التفسير لابن جرير الطبري ج ص معتمد 012

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] «أَيْ مَصِيرٍ» إِنَّ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ رَغْبَةِ سُلَيْمَانَ إِلَى رَبِّهِ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، [ص:104] وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِي الْمُلْكِ أَهْلُ الدُّنْيَا الْمُؤْثِرُونَ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ؟ أَمْ مَا وَجْهُ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ إِذْ سَأَلَهُ ذَلِكَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا كَانَ يَضُرُّهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ بَعْدَهُ يُؤْتَى مِثْلَ الَّذِي أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ؟ أَكَانَ بِهِ بُخْلٌ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُلْكِهِ يُعْطَى ذَلِكَ مَنْ يُعْطَاهُ، أَمْ حَسَدٌ لِلنَّاسِ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ؛ فَإِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَحَسُودًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ قِيلَ: أَمَّا رَغْبَتُهُ إِلَى رَبِّهِ فِيمَا يَرْغَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُلْكِ، فَلَمْ تَكُنْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ إِرَادَةً مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ فِي إِجَابَتِهِ فِيمَا رَغِبَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَقَبُولَهُ تَوْبَتَهُ، وَإِجَابَتَهُ دُعَاءَهُ وَأَمَّا مَسْأَلَتُهُ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: هَبْ لِي مُلْكًا لَا أُسْلَبُهُ كَمَا سُلِبْتُهُ قَبْلُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْلُبَنِيهِ وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ سِوَايَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِي فَيَكُونُ حُجَّةً وَعِلْمًا لِي عَلَى نُبُوَّتِي وَأَنِّي رَسُولُكَ إِلَيْهِمْ مَبْعُوثٌ، إِذْ كَانَتِ الرُّسُلُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَعْلَامٍ تُفَارِقُ بِهَا سَائِرَ النَّاسِ سِوَاهُمْ وَيَتَّجِهُ أَيْضًا لِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَهَبْ لِي مُلْكًا تَخُصُّنِي بِهِ، لَا تُعْطِيَهُ أَحَدًا غَيْرِي تَشْرِيفًا مِنْكَ لِي بِذَلِكَ، وَتَكْرِمَةً، لَتُبَيِّنَ مَنْزِلَتِي مِنْكَ بِهِ مِنْ مَنَازِلِ مَنْ سِوَايَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوجُوهِ مِمَّا ظَنَّهُ الْحَجَّاجُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ شَيْءٌ
(20/103)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
(20/104)
الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاذْكُرْ} [آل عمران: 41] أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ {عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [ص: 41] مُسْتَغِيثًا بِهِ فِيمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ: يَا رَبِّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} [ص: 41] فَاخْتَلَفْتُ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {بِنُصْبٍ} [ص: 41] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ خَلَا أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ: {بِنُصْبٍ} [ص: 41] بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَادِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّ النُّونِ وَالصَادِ كِلَيْهِمَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَادِ؛ وَالنُّصُبُ وَالنَّصُبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ، وَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ، وَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ، وَالصُّلْبِ وَالصَّلَبِ وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: إِذَا ضُمَّ أَوَّلُهُ لَمْ يَثْقُلْ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُمَا عَلَى سِمَتَيْنِ: إِذَا فَتَحُوا أَوَّلَهُ ثَقَّلُوا، وَإِذَا ضَمُّوا أَوَّلَهُ خَفَّفُوا قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ الْعَرَبِ:
[البحر الطويل]
لَئِنْ بَعَثَتْ أُمُّ الْحُمَيْدَيْنِ مَائِرًا ... لَقَدْ غَنَيَتْ فِي غَيْرِ بُؤْسٍ وَلَا جُحْدِ
مِنْ قَوْلِهِمْ: جَحِدَ عَيْشَهُ: إِذَا ضَاقَ وَاشْتَدَّ؛ قَالَ: فَلَمَّا قَالَ جُحْدِ خَفَّفَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: النُّصُبُ مِنَ الْعَذَابِ وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَنْصَبَنِي: عَذَّبَنِي وَبَرَّحَ بِي. قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: نَصَبَنِي، وَاسْتَشْهَدَ لِقِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ بِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ:
[البحر الطويل]
تَعَنَّاكَ نَصْبٌ مِنْ أُمَيْمَةَ مُنْصَبُ ... كَذِي الشَّجْوِ لَمَّا يَسْلَهُ وَسَيَذْهَبُ
(20/105)
وَقَالَ: يَعْنِي بِالنُّصُبِ: الْبَلَاءَ وَالشَّرَّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الطويل]
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ ... وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ
قَالَ: وَالنَّصَبُ إِذَا فُتِحَتْ وَحُرِّكَتْ حُرُوفُهَا كَانَتْ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَالنَّصَبُ إِذَا فُتِحَ أَوَّلَهُ وَسُكِّنَ ثَانِيهِ: وَاحِدُ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَكُلُّ مَا نُصِبَ عِلْمًا، وَكَأَنَّ مَعْنَى النَّصَبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعِلَّةُ الَّتِي نَالَتْهُ فِي جَسَدِهِ وَالْعَنَاءُ الَّذِي لَاقَى فِيهِ، وَالْعَذَابُ فِي ذِهَابِ مَالِهِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، وَذَلِكَ الضَّمُ فِي النُّونِ وَالسُّكُونُ فِي الصَادِ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/106)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص: 41] حَتَّى بَلَغَ: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] " ذَهَابُ الْمَالِ وَالْأَهْلِ، وَالضُّرُ الَّذِي أَصَابَهُ فِي جَسَدِهِ، قَالَ: ابْتُلِيَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا مُلْقًى عَلَى كُنَاسَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَظَّمَ لَهُ الْأَجْرَ، وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ "
(20/106)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ. ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] قَالَ «نُصُبٍ فِي جَسَدِي، وَعَذَابٍ فِي مَالِي»
(20/107)
حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} [ص: 41] " يَعْنِي: «الْبَلَاءَ فِي الْجَسَدِ» {وَعَذَابٍ} [الأنعام: 70] قَوْلُهُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]
(20/107)
وَقَوْلُهُ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ مُسْتَغِيثًا بِهِ، أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِي، وَعَذَابٍ بِذِهَابِ مَالِي وَوَلَدِي، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ، وَقُلْنَا لَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ الْأَرْضَ: أَيْ حَرِّكْهَا وَادْفَعْهَا بِرِجْلِكَ، وَالرَّكْضُ: حَرَكَةُ الرِّجْلِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَكَضَتِ الدَابَّةُ، وَلَا تَرْكُضْ ثَوْبَكَ بِرِجْلِكَ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي أُمِرَ أَيُّوبُ أَنْ يَرْكُضَهَا بِرِجْلِهِ: الْجَابِيَةُ
(20/107)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ. . .} [ص: 42] الْآيَةَ، قَالَ: «ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ، أَرْضًا يُقَالُ لَهَا الْجَابِيَةُ»
(20/107)
وَقَوْلُهُ: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] ذُكِرَ أَنَّهُ نَبَعَتْ لَهُ حِينَ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ عَيْنَانِ، فَشَرِبَ مِنْ إِحْدَاهُمَا، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْأُخْرَى
(20/107)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ، فَإِذَا عَيْنَانِ تَنْبُعَانِ، فَشَرِبَ مِنْ إِحْدَاهُمَا، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْأُخْرَى»
(20/108)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] قَالَ: «فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ، فَدَخَلَ فِيهَا وَاغْتَسَلَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ مَا كَانَ مِنَ الْبَلَاءِ»
(20/108)
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثنا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] «فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، ثُمَّ مَشَى نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، ثُمَّ رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَشَرِبَ مِنْهَا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ: {مُغْتَسَلٌ} [ص: 42] مَا يُغْتَسَلُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ، يُقَالُ مِنْهُ: هَذَا مُغْتَسَلٌ، وَغَسُولٌ لِلَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ وَقَوْلُهُ: {وَشَرَابٌ} [ص: 42] يَعْنِي: وَيُشْرَبُ مِنْهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ يُسَمَّى مُغْتَسَلًا
(20/108)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44][ص:109] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43] وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَاغْتَسَلَ وَشُرِبَ، فَفَرَّجْنَا عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ، مِنْ زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا} [ص: 43] لَهُ وَرَأْفَةً {وَذِكْرَى} [الأعراف: 2] يَقُولُ: وَتَذْكِيرًا لِأُولِي الْعُقُولِ، لَيَعْتَبِرُوا بِهَا فَيَتَّعِظُوا
(20/108)
وَقَدْ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَانِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ بِهِ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشَفَ مَا بِهِ؛ فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعَ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ إِلَّا فِي حَقٍّ؛ قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، وَأُوحِيَ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: أَنِ {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فَاسْتَبْطَأَتْهُ، فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ؛ فَلَمَّا رَأَتْهُ [ص:110] قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى، فَوَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صحِيحًا؟ قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ؛ قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ: أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ، وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ، أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ "
(20/109)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43] قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: «فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَزَادَهُمْ مِثْلَهُمْ»
(20/110)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: " لِمَا ابْتُلِيَ نَبِيُّ اللَّهِ أَيُّوبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَسَدِهِ، وَطُرِحَ فِي مَزْبَلَةٍ، جَعَلَتِ امْرَأَتَهُ تَخْرُجُ تَكْسِبُ عَلَيْهِ مَا تُطْعِمُهُ، فَحَسَدَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَأْتِي أَصْحَابَ الْخُبْزِ وَالشَّوْيِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا، فَيَقُولُ: اطْرُدُوا هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَغْشَاكُمْ، فَإِنَّهَا تُعَالِجُ صَاحِبَهَا وَتَلْمَسُهُ بِيَدِهَا، فَالنَّاسُ يَتَقَذَّرُونَ طَعَامَكُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تَأْتِيكُمْ وَتَغْشَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَكَانَ يَلْقَاهَا إِذَا خَرَجَتْ كَالْمَحْزُونِ لِمَا لَقِيَ أَيُّوبُ، فَيَقُولُ: لَجَّ صَاحِبُكِ، فَأَبَى إِلَّا مَا أَتَى، فَوَاللَّهِ لَوْ [ص:111] تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَكُشِفَ عَنْهُ كُلُّ ضُرٍّ، وَلَرَجَعَ إِلَيْهِ مَالُهُ وَوَلَدُهُ، فَتَجِيءُ، فَتُخْبِرُ أَيُّوبَ، فَيَقُولُ لَهَا: لَقِيَكِ عَدُوُّ اللَّهِ فَلَقَّنَكِ هَذَا الْكَلَامَ؛ وَيْلَكِ، إِنَّمَا مَثَلُكِ كَمَثَلِ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ إِذَا جَاءَ صَدِيقُهَا بِشَيْءٍ قَبَلَتْهُ وَأَدْخَلَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهَا بِشَيْءٍ طَرَدَتْهُ، وَأَغْلَقَتْ بَابَهَا عَنْهُ لَمَّا أَعْطَانَا اللَّهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ آمَنَّا بِهِ، وَإِذَا قَبَضَ الَّذِي لَهُ مِنَّا نَكْفُرُ بِهِ، وَنُبَدِّلُ غَيْرَهُ إِنْ أَقَامَنِي اللَّهُ مِنْ مَرَضِي هَذَا لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةً، قَالَ: فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثُ} [ص: 44]
(20/110)
وَقَوْلُهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] يَقُولُ: وَقُلْنَا لِأَيُّوبَ: خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا، وَهُوَ مَا يُجْمَعُ مِنْ شَيْءٍ مِثْلِ حُزْمَةِ الرُّطْبَةِ، وَكَمِلْءِ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ وَالشَّمَارِيخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَامَ عَلَى سَاقٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عَوْفِ بْنِ الْخَرِعِ:
[البحر الطويل]
وَأَسْفَلَ مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطْتُهَا ... وَأَلْقَيْتُ ضِغْثًا مِنْ خَلًا مُتَطَيِّبِ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/111)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] يَقُولُ: «حُزْمَةً»
(20/111)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] قَالَ: «أُمِرَ أَنْ [ص:112] يَأْخُذَ ضِغْثًا مِنْ رَطْبَةٍ بِقَدْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَضْرِبُ بِهِ»
(20/111)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] قَالَ: «عِيدَانًا رُطْبَةٍ»
(20/112)
حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] قَالَ: «هُوَ الْأَثْلُ»
(20/112)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] . . الْآيَةَ، قَالَ: " كَانَتِ امْرَأَتُهُ قَدْ عَرَضَتْ لَهُ بِأَمْرٍ، وَأَرَادَهَا إِبْلِيسُ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ: لَوْ تَكَلَّمَتْ بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا حَمْلَهَا عَلَيْهَا الْجَزَعُ، فَحَلَفَ نَبِيُّ اللَّهِ: لَئِنِ اللَّهُ شَفَاهُ لَيَجْلِدَنَّهَا مِائَةَ جَلْدَةٍ؛ قَالَ: فَأُمِرَ بِغُصْنٍ فِيهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَضِيبًا، وَالْأَصْلُ تَكْمِلَةُ الْمِائَةِ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَأَبَرَّ نَبِيُّ اللَّهِ، وَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ، وَاللَّهُ رَحِيمٌ "
(20/112)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] " يَعْنِي: ضِغْثًا مِنَ الشَّجَرِ الرَّطْبِ، كَانَ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَأَخَذَ مِنَ الشَّجَرِ عَدَدَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَبَرَّتْ يَمِينُهُ، وَهُوَ الْيَوْمَ فِي النَّاسِ يَمِينُ أَيُّوبَ، مِنْ أَخَذَ بِهَا فَهُوَ حَسَنٌ "
(20/112)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] قَالَ: «ضِغْثًا وَاحِدًا مِنَ الْكَلَأِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ [ص:113] عُودٍ، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَذَلِكَ مِائَةُ ضَرْبَةٍ»
(20/112)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44] يَقُولُ: «فَاضْرِبْ زَوْجَتَكَ بِالضِّغْثِ، لِتُبِرَّ فِي يَمِينِكَ الَّتِي حَلَفْتَ بِهَا عَلَيْهَا أَنْ تَضْرِبَهَا» {وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] يَقُولُ: «وَلَا تَحْنَثْ فِي يَمِينِكَ»
(20/113)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44] يَقُولُ: إِنَّا وَجَدْنَا أَيُّوبَ صَابِرًا عَلَى الْبَلَاءِ، لَا يَحْمِلُهُ الْبَلَاءُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالدُّخُولِ فِي مَعْصِيَتِهِ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] يَقُولُ: «إِنَّهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مُقْبِلٌ، وَإِلَى رِضَاهُ رَجَّاعٌ»
(20/113)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {عِبَادَنَا} [يوسف: 24] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} [ص: 45] عَلَى الْجِمَاعِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهُ: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) عَلَى التَّوْحِيدِ، كَأَنَّهُ يُوَجِّهُ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُمَا [ص:114] ذُكِرَا مِنْ بَعْدِهِ
(20/113)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقْرَأُ: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ» قَالَ: «إِنَّمَا ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذُكِرَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ» وَالصَّوَابُ عِنْدَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ عَلَى الْجِمَاعِ، عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بَيَانٌ عَنِ الْعِبَادِ وَتَرْجَمَةٌ عَنْهُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ
(20/114)
وَقَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] وَيَعْنِي بِالْأَيْدِي: الْقُوَّةَ، يَقُولُ: أَهْلُ الْقُوَّةِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَيَعْنِي بِالْأَبْصَارِ: أَنَّهُمْ أَهْلُ إِبْصَارِ الْقُلُوبِ، يَعْنِي بِهِ: أُولِي الْعُقُولِ لِلْحَقِّ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ نَحْوًا مِمَّا قُلْنَا فِيهِ
(20/114)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: 45] يَقُولُ: " أُولِي الْقُوَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْأَبْصَارِ يَقُولُ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ "
(20/114)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ [ص:115] أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] قَالَ: «فُضِّلُوا بِالْقُوَّةِ وَالْعِبَادَةِ»
(20/114)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: 45] قَالَ: «الْقُوَّةِ»
(20/115)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: 45] قَالَ: «الْقُوَّةِ فِي أَمْرِ اللَّهِ»
(20/115)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: 45] قَالَ: " الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ " {وَالْأَبْصَارِ} [يونس: 31] «الْعُقُولُ»
(20/115)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] قَالَ: «الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» {وَالْأَبْصَارِ} [يونس: 31] قَالَ: «الْبَصَرُ فِي الْحَقِّ»
(20/115)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] يَقُولُ: «أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَبَصَرًا فِي الدِّينِ»
(20/115)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {أُولِي [ص:116] الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] قَالَ: " الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْأَبْصَارُ: الْبَصَرُ بِعُقُولِهِمْ فِي دِينِهِمْ "
(20/115)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] قَالَ: " الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُقُولُ " فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا الْأَيْدِي مِنَ الْقُوَّةِ، وَالْأَيْدِي إِنَّمَا هِيَ جَمْعُ يَدٍ، وَالْيَدُ جَارِحَةٌ، وَمَا الْعُقُولُ مِنَ الْأَبْصَارِ، وَإِنَّمَا الْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ بِالْيَدِ الْبَطْشَ، وَبِالْبَطْشِ تُعْرَفُ قُوَّةُ الْقَوِيِّ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْقَوِيِّ: ذُو يَدٍ؛ وَأَمَّا الْبَصَرُ، فَإِنَّهُ عُنِيَ بِهِ بَصَرُ الْقَلْبِ، وَبِهِ تُنَالُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ: بَصِيرٌ بِهِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: 45] أُولِي الْأَيْدِي عِنْدَ اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا أَيْدِيًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَمْثِيلًا لَهَا بِالْيَدِ، تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْآخَرِ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: «أُولِي الْأَيْدِ» بِغَيْرِ يَاءٍ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْيِيدِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْأَيْدِي، وَلَكِنَّهُ أَسْقَطَ مِنْهُ الْيَاءَ، كَمَا قِيلَ: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41] بِحَذْفِ الْيَاءِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص: 46] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا خَصَصْنَاهُمْ بِخَاصَّةٍ: ذِكْرَى الدَّارِ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ [ص:117] الْمَدِينَةِ: (بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ) بِإِضَافَةِ خَالِصَةٍ إِلَى ذِكْرَى الدَّارِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُخْلِصُوا بِخَالِصَةِ الذِّكْرَى، وَالذِّكْرَى إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْخَالِصَةِ، كَمَا الْمُتَكَبِّرُ إِذَا قُرِئَ: عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بِإِضَافَةِ الْقَلْبِ إِلَى الْمُتَكَبِّرِ، هُوَ الَّذِي لَهُ الْقَلْبُ وَلَيْسَ بِالْقَلْبِ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] بِتَنْوِينِ قَوْلِهِ: {خَالِصَةٍ} [البقرة: 94] وَرَدِّ ذِكْرَى عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الدَّارَ هِيَ الْخَالِصَةُ، فَرَدُّوا الذِّكْرَى وَهِيَ مَعْرِفَةٌ عَلَى خَالِصَةٍ، وَهِيَ نَكِرَةٌ، كَمَا قِيلَ: لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ، فَرَدُّ جَهَنَّمَ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ عَلَى الْمَآبِ وَهِيَ نَكِرَةٌ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ هِيَ ذِكْرَى الدَّارِ: أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُذَكِّرُونَ النَّاسَ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ
(20/116)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قَالَ: «بِهَذِهِ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ، كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللَّهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْلَصَهُمْ بِعَمَلِهِمْ لِلْآخِرَةِ وَذِكْرِهِمْ لَهَا
(20/117)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قَالَ: «بِذِكْرِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ هُمْ غَيْرُهَا»
(20/118)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قَالَ: «بِذِكْرِهِمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَعَمَلِهِمْ لِلْآخِرَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ؛ وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ وَأَمَّا الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فَعَلَى تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ
(20/118)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قَالَ: " بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ أَخْلَصْنَاهُمْ بِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ؛ قَالَ: وَالدَّارُ: الْجَنَّةُ، وَقَرَأَ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83] ، قَالَ: الْجَنَّةُ " وَقَرَأَ: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] قَالَ: هَذَا كُلُّهُ الْجَنَّةُ، وَقَالَ: أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: خَالِصَةً عُقْبَى الدَّارِ
(20/118)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قَالَ: «عُقْبَى الدَّارِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: بِخَالِصَةٍ أَهْلِ الدَّارِ
(20/119)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ثني ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] " هُمْ أَهْلُ الدَّارِ؛ وَذُو الدَّارِ، كَقَوْلِكَ: ذُو الْكَلَاعِ، وَذُو يَزَنَ " وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالتَّنْوِينِ {بِخَالِصَةٍ} [ص: 46] عَمِلَ فِي ذِكْرِ الْآخِرَةِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ هِيَ ذِكْرَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَعَمِلُوا لَهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَطَاعُوا اللَّهَ وَرَاقَبُوهُ؛ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي وَصْفِهِمْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَيْضًا الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ مَا ذَكَرْتُ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ، فَأَنْ يُقَالُ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةِ مَا ذَكَرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ فَلَمَّا لَمْ تَذْكُرْ فِي أُضِيفَتِ الذِّكْرَى إِلَى الدَّارِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49][ص:120] وَقَوْلُهُ: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]
(20/119)
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لِمَنِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47] يَقُولُ: وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا عِنْدَنَا لِمَنِ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَاهُمْ لِذِكْرَى الْآخِرَةِ الْأَخْيَارُ، الَّذِينَ اخْتَرْنَاهُمْ لِطَاعَتِنَا وَرِسَالَتِنَا إِلَى خَلْقِنَا
(20/120)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ، وَمَا أَبْلَوْا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَتَأَسَّ بِهِمْ، وَاسْلُكْ مِنْهَاجَهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا نَالَكَ فِي اللَّهِ، وَالنَّفَاذِ لِبَلَاغِ رِسَالَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ مِنْ أَخْبَارِ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْكِفْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْحَظُّ وَالْجَدُّ
(20/120)
وَقَوْلُهُ: {هَذَا ذِكْرٌ} [الأنبياء: 24] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، ذَكَّرْنَاكَ وَإِيَّاهُمْ بِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/120)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {هَذَا ذِكْرٌ} [ص: 49] قَالَ: «الْقُرْآنُ»
(20/120)
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] يَقُولُ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اتَّقَوْا اللَّهَ فَخَافُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ لَحُسْنَ مَرْجِعٍ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَصِيرٍ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ ذَلِكَ الَّذِي وَعْدَهُ مِنْ حُسْنِ الْمَآبِ مَا هُوَ، فَقَالَ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]
(20/121)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] قَالَ: «لَحُسْنَ مُنْقَلَبٍ»
(20/121)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَنَّاتَ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص: 51] قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] بَيَانٌ عَنْ حُسْنِ الْمَآبِ وَتَرْجَمَةٌ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ: بَسَاتِينُ إِقَامَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ، وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
(20/121)
وَقَدْ. . . حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [ص: 50] قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ كَعْبًا مَا عَدْنٌ؟ قَالَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ يَسْكُنُهَا النَّبِيُّونَ وَالصِدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ»
(20/121)
وَقَوْلُهُ: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] يَعْنِي: مُفَتَّحَةً لَهُمْ أَبْوَابُهَا؛ وَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَبْوَابِ بَدَلًا مِنَ الْإِضَافَةِ، كَمَا قِيلَ: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]
(20/121)
بِمَعْنَى: هِيَ مَأْوَاهُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
مَا وَلَدَتْكُمْ حَيَّةُ ابْنَةُ مَالِكٍ ... سِفَاحًا وَمَا كَانَتْ أَحَادِيثَ كَاذِبِ
وَلَكِنْ نَرَى أَقْدَامَنَا فِي نِعَالِكُمْ ... وَآنُفَنَا بَيْنَ اللِّحَى وَالْحَوَاجِبِ
بِمَعْنَى: بَيْنَ لِحَاكُمْ وَحَوَاجِبِكُمْ؛ وَلَوْ كَانَتِ الْأَبْوَابُ جَاءَتْ بِالنَّصْبِ لَمْ يَكُنْ لَحْنًا، وَكَانَ نَصْبُهُ عَلَى تَوْجِيهِ الْمُفَتَّحَةِ فِي اللَّفْظِ إِلَى جَنَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى لِلْأَبْوَابِ، وَكَانَ كَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
وَمَا قَوْمِي بِثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْدٍ ... وَلَا بِفَزَارَةَ الشِّعْرَ الرِّقَابَا
ثُمَّ نُوِّنَتْ مُفَتَّحَةً، وَنُصِبَتِ الْأَبْوَابُ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا فِي قَوْلِهِ: {مُفَتَّحَةٌ لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] مِنْ فَائِدَةِ خَبَرٍ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: فَإِنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذَلِكَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ أَبْوَابَهَا تُفْتَحُ لَهُمْ بِغَيْرِ فَتْحِ سُكَّانِهَا إِيَّاهَا، بِمُعَانَاةٍ بِيَدٍ وَلَا جَارِحَةٍ، وَلَكِنْ بِالْأَمْرِ فِيمَا ذُكِرَ
(20/122)
كَمَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُفَيْلٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ دُعَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {مُفَتَّحَةٌ لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] قَالَ: " أَبْوَابٌ تُكَلَّمُ، فَتُكَلَّمُ: انْفَتِحِي، انْغَلِقِي "
(20/122)
وَقَوْلُهُ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص: 51] يَقُولُ: مُتَّكِئِينَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، عَلَى سُرُرٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ، يَعْنِي بِثِمَارٍ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ [ص:123] كَثِيرَةٍ، وَشَرَابٍ مِنْ شَرَابِهَا
(20/122)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 53] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِسْكَانِهِمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] يَعْنِي: نِسَاءٌ قُصِرَتْ أَطْرَافُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يَرِدْنَ غَيْرَهُمْ، وَلَا يَمْدِدْنَ أَعْيُنَهُنَّ إِلَى سِوَاهُمْ
(20/123)
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] قَالَ: «قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يَرِدْنَ غَيْرَهُمْ»
(20/123)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [ص: 52] قَالَ: «قَصَرْنَ أَبْصَارَهُنَّ وَقُلُوبَهُنَّ وَأَسْمَاعَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يَرِدْنَ غَيْرَهُمْ»
(20/123)
وَقَوْلُهُ: {أَتْرَابٌ} [ص: 52] يَعْنِي: أَسْنَانٌ وَاحِدَةٌ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
(20/123)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ [ص:124] {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص: 52] قَالَ: «أَمْثَالٌ»
(20/123)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَتْرَابٌ} [ص: 52] «سِنٌّ وَاحِدَةٌ»
(20/124)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {أَتْرَابٌ} [ص: 52] قَالَ: " مُسْتَوِيَاتٌ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يِتَبَاغَضْنَ، وَلَا يَتَعَادَيْنَ، وَلَا يَتَغَايَرْنَ، وَلَا يَتَحَاسَدْنَ "
(20/124)
وَقَوْلُهُ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 53] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي يَعِدُكُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ لِمَنْ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مِنْكُمْ فِي الْآخِرَةِ
(20/124)
كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 53] قَالَ: «هُوَ فِي الدُّنْيَا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(20/124)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مِنَ الْفَاكِهَةِ الْكَثِيرَةِ وَالشَّرَابِ، وَالْقَاصِرَاتِ [ص:125] الطَّرْفِ، وَمَكَّنَّاهُمْ فِيهَا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى اللَّذَّاتِ وَمَا اشْتَهَتْهُ فِيهَا أَنْفُسُهُمْ لَرِزْقُنَا، رَزَقْنَاهُمْ فِيهَا كَرَامَةً مِنَّا لَهُمْ {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ عَنْهُمُ انْقِطَاعٌ وَلَا لَهُ فَنَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا أَخَذُوا ثَمَرَةً مِنْ ثِمَارِ شَجَرَةٍ مِنْ أَشْجَارِهَا، فَأَكَلُوهَا، عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى مِثْلُهَا، فَذَلِكَ لَهُمْ دَائِمٌ أَبَدًا، لَا يَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ مَا كَانَ أَهْلُ الدُّنْيَا أُوتُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَانْقَطَعَ بِالْفَنَاءِ، وَنَفَدَ بِالْإِنْفَادِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/124)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] قَالَ: «رِزْقُ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا أُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ عَادَ مِثْلُهُ مَكَانَهُ، وَرِزْقُ الدُّنْيَا لَهُ نَفَادٍ»
(20/125)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] «أَيْ مَا لَهُ انْقِطَاعٌ»
(20/125)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص: 56] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {هَذَا} [البقرة: 25] الَّذِي وَصَفْتُ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ: ثُمَّ اسْتَأْنَفَ جَلَّ وَعَزَّ الْخَبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِهِ الَّذِينَ طَغَوْا عَلَيْهِ وَبَغَوْا، فَقَالَ: {وَإِنَّ [ص:126] لِلطَّاغِينَ} [ص: 55] وَهُمُ الَّذِينَ تَمَرَّدُوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَعَصَوْا أَمْرَهُ مَعَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ {لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] يَقُولُ: لَشَرَّ مَرْجِعٍ وَمَصِيرٍ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا
(20/125)
كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] قَالَ: «لَشَرَّ مُنْقَلَبٍ» ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا ذَلِكَ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْقَلِبُونَ وَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [ص: 56] فَتَرْجَمَ عَنْ جَهَنَّمَ بِقَوْلِهِ: {لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ لِلْكَافِرِينَ لَشَرَّ مَصِيرٍ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، وَإِلَيْهَا مُنْقَلَبُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص: 56] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبِئْسَ الْفِرَاشُ الَّذِي افْتَرَشُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ جَهَنَّمُ
(20/126)
وَقَوْلُهُ: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا حَمِيمٌ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ أُغْلِيَ حَتَّى انْتَهَى حَرُّهُ، وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ؛ فَالْحَمِيمُ مَرْفُوعٌ بِهَذَا، وَقَوْلُهُ: {فَلْيَذُوقُوهُ} [ص: 57] مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذَكَرْتُ، وَهُوَ: هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ وَقَدْ يَتَّجِهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مُكْتَفِيًا بِقَوْلِهِ فَلْيَذُوقُوهُ ثُمَّ يُبْتَدَأُ فَيُقَالُ: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، بِمَعْنَى: مِنْهُ حَمِيمٌ وَمِنْهُ غَسَّاقٌ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط]
حَتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ
وَإِذَا وُجِّهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى جَازَ فِي هَذَا النَّصْبُ وَالرَّفْعُ النَّصْبُ: عَلَى أَنْ
(20/126)
يُضْمَرَ قَبْلَهَا لَهَا نَاصِبٌ، كَمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
زِيَادَتَنَا نُعْمَانُ لَا تَحْرِمَنَّنَا ... تَقِ اللَّهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
وَالرَّفْعُ بِالْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَذُوقُوهُ} [ص: 57] كَمَا يُقَالُ: اللَّيْلُ فَبَادِرُوهُ، وَاللَّيْلَ فَبَادِرُوهُ
(20/127)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] قَالَ: " الْحَمِيمُ: «الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ»
(20/127)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «الْحَمِيمُ دُمُوعُ أَعْيُنِهِمْ، تُجْمَعُ فِي حِيَاضِ النَّارِ فَيُسْقَوْنَهُ»
(20/127)
وَقَوْلُهُ: {وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّامِ بِالتَّخْفِيفِ: {وَغَسَاقٌ} [ص: 57] وَقَالُوا: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: {وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] مُشَدَّدَةً، وَوَجَّهُوهُ إِلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقًا: إِذَا سَالَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ الْحَمِيمَ، وَمَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِهِمْ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَإِنْ كَانَ التَّشْدِيدُ فِي [ص:128] السِّينِ أَتَمَّ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ غَيْرَ مَدْفُوعَةٌ صِحَّتَهُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِنَ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ
(20/127)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] قَالَ: " كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الْغَسَّاقَ: مَا يَسِيلُ مِنْ بَيْنَ جِلْدِهِ وَلَحْمِهِ "
(20/128)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " الْغَسَّاقُ: الَّذِي يَسِيلُ مِنْ أَعْيُنِهِمْ مِنْ دُمُوعِهِمْ، يُسْقَوْنَهُ مَعَ الْحَمِيمِ "
(20/128)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: «الْغَسَّاقُ» : مَا يَسِيلُ مِنْ سُرْمِهِمْ، وَمَا يَسْقُطُ مِنْ جُلُودِهِمْ "
(20/128)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: " الْغَسَّاقُ: «الصَّدِيدُ الَّذِي يُجْمَعُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِمَّا تُصْهِرُهُ النَّارُ فِي حِيَاضٍ يَجْتَمِعُ فِيهَا فَيُسْقَوْنَهُ»
(20/128)
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: ثني أَبُو قَبِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُبَيْرَةَ الزِّيَادِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ الْغَسَّاقُ؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: «هُوَ الْقَيْحُ الْغَلِيظُ، لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْهُ تُهْرَاقُ فِي الْمَغْرِبِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَشْرِقِ، وَلَوْ تُهْرَاقُ فِي الْمَشْرِقِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَغْرِبِ» قَالَ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ أَبِي: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: ثنا أَبُو قَبِيلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا أَبَا هُبَيْرَةَ
(20/129)
حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو يَحْيَى عَطِيَّةُ الْكَلَاعِيُّ، أَنَّ كَعْبًا، كَانَ يَقُولُ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا غَسَّاقٌ؟ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَيُسْتَنْقَعُ فَيُؤْتَى بِالْآدَمِيِّ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً وَاحِدَةً، فَيَخْرُجُ وَقَدْ سَقَطَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ عَنِ الْعِظَامِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ جِلْدُهُ فِي كَعْبَيْهِ وَعَقِبَيْهِ، وَيُنْجَرَ لَحْمُهُ كَجَرِّ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ " وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْبَارِدُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ بُرْدِهِ
(20/129)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {وَغَسَّاقٌ} [ص: 57][ص:130] قَالَ: " بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ، أَوْ قَالَ: بُرْدٌ لَا يُسْتَطَاعُ "
(20/129)
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] قَالَ: " يُقَالُ: الْغَسَّاقُ: أَبْرَدُ الْبَرْدِ، وَيَقُولُ آخَرُونَ: لَا؛ بَلْ هُوَ أَنْتَنُ النَتْنِ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ الْمُنْتِنُ
(20/130)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النُّكْرِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: " الْغَسَّاقُ: «الْمُنْتَنُ، وَهُوَ بِالطُّخَارِيَّةِ»
(20/130)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهْرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَى الْغُسُوقِ، وَإِنْ كَانَ لِلْآخَرِ وَجْهٌ صَحِيحٌ
(20/130)
وَقَوْلُهُ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ
(20/130)
عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] عَلَى التَّوْحِيدِ، بِمَعْنَى: هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ، وَعَذَابٌ آخَرُ مِنْ نَحْوِ الْحَمِيمِ أَلْوَانٌ وَأَنْوَاعٌ، كَمَا يُقَالُ: لَكَ عَذَابٌ مِنْ فُلَانٍ: ضُرُوبٌ وَأَنْوَاعٌ؛ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْأَزْوَاجِ الْخَبَرُ عَنِ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، فَقِيلَ أَزْوَاجٌ، يُرَادُ أَنْ يَنْعَتَ بِالْأَزْوَاجِ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: (وَأُخَرُ) عَلَى الْجِمَاعِ، وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْأَزْوَاجُ وَهِيَ جَمْعٌ نَعْتًا لِوَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ جَمَعَ أُخَرَ، لِتَكُونَ الْأَزْوَاجُ نَعْتًا لَهَا؛ وَالْعَرَبُ لَا تَمْنَعُ أَنْ يُنْعَتَ الِاسْمُ إِذَا كَانَ فِعْلًا بِالْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَالِاثْنَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا، فَتَقُولُ: عَذَابُ فُلَانٍ أَنْوَاعٌ، وَنَوْعَانِ مُخْتَلَفَانِ وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا: {وَآخَرُ} [التوبة: 102] عَلَى التَّوْحِيدِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى صَحِيحَةً لِاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِهَا فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ؛ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا التَّوْحِيدَ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَخْرَجًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ بِمَعْنَى التَّوْحِيدِ وَقِيلَ إِنَّهُ الزَّمْهَرِيرُ
(20/131)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] قَالَ: «الزَّمْهَرِيرُ» [ص:132] حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بِمِثْلِهِ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَذَابُ الزَّمْهَرِيرِ
(20/131)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «هُوَ الزَّمْهَرِيرُ»
(20/132)
حُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: " ذَكَرَ اللَّهُ الْعَذَابَ، فَذَكَرَ السَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ، وَمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] قَالَ: وَآخَرُ لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا " وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ شَكْلِهِ} [ص: 58] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مِنْ ضَرْبِهِ، وَنَحْوُهُ يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: مَا أَنْتَ مِنْ شَكْلِي، بِمَعْنَى: مَا أَنْتَ مِنْ ضَرْبِي بِفَتْحِ الشِّينِ وَأَمَّا الشِّكْلُ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا عَلَّقَتْ مِمَّا تَتَحَسَّنُ بِهِ، وَهُوَ الدَّلُ أَيْضًا مِنْهَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] يَقُولُ: مِنْ نَحْوِهِ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ [ص:133] أَزْوَاجٌ} [ص: 58] مِنْ نَحْوِهِ
(20/132)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] قَالَ: " مِنْ كُلِّ شَكَلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ، أَزْوَاجٌ لَمْ يُسَمِّهَا اللَّهُ، قَالَ: وَالشَّكْلُ: الشَّبِيهُ "
(20/133)
وَقَوْلُهُ: {أَزْوَاجٌ} [البقرة: 25] يَعْنِي: أَلْوَانٌ وَأَنْوَاعٌ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/133)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] قَالَ: «أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ»
(20/133)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {أَزْوَاجٌ} [ص: 58] «زَوْجٌ زَوْجٌ مِنَ الْعَذَابِ»
(20/133)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَزْوَاجٌ} [ص: 58] قَالَ: «أَزْوَاجٌ مِنَ الْعَذَابِ فِي النَّارِ»
(20/133)
وَقَوْلُهُ: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص: 59] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {هَذَا فَوْجٌ} [ص: 59] هَذَا فِرْقَةٌ وَجَمَاعَةٌ مُقْتَحِمَةٌ مَعَكُمْ أَيُّهَا الطَّاغُونَ النَّارَ، وَذَلِكَ دُخُولُ أُمَّةٍ مِنَ
(20/133)
الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ بَعْدَ أُمَّةٍ؛ {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ ِ} [ص: 59] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ قِيلِ الطَّاغِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا النَّارَ قَبْلَ هَذَا الْفَوْجِ الْمُقْتَحِمِ لِلْفَوْجِ الْمُقْتَحِمِ فِيهَا عَلَيْهِمْ، لَا مَرْحَبًا بِهِمْ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ اتَّصَلَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ، كَمَا قِيلَ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] فَاتَّصَلَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِ مَلَئِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] وَيَعْنِي بِقَوْلِهِمْ: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} [ص: 59] لَا اتَّسَعَتْ بِهِمْ مَدَاخِلُهُمْ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
[البحر الطويل]
أَلَا مَرْحَبٌ وَادِيكَ غَيْرُ مُضَيِّقِ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/134)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص: 59] " فِي النَّارِ {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص: 60] . . حَتَّى بَلَغَ: {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص: 60] قَالَ: «هَؤُلَاءِ التُّبَّاعُ يَقُولُونَ لِلرِّؤُوسِ»
(20/134)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} [ص: 59] قَالَ: " الْفَوْجُ: الْقَوْمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فَوْجًا بَعْدَ [ص:135] فَوْجٍ " وَقَرَأَ: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا "
(20/134)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص: 59] يَقُولُ: إِنَّهُمْ وَارِدُو النَّارِ وَدَاخِلُوهَا {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص: 60] يَقُولُ: قَالَ الْفَوْجُ الْوَارِدُونَ جَهَنَّمَ عَلَى الطَّاغِينَ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ لَهُمْ: بَلْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ: أَيْ لَا اتَّسَعَتْ بِكُمْ أَمَاكِنُكُمْ، {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص: 60] يَعْنُونَ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمْ لَنَا سُكْنَى هَذَا الْمَكَانِ، وَصَلِيَّ النَّارِ بِإِضْلَالِكُمْ إِيَّانَا، وَدُعَائِكُمْ لَنَا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، حَتَّى ضَلَلْنَا بِاتِّبَاعِكُمْ، فَاسْتَوْجَبْنَا سُكْنَى جَهَنَّمَ الْيَوْمَ، فَذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ لَهُمْ مَا قَدَّمُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص: 60] يَقُولُ: فَبِئْسَ الْمَكَانُ يُسْتَقَرُّ فِيهِ جَهَنَّمُ
(20/135)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص: 61] وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْفَوْجِ الْمُقْتَحِمِ عَلَى الطَّاغِينَ، وَهُمْ كَانُوا أَتْبَاعَ الطَّاغِينَ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَالَ الْأَتْبَاعُ: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} [ص: 61] يَعْنُونَ: مَنْ قَدَّمَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِدُعَائِهِمْ إِلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُوجِبُ لَهُمُ النَّارَ الَّتِي وَرَدُوهَا، وَسُكْنَى الْمَنْزِلِ الَّذِي سَكَنُوهُ مِنْهَا وَيَعْنُونَ بِقَوْلِهِمْ {هَذَا} [البقرة: 25] الْعَذَابُ الَّذِي وَرَدْنَاهُ {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص: 61] يَقُولُونَ: فَأَضْعِفْ لَهُ الْعَذَابَ فِي النَّارِ عَلَى الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِيهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دُعَاءِ الْأَتْبَاعِ لِلْمَتْبُوعِينَ
(20/135)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 63][ص:136] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الطَّاغُونَ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُمْ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَذَوُوهُمَا: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا} [ص: 62] يَقُولُ: مَا بَالُنَا لَا نَرَى مَعَنَا فِي النَّارِ رِجَالًا {كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص: 62] يَقُولُ: كُنَّا نَعُدُّهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَشْرَارِنَا، وَعَنَوْا بِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ صُهَيْبًا وَخَبَّابًا وَبِلَالًا وَسَلْمَانَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/135)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص: 62] قَالَ: «ذَاكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَذَكَرَ أُنَاسًا صُهَيْبًا وَعَمَّارًا وَخَبَّابًا، كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ فِي الدُّنْيَا»
(20/136)
حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا يَذْكُرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص: 62] قَالَ: " قَالُوا: أَيْنَ سَلْمَانُ؟ أَيْنَ خَبَّابٌ؟ أَيْنَ بِلَالٌ؟ "
(20/136)
وَقَوْلُهُ: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا} [ص: 63] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: {أَتَّخَذْنَاهُمْ} [ص: 63] بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ «أَتَّخَذْنَاهُمْ» ،
(20/136)
وَقَطْعِهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مِنَ الْأَشْرَارِ: (آتَّخَذْنَاهُمْ) وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ، أَنَّ كُلَّ اسْتِفْهَامٍ كَانَ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّوْبِيخِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَفْهِمُ فِيهِ أَحْيَانًا، وَتُخْرِجْهُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ أَحْيَانًا وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالْوَصْلِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ، لِتَقَدُّمِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا} [ص: 62] فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: أَتَّخَذْنَاهُمْ بِالْخَبَرِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ لِمَا وَصَفْتُ قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَإِذْ كَانَ الصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ مَا اخْتَرْنَا لِمَا وَصَفْنَا، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَقَالَ الطَّاغُونَ: مَا لَنَا لَا نَرَى سَلْمَانَ وَبِلَالًا وَخَبَّابًا الَّذِينَ كُنَّا نَعُدُّهُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْرَارًا، أَتَّخَذْنَاهُمْ فِيهَا سُخْرِيًّا نَهْزَأُ بِهِمْ فِيهَا مَعَنَا الْيَوْمَ فِي النَّارِ؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَنْ كَسَرَ السِّينَ مِنَ السِّخْرِي، فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْهُزْءَ، يُرِيدُ يَسْخَرُ بِهِ، وَمَنْ ضَمَّهَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ مِنَ السُّخْرَةِ، يَسْتَسْخِرُونَهُمْ: يَسْتَذِلُّونَهُمْ، أَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُنَا وَهُمْ مَعَنَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/137)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] يَقُولُ: «أَهُمْ فِي النَّارِ لَا نَعْرِفُ مَكَانَهُمْ؟»
(20/138)
وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص: 62] قَالَ: " هُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْطُلِقَ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَذُهِبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَ {قَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] يَقُولُونَ: أَزَاغَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُمْ فَلَا نَدْرِي أَيْنَ هُمْ؟ "
(20/138)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا} [ص: 63] قَالَ: " أَخْطَأْنَاهُمْ {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] وَلَا نَرَاهُمْ؟ "
(20/138)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص: 62] قَالَ: «فَقَدُوا أَهْلَ الْجَنَّةَ» {أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا} [ص: 63] فِي الدُّنْيَا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] «وَهُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ»
(20/138)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ أَيُّهَا [ص:139] النَّاسُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ تُرَاجِعِ أَهْلِ النَّارِ، وَلَعْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَدُعَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي النَّارِ لَحَقٌّ يَقِينٌ، فَلَا تَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنِ اسْتَيْقِنُوهُ تَخَاصُمَ أَهْلِ النَّارِ
(20/138)
وَقَوْلُهُ: {تَخَاصُمُ} [ص: 64] رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِ: {لَحَقٌّ} [يونس: 53] وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ تَخَاصُمَ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ لَحَقٌّ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُوَجِّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] إِلَى: بَلْ زَاغَتْ عَنْهُمْ
(20/139)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64] فَقَرَأَ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] وَقَرَأَ: {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [الأنعام: 22] حَتَّى بَلَغَ: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 29] قَالَ: " إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا كَمَا تَقُولُونَ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصُرُ، قَالَ: وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ، قَالَ: هَذِهِ خُصُومَةُ أَهْلِ النَّارِ " وَقَرَأَ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24] قَالَ: «وَضَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فِي الدُّنْيَا»
(20/139)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ} [البقرة: 80] يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ. {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} [ص: 65] لَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، أُنْذِرُكُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَسَخَطَهُ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ، فَاحْذَرُوهُ وَبَادِرُوا حُلُولَهُ بِكُمْ بِالتَّوْبَةِ {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] يَقُولُ: وَمَا مِنْ مَعْبُودٍ تَصْلُحُ لَهُ الْعِبَادَةُ، وَتَنْبَغِي
(20/139)
لَهُ الرُّبُوبِيَّةُ، إِلَّا اللَّهَ الَّذِي يَدِينُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ، الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي مُلْكِهِ شَرِيكٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ، الْقَهَّارُ لِكُلِّ مَا دُونَهُ بِقُدْرَتِهِ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَقُولُ: مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَلْقِ؛ يَقُولُ: فَهَذَا الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ، هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي لَا إِلَهَ سِوَاهُ، لَا الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ
(20/140)
وَقَوْلُهُ: {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66] يَقُولُ: الْعَزِيزُ فِي نَقْمَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، الْمُدَّعِينَ مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، الْغَفَّارُ لِذُنُوبِ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ كُفِرِهِ وَمَعَاصِيهِ، فَأَنَابَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ
(20/140)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 68] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ} [البقرة: 80] يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ الْمُكَذِّبِيكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، الْقَائِلِينَ لَكَ فِيهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] يَقُولُ: هَذَا الْقُرْآنُ خَبَرٌ عَظِيمٌ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/140)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ [ص:141] مُعْرِضُونَ} [ص: 68] قَالَ: «الْقُرْآنُ»
(20/140)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: أَتَقْضِي عَلَيَّ بِالنَّبَأِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: «أَوَلَيْسَ الْقُرْآنُ نَبَأٌ؟» قَالَ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] قَالَ: «وَقَضَى عَلَيْهِ»
(20/141)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 68] قَالَ: «الْقُرْآنُ»
(20/141)
وَقَوْلُهُ: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 68] يَقُولُ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُنْصَرِفُونَ لَا تَعْمَلُونَ بِهِ، وَلَا تُصَدِّقُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ حِجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ
(20/141)
وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} [ص: 69] يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فِي شَأْنِ آدَمَ مِنْ قَبْلُ أَنْ يُوحِيَ إِلَيَّ رَبِّي فَيُعَلِّمُنِي ذَلِكَ، يَقُولُ: فَفِي إِخْبَارِي لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَتَنْزِيلٌ مِنْ عِنْدِهِ، لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي قَبْلَ نُزُولِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَلَا هُوَ مِمَّا شَاهَدْتُهُ فَعَايَنْتُهُ، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ إِيَّايَ بِهِ [ص:142] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(20/141)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] قَالَ: " الْمَلَأُ الْأَعْلَى: الْمَلَائِكَةُ حِينَ شُووِرُوا فِي خَلْقِ آدَمَ، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ، وَقَالُوا: لَا تَجْعَلْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً "
(20/142)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] " هُوَ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]
(20/142)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} [ص: 69] قَالَ: «هُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَانَتْ خُصُومَتُهُمْ فِي شَأْنِ آدَمَ حِينَ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ» : {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71] . . حَتَّى بَلَغَ {سَاجِدِينَ} [ص: 72] وَحِينَ قَالَ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . . . حَتَّى بَلَغَ {وَيُسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] فَفِي هَذَا اخْتَصَمَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى "
(20/142)
وَقَوْلُهُ: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 70] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَيَّ عِلْمَ مَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ، مِنْ نَحْوِ الْعِلْمِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَاخْتِصَامِهِمْ فِي أَمْرِ آدَمَ إِذَا أَرَادَ خَلْقَهُ، إِلَّا لِأَنِّي إِنَّمَا أَنَا
(20/142)
نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ فأَنَّمَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ كَانَ يَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَرْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرْفٍ خَافِضٍ، فَسَوَاءٌ إِسْقَاطُ خَافِضِهِ مِنْهُ وَإِثْبَاتُهُ وَإِمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُنْصَبُ إِذَا أُسْقِطَ مِنْهُ الْخَافِضُ، فَإِنَّهُ عَلَى مُذْهَبِهِ نُصَبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ يَتَّجِهُ لِهَذَا الْكَلَامِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَى إِنْذَارِكُمْ، وَإِذَا وَجْهُ الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، كَانَتْ إِنَّمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَصِيرُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ
(20/143)
قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 70] يَقُولُ: إِلَّا أَنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ مُبِينٌ لَكُمْ إِلَّا إِنْذَارُكُمْ وَقِيلَ: إِلَّا أَنَّمَا أَنَا، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَّا أَنَّمَا أَنَّكَ، وَالْخَبَرُ مِنْ مُحَمَّدٍ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْوَحْيَ قَوْلٌ، فَصَارَ فِي مَعْنَى الْحِكَايَةِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: أَخْبَرُونِي أَنِّي مُسِيءٌ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّكَ مُسِيءٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز]
رَجْلَانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبَرَانَا ... أَنَّا رَأَيْنَا رَجُلًا عُرْيَانَا
بِمَعْنَى: أَخَبْرَانَا أَنَّهُمَا رَأَيَا، وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَصْلُهُ حِكَايَةٌ
(20/143)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ [ص:144] طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص: 72] وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} [ص: 71] مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ حِينَ قَالَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ {لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71] يَعْنِي بِذَلِكَ خَلْقَ آدَمَ
(20/143)
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا سَوَّيْتُ خَلْقَهُ، وَعَدَّلْتُ صُورَتَهُ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، قِيلَ: عُنِيَ بِذَلِكَ: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ قُدْرَتِي
(20/144)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] قَالَ: «مِنْ قُدْرَتِي»
(20/144)
{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] يَقُولُ: فَاسْجُدُوا لَهُ وَخِرُّوا لَهُ سُجَّدًا
(20/144)
وَقَوْلُهُ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا سَوَّى اللَّهُ خَلْقَ ذَلِكَ الْبَشَرِ وَهُوَ آدَمُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، سَجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، يَعْنِي بِذَلِكَ: الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} [ص: 74] يَقُولُ: غَيْرَ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، اسْتَكْبَرَ عَنِ السُّجُودِ لَهُ تَعَظُّمًا وَتَكَبُّرًا {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] يَقُولُ: وَكَانَ بِتَعَظُّمِهِ ذَلِكَ، وَتَكَبُّرِهِ عَلَى رَبِّهِ وَمَعْصِيَتِهِ أَمْرَهُ، مِمَّنْ كَفَرَ فِي عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ، فَجَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ، وَأَنْكَرَ مَا عَلَيْهِ [ص:145] الْإِقْرَارُ لَهُ بِهِ مِنَ الْإِذْعَانِ بِالطَّاعَةِ
(20/144)
كَمَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص: 74] قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْكَافِرِينَ»
(20/145)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {قَالَ} [البقرة: 30] اللَّهُ لِإِبْلِيسَ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لِآدَمَ، وَخَالَفَ أَمْرَهُ: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75] يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يَقُولُ: لِخَلْقِ يَدَيَّ؛ يُخْبِرُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ
(20/145)
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدٌ الْمُكْتِبُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ أَرْبَعَةً بِيَدِهِ: الْعَرْشُ، وَعَدْنُ، وَالْقَلَمُ، وَآدَمُ، «ثُمَّ قَالَ لِكُلِّ شَيْءٍ كُنْ فَكَانَ»
(20/145)
وَقَوْلُهُ: {أَسْتَكْبَرْتَ} [ص: 75] ي