للعواقب، ثم حكم بأنهم أَضَلُّ سَبِيلًا من حيث لهم الفهم وتركوه، و «الأنعام» لا سبيل لهم
(4/211)
1
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
إلى فهم المصالح، ومن حيث جهالة هؤلاء وضلالتهم في أمر أخطر من الأمر الذي فيه جهالة الأنعام، وقوله اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ معناه جعل هواه مطاعا فصار كالإله والهوى قائد إلى كل فساد لأن النفس أمارة بالسوء وإنما الصلاح إذا ائتمرت للعقل، وقال ابن عباس الهوى الإله يعبد من دون الله ذكره الثعلبي، وقيل الإشارة بقوله إِلهَهُ هَواهُ إلى ما كانوا عليه من أنهم كانوا يعبدون حجرا فإذا وجدوا أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الثاني الذي وقع هواهم عليه، قال أبو حاتم وروي عن رجل من أهل المدينة قال ابن جني هو الأعرج إِلهَهُ هَواهُ والمعنى اتخذ شمسا يستضيء بها هواه إذ الشمس يقال لها إلهة وتصرف ولا تصرف، و «الوكيل» القائم على الأمر الناهض به.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 47]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47)
أَلَمْ تَرَ معناه انتبه، والرؤية هاهنا رؤية القلب، وأدغم عيسى بن عمر رَبِّكَ كَيْفَ، قال أبو حاتم والبيان أحسن، ومَدَّ الظِّلَّ بإطلاق هو بين أول الإسفار إلى بزوغ الشمس ومن بعد مغيبها مدة يسيرة فإن في هذين الوقتين على الأرض كلها ظل ممدود على أنها نهار، وفي سائر أوقات النهار ظلال متقطعة والمد والقبض مطرد فيها وهو عندي المراد في الآية والله أعلم، وفي الظل الممدود ما ذكر الله في هواء الجنة لأنها لما كانت لا شمس فيها كان ظلها ممدودا أبدا.
وتظاهرت أقوال المفسرين على أن مَدَّ الظِّلَّ هو من الفجر إلى طلوع الشمس وهذا معترض بأن ذلك في غير نهار بل في بقايا الليل لا يقال له ظل، وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي ثابتا غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشَّمْسَ ونسخها إياه وطردها له من موضع إلى موضع دَلِيلًا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه، حكى الطبري أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها وقوله قَبْضاً يَسِيراً يحتمل أن يريد لطيفا أي شيئا بعد شيء لا في مرة واحدة ولا بعنف، قال مجاهد، ويحتمل أن يريد معجلا وهذا قول ابن عباس ويحتمل أن يريد سهلا قريب المتناول، قال الطبري ووصف اللَّيْلَ باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها، و «السبات» ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا، فشبه النائم به، والسبت الإقامة في المكان فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه، و «النشور» في هذا الموضع الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة والتوفي اللذين يتضمنهما النوم والسبات ويحتمل أن يريد ب «النشور» وقت انتشار وتفرق لطلب المعايش وابتغاء فضل الله، وقوله النَّهارَ نُشُوراً وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 48 الى 52]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)
(4/212)
1
قرأت فرقة «الرياح» ، وقرأت فرقة «الريح» على الجنس، فهي بمعنى الرياح وقد نسبنا القراءة في سورة الأعراف وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح، لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق وتأتي لينة من هاهنا وهاهنا، وشيئا إثر شيء، وريح العذاب خرجت لا تتداءب وإنما تأتي جسدا واحدا، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه، قال الرماني جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والشمال وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور.
قال القاضي أبو محمد: يرد على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، واختلف القراء في «النشر» ، في النون والباء وغير ذلك اختلافا قد ذكرناه في سورة الأعراف، ونَشْراً معناه منتشرة متفرقة و «الطهور» بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضته في ماء السماء وفي كل ما هو منه وبسبيله أن يكون طاهرا مطهرا وفيما كثرت فيه التغايير، كماء الورد وعصير العنب أن يكون طاهرا ولا مطهرا، ووصف «البلدة» ب «الميت» لأنه جعله كالمصدر الذي يوصف به المذكر والمؤنث وجاز ذلك من حيث البلدة بمعنى البلد، وقرأ طلحة بن مصرف «لننشىء به بلدة ونسقيه» بضم النون وهي قراءة الجمهور ومعناه نجعله لهم سقيا، هذا قول بعض اللغويين في أسقى قالوا وسقى معناه للشفة، وقال الجمهور سقى وأسقى بمعنى واحد وينشد على ذلك بيت لبيد: [الوافر]
سقى قومي بني نجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
وقرأ أبو عمرو «ونسقيه» بفتح النون وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة وأبي حيوة، ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وَأَناسِيَّ، قيل هو جمع إنسان والياء المشددة بدل من النون في الواحد قاله سيبويه، وقال المبرد هو جمع إنسي وكان القياس أن يكون أناسية كما قالوا في مهلبي ومهالبة، وحكى الطبري عن بعض اللغويين في جمع إنسان أناسين بالنون كسر حان وبستان، وقرأ يحيى بن الحارث «أناسي» بتخفيف الياء، والضمير في صَرَّفْناهُ قال ابن عباس ومجاهد هو عائد على الماء المنزل من السماء، المعنى أن الله تعالى جعل إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض المواضع وهذا كله في كل عام بمقدار واحد، وقاله ابن مسعود، وقوله على هذا التأويل فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي في قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة، وقيل كُفُوراً على الإطلاق لما تركوا التذكر، وقال ابن عباس الضمير في صَرَّفْناهُ للقرآن وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضد ذلك قوله بعد ذلك، وَجاهِدْهُمْ بِهِ، وعلى التأويل الأول الضمير في بِهِ يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه، وقال ابن زيد يراد به الإسلام، وقرأ عكرمة «صرفنا» بتخفيف الراء، وقرأ حمزة والكسائي والكوفيون «ليذكروا»
(4/213)
1
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
بسكون الذال، وقرأ الباقون «ليذكّروا» بشد الذال والكاف، وفي قوله وَلَوْ شِئْنا الآية اقتضاب يدل عليه ما ذكر تقديره ولكنا أفردناك بالنذارة وحملناك فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 57]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
اضطرب الناس في تفسير هذه الآية فقال ابن عباس أراد بحر السحاب والبحر الذي في الأرض، ورتبت ألفاظ الآية على ذلك، وقال مجاهد البحر العذب هو مياه الأنهار الواقعة في البحر «الأجاج» وقوعها فيه هو مرجها. قال و «البرزخ» و «الحجر» هو حاجز في علم الله لا يراه البشر، وقاله الزجاج، وقالت فرقة معنى مَرَجَ أدام أحدهما في الآخر، وقال ابن عباس خلى أحدهما على الآخر ونحو هذا من الأقوال التي تتداعى مع بعض ألفاظ الآية، والذي أقول به في الآية إن المقصد بها التنبيه على قدرة الله تعالى وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياها عذبة كثيرة من أنهار وعيون وآبار، وجعلها خلال الأجاج وجعل الأجاج خلالها، فتلقى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه، وتلقى الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج فبثها هكذا في الأرض هو خلطها، وهو قوله مَرَجَ ومنه مريج أي مختلط مشتبك، ومنه مرجت عهودهم في الحديث المشهور، و «البحران» يريد بهما جميع الماء العذب وجميع الماء الأجاج، كأنه قال مرج نوعي الماء والبرزخ والحجر هو ما بين الْبَحْرَيْنِ من الأرض واليبس، قاله الحسن، ومنه القدرة التي تمسكها مع قرب ما بينهما في بعض المواضع، وبكسر الحاء قرأ الناس كلهم هنا والحسن بضم الحاء في سائر القرآن، و «الفرات» الصافي اللذيذ المطعم، و «البرزخ» الحاجز بين الشيئين، وقرأ الجمهور «هذا ملح» وقرأ طلحة بن مصرف «هذا ملح» بكسر اللام وفتح الميم، قال أبو حاتم هذا منكر في القراءة، قال ابن جني أراد مالحا وحذف الألف كبرد وبرد، و «الأجاج» أبلغ ما يكون من الملوحة، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ الآية، هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك وتعديد النعمة في التواشج الذي جعل بينهم من النسب والصهر، وقوله مِنَ الْماءِ إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء، وإما أن يريد نطف الرجال وكل ذلك قالته فرقة، والأول أفصح وأبين، و «النسب والصهر» معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين، ف «النسب» هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو في أم قرب ذلك أو بعد، و «الصهر» تواشج المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج ثم الأحماء والأصهار يقع عاما لذلك كله، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «النسب» ما لا يحل نكاحه «والصهر» ما يحل نكاحه وقال الضحاك «الصهر» قرابة الرضاع.
(4/214)
1
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال حرم من النسب سبع ومن الصهر خمس، وفي رواية أخرى من الصهر سبع يريد قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ [النساء: 23] ، فهذا هو من النسب. ثم يريد ب «الصهر» قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: 23] ، ثم ذكر المحصنات، ومجمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر مع ما ذكر معه فقصد مما ذكر إلى عظمه وهو الصهر لأن الرضاع صهر وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه، ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآية الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذواتي الأزواج، وحكى الزهراوي قولا أن «النسب» من جهة البنين «والصهر» من جهة البنات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا حسن وهو في درج ما قدمته، وقال ابن سيرين نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لأنه جمعه معه نسب وصهر فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. وقوله وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً هي كانَ التي للدوام قبل وبعد لا أنها تعطي مضيا فقط، ثم ذكر تعالى خطأهم في عبادتهم أصناما لا تملك لهم ضرا ولا نفعا وقوله وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً فيه تأويلان: أحدهما أن «الظهير» المعين فتكون الآية بمعنى توبيخهم على ذلك من أن الكفار يعينون على ربهم غيرهم من الكفرة والشيطان بأن يطيعوه ويظاهروه، وهذا هو تأويل مجاهد والحسن وابن زيد، والثاني ذكره الطبري أن يكون «الظهير» فعيلا، من قولك ظهرت الشيء إذا طرحته وراء ظهرك واتخذته ظهريا، فيكون معنى الآية على هذا التأويل احتقار الكفرة، والْكافِرُ في هذه الآية اسم الجنس وقال ابن عباس بل هو معين أراد به أبا جهل بن هشام.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويشبه أن أبا جهل سبب الآية ولكن اللفظ عام للجنس كله. وقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك حسرات حرصا عليهم فإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة النار ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين، ثم أمره تعالى بأن يحتج عليهم مزيلا لوجوه التهم بقوله ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي لا أطلب مالا ولا نفعا يختص بي، وقوله إِلَّا مَنْ شاءَ الظاهر فيه أنه استثناء منقطع، والمعنى مسؤولي ومطلوبي من شاء أن يهتدي ويؤمن ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة، قال الطبري المعنى لا أسألكم أجرا إلا إنفاق المال في سبيل الله فهو المسئول وهو السبيل إلى الرب.
قال الفقيه الإمام القاضي: فالاستثناء على هذا كالمتصل، وكأنه قال إلا أجر من شاء والتأويل الأول أظهر.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 58 الى 60]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
(4/215)
1
المعنى قل لهم يا محمد هذه المقالة التي لا ظن يتطرق إليك معها ولا تهتم بهم وبشّر وأنذر وَتَوَكَّلْ عَلَى المتكفل بنصرك وعضدك في كل أمرك، ثم وصف تعالى نفسه الصفة التي تقتضي التوكل في قوله الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ إذ هذا المعنى يختص بالله تعالى دون كل ما لدينا مما يقع عليه اسم حي، وقوله وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ قل سبحان الله وبحمده أي تنزيهه واجب وبحمده أقول.
قال القاضي أبو محمد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال في كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، فهذا معنى وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان، الحديث، وقوله وَكَفى بِهِ توعد وإزالة كل عن محمد صلى الله عليه وسلم في همه بهم، وقوله وَما بَيْنَهُما مع جمعه السَّماواتِ قبل سائغ من حيث عادل لفظ الْأَرْضَ لفظ السَّماواتِ ونحوه قول عمرو بن شييم: [الوافر]
ألم يحزنك أن جبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا
من حيث عادلت جبالا جبالا، ومنه قول الآخر: [الكامل]
إن المنية والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سواد
وقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اختلفت الرواية في اليوم الذي ابتدأ الله فيه الخلق، فأكثر الروايات على يوم الأحد، وفي مسلم وفي كتاب الدلائل يوم السبت، وبين بكون ذلك فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وضع الإناءة والتمهل في الأمور لأن قدرته تقضي أنه يخلقها في طرفة عين لو شاء لا إله إلا هو، وقد تقدّم القول في الاستواء، وقوله الرَّحْمنُ يحتمل أن يكون رفعه بإضمار مبتدأ أي هو الرَّحْمنُ ويحتمل أن يكون بدلا من الضمير في قوله اسْتَوى وقرأ زيد بن علي بن الحسين «الرحمن» بالخفض، وقوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً فيه تأويلان: أحدهما فَسْئَلْ عنه وخَبِيراً على هذا منصوب إما بوقوع السؤال عليه والمعنى، اسأل جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة، والثاني أن يكون المعنى كما تقول لو لقيت فلانا لقيت به البحر كرما أي لقيت منه والمعنى فاسأل الله عن كل أمر، وخَبِيراً على هذا منصوب إما بوقوع السؤال وإما على الحال المؤكدة كما قال وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة: 91] ، وليست هذه بحال منتقلة إذ الصفة العلية لا تتغير، ولما ذكر في هذه الآية «الرحمن» كانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله، وكان مسيلمة كذاب اليمامة تسمى ب «الرحمن» فغالطت قريش بذلك وقالت إن محمدا يأمر بعبادة «الرحمن» اليمامة فنزل قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ الآية، وقولهم وَمَا الرَّحْمنُ استفهام عن مجهول عندهم ف مَا على بابها المشهور، وقرأ جمهور القراء «تأمرنا» بالتاء أي أنت يا محمد، وقرأ حمزة والكسائي والأسود بن يزيد وابن مسعود «يأمرنا» بالياء من تحت إما على إرادة محمد والكناية عنه بالغيبة، وإما على إرادة رحمان اليمامة، وقوله: وَزادَهُمْ نُفُوراً أي أضلهم هذا اللفظ ضلالا لا يختص به حاشى ما تقدم منهم.
(4/216)
1
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 63]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63)
لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته، و «البروج» هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجا تشبيها ببروج السماء. ومنه قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] . وقال الأخطل: [البسيط]
كأنها برج روميّ يشيده ... لز بجص وآجور وأحجار
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها «البروج» القصور في الجنة، وقال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «في السماء قصورا» ، وقيل «البروج» الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به. وقرأ الجمهور «سراجا» وهي الشمس، وقرأ حمزة والكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش «سرجا» وهو اسم جميع الأنوار ثم خص القمر بالذكر تشريفا، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش «سرجا» بسكون الراء، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن «وقمرا» بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد إلا أن يكون عنى جمعا كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي، وقوله خِلْفَةً أي هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، ومن هذا المعنى قول زهير: [الطويل]
بها العين والأرآم يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا [يزيد بن معاوية] : [المديد]
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
وقال مجاهد خِلْفَةً من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، وما قدمناه أقوى، وقال مجاهد وغيره من النظار لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفهم والفكر،
(4/217)
1
وقال عمر بن الخطاب والحسن وابن عباس معناه لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ حمزة وحده «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي، وقرأ الباقون «يذّكر» بشد الذال، وفي مصحف أبي بن كعب «يتذكر» بزيادة تاء، ثم قال تعالى لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور، و «العباد» والعبيد بمعنى إلا أن العباد يستعمل في مواضع التنويه، وسمي قوم من عبد القيس العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب، وقيل لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وعبد الرحمن» ، ذكره الثعلبي، وقوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم نذكر من ذلك العظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال، هَوْناً، بمعنى أمره كله هون أي لين، قال مجاهد، بالحلم والوقار، وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال الحسن حلما إن جهل عليهم لم يجهلوا، وذهبت فرقة إلى أن هَوْناً مرتبط بقوله يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ أي المشي هو هون، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هَوْناً مناسبة لمشية فيرجع القول إلى نحو ما بيّناه وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش هَوْناً رويدا وهو ذئيب أطلس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفا في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم «من مشى منكم في طمع فليمش رويدا» إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده، ألا ترى أن المبطلين المتحيلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم [أبي جعفر المنصور] : [مجزوء الرمل]
كلهم يمشي رويدا ... كلهم يطلب صيدا
وقال الزهري سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه.
قال القاضي أبو محمد: يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط وقال زيد بن أسلم كنت أسأل عن تفسير قوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فما وجدت في ذلك شفاء، فرأيت في النوم من جاءني فقال هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهذا تفسير في الخلق، وهَوْناً معناه رفقا وقصدا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أجب حبيبك هونا ما» الحديث وقوله وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً. اختلف في تأويل ذلك، فقالت فرقة ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما بهذا اللفظ أي سلمنا سلاما وتسليما ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين، والذي أقول إن قالُوا هو العامل في سَلاماً لأن المعنى قالُوا هذا اللفظ، وقال مجاهد معنى سَلاماً قولا سديدا، أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين ف قالُوا على هذا التأويل عامل في قوله سَلاماً على طريقة النحويين وذلك أنه بمعنى قولا، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يختص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه، ورجح به أن المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفار والآية مكية فنسختها آية السيف.
(4/218)
1
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
قال الفقيه الإمام القاضي: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي كان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوما بمحضر المأمون وعنده جماعة: كنت أرى عليا في النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول علي بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها، فكنت أقول له إنما تدّعي هذا الأمر بإمرة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، فقال المأمون وبماذا جاوبك قال: فكان يقول لي سلاما سلاما، قال الراوي وكان إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت فنبه المأمون على الآية من حضره وقال هو والله يا عمي علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب فحزن إبراهيم واستحيا وكانت رؤياه لا محالة صحيحة.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 64 الى 66]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
هذه آية فيها تحريض على القيام بالليل للصلاة، قال الحسن لما فرغ من وصف نهارهم وصف في هذه ليلهم، وقال بعض الناس من صلى العشاء الآخرة وشفع وأوتر فهو داخل في هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: إلا أنه دخول غير مستوفى، وقرأ أبو البرهسم «سجودا وقياما» ، ومدحهم تعالى بدعائه في صرف عَذابَ جَهَنَّمَ من حيث ذلك دليل على صحة عقدهم وإيمانهم ومن حيث أعمالهم بحسبه، وغَراماً معناه ملازما، وقيل مجحفا ومنه غرام الحب ومنه المغرم ومنه قول الأعشى:
[الخفيف]
إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي
وقول بشر بن أبي حازم: [المتقارب]
ويوم النسار ويوم الجفار ... كانا عناء وكانا غراما
وقرأ جمهور الناس «مقاما» بضم الميم من الإقامة، ومنه قول الشاعر: «حيوا المقام وحيوا ساكن الدار» ، وقرأت فرقة «مقاما» بفتح الميم من قام يقوم فجهنم ضد مقام كريم والأول أفصح وأشهر.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 67 الى 70]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)
اختلف المفسرون في هذه الآية التي في الإنفاق، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في
(4/219)
1
الطاعة، وإن أسرف، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقا عليه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة «الإسراف» أن تنفق مال غيرك.
ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر، والوجه أن يقال إن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا وأن لا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاما للذة، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يقتروا» بضم الياء وكسر التاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم «يقتروا» بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وفتح التاء، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء، وقرأ أبو عمرو «والناس قواما» بفتح القاف، أي معتدلا، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغا وسدادا وملاك حال، وقَواماً خبر كانَ واسمها مقدر أي الإنفاق، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله بَيْنَ ذلِكَ. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ الآية إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحا، وفي نحو هذه الآية قال عبد الله بن مسعود: قلت يوما يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: والقتل والزنا يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين ولهم من الوعيد بقدر ذلك، «والحق» الذي تقتل به النفس هو قتل النفس والكفر بعد الإيمان، و «الزنا» بعد الإحصان، والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين، و «الأثام» في كلام العرب العقاب وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه الآية ومنه قول الشاعر: [الوافر]
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام
أي جزاء وعقوبة، وقال عكرمة وعبد الله بن عمرو ومجاهد إن أَثاماً واد في جهنم هذا اسمه وقد جعله الله عقابا للكفرة، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «يضاعف ويخلد» جزما، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر والحسن «يضعّف» بشد العين وطرح الألف وبالجزم في «يضعف ويخلد» ، وقرأ طلحة بن سليمان
(4/220)
1
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
«نضعّف» بضم النون وكسر العين المشددة «العذاب» نصب «ويخلد» جزم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «يضاعف ويخلد» بالرفع فيهما، وقرأ طلحة بن سليمان «وتخلد» بالتاء على معنى مخاطبة الكافر بذلك، وروي عن أبي عمرو «ويخلّد» بضم الياء من تحت وفتح اللام قال أبو علي وهي غلط من جهة الرواية «ويضاعف» بالجزم بدل من يَلْقَ قال سيبويه مضاعفة العذاب هي الأثام قال الشاعر:
«متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا» . البيت وقوله إِلَّا مَنْ تابَ الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [النساء: 48] فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه، وروى أبو هريرة في أن التوبة لمن قتل حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة، وقاله سعيد بن جبير، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل، قال ابن عباس وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت إِلَّا مَنْ تابَ الآية، ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ، فما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحه بها وبسورة الفتح، وقال غير ابن عباس ممن قال بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت، ورواه أيضا سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا أغفره وقوله تعالى: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك سببا لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو في يوم القيامة، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات، وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهو معنى كرم العفو، وقرأ ابن أبي عبلة «يبدل» بسكون الباء وتخفيف الدال.
قوله عز وجل:
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 71 الى 74]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
أكد بهذه الألفاظ أمر التوبة والمعنى وَمَنْ تابَ فإنه قد تمسك بأمر وثيق وهكذا، كما تقول لمن
(4/221)
1
تستحسن قوله في أمره لقد قلت يا فلان قولا، فكذلك الآية معناها مدح المتاب كأنه قال فإنه يجد بابا للفرج والمغفرة عظيما، ثم استمرت الآيات في وصف عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور، ويَشْهَدُونَ في هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون، والزُّورَ كل باطل زور وزخرف فأعظمه الشرك وبه فسر الضحاك وابن زيد، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد، ومنه الكذب، وبه فسر ابن جريج، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي المعنى لا يشهدون بالزور فهو من الشهادة لا من المشاهدة والزور الكذب.
قال الفقيه الإمام القاضي: والشاهد بالزور حاضره ومؤديه جرأة، فالمعنى الأول أعم لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى، و «اللغو» كل سقط من فعل أو قول يدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر، وكِراماً معناه معرضين مستحين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الأذى فيه، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد أصبح ابن أم عبد كريما، وقرأ الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغير، وحدود التغيير معروفة وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً يحتمل تأويلين: أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكون سجدا وبكيا، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعا أي إنما خرج جريئا مقدما. وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق، أو الشاك، والتأويل الثاني ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك، وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا، ولكن أصله أنه على غير ترتيب، ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل والذرية، و «قرة العين» يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر، وهو الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو، و «قرة العين» في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى قاله ابن عباس والحسن وحضرمي، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فكانت قرت عيونهم في إيمان أحبابهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن «ذرياتنا» ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى «ذريتنا» بالإفراد. وقوله تعالى: لِلْمُتَّقِينَ إِماماً قيل هو جمع، آم مثل قائم وقيام وقيل هو مفرد اسم جنس أي اجعلنا يأتم بنا المتقون، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة وهذا هو قصد الداعي، قال إبراهيم النخعي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.
قوله عز وجل:
(4/222)
1
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 77]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
قرأ أبي كعب «يجازون» بألف، والْغُرْفَةَ من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما قال: [الهزج]
ولولا الحبة السمراء ... لم نحلل بواديكم
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «ويلقّون» بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم «ويلقون» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختلف عن عاصم وقوله حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً معادل لقوله في جهنم ساءَتْ وقوله: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك، وما تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله لَوْلا دُعاؤُكُمْ خطابا لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله بكم ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] . وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف الناس المرعي فيهم، وقرأ ابن الزبير وغيره «فقد كذب الكافرون» وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاما، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم، والثالثة وهو قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لولا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض.
قال القاضي أبو محمد: والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل ويَعْبَؤُا مشتق من العبء، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش، وقرأ ابن الزبير «وقد كذبت الكافرون فسوف» ، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن عباس إلخ ... «فقد كذب الكافرون» ، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على التفسير وأكثر الناس على أن «اللزام» المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب، وقالت فرقة هو تعوذ بعذاب الآخرة، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس أيضا «اللزام» الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به متأول الموت المعتاد في الناس عرفا فهو ضعيف، وقرأ جمهور الناس «لزاما» بكسر اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي: [الوافر]
فإمّا ينجوا من حتف أرض ... فقد لقيا حتوفهما لزاما
وقرأ أبو السمال «لزاما» لفتح اللام من لزم والله المعين.
(4/223)
1
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
 
سورة الشعراء
هذه السورة مكية كلها فيما قال جمهور الناس، وقال مقاتل منها مدني الآية التي تذكر فيها الشعراء وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 197] .
قوله عز وجل:
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور مستوعبا، وتِلْكَ رفع بالابتداء وهو وخبره ساد مسد الخبر عن طسم في بعض التأويلات، والإشارة ب تِلْكَ هي بحسب الخلاف في طسم وعلى بعض الأقوال تكون تِلْكَ إشارة إلى حاضر وذلك موجود في الكلام، كما أن هذه قد تكون الإشارة بها إلى غائب معهود كأنه حاضر، والْكِتابِ الْمُبِينِ القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «طسم» بكسر الطاء، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بفتحها وبإدغام النون من سين في الميم، وقرأ حمزة وحده بإظهارها وهي قراءة أبي جعفر، ورويت عن نافع، وروى يعقوب عن أبي جعفر ونافع قطع كل حرف منها على حدة، قال أبو حاتم الاختيار فتح الطاء وإدغام آخر سين في أول ميم، فتصير الميم متعلقة، وقوله لَعَلَّكَ الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم لما كان من القلق والحرص على إيمانهم فكان من شغل البال في حيز الخوف على نفسه، و «الباخع» القاتل والمهلك بالهم قاله ابن عباس والناس ومن ذلك قول ذي الرمة: [الطويل]
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر
وخوطب «بلعل» على ما في نفوس البشر من توقع الهلاك في مثل تلك الحال، ومعنى الآية أي لا تهتم يا محمد بهم وبلغ رسالتك وما عليك من إيمانهم فإن ذلك بيد الله. لو شاء لآمنوا، وقوله «أن لا» مفعول من أجله. وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ شرط وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا، وأما
(4/224)
1
الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت، وقرأ «تنزّل» بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي، وروى هارون عن أبي عمرو «يشأ ينزل» بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس، وكل هذين لم يأت به نبي، ووجه ذلك ما ذكرناه، وهو توجيه منصوص للعلماء. وقرأ طلحة «فتظل أعناقهم» وهو المراد في قراءة الجمهور وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع الفعل، وقوله تعالى: أَعْناقُهُمْ يحتمل تأويلين أحدهما: وهو قول مجاهد وأبي زيد والأخفش، أي يريد جماعاتهم، يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
إن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا
وعليه حمل قول أبي محجن:
واكتم السر فيه ضرب العنق ولهذا قيل عتق رقبة ولم يقل عتق عنق فرارا من الاشتراك قاله الزهراوي، فعلى هذا التأويل ليس في قوله خاضِعِينَ موضع قول، والتأويل الآخر أن يريد الأعناق الجارحة المعلمة وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد ومنه قول الشاعر: [الكامل]
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار
فعلى هذا التأويل يتكلم على قوله خاضِعِينَ كيف جمعه جمع من يعقل، وذلك متخرج على نحوين من كلام العرب: أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكم من يعقل كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر، ومنه قول الأعشى:
«كما شرقت صدر القناة من الدم» وهذا كثير، والنحو الآخر أن الأعناق لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصودا للبشر وهو الخضوع، إذ هو فعل يتبع أمرا في النفس، جمعها فيه جمع من يعقل وهذا نظير قوله تعالى: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] . وقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] . وقرأ ابن أبي عبلة «لها خاضعة» ثم عنف الكفار ونبه على سوء فعلهم بقوله: وَما يَأْتِيهِمْ الآية، وقوله مُحْدَثٍ يريد محدث الإتيان، أي مجيء القرآن للبشر كان شيئا بعد شيء. وقالت فرقة يحتمل أن يريد ب «الذكر» محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى في آية أخرى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً [الطلاق: 10] . فيكون وصفه بالمحدث متمكنا.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أفصح.
(4/225)
1
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ. الآية وعيد بعذاب الدنيا والآخرة، ويقوى أنه وعيد بعذاب الدنيا لأن ذلك قد نزل بهم كبدر وغيرها، ولما كان إعراضهم عن النظر في الصانع والإله من أعظم كفرهم وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ويعرضون عن الذكر في ذلك، نبه على قدرة الله وأنه الخالق المنشئ الذي يستحق العبادة بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ الآية، و «الزوج» النوع والصنف، و «الكريم» الحسن المتقن قاله مجاهد وقتادة، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن إنبات ومنه قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] . قال الشعبي الناس من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك وقوله تعالى: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
حتم على أكثرهم بالكفر ثم توعد تعالى بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. يريد عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة، وقال نحو هذا ابن جريج، وفي لفظة الرَّحِيمُ وعد.
قوله عز وجل:
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 19]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
التقدير واذكر إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش لتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وقوله أَنِ ائْتِ يجوز في أَنِ أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة أي، ويجوز أن تكون غيرها وهي في موضع نصب بتقدير بأن ائت، وقوله أَلا يَتَّقُونَ معناه قل لهم فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى، وقرأ الجمهور «يتقون» بالياء من تحت، وقرأ عبد الله بن مسلم وحماد بن سلمة وأبو قلابة «تتقون» بالتاء من فوق على معنى قل لهم، ولعظيم نخوة فرعون وتألهه وطول مدته وما أشربت القلوب من مهابته قال عليه السلام إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وقرأ جمهور الناس «ويضيق» بالرفع و «ينطلق» كذلك، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى ذلك بالنصب فيهما، فقراءة الرفع هي إخبار من موسى بوقوع ضيق صدره وعدم انطلاق لسانه، وبهذا رجح أبو علي هذه القراءة، وقراءة النصب تقتضي أن ذلك داخل تحت خوفه وهو عطف على يُكَذِّبُونِ، وكان في خلق موسى عليه السلام حد وكان في لسانه حبسة بسبب الجمرة في طفولته، وحكى أبو عمرو عن الأعرج أنه قرأ بنصب «ويضيق» وبرفع «ينطلق» ، وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق صدر ولم ينطلق اللسان، وقد قال موسى عليه السلام وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي [طه: 27] فالراجح قراءة الرفع، وقوله تعالى: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحا واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول إذ باقيه دال عليه، ثم ذكر موسى خوفه
(4/226)
1
القبط من أجل ذنبه، وهو قتله الرجل الذي وكزه، قاله قتادة ومجاهد والناس، فخشي أن يستقاد منه لذلك فقال الله عز وجل له كَلَّا ردا لقوله إِنِّي أَخافُ أي لا تخف ذلك فإني لم أحملك ما حملتك إلا وقد قضيت بنصرك وظهورك وأمر موسى وهارون بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكن قال لموسى «اذهبا» أي أنت وأخوك، والآيات تعم جميع ما بعثهما الله به وأعظم ذلك العصا بها وقع العجز، وبالآيتين تحدى موسى عليه السلام، ولا خلاف في أن موسى عليه السلام هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلها، وأن هارون كان نبيا رسولا معينا له وزيرا، وقوله إِنَّا مَعَكُمْ إما على أن يجعل الاثنين جماعة، وإما أن يريدهما، والمبعوث إليهم وبني إسرائيل، وقوله مُسْتَمِعُونَ على نحو التعظيم والجبروت التي لله تعالى، وصيغة قوله مُسْتَمِعُونَ تعطي اهتبالا بالأمر ليس في صيغة قوله «سامعون» ، وإلا فليس يصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى أو تكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع، وقوله تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
هو على أن العرب أجرت الرسول مجرى المصدر في أن وصفت به الجمع والواحد والمؤنث، ومن ذلك قول الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر
ومنه قول الشاعر: وإن كان مولدا.
إن التي أبصرتها ... سحرا تكلمني رسول
وقوله أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ معناه سرح، فهو من الإرسال الذي هو بمعنى الإطلاق، وكما تقول أرسلت الحجر من يدي، وكان موسى مبعوثا إلى فرعون في أمرين: أحدهما أن يرسل بني إسرائيل ويزيل عنهم ذل العبودية والغلبة، والثاني أن يؤمن ويهتدي وأمر بمكافحته ومقاومته في الأول، ولم يؤمر بذلك في الثاني على ما بلغ من أمره، وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل فقط، هذا قول بعض العلماء، وقول فرعون لموسى أَلَمْ نُرَبِّكَ هو على جهة المن عليه والاحتقار، أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا، وَلَبِثْتَ فِينا سِنِينَ، فمتى كان هذا الذي تدعيه، وقرأ جمهور القراء «من عمرك» بضم الميم، وقرأ أبو عمرو «عمرك» بسكونها، ثم قرره على قتل القبطي بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل، وقرأ الشعبي «فعلتك» بكسر الفاء وهي هيئة الفعل، وقوله وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يريد وقتلت القبطي وَأَنْتَ في قتلك إياه مِنَ الْكافِرِينَ إذ هو نفس لا يحل قتله قاله الضحاك، أو يريد وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي في قتلك إياه قاله ابن زيد، وهذان بمعنى واحد في حق لفظ الكفر، وإنما اختلفا باشتراك لفظ الكفر والثاني أن يكون بمعنى الهزء على هذا الدين فأنت من الكافرين بزعمك قاله السدي، والثالث هو قول الحسن أن يريد وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ الآن يعني فرعون بالعقيدة التي كان يبثها فيكون الكلام مقطوعا من قوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وإنما هو إخبار مبتدأ كان من الكافرين وهذا الثاني أيضا يحتمل أن يريد به كفر النعمة.
قال القاضي أبو محمد: وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا إلى فرعون إحدى عشر سنة غير أشهر.
(4/227)
1
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
قوله عز وجل:
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 20 الى 28]
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
القائل هنا هو موسى عليه السلام والضمير في قوله فَعَلْتُها لقتله القبطي، وقوله إِذاً صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ، وقوله وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ قال ابن زيد معناه من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه، وقال أبو عبيدة معناه من الناسين لذلك، ونزع بقوله تعالى أن تضل إحداهما، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس «وأنا من الجاهلين» ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير، وقوله حُكْماً يريد النبوة وحكمتها، وقرأ عيسى «حكما» بضم الحاء والكاف، وقوله وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ درجة ثانية للنبوة فرب نبي ليس برسول، ثم حاجه عليه السلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام، فقال قتادة هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة كأنه يقول أو يصح لك أن تعتمد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم، أي ليست نعمة لأن الواجب كان ألا يقتلني وألا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك، وقرأ الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها» ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وقال الأخفش قيل ألف الاستفهام محذوفة والمعنى «أو تلك» وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها أم كما قال «تروح من الحي أم تبتكر» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول تكلف، قول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف وهو صحيح كما قال قتادة والله المعين، وقال السدي والطبري هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني ولكن ذلك لا يدفع رسالتي.
قال القاضي أبو محمد: ولكل وجه ناحية من الاحتجاج فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون ونقض كلامه كله، والثاني مبد من موسى عليه السلام أنه منصف من نفسه معترف بالحق، ومتى حصل أحد المجادلين في هذه الرتبة وكان خصمه في ضدها غلب المتصف بذلك وصار قوله أوقع في النفوس، ولما لم يجد فرعون في هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله «رسول رب العالمين» فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء قال مكي كما يستفهم عن الأجناس، فلذلك استفهم ب ما وقد ورد له استفهام «بمن» في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن، فأتى موسى عليه السلام بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها وهي ربوبية السماوات والأرض، وهذه
(4/228)
1
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
المجادلة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد فقال فرعون عند ذلك أَلا تَسْتَمِعُونَ على وجه الإغراء والتعجب من شنعة المقالة، إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك وهذه ضلالة منها في مصر وديارها إلى اليوم بقية فزاد موسى في البيان بقوله رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ وقرأ جمهور الناس على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حميد الأعرج ومجاهد «أرسل» على بناء الفعل للفاعل، فزاد موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون وتبين له أنه في غاية البعد عن القدرة عليها وهي ربوبية الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية، وفي قراءة ابن مسعود وأصحابه «رب المشارق والمغارب وما بينهما» .
قوله عز وجل:
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 29 الى 37]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
لما انقطع فرعون في الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب، وهذه أبين علامات الانقطاع، فتوعّد موسى عليه السلام بالسجن حين أعياه خطابه، وفي توعده بالسجن ضعف لأنه خارت طباعه معه، وكان فيما روي يفزع منه فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله، وروي أن سجنه كان أشد من القتل في مطبق لا ينطلق منه أبدا فكان مخوفا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة دار النبود إلى اليوم، وكان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يفزعه توعد فرعون فقال له موسى على جهة اللطف به والطمع في إيمانه أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ يتضح لك معه صدقي، أفكنت تسجنني، فلما سمع فرعون ذلك طمع أن يجد أثناءه موضع معارضة فقال له فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى موسى عصاه من يده وكانت من عصي الجنة وكانت عصى آدم عليه السلام، ويروى أنها كانت من غير ورقة الريحان، وكانت عند شعيب عليه السلام في جملة عصي الأنبياء فأعطاها لموسى عليه السلام عند رعايته له الغنم على صورة قد تقدم ذكرها دلت على نبوة موسى وكان لها في رأسها شعبتان فثم كان فم الحية وغير ذلك من قصص هذه، ونزع يده من جيبه فإذا هي تتلألأ كأنها قطعة من الشمس، فلما رأى فرعون ذلك هاله ولم يكن له فيه مدفع غير أنه فزع إلى رميه بالسحر، وطمع، لعلو علم السحر في ذلك الوقت وكثرته، أن يكون فيه سبب لمقاومة موسى فأوهم قومه وأتباعه أن موسى عليه السلام ساحر، ثم استشارهم في أمره وأغراهم به في قوله يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
(4/229)
1
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ
فأشاروا عليه بتأخير أمره وأمر أخيه وجمع السحرة لمقاومته، وروي أنهم أشاروا بسجنه وهو كان الإرجاء عندهم، و «الإرجاء» التأخير ولم يشيروا بقتله لأن حجته نيرة وضلالتهم في ربوبية فرعون مبينة فخشوا الفتنة وطمعوا أن يغلب بحجة تقنع العوام، و «الحاشر» الجامع، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم «بكل سحار» ، وهو بناء المبالغة وقرأ عاصم أيضا والأعمش «بكل ساحر» .
قوله عز وجل:
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 44]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
«اليوم» هو يوم الزينة، وقيل كان يوم كسر خليج النيل، فهو كان يوم الزينة على وجه الدهر بمصر، وقال ابن زيد إن هذا الجمع كان بالإسكندرية، وقوله لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ليس معناه نتبعهم في السحر إنما أراد نتبعهم في نصرة ديننا وملتنا والإبطال على معارضتنا، وقرأ الأعرج وأبو عمرو «أين لنا» على الاستفهام، وقرأ عيسى «نعم» بكسر العين، والتقريب الذي وعدهم به فرعون هو الجاه الزائد على العطاء الذي طلبوه والقرب من الملك الذي كان عندهم إلههم، واختلف الناس في عدد السحرة، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، وكانوا مجموعين من مدائن مصر ريف النيل وهي كانت بلاد السحر الفرما وأنصناء وغير ذلك ومعظمهم كان من الفرما، والحبال والعصي كانت أوقار إبل، وقولهم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ يحتمل وجهين أحدهما القسم كأنهم أقسموا بعزة فرعون، كما تقول بالله إني لأفعل كذا وكذا، فكان قسمهم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ غير مبرور، والآخر أن يكون على جهة التعظيم لفرعون إذ كانوا يعبدونه والتبرك باسمه كما تقول ابتدأت بعمل شغل بِسْمِ اللَّهِ «وعلى بركة الله» . ونحو هذا.
قوله عز وجل:
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 45 الى 51]
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
تقدم في غير هذه السورة ما ذكر الناس في عظم الحية حين ألقى موسى عصاه، وفي هذه الآيات متروك كثير يدل عليه الظاهر، وقد ذكر في مواضع أخر وهي خوف موسى من ظهور سحرهم واسترهابهم للناس وتخييلهم في حبالهم وعصيهم أنها تسعى بقصد، ثم إن الحية التي خلق الله في العصا التقمت تلك
(4/230)
1
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
الحبال والعصي عن آخرها وأعدمها الله تعالى في جوفها وعادت العصا إلى حالها حين أخذ موسى بالفرجة التي في رأسها فأدخل يده في فمها فعادت عصا بإذن الله عز وجل. وقرأ جمهور القراء «تلقّف» بفتح التاء خفيفة واللام وشدّ القاف، وقرأ حفص عن عاصم «تلقف» بسكون اللام وتخفيف القاف، وروى البزي وفليح عن ابن كثير شد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يجلب همزة الوصل وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة كما لا تدخل على أسماء الفاعلين، وقوله ما يَأْفِكُونَ، أي ما يكذبون معه وبسببه في قولهم إنها معارضة لموسى ونوع من فعله، والإفك الكذب، ثم إن السحرة لما رأوا العصا، خالية من صناعة السحر ورأوا فيها بعد من أمر الله ما أيقنوا أنه ليس في قوة بشر أذعنوا ورأوا أن الغنيمة هي الإيمان والتمسك بأمر الله عز وجل فسجدوا كلهم لله عز وجل مقرين بوحدانيته وقدرته، ووصلوا إيمانهم بسبب موسى وهارون، وصرحوا بأن ذلك على أيديهما لأن قولهم «رب العالمين» مغن فلم يكرروا البيان في قولهم رَبِّ مُوسى وَهارُونَ إلا لما ذكرناه فلما رأى فرعون وملؤه إيمان السحرة وقامت الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنة نصرتهم وقع فرعون في الورطة العظمى، فرجع إلى السحرة بهذه الحجة الأخرى، فوقفهم موبخا على إيمانهم بموسى قبل إذنه، وفي هذه اللفظة مقاربة عظيمة وبعض إذعان لأن محتملاتها أنهم لو طلبوا إذنه في ذلك أذن، ثم توعدهم بقطع الأيدي والأرجل مِنْ خِلافٍ والصلب في جذوع النخل فقالوا له لا ضَيْرَ أي لا يضرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه.
وروي أنه أنفذ فيهم ذلك الوعيد وصلبهم على النيل، قال ابن عباس أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقولهم أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يريدون من القبط وصنيفتهم وإلا فقد كانت بنو إسرائيل آمنت، وقرأ الناس «أن كنا» بفتح الألف، وقرأ أبان بن تغلب «إن» بكسر الألف بمعنى أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط.
قوله عز وجل:
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 62]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
ثم إن الله عز وجل لما أراد إظهار أمره في نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بني إسرائيل ليلا من مصر، وأخبر أنهم سيتبعون وأمره بالسير تجاه البحر، وأمره بأن يستعير بنو إسرائيل حلي القبط وأموالهم وأن يستكثروا من أخذ أموالهم كيف ما استطاعوا هذا فيما رواه بعض المفسرين، وأمره باتخاذ خبز الزاد، فروي أنه أمر باتخاذه فطيرا لأنه أبقى وأثبت، وروي أن الحركة أعجلتهم عن اختمار خبز الزاد، وخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول موسى هكذا أمرت، فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه
(4/231)
1
ستمائة ألف أدهم من الخيل حاشى سائر الألوان، وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا قاله ابن عباس والله أعلم بصحته، وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك العدد، قال ابن عباس كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل، و «الشرذمة» الجمع القليل المحتقر، وشرذمة كل شيء بقيته الخسيسة وأنشد أبو عبيدة: «تخذين في شراذم النعال» .
وقال الآخر: [الرجز]
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها النواق
وقوله لَغائِظُونَ