فتح القدير للكمال ابن الهمام 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
 
(وَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ) وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْعُمُرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ
 
(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَشَرَةُ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ، وَقَالَا: سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ. وَقِيلَ لَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا بِلَفْظِ الْفَرْدِ دُونَ الْجَمْعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
دُونَهَا حَقِيقَةً فِي حَالَيْنِ وَلِمَا فَوْقَهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا فِي بَعْضِ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ أَنَّهُ يُطْلَقُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ كَمَا فِي رَهْطٍ وَذَوْدٍ وَنَفَرٍ إلَى آخَرِ مَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِ الْخَبَّازِيِّ اسْمُ الْجَمْعِ بَيَانِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى الِاسْمُ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ، وَمِثْلُ هَذَا فِي عِبَارَاتِ جَمِيعِ أَهْلِ الْفُنُونِ أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى نَاظِرٍ فِي الْعِلْمِ، فَحَاصِلُ كَلَامِ الْخَبَّازِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا أَثْبَتُ مِنْهُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَادُ بِهِ فِي حَالَتَيْنِ وَالثَّانِي فِي حَالَةٍ، يَعْنِي فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا عُهِدَ لَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لَازِمًا، وَحَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَبْدَإِ التَّقْرِيرِ شَرْحٌ لَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يُرَجِّحَ قَوْلَهُمَا فِي الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ بِأَنَّ عَهْدَهُمَا أَعْهَدُ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَهْدِيَّةَ الْعَشَرَةِ إنَّمَا هُوَ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَادَّةٍ خَاصَّةٍ: يَعْنِي الْجَمْعَ مُطْلَقًا عَهْدٌ لِلْعَشَرَةِ، فَإِذَا عَرَضَ فِي خُصُوصِ مَادَّةٍ مِنْ الْجَمْعِ كَالْأَيَّامِ عَهْدِيَّةَ عَدَدٍ غَيْرِهِ كَانَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْهُودِ أَوْلَى، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ صَرْفُ خُصُوصِ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ إلَيْهِمَا أَوْلَى، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْجُمُوعِ كَالسِّنِينَ وَالْأَزْمِنَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي مَادَّتَيْهِمَا عَدَدٌ آخَرُ فَيُصْرَفُ إلَى مَا اسْتَقَرَّ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ إرَادَةِ الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ مُغَالَطَةٌ فَإِنَّ السَّبْعَةَ الْمَعْهُودَةَ نَفْسُ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِيَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَحَدِ إلَى آخِرِهِ، وَالْكَلَامُ فِي لَفْظِ أَيَّامٍ إذَا أُطْلِقَ عَلَى عَهْدٍ مِنْهُ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ لِلسَّبْعَةِ لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ كَثْرَةُ إطْلَاقِ لَفْظِ أَيَّامٍ وَشُهُورٍ وَيُرَادُ بِهِ يَوْمُ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ إلَى آخِرِهَا عَلَى الْخُصُوصِ، بَلْ الْأَزْمِنَةُ الْخَاصَّةُ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَكَرِّرَةٌ وَغَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ وَغَيْرُ بَالِغَةٍ السَّبْعَةِ بِحَسَبِ الْمُرَادَاتِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ، فَالْجَوَابُ مَنْعُ تَوَقُّفِ انْصِرَافِ اللَّامِ إلَى الْعَهْدِ عَلَى تَقَدُّمِ الْعَهْدِ عَنْ لَفْظِ النَّكِرَةِ بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعَهْدِ بِالْمَعْنَى عَنْ اللَّفْظِ أَوْ لَا عَنْهُ فَإِنَّهُ إذَا صَارَ الْمَعْنَى مَعْهُودًا بِأَيِّ طَرِيقِ فَرْضٍ ثُمَّ أُطْلِقَ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لَهُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ انْصَرَفَ إلَيْهِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْمُحَقِّقُونَ الْعَهْدَ إلَى ذِكْرِي وَعِلْمِي وَمَثَّلَ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] فَإِنَّ ذَاتَ الْغَارِ هِيَ الْمَعْهُودَةُ لَا مِنْ لَفْظٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ بَلْ مِنْ وُجُودٍ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ جَعْلُ مَا سَمَّاهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ عَهْدٌ بِغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُنَا الْعَامُّ يَخُصُّ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الْعَهْدَ لَيْسَتْ إلَّا عَمَلًا عُهِدَ مُسْتَمِرًّا ثُمَّ يُطْلَقُ اللَّفْظُ الَّذِي يَعُمُّهَا وَغَيْرُهَا فَيُقَيَّدُ بِهَا لِعَهْدِيَّتِهَا عَمَلًا لَا لَفْظًا وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْأَيَّامِ) عَلَى الْيَقِينِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَقَالَا: سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ) وَقَدْ يُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ أَنَّ الْكَثْرَةَ بِالدُّخُولِ
(5/159)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَمُقْتَضَاهُ إنْ نُظِرَ إلَى الْكَثْرَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَنْ لَا يَحْنَثَ إلَّا بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْكَثْرَةِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُخْتَلِفٌ، فَرُبَّمَا يُقَالُ فِي السَّبْعَةِ كَثِيرَةٌ وَرُبَّمَا يُقَالُ قَلِيلَةٌ، وَكَذَا الْعَشَرَةُ وَالْعِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُقَالُ بِاعْتِبَارَاتٍ وَنِسَبٍ لَمْ تَنْضَبِطْ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا نِيَّةَ لِلْقَائِلِ فِي مِقْدَارِ الْكَثِيرِ، فَفَرَّعَ كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: أَمَّا بِلِسَانِنَا فَلَا يَجِيءُ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَلْ يُصْرَفُ إلَى أَيَّامِ الْجُمُعَةِ بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اكرخدمت كنى مراروزهاي بِسَيَّارِ توازاذي إذَا خَدَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يُعْتَقُ لِأَنَّ فِي لِسَانِنَا تُسْتَعْمَلُ مَعَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ لَفْظَةً روز فَلَا يَجِيءُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ انْتِهَاءِ الْأَيَّامِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فُرُوعٌ]
قَالَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فَهُوَ عَلَى السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَآخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَجُمَعٌ وَسُنُونَ مُنَكَّرٌ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثٍ بِالِاتِّفَاقِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ أَوْ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا وَيَوْمُهَا، وَإِنْ نَوَى السَّاعَةَ الَّتِي أَهَلَّ فِيهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى خَامِسَ عَشَرِهِ، وَإِنْ قَالَ آخِرُ الشَّهْرِ فَمِنْ سَادِسَ عَشَرِهِ إلَى آخِرِهِ، أَوْ غُرَّةِ الشَّهْرِ فَاللَّيْلَةُ الْأُولَى وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ لِلْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ سَلْخُ الشَّهْرِ فَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ، وَإِنْ قَالَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ كُلِّهِ، وَعِنْدَ طُلُوعُ الشَّمْسِ لَهُ مِنْ حِينَ تَبْدُو إلَى أَنْ تَبْيَضَّ، وَإِنْ قَالَ وَقْتَ الضَّحْوَةِ فَمِنْ حِينَ تَبْيَضُّ إلَى أَنْ تَزُولَ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ بَرَّ، وَإِنْ قَالَ الْمَسَاءُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَاءَ مَسَاءَانِ، وَلَوْ قَالَ فِي الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الشِّتَاءَ وَالرَّبِيعَ وَالصَّيْفَ وَالْخَرِيفَ فَهُوَ عَلَى حِسَابِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالشِّتَاءُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ، وَالصَّيْفُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ؛ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: الْخَرِيفُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَالرَّبِيعُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: قَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فِي مَعْرِفَةِ الصَّيْفِ، إنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ النَّاسِ، فَإِذَا قَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبَ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ فَهُوَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
وَفِي الْوَاقِعَاتِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلَدٍ لَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الصَّيْفَ وَالشِّتَاءَ مُسْتَمِرًّا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَأَوَّلُ الشِّتَاءِ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ فِيهِ الْحَشْوَ وَالْفَرْوَ، وَآخِرُهُ مَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ فِيهِ عَنْهُمَا، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ إذَا اسْتَثْقَلَ ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَاسْتَخَفَّ ثِيَابَ الصَّيْفِ، وَالرَّبِيعُ مِنْ آخَرِ الشِّتَاءِ إلَى أَوَّلِ الصَّيْفِ، وَالْخَرِيفُ مِنْ آخِرِ الصَّيْفِ إلَى أَوَّلِ الشِّتَاءِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَيْسَرُ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ إذَا كَانَ عَلَى الْأَشْجَارِ أَوْرَاقٌ وَثِمَارٌ فَهُوَ صَيْفٌ، وَإِذَا بَقِيَ الْأَوْرَاقُ دُونَ
(5/160)
 
 
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ) (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ فَيَكُونُ وَلَدًا حَقِيقَةً وَيُسَمَّى بِهِ فِي الْعُرْفِ، وَيُعْتَبَرُ وَلَدًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الثِّمَارِ فَخَرِيفٌ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا أَوْرَاقٌ فَالشِّتَاءُ، وَإِذَا خَرَجَتْ الْأَوْرَاقُ دُونَ الثِّمَارِ فَالرَّبِيعُ وَهُوَ إذَا خَرَجَتْ الْأَزْهَارُ.
وَلَوْ قَالَ إلَى وُقُوعِ الثَّلْجِ أَرَادَ وَقْتَ وُقُوعِهِ فَعَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَذَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى حَقِيقَةَ وُقُوعِهِ فَعَلَى حَقِيقَةِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَنْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ مَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا لَا يَسْتَبِينُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَلَوْ وَقَعَ الثَّلْجُ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَالِفِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْمُعْتَبَرُ وُقُوعُهُ فِي بَلْدَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلْدَةٍ لَا يَقَعُ بِهَا ثَلْجٌ تَأَبَّدَتْ الْيَمِينُ. وَلَوْ قَالَ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ فَقَدِمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ ذَكَرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، فَعَلَى السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ عُلَمَائِنَا، فَإِنْ كَانَ حَلَفَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ هُمَا حَتَّى يَجِيءَ مِثْلُهُ مِنْ رَمَضَانَ الْقَابِلِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَمْضِي كُلَّ رَمَضَانَ الْقَابِلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكُلِّ لَكِنَّهُ يَقُولُ تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ، وَعِنْدَهُمَا فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ لَكِنْ لَا تُعْرَفُ.
 
[بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ]
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ) لَمَّا كَثُرَ وُقُوعُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ قَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ) وَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِهِ عِتْقَ أَمَةٍ لِأَنَّ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وُلِدَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَشَرْعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ فَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي السِّقْطِ «يَظَلُّ مُحْبَنْطِئًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُدْخِلَ أَبَوَاهُ الْجَنَّةَ» يُرْوَى بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْعَظِيمُ الْبَطْنِ الْمُنْتَفِخُ: أَيْ يُنْفَخُ بَطْنُهُ مِنْ الِامْتِلَاءِ مِنْ الْغَضَبِ، وَبِلَا هَمْزٍ هُوَ الْمُتَغَضَّبُ الْمُسْتَبْطِئُ لِلشَّيْءِ وَالْفِعْلُ مِنْهُمَا احْبَنْطَأَ مَهْمُوزًا وَاحْبَنْطَى مَقْصُورًا، وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَنَّ السِّقْطَ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحُكْمِ، فَلَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ طَلُقَتْ وَعَتَقَتْ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَلَدٌ حَتَّى
(5/161)
 
 
تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ
 
(وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْجَزَاءُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَلَدِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ جَزَاءً وَهِيَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي دَفْعِ تَسَلُّطِ الْغَيْرِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الْمَيِّتِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ وَحُرِّيَّةِ الْأُمِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
صَارَتْ الْأَمَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا يُعْتَبَرْ، وَتَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْحَيْضِ
 
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا) آنِفًا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِهِ وَلَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَدَخَلَتْ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَلَا يَحْنَثُ، حَتَّى لَوْ رَجَعَتْ فَدَخَلَتْ لَا يَقَعُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ إلَّا الْوَلَدُ الْحَيُّ هُنَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجَزَاءَ وَصْفًا لِلْمَوْصُوفِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْوَلَدُ، وَهَذَا الْوَصْفُ الْخَاصُّ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْحَيِّ فَتَقَيَّدَ الْمَوْصُوفُ بِالشَّرْطِ بِالْحَيَاةِ وَإِلَّا لُغِيَ الْكَلَامُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ لِلْأُمِّ وَحُرِّيَّتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِلْوَلَدِ بِالْحَيِّ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالطَّلَاقَ وَاقِعٌ وَصْفًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُ تَقْيِيدُهُ بِهِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قِيلَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ ثُمَّ عَبْدًا لِنَفْسِهِ لَا يُعْتَقُ الثَّانِي لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَقَيَّدْ ضَرُورَةُ وَصْفِهِ بِالْحُرِّيَّةِ بِعَبْدٍ لِنَفْسِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشْتَرِي لِغَيْرِهِ مَحَلٌّ لِلْإِعْتَاقِ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ مَالِكِهِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ بِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إضْمَارِ الْمِلْكِ فِيهِ. أَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الْعِتْقِ فِيهِ لَا مَوْقُوفًا وَلَا غَيْرَهُ، وَبِهَذَا يَقَعُ الْجَوَابُ عَمَّا قَدْ يُورَدُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْجَزَاءِ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالشَّرْطِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَبَانَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَدَخَلَتْ انْحَلَّتْ وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَلَمْ يُضْمِرْ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فِي عِصْمَتِي وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَحَلٌّ لِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ وَتَوَقَّفَ عَلَى نِكَاحِهَا فَتَطْلُقُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ.
وَفِي الْإِيضَاحِ لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيَّ فَهُوَ حُرٌّ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ عَبْدٌ مَيِّتٌ ثُمَّ عَبْدٌ حَيٌّ يُعْتَقُ الْحَيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَالصَّحِيحُ
(5/162)
 
 
لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا
 
(وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ (فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ (وَإِنْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً وَالثَّالِثُ سَابِقٌ فِي هَذَا الْوَصْفِ (وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ الْآخَرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَلَا سَابِقَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا (وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الْآخَرُ) لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ فَاتَّصَفَ بِالْآخِرِيَّةِ (وَيُعْتَقُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يَعْتَبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَا: يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَّهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَنِصْفًا مَعًا عَتَقَ التَّامُّ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ كُرٍّ أَمْلِكُهُ فَهُوَ هَدْيٌ فَمَلَك كُرًّا وَنِصْفًا كَذَلِكَ لَمْ يُهْدِ شَيْئًا لِأَنَّ النِّصْفَ يُزَاحِمُ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ الْكُرِّ لِأَنَّهُ مَعَ كُلِّ نِصْفٍ مِنْهُ كُرٍّ بِخِلَافِ نِصْفِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ فَيَكْمُلُ الْعَبْدُ بِنِصْفَيْهِ، ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ والمرغيناني
 
(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ) فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ فَتَحَقَّقَ بِشِرَائِهِ شَرْطُ الْعِتْقِ فَيُعْتَقُ، فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ بِهِ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً فَيُقَيَّدُ عَامِلُهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِمَعْنَاهُ فَيُفِيدُ أَنَّ الشِّرَاءَ فِي حَالِ تَفَرُّدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ صَادِقٌ فِي الثَّالِثِ فَيُعْتَقُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ وَاحِدًا لَا يُعْتَقُ الثَّالِثُ لِأَنَّ وَاحِدًا يُحْتَمَلُ التَّفَرُّدَ فِي الذَّاتِ فَيَكُونُ حَالًا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ الْوَاقِعَ كَوْنُهُ كَذَلِكَ فِي ذَاتِهِ فَلَا يُعْتَقُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْأَوَّلَيْنِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ فِي ذَاتِهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ وَسَابِقٌ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ الثَّالِثُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ هَذَا الْمَعْنَى يُعْتَقُ كُلٌّ مِنْ الِاثْنَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ فَتَكُونُ مُؤَسِّسَةً فَيُعْتَقُ لِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يُعْتَقُ بِالشَّكِّ.
وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْعَبْدِ وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْمَالِكِ: أَيْ حَالَ كَوْنِي مُنْفَرِدًا فَلَا يُعْتَقُ بِالشَّكِّ، إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ (قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَمَاتَ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ لِأَنَّ الْآخَرَ فَرْدٌ لَاحِقٌ) وَالْفَرْضُ أَنْ لَا سَابِقَ لِهَذَا
(5/163)
 
 
حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ فَأَمَّا اتِّصَافُهُ بِالْآخِرِيَّةِ فَمِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ مُسْتَنِدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَعْلِيقُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِهِ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي جَرَيَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَنَاطُ الْعِتْقِ فَلَمْ يُعْتَقْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحَقُّقِ الْآخِرِيَّةِ وُجُودٌ سَابِقٌ بِالْفِعْلِ، وَفِي الْأَوَّلِيَّةِ عَدَمُ تَقَدُّمِ غَيْرِهِ لَا وُجُودُ آخِرِ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمْ يُعْتِقْ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ إذْ لَمْ يَشْتَرِ بَعْدَهُ غَيْرَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا فِي قَوْلِهِ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْآخَرُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ لَمْ يَعْقُبْهُ غَيْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ عِتْقِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ مِنْ يَوْمِ اشْتَرَاهُ حَتَّى يُعْتَبَرَ عِتْقُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ وَإِلَّا عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَالَا: يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ الْمَوْلَى حَتَّى يُعْتَبَرَ عِتْقُهُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ إلَى الْمَوْتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ أَشْتَرِ بَعْدَك آخَرُ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَوْ قَالَهُ كَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فَكَذَا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرِّفٌ لِلشَّرْطِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ اتِّصَافًا بِالْآخِرِيَّةِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ حَصَلَتْ لَهُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِعَرْضِيَّةِ الزَّوَالِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بَعْدَهُ غَيْرَهُ، فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَشْتَرِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ آخِرًا مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا فِي الْحَالِ بَلْ حَتَّى يَمْتَدَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا امْتَدَّ ظَهَرَ أَنَّهَا طَلُقَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ حَيْثُ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ كَانَ حَيْضًا وَكَوْنُ صِفَةِ الْآخِرِيَّةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ وَأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَوْتِ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْطَ عَدَمَ الشِّرَاءِ بَلْ أَمْرٌ آخَرُ لَا يَتَحَقَّقُ ظُهُورُهُ إلَّا بِهِ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ مُقْتَصِرًا إلَّا لَوْ كَانَ هُوَ نَفْسُ الشَّرْطِ، فَإِذَا كَانَ الْمَظْهَرُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ ثَبَتَ عِنْدَهُ مُسْتَنِدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ يَقَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُقْتَصِرًا عِنْدَهُمَا وَمُسْتَنِدًا عِنْدَهُ.
وَفَائِدَتُهُ: أَيْ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ؛ فَعِنْدَهُمَا تَرِثُ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فَارًّا حَيْثُ حَكَمَا بِطَلَاقِهَا فِي آخِرِ نَفَسٍ مِنْ حَيَاتِهِ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ وَاحِدٍ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ، وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ لَا غَيْرُ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَانَ عَلَيْهَا عِدَّةُ
(5/164)
 
 
(وَمَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ) لِأَنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا بِالْعُرْفِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَوَّلِ (وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا) لِأَنَّهَا تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْوَفَاةِ، وَعِنْدَهُ لَا تَرِثُ لِأَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَقْتَ تَزَوُّجِهَا، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ مَهْرٌ بِالدُّخُولِ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَتُعْتَبَرُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ يُقْتَصَرُ طَلَاقُهَا عَلَى الْحَالِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِكَوْنِ الشَّرْطِ عَدَمُ التَّزَوُّجِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الشَّرْطُ، وَلَيْسَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ الْعَدَمِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا فَلَمْ يَكُنْ الْعَدَمُ السَّابِقُ تَمَامَ الشَّرْطِ، إذْ مَا لَمْ يَتِمَّ آخِرُ الشَّرْطِ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ، بِخِلَافِ الْآخِرِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتِمُّ بِذَلِكَ الشَّرْطِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلَوْ قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ طَلَّقَ الْأُولَى وَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْلُقْ هِيَ وَتَطْلُقُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مَرَّةً، لِأَنَّ الَّتِي أَعَادَ عَلَيْهَا التَّزَوُّجَ اتَّصَفَتْ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَلَا تَتَّصِفُ بِالْآخِرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ آخِرُ عَبْدٍ أَضْرِبُهُ وَضَرَبَ عَبْدًا ثُمَّ آخَرَ ثُمَّ أَعَادَ الضَّرْبَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الَّذِي ضَرَبَهُ ثَانِيًا لَا الْمَعَادُ عَلَيْهِ
 
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ) أَيْ مُتَعَاقِبِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ فَقَطْ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إنَّمَا تَحَقَّقَتْ مِنْهُ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا فِي الْعُرْفِ، وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مَا يُغَيِّرُ الْبَشَرَةَ سَارًّا كَانَ أَوْ ضَارًّا، قَالَ تَعَالَى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ بِمَا يُكْرَهُ قُرِنَ بِذِكْرِ مَا بِهِ الْوَعِيدُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا خَاصٌّ بِالْمَحْبُوبِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَكْرُوهِ فَمَجَازٌ دُفِعَ بِمَادَّةِ اشْتِقَاقِهِ وَهِيَ الْبَشَرَةُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ لِذَلِكَ الْخَبَرَ أَثَرًا فِي الْبَشَرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمَا يَخَافُهُ الْإِنْسَانُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ بَشَرَتِهِ فِي الْمُشَاهَدِ الْمَعْرُوفِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِالْمَحْبُوبِ إلَّا أَنَّ عَلَى الْعُرْفِ بِنَاءَ الْأَيْمَانِ، وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ.
قَالَ تَعَالَى {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] فَنَسَبَهَا إلَى جَمَاعَةٍ فَحَقِيقَتُهَا تَتَحَقَّقُ بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ فَرْدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدِ، فَابْتَدَرَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِالْبِشَارَةِ، فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَتَى ذَكَرَ: بَشَّرَنِي أَبُو بَكْرٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ» وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْبِشَارَةِ إخْبَارٌ بِأَنْ قَالَ إنْ أَخْبَرَنِي وَالْبَاقِي بِحَالِهِ عَتَقَ الْكُلُّ، ثُمَّ إنْ عَدَّى بِالْبَاءِ بِأَنْ قَالَ إنْ
(5/165)
 
 
(وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُهُ (وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. لَهُمَا أَنَّ الشِّرَاءَ شَرْطُ الْعِتْقِ، فَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْقَرَابَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ. وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» جَعَلَ نَفْسَ الشِّرَاءِ إعْتَاقًا لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُهُ وَصَارَ نَظِيرُ قَوْلِهِ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَخْبَرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ اشْتَرَطَ فِيهِ الصِّدْقَ لِإِفَادَتِهَا إلْصَاقَ الْخَبَرِ بِنَفْسِ الْقُدُومِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ لُصُوقُهَا الْإِخْبَارَ بِنَفْسِهِ: يَعْنِي بِنَفْسِ الْقُدُومِ لَفْظًا وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي الْكَذِبِ، فَاشْتِرَاطُ الصِّدْقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَحَقُّقَ الْإِلْصَاقِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِلْصَاقِ الْإِخْبَارِ بِنَفْسِ الْوَاقِعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ أَخْبَرَنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ عَتَقَ كُلُّ مَنْ أَخْبَرَهُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا.
وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى اشْتِرَاطِ الصِّدْقِ فِي الْبِشَارَةِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْبَشَرَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْأَخْبَارِ السَّارَّةِ صِدْقًا كَذَلِكَ يَحْصُلُ كَذِبًا. وَأُجِيبَ بِمَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ، وَالْوَجْهُ فِيهِ نَقْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ
 
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ) لِأَنَّ وُقُوعَهُ كَفَّارَةٌ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ يُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ، وَهَذَا تَسَاهُلٌ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هُوَ قَوْلُهُ هُوَ حُرٌّ وَهُوَ جُزْءُ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ هُوَ مَجْمُوعُ التَّرْكِيبِ التَّعْلِيقِيِّ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ ذَلِكَ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِهِ بَلْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَجُزْ عَنْهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَنْزِلُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ السَّابِقُ فَإِنَّهُ الْعِلَّةُ، أَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُ عَمَلِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى عَنْ كَفَّارَةٍ لَا يَجْزِيه لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ لَا مُتَأَخِّرٌ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ فِي الصَّوْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ نَوَى عِنْدَهُ إذَا اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي فَاشْتَرَاهُ عَتَقَ عَنْهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيه يُرِيدُ عَنْ كَفَّارَتِي.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَزَاءَ الْمُعَلَّقَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عِلَّةً عِنْدَ الشَّرْطِ، وَالشِّرَاءُ هُوَ الشَّرْطُ، وَقَدْ قُرِنَتْ النِّيَّةُ بِالْعِلَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَنْهَا لِقِرَانِ النِّيَّةِ بِالْعِلَّةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الشَّرْطِ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً اعْتَبَرَ الشَّرْعُ لَهُ حُكْمَ الْعِلِّيَّةِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ اتِّفَاقًا، فَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا فَلِذَا يَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ عِنْدَهُ (قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِيه عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا لِأَنَّ الْعِلَّةَ لِلْعِتْقِ هِيَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ لِأَنَّهَا الَّتِي ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي وُجُوبِ الصِّلَةِ كَالنَّفَقَةِ فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ شَرْطُ عَمَلِهَا سَوَاءٌ حَصَلَ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ نَفْسُ الْعِلَّةِ فَلَا لِأَنَّهُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْعِتْقُ لِإِزَالَتِهِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَلَا يَكُونُ الْعِتْقُ مُقْتَضَاهُ.
وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، لِمَا رَوَى السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
(5/166)
 
 
(وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَمَةٍ قَدْ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» يُرِيدُ فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَ هُوَ عِنْدَ ذَلِكَ الشِّرَاءِ، وَهَذَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ عِتْقِهِ إلَى إعْتَاقٍ زَائِدٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَرَابَةَ ظَاهِرَةُ الْأَثَرِ فِيهِ شَرْعًا، وَقَدْ رَتَّبَ عِتْقَهُ عَلَى شِرَائِهِ بِالْفَاءِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى فَيُعْتِقَ هُوَ فَهُوَ مِثْلُ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَالتَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ عَلَى مَا عُرِفَ مِثْلُ سَهَا فَسَجَدَ وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ كَمَا بَيَّنَّا فِي وَجْهِ قَوْلِ زُفَرَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ أَيْضًا كَذَلِكَ بِالنَّصِّ مَعَ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى عَيْنِ حِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرْتِيبِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ تَحْصِيلًا لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ الْقَطِيعَةِ الْحَاصِلَةِ بِمِلْكِهِ إيَّاهُ كَالْبَهَائِمِ وَالْأَمْتِعَةِ وَلِمَصْلَحَةِ الصِّلَةِ، وَهَذِهِ عَيْنُ حِكْمَةِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بِهَا كَانَتْ عِلَّةُ الْعِتْقِ فَوَجَبَ كَوْنُ مَجْمُوعِ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ عِلَّةُ الْعِتْقِ وَلِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا، وَاشْتُهِرَتْ عِبَارَتُنَا الْقَائِلَةُ شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ غَيْرَ أَنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ، أَيْ عِلَّةُ جُزْءِ الْعِلَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ الشِّرَاءُ الِاخْتِيَارِيُّ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَزِمَتْ النِّيَّةُ عِنْدَهُ، فَإِذَا نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ صَحَّ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ الْأَبَ وَغَيْرَهُ بِالْإِرْثِ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِ بِلَا اخْتِيَارٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ النِّيَّةُ فِيهِ فَلَا يُعْتَقُ عَنْ كَفَّارَتِهِ إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهَا نِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْعِتْقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُهِبَ لَهُ أَوْ أُوصِيَ لَهُ بِهِ أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَنَوَى عِنْدَ الْقَبُولِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِسَبْقِهَا مُخْتَارًا فِي السَّبَبِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّرْتِيبِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ الْعِتْقُ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ تَمَامِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا الْمُنَافَاةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِمْ الشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِنَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْقَرِيبِ وَمِلْكُ الْقَرِيبِ عِلَّةُ الْعِتْقِ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةٌ إلَى عِلَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَالْمُنَافَاةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لَوْ كَانَ إزَالَةُ الْمِلْكِ نَفْسُ مُوجِبِ الشِّرَاءِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ؛ وَكَانَ الْأَلْيَقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَصْلُ الْكَفَّارَةِ
 
(قَوْلُهُ وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ تُجِزْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ) وَإِنْ نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ كَوْنَ عِتْقِهَا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، قَالُوا: وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ
(5/167)
 
 
إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَا تَنْضَافُ إلَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ يَجْزِيه عَنْهَا إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَمِينِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ
 
(وَمَنْ) (قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَأَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ ثُمَّ يَقُولُ لَهَا (إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ) وَهُوَ الشِّرَاءُ (وَلَا تَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ) وَإِنَّمَا صُوِّرَتْ هَكَذَا لِأَنَّهُ يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ شِرَاءِ الْقَرِيبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَشِرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَإِلَّا فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِتْقَ أُمِّ الْوَلَدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجْزِي مُعَلَّقًا أَوْ مُنْجَزًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشِّرَاءَيْنِ مَعَ أَنَّ الشِّرَاءَ فِي الْفَصْلَيْنِ مَسْبُوقٌ بِمَا يُوجِبُ الْعِتْقَ مِنْ وَجْهٍ وَهُمَا الْقَرَابَةُ وَالِاسْتِيلَادُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ اسْتَحَقَّتْ الْعِتْقَ بِالِاسْتِيلَادِ حَتَّى جُعِلَ إعْتَاقًا مِنْ وَجْهٍ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَهِيَ قَبْلَ الشِّرَاءِ قَدْ عَتَقَتْ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ عِتْقُهَا بِالشِّرَاءِ أَوْ تَنْجِيزًا إعْتَاقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
وَالْوَاجِبُ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إعْتَاقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الشِّرَاءِ أُعْتِقَ مِنْ وَجْهٍ (بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ تَجْزِيه إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الْكَفَّارَةِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ) فَكَمُلَ الْمُوجِبُ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ) اعْلَمْ أَنَّ التَّسَرِّي هُنَا تَفَعُّلٌ مِنْ السُّرِّيَّةِ وَهُوَ اتِّخَاذُهَا، وَالسُّرِّيَّةُ إنْ كَانَتْ مِنْ السُّرُورِ فَإِنَّهَا تُسَرُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَيُسَرُّ هُوَ بِهَا أَوْ مِنْ السُّرِّ وَالسِّيَادَةِ فَضَمُّ سِينِهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ السِّرِّ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ أَوْ بِمَعْنَى ضِدِّ الْجَهْرِ فَإِنَّهَا قَدْ تَخْفَى عَنْ الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ فَضَمُّهَا مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ كَمَا قَالُوا دُهْرِيٌّ بِالضَّمِّ فِي النِّسْبَةِ إلَى الدَّهْرِ وَفِي النِّسْبَةِ إلَى السَّهْلِ مِنْ الْأَرْضِ سُهْلِيٌّ بِالضَّمِّ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ التَّسَرِّي قِيلَ تَسَرَّى بِإِبْدَالِ الْيَاءِ أَلِفًا
(5/168)
 
 
فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّهَا لِمُصَادَفَتِهَا الْمِلْكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مُنَكَّرَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ جَارِيَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ (وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الْمِلْكِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ التَّسَرُّرُ قِيلَ تَسَرَّرَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقَالَ أَلَّا تُسِرِّي فِي الْمَصْدَرَيْنِ لِأَنَّهُ اتِّخَاذُ السُّرِّيَّةِ، لَكِنْ لُوحِظَ فِيهِ أَصْلُ السُّرِّيَّةِ وَهُوَ السُّرُورُ أَوْ السِّرُّ فَاسْتُعْمِلَ بِرَاءَيْنِ بِإِبْدَالِ الْيَاءِ رَاءً، وَخُصَّتْ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ عَنْ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَتْ " لَا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا النِّكَاحَ وَالِاسْتِسْرَارَ " وَالْقِيَاسُ الِاسْتِسْرَاءُ بِهَمْزَةٍ هِيَ بَدَلُ الْيَاءِ الْوَاقِعَةِ طَرَفًا بَعْدَ أَلْفٍ سَاكِنَةٍ كَهَمْزَةِ كِسَاءٍ، وَمَعْنَى التَّسَرِّي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنْ يُحْصِنَ أَمَتَهُ وَيَعُدُّهَا لِلْجِمَاعِ أَفْضَى إلَيْهِ بِمَائِهِ أَوْ عَزَلَ عَنْهَا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَعْزِلَ مَاءَهُ مَعَ ذَلِكَ، فَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَةً لَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْصِينِ وَالْإِعْدَادِ لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ.
لَنَا أَنَّ مَادَّةَ اشْتِقَاقِهِ سَوَاءٌ اُعْتُبِرَتْ مِنْ السُّرُورِ أَوْ مَا يَرْجِعُ إلَى الْجِمَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الْإِنْزَالَ فِيهَا لِأَنَّ الْجِمَاعَ وَالسُّرُورَ وَالسِّيَادَةَ كُلٌّ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ، فَأَخَذَهُ فِي الْمَفْهُومِ وَاعْتِبَارُهُ بِلَا دَلِيلٍ، وَكَوْنُ الْعُرْفِ فِي التَّسَرِّي تَحْصِينُهَا لِطَلَبِ الْوَلَدِ دَائِمًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ فِي الْمُشَاهَدِ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلِدَ لَهُ إذَا عُرِفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَتَسَرَّى فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَحَصَّنَهَا وَوَطِئَهَا حَنِثَ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي التَّجْرِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَلَوْ قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَعَبْدِي حُرٌّ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا عَتَقَ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ فَمَلَك عَبْدًا ثُمَّ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَا يُعْتَقُ هَذَا الْعَبْدُ الْمُسْتَحْدَثُ. وَلَوْ قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ عَتَقَتْ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ إجْمَاعِيَّةٌ.
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَعْدَ الْحَلِفِ فَتَسَرَّاهَا لَا تُعْتَقُ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ زُفَرُ: تُعْتَقُ لِأَنَّ التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرُ الْمِلْكِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ مَلَكْت أَمَةً فَتَسَرَّيْتهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا عَتَقَ الْعَبْدُ
(5/169)
 
 
وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةٌ صِحَّةُ التَّسَرِّي وَهُوَ شَرْطٌ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ عَتَقَتْ الْمُشْتَرَاةُ لَزِمَ صِحَّةُ تَعْلِيقِ عِتْقِ مَنْ لَيْسَ فِي الْمِلْكِ بِغَيْرِ الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّسَرِّي لَيْسَ نَفْسُ الْمِلْكِ وَلَا سَبَبُهُ بَلْ قَدْ يَتَّفِقُ بَعْدَهُ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَ إلَّا إعْدَادُ أَمَةٍ حَصَّنَهَا لِلْجِمَاعِ، فَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ وُجُودَ الْمِلْكِ سَابِقًا عَلَى ابْتِدَاءِ التَّحْصِينِ وَالْإِعْدَادِ أَوْ مُقَارِنًا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ إخْطَارَهُ عِنْدَ التَّكَلُّمِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ خُطُورِهِ، ثُمَّ تَقْدِيرُهُ مُرَادًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا بَيِّنًا لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ فِي الذِّهْنِ بَلْ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ، وَاللَّوَازِمُ الْخَارِجِيَّةُ لَا يَلْزَمُ تَعَلُّقُهَا تَعَقُّلُ مَا هُوَ مَلْزُومُهَا فِي الْخَارِجِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ مَلَكْت أَمَةً فَتَسَرَّيْتهَا إلَخْ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِجَعْلِ الشَّرْطِ الْمِلْكَ، وَبِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ لِأَنَّ عِتْقَ عَبْدِهِ الْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ لَيْسَ لِاعْتِبَارِنَا الشَّرْطَ مَجْمُوعٌ إنْ تَزَوَّجْتُك ثُمَّ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ، بَلْ لِاقْتِضَاءِ الشَّرْطِ الْمِلْكَ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ إذَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَاهُ ثَبَتَ الْجَزَاءُ وَهُوَ عِتْقُ عَبْدِهِ، أَمَّا هَاهُنَا لَوْ ثَبَتَ التَّسَرِّي لَا يَثْبُتُ عِتْقُ الْمُتَسَرَّى بِهَا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّرْطِ شَرْعًا وَهُوَ كَوْنُهُ نَفْسُ الْمِلْكِ أَوْ سَبَبُهُ فَلِهَذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ هَاهُنَا ضَرُورَةُ صِحَّةِ التَّسَرِّي بِهِ فَقَطْ لِأَنَّ الثَّابِتَ ضَرُورَةٌ أَمْرٌ لَا يَتَجَاوَزُهَا، ثُمَّ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّسَرِّي عِتْقُهَا لِاحْتِيَاجِ عِتْقِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْإِعْتَاقِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ مِلْكِهَا إلَى كَوْنِهِ مُعَلَّقًا بِالْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ وِزَانَ مَسْأَلَتِنَا، وَإِنَّمَا وِزَانُهَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةِ إنْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً.
وَنَحْنُ نَقُولُ فِي هَذِهِ لَا تَطْلُقُ الْأُخْرَيَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِالتَّطْلِيقِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ كَوْنُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ. نَعَمْ قَدْ يُقَدَّرُ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى الْمَعْنَى فَيَصِيرُ مُعْتَبَرًا لَفْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا لِتَصْحِيحِ الْجَزَاءِ فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَ الْيَمِينِ الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ قَصْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِيُوجَدَ الْجَزَاءُ كَمَا قَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَفْظَ حَيًّا فِي قَوْلِهِ إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ لِتَصْحِيحِ الْجَزَاءِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ غَرَضَهُ وُجُودُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا وَتَخْفِيفُهَا عَلَيْهَا، فَفِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُعْرَفُ أَنَّ الْغَرَضَ مَنْعُ الشَّرْطِ بِمَنْعِ
(5/170)
 
 
وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّرْطِ دُونَ الْجَزَاءِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا فَهَذِهِ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا
 
(وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ) لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ، إذْ الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهِمْ رَقَبَةً وَيَدًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
نَفْسِهِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ لِتَصْحِيحِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ، وَحَلَفَ التَّسَرِّي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى زُفَرَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْمُقْتَضَى حَتَّى حَكَمَ فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَنْ الْمَأْمُورِ فَكَيْفَ خَالَفَ هُنَا وَحَكَمَ بِاعْتِبَارِهِ وَتَقْدِيرِهِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا إصْلَاحُهُ لَهُ فَإِنَّ مُنَاقَضَتَهُ لَا تَضُرُّنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى بَلْ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ حَيْثُ كَانَ فَهْمُ الْمِلْكِ ثَابِتًا عِنْدَ فَهْمِ مَعْنَى التَّسَرِّي.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ صُورَةِ أَصْلٍ وَفَرْعٍ وَعِلَّةٍ حَتَّى قِيلَ هِيَ قِيَاسٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ إلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ. فَالْوَجْهُ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْعُرْفِ بِمَعْنَى إنْ وَطَئْتُ مَمْلُوكَةً لِي فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ، وَقَدْ نَقَلْنَا فِي تَحْرِيرِ الْأُصُولِ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ تَفْسِيرًا لِلدَّلَالَةِ بِمَعْنَى دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَإِنْ لَمْ تَرْضَهُ، هَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُقْتَضَى، لِأَنَّ الْمُقْتَضَى مَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ لِضَرُورَةِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ الظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّتِهِ لُغَةً مِثْلُ " رَفْعِ الْخَطَأِ " أَوْ شَرْعًا مِثْلُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي. وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنْ تَسَرَّيْت لَا يَتَبَادَرُ كَذِبُهُ فَيَحْتَاجُ فِي تَصْحِيحِهِ إلَى التَّقْدِيرِ إزَالَةً لِلْخَطَأِ تَصْحِيحًا لِمَا لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرُهُ، وَهَذَا عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَاهُ فِي إنْ أَكَلْت بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَاحِدٌ وَهُوَ إعْدَادُ الْمَمْلُوكَةِ إلَخْ لَا الْإِعْدَادُ الْأَعَمُّ مِنْهَا وَمِنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا فَهُوَ مَدْلُولُ تَضَمُّنِيٌّ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَارَةِ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ) أَيْ إضَافَةُ الْمِلْكِ الْكَامِلِ فِي هَؤُلَاءِ إلَى السَّيِّدِ ثَابِتَةٌ رَقَبَةً وَيَدًا فَدَخَلُوا فَيُعْتَقُونَ، وَيَدْخُلُ الْإِمَاءُ وَالذُّكُورُ، وَلَوْ نَوَى الذُّكُورَ فَقَطْ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَلَوْ نَوَى السُّودَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ بِوَصْفٍ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ ذِكْرُهُ وَلَا عُمُومٌ إلَّا اللَّفْظُ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ لِأَنَّ لَفْظَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِلرِّجَالِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ تَعْمِيمُ مَمْلُوكٍ وَهُوَ لِلذَّكَرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْأُنْثَى مَمْلُوكَةً، وَلَكِنْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ لَهُمَا الْمَمْلُوكُ عَادَةً: يَعْنِي إذَا عَمَّمَ (مَمْلُوكٍ) بِإِدْخَالِ (كُلُّ) وَنَحْوِهِ يَشْمَلُ الْإِنَاثَ حَقِيقَةً كَمَا ذُكِرَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ كَالْمُسْلِمِينَ.
وَالْوَاوُ فِي فَعَلُوا عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ فَلِذَا كَانَ نِيَّةُ الذُّكُورِ خَاصَّةً خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً،
(5/171)
 
 
(وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ) لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ الْإِضَافَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ
 
(وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ) لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلَيْنِ) لِمَا بَيَّنَّا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَوْ نَوَى النِّسَاءَ وَحْدَهُنَّ لَا يُصَدَّقُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً، وَلَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ، فِي رِوَايَةٍ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُصَدَّقُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً (قَوْلُهُ وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ ثَابِتٍ) يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ إضَافَةُ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْوِيَهُمْ بِلَفْظِ كُلُّ مَمْلُوكٍ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لَوْ قَالَ كُلُّ مَرْقُوقٍ لِي حُرٌّ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُونَ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِمْ كَامِلٌ، وَلَا تُعْتَقُ أُمُّ الْوَلَدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ) مِنْهُمَا وَالْعَطْفُ يُشْرَكُ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَحُكْمُهُ هُنَا الطَّلَاقُ الْمُنْجَزُ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي التَّعْيِينِ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ، وَيُتَخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا) وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ كَانَ نِصْفُ الْأَلْفِ لِلثَّالِثِ وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَنْ لَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ.
وَقَدْ يُقَالُ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ كَمَا يَصِحُّ عَلَى الْأَحَدِ الْمَفْهُومِ مِنْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ يَصِحُّ عَلَى هَذِهِ الثَّانِيَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْأُولَى فَقَطْ وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مَعًا فَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ لِذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(5/172)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
[بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ]
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالضَّرْبِ) وَلَمَّا كَانَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَمَا بَعْدَهَا قَدَّمَهَا عَلَيْهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ بَابٍ عَقَدَهُ فَوُقُوعُهُ أَقَلُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَأَكْثَرُ مِمَّا بَعْدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ وَيَسْتَغْنِي الْوَكِيلُ فِيهِ عَنْ نِسْبَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ لِوُجُودِهِ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ كَالْحَلِفِ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي وَلَا يُؤَجِّرُ وَلَا يَسْتَأْجِرُ وَلَا يُصَالِحُ عَنْ مَالٍ وَلَا يُقَاسِمُ، وَكَذَا الْفِعْلُ الَّذِي يُسْتَنَابُ فِيهِ وَيَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى النِّسْبَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُخَاصِمُ فُلَانًا فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَقُولُ أَدَّعِي لِمُوَكِّلِي، وَكَذَا الْفِعْلُ الَّذِي يَقْتَصِرُ أَصْلَ الْفَائِدَةِ فِيهِ عَلَى مَحَلِّهِ كَضَرْبِ الْوَلَدِ فَلَا يَحْنَثُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ بَلْ هُوَ فِيهِ سَفِيرٌ وَنَاقِلُ عِبَارَةٍ يَحْنَثُ فِيهِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ كَمَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَوَكَّلَ بِهِ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ بِمَالٍ أَوْ بِلَا مَالٍ أَوْ لَا يُكَاتِبُ أَوْ لَا يَهَبُ أَوْ لَا يَتَصَدَّقُ أَوْ لَا يُوصِي أَوْ لَا يَسْتَقْرِضُ أَوْ لَا يُصَالِحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ لَا يُودِعُ أَوْ لَا يَقْبَلُ الْوَدِيعَةَ أَوْ لَا يُعِيرُ أَوْ لَا يَسْتَعِيرُ.
وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ تَرْجِعُ مَصْلَحَتُهُ إلَى الْآمِرِ كَحَلِفِهِ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ وَلَا يَذْبَحُ شَاتَه فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَمِنْهُ قَضَاءُ
(5/173)
 
 
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ لَهُ مِنْ الْعَاقِدِ حَتَّى كَانَتْ الْحُقُوقُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُهُ
 
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَلِهَذَا لَا يُضِيفُهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ إلَى الْآمِرِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَيْهِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) وَسَنُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الدَّيْنِ وَقَبْضُهُ وَالْكِسْوَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّتِهِ وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ وَبِنَاءُ الدَّارِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مِنْ الْعَاقِدِ) لَا مِنْ الْحَالِفِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَحُكْمًا حَتَّى رَجَعَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالتَّسْلِيمِ لِلثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ وَالْمُخَاصِمُ بِالْعَيْبِ وَبِالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَالْأُجْرَةِ (وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ) بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ (هُوَ الْحَالِفُ) لَا يَبِيعُ إلَخْ (يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ) لِصِدْقِ أَنَّهُ بَاعَ وَاشْتَرَى وَاسْتَأْجَرَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَظْهَرِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَحْنَثُ لِأَنَّ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ فَأَمَرَ مَنْ حَلَقَهُ لَهُ حَنِثَ.
قُلْنَا: لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَهُوَ الشَّرْطُ لِلْحِنْثِ بَلْ مِنْ الْعَاقِدِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ) الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ لَا كُلُّ حُكْمٍ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْأَعَمِّ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ فِيهِ عَلَى حَلْقِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ عَلَى الْحَلْقِ مُطْلَقًا فَيَحْنَثُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَفْعَلُهُ.
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَحْنَثْ: يَعْنِي فَإِذَا نَوَى الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ يَحْنَثُ بِبَيْعِ الْوَكِيلِ (أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعُقُودَ بِنَفْسِهِ) فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْفِعْلِ لَيْسَ إلَّا الْأَمْرُ بِهِ فَيُوجَدُ سَبَبُ الْحِنْثِ بِوُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ رُبَّمَا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ عَقْدَ بَيْعِ الْمَبِيعَاتِ، ثُمَّ لَوْ فَعَلَ الْآمِرُ بِنَفْسِهِ يَحْنَثُ أَيْضًا لِانْعِقَادِهِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْمُورِهِ، وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيُوَكِّلُ أُخْرَى تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ، وَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَعْتَادُهُ الْحَالِفُ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَحَلِفِهِ لَا يَبْنِي وَلَا يُطَيِّنُ الْعَقْدُ كَذَلِكَ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يَعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ) يَعْنِي إذَا فَعَلَهُ الْوَكِيلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَوَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِهِمْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنَّمَا نِسْبَتُهُ إلَى الْآمِرِ مَجَازٌ، ثُمَّ إنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَكُمْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ كَمَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَأَنْتُمْ تَأْبُونَهُ. قُلْنَا: لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ إضَافَتَهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَتِهِ إلَى مُوَكِّلِهِ كَانَ نَاقِلًا عِبَارَةً لِلْمُوَكِّلِ فَانْضَافَ الْعَقْدُ كُلُّهُ لَفْظًا وَحُكْمًا إلَيْهِ فَيَحْنَثُ بِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ شَعْرٍ أَوْ حِكْمَةٍ هَذَا لَيْسَ كَلَامُ هَذَا الرَّجُلِ بَلْ كَلَامُ فُلَانٍ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَدَمَ لُزُومِ أَحْكَامِ هَذَا الْعُقُودِ نَظَرًا إلَى الْفَرْضِ وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا يَلْزَمُ بِمُبَاشَرَتِهِ أَوْ مُبَاشَرَةِ مَأْمُورِهِ وَلَيْسَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَدِينُ، وَلَوْ خَلَعَهَا أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ حَنِثَ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ حَتَّى
(5/174)
 
 
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ فَيَجْعَلُ هُوَ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ) بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَامِّ فَيَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ، وَالنِّسْبَةُ إلَى الْآمِرِ بِالتَّسْبِيبِ مَجَازٌ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بَانَتْ حَنِثَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَعِنْدَ مُضِيِّهَا يَقَعُ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا وَقَعَ حُكْمًا دَفْعًا لِضَرَرِهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ مَوْجُودًا.
وَلَوْ كَانَ عِنِّينًا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ زُفَرَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَلَوْ زَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ فَأَجَازَ بِالْقَوْلِ حَنِثَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ. وَفِي الْإِجَازَةِ بِالْفِعْلِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُجِيزِ بِالْفِعْلِ عَاقِدًا لَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ التَّوْكِيلِ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْ قَبْلَهُ. وَلَوْ وَكَّلَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقَ ثُمَّ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ وَلَا يَعْتِقُ ثُمَّ طَلَّقَ الْوَكِيلُ أَوْ أَعْتَقَ يَحْنَثُ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْوَكِيلِ هُنَا مَنْقُولَةٌ إلَيْهِ
 
(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ) فَلِمِلْكِهِ إيَّاهُ انْتَقَلَ فِعْلُ الضَّرْبِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْأَمْرِ بِهِ (ثُمَّ مَنْفَعَتُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْآمِرِ) عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ أَدَبِهِ وَانْزِجَارِهِ فَيُجْعَلُ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ وَفَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي ضَرْبِ عَبْدِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ حُرًّا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ سُلْطَانًا أَوْ قَاضِيًا لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ ضَرْبَ الْأَحْرَارِ حَدًّا وَتَعْزِيرًا فَمَلَكَا الْأَمْرَ بِهِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ) ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ أَثَرًا شَرْعِيًّا فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْفُرْقَةُ (وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ) لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَالرَّسُولِ بِهِ وَلِسَانُ الرَّسُولِ كَلِسَانِ الْمُرْسِلِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ خَاصَّةً فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ دَاخِلٍ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمُرْسِلِ مَعَ فَرْضِ أَنَّ مُقْتَضَيَاتِهِ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ وَهِيَ الْحُقُوقُ، وَحَقِيقَةُ الْمُرَادِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَمَا مَعَهُ لَمَّا كَانَ لَفْظًا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ فَالْحَلِفُ عَلَى تَرْكِهِ حَلِفٌ عَلَى أَنْ لَا تُوجَدَ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِمُبَاشَرَتِهِ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ فَنِيَّةُ أَحَدِهِمَا خِلَافُ الظَّاهِرِ (أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ) لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ أَثَرِهِ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَثْبُتُ مَعَ أَثَرِهِ مِنْ الْفَاعِلِ بِلَا إذْنٍ مِنْهُ، فَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ مَجَازِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَسَبُّبِهِ فِيهِ، فَإِذَا نَوَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمَجْعُولِ أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً لِآثَارٍ شَرْعِيَّةٍ لَا تَثْبُتُ تِلْكَ الْآثَارُ إلَّا بِإِذْنٍ عَنْ وِلَايَةٍ، فَلَمَّا كَانَ لِلْإِذْنِ فِيهَا أَثَرٌ نَقَلَهَا إلَى الْحَالِفِ، قَالُوا: وَثُبُوتُ تَصْدِيقِهِ قَضَاءٌ فِي ضَرْبِ الْعَبْدِ رِوَايَةٌ فِي تَصْدِيقِهِ بِ قَضَاءٌ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ الْمُبَاشَرَةُ فِيهِمَا فَيُصَدَّقُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(5/175)
 
 
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ) فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ فَلَمْ يَنْسِبْ فَعَلَهُ إلَى الْآمِرِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ عَائِدَةٌ إلَى الْآمِرِ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَدَسَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فِي ثِيَابِ الْحَالِفِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْبَيْعِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ بِأَمْرِهِ إذْ الْبَيْعُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَمْ تُوجَدْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَيَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَنَظِيرُهُ الصِّيَاغَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَكُلُّ مَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ يَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ بِلَا إذْنٍ وَالْقَوْلُ لَا يَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا بِإِذْنٍ لَا يَجْزِمُ عِنْدَهُ بِلُزُومِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَى الْوَلَدِ) الْمَضْرُوبِ (وَهِيَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ) أَيْ التَّقَوُّمُ وَتَرْكُ الِاعْوِجَاجِ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ وَالْأَخْلَاقُ (فَلَمْ يُنْسَبْ فِعْلُ الْمَأْمُورِ إلَى الْآمِرِ) وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى الْأَبِ أَيْضًا، لَكِنَّ أَصْلَ الْمَنَافِعِ وَحَقِيقَتَهَا إنَّمَا تَرْجِعُ إلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا فَلَا مُوجِبَ لِلنَّقْلِ.
وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا وَعُرْفِ عَامَّتِنَا فَإِنَّهُ يُقَالُ ضَرَبَ فُلَانٌ الْيَوْمَ وَلَدَهُ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ، وَيَقُولُ الْعَامِّيُّ لِوَلَدِهِ غَدًا أَسْقِيَك عَلَقَةً ثُمَّ يَذْكُرُ لِمُؤَدِّبِ الْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَهُ فَيَعُدُّ الْأَبَ نَفْسَهُ قَدْ حَقَّقَ إيعَادَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكْذِبْ، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى مَعْنَى لَا يَقَعُ بِك ضَرْبٌ مِنْ جِهَتِي وَيَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَخْ) لَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ وَبِعْت هَذَا الثَّوْبَ لَك بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَمَّا عَلَى جَعْلِ الْمُخَاطَبِ مُشْتَرِيًا لَهُ فِيهِمَا فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَأَمَّا عَلَى
(5/176)
 
 
(وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
جَعْلِهَا فِيهِمَا لِلتَّعْلِيلِ: أَيْ بِعْته لِأَجَلِك فَهِيَ أَيْضًا تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ عَلَى مَا ذَكَرُوا، لَكِنَّ الْوَجْهَ الظَّاهِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ إذَا وَلِيَتْ اللَّامُ الْفِعْلَ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ نَحْوُ بِعْت لَك هَذَا كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ.
وَوَجْهُ إفَادَتِهَا الِاخْتِصَاصُ هُوَ أَنَّهَا تَضْعِيفٌ مُتَعَلِّقُهَا لِمَدْخُولِهَا وَمُتَعَلِّقُهَا الْفِعْلُ وَمَدْخُولُهَا كَافُّ الْمُخَاطَبِ، فَتُفِيدُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ مُخْتَصٌّ بِالْفِعْلِ، وَكَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ إطْلَاقُ فِعْلِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَمْرِهِ، وَإِذَا بَاعَ بِأَمْرِهِ كَانَ بَيْعُهُ إيَّاهُ مِنْ أَجْلِهِ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ فَصَارَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَإِذَا دَسَّ الْمُخَاطَبُ ثَوْبَهُ بِلَا عِلْمِهِ فَبَاعَهُ لَمْ يَكُنْ بَاعَهُ مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَمْرِهِ بِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ كَالصِّيَاغَةِ نَحْوُ إنْ صُغْت لَك خَاتَمًا، وَكَذَا إنْ خِطْت لَك وَإِنْ بَنَيْت لَك بَيْتًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لِلْمُخَاطَبِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يُوجَدُ مَعَ أَمْرِهِ وَعَدَمِ أَمْرِهِ وَهُوَ بَيْعُ ثَوْبٍ مُخْتَصٍّ بِالْمُخَاطَبِ لِأَنَّ اللَّامَ هُنَا أَقْرَبُ إلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ الثَّوْبُ مِنْهُ لِلْفِعْلِ، وَالْقُرْبُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَيُوجِبُ إضَافَتُهَا الثَّوْبَ إلَى مَدْخُولِهَا عَلَى مَا سَبَقَ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وَلِيَتْ فِعْلًا لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَلَوْ قَالَ إنْ أَكَلْت لَك طَعَامًا أَوْ طَعَامًا لَك أَوْ شَرِبْت لَك شَرَابًا أَوْ شَرَابًا لَك أَوْ ضَرَبْت لَك غُلَامًا أَوْ غُلَامًا لَك أَوْ دَخَلْت لَك دَارًا أَوْ دَارًا لَك فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِدُخُولِ دَارٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُخَاطَبُ: أَيْ تُنْسَبُ إلَيْهِ وَأَكْلِ طَعَامٍ يَمْلِكُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ أَوْ دُونَهُمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُلَامِ الْوَلَدُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَالْوَكَالَةَ فَكَانَ كَالْإِجَارَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] وَقَالَ قَاضِي خَانْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَبْدُ لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الضَّرْبَ مِمَّا لَا يُمْلَكُ ب