المحرر الوجيز لابن عطية ج ص معتمد 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
 
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[مقدمة]
بسم الله الرّحمن الرّحيم والحمد لله الملك العظيم وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وعلى آله قال الشيخ الإمام، الفقيه الأجل، الحافظ الأكمل، القاضي الأعدل، أبو محمد عبد الحق، ابن الفقيه الإمام الحافظ أبي بكر غالب، بن عبد الرحمن، بن غالب، بن عبد الرؤوف، بن تمام، بن عبد الله، بن تمام، بن عطية، بن خالد، بن عطية، وهو الداخل إلى الأندلس، ابن خالد، بن خفاف، بن أسلم، بن مكرم المحاربي من ولد زيد، بن محارب، بن خصفة، بن قيس عيلان من أهل غرناطة، رحمه الله ونفعه والمسلمين بما دون.
الحمد لله الذي برأ النسم، وأفاض النعم، ومنح القسم، وسنى من توحيده وعبادته العصم، ذي العزة القاهرة، والقدرة الباهرة، والآلاء المتظاهرة، الذي أوجدنا بعد العدم، وجعلنا الخيار الوسط من الأمم، وخولنا عوارف لا تحصى، وهدانا شرعة رمت بنا من رضوانه إلى الغرض الأقصى، أنزل إلينا القرآن العزيز، وعد فيه وبشر وأوعد وحذر، ونهى وأمر، وأكمل فيه الدين، وجعله الوسيلة الناجحة والحبل المتين، ويسره للذكر، وخلده غابر الدهر، عصمة للمعتصمين، ونورا صادعا في مشكلات المختصمين، وحجة قائمة على العالم، ودعوة شاملة لفرق بني آدم، كلامه الذي أعجز الفصحاء، وأخرس البلغاء، وشرف العلماء، له الحمد دائبا، والشكر واصبا، لا إله إلا هو رب العرش العظيم، وأفضل الصلاة والتسليم، على محمد رسوله الكريم، صفوته من العباد، وشفيع الخلائق في المعاد، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، الناهض بأعباء الرسالة والتبليغ الأعصم، والمخصوص بشرف السعاية في الصلاح الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله صلاة مستمرة الدوام، جديدة على مر الليالي والأيام.
وبعد، أرشدني الله وإياك، فإني لما رأيت العلوم فنونا، وحديث المعارف شجونا، وسلكت فإذا هي أودية، وفي كل للسلف مقامات حسان وأندية، رأيت أن الوجه لمن تشزن للتحصيل، وعزم على الوصول، أن يأخذ من كل علم طرفا خيارا، ولن يذوق النوم مع ذلك إلا غرارا، ولن يرتقي هذا النجد، ويبلغ هذا المجد، حتى ينضي مطايا الاجتهاد، ويصل التأويب بالإسئاد، ويطعم الصبر ويكتحل بالسهاد، فجريت في هذا المضمار صدر العمر طلقا، وأدمنت حتى تفسخت أينا وتصببت عرقا، إلى أن انتهج بفضل الله عملي، وحزت من ذلك ما قسم لي، ثم رأيت أن من الواجب على من احتبى، وتخير من العلوم واجتبى، أن يعتمد على علم من علوم الشرع، يستنفد فيه غاية الوسع، يجوب آفاقه، ويتتبع أعماقه، ويضبط أصوله، ويحكم فصوله، ويلخص ما هو منه، أو يؤول إليه، ويعنى بدفع الاعتراضات عليه، حتى يكون لأهل ذلك العلم
(1/33)
1
كالحصن المشيد، والذخر العتيد، يستندون فيه إلى أقواله، ويحتذون على مثاله.
فلما أردت أن أختار لنفسي، وأنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي، سبرتها بالتنويع والتقسيم، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالا، وأرسخها جبالا، وأجملها آثارا، وأسطعها أنوارا، علم كتاب الله جلت قدرته، وتقدست أسماؤه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، هو العلم الذي جعل للشرع قواما، واستعمل سائر المعارف خداما منه تأخذ مبادئها، وبه تعتبر نواشئها، فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع، فهو عنصرها النمير، وسراجها الوهاج، وقمرها المنير.
وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى، وتخليصا للنيات، ونهيا عن الباطل، وحضا على الصالحات، إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيدا، ويمشي في التلطف لها رويدا.
ورجوت أن الله تعالى يحرم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه، ولسانا مرن على آياته ومثانيه، ونفسا ميزت براعة رصفه ومبانيه، وجالت سومها في ميادينه ومغانيه، فثنيت إليه عنان النظر، وأقطعته جانب الفكر، وجعلته فائدة العمر، وما ونيت- علم الله- إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب، ويمس من لغوب، أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف.
فلما سلكت سبله بفضل الله ذللا، وبلغت من اطراد الفهم فيه أملا، رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح، وتسنح لمن يروم تقييدها في فكره وتبرح، وأنها قد أخذت بحظها من الثقل، فهي تتفصى من الصدر تفصي الإبل من العقل.
قال الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] .
قال المفسرون: أي علم معانيه والعمل بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قيدوا العلم بالكتاب» ففزعت إلى تعليق ما يتخيل لي في المناظرة من علم التفسير وترتيب المعاني، وقصدت فيه أن يكون جامعا وجيزا محررا، لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به، وأثبت أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح- رضوان الله عليهم- كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز، وأهل القول بعلم الباطن، وغيرهم، فمتى وقع لأحد من العلماء الذين قد حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين، نبهت عليه، وسردت التفسير في هذا التعليق بحسب رتبة ألفاظ الآية من حكم، أو نحو، أو لغة، أو معنى، أو قراءة، وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر كما في كثير من كتب المفسرين، ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي- رحمه الله- مفرق للنظر، مشعب للفكر وقصدت إيراد جميع القراءات: مستعملها وشاذها، واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ، كل ذلك بحسب جهدي وما انتهى إليه علمي، وعلى غاية من الإيجاز وحذف فضول القول.
وأنا أسأل الله جلت قدرته، أن يجعل ذلك كله لوجهه، وأن يبارك فيه وينفع به، وأنا وإن كنت من
(1/34)
1
المقصرين فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيرا من علم التفسير، وحملت خواطري فيه على التعب الخطير، وعمرت به زمني، واستفرغت فيه منني، إذ كتاب الله تعالى لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه، وجعلته ثمرة وجودي، ونخبة مجهودي، فليستصوب للمرء اجتهاده، وليعذر في تقصيره وخطئه وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولنقدم بين يدي القول في التفسير أشياء قد قدم أكثرها المفسرون، وأشياء ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم مجتمعة لذهنه
(1/35)
1
باب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، وعن نبهاء العلماء، في فضل القرآن المجيد وصورة الاعتصام به
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قيل: فما النجاة منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله تعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو فصل ليس بالهزل، من تركه تجبرا قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، من علم علمه سبق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم» .
قال أنس بن مالك في تفسير قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة: 256، لقمان: 22] . قال: هي القرآن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن» .
وقال عليه السلام: «اتلوا هذا القرآن، فإن الله يأجركم بالحرف منه عشر حسنات، أما إني لا أقول «الم» حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف» .
وروي عنه عليه السلام أنه قال في آخر خطبة خطبها وهو مريض: «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، إنه لن تعمى أبصاركم، ولن تضل قلوبكم، ولن تزل أقدامكم، ولن تقصر أيديكم، كتاب الله سبب بينكم وبينه، طرفه بيده، وطرفه بأيديكم، فاعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، ألا وعترتي، وأهل بيتي، هو الثقل الآخر، فلا تسبعوهم فتهلكوا» .
وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم صار الشعر والخطب يمل ما أعيد منها، والقرآن لا يمل؟ فقال:
لأن القرآن حجة على أهل الدهر الثاني، كما هو حجة على أهل الدهر الأول، فكل طائفة تتلقاه غضا جديدا ولأن كل امرئ في نفسه متى أعاده وفكر فيه تلقى منه في كل مرة علوما غضة، وليس هذا كله في الشعر والخطب.
وقيل لمحمد بن سعيد: ما هذا الترديد للقصص في القرآن؟ فقال: ليكون لمن قرأ ما تيسر منه حظ في الاعتبار.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظم الله» .
(1/36)
1
وقال عليه السلام: «ما من شفيع أفضل عند الله من القرآن، لا نبي ولا ملك» .
وقال عليه السلام: «أفضل عبادة أمتي القرآن» .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: «من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه» .
وحدث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ مائة آية كتب من القانتين ومن قرأ مائتي آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن» .
وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أشراف أمتي حملة القرآن» .
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 32] . فقال: «سابقكم سابق، ومقتصدكم ناج، وظالمكم مغفور له» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن أصفر البيوت بيت صفر من كتاب الله» .
وروى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القرآن شافع، مشفع، وما حل مصدق من شفع له القرآن نجا، ومن محل به القرآن يوم القيامة كبه الله لوجهه في النار، وأحق من شفع له القرآن أهله وحملته، وأولى من محل به من عدل عنه وضيعه» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الذي يتعاهد هذا القرآن ويشتد عليه له أجران، والذي يقرأه وهو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة» .
وقال ابن مسعود: مل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: يا رسول الله حدثنا، فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الآية [الزمر: 23] ، ثم ملوا ملة أخرى، فقالوا: قص علينا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3] .
وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه» .
وقال عبد الله بن مسعود: «إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه، وإن أدب الله القرآن» .
ومر أعرابي على عبد الله بن مسعود وعنده قوم يقرؤون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال له ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم.
ومرت امرأة على عيسى ابن مريم عليه السلام فقال: طوبى لبطن حملك، ولثديين رضعت منهما، فقال عيسى: طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبع ما فيه.
وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آل عمران: 193] قال: هو القرآن، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/37)
1
وقال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ [يونس: 58] قال: «الإسلام والقرآن» .
وقيل لعبد الله بن مسعود: إنك لتقل الصوم؟ فقال: «إنه يشغلني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إليّ منه» .
وقال قوم من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تر يا رسول الله ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة يزهر فيها وحولها أمثال المصابيح فقال لهم: فلعله قرأ سورة البقرة، فسئل ثابت بن قيس، فقال:
نعم قرأت سورة البقرة» . وفي هذا المعنى حديث صحيح عن أسيد بن حضير في تنزل الملائكة في الظلة لصوته بقراءة سورة البقرة.
وذكر أبو عمرو الداني عن علي الأثرم قال: كنت أتكلم في الكسائي وأقع فيه، فرأيته في النوم وعليه ثياب بيض ووجهه كالقمر فقلت: يا أبا الحسن ما فعل الله بك؟ فقال: «غفر لي بالقرآن» .
وقال عقبة بن عامر: «عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: عليكم بالقرآن» .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن من أشراط الساعة أن يبسط القول ويخزن الفعل ويرفع الأشرار ويوضع الأخيار وأن تقرأ المثناة على رؤوس الناس لا تغير، قيل وما المثناة؟ قال: ما استكتب من غير كتاب الله، قيل له: فكيف بما جاء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما أخذتموه عمن تأمنونه على نفسه ودينه فاعقلوه، وعليكم بالقرآن فتعلموه وعلموه أبناءكم فإنكم عنه تسألون وبه تجزون، وكفى به واعظا لمن عقل.
وقال رجل لأبي الدرداء: إن إخوانا لك من أهل الكوفة يقرئونك السلام ويأمرونك أن توصيهم، فقال: أقرئهم السلام، ومرهم فليعطوا القرآن بخزائمهم فإنه يحملهم على القصد والسهولة، ويجنبهم الجور والحزونة.
وقال رجل لعبد الله بن مسعود: أوصني، فقال: إذا سمعت الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه.
وروى أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أحسن الناس قراءة أو صوتا بالقرآن، فقال: «الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى» .
وقال عليه السلام: «اقرؤوا القرآن قبل أن يجيء قوم يقيمونه كما يقام القدح ويضيعون معانيه يتعجلون أجره ولا يتأجلونه» .
ويروى أن أهل اليمن لما قدموا أيام أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- سمعوا القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر: «هكذا كنا، ثم قست القلوب» .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ مرة: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور: 7] فأنّ أنة عيد منها عشرين يوما.
(1/38)
1
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملا تركبونه، فتقطعون به المراحل، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل إليهم من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «أنزل عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا درسه عملا، إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به» .
قال القاضي عبد الحق رضي الله عنه: قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
[القمر: 17- 22، 32- 40] .
وقال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] أي علم معانيه، والعمل به، والقيام بحقوقه ثقيل، فمال الناس إلى الميسر، وتركوا الثقيل، وهو المطلوب منهم.
وقيل ليوسف بن أسباط: بأي شيء تدعو إذا ختمت القرآن؟ قال: «أستغفر الله من تلاوتي لأني إذا ختمته وتذكرت ما فيه من الأعمال خشيت المقت فأعدل إلى الاستغفار والتسبيح» .
وقرأ رجل القرآن على بعض العلماء، قال: فلما ختمته أردت الرجوع من أوله فقال لي: اتخذت القراءة عليّ عملا اذهب فاقرأه على الله تعالى في ليلك وانظر ماذا يفهمك منه فاعمل به.
(1/39)
1
باب في فضل تفسير القرآن والكلام على لغته والنظر في إعرابه ودقائق معانيه
روى ابن عباس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي علم القرآن أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عربيته فالتمسوها في الشعر» .
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه فإن الله يحب أن يعرب» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: إعراب القرآن أصل في الشريعة، لأن بذلك تقوم معانيه التي هي الشرع.
وقال أبو العالية في تفسير قوله عز وجل: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] ، قال: «الحكمة» الفهم في القرآن، وقال قتادة: «الحكمة» القرآن والفقه فيه، وقال غيره:
«الحكمة» تفسير القرآن.
وذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه جابر بن عبد الله فوصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك، تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟ فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 197] .
وقال الشعبي: رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام، فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها.
وقال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة لا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب.
وقال ابن عباس: «الذي يقرأ ولا يفسر كالأعرابي الذي يهذ الشعر» .
وقال مجاهد: «أحب الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل» .
وقال الحسن: «والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيمن أنزلت وما يعني بها» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة» .
وقال الحسن: «أهلكتهم العجمة، يقرأ أحدهم الآية فيعيى بوجوهها حتى يفتري على الله فيها» .
وكان ابن عباس يبدأ في مجلسه بالقرآن ثم بالتفسير ثم بالحديث.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ما من شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن رأي الرجل يعجز عنه» .
(1/40)
1
باب ما قيل في الكلام في تفسير القرآن، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسّر من كتاب الله إلّا آيا بعدد علّمه إياهنّ جبريل» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى هذا الحديث: في مغيبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به كوقت قيام الساعة ونحوه، ومنها ما يستقرأ من ألفاظه كعدد النفخات في الصور، وكرتبة خلق السماوات والأرض.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله فيتسور عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء، أو اقتضته قوانين العلوم كالنحو، والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته، والنحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه. وكان جلة من السلف كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وغيرهما، يعظمون تفسير القرآن، ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم، مع إدراكهم، وتقدمهم، وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرونه وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم.
فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، وهو تجرد للأمر وكمله وتتبعه، وتبعه العلماء عليه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما، والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال ابن عباس: «ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب» .
وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس ويحث على الأخذ عنه.
وكان عبد الله بن مسعود يقول: «نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس» ، وهو الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقهه في الدين» وحسبك بهذه الدعوة.
وقال عنه علي بن أبي طالب: «ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق» ، ويتلوه عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن متقدم.
(1/41)
1
ومن المبرزين في التابعين الحسن بن أبي الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعلقمة.
قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية، ويتلوهم عكرمة، والضحاك بن مزاحم، وإن كان لم يلق ابن عباس، وإنما أخذ عن ابن جبير.
وأما السدي رحمه الله فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح، لأنه كان يراهما مقصرين في النظر، ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف، وألف الناس فيه كعبد الرزاق، والمفضل، وعلي بن أبي طلحة، والبخاري، وغيرهم.
ثم إن محمد بن جرير الطبري رحمه الله جمع على الناس أشتات التفسير، وقرب البعيد وشفى في الإسناد.
ومن المبرزين في المتأخرين أبو إسحاق الزجاج وأبو علي الفارسي فإن كلامهما منخول وأما أبو بكر النقاش، وأبو جعفر النحاس، فكثيرا ما استدرك الناس عليهما، وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبو العباس المهدوي رحمه الله متقن التأليف، وكلهم مجتهد مأجور رحمهم الله، ونضر وجوههم.
(1/42)
1
(باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه»
اختلف الناس في معنى هذا الحديث، اختلافا شديدا، فذهب فريق من العلماء إلى أن تلك الحروف السبعة هي فيما يتفق أن يقال على سبعة أوجه فما دونها، كتعال، وأقبل، وإليّ، ونحوي، وقصدي، واقرب، وجىء، وكاللغات التي في أف، وكالحروف التي في كتاب الله فيها قراءات كثيرة، وهذا قول ضعيف.
قال ابن شهاب في كتاب مسلم: «بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا كلام محتمل.
وقال فريق من العلماء: «إن المراد بالسبعة الأحرف معاني كتاب الله تعالى، وهي: أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال. وهذا أيضا ضعيف، لأن هذه لا تسمى أحرفا، وأيضا:
فالإجماع أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال، ولا في تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.
وحكى صاحب الدلائل عن بعض العلماء، وقد حكى نحوه القاضي أبو بكر بن الطيب، قال:
تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة، منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل:
هن أطهر، وأطهر. ومنها ما لا تتغير صورته، ويتغير معناه بالإعراب، مثل: ربنا باعد وباعد. ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل: نشرها، وننشزها. ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه كقوله:
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] ، وكالصوف المنفوش، ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة: 29] وطلع منضود، ومنها بالتقديم والتأخير كقوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] . وسكرة الحق بالموت. ومنها بالزيادة والنقصان كقوله: «تسع وتسعون نعجة أنثى» .
وذكر القاضي أبو بكر بن الطيب في معنى هذه السبعة الأحرف حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، نهي، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وائتمروا، وانتهوا، واعتبروا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه» .
قال القاضي أبو محمد: فهذا تفسير منه صلى الله عليه وسلم للأحرف السبعة، ولكن ليست هذه التي أجاز لهم القراءة بها على اختلافها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى:
(1/43)
1
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الحج: 11] أي على وجه وطريقة، هي ريب وشك، فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق، من تحليل، وتحريم، وغير ذلك.
وذكر القاضي أيضا أن أبيّا رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أبيّ إني أقرئت القرآن على حرف أو حرفين ثم زادني الملك حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف وكاف إن قلت غفور رحيم، سميع عليم، أو عليم حكيم، وكذلك ما لم تختم عذابا برحمة، أو رحمة بعذاب» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وقد أسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من كلام ابن مسعود نحوه.
قال القاضي ابن الطيب: «وهذه أيضا سبعة غير السبعة التي هي وجوه وطرائق، وغير السبعة التي هي قراءات ووسع فيها، وإنما هي سبعة أوجه من أسماء الله تعالى» .
وإذا ثبتت هذه الرواية حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما لله في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه.
قال القاضي: «وزعم قوم أن كل كلمة تختلف القراءة فيها فإنها على سبعة أوجه، وإلا بطل معنى الحديث» .
قالوا: «وتعرف بعض الوجوه بمجيء الخبر به، ولا نعرف بعضها، إذا لم يأت به خبر» .
قال: وقال قوم: ظاهر الحديث يوجب أن يوجد في القرآن كلمة أو كلمتان تقرءان على سبعة أوجه، فإذا حصل ذلك تم معنى الحديث» .
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: «وقد زعم قوم أن معنى الحديث أنه نزل على سبع لغات مختلفات وهذا باطل إلا أن يريد الوجوه المختلفة التي تستعمل في القصة الواحدة.
والدليل على ذلك أن لغة عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وهشام بن حكيم، وابن مسعود، واحدة، وقراءتهم مختلفة، وخرجوا بها إلى المناكرة» .
فأما الأحرف السبعة التي صوب رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة بجميعها- وهي التي راجع فيها فزاده وسهل عليه لعلمه تعالى بما هم عليه من اختلافهم في اللغات- فلها سبعة أوجه، وسبع قراءات مختلفات، وطرائق يقرأ بها على اختلافها في جميع القرآن أو معظمه، حسبما تقتضيه العبارة في قوله:
«أنزل القرآن» فإنما يريد به الجميع أو المعظم، فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها ويدل على ذلك قول الناس: حرف أبيّ وحرف ابن مسعود، ونقول في الجملة إن القرآن منزل على سبعة أحرف من اللغات، والإعراب، وتغيير الأسماء والصور، وإن ذلك مفترق في كتاب الله ليس بموجود في حرف واحد، وسورة واحدة، يقطع على اجتماع ذلك فيها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: انتهى ما جمعت من كلام القاضي أبي بكر رضي الله عنه، وإطلاقه البطلان على القول الذي حكاه فيه نظر، لأن المذهب الصحيح الذي قرره آخرا من قوله
(1/44)
1
«ونقول في الجملة» إنما صح وترتب من جهة اختلاف لغات العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وهو اختلاف ليس بشديد التباين حتى يجهل بعضهم ما عند بعض في الأكثر، وإنما هو أن قريشا استعملت في عباراتها شيئا، واستعملت هذيل شيئا غيره في ذلك المعنى، وسعد بن بكر غيره، والجميع كلامهم في الجملة ولغتهم.
واستدلال القاضي رضي الله عنه بأن لغة عمر وأبيّ وهشام وابن مسعود واحدة فيه نظر، لأن ما استعملته قريش في عبارتها ومنهم عمر وهشام، وما استعملته الأنصار ومنهم أبيّ وما استعملته هذيل ومنهم ابن مسعود، قد يختلف، ومن ذلك النحو من الاختلاف هو الاختلاف في كتاب الله سبحانه، فليست لغتهم واحدة في كل شيء، وأيضا فلو كانت لغتهم واحدة بأن نفرضهم جميعا من قبيلة واحدة، لما كان اختلافهم حجة على من قال: إن القرآن أنزل على سبع لغات لأن مناكرتهم لم تكن لأن المنكر سمع ما ليس في لغته فأنكره، وإنما كانت لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم وعساه قد أقرأه ما ليس من لغته واستعمال قبيلته.
فكأن القاضي رحمه الله، إنما أبطل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد في قوله: على سبعة أحرف عد اللغات التي تختلف بجملتها وأن تكون سبعا متباينة لسبع قبائل تقرأ كل قبيلة القرآن كله بحرفها ولا تدخل عليها لغة غيرها، بل قصد النبي عليه السلام- عنده- عد الوجوه والطرائق المختلفة في كتاب الله مرة من جهة لغة، ومرة من جهة إعراب، وغير ذلك، ولا مرية أن هذه الوجوه والطرائق إنما اختلفت لاختلاف في العبارات بين الجملة التي نزل القرآن بلسانها وذلك يقال فيه اختلاف لغات.
وصحيح أن يقصد عليه السلام عد الأنحاء والوجوه التي اختلفت في القرآن، بسبب اختلاف عبارات اللغات.
وصحيح أن يقصد عد الجماهير والرؤوس من الجملة التي نزل القرآن بلسانها، وهي قبائل مضر فجعلها سبعة، وهذا أكثر توسعة للنبي عليه السلام، لأن الانحاء تبقى غير محصورة، فعسى أن الملك أقرأه بأكثر من سبعة طرائق ووجوه.
قال القاضي في كلامه المتقدم: «فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها» .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والشرط الذي يصح به هذا القول هو أن تروى عن النبي عليه السلام، ومال كثير من أهل العلم كأبي عبيد، وغيره، إلى أن معنى الحديث المذكور أنه أنزل على سبع لغات لسبع قبائل انبث فيه من كل لغة منها، وهذا القول هو المتقرر من كلام القاضي رضي الله عنه وقد ذكر بعضهم قبائل من العرب روما منهم أن يعينوا السبع التي يحسن أن تكون مراده عليه السلام، نظروا في ذلك بحسب القطر ومن جاور منشأ النبي عليه السلام. واختلفوا في التسمية وأكثروا، وأنا ألخص الغرض جهدي بحول الله:
فأصل ذلك وقاعدته قريش، ثم بنو سعد بن بكر، لأن النبي عليه السلام قرشي، واسترضع في بني سعد، ونشأ فيهم، ثم ترعرع وعقت تمائمه وهو يخالط في اللسان كنانة، وهذيلا، وثقيفا، وخزاعة،
(1/45)
1
وأسدا، وضبة، وألفافها لقربهم من مكة، وتكرارهم عليها، ثم بعد هذه تميما، وقيسا، ومن انضاف إليهم وسط جزيرة العرب، فلما بعثه الله تعالى ويسر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة، وهي التي قسمها على سبعة لها السبعة الأحرف، وهي اختلافاتها في العبارات حسبما تقدم.
قال ثابت بن قاسم: «لو قلنا من هذه الأحرف لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة وألفافها، ومنها لقيس، لكان قد أتى على قبائل مضر في مراتب سبعة تستوعي اللغات التي نزل بها القرآن» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا نحو ما ذكرناه، وهذه الجملة هي التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدخيل ويسرها الله لذلك ليظهر آية نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز ونجد وتهامة فلم تطرقها الأمم، فأما اليمن وهي جنوبي الجزيرة فأفسدت كلام عربه خلطة الحبشة والهنود، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس المبرد، قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلسانها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وذلك عندي إنما هو فيما استعملته عرب الحجاز من لغة اليمن كالعرم والفتاح. فأما ما انفردوا به كالزخيخ، والقلوبي، ونحوه، فليس في كتاب الله منه شيء.
وأما ما والى العراق من جزيرة العرب، وهي بلاد ربيعة، وشرقي الجزيرة، فأفسدت لغتها مخالطة الفرس، والنبط، ونصارى الحيرة، وغير ذلك.
وأما الذي يلي الشام وهو شمالي الجزيرة وهي بلاد آل جفنة، وابن الرافلة، وغيرهم. فأفسدها مخالطة الروم، وكثير من بني إسرائيل.
وأما غربي الجزيرة فهي جبال تسكن بعضها هذيل وغيرهم وأكثرها غير معمور. فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللغات لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم، ويقوي هذا المنزع أنه لما اتسع نطاق الإسلام وداخلت الأمم العرب وتجرد أهل المصرين: البصرة، والكوفة، لحفظ لسان العرب، وكتب لغتها لم يأخذوا إلا عن هذه القبائل الوسيطة المذكورة، ومن كان معها، وتجنبوا اليمن، والعراق، والشام، فلم يكتب عنهم حرف واحد. وكذلك تجنبوا حواضر الحجاز مكة، والمدينة، والطائف. لأن السبي والتجار من الأمم كثروا فيها فأفسدوا اللغة. وكانت هذه الحواضر في مدة النبي صلى الله عليه وسلم سليمة لقلة المخالطة.
فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظة. ألا ترى أن فطر معناها عند غير قريش ابتدأ خلق الشيء وعمله فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر فقال أحدهما: «أنا فطرتها» قال ابن عباس:
«ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1، الزمر: 46] .
(1/46)
1
وقال أيضا: «ما كنت أدري معنى قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك» .
وكذلك قال عمر بن الخطاب، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النحل:
47] فوقف به فتى فقال: «إن أبي يتخوفني حقي» فقال عمر: «الله أكبر، أو يأخذهم على تخوف أي على تنقص لهم» .
وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] ، ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر، إلى غير هذا من الأمثلة.
فأباح الله تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف، ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: «فاقرؤوا ما تيسر منه» بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه. ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي عليه السلام ليوسع بها على أمته، فقرأ مرة لأبيّ بما عارضه به جبريل صلوات الله عليهما، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا.
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» .
وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة كل منهما- وقد اختلفتا-: هكذا أقرأني جبريل؟ هل ذلك إلا لأنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة. وعلى هذا يحمل قول أنس بن مالك حين قرأ إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا [المزمل: 6] ، فقيل له: إنما تقرأ وأقوم، فقال أنس: «أصوب وأقوم وأهيأ واحد» . فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] .
ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافترق الصحابة في البلدان، وجاء الخلف وقرأ القرآن كثير من غير العرب، وقع بين أهل الشام والعراق ما ذكر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وذلك أنهم لما اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روي لها، فاختلفوا وتنازعوا حتى قال بعضهم لبعض: «أنا كافر بما تقرأ به» فأشفق حذيفة مما رأى منهم. فلما قدم حذيفة المدينة فيما ذكر البخاري وغيره دخل إلى عثمان بن عفان قبل أن يدخل بيته، فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال: فيما ذا؟ قال: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق، ومن الشام، ومن الحجاز، فوصف له ما تقدم وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى، قال عثمان رضي الله عنه: أفعل، فتجرد للأمر، واستناب الكفاة العلماء الفصحاء في أن يكتبوا القرآن ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفصح
(1/47)
1
اللغات، وقال لهم: «إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش» .
فمعنى هذا إذا اختلفتم فيما روي، وإلا فمحال أن يحيلهم على اختلاف من قبلهم، لأنه وضع قرآن فكتبوا في القرآن من كل اللغات السبع، مرة من هذه، ومرة من هذه، وذلك مقيد بأن الجميع مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرىء عليه، واستمر الناس على هذا المصحف المتخير وترك ما خرج عنه مما كان كتب سدا للذريعة وتغليبا لمصلحة الألفة وهي المصاحف التي أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه أن تحرق أو تخرق.
فأما ابن مسعود فأبى أن يزال مصحفه فترك، ولكن أبى العلماء قراءته سدا للذريعة، ولأنه روي أنه كتب فيه أشياء على جهة التفسير فظنها قوم من التلاوة فتخلط الأمر فيه ولم يسقط فيما ترك معنى من معاني القرآن لأن المعنى جزء من الشريعة، وإنما تركت ألفاظ معانيها موجودة في الذي أثبت.
ثم إن القراء في الأمصار تتبعوا ما روي لهم من اختلافات لا سيما فيما وافق خط المصحف، فقرؤوا بذلك حسب اجتهاداتهم، فلذلك ترتب أمر القراء السبعة وغيرهم رحمهم الله ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة وبها يصلى لأنها ثبتت بالإجماع.
وأما شاذ القراءات فلا يصلى به، وذلك لأنه لم يجمع الناس عليه. أما أن المروي منه عن الصحابة رضي الله عنهم وعن علماء التابعين لا يعتقد فيه إلا أنهم رووه.
وأما ما يؤثر عن أبي السمال ومن قاربه فلا يوثق به وإنما أذكره في هذا الكتاب لئلا يجهل والله المستعان.
وكان المصحف غير مشكول ولا منقوط، وقد وقع لبعض الناس خلاف في بعض ما ذكرته في هذا الباب ومنازعات اختصرت ذلك كراهة التطويل وعولت على الأسلوب الواضح الصحيح، والله المرشد للصواب برحمته.
(1/48)
1
(باب ذكر جمع القرآن وشكله ونقطه وتحزيبه وتعشيره)
كان القرآن في مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقا في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صحف، وفي جريد، وظرر وفي لخاف وفي خزف وغير ذلك، فلما استحرّ القتل بالقراء يوم اليمامة أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن، مخافة أن يموت أشياخ القراءة كأبيّ وزيد وابن مسعود فيذهب، فندبا إلى ذلك زيد بن ثابت فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد منه رضي الله عنه.
وروي أن في هذا الجمع سقطت الآية من آخر براءة حتى وجدها عند خزيمة بن ثابت. وحكى الطبري أنه إنما سقطت له في الجمع الأخير، والأول أصح. وهو الذي حكى البخاري إلا أنه قال فيه مع أبي خزيمة الأنصاري، وقال: إن في الجمع الثاني فقد زيد آية من سورة الأحزاب مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الأحزاب: 33] فوجدها مع خزيمة بن ثابت، وبقيت الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر بن الخطاب بعده، ثم عند حفصة بنته في خلافة عثمان، وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن الصحابة كمصحف ابن مسعود وما كتب عن الصحابة بالشام ومصحف أبيّ وغير ذلك، وكان في ذلك اختلاف حسب السبعة الأحرف التي أنزل القرآن عليها.
فلما قدم حذيفة من غزوة أرمينية حسبما قد ذكرناه انتدب عثمان لجمع المصحف وأمر زيد بن ثابت بجمعه، وقرن بزيد فيما ذكر البخاري ثلاثة من قريش: سعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، وكذلك ذكر الترمذي وغيرهما.
وقال الطبري فيما روي: إنه قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاصي وحده، وهذا ضعيف.
وقال الطبري أيضا: إن الصحف التي كانت عند حفصة جعلت إماما في هذا الجمع الأخير. وروي أن عثمان رضي الله عنه قال لهم: «إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش» ، فاختلفوا في التابوه والتابوت، قرأه زيد بن ثابت بالهاء والقرشيون بالتاء، فأثبته بالتاء، وكتب المصحف على ما هو عليه غابر الدهر ونسخ عثمان منه نسخا ووجه بها إلى الآفاق، وأمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق، وتروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى: ثم تدفن. ورواية الحاء غير منقوطة أحسن.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وترتيب السور اليوم هو من تلقاء زيد ومن كان معه مع مشاركة من عثمان رضي الله عنه في ذلك وقد ذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة «براءة» . وذكر أن ترتيب الآيات
(1/49)
1
في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة.
هذا أحد ما قيل في براءة، وذلك مستقصى في موضعه موفى إن شاء الله تعالى. وظاهر الآثار أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتبا في زمن النبي عليه السلام، وكان في السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رتب وقت الكتب.
وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه وأمر وهو والي العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك، وألف إثر ذلك بواسط كتاب في القراءات، جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط، ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات. وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر.
وذكر أبو الفرج أن زياد بن أبي سفيان أمر أبا الأسود بنقط المصاحف.
وذكر الجاحظ في كتاب الأمصار أن نصر بن عاصم أول من نقط المصاحف وكان يقال له نصر الحروف.
وأما وضع الأعشار فيه فمر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك وقيل إن الحجاج فعل ذلك.
وذكر أبو عمرو الداني عن قتادة أنه قال: بدؤوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا، وهذا كالإنكار.
(1/50)
1
(باب في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلق)
اختلف الناس في هذه المسألة، فقال أبو عبيدة وغيره: إن في كتاب الله تعالى من كل لغة، وذهب الطبري وغيره إلى أن القرآن ليس فيه لفظة إلا وهي عربية صريحة وأن الأمثلة والحروف التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغتان فتكلمت بها العرب والفرس أو الحبشة بلفظ واحد، وذلك مثل قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل: 6] قال ابن عباس: نشأ بلغة الحبشة قام من الليل، ومنه قوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] .
قال أبو موسى الأشعري: كفلان ضعفان من الأجر بلسان الحبشة وكذلك قال ابن عباس في القسورة إنها الأسد بلغة الحبشة إلى غير هذا من الأمثلة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي أقوله إن القاعدة والعقيدة هي أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب فلا تفهمها إلا من لسان آخر، فأما هذه الألفاظ وما جرى مجراها فإنه قد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش، وكسفر مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاصي وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصريح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس معنى «فاطر» إلى غير ذلك فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه، وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل، والأخرى فرع في الأكثر، لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا.
(1/51)
1
نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن
اختلف الناس في إعجاز القرآن بم هو؟ فقال قوم: «إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وإن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق، وفيه وقع عجزها» .
وقال قوم: «إن التحدي وقع بما في كتاب الله تعالى من الأنباء الصادقة، والغيوب المسرودة» .
وهذان القولان إنما يرى العجز فيهما من قد تقررت الشريعة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم في نفسه.
وأما من هو في ظلمة كفره فإنما يتحدى فيما يبين له بينه وبين نفسه عجزه عنه، وأن البشر لا يأتي بمثله ويتحقق مجيئه من قبل المتحدي، وكفار العرب لم يمكنهم قط أن ينكروا أن رصف القرآن ونظمه وفصاحته متلقى من قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا تحديت إلى ذلك وعجزت فيه علم كل فصيح ضرورة أن هذا نبي يأتي بما ليس في قدرة البشر الإتيان به، إلا أن يخص الله تعالى من يشاء من عباده.
وهذا هو القول الذي عليه الجمهور والحذاق وهو الصحيح في نفسه أن التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه.
ووجه إعجازه أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحاط بالكلام كله علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل، والنسيان، والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا.
فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال: «إن العرب كان من قدرتها أن تأتي بمثل القرآن فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه» .
والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل، كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام.
ألا ترى ميز الجارية نفس الأعشى وميز الفرزدق نفس جرير من نفس ذي الرمة ونظر الأعرابي في قوله: «عز فحكم فقطع» إلى كثير من الأمثلة اكتفيت بالإشارة إليها اختصارا.
(1/52)
1
فصورة قيام الحجة بالقرآن على العرب أنه لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم به وقال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] قال كل فصيح في نفسه: وما بال هذا الكلام حتى لا آتي بمثله؟ فلما تأمله وتدبره، ميز منه ما ميز الوليد بن المغيرة حين قال: «والله ما هو بالشعر ولا هو بالكهانة ولا بالجنون» وعرف كل فصيح بينه وبين نفسه أنه لا يقدر بشر على مثله، فصح عنده أنه من عند الله تعالى.
فمنهم من آمن وأذعن، ومنهم من حسد كأبي جهل وغيره ففر إلى القتال، ورضي بسفك الدم عجزا عن المعارضة، حتى أظهر الله دينه، ودخل جميعهم فيه، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الأرض قبيل من العرب يعلن كفره. وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى بالأطباء، وفي معجزة موسى بالسحرة فإن الله تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره، فكأن السحر في مدة موسى قد انتهى إلى غايته، وكذلك الطب في زمن عيسى، والفصاحة في مدة محمد عليهم الصلاة والسلام.
(1/53)
1
باب في الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى
اعلم أن القصد إلى إيجاز العبارة قد يسوق المتكلم في التفسير إلى أن يقول: خاطب الله بهذه الآية المؤمنين وشرف الله بالذكر الرجل المؤمن من آل فرعون، وحكى الله تعالى عن أم موسى أنها قالت:
«قصيه» ووقف الله ذرية آدم على ربوبيته بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] ونحو هذا من إسناد أفعال إلى الله تعالى لم يأت إسنادها بتوقيف من الشرع.
وقد استعمل هذه الطريقة المفسرون والمحدثون والفقهاء، واستعملها أبو المعالي في الإرشاد، وذكر بعض الأصوليين أنه لا يجوز أن يقال: حكى الله ولا ما جرى مجراه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا على تقرير هذه الصفة له وثبوتها مستعملة كسائر أوصافه تبارك وتعالى، وأما إذا استعمل ذلك في سياق الكلام والمراد منه حكت الآية أو اللفظ فذلك استعمال عربي شائع وعليه مشى الناس، وأنا أتحفظ منه في هذا التعليق جهدي، لكني قدمت هذا الباب لما عسى أن أقع فيه نادرا، واعتذارا عما وقع فيه المفسرون من ذلك.
وقد استعملت العرب أشياء في ذكر الله تعالى تنحمل على مجاز كلامها، فمن ذلك قول أبي عامر يرتجز بالنبي صلى الله عليه وسلم: «فاغفر فداء لك ما اقتفينا» . وقول أم سلمة: فعزم الله لي في الحديث في موت أبي سلمة وإبدال الله لها منه رسول الله. ومن ذلك قولهم: الله يدري كذا وكذا والدراية إنما هي التأتي للعلم بالشيء حتى يتيسر ذلك.
قال أبو علي: «واحتج بعض أهل النظر على جواز هذا الإطلاق بقول الشاعر الجوهري: [الرجز] .
لا همّ لا أدري وأنت الداري قال أبو علي: «وهذا لا ثبت فيه لأنه يجوز أن يكون من غلط الاعراب» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وكذلك أقول إن الطريقة كلها عربية لا يثبت للنظر المنخول شيء منها. وقد أنشد بعض البغداديين: [الرجز] .
لا همّ إن كنت الذي بعهدي ... ولم تغيرك الأمور بعدي
وقد قال العجاج: فارتاح ربي وأراد رحمتي.
وقال الآخر: قد يصبح الله إمام الساري.
(1/54)
1
وقال الآخر:
يا فقعسيّ لم أكلته لمه ... لو خافك الله عليه حرّمه
وقال أوس:
أبني لبينى لا أحبّكم ... وجد الإله بكم كما أجد
وقال الآخر:
وإنّ الله ذاق عقول تيم ... فلمّا راء خفّتها قلاها
ومن هذا الاستعمال الذي يبنى الباب عليه قول سعد بن معاذ: «عرّق الله وجهك في النار» يقول هذا للرامي الذي رماه، وقال: «خذها وأنا ابن العرقة» .
وفي هذه الأمثلة كفاية فيما نحوناه إذ النظير لذلك كثير موجود، وإن خرج شيء من هذه على حذف مضاف فذلك متوجه في الاستعمال الذي قصدنا الاعتذار عنه والله المستعان.
(1/55)
1
باب في تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية
هو القرآن، وهو الكتاب، وهو الفرقان، وهو الذكر، فالقرآن مصدر من قولك: قرأ الرجل إذا تلا يقرأ قرآنا وقراءة، وحكى أبو زيد الأنصاري: وقرءا. وقال قتادة: «القرآن معناه التأليف قرأ الرجل إذا جمع وألف قولا» وبهذا فسر قتادة قول الله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: 17] أي تأليفه، وهذا نحو قول الشاعر عمرو بن كلثوم: [الوافر]
ذراعي بكرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تجمع في بطنها ولدا فهو أفره لها، والقول الأول أقوى إن القرآن مصدر من قرأ إذا تلا، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه: [البسيط] .
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة.
وأما الكتاب فهو مصدر من كتب إذا جمع. ومنه قيل كتيبة لاجتماعها. ومنه قول الشاعر: «واكتبها بأسيار» أي اجمعها.
وأما الفرقان أيضا فهو مصدر لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر، فرقا وفرقانا.
وأما الذكر فسمي به لأنه ذكر به الناس آخرتهم وإلههم وما كانوا في غفلة عنه فهو ذكر لهم، وقيل سمي بذلك لأنه فيه ذكر الأمم الماضية والأنبياء، وقيل: سمي بذلك لأنه ذكر وشرف لمحمد صلى الله عليه وسلم وقومه وسائر العلماء به.
وأما السورة فإن قريشا كلها ومن جاورها من قبائل العرب كهذيل، وسعد بن بكر، وكنانة، يقولون:
سورة بغير همز، وتميم كلها وغيرهم أيضا يهمزون فيقولون: سؤر وسؤرة.
فأما من همز فهي عنده كالبقية من الشيء والقطعة منه التي هي سؤر وسؤرة من أسأر إذا أبقى. ومنه «سؤر الشراب» ومنه قول الأعشى- وهو ميمون بن قيس-: [المتقارب]
فبانت وقد أسأرت في الفؤا ... د صدعا على نأيها مستطيرا
أي أبقت فيه.
وأما من لا يهمز فمنهم من يراها من المعنى المتقدم إلا أنها سهلت همزتها. ومنهم من يراها مشبهة
(1/56)
1
بسورة البناء أي القطعة منه، لأن كل بناء فإنما يبنى قطعة بعد قطعة، وكل قطعة منها سورة، وجمع سورة القرآن سور بفتح الواو، وجمع سورة البناء سور بسكونها.
قال أبو عبيدة: «إنما اختلفا في هذا فكأن سور القرآن هي قطعة بعد قطعة حتى كمل منها القرآن» .
ويقال أيضا للرتبة الرفيعة من المجد والملك سورة. ومنه قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
[الطويل] .
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
فكأن الرتبة انبنت حتى كملت.
وأما الآية فهي العلامة في كلام العرب. ومنه قول الأسير الموصي إلى قومه باللّغز: «بآية ما أكلت معكم حيسا» .
فلما كانت الجملة التامة من القرآن علامة على صدق الآتي بها وعلى عجز المتحدى بها سمّيت آية. هذا قول بعضهم، وقيل سميت آية لما كانت جملة وجماعة كلام كما تقول العرب: «جئنا بآيتنا» أي بجماعتنا. وقيل: لما كانت علامة للفصل بين ما قبلها وما بعدها سميت آية. ووزن آية عند سيبويه فعلة بفتح العين أصلها أيية تحركت الياء الأولى وما قبلها مفتوح فجاءت آية.
وقال الكسائي: «أصل آية آيية على وزن فاعلة، حذفت الياء الأولى مخافة أن يلتزم فيها من الإدغام ما لزم في دابة» .
وقال مكي في تعليل هذا الوجه: «سكّنت الأولى وأدغمت فجاءت آية على وزن دابة، ثم سهلت الياء المثقلة» ، وقيل: أصلها أية على وزن فعلة بسكون العين، أبدلت الياء الساكنة ألفا استثقالا للتضعيف، قاله الفراء، وحكاه أبو علي عن سيبويه في ترجمة وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران: 146] .
وقال بعض الكوفيين: «أصلها أيية على وزن فعلة بكسر العين أبدلت الياء الأولى ألفا لثقل الكسر عليها وانفتاح ما قبلها» .
(1/57)
1
باب القول في الاستعاذة
قال الله عز وجل: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] .
معناه: إذا أردت أن تقرأ وشرعت فأوقع الماضي موقع المستقبل لثبوته. وأجمع العلماء على أن قول القارئ: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ليس بآية من كتاب الله. وأجمعوا على استحسان ذلك والتزامه في كل قراءة في غير صلاة، واختلفوا في التعوذ في الصلاة، فابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وقوم، يتعوذون في الصلاة في كل ركعة، ويمتثلون أمر الله بالاستعاذة على العموم في كل قراءة، وأبو حنيفة، والشافعي، يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة، ويريان أن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة. ومالك رحمه الله لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة، ويراه في قيام رمضان. ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ في صلاة.
وحكى الزهري عن الحسن أنه قال: «نزلت الآية في الصلاة، وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض» .
قال غيره: «كانت فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ثم تأسينا به» .
وأما لفظ الاستعاذة فالذي عليه جمهور الناس هو لفظ كتاب الله تعالى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
وروي عن ابن عباس أنه قال: «أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال له: قل يا محمد: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: بسم الله الرّحمن الرّحيم» .
وروى سليمان بن سالم عن ابن القاسم رحمه الله: أن الاستعاذة «أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرّحمن الرّحيم» .
وأما المقرءون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى كقول بعضهم: «أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد» . ونحو هذا مما لا أقول فيه نعمت البدعة ولا أقول إنه لا يجوز.
ومعنى الاستعاذة: الاستجارة، والتحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه، والكلام على المكتوبة يجيء في بسم الله فذلك الموضع أولى به.
(1/58)
1
وأما الشيطان فاختلف الناس في اشتقاقه، فقال الحذاق: «هو فيعال من شطن إذا بعد لأنه بعد عن الخير ورحمة الله» . ومن اللفظة قولهم: نوى شطون، أي بعيدة.
قال الأعشى: [الوافر] .
نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
ومنه قيل للحبل شطن، لبعد طرفيه وامتداده، وقال قوم: إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هاج وأحرق ونحوه، إذ هذه أفعاله، فهو فعلان.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل أفاعيل الشياطين، فهذا بين أنه تفعيل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا تشيط.
ويرد أيضا عليهم بيت أمية بن أبي الصلت: [الخفيف] .
أيّما شاطن عصاه عكاه ... ثمّ يلقى في السّجن والأكبال
فهذا شاطن من شطن لا شك فيه.
وأما الرجيم فهو فعيل بمعنى مفعول، كقتيل وجريح ونحوه، ومعناه أنه رجم باللعنة، والمقت، وعدم الرحمة.
قال المهدوي رحمه الله: «أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة الحمد إلا حمزة فإنه أسرها» .
وروى المسيب عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة.
(1/59)
1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة الفاتحة
 
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
 
(القول في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم)
روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال: «البسملة تيجان السور» .
وروي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: تعس الشيطان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك، فإنه يتعاظم عنده، ولكن قل: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب» .
وقال علي بن الحسين رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: 46] قال: «معناه إذا قلت: «بسم الله الرحمن الرحيم» .
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «كيف تفتتح الصلاة يا جابر؟
قلت: بالحمد لله رب العالمين. قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم» .
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يجهر بها» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد، ويرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها» ، قال: فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك، فقال لي: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها.
ويرده الحديث الصحيح بقوله عز وجل: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، يقول العبد الحمد لله رب العالمين» .
ويرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر، ولا عن عمر، ولا عثمان، رضي الله عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم: «بسم الله الرحمن الرحيم» .
ويرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات، إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات، وهذا شاذ لا يعول عليه وكذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] آية، فهي على عده ثماني آيات، وهذا أيضا شاذ. وقول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] هو الفصل في
(1/60)
1
ذلك. والشافعي- رحمه الله- يعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية من الحمد، وكثير من قراء مكة والكوفة لا يعدون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] . ومالك- رحمه الله-، وأبو حنيفة، وجمهور الفقهاء، والقراء، لا يعدون البسملة آية. والذي يحتمله عندي حديث جابر، وأبي هريرة- إذا صحّا- أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قراءة جابر وحكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية. وكذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم، ولم يفعل ذلك مع أبيّ لأنها قصد تخصيص السورة ووسمها من الفضل بما لها، فلم يدخل معها ما ليس منها، وليس هذا القصد في حديث جابر وأبي هريرة، والله أعلم.
وقال ابن المبارك: «إن البسملة آية في كل سورة» ، وهذا قول شاذ رد الناس عليه. وروى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب «باسمك اللهم» ، حتى أمر أن يكتب «بسم الله» فكتبها. فلما نزلت قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] كتب: «بسم الله الرحمن» . فلما نزلت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] كتبها.
وروى عمرو بن شرحبيل: أن جبريل أول ما جاء النبي عليه السلام قال له: قل: «بسم الله الرحمن الرحيم» .
وروي عن ابن عباس: أن أول ما نزل به جبريل: «بسم الله الرحمن الرحيم» . وفي بعض طرق حديث خديجة وحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة، أن جبريل قال للنبي عليهما السلام:
قل: «بسم الله الرحمن الرحيم» فقالها: فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ ... الحديث.
والبسملة تسعة عشر حرفا. فقال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم، لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: «بسم الله الرحمن الرحيم» فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذه من ملح التفسير، وليست من متين العلم، وهي نظير قولهم في ليلة القدر: «إنها ليلة سبع وعشرين» ، مراعاة للفظة هي في كلمات سورة إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر: 1] ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: «ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه» ، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، قالوا: فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول» . والباء في: بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره ابتداء مستقر أو ثابت بسم الله وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره ابتدأت بسم الله، فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين، كذا أطلق القول قوم، والظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم، وبسم الله في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة: في الدار من قولك زيد في الدار، وكسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها، أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء فخصت بالخفض الذي
(1/61)
1
لا يكون إلا في الأسماء، أو ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى:
[البسيط] .
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ... كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل
وحذفت الألف من بسم الله في الخط اختصارا وتخفيفا لكثرة الاستعمال. واختلف النحاة إذا كتب «باسم الرحمن وباسم القاهر» فقال الكسائي وسعيد الأخفش: «يحذف الألف» . وقال يحيى بن زياد: «لا تحذف إلا مع بسم الله فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فأما في غير اسم الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.
واسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها، وهو عند البصريين مشتق من السمو. يقال: سما يسمو، فعلى هذا تضم السين في قولك سمو ويقال: سمي يسمى فعلى هذا تكسر، وحذفت الواو من سمو، وكسرت السين من سم، كما قال الشاعر: [الرجز] .
باسم الذي في كلّ سورة سمه وسكنت السين من بسم اعتلالا على غير قياس، وإنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير سمّي، وفي الجمع أسماء، وفي جمع الجمع أسامي.
وقال الكوفيون: أصل اسم وسم من السمة، وهي العلامة. لأن الاسم علامة لمن وضع له، وحذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس، والتصغير والجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي. وأما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير وسيم، وفي الجمع أوسام، لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. وقد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم والمسمى هل هما واحد؟
وقال الطبري رحمه الله: إنه ليس بموضع للمسألة، وأنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة ونحوها، ولكن بحسب ما قد تدوول القول فيها، فلنقل إن الاسم كزيد وأسد وفرس قد يرد في الكلام ويراد به الذات، كقولك زيد قائم والأسد شجاع، وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك أسد ثلاثة أحرف، ففي الأول يقال الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى وفي الثاني لا يراد به المسمى. ومن الورود الأول قولك يا رحمن اغفر لي، وقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1] ومن الورود الثاني قولك: الرحمن وصف لله تعالى. وأما اسم الذي هو ألف وسين وميم، فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات. يقال: ذات، ونفس، واسم، وعين، بمعنى. وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] وقوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 78] . وقوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [يوسف: 40] .
وعضدوا ذلك بقول لبيد: [الطويل] .
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
(1/62)
1
وقالوا: إن لبيدا أراد التحية، وقد يجري «اسم» في اللغة مجرى ذات العبارة، وهو الأكثر من استعمالها، فمنه قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] على أشهر التأويلات فيه. ومنه قول النبي عليه السلام: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» ، وعلى هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا: أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات، وفي هذا يقال الاسم هو المسمى، وقد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها. ومر بي أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى؟ فقال: «ليس به ولا هو غيره» ، يريد دائما في كل موضع، وهذا موافق لما قلناه، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسماء الله تعالى وأكثرها استعمالا، وهو المتقدم لسائرها في الأغلب، وإنما تجيء الأخر أوصافا، واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة من أهل العلم:
«هو اسم مرتجل، لا اشتقاق له من فعل، وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى، والألف واللام لازمة له لا لتعريف ولا لغيره، بل هكذا وضع الاسم» . وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد، وتأله إذا تنسك. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: [الرجز]
لله در الغانيات المدّه ... سبّحن واسترجعن من تألّهي
ومن ذلك قول الله تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] على هذه القراءة فإن ابن عباس وغيره قال: وعبادتك، قالوا: فاسم الله مشتق من هذا الفعل، لأنه الذي يألهه كل خلق ويعبده، حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا.
واختلف كيف تعلل إله حتى جاء الله، فقيل: حذفت الهمزة حذفا على غير قياس ودخلت الألف واللام للتعظيم على لاه، وقيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء اللاه ثم أدغمت اللام في اللام. وقيل إن أصل الكلمة لاه، وعليه دخلت الألف واللام، والأول أقوى.
وروي عن الخليل أن أصل إله ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة، وقيل إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير، لأنه- تعالى- تتحير الألباب في حقائق صفاته، والفكر في المعرفة به، وحذفت الألف الأخيرة من «الله» لئلا يشكل بخط اللات، وقيل طرحت تخفيفا، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط ومنها قول الشاعر ابن الأعرابي: [الرجز]
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنّة المغلّة
والرحمن صفة مبالغة من الرحمة، ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان، وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من فاعل، لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك، والرحمن النهاية في الرحمة. وقال بعض الناس: «الرحمن الرحيم» بمعنى واحد، كالندمان والنديم، وزعم أنهما من فعل واحد، ولكن أحدهما أبلغ من الآخر. وأما المفسرون فعبروا عن «الرحمن الرحيم» بعبارات، فمنها أن العرزمي قال:
«معناه: الرحمن بجميع خلقه في الأمطار، ونعم الحواس، والنعم العامة، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم» ومنها أن أبا سعيد الخدري وابن مسعود رويا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1/63)
1
«الرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة» .
وقال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما قال تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] وهذه كلها أقوال تتعاضد. وقال عطاء الخراساني: «كان الرحمن فلما اختزل وسمي به مسيلمة الكذاب قال الله- سبحانه- لنفسه: «الرحمن الرحيم» فهذا الاقتران بين الصفتين ليس لأحد إلا لله تعالى» وهذا قول ضعيف، لأن بسم الله الرحمن الرحيم كان قبل أن ينجم أمر مسيلمة. وأيضا فتسمي مسيلمة بهذا لم يكن مما تأصل وثبت. وقال قوم: إن العرب كانت لا تعرف لفظة الرحمن، ولا كانت في لغتها، واستدلوا على ذلك بقول العرب: «وما الرحمن؟
أنسجد لما تأمرنا» وهذا القول ضعيف، وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له، لا على نفس اللفظة.
واختلف في وصل الرحيم بالحمد، فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم الرحيم الحمد تسكن الميم ويوقف عليها ويبتدأ بألف مقطوعة، وقرأ به قوم من الكوفيين، وقرأ جمهور الناس الرحيم الحمد يعرب الرحيم بالخفض، وتوصل الألف من الحمد، ومن شاء أن يقدر أنه أسكن الميم ثم لما وصل حركها للالتقاء ولم يعتد بألف الوصل فذلك سائغ، والأول أخصر.
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف كأنها سكنت الميم وقطعت الألف، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت، ولم ترو هذه قراءة عن أحد فيما علمت، وهذا هو نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: الم اللَّهُ.
(1/64)
1
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال ابن عباس، وموسى بن جعفر عن أبيه، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، ومحمد بن يحيى بن حبان: إنها مكية، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] والحجر مكية بإجماع. وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني، والسبع الطّول نزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين.
وروي عن عطاء بن يسار، وسوادة بن زياد، والزهري محمد بن مسلم، وعبد الله بن عبيد بن عمير أن سورة الحمد مدنية.
وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب، لأن موضعها يعطي ذلك، واختلف هل يقال لها أم الكتاب، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال: «أم الكتاب والحلال والحرام» . قال الله تعالى: آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] .
وقال ابن عباس وغيره: «يقال لها أم الكتاب» .
وقال البخاري: سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة، وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، واختلف هل يقال لها أم القرآن؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء.
قال يحيى بن يعمر: «أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأم القرآن سورة الحمد» .
وقال الحسن بن أبي الحسن: اسمها أم القرآن. وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها.
(1/65)
1
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها» . ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل، وكذلك يجيء عدل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وعدل زُلْزِلَتِ [الزلزلة: 1] .
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحمد لله رب العالمين فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام» . وورد حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة» .
وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجرا طالب ثواب، لأن قوله الحمد لله في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قول لا إله إلا الله توحيد فقط. فأما إذا أخذا بموضعهما من شرع الملة ومحلهما من رفع الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله» .
الْحَمْدُ معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر، وشكره حمد ما، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئا، فالحامد من الناس قسمان: الشاكر والمثني بالصفات.
وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد، وذلك غير مرضي.
وحكي عن بعض الناس أنه قال: «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه، والحمد ثناء بأوصافه» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك الحمد لله شكرا. وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه. لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم. وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمد لله» .
وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمد لله» بفتح الدال وهذا على إضمار فعل.
وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: «الحمد لله» ، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني.
وروي عن ابن أبي عبلة: «الحمد لله» ، بضم الدال واللام، على اتباع الثاني والأول.
قال الطبري: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه، فكأنه قال:
«قولوا الحمد لله» وعلى هذا يجيء «قولوا إياك» قال: وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر:
وأعلم أنني سأكون رمسا ... إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم ... فقال القائلون لهم وزير
(1/66)
1
المعنى المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير.
وقرأت طائفة «ربّ» بالنصب.
فقال بعضهم: «هو نصب على المدح» .
وقال بعضهم: «هو على النداء، وعليه يجيء إِيَّاكَ.
والرب في اللغة: المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، والملك، - تأتي اللفظة لهذه المعاني-.
فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [غاوي بن عبد العزى] :
أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثّعالب
ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم: رب العبيد والمماليك.
ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد:
وأهلكن يوما ربّ كندة وابنه ... وربّ معدّ بين خبت وعرعر
ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة:
تخبّ إلى النعمان حتّى تناله ... فدى لك من ربّ طريفي وتالدي
ومن معنى الإصلاح قولهم: أديم مربوب، أي مصلح، قال الشاعر الفرزدق: [البسيط] .
كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت ... سلاءها في أديم غير مربوب
ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين: «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن» .
ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان: «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم» . ذكره البخاري في تفسير سورة براءة. ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة: [الطويل] .
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي ... ومن قبل ربتني فضعت ربوب
وهذه الاستعمالات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى.
والْعالَمِينَ جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، يقال لجملته عالم، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم، وبحسب ذلك يجمع على العالمين، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج. وقد تقدم القول في «الرحمن الرحيم» .
(1/67)
1
واختلف القراء في قوله تعالى: ملك يوم الدين.
فقرأ عاصم والكسائي «مالك يوم الدين» .
قال الفارسي: «وكذلك قرأها قتادة والأعمش» .
قال مكي: «وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك بالألف، وكذلك قرأها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وطلحة، والزبير، رضي الله عنهم» .
وقرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين» ، وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملك يوم الدين» . هذه رواية عبد الوارث عنه.
وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي» وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي.
وقرأ أبو حيوة «ملك» بفتح الكاف وكسر اللام.
وقرأ ابن السميفع، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وأبو صالح السمان، وأبو عبد الملك الشامي «مالك» بفتح الكاف. وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله إِيَّاكَ.
ورد الطبري على هذا وقال: «إن معنى السورة: قولوا الحمد لله، وعلى ذلك يجيء إِيَّاكَ واهْدِنَا.
وذكر أيضا أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب، وبالعكس، كقول أبي كبير الهذلي: [الكامل] .
يا ويح نفسي كان جلدة خالد ... وبياض وجهك للتراب الأعفر
وكما قال لبيد: [البسيط] .
قامت تشكّى إليّ النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
وكقول الله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] .
وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن، وعلي بن أبي طالب «ملك يوم الدين» على أنه فعل ماض.
وقرأ أبو هريرة «مليك» بالياء وكسر الكاف.
قال أبو علي: ولم يمل أحد من القراء ألف «مالك» ، وذلك جائز، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض، و «الملك» و «الملك» بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم: [الطويل] :
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها
(1/68)
1
وهذا يصف طعنة فأراد شددت، ومن ذلك قول أوس بن حجر: [الطويل] .
فملّك بالليط تحت قشرها ... كغرقىء بيض كنّه القيض من عل
أراد شدد، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس، والذي مفعول وليس بصفة لليط، ومن ذلك قولهم: إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح، كما قالوا: عقدة النكاح، إذ النكاح موضع شد وربط، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له، وكذلك الملك، واحتج من قرأ «ملك» بأن لفظة «ملك» أعم من لفظة «مالك» ، إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا. والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك. وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك. فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلا يملكها أجمع أو رجلا هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والاحكام، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفا وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها، كما لكل أحد في ملكه، ثم عنده زيادة التملك، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد، فهو مالكه وملكه، والقراءتان حسنتان.
وحكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين» أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير، والدراهم، والطير، والبهائم، ولا يقال ملكها، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها، وقد قال الله تعالى:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] .
قال أبو بكر: «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف، وفيه أيضا أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف.
قال أبو بكر: والاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و «الملك» يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره.
قال: والوجه لمن قرأ «مالك» أن يقول: إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه.
قال أبو الحسن الأخفش: «يقال «ملك» بين الملك، بضم الميم، ومالك بين «الملك» و «الملك» بفتح الميم وكسرها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى، وروى بعض البغداديين لي في هذا الوادي «ملك» و «ملك» و «ملك» بمعنى واحد» .
(1/69)
1
قال أبو علي: «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب «ملك» أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله (رب العالمين) فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير» .
قال أبو علي ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص، كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24] ف الْخالِقُ يعم وذكر الْمُصَوِّرُ لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة، وكما قال تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] بعد قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال تعالى: «الرحمن الرحيم» فذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وأيضا: فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله:
[الطويل] (ومن قبل ربتني فضعت ربوب) وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين» والجر في «ملك» أو «مالك» على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح، والإضافة إلى يَ