فتح القدير للكمال ابن الهمام 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
 
لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ
 
(وَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَفَخْذِهَا أَوْ كَفَرْجِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ) لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي عُضْوٍ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ (وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ مَحَارِمِهِ مِثْلَ أُخْتِهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ عَنْ الْمَاضِي كِذْبًا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا فِي التُّحْفَةِ. وَلَوْ قِيلَ الْمَنْسُوخُ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ طَلَاقًا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ صِحَّةِ إرَادَتِهِ بِهِ احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ وَيَصْلُحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا إلَيْهِ اتِّبَاعِ الْمَشْرُوعِ لَا تَغْيِيرُهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَهُوَ كَلَفْظِ أَنْتِ طَالِقٌ جُعِلَ شَرْعًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ غَيْرُهُ فَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي التُّحْفَةِ.
 
(قَوْلُهُ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ) اللَّامُ فِيهِمَا لِلْعَهْدِ: أَيْ الْمُحَلَّلَةُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِالْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّهُمَا الْمَعْهُودَتَانِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِهِمَا (قَوْلُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى) يَعْنِي تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ (يَتَحَقَّقُ فِي التَّشْبِيهِ بِعُضْوٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ) عَلَى التَّأْبِيدِ لَمَّا كَانَ الظِّهَارُ كَلَامًا تَشْبِيهِيًّا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُشَبَّهَةِ وَالْمُشَبَّهِ بِهَا وَجَبَ إعْطَاءُ ضَابِطِهِمَا؛ فَفِي الْمُشَبَّهَةِ أَنْ تُذْكَرَ هِيَ أَوْ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْهَا أَوْ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَتِهَا كَالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ وَالْفَرْجِ وَالْوَجْهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ التَّعْبِيرِ بِهَذِهِ عَنْ الْكُلِّ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّصْفُ وَالثُّلُثُ فِي الْأَوَّلِ، وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهَا أَنْ تُذْكَرَ هِيَ أَوْ عُضْوٌ مِنْهَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَّا أَنَّ مَعَ ذِكْرِهَا يَنْوِي كَمَا سَيَأْتِي.
إذَا عَرَفْت هَذَا فَعِبَارَتُهُ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا إلَى قَوْلِهِ مِثْلُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَيْسَتْ جَيِّدَةً لِأَنَّ ظَاهِرَهَا حُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إذَا شَبَّهَهَا بِجُزْءٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ أَوْ رَأْسُك أَوْ وَجْهُك أَوْ رَقَبَتُك أَوْ فَرْجُك أَوْ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ سُدُسُك كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ خَالَتِي أَوْ أُمِّ زَوْجَتِي أَوْ كَفَرْجِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ فَخْذِهَا أَوْ أَلْيَتِهَا كَانَ مُظَاهِرًا، وَلَوْ قَالَ يَدُك أَوْ رِجْلُك أَوْ شَعْرُك أَوْ ظُفُرُك أَوْ سِنُّك أَوْ بَطْنُك أَوْ فَخْذُك أَوْ جَنْبُك أَوْ ظَهْرُك كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجِهَا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ أَوْ رَأْسُك إلَى آخِرِ مَا قُلْنَا كَيَدِ أُمِّي أَوْ جَنْبِهَا إلَخْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَمَسُّهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ يَدُك أَوْ رِجْلُك إلَخْ عَلَيَّ كَيَدِهَا أَوْ كَرِجْلِهَا إلَخْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، وَإِذَا أُحْكِمَتْ مُلَاحَظَةُ الْأَصْلَيْنِ
(4/250)
 
 
لِأَنَّهُنَّ فِي التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ كَالْأُمِّ (وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ رَأْسُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك أَوْ رَقَبَتُك أَوْ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ بَدَنُك) لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الشَّائِعِ ثُمَّ يَتَعَدَّى كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَخْرَجَتْ فُرُوعًا كَثِيرَةً عَنْ تَفْرِيقِ مَا جَمَعْنَاهُ مِثْلُ فَرْجُك كَفَرْجِ أُمِّي فَرْجُك كَفَخْذِ أُمِّي يَكُونُ ظِهَارًا بَطْنُك كَفَرْجِهَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا.
وَوَجْهُ الِاعْتِبَارِ فِي الْمُشَبَّهَةِ بِكَوْنِ الْعُضْوِ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَالْجُزْءُ الشَّائِعُ مَا أَحَالَ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ هُنَا كَالْمُطَلَّقَةِ هُنَاكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ، وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهَا بِكَوْنِ الْعُضْوِ مِمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَةِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ إلَخْ وَقَدْ تَمَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُنَّ) أَيْ أُخْتُهُ وَعَمَّتُهُ وَأُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ كَالْأُمِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ عَمَّتِك أَوْ أُخْتِك لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا لَيْسَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ بَلْ مُوَقَّتَةٌ بِانْقِطَاعِ عِصْمَتِهِ لَهَا. ثُمَّ الْمُرَادُ تَأَبُّدُ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَوْ قَالَ كَظَهْرِ مَجُوسِيَّةٍ لَا يَكُونُ ظِهَارًا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَامِعِ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ بِاعْتِبَارِ دَوَامِ الْوَصْفِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ إسْلَامِهَا، بِخِلَافِ الْأُمِّيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا.
لَا يُقَالُ: يُرَدُّ عَلَى اشْتِرَاطِ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ مَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ هَذِهِ يَنْوِي الظِّهَارَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَعْدَ التَّكْفِيرِ مَعَ أَنَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الظِّهَارِ فِي هَذِهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ قَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِمَنْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ، فَالظِّهَارُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ وَجْهِ الشَّبَهِ الْمُرَادِ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِ التَّشْبِيهِ بِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ آخَرَ ظَاهَرَ زَوْجُهَا مِنْهَا فَقَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ فُلَانَةَ يَنْوِي ذَلِكَ صَحَّ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَفِي التُّحْفَةِ: لَوْ شَبَّهَ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالَةٍ أُخْرَى مِثْلُ أُخْتِ امْرَأَتِهِ وَمِثْلُ امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ مُرْتَدَّةٍ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأُمِّ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ فَلَا تَكُونُ ظِهَارًا وَلَا إيلَاءٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَبَعْدَ اشْتِرَاطِ تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا؟ شَرَطَهُ فِي النِّهَايَةِ لِتَخْرُجَ أُمُّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتُهَا لِأَنَّهُ لَوْ شَبَّهَهَا بِهِمَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَعَزَاهُ إلَى شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، لَكِنَّ الْخِلَافَ مَنْقُولٌ فِي هَذِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُظَاهِرًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَوْ قَضَى بِحِلِّهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْفُذُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُظَاهِرًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِحِلِّ نِكَاحِهَا وَعَدَمِهِ، فَظَهَرَ مِمَّا نَقَلْنَا أَنَّ مَبْنَى ثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي الظِّهَارِ وَعَدَمَهُ لَيْسَ كَوْنُ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوَّلًا، بَلْ كَوْنُهَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ أَوَّلًا، وَعَدَمُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ الْغَيْرِ الْمُحْتَمَلِ لِلتَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ نَصٍّ آخَرَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةً فِي الْوَاقِعِ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ فِي كَوْنِ الْمَحِلِّ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَفِي نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِخِلَافِهِ، وَلِذَا فَرَّقَ فِي الْمُحِيطِ بِوُجُودِ النَّصِّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِالْوَطْءِ وَعَدَمِهِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِبِنْتِهَا لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْوَطْءَ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَحُرْمَةَ الدَّوَاعِي غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا.
وَفِي الدِّرَايَةِ: فِي كَظَهْرِ أُخْتِي مِنْ لَبَنِ الْفَحْلِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ مَعَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ
(4/251)
 
 
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ) لِيَنْكَشِفَ حُكْمُهُ (فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَرَامَةَ فَهُوَ كَمَا قَالَ) لِأَنَّ التَّكْرِيمَ بِالتَّشْبِيهِ فَاشٍ فِي الْكَلَامِ (وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِجَمِيعِهَا، وَفِيهِ تَشْبِيهٌ بِالْعُضْوِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ (وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْأُمِّ فِي الْحُرْمَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِاحْتِمَالِ الْحَمْلِ عَلَى الْكَرَامَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَكُونُ ظِهَارًا لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِعُضْوٍ مِنْهَا لَمَّا كَانَ ظِهَارًا فَالتَّشْبِيهُ بِجَمِيعِهَا أَوْلَى. وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ إيلَاءٌ لِيَكُونَ الثَّابِتُ بِهِ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِيهَا مَعَ أَنَّ فِي حُرْمَتِهَا عُمُومَ نَصِّ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ» لَكِنَّ ذَلِكَ خُصَّ مِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الرَّضَاعِ.
وَالثَّانِي: إنَّمَا يُفِيدُ ثُبُوتَ أختية بِنْتِ الْفَحْلِ مِنْ غَيْرِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ بِالِالْتِزَامِ، وَمِثْلُهُ مَا رَأَيْت لَوْ شَبَّهَهَا بِامْرَأَتِهِ الْمُلَاعَنِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى تَأَبُّدَ حُرْمَتِهَا لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ. أَمَّا إنْ أَرَادَ مَنْ أَرْضَعَهُمَا نَفْسُ الْفَحْلِ بِأَنْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَلَا إشْكَالَ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا أختية هُنَاكَ أَصْلًا. وَمِمَّا يَشْكُلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْقُدُورِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: زَنَى أَبُوهُ بِامْرَأَةٍ أَوْ ابْنُهُ فَشَبَّهَهَا بِأُمِّهَا أَوْ ابْنَتِهَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَنْفُذُ عِنْدَهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِحِلِّهَا لَهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا وَيَنْفُذُ حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ غَايَةَ أُمِّ مَزْنِيَّةِ الْأَبِ وَالِابْنِ أَنْ تَكُونَ كَأُمِّ زَوْجَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ زَوْجَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ وَلَا أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ، فَلَيْسَ التَّشْبِيهُ هُنَا بِمُحَرَّمَةٍ، وَلَوْ شَبَّهَ بِظَهْرِ أَبِيهِ أَوْ قَرِيبِهِ أَوْ بِظَهْرِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِفَرْجِ أَبِيهِ أَوْ قَرِيبِهِ قَالَ فِي الْمُحِيطِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ فَرْجَهُمَا فِي الْحُرْمَةِ كَفَرْجِ أُمِّهِ. وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ مُظَاهَرَةً مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ. وَفِي الدِّرَايَةِ: لَوْ قَالَتْ هِيَ أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي أَوْ أَنَا عَلَيْك كَظَهْرِ أُمِّك لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ عِنْدَنَا. وَفِي الْمَبْسُوطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هُوَ ظِهَارٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ حَكَى خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنُ عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ. وَفِي الْيَنَابِيعِ وَالرَّوْضَةِ كَالْأَوَّلِ قَالَ: هُوَ يَمِينٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ظِهَارٌ عِنْدَ الْحَسَنِ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَشْرَكَ مَعَهَا أُخْرَى كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُمَا
 
(وَقَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي) هُنَا أَلْفَاظُ أَنْتِ أُمِّي مِثْلُ أُمِّي كَأُمِّي حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي؛ فَفِي أَنْتِ أُمِّي لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَيَنْبَغِي أَنْ
(4/252)
 
 
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ تَخْتَصُّ بِهِ.
 
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي وَنَوَى ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. الظِّهَارُ لِمَكَانِ التَّشْبِيهِ وَالطَّلَاقُ لِمَكَانِ التَّحْرِيمِ وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَكُونَ مَكْرُوهًا، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ لِزَوْجَتِهِ يَا أُخَيَّةُ مَكْرُوهٌ.
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخَيَّةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ» وَنَحْنُ نَعْقِلُ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ هُوَ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ لَفْظِ تَشْبِيهِ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ الَّذِي هُوَ ظِهَارٌ، وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ هُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ أُمِّي أَقْوَى مِنْهُ مَعَ ذِكْرِ الْأَدَاةِ، وَلَفْظُ أُخَيَّةِ فِي يَا أُخَيَّةُ اسْتِعَارَةٌ بِلَا شَكٍّ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَفَادَ كَوْنَهُ لَيْسَ ظِهَارًا حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ حُكْمًا سِوَى الْكَرَاهَةِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ ظِهَارًا مِنْ التَّصْرِيحِ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ شَرْعًا، وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا يَا بِنْتِي أَوْ يَا أُخْتِي وَنَحْوَهُ، وَفِي مِثْلِ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي يَنْوِي، فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ بَائِنًا كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَإِنْ نَوَى الْكَرَاهَةَ وَالظِّهَارَ فَكَمَا نَوَى كَمَا فِي الْكِنَايَاتِ. وَأَفَادَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الظِّهَارِ، فَعُلِمَ أَنَّ صَرِيحَهُ يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِعُضْوٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ ظِهَارٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لِهَذَا اللَّفْظِ الظِّهَارُ لِوُجُودِ التَّشْبِيهِ بِالْبَعْضِ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ غَيْرَ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ يَصِحُّ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ إلَى ذَلِكَ الْمَنْوِيِّ تَصْحِيحًا لِإِرَادَتِهِ، وَجَعَلَ عَلَيَّ بِمَعْنَى عِنْدِي فِي الْكَرَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفِيدَ لِلْكَرَامَةِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَفْظُ أَنْتِ عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي، فَحِينَ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ نِيَّةٌ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَلَهُمَا أَنْ يَمْنَعَا كَوْنَ الصَّرَاحَةِ تَثْبُتُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْجُزْءِ حَالَ كَوْنِهِ فِي ضِمْنِ التَّشْبِيهِ بِالْكُلِّ بَلْ إذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ابْتِدَاءً، فَفِيمَا إذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِكُلِّهَا يَبْقَى مُجْمَلًا فِي حَقِّ جِهَةِ التَّشْبِيهِ، فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ مُرَادٌ مَخْصُوصٌ لَا يُحْكَمُ بِشَيْءٍ خُصُوصًا وَالْحَمْلُ عَلَى الظِّهَارِ حَمْلٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ الْمُسْلِمِ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا وَلَا لَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهَا، وَمَا أَمْكَنَ صَرْفُ تَصَرُّفَاتِهِ عَنْهَا وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ فَالْمُصَنِّفُ حَكَى فِيهِ خِلَافًا بَيْنَهُمَا وَكَذَا غَيْرُهُ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ: أَيْ أَدَاتِهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ أُمِّي وَكَأُمِّي جَمِيعًا وَاحِدٌ مُخْتَصٌّ بِالظِّهَارِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَقَدْ نَوَى مَا لَا يُنَافِيه فَإِنَّ الْحُرْمَةَ مُوجِبُ الظِّهَارَ فَيَثْبُتُ الْمَنْوِيُّ فِي ضِمْنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي الْكَلَامِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ كَوْنِهِ الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ عِنْدَ التَّشْبِيهِ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى الثَّابِتُ بِهِ لَا يَتَعَدَّى بِهِ الْمَنْوِيَّ وَتَحْرِيمُهَا مُطْلَقًا بِلَا ظِهَارٍ وَلَا طَلَاقٍ هُوَ الْإِيلَاءُ
(4/253)
 
 
وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا
 
(وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً لَمْ يَكُنْ إلَّا ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ عَلَى مَا نَوَى) لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ جَمِيعًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلِأَنَّ الْإِيلَاءُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَأُمُورٍ أُخَرَ، أَمَّا السَّبَبُ وَهُوَ الظِّهَارُ نَفْسُهُ فَكَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْإِيلَاءُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَمِينٌ لَيْسَ مَعْصِيَةً بَلْ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يَقْتَرِنُ بِهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ أَغْلَظُ حَيْثُ قُدِّرَ الْإِطْعَامُ بِسِتِّينَ مِسْكِينًا أَوْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا، وَالْأُمُورُ الْأُخَرُ هِيَ أَنَّ حُرْمَتَهَا فِي الْإِيلَاءِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَالشَّرْعُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَحْنَثَ وَيَطَأَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثُمَّ يُكَفِّرُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ عَادَتْ بِلَا إيلَاءٍ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بَلْ فِي حَقِّ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ إذَا وَطِئَ وَكَانَ الْإِيلَاءُ مُؤَبَّدًا، وَفِي الظِّهَارِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي ثُمَّ لَا يَحِلُّ مِنْهَا شَيْءٌ آخَرُ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوَّلًا، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ تَعُودُ بِالظِّهَارِ وَلَا تَحِلُّ مَا لَمْ يُكَفِّرْ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَهَا بِأَنْ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ لَا تَحِلُّ مَا لَمْ يُكَفِّرْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ حِينَئِذٍ ظِهَارٌ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَكَّدٌ بِالتَّشْبِيهِ
 
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بَلْ فِي مُجَرَّدِ أَنْتِ كَأُمِّي.
وَفِي أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي فَإِنَّمَا لَهُ مُحْتَمَلَانِ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ لَا الْبِرُّ لِتَصْرِيحِهِ بِالْحُرْمَةِ، فَأَيُّهُمَا أَرَادَ ثَبَتَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ، وَهَاهُنَا يُتَّجَهُ الْمَذْكُورُ آنِفًا عَنْ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي كَوْنِهِ ظِهَارًا لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَكَّدٌ بِالتَّشْبِيهِ (قَوْلُهُ وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا) يَعْنِي فِيمَا قَبْلَهَا: يَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِي يُوسُفَ لِيَكُونَ الثَّابِتُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ، وَمِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ مَا ذَكَرْنَا.
 
وَفِي أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي خِلَافٌ، فَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا سَوَاءٌ نَوَى طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا (وَقَالَا: هُوَ عَلَى مَا نَوَى) ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَظِهَارٌ (لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ) فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الْإِيلَاءَ يَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ كَظَهْرِ أُمِّي تَأْكِيدًا لَهُ لَا مُغَيِّرًا (غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا) مَعَهُ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا بِأَنْتِ حَرَامٌ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الظِّهَارِ بَعْدَهُ بِكَظَهْرِ أُمِّي (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ) فَقِيلَ لَا بِلَفْظِ حَرَامٌ إذْ لَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ بَلْ كُلُّ لَفْظٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْ الْمُبَانَةِ.
وَقِيلَ بَلْ الظِّهَارُ يَقَعُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِهِ بِنِيَّتِهِ، كَمَا إذْ قَالَ مَنْ لَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِزَيْنَبِ زَيْنَبُ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت الْأُخْرَى يَقَعُ عَلَيْهِمَا فِي الْأُخْرَى بِاعْتِرَافِهِ فِي الْمَعْرُوفَةِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ فِيهِ فِي صَرْفِ النِّيَّةِ عَنْهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فِيمَا إذَا قَالَ عَنَيْت الطَّلَاقَ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَضَاءِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاقِعُ
(4/254)
 
 
وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، ثُمَّ هُوَ مُحْكَمٌ فَيُرَدُّ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ.
 
قَالَ (وَلَا يَكُونُ الظِّهَارُ إلَّا مِنْ الزَّوْجَةِ، حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْأَمَةِ تَابِعٌ فَلَا تُلْحَقُ بِالْمَنْكُوحَةِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَنْقُولٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْمَمْلُوكَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَا نَوَى.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَلَوْ نَوَى الْإِيلَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إيلَاءً وَظِهَارًا بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ التَّنَافِي (قَوْلُهُ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ: أَيْ لَفْظُ كَظَهْرِ أُمِّي صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ مُحْكَمٌ فِيهِ، وَلَفْظُ حَرَامٌ مُحْتَمَلٌ فَيُرَدّ إلَيْهِ إذَا قُرِنَ مَعَهُ
 
(قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ) مَوْطُوءَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَوْطُوءَةٍ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ فِي الْأَمَةِ مُطْلَقًا، وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ فِي الْمَوْطُوءَةِ.
لَنَا أَنَّ النَّصَّ يَتَنَاوَلُ نِسَاءَنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] وَالْأَمَةُ وَإِنْ صَحَّ إطْلَاقُ لَفْظِ نِسَائِنَا عَلَيْهَا لُغَةً لَكِنَّ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ إضَافَةِ النِّسَاءِ إلَى رَجُلٍ أَوْ رِجَالٍ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعَ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ هَؤُلَاءِ جَوَارِيه لَا نِسَاؤُهُ، وَحُرْمَةُ بِنْتِ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ لَيْسَ لِأَنَّ أُمَّهَا مِنْ نِسَائِنَا مُرَادَةٌ بِالنَّصِّ بَلْ لِأَنَّهَا بِنْتُ مَوْطُوءَةٍ وَطْئًا حَلَالًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبِلَا هَذَا الْقَيْدِ عِنْدَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالنِّسَاءِ هُنَاكَ مَا تَصِحُّ بِهِ الْإِضَافَةُ حَتَّى يَشْمَلَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَهُنَّ الزَّوْجَاتُ، وَالْمَجَازِيُّ: أَعْنِي الْإِمَاءَ بِعُمُومِ الْمَجَازِ لَأَمْكَنَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْإِمَاءِ كَثُبُوتِهِ فِي الزَّوْجَاتِ.
أَمَّا هُنَا فَلَا اتِّفَاقَ وَلَا لُزُومَ عِنْدَنَا أَيْضًا لِيَثْبُتَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، لِأَنَّ الْإِمَاءَ لَسْنَ فِي مَعْنَى الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّ الْحِلَّ فِيهِنَّ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ الْعَقْدِ وَلَا مِنْ الْمِلْكِ حَتَّى يَثْبُتَ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُوَاضَعَةِ، بِخِلَافِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُوجِبَ هَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ سِوَى التَّوْبَةِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِيهِ فِي حَقِّ مَنْ لَهَا حَقٌّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ فِيهِ فَيَبْقَى فِي حَقِّهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا
(4/255)
 
 
(فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَجَازَتْ النِّكَاحَ فَالظِّهَارُ بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ، وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ، بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.
 
(وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا) لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارَ إلَيْهِنَّ فَصَارَ كَمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ (وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةُ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ لِإِنْهَاءِ الْحُرْمَةِ فَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا، بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُ الِاسْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَنُقِلَ عَنْهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُغَيَّا بِالْكَفَّارَةِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْأَمَةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ بِشَيْءٍ لِلْمُتَأَمِّلِ
 
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ) وَالتَّشْبِيهُ إنَّمَا انْعَقَدَ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ الْمُغَيَّا حِينَ كَانَ كَذِبًا مَحْضًا فَلَا يَتَوَقَّفُ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَلْيَتَوَقَّفْ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ نِكَاحُهَا عَلَى الْإِجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَتْ ظَهْرَ أَنَّهُ كَانَ التَّشْبِيهَ الْمُمْتَنِعَ.
أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ بِتَوَقُّفِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ حَلَالٌ وَالظِّهَارُ حَرَامٌ فَتَنَافَيَا، بِخِلَافِ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَثْبُتُ الظِّهَارُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ مِنْ غَاصِبِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ: يَعْنِي يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ حَتَّى أَنْ يُعْتِقَ إذَا شَاءَ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِهِ وَيَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ وَلَا يَثْبُتُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَالَهُ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، فَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ بَيْعَ الْغَاصِبِ عَتَقَ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا) بِلَا خِلَافٍ (لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارَ إلَيْهِنَّ) فَكَانَ كَإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِنَّ يُطَلَّقْنَ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ؛ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِنَّ: أَيْ كُلُّ مَنْ أَرَادَ وَطْأَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ كَفَّارَةٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَعُرْوَةُ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ اعْتَبَرُوهُ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيلَاءِ
(4/256)
 
 
فَصْل فِي الْكَفَّارَة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قُلْنَا الْكَفَّارَةُ لِوَضْعِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِهِنَّ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْعَظِيمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَرَّرَ الظِّهَارُ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ حَيْثُ تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ إلَّا إنْ نَوَى بِمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ الْأَوَّلَ تَأْكِيدًا فَيُصَدَّقُ قَضَاءً فِيهِمَا لَا كَمَا قِيلَ فِي الْمَجْلِسِ لَا الْمَجَالِسِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَوْرَدَ: لَمَّا ثَبَتَ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ حُرْمَةٌ مُوَقَّتَةٌ فَكَيْفَ تَتَكَرَّرُ الْحُرْمَةُ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ وَمَا هُوَ إلَّا تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ. أُجِيبَ بِالْأَوَّلِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْمُوَقَّتَةُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْحِلِّ فَيَصِحُّ الظِّهَارُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَلَا مُنَافَاةَ فِي اجْتِمَاعِ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ كَالْخَمْرِ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِعَيْنِهَا وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ سُؤَالَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ أَنْ يُثْبِتَ بِكُلِّ سَبَبٍ حُرْمَةً كَمَا الْتَزَمَ فِي أَسْبَابِ الْحَدَثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَاتِ.
 
[فُرُوعٌ] لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كَالْإِيلَاءِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لَنَا وَ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة: 2] وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنَّا، وَإِلْحَاقُهُ بِالْقِيَاسِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ جِنَايَةٌ حُكْمُهَا تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ، وَشِرْكُ الْكَافِرِ يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ أَثَرِ الْجِنَايَةِ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ حَتَّى اُشْتُرِطَتْ النِّيَّةُ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ الْكَافِرِ فَيَبْقَى تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَهُوَ غَيْرُ حُكْمِهِ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا عَلَى رَأْيِكُمْ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِلْكِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِلْغَاءِ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ النَّصِّ فَيَكُونُ خِلَافَ الْكَفَّارَةِ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ كَإِلْغَائِهِ فِي {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وَمَا أُجِيبَ مِنْ أَنَّهَا عِبَادَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عُقُوبَةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ يُقَالُ عَلَيْهِ إنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ اتِّفَاقًا فَلَزِمَ كَوْنُهَا عِبَادَةً. وَمَا دَفَعَ بِهِ مِنْ أَنَّ افْتِقَارَهَا إلَيْهَا كَافْتِقَارِ الْكِنَايَاتِ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ عِبَادَةً مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ بِلَا جَامِعٍ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْكِنَايَاتِ إلَيْهَا لِيَتَعَيَّنَ بِهِ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَاتِ وَهُوَ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِهِ، وَافْتِقَارُ الْكَفَّارَةِ لِتَقَعَ عِبَادَةً وَإِلَّا فَلِمَاذَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ أَجَازَ إيلَاءَ الْكَافِرِ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ أَمْرَانِ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِتَقْدِيرِ الْبَرِّ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ وَيَصُونُونَهُ فَيَنْعَقِدُ مِنْهُمْ نَظَرًا إلَى ذَلِكَ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِتَقْدِيرِ الْحِنْثِ، فَلَوْ فُرِضَ مِنْهُمْ الْحِنْثُ بِالْوَطْءِ انْتَفَى حُكْمُ الْبَرِّ وَتَعَذَّرَ التَّكْفِيرُ
 
وَلَوْ ظَاهَرَ وَاسْتَثْنَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا ثُمَّ كَفَّرَ إنْ كَفَّرَ فِي يَوْمِ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ ظَاهَرَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا صَحَّ تَقْيِيدُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ بِشَرْطٍ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى مَا سَلَفَ. وَيَصِحُّ بِشَرْطِ النِّكَاحِ، فَإِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَزَوَّجَهَا لَزِمَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فِي رَجَبَ وَرَمَضَانَ وَكَفَّرَ فِي رَجَبَ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا، وَلَوْ ظَاهَرَ فَجُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ فَهُوَ عَلَى حُكْمِ الظِّهَارِ وَلَا يَكُونُ عَائِدًا بِالْإِفَاقَةِ خِلَافًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ.
 
[فَصْل فِي الْكَفَّارَة]
(4/257)
 
 
قَالَ (وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عِتْقُ رَقَبَةٍ) فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْكَفَّارَةَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. قَالَ (وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَسِيسِ) وَهَذَا فِي الْإِعْتَاقِ، وَالصَّوْمُ ظَاهِرٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ مَنْهِيَّةٌ لِلْحُرْمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى الْوَطْءِ لِيَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا قَالَ (وَتَجْزِي فِي الْعِتْقِ الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ) لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّاتِ الْمَرْقُوقِ الْمَمْلُوكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَوْلُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ) أَيْ إعْتَاقُهَا، فَإِنَّهُ لَوْ وَرِثَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فَنَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ مُقَارِنًا لِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ لَا يَجْزِيه عَنْهَا (قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ) يَعْنِي يَجِبُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَأَخَوَيْهِ، وَالنَّصُّ لَا يُوجِبُ بِلَفْظِهِ ذَلِكَ فِيهِ فَعَلَّلَهُ وَأَلْحَقَهُ بِهِمَا. وَحَاصِلُهُ عَقْلِيَّةٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَنْهِيَّةٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى إيجَادِهِمَا قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَهَذَا كَفَّارَةُ مِثْلِهِمَا فَيَجِبُ كَوْنُهُ قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحِ مِنْ «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي وَاقَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ» مُطْلَقٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ. لَا يُقَالُ هَذَا كُلُّهُ يَتَرَاءَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى إطْلَاقِ النَّصِّ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ التَّحْرِيرَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَقَالَ
(4/258)
 
 
وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الْكَافِرَةِ وَيَقُولُ: الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى عَدُوِّ اللَّهِ كَالزَّكَاةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَقَصْدُهُ مِنْ الْإِعْتَاقِ التَّمَكُّنُ مِنْ الطَّاعَةِ ثُمَّ مُقَارَفَتُهُ الْمَعْصِيَةَ يُحَالُ بِهِ إلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] .
ثُمَّ أَعَادَ الْقَيْدَ الْمَذْكُورَ مَعَ الصِّيَامِ فَقَالَ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ثُمَّ أَطْلَقَ الْإِطْعَامَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] فَلَوْ أُرِيدَ التَّقْيِيدُ فِي الْإِطْعَامِ لَذُكِرَ كَمَا ذُكِرَ فِيهِمَا بَلْ تَخْصِيصُهُ بِالْإِطْلَاقِ بَعْدَمَا نَصَّ عَلَى تَكْرِيرِ الْقَيْدِ مَعَ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مُكْتَفًى بِهِ لِتَقْيِيدِهِ فِي التَّحْرِيرِ قَرِينَةً عَلَى قَصْدِ الْإِطْلَاقِ فِيهِ، وَمَا قِيلَ ذَكَرَهُ مَرَّتَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى إرَادَةِ تَكَرُّرِهِ مُطْلَقًا إذْ هُوَ دُفِعَ لِتَوَهُّمِهَا اخْتِصَاصَهُ بِالْخَصْلَةِ الْأُولَى لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلِتَوَهُّمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلِلتَّطْوِيلِ لَوْ أَعَادَ مَعَهَا بَعْدَهُمَا فَكَلَامُهُ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قَوَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ بَلْ هُوَ تَحْسِينٌ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَخْصِيصَهُ بِالْإِطْلَاقِ بَعْدَ تَكْرِيرِ الْقَيْدِ مَعَ أَخَوَيْهِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمَا بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوَاعِدِ إلَّا إنْ تَحَقَّقَ فِيهِ إجْمَاعٌ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ.
وَالثَّابِتُ فِيهِ الْآنَ قَوْلَانِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. لِأَنَّا نَقُولُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ افْتِرَاضُ الْإِطْعَامِ شَرْطًا لِحِلِّ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا مُطْلَقًا وَقَدْ جَرَيْنَا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَمْ نُقَيِّدْ اشْتِرَاطَهُ لِلْحِلِّ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَيَكُونُ زِيَادَةً بَلْ أَوْجَبْنَا ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْإِلْحَاقِ بِالْخَصْلَتَيْنِ فِي وُجُوبِ التَّقْدِيمِ لَا فِي اشْتِرَاطِهِ لِلْحِلِّ، وَالْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ الِافْتِرَاضُ فَالْمُتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ مِنْهُ الْوُجُوبُ. لَا يُقَالُ حِينَئِذٍ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَصْفُ الَّذِي زَادَ بِهِ الْفَرْضُ عَلَى الْوُجُوبِ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِيجَابُ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ثُبُوتُهُ قَطْعِيًّا سُمِّيَ فَرْضًا، وَلَيْسَ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْحُكْمِ بَلْ جُزْءَ مَفْهُومِ لَفْظِ الْفَرْضِ تَأَمَّلْ، وَعَمَّا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ لِلْحِلِّ وَاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَرُبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الصَّوْمِ يَسْتَأْنِفُ، وَلَوْ قَرُبَهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَا يَسْتَأْنِفُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الصِّيَامَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ التَّمَاسِّ وَأَطْلَقَ فِي الْإِطْعَامِ، وَلَا يُحْمَلُ الْإِطْعَامُ عَلَى الصِّيَامِ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْحَادِثَةُ.
(قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) مُتَّصِلٌ بِالْمَرْقُوقَةِ فَلِذَا لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرَهُ لَا يَجْزِيه عَنْهَا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا وَعَنْ ذَلِكَ يَصِحُّ إعْتَاقُ الرَّضِيعِ لِصِدْقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى) الْمَشْهُورُ بِنَاءُ الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَهُ نَعَمْ وَعِنْدَنَا لَا، إلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ ذَلِكَ لُزُومًا عَقْلِيًّا، إذْ الشَّيْءُ لَا يَكُونُ نَفْسَهُ مَطْلُوبًا إدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا كَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَرَدَ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِالتَّتَابُعِ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِمِثْلِهَا وَلِلْكَلَامِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ فَمِنْ غَيْرِ هَذَا، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى أَصْلِهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي كَفَّارَةِ الْأَمْرِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْقَتْلُ ثُبُوتُ مِثْلِهِ فِيمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ لِيَكُونَ التَّقْيِيدُ فِيهِ بَيَانًا فِي الْمُطْلَقِ. وَتَقْرِيرُ مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَهِيَ الْإِعْتَاقُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى عَدُوِّ اللَّهِ، إذْ الْإِعْتَاقُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ لَهُ وَهُوَ الْعِتْقُ كَالزَّكَاةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ
(4/259)
 
 
(وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ) لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْبَصَرُ أَوْ الْبَطْشُ أَوْ الْمَشْيُ وَهُوَ الْمَانِعُ، أَمَّا إذَا اخْتَلَّتْ الْمَنْفَعَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ، حَتَّى يُجَوِّزَ الْعَوْرَاءَ وَمَقْطُوعَةَ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَا فَاتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ بَلْ اخْتَلَّتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ إذْ هُوَ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ، وَيَجُوزُ الْأَصَمُّ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ، لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ بَاقٍ، فَإِنَّهُ إذَا صِيحَ عَلَيْهِ سَمِعَ حَتَّى لَوْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا بِأَنْ وُلِدَ أَصَمَّ وَهُوَ الْأَخْرَسُ لَا يَجْزِيه (وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعُ إبْهَامَيْ الْيَدَيْنِ) لِأَنَّ قُوَّةَ الْبَطْشِ بِهِمَا فَبِفَوَاتِهِمَا يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ (وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ) لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعَقْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
إطْلَاقَ النَّصِّ إلَّا إذَا كَانَ مَانِعًا عَقْلِيًّا مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ وَالتَّمْلِيكِ تَصَدُّقًا عَلَى الْكَافِرِ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ» وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْلَا أَنَّ مَقْصُودَ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ بِذَلِكَ لَمْ تُشَرَّعْ أَصْلًا، وَلَا يَزِيدُ الْفَرْضُ عَلَى كَوْنِهِ قُرْبَةً إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ، وَلَا يَظْهَرُ لِوَصْفِ الْمَأْمُورِيَّةِ أَثَرٌ فِي مُنَافَاةِ كَوْنِ مَحَلِّهِ كَافِرًا بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَلَوْلَا النَّصُّ الَّذِي يَخُصُّ الزَّكَاةَ لَقُلْنَا بِجَوَازِ دَفْعِهَا لِفُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ يَحْصُلُ لَا بِخُصُوصِ مَحَلِّ فِعْلِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يُعْتِقُهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ بِالْإِسْلَامِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَخْلِيصِهِ مِنْ رَقَبَةِ الرِّقِّ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ افْتِرَاقُهُ هُوَ الْكُفْرُ لِسُوءِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَظَهَرَ ثُبُوتُ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِعْتَاقِهِ. هَذَا وَيَدْخُلُ فِي الْكَافِرَةِ الْمُرْتَدُّ وَالْمُرْتَدَّةُ، وَلَا خِلَافَ فِي إعْتَاقِ الْمُرْتَدَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، وَإِعْتَاقُ الْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ يَجْزِيه.
 
(قَوْلُهُ وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ إلَخْ) الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ كَامِلَ الرِّقِّ مَقْرُونًا
(4/260)
 
 
فَكَانَ فَائِتَ الْمَنَافِعِ (وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يَجْزِيه) لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ غَيْرُ مَانِعٍ، وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةٍ فَكَانَ الرِّقُّ فِيهِمَا نَاقِصًا، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ الْمَالِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ يَكُونُ بِبَدَلٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْزِيه لِقِيَامِ الرِّقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِهَذَا تَقْبَلُ الْكِتَابَةُ الِانْفِسَاخَ، بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالتَّدْبِيرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الِانْفِسَاخَ، فَإِنْ أَعْتَقَ مُكَاتَبًا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا جَازَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. لَهُ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ. وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِالنِّيَّةِ، وَجِنْسُ مَا يَبْتَغِي مِنْ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ، فَظَهَرَ أَنَّ اخْتِلَالَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَضُرُّ وَلَا ثُبُوتُ الْعَيْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْجِنْسِ الْمَنْفَعَةَ تَصِيرُ الرَّقَبَةُ فَائِتَةً مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ نُقْصَانِهَا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فَوَاتَ الزِّينَةِ عَلَى الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوهُ فِي الدِّيَاتِ فَأُلْزِمُوا بِقَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ تَمَامَ الدِّيَةِ، وَجَوَّزُوا هُنَا عِتْقَ مَقْطُوعِهِمَا إذَا كَانَ السَّمْعُ بَاقِيًا، وَمِثْلُهُ فِيمَنْ حُلِقَتْ لِحْيَتُهُ فَلَمْ تَنْبُتْ لِفَسَادِ الْمَنْبَتِ، وَمَا عَلَّلُوا بِهِ فِي جَعْلِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ مِنْ الْفَائِتِ مَنْفَعَةَ النَّسْلِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَمَالِيكِ يُعَلَّلُ بِهِ فِي فَوَاتِ الزِّينَةِ عَلَى الْكَمَالِ، لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمَرْقُوقُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ بَلْ الْحُرُّ، فَعَنْ هَذَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالدِّيَةِ فِيهِ، وَتَجُوزُ الرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ وَالْعَوْرَاءُ وَالْعَمْشَاءُ وَالْغَشْوَاءُ وَالْبَرْصَاءُ وَالرَّمْدَاءُ وَالْخُنْثَى، لَا مَقْطُوعُ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ إحْدَى كُلٍّ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَجُوزُ مِنْ خِلَافٍ.
أَمَّا مَقْطُوعُ إبْهَامَيْ الْيَدَيْنِ فَلِمَا فِي الْكِتَابِ، وَمِثْلُهُ مَقْطُوعُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ غَيْرَ الْإِبْهَامَيْنِ مِنْ كُلِّ يَدٍ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ كَالْكُلِّ وَيَجُوزُ مَقْطُوعُ إصْبَعَيْنِ غَيْرَ الْإِبْهَامِ مِنْ كُلِّ يَدٍ لَا سَاقِطُ الْأَسْنَانِ الْعَاجِزُ عَنْ الْأَكْلِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ فَائِتَةٌ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْلِ وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَيَجْزِي عِتْقُهُ أَطْلَقَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُرَادُ إذَا أَعْتَقَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَفِي الْأَصَمِّ رِوَايَتَانِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَمَحْمَلُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ: الْأَصَمُّ الَّذِي وُلِدَ أَصَمَّ وَهُوَ الْأَخْرَسُ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَمَحْمَلُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الَّذِي إذَا صِيحَ عَلَيْهِ يَسْمَعُ.
وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ قُضِيَ بِدَمِهِ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ عَفَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ.
وَفِي التَّجْنِيسِ: مِنْ عَلَامَةِ عُيُونِ الْمَسَائِلِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَرِيضًا عَنْ ظِهَارِهِ إنْ كَانَ يُرْجَى وَيُخَافُ عَلَيْهِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرْجَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ مَعْنَى هَذَا وَقَدْ مَنَعَ فَوَاتَ لُزُومِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِقَطْعِ الْإِبْهَامَيْنِ بَلْ اللَّازِمُ اخْتِلَالُهَا وَلَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَوَجَبَ بِقَطْعِهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ، لَكِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَعْتَبِرْهُمَا إلَّا كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَصَابِعِ، وَأَيْضًا رَتَّبَ عَلَى الدَّلِيلِ نَتِيجَةً لَا يَسْتَلْزِمُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ فَوَاتَ قُوَّةِ الْبَطْشِ لَيْسَتْ لَازِمَةً وَلَا عَنْهُ فَوَاتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَلْ ضَعْفُهَا (وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ) وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا لَا الَّذِي أَدَّى بَعْضَ الْكِتَابَةِ وَالشَّافِعِيُّ مَنَعَهُ، وَأَلْحَقَ الْمُكَاتَبَ بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِجَامِعِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ فَنَقَصَ الرِّقُّ فِيهِ كَمَا نَقَصَ فِيهِمَا بَلْ هُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ فِي حُرٍّ عَتَقَ مُدَبَّرَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ، وَلَا يَعْتِقُ مُكَاتَبَهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهُ أَنْقَصُ رِقًّا مِنْهُمَا وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُكُمْ الْكِتَابَةُ إنَّمَا
(4/261)
 
 
دِرْهَمٌ " وَالْكِتَابَةُ لَا تُنَافِيه فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ بِعِوَضٍ فَيَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا يَنْفَسِخُ مُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ إذْ هُوَ يَحْتَمِلُهُ، إلَّا أَنَّهُ تَسْلَمُ لَهُ الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اقْتَضَتْ فَكَّ الْحَجْرِ لَا غَيْرَ كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَاسْتَبَدَّ الْمَوْلَى بِفَسْخِهَا كَالْمَنْعِ مِنْ التِّجَارَةِ.
وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لَنَا فِي الْمُدَبَّرِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَإِعْتَاقُهُ جَائِزٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَنَا، وَفِي أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهِ الْإِثْبَاتِ لِنَفْسِهِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْق بِجِهَةٍ تَقْبَلُ الْفَسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِهَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الرِّقِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَهُوَ الْحَاصِلُ هُنَا، فَإِنَّ حَاصِلَ الْكِتَابَةِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، وَلَوْ عُلِّقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ لَمْ يَلْزَمْ نُقْصَانُ الرِّقِّ فَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ سَائِرَ التَّعْلِيقَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِخِلَافِ هَذَا، وَلَوْلَا ثُبُوتُ النَّصِّ الْمُفِيدِ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يَتَبَيَّنْ نُقْصَانُ الرِّقِّ فِيهِمَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِيهِمَا أَيْضًا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ.
وَلَوْ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ لَمَا تُصَوِّرَ فَسْخُهُ وَإِعَادَتُهُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ نُقْصَانَ الرِّقِّ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِقَدْرِهِ وَثُبُوتِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ كَثُبُوتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مَا يُقَالُ حَقُّ الْعِتْقِ كَحَقِيقَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِمَا بِجِهَةٍ لَازِمَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْكِتَابَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ فَكَّ الْحَجْرِ فِي الْمَكَاسِبِ، وَذَا لَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ إذْ الْمَكَاسِبُ غَيْرُ الرَّقَبَةِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
الْمُرَادُ بِهِ كَامِلٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يَسْتَبِدُّ الْمَوْلَى بِفَسْخِهِ لِأَنَّهُ بِبَدَلٍ فَانْعَقَدَ لَازِمًا عَلَى الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ فُكَّ بِلَا بَدَلٍ وَعَدَمُ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ فِي كُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، لَكِنَّ نُقْصَانَ الْمِلْكِ لَا يَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ الرِّقِّ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمِلْكِ أَعَمُّ مِنْ مَحَلِّ الرِّقِّ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الرِّقِّ فِيهِ كَالْأَمْتِعَةِ، وَالْحَيَوَانِ غَيْرَ الْآدَمِيِّ، فَفِي الْعَبْدِ رِقٌّ فِي رَقَبَتِهِ وَمِلْكٌ يُحَاذِيه فِيهَا وَيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا مِنْ مَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ وَالْكِتَابَةُ أَوْجَبَتْ الْفَكَّ فِي حَقِّ مَا يَزِيدُ عَلَى الرَّقَبَةِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمِلْكِ لَا الرِّقِّ فَنَقَصَ بِهَا الْمِلْكُ لَا الرِّقُّ، وَلَكِنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الرِّقَّ لِأَنَّهُ لَوْ دَارَ مَعَ الْمِلْكِ ثَبَتَ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ أَيْضًا فَكَانَ حِينَئِذٍ كَشَرْعِ السَّائِبَةِ وَلَا مُوجِبَ لِنُقْصَانِهِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُزَحْزِحِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُسَلِّمَ لَهُ الْأَكْسَابَ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ عِتْقُهُ حَيْثُ وَقَعَ إنَّمَا يَقَعُ شَرْعًا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَيَّنَ السَّيِّدُ جِهَةَ التَّكْفِيرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ الْأَكْسَابَ وَالْأَوْلَادَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ أَجَابَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمُكَاتَبِ وَاحِدٌ
(4/262)
 
 
بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، أَوْ لِأَنَّ الْفَسْخَ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ
 
(وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ جَازَ عَنْهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِيك فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
 
وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ مُوسِرٌ وَضَمِنَ قِيمَةَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالْإِعْتَاقُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى تَخْتَلِفُ جِهَاتُهُ، فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُكَاتَبِ جَعَلَ هَذَا ذَلِكَ الْعِتْقَ لِكَوْنِهِ مُتَّحِدًا، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى جُعِلَ إعْتَاقًا بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا وَهَبَتْ الصَّدَاقَ لِلزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَجَعَلَ هِبَتَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الزَّوْجِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَفِي حَقِّهَا يُجْعَلُ تَمْلِيكًا بِهِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ، وَحَقِيقَةُ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا إذَا حَصَلَ عَيْنُ الْمَقْصُودِ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، فَفِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ نَفْسُ حَقِّهِ لَيْسَ إلَّا بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَقَدْ حَصَلَ فَلَا يُبَالَى بِكَوْنِهِ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ هُنَا عَيْنُ حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَيْسَ إلَّا عِتْقُهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَقَدْ حَصَلَ عَيْنُهُ.
الثَّانِي: انْفِسَاخُ الْكِتَابَةِ ضَرُورِيٌّ، إذْ هُوَ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ فِيمَا فِيهِ مَانِعٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّحْرِيرِ لِلتَّكْفِيرِ لَا فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الرِّضَا فِيهِمَا فَيُعْتَقُ فِي حَقِّهِمَا مُكَاتَبًا فَتُسَلَّمُ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَتَقَ مُكَاتَبًا كَوْنُ عِتْقِهِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِلَّا لَتَقَرَّرَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ إذْ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ
 
(قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ جَازَ عَنْهَا) هَذَا فِي الشِّرَاءِ، أَمَّا لَوْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا فَنَوَى الْكَفَّارَةَ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ صَحَّ.
الْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِصُنْعٍ مِنْهُ إنْ نَوَى عِنْدَ صُنْعِهِ أَنْ يَكُونَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَنَوَى كَوْنَ الْعِتْقِ وَقْتَ دُخُولِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ نَوَاهُ وَقْتَ الْيَمِينِ جَازَ
 
(قَوْلُهُ وَضَمِنَ قِيمَةَ بَاقِيه) يَعْنِي أَعْتَقَ ذَلِكَ الْبَاقِي أَيْضًا (لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) بِنَاءً عَلَى تَجْزِيءِ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِعْتَاقُ نِصْفِهِ إعْتَاقُ كُلِّهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَيَمْلِكُهُ فَصَارَ مُعْتِقًا كُلَّهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِلْكُهُ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ،
(4/263)
 
 
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ فَصَارَ مُعْتِقًا كُلَّ الْعَبْدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِلْكُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ يَنْتَقِصُ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ
 
(فَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه عَنْهَا جَازَ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِكَلَامَيْنِ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَكِّنٌ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَانِعٍ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَصَابَ السِّكِّينُ عَيْنَهَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ النُّقْصَانَ تَمَكَّنَ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا فَيَكُونُ عِتْقًا بِبَدَلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْبَدَلُ حَاصِلًا لِلْمُعْتِقِ بَلْ هُوَ لِلشَّرِيكِ الْمَقْصُودِ أَنَّهُ لَزِمَ الْعَبْدَ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ تَحْرِيرِ رَقَبَتِهِ.
وَعِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَإِنَّمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَنِصْفُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ رَقَبَةً وَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِتَعَذُّرِ اسْتِدَامَةِ الرِّقِّ فِيهِ فَصَارَ كَأُمِّ الْوَلَدِ بَلْ أَشَدَّ لِأَنَّ عِتْقَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ هَذَا، وَهَذَا النُّقْصَانُ وَقَعَ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ثُمَّ بِالضَّمَانِ مَلَكَهُ نَاقِصًا، وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ كَالتَّدْبِيرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا إلَّا شَيْئًا مِنْهُ،
 
بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَإِنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَهُ ثُمَّ نِصْفَهُ بَعْدَ كَوْنِ الْكُلِّ عَلَى مِلْكِهِ فَتَمَكَّنَ النُّقْصَانُ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ فَيَجُوزُ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا أُضْحِيَّةً فَأَصَابَتْ السِّكِّينُ عَيْنَهَا فَاعْوَرَّتْ
فَإِنْ قِيلَ: الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ نَصِيبَ السَّاكِتِ مِلْكٌ لَلْمُعْتِق زَمَانَ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ إذْ ذَاكَ لَا نُقْصَانَ فِيهِ.
قُلْنَا: الْمِلْكُ إنَّمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَيَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي نَصِيبِ السَّاكِتِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَالْكَفَّارَةُ غَيْرُهُمَا فَلَمْ تَجُزْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعَيُّبَ ضَرُورَةَ إقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ كَالتَّعَيُّبِ بِصُنْعِهِ مُخْتَارًا، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ عَيْنَ الشَّاةِ مُخْتَارًا عِنْدَ الذَّبْحِ نَقُولُ لَا يَجْزِيه، فَكَانَ الْمُشْتَرِكُ أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ مِنْ الْعَبْدِ الْمُخْتَصِّ.
لِأَنَّ مَالِكَ
(4/264)
 
 
وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَلَا يَكُونُ إعْتَاقًا بِكَلَامَيْنِ.
 
(وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَشَرْطُ الْإِعْتَاقِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالنَّصِّ، وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا إعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَحَصَلَ الْكُلُّ قَبْلَ الْمَسِيسِ.
 
(وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
النِّصْفِ لَا يَقْدِرُ عَلَى عِتْقِهِ إلَّا بِطَرِيقِ عِتْقِ نِصْفِهِ فَحَالُهُ أَشْبَهُ بِذَابِحِ الشَّاةِ مِنْ مَالِكِهِ عَلَى الْكَمَالِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي عَدَمِ مَانِعِيَّتِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْوَاجِبِ إلَّا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَا أَطْلَقَ لَهُ الْعِتْقَ بِمَرَّةٍ وَبِمَرَّاتٍ كَانَ لَازِمُهُ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ النَّقْصُ بِسَبَبِهِ مُطْلَقًا لَا يُمْنَعُ.
وَعَنْ هَذَا بَحَثَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِجْزَاءُ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَإِنَّ النَّقْصَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا حَصَلَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ كَالثَّانِي، وَالْعَمْدُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ حُكْمِيٌّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِالضَّمَانِ يَسْتَنِدُ فَيَظْهَرُ مِلْكُهُ فِي الْكُلِّ عِنْدَ إعْتَاقِ النِّصْفِ فَيَكُونُ كَالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَسْتَنِدُ فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ دُونَ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّ النَّقْصَ لَمَّا كَانَ حُكْمِيًّا فَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي مِلْكِهِ بَيْنَ إعْتَاقِ نِصْفِهِ وَإِعْتَاقِ بَاقِيه أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بَيْنَ الْإِعْتَاقَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُنَافِي كَمَالَ الرُّقْيَةِ مُنِعَ مُطْلَقًا.
وَجَوَابُهُ أَنَّ مُنَافَاةَ الْكَمَالِ لَا تَسْتَلْزِمُ مُنَافَاةَ الْإِجْزَاءِ إلَّا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ أُهْدِرَ لِحُصُولِهِ بِسَبَبِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَضَمِنَهُ كَانَ مُشْتَرِيًا النَّاقِصَ رِقًّا مَعْنَى فَمُعْتِقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ فِي مِلْكِهِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِهْدَارُ دُونَ الشِّرَاءِ مَعْنَى لِنَاقِصِ الرِّقِّ ثُمَّ إعْتَاقُهُ، فَحَيْثُ أُهْدِرَ كَانَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَهُ وَبَعْضَ النِّصْفِ الْآخَرِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ النُّقْصَانِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مُضَافًا إلَى الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ مِلْكِهِ لِذَلِكَ النِّصْفِ فَبَطَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ
 
(قَوْلُهُ وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ) فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ إعْتَاقٍ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ كَانَ إعْتَاقَ عَبْدٍ كَامِلٍ فَهُوَ بَعْدَ الْمَسِيسِ، فَلَوْ كَانَ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْمَسِيسِ مَانِعًا مِنْ الْإِجْزَاءِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ بَعْدَهُ أَيْضًا.
قُلْنَا إنَّمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ الثَّانِي، وَبَطَلَ إعْتَاقُ ذَلِكَ النِّصْفِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لِلْحِلِّ مُطْلَقًا إعْتَاقُ كُلِّ الرَّقَبَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يُوجَدْ فَتَقَرَّرَ الْإِثْمُ بِذَلِكَ الْمَسِيسِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الشَّرْطِ حَتَّى يَكْفِيَ مَعَهُ عِتْقُ النِّصْفِ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ حِينَئِذٍ لَيْسَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَيْسَ هُوَ الشَّرْطُ فَتَبْقَى الْحُرْمَةُ بَعْدَ الْمَجْمُوعِ كَمَا كَانَتْ إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَهُوَ عِتْقُ مَجْمُوعٍ بِجَمِيعِ رَقَبَةٍ
 
(قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ إلَخْ) فِي الْخِزَانَةِ: لَا يَصُومُ مَنْ لَهُ خَادِمٌ، بِخِلَافِ الْمَسْكَنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ: يَجُوزُ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ الْخَادِمِ
(4/265)
 
 
فَكَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَلَا يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ) أَمَّا التَّتَابُعُ فَلِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَقَعُ عَنْ الظِّهَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ الْكَامِلِ.
 
(فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا اسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ، إذْ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطًا فَفِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَقْدِيمُ الْبَعْضِ وَفِيمَا قُلْتُمْ تَأْخِيرُ الْكُلِّ عَنْهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْهُ ضَرُورَةً بِالنَّصِّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَاعْتَبَرَاهُ بِالْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلْعَطَشِ. وَالْفَرْقُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَاءَ مَأْمُورٌ بِإِمْسَاكِهِ لِعَطَشِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْخَادِمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَسْكَنَ.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ لِبَاسِهِ وَلِبَاسِ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ الْخَادِمِ. وَفِي الْإِسْبِيجَابِيِّ: يُعْتَبَرُ الْإِعْسَارُ وَالْيَسَارُ وَقْتَ التَّكْفِيرِ: أَيْ الْأَدَاءِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أَحْمَدُ وَالظَّاهِرِيَّةُ: وَقْتَ الْوُجُوبِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ كَالْقَوْلَيْنِ. وَثَالِثُهَا يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ الْحَالَيْنِ (قَوْلُهُ فَكَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ) إنْ صَامَهُمَا بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتَا ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَإِنْ صَامَهُمَا بِغَيْرِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ صَبِيحَةَ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ
 
(قَوْلُهُ فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا) كَوْنُهَا الْمُظَاهَرَ مِنْهَا قَيْدٌ فِي لُزُومِ الِاسْتِقْبَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ لَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ الْأُخْرَى نَاسِيًا لَا يَسْتَأْنِفُ عِنْدَهُ أَيْضًا، كَمَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ لِلصَّوْمِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِالنِّسْيَانِ بِالنَّصِّ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ جِمَاعِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلصَّوْمِ بَلْ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَتَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطُ حِلِّهَا، فَبِالْجِمَاعِ نَاسِيًا فِي أَثْنَائِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُتَقَدِّمُ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ عِتْقِ نِصْفِ
(4/266)
 
 
وَهَذَا الشَّرْطُ يَنْعَدِمُ بِهِ فَيَسْتَأْنِفُ (وَإِنْ أَفْطَرَ مِنْهَا يَوْمًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ) لِفَوَاتِ التَّتَابُعِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ عَادَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْعَبْدِ لِصِدْقِ كَوْنِ الْمَجْمُوع قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَكَوْنُ السَّبَبِ النِّسْيَانُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ هَذَا الْوَاقِعِ وَعَدَمِ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَتَقْيِيدُهُ لَيْلًا بِكَوْنِهِ عَامِدًا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ جِمَاعُهَا لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا سَوَاءٌ.
لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي وَطْءٍ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْهَا بِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ لَزِمَ الِاسْتِقْبَالُ) بِخِلَافِ مَا لَوْ أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ لِلْحَيْضِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ حَيْثُ لَا تَسْتَأْنِفُ وَتُصَلِّ قَضَاءَهَا بَعْدَ الْحَيْضِ. وَلَوْ أَفْطَرَتْ يَوْمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَزِمَهَا الِاسْتِئْنَافُ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّامُ الْحَيْضِ عَادَةً وَوُجُودُ شَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّامُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ثَابِتٌ عَادَةً كَشَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا نِفَاسُهَا فَلِذَا لَوْ نَفِسَتْ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ وَالْقَتْلِ اسْتَقْبَلَتْ؛ كَمَا لَوْ
(4/267)
 
 
(وَإِنْ ظَاهَرَ الْعَبْدُ لَمْ يَجُزْ فِي الْكَفَّارَةِ إلَّا الصَّوْمُ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ (وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ لَمْ يَجْزِهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا بِتَمْلِيكِهِ.
 
(وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْمُظَاهِرُ الصِّيَامَ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] (وَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
حَاضَتْ فِي خِلَالِ صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهَا تَسْتَقْبِلُ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا حَيْضَ فِيهَا
 
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا بِتَمْلِيكِهِ) أَوْقَعَهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ أَطْعَمَ الْمَوْلَى عَنْهُ أَوْ أَعْتَقَ، فَأَفَادَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَلَكَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُطْعِمَ لِيَكُونَ هُوَ الْمُكَفِّرُ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ الِاخْتِيَارِ فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَمَرَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَهُ ثُمَّ إعْتَاقُهُ عَنْهُ وَإِطْعَامُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ إلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لِأَنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الزَّوْجَةِ
 
(قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ) أَيْ لِمَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ كِبَرٍ (قَوْلُهُ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ غَيْرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَلَوْ دَفَعَ مَنْصُوصًا عَنْ مَنْصُوصٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ الْمَدْفُوعُ الْكَمِّيَّةَ الْمُقَدَّرَةَ مِنْهُ شَرْعًا. مِثَالُهُ دَفَعَ نِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ الْبُرِّ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعِ بُرٍّ عَنْ صَاعِ تَمْرٍ وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُهُ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ كَانَ التَّمْرُ صَاعًا دَفَعَهُ عَنْ نِصْفِ صَاعِ بُرٍّ جَازَ. وَهَذَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَاهُ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي الِاعْتِبَارِ لَزِمَ إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ إذَا فَعَلَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ لِلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ الْقَدْرَ الْمُقَدَّرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي دَفَعَهُ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ اسْتَأْنَفَ فِي غَيْرِهِمْ.
لَا يُقَالُ: لَوْ كَسَا عَشْرَةَ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ثَوْبًا وَاحِدًا عَنْ الْإِطْعَامِ جَازَ عَنْهُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمْ قَدْرَ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ.
قُلْنَا: الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْكِسْوَةُ لَا الثَّوْبُ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالثَّوْبِ، فَلَمَّا لَمْ يُصِبْ كَلَا ثَوْبٍ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْمَنْصُوصَةِ: أَعْنِي الْكِسْوَةَ أَصْلًا لَا أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ عَنْ مَنْصُوصٍ آخَرَ، إذْ لَا كِسْوَةَ إلَّا بِثَوْبٍ يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا فَيَكُونُ فَاعِلًا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ عَنْ الْمَنْصُوصِ (قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ) وَصَوَابُهُ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَالْحَدِيثُ غَرِيبٌ عَنْهُمَا.
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ثَلَاثِينَ صَاعًا، قَالَ: لَا أَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُعِينَنِي، فَأَعَانَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسَةَ عَشَرَ
(4/268)
 
 
«لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَفْعُ حَاجَةِ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَيُعْتَبَرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَوْلُهُ أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ مَذْهَبُنَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ
 
(فَإِنْ أَعْطَى مَنًّا مِنْ بُرٍّ وَمَنَوَيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ جَازَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ (وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ ظِهَارِهِ فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ اسْتِقْرَاضٌ مَعْنًى وَالْفَقِيرُ قَابِضٌ لَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
صَاعًا، وَأَعَانَهُ النَّاسُ حَتَّى بَلَغَ» انْتَهَى. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ كَانَ بُرًّا لِأَنَّ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ يَجْزِي مِنْهُ صَاعٌ.
وَقَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فِي حَدِيثِ «أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: أَحْسَنْتِ» قَالَ فِيهِ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَالْعَرَقُ مِكْتَلٌ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا
، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سِتِّينَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُعَاوَنَتِهَا أَيْضًا بِعَرَقٍ آخَرَ فِي الْكَفَّارَةِ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: الْعَرَقُ زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ عُشْرُ صَاعًا، وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ فِي أَنَّهُ كَانَ الْمُخْرَجُ تَمْرًا أَوْ بُرًّا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ قَالَ «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا وَحْشِيَّيْنِ مَا أَمْلِكُ لَنَا طَعَامًا، قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ