فتح القدير للكمال ابن الهمام 007

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
 
عَلَامَةٌ مُمَيِّزَةٌ فَلَعَلَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ وَالْعَلَامَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَيْطًا غَلِيظًا مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ عَلَى وَسَطِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَإِنَّهُ جَفَاءٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَيَجِب أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَائِنَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَمَّامَاتِ، وَيُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَاتٌ كَيْ لَا يَقِفَ عَلَيْهَا سَائِلٌ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.
قَالُوا: الْأَحَقُّ أَنْ لَا يُتْرَكُوا أَنْ يَرْكَبُوا إلَّا لِلضَّرُورَةِ. وَإِذَا رَكِبُوا لِلضَّرُورَةِ فَلِيَنْزِلُوا فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَزِمَتْ الضَّرُورَةُ اتَّخَذُوا سُرُوجًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ثِيَابِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ (لِأَنَّ فِيهِ جَفَاءٌ بِالْمُسْلِمِينَ) أَيْ إغْلَاظًا عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُمْ وَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ فَرُبَّمَا يَمْرُقُونَ بِجَهْلِهِمْ فَيَقُولُونَ الْكُفَّارُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَّا فَإِنَّهُمْ فِي خَفْضِ عَيْشٍ وَنِعْمَةٍ وَنَحْنُ فِي كَدٍّ وَتَعَبٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] تَنْبِيهًا عَلَى خِسَّةِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا مُنِعَ مِنْ شَدِّ زُنَّارٍ وَهُوَ حَاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَمَنْعُهُمْ مِنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ الَّتِي تُعَدُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَاخِرَةً سَوَاءٌ كَانَتْ حَرِيرًا أَوْ غَيْرَهُ كَالصُّوفِ الْمُرَبَّعِ وَالْجُوخِ الرَّفِيعِ وَالْأَبْرَادِ الرَّقِيقَةِ أَوْلَى.
وَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِ خِلَافِ هَذَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ، وَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ اسْتِكْتَابِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ رُبَّمَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ خِدْمَةً لَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَغَيَّرَ خَاطِرُهُ مِنْهُ فَيَسْعَى بِهِ عِنْدَ مُسْتَكْتِبِهِ سِعَايَةً تُوجِبُ لَهُ مِنْهُ الضَّرَرَ، وَكَذَا يُؤْخَذُونَ بِالرُّكُوبِ عَلَى سُرُوجٍ فَوْقَ الْحُمُرِ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ. بَلْ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنْ لَا يَرْكَبُوا أَصْلًا إلَّا إذَا خَرَجُوا إلَى أَرْضِ قَرْيَةٍ وَنَحْوِهِ أَوْ كَانَ مَرِيضًا: أَيْ إلَّا أَنْ تُلْزِمُ الضَّرُورَةُ فَيَرْكَبُ ثُمَّ يَنْزِلُ فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرَّ بِهِمْ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ وَلَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَلَامَةُ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُهُ، وَفِي بِلَادِنَا جُعِلَتْ الْعَلَامَةُ فِي الْعِمَامَةِ فَأَلْزَمُوا النَّصَارَى الْعِمَامَةَ الزَّرْقَاءَ وَالْيَهُودَ الْعِمَامَةَ الصَّفْرَاءَ وَاخْتَصَّ الْمُسْلِمُونَ بِالْبَيْضَاءِ، وَكَذَا تُؤْخَذُ نِسَاؤُهُمْ بِالزِّيِّ فِي الطُّرُقِ فَيُجْعَلُ عَلَى مُلَاءَةِ الْيَهُودِيَّةِ خِرْقَةً صَفْرَاءَ وَعَلَى النَّصْرَانِيَّةِ زَرْقَاءَ، وَكَذَا فِي الْحَمَّامَاتِ، وَكَذَا تُمَيَّزُ دُورُهُمْ
(6/61)
 
 
بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ.
 
(وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَبُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ نَقْضًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ فَكَذَا يَنْقُضُ أَمَانَهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْهُ.
وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفْرٌ مِنْهُ، وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لَا يَمْنَعُهُ فَالطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا يَقِفَ سَائِلٌ فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ أَوْ يُعَامِلَهُمْ بِالتَّضَرُّعِ كَمَا يَتَضَرَّعُ لِلْمُسْلِمِينَ (وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخُصُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ) وَتُجْعَلُ مَكَاعِبُهُمْ خَشِنَةً فَاسِدَةَ اللَّوْنِ، وَلَا يَلْبَسُوا طَيَالِسَةً كَطَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَرِدْيَةً كَأَرْدِيَتِهِمْ، هَكَذَا أُمِرُوا وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.
 
(قَوْلُهُ: وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) فَيَصِيرُ مُبَاحَ الدَّمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ عِنْدَنَا، وَقُيِّدَ بِأَدَائِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا نُقِضَ عَهْدُهُ. وَالشَّافِعِيُّ يَنْقُضُ عَهْدَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَقَبُولِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنْقُضُهُ بِزِنَاهُ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَنْ يُصِيبَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ أَنْ يَفْتِنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: يُنْتَقَضُ بِإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا أَوْ سَبِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ ذِكْرِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ بِهِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَوَافَقَهُ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي أَوْ سَبَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُنْتَقَضُ، وَالْآخَرُ يُنْتَقَضُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ هَذَا (أَنَّهُ بِذَلِكَ يُنْتَقَضُ إيمَانُهُ) لَوْ كَانَ مُسْلِمًا (فَيُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِيمَانِ) فِي إفَادَةِ الْأَمَانِ فَمَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ يَنْقُضُ الْخَلَفَ الْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: سَمِعْت رَاهِبًا سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: لَوْ سَمِعْته لَقَتَلْته، إنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ الْعُهُودَ عَلَى هَذَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفْرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ) كَمَا هُوَ رِدَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ (وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ) لِعَقْدِ الذِّمَّةِ (لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الذِّمَّةِ) فِي الِابْتِدَاءِ (فَالْكُفْرُ الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ) فِي حَالِ الْبَقَاءِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ، قَالَتْ: فَفَهِمْتُهَا وَقُلْت: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَهْلًا: يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ قُلْت وَعَلَيْكُمْ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا سَبٌّ مِنْهُمْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ كَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَقَتَلَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِمْ حَرْبِيِّينَ. قَالُوا: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوا سَبَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ سَبَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نِسْبَةَ مَا لَا يَنْبَغِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُونَهُ كَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ إذَا أَظْهَرَهُ يُقْتَلُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ وَلَكِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُمُهُ فَلَا.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ عَنْهُمْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ بِالنَّصِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَبُولِ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ مِنْهُ يُنَافِي قَيْدَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ دَافِعًا لِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ فِي التَّمَرُّدِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ جَارِيًا عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَاغِرًا ذَلِيلًا. وَأَمَّا الْيَهُودُ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ بِمَعْنَى إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ، بَلْ كَانُوا أَصْحَابَ مُوَادَعَةٍ بِلَا مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ إلَى أَنْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوضَعْ جِزْيَةٌ قَطُّ عَلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَهَذَا الْبَحْثُ مِنَّا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا اسْتَعْلَى عَلَى
(6/62)
 
 
قَالَ (وَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا) ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا فَيُعَرَّى عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحِرَابِ.
 
(وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ) مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ، وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ.
 
(فَصْلٌ) (وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ) ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ (وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ) لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى الصَّدَقَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهٍ صَارَ مُتَمَرِّدًا عَلَيْهِمْ حَلَّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ أَوْ يَرْجِعُ إلَى الذُّلِّ وَالصَّغَارِ (قَوْلُهُ: وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا) أَيْ أَهْلُ الذِّمَّةِ (عَلَى مَوْضِعِ) قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ (فَيُحَارِبُونَنَا؛ لِأَنَّهُمْ) بِكُلٍّ مِنْ الْخُصْلَتَيْنِ (صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا) وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مَا كَانَ إلَّا لِدَفْعِ شَرِّ حِرَابَتِهِمْ (فَيَعْرَى عَنْ الْفَائِدَةِ) فَلَا يَبْقَى.
 
(وَإِذَا اُنْتُقِضَ عَهْدُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ، مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ) وَإِذَا تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَتَعُودُ ذِمَّتُهُ، وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِ بِنَقْضِ عَهْدِهِ وَتَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي خَلَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إجْمَاعًا وَيُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. (وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ) إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ النَّقْضِ، وَلَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ يَكُونُ فَيْئًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُرْتَدِّ إذَا الْتَحَقَ بِمَالٍ؛ وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ مِنْ مَالِهِ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَجَّانًا وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ حِينَ أَخَذَهُ فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ فَفِي رِوَايَةٍ يَكُونُ فَيْئًا وَفِي رِوَايَةٍ لَا. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ انْتِقَالُهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَغْلِبُوا فِيهِ كَانْتِقَالِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ (بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ) إذَا لَحِقَ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَأُسِرَ لَا يُسْتَرَقُّ بَلْ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ، وَكَذَا يَجُوزُ وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ إذَا عَادَ بَعْدَ نَقْضِهِ وَقَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ الْتَزَمَ بِالذِّمَّةِ الْإِسْلَامَ بَلْ أَحْكَامَهُ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إلَى الذِّمَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ الْتَزَمَ الْإِسْلَامَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعُدْ وَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى أُخِذَ بَعْدَ الظُّهُورِ فَقَدْ اُسْتُرِقَّ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ جِزْيَةٌ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. .
 
[فَصْلٌ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ]
(فَصْلٌ) . أَفْرَدَ أَحْكَامَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ بِفَصْلٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمْ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ النَّصَارَى، وَتَغْلِبُ بْنُ وَائِلٍ مِنْ الْعَرَبِ
(6/63)
 
 
الْمُضَاعَفَةِ، وَالصَّدَقَةُ تَجِبُ عَلَيْهِنَّ دُونَ الصِّبْيَانِ فَكَذَا الْمُضَاعَفُ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ، وَلِهَذَا تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِهِ الصُّلْحُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ مِثْلِهِ عَلَيْهَا وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِزْيَةِ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ رَبِيعَةَ تَنَصَّرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ ثُمَّ زَمَنُ عُمَرَ دَعَاهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْجِزْيَةِ فَأَبَوْا وَأَنِفُوا وَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الصَّدَقَةَ فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالرُّومِ فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ فَلَا تُعِنْ عَلَيْك عَدُوُّك بِهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي طَلَبِهِمْ وَضَعَّفَ عَلَيْهِمْ، فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْفُقَهَاءُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ بِسَنَدِهِ إلَى دَاوُد بْنِ كَرْدُوسَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ بَنِي تَغْلِبَ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ: فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّدَقَةِ، وَعَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْجِزْيَةَ مِنْ رُءُوسِهِمْ. فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً لَهُمْ شَاتَانِ، وَلَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَعَلَى هَذَا فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هِيَ جِزْيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ مَاشِيَةٌ وَنُقُودٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْيَسُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، فَإِذَا صَالَحُوهُمْ عَلَى مَالٍ جُعِلَ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمُسْتَحَقِّ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذِهِ جِزْيَةٌ سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ وَإِنْ كَانَ جِزْيَةً فِي الْمَعْنَى فَهُوَ وَاجِبٌ بِشَرَائِط الزَّكَاةِ وَأَسْبَابِهَا إذْ الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الْجِزْيَةِ مِنْ وَصْفِ الصَّغَارِ فَيُقْبَلُ مِنْ النَّائِبِ وَيُعْطَى جَالِسًا إنْ شَاءَ وَلَا يُؤْخَذُ بِتَلْبِيبِهِ (وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْجِزْيَةَ) وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهِ وَمِنْ أَهْلِ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِعَدَمِ وُجُودِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا، بِخِلَافِ أَرْضِهِمْ فَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا؛ لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ عِبَادَةً لِتَخُصَّ الْبَالِغِينَ
(6/64)
 
 
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهَا (وَيُوضَعُ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْخَرَاجُ) أَيْ الْجِزْيَةُ (وَخَرَاجُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْلَى الْقُرَشِيِّ) وَقَالَ زُفَرُ: يُضَاعَفُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ يَلْحَقُ بِهِ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ.
وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَخْفِيفٌ وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ، وَلِهَذَا تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْهَاشِمِيِّ فِي حَقِّهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَنَفَقَةِ عَبِيدِهِمْ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا يُفِيدُ أَنَّهُ رُوعِيَ فِي هَذَا الْمَأْخُوذِ جِهَةُ الْجِزْيَةِ فِي الْمَصْرِفِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ رُوعِيَ جِهَةُ الزَّكَاةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْجِزْيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ لَا يُغَيَّرُ، وَهَذِهِ الْجِزْيَةُ الَّتِي وَجَبَتْ بِالصُّلْحِ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْجِزْيَةَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ بِالصُّلْحِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ كَيْفَمَا وَقَعَ، وَاَلَّذِي يُرَاعَى فِيهِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَصْفُهُ وَكَمِّيَّتُهُ هُوَ الْجِزْيَةُ الَّتِي يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا شَاءُوا أَوْ أَبَوْا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(قَوْلُهُ وَيُوضَعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ) أَيْ مُعْتِقِهِ (الْخَرَاجُ: أَيْ الْجِزْيَةُ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ، وَقَالَ زُفَرُ: يُضَاعَفُ) عَلَيْهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالتَّغْلِبِيِّ نَفْسِهِ (لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ) وَهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى حِرْمَانِ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ الزَّكَاةَ، فَكَذَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى التَّضْعِيفِ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ، وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. (وَلَنَا أَنَّ هَذَا) أَيْ وَضْعَ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ (تَخْفِيفٌ) إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَصْفُ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ بِرَغْبَتِهِمْ فِي ذَلِكَ وَاشْتِشْقَاقِهِمْ مَا سِوَاهُ (وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ) أَيْ فِي التَّخْفِيفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْلَى أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ، وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ مَوْلًى نَصْرَانِيٌّ وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ التَّخْفِيفُ الثَّابِتُ بِالْإِسْلَامِ فَلَأَنْ لَا يَتَعَدَّى التَّخْفِيفُ الثَّابِتُ بِوَصْفِ التَّغْلِبِيَّةِ أَوْلَى (بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَاتِ) عَلَى الْهَاشِمِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَخْفِيفًا بَلْ تَحْرِيمٌ (وَالْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ بِهِ) وَيُنْقَضُ
(6/65)
 
 
وَلَا يَلْزَمُ مَوْلَى الْغَنِيِّ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُ صِينَ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ.
 
قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِمَوْلَى الْغَنِيِّ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَى مُعْتِقِهِ وَلَمْ تَتَعَدَّ إلَيْهِ فَقَالَ (لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ) فِي الْجُمْلَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا أُعْطِيَ كِفَايَتَهُ مِنْهَا (وَإِنَّمَا الْغِنَى مَانِعٌ) مِنْ الْإِسْقَاطِ عَنْ الْمُعْطَى لَهُ شَرْعًا تَحَقَّقَ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْمَوْلَى فَخُصَّ السَّيِّدُ (أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا؛ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ) لِاتِّسَاخِهَا، وَلِذَا لَا يُعْطَى مِنْهَا لَوْ كَانَ عَامِلًا (فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ) ؛ لِأَنَّ التَّكْرِيمَ أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيْهِ تِلْكَ الْأَوْسَاخُ بِنِسْبَةٍ فَإِنْ قُلْت: هَذَا تَقْدِيمٌ لِلْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» أُجِيبُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ فِي الْكَفَاءَةِ لِلْهَاشِمِيَّةِ وَالْإِمَامَةِ فَكَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَفَاءَةِ وَالْإِمَامَةِ فَيُخَصُّ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ تَخْفِيفٌ فَلَا يَتَعَدَّى بِالنِّسْبَةِ لِلتَّضْعِيفِ إلَى الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بِدَلِيلِ التَّخْفِيفِ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْمَوْلَى فَيَخْتَصُّ كَوْنُ الْمَوْلَى مِنْهُمْ بِمَا فِيهِ دَفْعُ نَقِيصَةٍ لِمَا أَنَّ نَقِيصَةَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ تَنْتَسِبُ إلَى مَوْلَاهُ.
وَوَجْهٌ آخَرُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ وَلَا مَلْزُومًا لِأَحْكَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِهِ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَهُوَ أُجْرَتُهُ رُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ أَرْقَمَ بْنَ أَرْقَمٍ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» فَإِذَا عُلِمَ عَدَمُ عُمُومِهِ فَلْيُخَصَّ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الزَّكَاةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنْ قِيلَ لَمْ يُوَافِقْ زُفَرَ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقِيلَ بَلْ قَوْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ الشَّعْبِيِّ.
 
(قَوْلُهُ: وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ) مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ، وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ
(6/66)
 
 
وَالْجِزْيَةُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ) ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَهُوَ مُعَدٌّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عَمَلَتُهُمْ وَنَفَقَةُ الذَّرَارِيِّ عَلَى الْآبَاءِ، فَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا كِفَايَتَهُمْ لَاحْتَاجُوا إلَى الِاكْتِسَابِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِلْقِتَالِ (وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْعَطَاءِ فِي زَمَانِنَا مِثْلُ الْقَاضِي وَالْمُدَرِّسِ وَالْمُفْتِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالْجِزْيَةُ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ، وَهِيَ مَوَاضِعُ يُخَافُ هُجُومُ الْعَدُوِّ فِيهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ (وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ) وَهِيَ مَا تُوضَعُ وَتُرْفَعُ فَوْقَ الْمَاءِ لِيُمَرَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْقَنْطَرَةِ يُحْكَمُ بِنَاؤُهَا وَلَا تُرْفَعُ (وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَتُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ) فَإِنَّهُ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكْفُوهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ وَتَرَكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلدَّفْعِ وَهَذَا (لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ) وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عُمَّالُهُمْ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ فِي عَلَامَةِ السَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ أَنَّهُ يُعْطَى أَيْضًا لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَبِهَذَا تَدْخُلُ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّلَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَكِنْ لَيَعْمَلَ بَعْدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ، وَلِكَوْنِهِ صِلَةً سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ) فَلَا يُورَثُ (وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَأَكُّدِ حَقِّهِ بِمَجِيءِ وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ، وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُجْرَى فِيهِ الْإِرْثُ كَسَهْمِ الْغَازِي فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَكَّدَ سَهْمُهُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَتَقْيِيدُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنِصْفِ السَّنَةِ رُبَّمَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إذَا مَاتَ آخِرَهَا يُعْطَى وَرَثَتُهُ، وَقَالُوا: لَا يَجِبُ أَيْضًا وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى عَنَاءَهُ: أَيْ تَعَبَهُ فِي عَمَلِهِ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْطَى.
وَعَلَّلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَدَمَ وُجُوبِ إعْطَائِهِ بَعْدَمَا تَمَّتْ السَّنَةُ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَا فِي نِصْفِهَا، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَكَّدْ الْحَقُّ بَعْدَمَا تَمَّتْ السَّنَةُ أَيْضًا مُعَوِّلًا عَلَى أَنَّهُ صِلَةٌ فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي قَصْرَ الْإِرْثِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهِ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَأَكَّدَ بِإِتْمَامِ عَمَلِهِ فِي السَّنَةِ كَمَا قُلْنَا: إنَّهُ يُورَثُ سَهْمُ الْغَازِي بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِتَأَكُّدِ الْحَقِّ حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِلْكٌ: وَقَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنَّمَا خَصَّ نِصْفَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ آخِرِهَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا إلَّا عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الْعَامِ.
ثُمَّ قِيلَ: رِزْقُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ يُعْطَى فِي آخِرِ السَّنَةِ، وَلَوْ أُخِذَ فِي أَوَّلِهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ مُضِيِّهَا، قِيلَ
(6/67)
 
 
بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ كُشِفَتْ عَنْهُ) لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ بَلَغَتْهُ. قَالَ (وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ) وَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَمْهِلُ فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَجِبُ رَدُّ مَا بَقِيَ، وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ تَعْجِيلِ الْمَرْأَةِ النَّفَقَةَ لَا يَجِبُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إلَيَّ رَدُّ الْبَاقِيَ كَمَا لَوْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَمَاتَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَعِنْدَهُمَا هُوَ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِالْمَوْتِ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، ذَكَرَهُ فِي جَامِعَيْ قَاضِي خَانْ والتمرتاشي. وَالْعَطَاءُ: هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الدِّيوَانِ بِاسْمِ كُلٍّ مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ كَالْجَامِكِيَّةِ فِي عُرْفِنَا إلَّا أَنَّهَا شَهْرِيَّةٌ، وَالْعَطَاءُ سَنَوِيٌّ.
 
[بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ]
(بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الطَّارِئِ. وَالْمُرْتَدُّ: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ) أَبَدَاهَا (كُشِفَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ) أَيْ عَرَضَتْ لَهُ (شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ عَنْهُ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ) وَهُمَا الْقَتْلُ وَالْإِسْلَامُ وَأَحْسَنُهُمَا الْإِسْلَامُ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَ الْعَرْضِ قَالَ: (إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (غَيْرُ وَاجِبٍ) بَلْ مُسْتَحَبٌّ (لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ) وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدَّعْوَةُ إلَيْهِ، وَدَعْوَةُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ (قَوْلُهُ: وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ) فِيهَا (وَإِلَّا قُتِلَ) وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنْ الْقُدُورِيِّ يُوجِبُ وُجُوبَ الْإِنْظَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي مِثْلِهِ، فَذَكَرَ عِبَارَةَ الْجَامِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ) أَيْ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ إنْظَارَهُ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ
(6/68)
 
 
لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِالثَّلَاثَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الْإِمْهَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَيُقْتَلُ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْهَالٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا.
وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ الثَّلَاثَةُ (لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ) بِدَلِيلِ حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ «فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ضُرِبَتْ لِلتَّأَمُّلِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَقِصَّةُ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف: 76] وَهِيَ الثَّالِثَةُ إلَى قَوْلِهِ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ فَقَالَ نَعَمْ. رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَتَلْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا لَعَلَّهُ يَتُوبُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، لَكِنْ ظَاهِرُ تَبَرِّي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (تَأْوِيلُ الْأَوَّلِ) وَهُوَ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ إمْهَالِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ (أَنْ يَسْتَمْهِلَ فَيُمْهَلَ) وَظَاهِرُ الْمَبْسُوطِ الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ قَالَ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْنَا إزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، أَوْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّفَكُّرِ؛ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُهْلَةِ، وَإِذَا اسْتَمْهَلَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُمْهِلَهُ، وَمُدَّةُ النَّظَرِ جُعِلَتْ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا فِي الْخِيَارِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ الدَّالِّ عَلَى الْوُجُوبِ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَعَلَّهُ طَلَبَ التَّأْجِيلَ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنْ تَابَ فِي الْحَالِ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِنْظَارٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِنْظَارِ فَكَمَذْهَبِنَا، وَالِاسْتِدْلَالُ مُشْتَرَكٌ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَهَذَا كَافِرٌ حَرْبِيٌّ، وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ اسْتِحْبَابِ الْإِمْهَالِ فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَوَامِرُ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى مَا عُرِفَ، ثُمَّ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: (وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ) لَيْسَ بِجَيِّدٍ إذْ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْإِمْهَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ يُخَالِفُ الْمَذْهَبَ وَيُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ إلَّا إذَا خِيفَ الْفَوَاتُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَوَامِرَ الْمَذْكُورَةَ مُطْلَقَةٌ بَلْ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ " فَاقْتُلُوهُ "؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْوَصْلَ وَالتَّعْقِيبَ. قُلْنَا: تِلْكَ الْفَاءُ الْعَاطِفَةُ وَهِيَ فَاءُ السَّبَبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَتُفِيدُ الْوَصْلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ. قُلْنَا: الْمَعْلُولُ وَهُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ إيجَابُ قَتْلِهِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ عِلَّتِهِ الْمُثِيرَةِ لَهُ وَهِيَ كُفْرُهُ، وَأَمَّا إيجَابُ الِامْتِثَالِ عَلَى الْفَوْرِ فَشَيْءٌ آخَرُ.
(وَلَا فَرْقَ) فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ (بَيْنَ كَوْنِ الْمُرْتَدِّ حُرًّا أَوْ عَبْدًا) وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ قَتْلُهُ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ (وَإِطْلَاقُ الدَّلَائِلِ)
(6/69)
 
 
وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ، وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ) قِيلَ هُوَ أَنْ يَقُولَ تُبْتُ وَرَجَعْتُ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ. قِيلَ لَكِنْ هَذَا بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَالْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. (وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ؟ فَقَالَ: يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ، وَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: وَلَمْ أَدْخُلْ فِي هَذَا الدِّينِ قَطُّ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ: أَيْ مِنْ الدِّينِ الَّذِي ارْتَدَّ إلَيْهِ فَهِيَ تَوْبَةٌ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: قَطُّ يُرِيدُ بِهِ مَعْنَى أَبَدًا؛ لِأَنَّ قَطُّ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى لَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إسْلَامُ النَّصْرَانِيِّ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالْيَهُودِيُّ كَذَلِكَ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ، وَكَذَا فِي كُلِّ مِلَّةٍ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ خُصُوصَ الرِّسَالَةِ إلَى الْعَرَبِ فَيُصَدِّقُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ بِهِ، هَذَا فِيمَنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فَقَالَ مُحَمَّدُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ قَالَ دَخَلْت فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ دَلِيلُ إسْلَامِهِ، فَكَيْفَ إذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ضِيقًا. وَقَوْلُهُ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ الْحَاضِرَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ بِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلْنَاهُ.
وَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ ثَانِيًا قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ أَيْضًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ قَالَ: فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَتُبْ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَجَّلُ، فَإِنْ تَابَ ضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ ثُمَّ يَحْبِسُهُ وَلَا يُخْرِجُهُ حَتَّى يَرَى عَلَيْهِ خُشُوعَ التَّوْبَةِ وَحَالَ الْمُخْلِصِ فَحِينَئِذٍ يُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَ بِهِ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا دَامَ يَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا، وَمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مَرْوِيٌّ فِي النَّوَادِرِ قَالَ: إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا ثُمَّ يُحْبَسُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَرُجُوعُهُ انْتَهَى. وَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ كَرَّرَ رِدَّتَهُ كَالزِّنْدِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] الْآيَةَ. .
قُلْنَا: رَتَّبَ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى شَرْطِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] وَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ: فِي الزِّنْدِيقِ لَنَا
(6/70)
 
 
قَالَ (فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ كُرِهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ) وَمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ هَاهُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ، وَالْعَرْضُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
 
(وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْتَلُ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ فَتُنَاطُ بِهَا عُقُوبَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إذَا صَدَقَ قَبِلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلَا خِلَافٍ، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يُقْتَلُ غِيلَةً، فَسَّرَهُ بِأَنْ يُنْتَظَرَ فَإِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ الِاسْتِخْفَافُ، وَقَتْلُ الْكَافِرِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ جَائِزٌ.
 
(قَوْلُهُ: فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ) أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ (كُرِهَ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ) وَالْقَاطِعِ (لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ) وَكُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ (وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ هُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ) فَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْعَرْضِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إذَا فَعَلَ ذَلِكَ: أَيْ الْقَتْلَ أَوْ الْقَطْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أُدِّبَ
 
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ) وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّرْبَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَيُرْوَى) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا (تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ) وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةٍ، وَعَنْ الْحَسَنِ تُضْرَبُ كُلَّ يَوْمٍ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تُسْلِمَ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِحُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ، وَهَذَا قَتْلٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مُوَالَاةَ الضَّرْبِ تُفْضِي إلَيْهِ. وَلِذَا قُلْنَا فِيمَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حُدُودٌ: إنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الثَّانِي مَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْحَدِّ السَّابِقِ كَيْ لَا يَصِيرَ قَتْلًا وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ، ثُمَّ الْأَمَةُ تُدْفَعُ إلَى مَوْلَاهَا فَيُجْعَلُ حَبْسُهَا بِبَيْتِ السَّيِّدِ سَوَاءٌ طَلَبَ هُوَ ذَلِكَ أَمْ لَا فِي الصَّحِيحِ، وَيَتَوَلَّى هُوَ جَبْرَهَا، قَالَ الْمُصَنِّفُ (جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ) يَعْنِي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ السَّيِّدِ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لَا فَائِدَةَ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يَبْقَى لِيُمْكِنَ اسْتِخْدَامُهُ، وَلَا تُسْتَرَقُّ الْحُرَّةُ الْمُرْتَدَّةُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحِينَئِذٍ تُسْتَرَقُّ إذَا سُبِيَتْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ: تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا. قِيلَ وَلَوْ أَفْتَى بِهَذِهِ لَا بَأْسَ بِهِ فِيمَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَسْمًا لِقَصْدِهَا السَّيِّئِ بِالرِّدَّةِ مِنْ إثْبَاتِ الْفُرْقَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَهَا الزَّوْجُ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ يَهَبَهَا الْإِمَامُ لَهُ إذَا كَانَ مَصْرِفًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالرِّدَّةِ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا الزَّوْجُ فَيَمْلِكُهَا وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِالرِّدَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّى هُوَ حَبْسَهَا وَضَرْبَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَرْتَدُّ ضَرَرُ قَصْدِهَا عَلَيْهَا.
قِيلَ: وَفِي الْبِلَادِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا التَّتَرُ وَأَجْرَوْا أَحْكَامَهُمْ فِيهَا وَأَبْقَوْا الْمُسْلِمِينَ كَمَا وَقَعَ فِي خُوَارِزْمَ وَغَيْرِهَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ فِي الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ الْإِمَامِ.
وَقَدْ أَفْتَى الدَّبُوسِيُّ وَالصَّفَّارُ وَبَعْضُ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ رَدًّا عَلَيْهَا، وَغَيْرُهُمْ مَشَوْا عَلَى الظَّاهِرِ وَلَكِنْ حَكَمُوا بِجَبْرِهَا عَلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ مَعَ الزَّوْجِ؛ وَتُضْرَبُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَاخْتَارَهُ قَاضِي خَانْ لِلْفَتْوَى، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ (لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. قَالَ (وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ) هِيَ جِنَايَةُ الْكُفْرِ (وَجِنَايَةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا)
(6/71)
 
 
وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَأْخِيرُ الْأَجْزِيَةِ إلَى دَارِ الْآخِرَةِ إذْ تَعْجِيلُهَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ دَفْعًا لِشَرٍّ نَاجِزٍ وَهُوَ الْحِرَابُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ؛ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْبِنْيَةِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَصَارَتْ الْمُرْتَدَّةُ كَالْأَصْلِيَّةِ قَالَ (وَلَكِنْ تُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ) ؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُجْبَرُ عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَهُوَ الْقَتْلُ وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا مُطْلَقٌ يَعُمُّ الْكَافِرَةَ أَصْلِيًّا وَعَارِضًا، وَثَبَتَ تَعْلِيلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ عَدَمِ حِرَابِهَا فَكَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ مَا رَوَاهُ بَعْدُ أَنَّ عُمُومَهُ مُخَصَّصٌ بِمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَعْنَى بَعْدَ هَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَجْزِيَةِ بِأَنْ تَتَأَخَّرَ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا الْمَوْضُوعَةُ لِلْأَجْزِيَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَوْضُوعَةِ هَذِهِ الدَّارُ لَهَا، فَهَذِهِ دَارُ أَعْمَالٍ وَتِلْكَ دَارُ جَزَائِهَا، وَكُلُّ جَزَاءٍ شُرِعَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَا هُوَ إلَّا لِمَصَالِحَ تَعُودُ إلَيْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ كَالْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ شُرِعَتْ لِحِفْظِ النُّفُوسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ أَنْ يَكُونَ لِدَفْعِ شَرِّ حِرَابِهِ لَا جَزَاءٍ عَلَى فِعْلِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ جَزَاءَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِرَابُ وَهُوَ الرَّجُلُ، وَلِهَذَا «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُقَاتِلُ عَلَى مَا صَحَّ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ كَانَتْ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ رَأْيٍ وَتَبَعٍ تُقْتَلُ لَا لِرِدَّتِهَا بَلْ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَإِنَّمَا حُبِسَتْ (لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَقَرَّتْ بِهِ فَتُحْبَسُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ) .
وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَا تُقْتَلْ
(6/72)
 
 
وَالْأَمَةُ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا) أَمَّا الْجَبْرُ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ الْمَوْلَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَيُرْوَى تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ مُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِسْلَامِ.
 
قَالَ (وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْوَالِهِ بِرِدَّتِهِ زَوَالًا مُرَاعًى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
النِّسَاءُ إذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ. وَفِي بَلَاغَاتِ مُحَمَّدٍ قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْإِسْلَامِ حُبِسَتْ. وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ رَجَعَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ» فَمُضَعَّفٌ بِمَعْمَرِ بْنِ بَكَّارَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَرْأَةَ، وَزَادَ: «فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ فَقُتِلَتْ» وَهُوَ ضَعِيفٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُذَيْنَةَ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ: إنَّهُ مَتْرُوكٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُطَارِدٍ بْنِ أُذَيْنَةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عَائِشَةَ «ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ» وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالُوا فِيهِ: إنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيثَ مَعَ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِهَا، وَأَمْثَلُ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُقْتَلْ الْمَرْأَةُ إذَا ارْتَدَّتْ» وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْسٍ الْجَزَرِيُّ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَدَّتْ فَلَمْ يَقْتُلْهَا» وَضَعَّفَهُ بِحَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا هُرْمُزُ بْنُ مُعَلَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْفَزَارِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ، فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا، فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَاسْتَتِبْهَا» وَتَقَدَّمَ رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَمَا أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الثَّوْرِيُّ يَعِيبُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثًا كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ عَنْ عَاصِمٍ بِهِ فَزَالَ انْفِرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي ادَّعَاهُ الثَّوْرِيُّ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ أَمَرَ فِي أُمِّ وَلَدٍ تَنَصَّرَتْ أَنْ تُبَاعَ فِي أَرْضٍ ذَاتِ مُؤْنَةٍ عَلَيْهَا وَلَا تُبَاعُ فِي أَهْلِ دِينِهَا فَبِيعَتْ فِي دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِهَا " وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الْمُرْتَدَّةُ تُسْتَتَابُ وَلَا تُقْتَلُ " وَضُعِّفَ بِخِلَاسٍ.
 
(قَوْلُهُ: وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْلَاكِهِ زَوَالًا مُرَاعًى) أَيْ مَوْقُوفًا غَيْرَ بَاتٍّ فِي الْحَالِ
(6/73)
 
 
فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ عَلَى حَالِهَا، قَالُوا: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ) ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ، فَإِلَى أَنْ يُقْتَلَ يَبْقَى مِلْكُهُ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ. وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَا قَتْلَ إلَّا بِالْحِرَابِ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَيَعْمَلُ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَزَالَ مِلْكُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ أَمْوَالُهُ عَلَى حَالِهَا) الْأَوَّلِ (وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحَكَمَ) الْحَاكِمُ (بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فَعَمِلَ السَّبَبُ) وَهُوَ كَوْنُهُ كَافِرًا حَرْبِيًّا (عَمَلَهُ) مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الرِّدَّةِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ مِلْكُهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ، وَجَعْلُهُ كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِلْكٌ بَاتٌّ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِالْخِيَارِ شَرْعًا كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ حِينَ وَرَدَ عَلَيْهِ أَنْ لَا مَعْنَى لِلزَّوَالِ الْمُرَاعَى وَالْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَزُولَ أَوْ لَا فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَزُولُ ثُمَّ يَعُودُ بِالْإِسْلَامِ وَهَذَا لَيْسَ وَاقِعًا، وَإِلَّا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى مَا قَبْلَهُ كَالْمِلْكِ الرَّاجِعِ بِالرُّجُوعِ (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ) وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَقَوْلُهُمَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ.
وَجْهُهُ (أَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ) وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِمَالِهِ، وَأَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ لَا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ، فَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ يَبْقَى مِلْكُهُ وَصَارَ (كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ) لَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يُقْتَلْ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا إلَى أَنْ يُقْتَلَ) وَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعِصْمَةِ، وَكَوْنُهُ حَرْبِيًّا (يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ) وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَزُولَ فِي الْحَالِ عَلَى الْبَتَاتِ (إلَّا أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَهُ وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَأَنِسَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ حِفْظَهُ عَلَيْنَا إلَى الْجَنَّةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ. (فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ) وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ (وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ) عَمَلَهُ، وَإِنْ ثَبَتَ مِنْهُ أَحَدُ مَا قُلْنَا عَمِلَ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ، وَلَا
(6/74)
 
 
قَالَ (وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: كِلَاهُمَا لِوَرَثَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كِلَاهُمَا فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، ثُمَّ هُوَ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا. وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَخْفَى أَنَّ الْحِرَابَةَ لَا تُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمِلْكِ بَلْ زَوَالَ الْعِصْمَةِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ يَمْلِكُ غَيْرَ أَنَّ مَمْلُوكَهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ، فَإِذَا اُسْتُوْلِيَ عَلَيْهِ زَالَ مِلْكُهُ، فَكَوْنُ الْمُرْتَدِّ حَرْبِيًّا قُصَارَى مَا يَقْتَضِي زَوَالَ عِصْمَةِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ تَبَعًا، وَهُوَ لَا يَنْفِي قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ فَلَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالزَّوَالِ مُسْتَنِدًا، وَلِهَذَا زَادَ قَوْلَهُ: مَقْهُورًا تَحْتَ أَيْدِينَا فَيَكُونُ مَالُهُ مُسْتَوْلًى عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُرَادِ أَنَّ بِالرِّدَّةِ يَزُولُ مِلْكُهُ زَوَالًا بَاتًّا، فَإِنْ اسْتَمَرَّ حَتَّى مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِاللَّحَاقِ اسْتَمَرَّ بِالزَّوَالِ الثَّابِتِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، وَإِنْ عَادَ عَادَ الْمِلْكُ وَهُمَا هَرَبًا مِنْ الْحُكْمِ بِالزَّوَالِ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ، فَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الرِّدَّةَ لَمَّا اقْتَضَتْ الزَّوَالَ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ إنْ عَادَ وَمَالُهُ قَائِمٌ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا فَيَقُولُ بِالرِّدَّةِ يَزُولُ، ثُمَّ بِالْعَوْدِ يَعُودُ شَرْعًا، هَذَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَمِ زَوَالِ مِلْكِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ تَصَرُّفَهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَتَصِيرُ تَبَرُّعَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَجَعَلَهُ مُحَمَّدٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّلَفِ فَهُوَ أَسْوَأُ مِنْ الْمَرِيضِ حَالًا، وَأَبُو يُوسُفَ يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ: الْمُرْتَدُّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَرِيضُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ.
 
(قَوْلُهُ: وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ حُكِمَ بِلَحَاقِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا) لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا: كِلَا الْكَسْبَيْنِ لِوَرَثَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: (كِلَاهُمَا فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ) إجْمَاعًا (فَبَقِيَ مَالَ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ) لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ (فَيَكُونُ فَيْئًا. وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ إلَى آخِرِهِ (فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ) وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى الشَّافِعِيِّ إلَّا إذَا بَيَّنَّا عِلِّيَّةَ الِاسْتِنَادِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَخْذَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ، وَهُوَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِاسْتِنَادِهِ شَرْعًا إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ وَإِلَّا كَانَ تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ إسْلَامٌ.
أَوْ نَقُولُ: اسْتِحْقَاقُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَالْوَرَثَةُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَتَرَجَّحُوا بِجِهَةِ الْقَرَابَةِ فَكَانُوا كَقَرَابَةٍ ذَاتِ جِهَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَرَابَةٍ ذَاتِ جِهَةٍ كَالْأَخِ الشَّقِيقِ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ قَالَ تَعَالَى:
(6/75)
 
 
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِعَدَمِهِ قَبْلَهَا وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُهُ، ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ وَبَقِيَ وَارِثًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلِاسْتِنَادِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) مَا قَالَاهُ فِي وَجْهِ التَّوْرِيثِ إلَّا (أَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ) وَهِيَ الْمَوْتُ فَيَسْتَنِدُ الْإِرْثُ إلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ قُلْت إنَّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ زَالَ مِلْكُهُ، فَمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يَقَعُ مَمْلُوكًا لَهُ لِيُمْكِنَ اسْتِنَادُ التَّوْرِيثِ فِيهِ إلَى مَا قُبَيْلَ مَوْتِهِ الْحُكْمِيِّ: أَعْنِي الرِّدَّةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُورَثُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا فِي تَوْرِيثِ كَسْبِ الرِّدَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ الْخِلَافِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ تَزُولُ أَمْلَاكُهُ بِالرِّدَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ الْحُكْمِيُّ بِاللَّحَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ الْمَوْتُ وَقُلْنَا بِوُجُوبِ إرْثِهِمْ إيَّاهُ.
وَالْفَرْضُ أَنَّ لَهُ مَالًا مَمْلُوكًا فَلَا بُدَّ مِنْ إرْثِهِمْ لَهُ وَإِرْثُهُمْ يَسْتَدْعِي اسْتِنَادَهُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ فَيَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ اعْتِبَارُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ مَوْجُودًا قَبْلَهَا حُكْمًا لِوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ نَفْسُ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حِسًّا وَقْتَئِذٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ) بِأَنْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا (وَبَقِيَ كَذَلِكَ إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ) أَوْ لَحَاقِهِ (فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) رَوَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَهَذَا لِاعْتِبَارِ الِاسْتِنَادِ فِي الْإِرْثِ، فَإِنَّ الْمُسْتَنِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَيَجِبُ أَنْ يُصَادِفَ عِنْدَ ثُبُوتِهِ مَنْ هُوَ بِصِفَةِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ وَكَذَا عِنْدَ اسْتِنَادِهِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ أَوْ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. (وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ الرِّدَّةِ) فَقَطْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ بَقَائِهِ بِالصِّفَةِ إلَى الْمَوْتِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ (فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ) أَيْ اسْتِحْقَاقُ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ الرِّدَّةِ بِعُرُوضِ مَوْتِ ذَلِكَ الْوَارِثِ أَوْ رِدَّتِهِ بَعْدَ رِدَّةِ أَبِيهِ (بَلْ) إذَا مَاتَ أَوْ ارْتَدَّ (يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ) وَهُوَ وَارِثُ الْوَارِثِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَوَّلَ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُهَا لِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ) وَاللَّحَاقِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْهُ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا أَصَحُّ
(6/76)
 
 
لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
 
وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَقِيَ الثَّمَنُ كُلُّهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَلَوْ كَانَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُهُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا يَوْمَ ارْتَدَّ فَعَتَقَ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَلْحَقَ أَوْ أَسْلَمَ وَرِثَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ حَكَى بَيْنَهُمَا خِلَافًا فِي اللَّحَاقِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ حَالُ الْوَارِثِ يَوْمَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمِ اللَّحَاقِ لَا الْحُكْمِ.
وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَارِضَ يَعْنِي الرِّدَّةَ مُتَصَوَّرٌ زَوَالُهُ فَتَوَقَّفَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى الْقَضَاءِ. وَوَجْهُ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّحَاقَ تَزُولُ بِهِ الْعِصْمَةُ وَالْأَمَانُ وَالذِّمَّةُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ وَفَاءً فَتُؤَدَّى الْكِتَابَةُ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ وَارِثِهِ يَوْمَ مَاتَ لَا حَالُ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ. وَجَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّحَاقَ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْمَوْتِ الْمَأْيُوسِ عَنْ ارْتِفَاعِهِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِهِ بِلَا قَضَاءٍ، بَلْ فِي حُكْمِهِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِنَا عَنْهُ وَأَحْكَامِنَا، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَتَأَكَّدَ وَذَلِكَ بِالْحُكْمِ بِهِ.
 
(قَوْلُهُ: وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ) أَيْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ (إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ) أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ (وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ الْمَوْتِ، وَهِيَ بِاخْتِيَارِهِ أَشْبَهَتْ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَهُوَ يُوجِبُ الْإِرْثَ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ، وَلَوْ كَانَ وَقْتَ الرِّدَّةِ مَرِيضًا فَلَا إشْكَالَ فِي إرْثِهَا. وَقَدْ يُقَالُ كَوْنُ الرِّدَّةِ تُشْبِهُ الطَّلَاقَ قُصَارَاهَا أَنْ يُجْعَلَ بِالرِّدَّةِ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا وَالْفَرْضُ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَطَلَاقُ الصَّحِيحِ لَا يُوجِبُ حُكْمَ الْفِرَارِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ بِالرِّدَّةِ كَأَنَّهُ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ بِاخْتِيَارِهِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ثُمَّ هُوَ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ مُخْتَارًا فِي الْإِصْرَارِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ حَتَّى قُتِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلِّقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَمُوتُ قَتْلًا أَوْ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِلَحَاقِهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرِثُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَارِثَةً عِنْدَ رِدَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى رِوَايَةِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّحَقُّقِ بِصِفَةِ الْوَارِثِ حَالَ الرِّدَّةِ فَقَطْ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ، وَمَا فِي الْكِتَابِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَبَقَائِهِ بِالصِّفَةِ إلَى الْمَوْتِ، أَوْ عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِهِ
(6/77)
 
 
وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إنْ ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا يَرِثُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِالرِّدَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ.
 
قَالَ: (وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَقْتَ مَوْتِهِ فَقَطْ. هَذَا وَاشْتِرَاطُ قِيَامِ الْعِدَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ فَلَا تَرِثُ غَيْرُ الْمَدْخُولَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ تَبِينُ غَيْرُ الْمَدْخُولَةِ لَا إلَى عِدَّةٍ فَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الرِّدَّةُ مَوْتًا حَقِيقِيًّا حَتَّى أَنَّ الْمَدْخُولَةَ إنَّمَا تَعْتَدُّ فِيهَا بِالْحَيْضِ لَا الْأَشْهُرِ لَمْ يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِلْإِرْثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ لَحَاقِهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَى الرِّدَّةِ لَكِنْ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَبِهَذَا أَيْضًا لَا تَرِثُ الْمُنْقَضِيَةُ عِدَّتُهَا.
 
(قَوْلُهُ: وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا) إذْ الْمَرْأَةُ لَا حِرَابَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ كَافِرَةً أَصْلِيَّةً أَوْ صَارَتْ كَافِرَةً (فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ) وَهُوَ سُقُوطُ عِصْمَةِ نَفْسِهَا الْمُسْتَتْبِعَةِ لِسُقُوطِ عِصْمَةِ مَالِهَا فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْ كَسْبَيْ إسْلَامِهَا وَرِدَّتِهَا عَلَى مِلْكِهَا فَيَرِثُهُمَا وَرَثَتُهَا (بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) فَإِنَّ كَسْبَهُ فِي الرِّدَّةِ فَيْءٌ لِكَوْنِهِ مُحَارِبًا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ بِاللَّحَاقِ فَلَا يَمْلِكُهُ لِكَوْنِهِ مَالَ حَرْبِيٍّ مَقْهُورٍ تَحْتَ أَيْدِينَا فَلَا يُورَثُ (قَوْلُهُ: وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إذَا كَانَتْ ارْتَدَّتْ، وَهِيَ مَرِيضَةٌ) فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ ذَلِكَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهَا قَصَدَتْ الْفِرَارَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ بَعْدَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِسَبَبِ مَرَضِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّتْ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهَا بِرِدَّتِهَا هَذِهِ لَمْ تُبْطِلْ لَهُ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِمَالِهَا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِيهِ جَعْلُ رِدَّتِهَا كَطَلَاقِهِ فَرِدَّتُهَا فِي مَرِضَةِ كَطَلَاقِهِ فِي مَرَضِهِ، وَرِدَّتُهَا فِي صِحَّتِهَا كَطَلَاقِهِ فِي صِحَّتِهِ، وَبِهِ لَا يَكُونُ فَارًّا إذَا عَرَضَ لَهُ مَوْتٌ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَإِنَّ بِرِدَّتِهِ فِي صِحَّتِهِ تَرِثُ إذَا عَرَضَ لَهُ مَوْتٌ، فَلَوْ جُعِلَتْ رِدَّتُهُ كَطَلَاقِهِ بَائِنًا كَانَ مُطَلِّقًا فِي صِحَّتِهِ، وَعُرُوضُ الْمَوْتِ لِلْمُطَلِّقِ فِي صِحَّتِهِ لَا يُوجِبُ لَهُ حُكْمَ الْفِرَارِ، فَلِذَا جَعَلْنَا رِدَّتَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ لِسَبَبِ مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ بِإِصْرَارِهِ جُعِلَ مُطَلِّقًا فِي مَرَضِهِ فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْفِرَارِ.
 
(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ
(6/78)
 
 
الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِي