التفسير لابن جرير الطبري ج ص معتمد 009

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «الرِّزْقُ الْحَسَنُ فِي الدُّنْيَا»
(14/351)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «الرِّزْقُ الطَّيِّبُ فِي الدُّنْيَا»
(14/351)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «الرِّزْقُ الطَّيِّبُ فِي الدُّنْيَا»
(14/351)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] يَعْنِي فِي الدُّنْيَا "
(14/351)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «الرِّزْقُ الطَّيِّبُ الْحَلَالُ»
(14/351)
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثنا عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً [ص:352] طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «يَأْكُلُ حَلَالًا وَيَلْبَسُ حَلَالًا» . وَقَالَ آخَرُونَ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] بِأَنْ نَرْزُقَهُ الْقَنَاعَةَ
(14/351)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي خُزَيْمَةَ سُلَيْمَانَ التَّمَّارِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ عَلِيٍّ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «الْقُنُوعُ»
(14/352)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو عِصَامٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: " الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: الْقَنَاعَةُ ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَعْنِي بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الْحَيَاةَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ عَامِلًا بِطَاعَتِهِ
(14/352)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] يَقُولُ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي فَاقَةٍ أَوْ مَيْسَرَةٍ، فَحَيَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يُؤْمِنْ، وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا، عِيشَتُهُ ضَنْكَةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا» . [ص:353] وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ السَّعَادَةُ
(14/352)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «السَّعَادَةُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: الْحَيَاةُ فِي الْجَنَّةِ
(14/353)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا هَوْذَةُ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «لَا تَطِيبُ لِأَحَدٍ حَيَاةٌ دُونَ الْجَنَّةِ»
(14/353)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «مَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ»
(14/353)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ عَمَلًا إِلَّا فِي إِخْلَاصٍ، وَيُوجِبُ مَنْ عَمِلَ ذَلِكَ فِي إِيمَانٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] وَهِيَ الْجَنَّةُ "
(14/353)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ [ص:354] مُجَاهِدٍ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: «الْآخِرَةُ، يُحْيِيهِمْ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الْآخِرَةِ»
(14/353)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: " الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي الْآخِرَةِ هِيَ الْجَنَّةُ، تِلْكَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، قَالَ: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] ، قَالَ: هَذِهِ آخِرَتُهُ، وَقَرَأَ أَيْضًا: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] ، قَالَ: الْآخِرَةُ دَارُ حَيَاةٍ لِأَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، لَيْسَ فِيهَا مَوْتٌ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ "
(14/354)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل: 97] قَالَ: " الْإِيمَانُ: الْإِخْلَاصُ للَّهِ وَحْدَهُ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ لَهُ " وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً بِالْقَنَاعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا قَسَمَ لَهُ مِنْ رِزْقٍ لَمْ يَكْثُرْ لِلدُّنْيَا تَعَبُهُ، وَلَمْ يَعْظُمْ فِيهَا نَصَبُهُ، وَلَمْ يَتَكَدَّرَ فِيهَا عَيْشُهُ بِاتِّبَاعِهِ بُغْيَةَ مَا فَاتَهُ، مِنْهَا وَحِرْصُهُ عَلَى مَا لَعَلَّهُ لَا يُدْرِكْهُ فِيهَا. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ
(14/354)
أَوْعَدَ قَوْمًا قَبْلَهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ إِنْ عَصَوْهُ أَذَاقَهُمُ السُّوءَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 94] فَهَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَهَذَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا لِمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَطَاعَهُ فَقَالَ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ فِي الدُّنْيَا يَنْفَدُ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ، فَالَّذِي أَوْعَدَ أَهْلَ الْمَعَاصِي بِإِذَاقَتِهِمْ هَذِهِ السَّيِّئَةَ بِحِكْمَتِهِ أَرَادَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ الْوَعْدَ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ بِالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا، وَالْغُفْرَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُقْنِعُهُ فِي الدُّنْيَا بِالَّذِي يَرْزُقُهُ مِنَ الْحَلَالِ وَإِنْ قَلَّ، فَلَا تَدَعُوهُ نَفْسُهُ إِلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، لَا أَنَّهُ يَرْزُقُهُ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَلَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْعَامِلِينَ للَّهِ تَعَالَى بِمَا يَرْضَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ لَمْ نَرَهُمْ رُزِقُوا الرِّزْقَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَلَالِ فِي الدُّنْيَا، وَوَجَدْنَا ضِيقَ الْعَيْشِ عَلَيْهِمْ أَغْلَبَ مِنَ السَّعَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] فَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/355)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي [ص:356] مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] قَالَ: «إِذَا صَارُوا إِلَى اللَّهِ جَزَاهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
(14/355)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} [النحل: 97] قَالَ: «فِي الْآخِرَةِ» . حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
(14/356)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] يَقُولُ: «يَجْزِيهِمْ أَجْرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مِلَلٍ شَتَّى تَفَاخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ كُلِّ مِلَّةٍ مِنْهَا: نَحْنُ أَفْضَلُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَفْضَلَ أَهْلِ الْمِلَلِ
(14/356)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: " جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَأَهْلِ التَّوْرَاةِ، وَأَهْلِ الْإِنْجِيلِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ وَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ [ص:357] أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] "
(14/356)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ قَارِئًا الْقُرْآنَ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَكَأنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: وَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَاقْرَأِ الْقُرْآنَ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَتَى اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَاهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] بِالْأَمْرِ اللَّازِمِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِعْلَامٌ وَنَدْبٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَبْلَ قِرَاءَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْ فَرْضًا وَاجِبًا. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا
(14/357)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] قَالَ: «فَهَذَا دَلِيلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دَلَّ عِبَادَهُ عَلَيْهِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَتْ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ [ص:358] وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] يَقُولُ: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فِيمَا نَابَهُمْ مِنْ مُهِمَّاتِ أُمُورِهِمْ. {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] يَقُولُ: إِنَّمَا حُجَّتُهُ عَلَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ، {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/357)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ} [النحل: 100] قَالَ: «حُجَّتُهُ»
(14/358)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] قَالَ: «يُطِيعُونَهُ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ لَمْ يُسَلَّطْ فِيهِ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا:
(14/358)
حُدِّثْتُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] قَالَ: «لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ [ص:359] عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الِاسْتِعَاذَةُ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مُنِعَ مِنْهُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، وَاسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سُمَيْعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ
(14/358)
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ، بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] يُقَالُ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ قَالَ: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوهُ وَلِيًّا، وَأَشْرَكُوهُ فِي أَعْمَالِهِمْ "
(14/359)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] يَقُولُ: «السُّلْطَانُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى الشَّيْطَانُ، وَعَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ»
(14/359)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] يَقُولُ: «الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى
(14/359)
الَّذِينَ آمَنُوا فَاسْتَعَاذُوا بِاللَّهِ مِنْهُ، بِمَا نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] عَلَى مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنْ خَطَرَاتِهِ وَوَسَاوِسِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَتْبَعَ هَذَا الْقَوْلَ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] ، فَكَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِيُعِيذَهُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ بِمَا قُلْنَا إِنَّ مَعْنَاهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ
(14/360)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] قَالَ: «يَعْدِلُونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ»
(14/360)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] قَالَ: «يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ»
(14/360)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: " {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] عَدَلُوا إِبْلِيسَ بِرَبِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ ". وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، أَشْرَكُوا الشَّيْطَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ
(14/361)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] أَشْرَكُوهُ فِي أَعْمَالِهِمْ ". وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَعِنِّي قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُشْرِكُونَهُ بِاللَّهِ فِي عِبَادَتِهِمْ، وَذَبَائِحِهِمْ، وَمَطَاعِمِهِمْ، وَمَشَارِبِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِالشَّيْطَانِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ، لَكَانَ التَّنْزِيلُ: الَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ «بِهِ» ، فَكَانَ يَكُونُ لَوْ كَانَ التَّنْزِيلُ كَذَلِكَ: وَالَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُوهُ فِي أَعْمَالِهِمْ، إِلَّا أَنْ يُوَجِّهَ مُوَجِّهٌ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَدِينُونَ بِأُلُوهَةِ الشَّيْطَانِ وَيُشْرِكُونَ اللَّهَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَيَخْرُجُ عَمَّا جَاءَ التَّنْزِيلُ بِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمُشْرِكِينَ فِي سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا، وَقَالَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّنْزِيلِ: لَا تُشْرِكُوا اللَّهَ بِشَيْءٍ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ
(14/361)
خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا اللَّهَ بِشَيْءٍ فَيَجُوزُ لَنَا تَوْجِيهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] إِلَى وَالَّذِينَ هُمْ بِالشَّيْطَانِ مُشْرِكُو اللَّهِ فَبَيَّنَ إِذًا إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ} [النحل: 100] عَائِدَةٌ عَلَى «الرَّبِّ» فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]
(14/362)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمَ أُخْرَى، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] يَقُولُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِخَلْقِهِ فِيمَا يُبَدِّلُ وَيُغَيِّرُ مِنْ أَحْكَامِهِ، {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] يَقُولُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبُو رَسُولِهِ لِرَسُولِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُفْتَرٍ، أَيْ مُكَذِّبٌ تَخْرُصُ بِتَقَوُّلِ الْبَاطِلِ عَلَى اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ جُهَّالٌ بِأَنَّ الَّذِي تَأْتِيَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ صِحَّتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/362)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ [ص:363] وَرْقَاءَ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] رَفَعْنَاهَا فَأَنْزَلْنَا غَيْرَهَا "
(14/362)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] قَالَ: «نَسَخْنَاهَا، بَدَّلْنَاهَا، رَفَعْنَاهَا، وَأَثْبَتْنَا غَيْرَهَا»
(14/363)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] هُوَ كَقَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] "
(14/363)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، تَأْتِي بِشَيْءٍ وَتَنْقُضُهُ، فَتَأْتِي بِغَيْرِهِ قَالَ: وَهَذَا التَّبْدِيلُ نَاسِخٌ، وَلَا نُبَدِّلُ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ إِلَّا بِنَسْخٍ "
(14/363)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْقَائِلِينَ لَكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ فِيمَا تَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْ آيِ كِتَابِنَا: أَنْزَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ، يَقُولُ: قُلْ جَاءَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مِنْ عِنْدِ رَبِّي بِالْحَقِّ وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى رُوحِ الْقُدُسِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. [ص:364] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/363)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ الْعُمَرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: " رُوحُ الْقُدُسِ: جَبْرَئِيلُ "
(14/364)
وَقَوْلُهُ: {لِيُثَبِّتُ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل: 102] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ نَزَّلَ هَذَا الْقُرْآنَ، نَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، رُوحُ الْقُدُسِ عَلَيَّ مِنْ رَبِّي، تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَقْوِيَةً لِإِيمَانِهِمْ، لِيَزْدَادُوا بِتَصْدِيقِهِمْ لِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ إِيمَانًا لِإِيمَانِهِمْ، وَهُدًى لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اسْتَسْلَمُوا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَا أَنْزَلَهُ فِي آيِ كِتَابِهِ، فَأَقَرُّوا بِكُلِّ ذَلِكَ وَصَدَّقُوا بِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا
(14/364)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيُّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ جَهْلًا مِنْهُمْ: إِنَّمَا يَعْلَمُ مُحَمَّدًا هَذَا الَّذِي يَتْلُوهُ بَشَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبُهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ: أَلَا تَعْلَمُونَ كَذِبَ مَا تَقُولُونَ؟ إِنَّ لِسَانَ الَّذِي تُلْحِدُونَ إِلَيْهِ، يَقُولُ: تَمِيلُونَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا أَعْجَمِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِيَ يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا هَذَا الْقُرْآنَ عَبْدٌ رُومِيٌّ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] يَقُولُ: وَهَذَا الْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيُّ مُبِينٌ.
(14/364)
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي اسْمِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنَ الْبَشَرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ اسْمُهُ بَلْعَامُ، وَكَانَ قَيْنًا بِمَكَّةَ نَصْرَانِيًّا
(14/365)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُلَائِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ، وَكَانَ اسْمُهُ بَلْعَامُ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَحِينَ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَلْعَامُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيُّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ". وَقَالَ آخَرُونَ: اسْمُهُ يَعِيشُ
(14/365)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقْرِئُ غُلَامًا لِبَنِي الْمُغِيرَةِ أَعْجَمِيًّا قَالَ سُفْيَانُ: أُرَاهُ يُقَالُ لَهُ: يَعِيشُ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ [ص:366] عَرَبِيُّ مُبِينٌ} [النحل: 103] "
(14/365)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] وَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ يُقَالُ لَهُ يَعِيشُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيُّ مُبِينٌ} [النحل: 103] وَكَانَ يَعِيشُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ اسْمُهُ جَبْرٌ
(14/366)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ الْحَضْرَمِيِّ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مِمَّا يَأْتِي بِهِ إِلَّا جَبْرٌ النَّصْرَانِيُّ غُلَامُ الْحَضْرَمِيِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] "
(14/366)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: " كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ نَصْرَانِيٌّ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَيُعَلِّمُ مُحَمَّدًا رُومِيٌّ يَقُولُونَ اسْمُهُ جَبْرٌ وَكَانَ صَاحِبَ كُتُبٍ، عَبْدٌ لِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] قَالَ: " وَهَذَا قَوْلُ قُرَيْشٍ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَا غُلَامَيْنِ اسْمُ أَحَدِهِمَا يَسَارٌ وَالْآخَرُ جَبْرٌ
(14/367)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيِّ: " أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ عَبْدَانِ مِنْ أَهْلِ عَيْرِ الْيَمَنِ، وَكَانَا طِفْلَيْنِ، وَكَانَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَسَارٌ وَالْآخَرُ جَبْرٌ، فَكَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا جَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّمَا يَجْلِسُ إِلَيْهِمَا يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ". [ص:368] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا مَعْنُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيِّ، نَحْوَهُ
(14/367)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: " كَانَ لَنَا غُلَامَانِ فَكَانَ يَقْرَآنِ كِتَابًا لَهُمَا بِلِسَانِهِمَا، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ عَلَيْهِمَا، فَيَقُومُ يَسْتَمِعُ مِنْهُمَا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَذَّبَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ
(14/368)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيُّ} [النحل: 103] " كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ»
(14/368)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ [ص:369] وَرْقَاءَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] قَالَ: " قَوْلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: إِنَّمَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا عَبْدُ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ، يَقُولُ اللَّهُ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ". وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ كَاتِبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ
(14/368)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: " أَنَّ الَّذِيَ ذَكَرَ اللَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ إِنَّمَا افْتُتِنَ، إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، فَكَانَ يُمْلِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَمِيعٌ عَلِيمٌ» أَوْ «عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خَوَاتِمِ الْآيِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْوَحْيِ، فَيَسْتَفْهِمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: أَعَزِيزٌ حَكِيمٌ، أَوْ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أَوْ عَزِيزٌ عَلِيمٌ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ ذَلِكَ كَتَبْتَ فَهُوَ كَذَلِكَ» فَفَتَنَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَكِلُ ذَلِكَ إِلَيَّ، فَأَكْتُبُ مَا شِئْتُ «، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ لِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ» وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {يُلْحِدُونَ} [النحل: 103] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [النحل: 103] بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَلْحَدَ يُلْحِدُ [ص:370] إِلْحَادًا، بِمَعْنَى يَعْتَرِضُونَ وَيَعْدِلُونَ إِلَيْهِ وَيَعْرُجُونَ إِلَيْهِ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الرجز]
قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبَيْنِ قَدِي ... لَيْسَ أَمِيرِي بِالشَّحِيحِ الْمُلْحِدِ
وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: " (لِسَانُ الَّذِي يَلْحَدُونَ إِلَيْهِ) بِفَتْحِ الْيَاءِ، يَعْنِي: يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، مِنْ لَحَدَ فُلَانٌ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ يَلْحِدُ لَحْدًا وَلُحُودًا وَهُمَا عِنْدِي لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ فِيهِمَا الصَّوَابَ. وَقِيلَ: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] يَعْنِي: الْقُرْآنَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ لِقَصِيدَةٍ مِنَ الشَّعْرِ يَعْرِضُهَا الشَّاعِرِ: هَذَا لِسَانُ فُلَانٍ، تُرِيدُ قَصِيدَتَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
لِسَانُ السُّوءِ تُهْدِيهَا إِلَيْنَا ... وَحِنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَحِينَا
يَعْنِي بِاللِّسَانِ الْقَصِيدَةَ وَالْكَلِمَةَ
(14/369)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ
(14/370)
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ فَيُصَدِّقُونَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، {لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} [النحل: 104] يَقُولُ: لَا يُوَفِّقُهُمُ اللَّهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَلَا يَهْدِيهِمْ لِسَبِيلِ الرُّشْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ اللَّهِ إِذَا وَرَدُوا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْفِرْيَةِ وَالْكَذِبِ، لَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ، وَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَتَخَرَّصُ الْكَذِبَ وَيَتَقَوَّلُ الْبَاطِلَ، الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَإِعْلَامِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ عَلَى الصِّدْقِ ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ عَلَى الْكَذِبِ عِقَابًا، فَهُمْ أَهْلُ الْإِفْكِ وَافْتِرَاءِ الْكَذِبِ، لَا مَنْ كَانَ رَاجِيًا مِنَ اللَّهِ عَلَى الصِّدْقِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَخَائِفًا عَلَى الْكَذِبِ الْعِقَابَ الْأَلِيمَ. وَقَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] يَقُولُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ الْكَذِبِ لَا الْمُؤْمِنُونَ
(14/371)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْعَامِلِ فِي «مَنْ» مِنْ قَوْلِهِ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} [النحل: 106] وَمِنْ قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: صَارَ
(14/371)
قَوْلُهُ: {فَعَلَيْهِمْ} [النحل: 106] خَبَرًا لِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] ، وَقَوْلُهُ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] فَأَخْبَرَ لَهُمْ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: إِنَّمَا هَذَانِ جُزْءَانِ اجْتَمَعَا، أَحَدُهُمَا مُنْعَقِدٌ بِالْآخَرِ، فَجَوَابُهُمَا وَاحِدٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ يَأْتِنَا فَمَنْ يُحْسِنُ نُكْرِمُهُ، بِمَعْنَى: مَنْ يُحْسِنُ مِمَّنْ يَأْتِنَا نُكْرِمُهُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ جَزَاءَيْنِ اجْتَمَعَا الثَّانِي مُنْعَقِدٌ بِالْأَوَّلِ، فَالْجَوَابُ لَهُمَا وَاحِدٌ وَقَالَ آخَرُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: بَلْ قَوْلُهُ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} [النحل: 106] مَرْفُوعٌ بِالرَّدِّ عَلَى «الَّذِينَ» فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَهَذَا قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ قَائِلٌ هَذَا الْقَوْلُ، لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَخْرَجَ مِمَّنْ افْتَرَى الْكَذِبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْكُفْرِ وَأَقَامُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا قَطُّ، وَخَصَّ بِهِ الَّذِينَ قَدْ كَانُوا آمَنُوا فِي حَالٍ، ثُمَّ رَاجَعُوا الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَالتَّنْزِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ هَؤُلَاءِ دُونَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الشِّرْكِ مُقِيمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ خَبَرَ قَوْمٍ مِنْهُمْ أَضَافُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ، فَقَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزَّلُ قَالُوا إِنَّمَا
(14/372)
أَنْتَ مُفْتَرٍ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] ، وَكَذَّبَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ عُنُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِمْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ حِينَ بَدَّلَ اللَّهُ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، كَانُوا هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ قَائِلٌ فَبَيَّنَ فَسَادَهُ مَعَ خُرُوجِهِ عَنْ تَأْوِيلِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ الرَّافِعَ لَ «مَنْ» الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، قَوْلُهُ: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106] وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حُرُوفِ الْجَزَاءِ إِذَا اسْتَأْنَفَتْ أَحَدَهُمَا عَلَى آخَرَ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَقَوْمٌ كَانُوا أَسْلَمُوا فَفَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فَثَبَتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ وَافْتُتِنَ بَعْضٌ
(14/373)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمَّى قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَصَابُوا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ [ص:374] فَعَذَّبُوهُ، ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالَّذِي قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عُذْرَهُ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] "
(14/373)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] قَالَ: " ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، أَخَذَهُ بَنُو الْمُغِيرَةِ فَغَطُّوهُ فِي بِئْرِ مَيْمُونٍ وَقَالُوا: اكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ فَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَلْبُهُ كَارِهٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] أَيْ مَنْ أَتَى الْكُفْرَ عَلَى اخْتِيَارٍ وَاسْتِحْبَابٍ، {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] "
(14/374)
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَعَذَّبُوهُ حَتَّى بَارَاهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَرَادُوا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنًا بِالْإِيمَانِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «[ص:375] فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ»
(14/374)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] قَالَ: «نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ»
(14/375)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «لَمَّا عُذِّبَ الْأَعْبُدُ أَعْطَوْهُمْ مَا سَأَلُوا إِلَّا خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ، كَانُوا يُضْجِعُونَهُ عَلَى الرَّضْفِ فَلَمْ يَسْتَقِلُّوا مِنْهُ شَيْئًا» فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، مُوقِنٌ بِحَقِيقَتِهِ صَحِيحٌ عَلَيْهِ عَزْمُهُ غَيْرُ مَفْسُوحِ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ، لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا، فَاخْتَارَهُ وَآثَرَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَبَاحَ بِهِ طَائِعًا، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. [ص:376] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ وَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(14/375)
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، فَعَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَأَمَّا مَنْ أُكْرِهَ فَتَكَلَّمَ بِهِ لِسَانُهُ، وَخَالَفَهُ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ، لِيَنْجُوَ بِذَلِكَ مِنْ عَدُوِّهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ الْعِبَادَ بِمَا عُقِدَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ "
(14/376)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 107] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: حَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ غَضَبُ اللَّهِ وَوَجَبَ لَهُمُ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمُ اخْتَارُوا زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَلَأَنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ آيَاتِهِ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى جُحُودِهَا
(14/376)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَسَمْعِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} [النحل: 109] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَيُّهَا النَّاسُ، هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَخَتَمَ عَلَيْهَا بِطَابَعِهِ، فَلَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، وَأَصَمَّ أَسْمَاعَهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ دَاعِيَ اللَّهِ إِلَى الْهُدَى، [ص:377] وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ فَلَا يُبْصِرُونَ بِهَا حُجَجَ اللَّهِ إِبْصَارَ مُعْتَبِرٍ وَمُتَّعِظٍ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108] يَقُولُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ هُمُ السَّاهُونَ عَمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَعَمَّا يُرَادُ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل: 109] الْهَالِكُونَ، الَّذِينَ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى
(14/376)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَانْتَقَلُوا عَنْهُمْ إِلَى دِيَارِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمَسَاكِنِهِمْ وَأَهْلِ وَلَايَتِهِمْ، مِنْ بَعْدِ مَا فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَبْلَ هِجْرَتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ جَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيْدِيهِمْ بِالسَّيْفِ وَبِأَلْسِنَتِهِمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَصَبَرُوا عَلَى جِهَادِهِمْ، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 153] ، يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِ فِعْلَتِهِمْ هَذِهِ لَهُمْ لَغَفُورٌ، يَقُولُ: لَذُو سَتْرٍ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا أَرَادُوا مِنْهُمْ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ لِغَيْرِهَا مُضْمِرُونَ وَلِلْإِيمَانِ مُعْتَقِدُونَ، رَحِيمٌ بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا مَعَ إِنَابَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَتَوْبَتِهِمْ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ
(14/377)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا تَخَلَّفُوا بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَدَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَأَيِسُوا مِنَ التَّوْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَهَاجَرُوا وَلَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(14/378)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] ، قَالَ: " نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ آمَنُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: أَنْ هَاجِرُوا، فَإِنَّا لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا، فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالطَّرِيقِ، فَفَتَنُوهُمْ وَكَفَرُوا مُكْرَهِينَ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ". حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] ، ثُمَّ نَسَخَ وَاسْتَثْنَى، فَقَالَ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]
(14/378)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ [ص:379]: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ حَتَّى يُهَاجِرُوا، كَتَبَ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ ذَلِكَ تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِنْ لَحِقَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَاتَلُوهُمْ حَتَّى يَنْجُوا أَوْ يَلْحَقُوا بِاللَّهِ، فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110] الْآيَةَ "
(14/378)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ بَعْضٌ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْآيَةَ: لَا عُذْرَ لَهُمْ، قَالَ: فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَعْطُوهُمُ الْفِتْنَةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَخَرَجُوا وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِيهِمْ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا، [ص:380] فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ، ثُمَّ نَجَا مَنْ نَجَا، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ "
(14/379)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110] ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ
(14/380)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بِعَدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ، [ص:381] فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو، فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
(14/380)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا، وَتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} [النحل: 111] تُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهَا، وَتَحْتَجُّ عَنْهَا بِمَا أَسْلَفَتْ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، أَوْ إِيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ {وَتُوفَّىَ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111] فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] يَقُولُ: وَهُمْ لَا يُفْعَلُ بِهِمْ إِلَّا مَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَيَسْتَوْجِبُونَهُ بِمَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَلَا يُجْزَى الْمُحْسِنُ إِلَّا بِالْإِحْسَانِ، وَلَا الْمُسِيءُ إِلَّا بِالَّذِي أَسْلَفَ مِنَ الْإِسَاءَةِ، لَا يُعَاقَبُ مُحْسِنٌ، وَلَا يُبْخَسُ جَزَاءَ إِحْسَانِهِ، وَلَا يُثَابَ مُسِيءٌ إِلَّا ثَوَابَ عَمَلِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ قِيلَ «تُجَادِلُ» فَأَنَّثَ الْكُلَّ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: قِيلَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى كُلِّ نَفْسٍ: كُلُّ
(14/381)
إِنْسَانٍ، وَأَنَّثَ لِأَنَّ النَّفْسَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، يُقَالُ: مَا جَاءَنِي نَفْسٌ وَاحِدٌ وَوَاحِدَةٌ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَرَى هَذَا الْقَوْلَ مِنْ قَائِلِهِ غَلَطًا وَيَقُولُ: «كُلُّ» إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ وَاحِدَةٍ خَرَجَ الْفِعْلُ عَلَى قَدْرِ النَّكِرَةِ: كُلُّ امْرَأَةٍ قَائِمَةٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ قَائِمٌ، وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ قَائِمَتَانِ، وَكُلُّ رَجُلَيْنِ قَائِمَانِ، وَكُلُّ نِسَاءٍ قَائِمَاتٌ، وَكُلُّ رِجَالٍ قَائِمُونَ، فَيَخْرُجُ عَلَى عَدَدِ النَّكِرَةِ وَتَأْنِيثِهَا وَتَذْكِيرِهَا، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَأْنِيثِ النَّفْسِ وَتَذْكِيرِهَا
(14/382)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَمَثَّلَ اللَّهُ مَثَلًا لِمَكَّةَ الَّتِي سُكَّانُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ هِيَ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وَكَانَ أَمْنُهَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَعَادَى وَيَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يُغَارُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُحَارَبُونَ فِي بَلَدِهِمْ، فَذَلِكَ كَانَ أَمْنُهَا وَقَوْلُهُ: {مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] يَعْنِي: قَارَّةٌ بِأَهْلِهَا، لَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَى النَّجْعِ كَمَا كَانَ سُكَّانُ الْبَوَادِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} [النحل: 112] يَقُولُ: يَأْتِي أَهْلَهَا مَعَايِشُهُمْ وَاسِعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22] يَعْنِي: مِنْ كُلِّ فَجٍّ مِنْ فِجَاجِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَمِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فِيهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أُرِيدَ بِهَا مَكَّةُ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/382)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112] يَعْنِي: مَكَّةَ "
(14/383)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] قَالَ: «مَكَّةُ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
(14/383)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا مَكَّةُ»
(14/383)
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} [النحل: 112] قَالَ: «هِيَ مَكَّةُ»
(14/383)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: «هَذِهِ مَكَّةُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْقَرْيَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَدِينَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(14/383)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: ثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، أَنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ الْحَارِثِ الْحَضْرَمِيَّ حَدَّثَ أَنَّهُ سَمِعَ مِشْرَحَ بْنَ عَاهَانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عِتْرٍ، يَقُولُ: " صَدَرْنَا مِنَ الْحَجِّ مَعَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ تَسْأَلُ عَنْهُ مَا فَعَلَ، حَتَّى رَأَتْ رَاكِبَيْنِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمَا تَسْأَلُهُمَا، فَقَالَا: قُتِلَ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا الْقَرْيَةُ، تَعْنِي الْمَدِينَةَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] قَرَأَهَا قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [ص:385] الْمُغِيرَةِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهَا الْمَدِينَةُ "
(14/384)
وَقَوْلُهُ: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] يَقُولُ: فَكَفَرَ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَاحِدِ «الْأَنْعُمِ» ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: جَمَعَ النِّعْمَةَ عَلَى أَنْعُمٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] ، فَزَعَمَ أَنَّهُ جَمْعُ الشِّدَّةِ وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمُ الْوَاحِدُ نُعْمُ، وَقَالَ: يُقَالُ: أَيَّامُ طُعْمٍ وَنُعْمٍ: أَيْ نَعِيمٍ، قَالَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: فَكَفَرَتْ بِنَعِيمِ اللَّهِ لَهَا وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]
وَعِنْدِي قُرُوضُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كُلِّهِ ... فَبُؤْسٌ لِذِي بُؤْسٍ وَنُعْمٌ بِأَنْعُمِ
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: أَنْعُمٌ: جَمْعُ نَعْمَاءَ، مِثْلُ بَأْسَاءَ وَأَبْؤُسُ، وَضَرَّاءَ وَأَضُرُّ، فَأَمَّا الْأَشُدُّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ جَمْعُ شَدٍّ
(14/385)
وَقَوْلُهُ: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَذَاقَ اللَّهُ أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ لِبَاسَ الْجُوعِ، وَذَلِكَ جُوعٌ خَالَطَ أَذَاهُ أَجْسَامَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ لِمُخَالَطَتِهِ أَجْسَامَهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ لَهَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ
(14/385)
الْجُوعَ سِنِينَ مُتَوَالِيَةً بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ وَالْجِيَفَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْعِلْهِزَ: الْوَبَرُ يُعْجَنُ بِالدَّمِ وَالْقُرَادِ يَأْكُلُونَهُ، وَأَمَّا الْخَوْفُ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُمْ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] يَقُولُ: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَيَجْحَدُونَ آيَاتِهِ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ وَقَالَ: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] وَقَدْ جَرَى الْكَلَامُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ جَرَى فِي الْكَلَامِ عَنِ الْقَرْيَةِ اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهَا عَنْ ذِكْرِ أَهْلِهَا لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِالْمُرَادِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] فَرَدَّ الْخَبَرَ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] وَلَمْ يَقُلْ قَائِلَةً، وَقَدْ قَالَ قَبْلَهُ: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] ، لِأَنَّهُ رَجَعَ بِالْخَبَرِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ
(14/386)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 113] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ جَاءَ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ {رَسُولٌ مِنْهُمْ} [النحل: 113] يَقُولُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، يَقُولُ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَصِدْقَ لَهْجَتِهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ {فَكَذَّبُوهُ} [الأعراف: 64] وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 113] وَذَلِكَ لِبَاسُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ مَكَانُ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالرِّزْقِ الْوَاسِعِ [ص:387] الَّذِي كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُرْزَقُونَهُ، وَقَتْلٌ بِالسَّيْفِ {وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 113] يَقُولُ: وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ عُظَمَاؤُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ عَلَى الشِّرْكِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/386)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ} [النحل: 113] إِيِ وَاللَّهِ، يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَأَمْرَهُ {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 113] ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ، وَالْخَوْفِ، وَالْقَتْلِ "
(14/387)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا، وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ الَّتِي أَحَلَّهَا لَكُمْ حَلَالًا طَيِّبًا مُذَكَّاةً غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْكُمْ {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} يَقُولُ: وَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ فِي تَحْلِيلِهِ مَا أَحَلَّ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَتُطِيعُونَهُ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [النحل: 114] طَعَامًا كَانَ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي سِنِيِّ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ رِقَّةً عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْكُمْ حَلَالًا طَيِّبًا، وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مِمَّا يَدُلُّ
(14/387)
عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173] الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [النحل: 114] إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ أَنَّ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَهُ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِيمَا مَضَى لَا مَعْنَى لَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَلَالٌ لَمْ يُحَرِّمُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا
(14/388)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبًا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْبَحَائِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا الْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَمَا ذُبِحَ لِلْأَنْصَابِ فَسُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَبَائِحِ مَنْ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ، فَمَنْ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ أَوْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ لِمَجَاعَةٍ حَلَّتْ فَأَكَلَهُ {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] يَقُولُ: ذُو سَتْرٍ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِأَكْلِهِ ذَلِكَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، رَحِيمٌ بِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي قَوْلِهِ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
(14/388)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ [ص:389] عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173] الْآيَةَ، قَالَ: وَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَيْنٌ يُطَهِّرُهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَجَعَلَ لَكَ فِيهِ يَا ابْنَ آدَمَ سَعَةً إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ " قَوْلُهُ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ، وَلَا عَادٍ أَنْ يَتَعَدَّى حَلَالًا إِلَى حَرَامٍ، وَهُوَ يَجِدُ عَنْهُ مَنْدُوحَةً
(14/388)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 116] فَتَكُونُ تَصِفُ الْكَذِبَ بِمَعْنَى: وَلَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ، فَتَكُونُ «مَا» بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبِ) هَذَا بِخَفْضِ الْكَذِبِ، بِمَعْنَى: وَلَا تَقُولُوا لِلْكَذِبِ الَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ، {هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] فَيُجْعَلُ الْكَذِبُ تَرْجَمَةً عَنْ «مَا» الَّتِي فِي «لِمَا» ، فَتَخْفِضُهُ بِمَا تَخْفِضُ بِهِ «مَا» وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: (لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُبُ) يَرْفَعُ «الْكُذُبَ» ، فَيُجْعَلُ الْكُذُبُ مِنْ صِفَةِ الْأَلْسِنَةِ، وَيَخْرُجُ عَلَى فُعُلٍ
(14/389)
عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَذُوبٍ وَكُذْبٍ، مِثْلُ شَكُورٍ وَشُكْرٍ. وَالصَّوَابُ عِنْدِي مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ نَصَبُ «الْكَذِبِ» لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا: وَلَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ فِيمَا رَزَقَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، كَيْ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ بِقِيلِكُمْ ذَلِكَ الْكَذِبَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمُ مِنْ ذَلِكَ مَا تُحَرِّمُونَ، وَلَا أَحَلَّ كَثِيرًا مِمَّا تَحِلُّونَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالْوَعِيدِ عَلَى كَذِبِهِمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [يونس: 69] يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَتَخَرَّصُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَخْتَلِقُونَهُ، لَا يُخَلَّدُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَبْقَوْنَ فِيهَا، إِنَّمَا يَتَمَتَّعُونَ فِيهَا قَلِيلًا وَقَالَ: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 197] فَرَفَعَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي هُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] يَقُولُ: ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَمَعَادُهُمْ، وَلَهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ عَذَابٌ عِنْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ أَلِيمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/390)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى: وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: " {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] فِي [ص:391] الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ "
(14/390)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْبَحَائِرُ وَالسَّوَائِبُ»
(14/391)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَرَّمْنَا مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الْيَهُودِ مَا أَنْبَأْنَاكَ بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَاكَ كُلُّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورَهُمَا، أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود: 101] بِتَحْرِيمِنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] فَجَزَيْنَاهُمْ ذَلِكَ بِبَغْيِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ عُقُوبَةَ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/391)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ [ص:392]: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118] قَالَ: «فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ»
(14/391)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118] قَالَ: فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ "
(14/392)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118] قَالَ: " مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ حَيْثُ يَقُولُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الْآيَةَ "
(14/392)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: