التفسير لابن جرير الطبري ج ص معتمد 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْلَغَهَا مِنْ حُجَّةٍ وَأَوْجَزَهَا مِنْ عِظَةٍ، لِمَنْ فَكَّرَ فِيهَا بِعَقْلٍ وَتَدَبَّرَهَا بِفَهْمٍ، وَلَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ
(9/147)
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: " فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ فَاتِحَةُ الْأَنْعَامِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
(9/147)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ، مِثْلَهُ. وَزَادَ فِيهِ: «وَخَاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خَاتِمَةُ هُودٍ» يُقَالُ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ: عَدَلْتُ هَذَا بِهَذَا، إِذَا سَاوَيْتَهُ بِهِ عَدْلًا. وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ إِذَا أَنْصَفْتَ فِيهِ فَإِنَّكَ تَقُولُ: عَدَلْتُ فِيهِ أَعْدِلُ عَدْلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(9/147)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] قَالَ: يُشْرِكُونَ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ
(9/148)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، قَالَ: " جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَانْصَرَفَ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا ابْنَ أَبْزَى، إِنَّ هَذَا قَدْ أَرَادَ تَفْسِيرَ هَذِهِ غَيْرَ هَذَا، إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَقَالَ: رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: هَلْ تَدْرِي فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، اذْهَبْ وَلَا تَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ حَدِّهَا " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ
(9/148)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ [ص:149]: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ صَرَاحَةٍ
(9/148)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ
(9/149)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] قَالَ: الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا عَدَلُوهَا بِاللَّهِ، قَالَ: وَلَيْسَ بِاللَّهِ عَدْلٌ وَلَا نِدٌّ، وَلَيْسَ مَعَهُ آلِهَةٌ، وَلَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، فَعَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَجَمِيعُهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ: يَهُودُهُمْ، وَنَصَارَاهُمْ، وَمَجُوسُهُمْ، وَعَبْدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْهُمْ، وَمَنْ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْكُفْرِ
(9/149)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَظْلَمَ لَيْلَهُمَا وَأَنَارَ نَهَارَهُمْ، فَكَفَرَ بِهِ مَعَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمُ الْكَافِرُونَ، وَعَدَلُوا بِهِ مَنْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ طِينٍ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ النَّاسَ وَلَدُ مَنْ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، [ص:150] فَأَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لَهُمْ، إِذْ كَانُوا وَلَدَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(9/149)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] : «بَدْءُ الْخَلْقِ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ»
(9/150)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] قَالَ: هُوَ آدَمُ
(9/150)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " أَمَّا خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ: فَآدَمُ "
(9/150)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَالَ: «خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَخَلَقَ النَّاسَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ»
(9/150)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] قَالَ: خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ خَلَقَنَا مِنْ آدَمَ حِينَ أَخَذَنَا مِنْ ظَهْرِهِ "
(9/150)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2] : ثُمَّ قَضَى لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَجَلًا، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] : وَذَلِكَ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ
(9/150)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَا: ثنا وَكِيعٌ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: " مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] قَالَ: مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ "
(9/151)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] كَانَ يَقُولُ: «أَجَلُ حَيَاتِكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ وَأَجَلُ مَوْتِكَ إِلَى أَنْ تُبْعَثَ، فَأَنْتَ بَيْنَ أَجَلَيْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى»
(9/151)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: {قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] قَالَ: " قَضَى أَجَلَ الْمَوْتِ، وَكُلُّ نَفْسٍ أَجَلُهَا الْمَوْتُ. قَالَ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11] ، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] يَعْنِي: أَجَلُ السَّاعَةِ ذَهَابُ الدُّنْيَا وَالْإِفْضَاءُ إِلَى اللَّهِ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ قَضَى الدُّنْيَا وَعِنْدَهُ الْآخِرَةُ
(9/151)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: الدُّنْيَا. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] : الْآخِرَةُ
(9/151)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي [ص:152] نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 2] : الدُّنْيَا
(9/151)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ: {أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 2] قَالَ: الدُّنْيَا
(9/152)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 2] قَالَ: الدُّنْيَا
(9/152)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] ، قَالَا: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا مِنْ حِينِ خَلَقَكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] : يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(9/152)
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] قَالَ: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] قَالَ: هُوَ أَجَلُ الْبَعْثِ
(9/152)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: الْمَوْتُ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] : الْآخِرَةُ
(9/152)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] قَالَا: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَتْ إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(9/152)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: أَجَلَ الدُّنْيَا. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] قَالَ: الْبَعْثُ
(9/153)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] يَعْنِي: أَجَلَ الْمَوْتِ. وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: أَجَلُ السَّاعَةِ، الْوقُوفُ عِنْدَ اللَّهِ
(9/153)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2] قَالَ: أَمَّا قَضَى أَجَلًا: فَأَجَلُ الْمَوْتِ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ
(9/153)
بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: {قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2] فَهُوَ النَّوْمُ تُقْبَضُ فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا حِينَ الْيَقَظَةِ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] هُوَ أَجَلُ مَوْتِ الْإِنْسَانِ " وَقَالَ آخَرُونَ
(9/153)
بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] قَالَ: خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ خَلَقَنَا مِنْ آدَمَ، أَخَذَنَا مِنْ ظَهْرِهِ، ثُمَّ
(9/153)
أَخَذَ الْأَجَلَ وَالْمِيثَاقَ فِي أَجَلٍ وَاحِدٍ مُسَمًّى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ قَضَى أَجَلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] وَهُوَ أَجَلُ الْبَعْثِ عِنْدَهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ خَلْقَهُ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَابْتَدَأَكُمْ وَأَنْشَأَكُمْ مِنْ طِينٍ، فَجَعَلَكُمْ صُوَرًا أَجْسَامًا أَحْيَاءَ بَعْدَ إِذْ كُنْتُمْ طِينًا جَمَادًا، ثُمَّ قَضَى آجَالَ حَيَاتِكُمْ لِفَنَائِكُمْ وَمَمَاتِكُمْ، لِيُعِيدَكُمْ تُرَابًا وَطِينًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يُنْشِئَكُمَ وَيَخْلُقَكُمْ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] لِإِعَادَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَجْسَامًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تَرْجِعُونَ} [البقرة: 28]
(9/154)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَشُكُّونَ فِي قُدْرَةِ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِظْلَامِ اللَّيْلِ وَإِنَارَةِ النَّهَارِ، وَخَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ حَتَّى صَيَّرَكُمْ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي أَنْتُمْ بِهَا عَلَى إِنْشَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ وَفَنَائِكُمْ، وَإِيجَادِهِ إِيَّاكُمْ بَعْدَ عَدَمِكُمْ. وَالْمَرِيَّةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هِيَ الشَّكُّ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
(9/154)
وَ‍قَدْ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ [ص:155]: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] قَالَ: الشَّكُّ. قَالَ: وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [هود: 17] قَالَ: فِي شَكٍّ مِنْهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] بِمِثْلِهِ
(9/154)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصَ الْحَمْدِ لَهُ بِآلَائِهِ عِنْدَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمْ مَنْ سِوَاهُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، يَقُولُ: فَرَبُّكُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمُ الْحَمْدَ وَيَجِبُ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ، هُوَ هَذَا الَّذِي صِفَتُهُ، لَا مَنْ لَا يَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى ضَرٍّ وَلَا نَفْعٍ وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ سُوءًا أُرِيدَ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] يَقُولُ: وَيَعْلَمُ مَا تَعْمَلُونَ وَتَجْرَحُونَ، فَيُحْصِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ لِيُجَازِيكُمْ بِهِ عِنْدَ مَعَادِكُمْ إِلَيْهِ
(9/155)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا تَأْتِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أَوْثَانَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ {آيَةٌ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 4] يَقُولُ: حُجَّةٌ وَعَلَامَةٌ وَدِلَالَةٌ مِنْ حُجَجِ [ص:156] رَبِّهِمْ وَدِلَالَاتِهِ وَأَعْلَامِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ وَصِدْقِ مَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي، {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] يَقُولُ: إِلَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا، يَعْنِي عَنِ الْآيَةِ، فَصَدُّوا عَنْ قَبُولِهَا وَالْإِقْرَارِ بِمَا شَهِدَتْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَدَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَاغْتِرَارًا بِحِلْمِهِ عَنْهُمْ.
(9/155)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَدْ كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْحَقَّ لَمَّا جَاءَهُمْ، وَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَّبُوا بِهِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ لَمَّا جَاءَهُمْ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ مُتَوَّعِّدًا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ: سَوْفَ يَأْتِي الْمُكَذِّبِينَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ {أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] يَقُولُ: سَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ مِنْ آيَاتِي وَأَدِلَّتِي الَّتِي آتَيْتَهُمْ. ثُمَّ وَفَى لَهُمْ بِوَعِيدِهِ لَمَّا تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، فَقَتَلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ.
(9/156)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي الْجَاحِدُونَ نُبُوَّتَكَ، كَثْرَةَ مَنْ أَهْلَكْتُ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ، وَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ وَطَّأْتُ لَهُمُ الْبِلَادَ وَالْأَرْضَ وَطَاءَةً لَمْ أُوَطِّئْهَا لَكُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ فِيهَا مَا لَمْ أُعْطِكُمْ
(9/156)
كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، [ص:157] عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] يَقُولُ: «أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمْطَرَتْ فَأَخْرَجَتْ لَهُمُ الْأَشْجَارُ ثِمَارَهَا، وَأَعْطَتْهُمُ الْأَرْضُ رِيعَ نَبَاتِهَا، وَجَابُوا صُخُورَ جِبَالِهَا، وَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ بِأَمْطَارِهَا، وَتَفَجَّرَتْ مِنْ تَحْتِهِمْ عُيُونُ الْمِيَاهِ بِيَنَابِيعِهَا بِإِذْنِي، فَغَمَطُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رَسُولَ خَالِقِهِمْ وَخَالَفُوا أَمْرَ بَارِئِهِمْ، وَبَغَوْا حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ قَوْلِي، فَأَخَذْتُهُمْ بِمَا اجْتَرَحُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعَاقَبْتُهُمْ بِمَا اكْتَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَأَهْلَكْتُ بَعْضَهُمْ بِالرَّجْفَةِ وَبَعْضَهُمْ بِالصَّيْحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} [الأنعام: 6] الْمَطَرَ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {مِدْرَارًا} [الأنعام: 6] : غَزِيرَةً دَائِمَةً. {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] يَقُولُ: وَأَحْدَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمُ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَابْتَدَأْنَا سِوَاهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] ، وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ؟ فَقَدِ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَنْ قَوْمٍ غُيَّبٍ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6] قِيلَ: إِنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: {مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6] وَلَكِنَّ فِي الْخَبَرِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَمَعْنَاهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] ، وَالْعَرَبُ إِذَا أُخْبِرَتْ خَبَرًا عَنْ غَائِبٍ [ص:158] وَأَدْخَلَتْ فِيهِ قَوْلًا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَوَجَّهَتِ الْخَبَرَ أَحْيَانًا إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَأَحْيَانًا إِلَى الْخِطَابِ، فَتَقُولُ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْرَمَهُ، وَقُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْرَمَكَ، وَتُخْبِرُ عَنْهُ أَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخِطَابِ، وَتُخْبِرُ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لَهُ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ. وَذَلِكَ فِي كَلَامِهَا وَأَشْعَارِهَا كَثِيرٌ فَاشٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: كَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَاطَبَهُ مَعَهُمْ وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] فَجَاءَ بِلَفْظِ الْغَائِبِ وَهُوَ يُخَاطِبُ، لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ
(9/156)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7] وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَيْفَ يَتَفَقَّهُونَ الْآيَاتِ، أَمْ كَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَجُحُودِ نُبُوَّتِكَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَهُمْ لِعِنَادِهِمُ الْحَقَّ وَبُعْدِهِمْ مِنَ الرُّشْدِ، لَوْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ مَعَ رَسُولِي فِي قِرْطَاسٍ يُعَايُنُونَهُ وَيَمَسُّونُهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقْرَءُونَهُ مِنْهُ مُعَلَّقًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِحَقِيقِةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَصِحَّةِ مَا تَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِي وَتَنْزِيلِي، لَقَالَ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِي غَيْرِي فَيُشْرِكُونَ فِي تَوْحِيدِي سِوَايَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110] أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ إِلَّا سِحْرٌ سَحَرْتَ بِهِ أَعْيُنَنَا، لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا صِحَّةٌ، {مُبِينٌ} [البقرة: 168]
(9/158)
يَقُولُ: مُبِينٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَأَمَّلَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
(9/159)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] قَالَ: «فَمَسُّوهُ وَنَظَرُوا إِلَيْهِ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ»
(9/159)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] يَقُولُ: " فَعَايَنُوهُ مُعَايَنَةً لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110]
(9/159)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] يَقُولُ: «لَوْ نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَزَادَهُمْ ذَلِكَ تَكْذِيبًا»
(9/159)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] : الصُّحُفُ
(9/159)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ [ص:160] قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] يَقُولُ: فِي صَحِيفَةٍ، {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110]
(9/159)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي الْعَادِلُونَ بِيَ الْأَنْدَادَ وَالْآلِهَةَ يَا مُحَمَّدُ لَكَ، لَوْ دَعَوْتَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِي، وَإِذَا أَتَيْتُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ بِمَا أَتَيْتُهُمْ بِهِ وَاحْتَجَجْتُ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَجْتُ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَطَعْتُ بِهِ عُذْرَهُمْ: هَلَّا نَزَلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي صُورَتِهِ يُصَدِّقُكَ عَلَى مَا جِئْتَنَا بِهِ، وَيَشْهَدُ لَكَ بِحَقِيقَةِ مَا تَدَّعِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي قِيلِهِمْ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7] ، {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] يَقُولُ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا عَلَى مَا سَأَلُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، وَلَمْ يُنْظَرُوا فَيُؤَّخَرُوا بِالْعُقُوبَةِ مُرَاجَعَةَ التَّوْبَةِ، كَمَا فَعَلْتُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي سَأَلَتِ الْآيَاتِ ثُمَّ كَفَرَتْ بَعْدَ مَجِيئِهَا مِنْ تَعْجِيلِ النِّقْمَةِ وَتَرْكِ الْإِنْظَارِ
(9/160)
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] يَقُولُ: لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ "
(9/160)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] يَقُولُ: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَنْزَلْنَا إِلَيْهِمْ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُنْظَرُوا»
(9/161)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] فِي صُورَتِهِ، {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] : لَقَامَتِ السَّاعَةُ
(9/161)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] قَالَ: «لَقَامَتِ السَّاعَةُ»
(9/161)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] قَالَ: يَقُولُ: «لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ» وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ
(9/161)
بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِشْرٌ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] ، قَالَ: «لَوْ آتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَتِهِ لَمَاتُوا، ثُمَّ لَمْ يُؤَخَّرُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ»
(9/161)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ جَعَلْنَا رَسُولَنَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي، الْقَائِلِينَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَلَكٌ بِتَصْدِيقِهِ، مَلَكًا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَشْهَدُ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِهِ {لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] ، يَقُولُ: لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَرَوْا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ. يَقُولُ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا، إِذْ كُنْتُ إِذَا أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ مَلَكًا إِنَّمَا أُنْزِلُهُ بِصُورَةِ إِنْسِيٍّ، وَحُجَجِي فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ عَلَيْهِمْ ثَابِتَةٌ بِأَنَّكَ صَادِقٌ وَأَنَّ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ حَقٌّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
(9/162)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] يَقُولُ: «مَا آتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ»
(9/162)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] «فِي صُورَةِ رَجُلٍ فِي خُلُقِ رَجُلٍ»
(9/162)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] يَقُولُ: «لَوْ بَعَثَنَا إِلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ آدَمَيٍّ»
(9/163)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] يَقُولُ: «فِي صُورَةِ آدَمَيٍّ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
(9/163)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] ، قَالَ: «لَجَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَلَكَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، لَمْ نُرْسِلْهُ فِي صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ»
(9/163)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 9] وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ مُصَدِّقًا لَكَ يَا مُحَمَّدُ، شَاهِدًا لَكَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي الْجَاحِدِينَ آيَاتِكَ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ، فَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِذْ كَانُوا لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ بِصُورَتِهِ الَّتِي خَلَقْتُهُ بِهَا، الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ فَلَمْ يَدْرُوا مَلَكٌ هُوَ أَمْ إِنْسِيُّ، فَلَمْ يُوقِنُوا بِهِ أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا مَلَكًا، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِكَ وَصِحَّةِ بُرْهَانِكَ وَشَاهِدِكَ عَلَى نُبُوَّتِكَ. [ص:164] يُقَالُ مِنْهُ: لَبَسْتُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ لَبْسًا: إِذَا خَلَطْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ لُبْسًا، وَاللَّبُوسُ: اسْمُ الثِّيَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(9/163)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يَقُولُ: «لَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ»
(9/164)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يَقُولُ: " مَا لَبَسَ قَوْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِلَّا لَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَاللَّبْسُ: إِنَّمَا هُوَ مِنَ النَّاسِ "
(9/164)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يَقُولُ: «شَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ مَا يُشَبِّهُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا
(9/164)
حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثنا أَبِي قَالَ: ثنا عَمِّي، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] «فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَهُوَ تَحْرِيفُ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ»
(9/164)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يَعْنِي التَّحْرِيفِ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَرَّقُوا كُتُبَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَلَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا لَبَسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ بِأَنْ تَكُونَ فِي أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِأَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
(9/165)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَلِّيًا عَنْهُ بِوَعِيدِهِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ عُقُوبَةَ مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ أَذَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ فِي ذَاتِ اللَّهِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَا أَنْتَ لَاقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِكَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِحَقِّكَ فِي وَفِي طَاعَتِي، وَامْضِ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِي وَالْإِذْعَانِ لِطَاعَتِي فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَأَصَرُّوا عَلَى الْمُقَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ، نَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَ أَسْلَافِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ مِنْ تَعْجِيلِ النِّقْمَةِ لَهُمْ وَحُلُولِ الْمَثُلَاثِ بِهِمْ، فَقَدِ اسْتَهْزَأَتْ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكَ بِرُسُلٍ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَى قَوْمِكَ، وَفَعَلُوا مِثْلَ فِعْلِ قَوْمِكَ بِكَ، {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {فَحَاقَ} [الأنعام: 10] فَنَزَلَ وَأَحَاطَ بِالَّذِينَ هَزِئُوا بِرُسُلِهِمْ وَ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] يَقُولُ: الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يَهْزَأُونَ بِهِ وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا
(9/165)
بِهِمْ عَلَى مَا أَنْذَرَتْهُمْ رُسُلُهُمْ. يُقَالُ مِنْهُ: حَاقَ بِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ يَحِيقُ بِهِمْ حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيَقَانًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
(9/166)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنعام: 10] مِنَ الرُّسُلِ، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] يَقُولُ: وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي اسْتَهْزَأُوا بِهِ
(9/166)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِيَ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ الْجَاحِدِينَ حَقِيقَةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 11] يَقُولُ: جُولُوا فِي بِلَادِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمُ الْجَاحِدِينَ آيَاتِي مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ ضُرَبَائِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ مِنَ النَّاسِ. {ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] ، يَقُولُ: ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ أَعْقَبَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ ذَلِكَ الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ وَخِزْيَ الدُّنْيَا وَعَارَهَا، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَوَارِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ وَعَفْوِ الْآثَارِ. فَاعْتَبِرُوا بِهِ، إِنْ لَمْ تَنْهَكُمْ حُلُومُكُمْ، وَلَمْ تَزْجُرْكُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، عَمَّا أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَصَارِعِهِمْ، وَاتَّقُوا أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِثْلُ
(9/166)
الَّذِي حَلَّ بِهِمْ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا
(9/167)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} [الأنعام: 11] الْمُكَذِّبِينَ: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى النَّارِ»
(9/167)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ يَقُولُ: لِمَنْ مُلْكُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ أَخْبِرْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ الَّذِي اسْتَعْبَدَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، لَا لِلْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ وَلَا لِمَا يَعْبُدُونَهُ وَيَتَّخِذُونَهُ إِلَهًا مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضَرًّا
(9/167)
وَقَوْلُهُ: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] يَقُولُ: قَضَى أَنَّهُ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ، لَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ وَيَقْبَلُ مِنْهُمُ الْإِنَابَةَ وَالتَّوْبَةَ. وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ اسْتِعْطَافٌ لِلْمُعْرِضِينَ عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَالِ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَابُوا وَأَنَابُوا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ فِي خَلْقِي أَنَّ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
(9/167)
كَالَّذِي حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْخَلْقِ كَتَبَ كِتَابًا: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي "
(9/168)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مِلْءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً، وَقَسَمَ رَحْمَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا تَشْرَبُ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ الْمَاءَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَصَرَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَزَادَهُمْ تِسْعًا وَتِسْعِينَ» حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي عَدِيٍّ لَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ: وَبِهَا تَشْرَبُ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ الْمَاءَ
(9/168)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: " نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ عَطْفَتَيْنِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَوْ: جَعَلَ مِائَةَ رَحْمَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً. قَالَ: فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا يَتَبَاذَلُونَ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَزَاوَرُونَ، وَبِهَا تَحِنُّ النَّاقَةُ، وَبِهَا تَنْأَجُ الْبَقَرَةُ، وَبِهَا تَيْعَرُ الشَّاةُ، وَبِهَا تَتَابَعُ الطَّيْرُ، [ص:169] وَبِهَا تَتَابَعُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ تِلْكَ الرَّحْمَةَ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ وَأَوْسَعُ "
(9/168)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، فِي قَوْلِهِ: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ عَطْفَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ مَا قَالَ: وَبِهَا تَتَابَعُ الطَّيْرُ، وَبِهَا تَتَابَعُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ "
(9/169)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ، لَمْ يَعْطِفْ شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَعَطَفَ بَعْضُ الْخَلْقِ عَلَى بَعْضٍ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِهِ
(9/169)
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، حَسِبْتُهُ أَسْنَدَهُ قَالَ: " إِذَا فَرَغَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فِيهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. قَالَ: فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مِثْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ قَالَ مِثْلَا أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: (مِثْلَا) ، وَأَمَّا (مِثْلُ) فَلَا أَشُكُّ مَكْتُوبًا هَا هُنَا، وَأَشَارَ الْحَكَمُ إِلَى [ص:170] نَحْرِهِ، عُتَقَاءُ اللَّهِ. فَقَالَ رَجُلٌ لِعِكْرِمَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37] ، قَالَ: وَيْلَكَ أُولَئِكَ أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ حَسِبْتُ أَنَّهُ أَسْنَدَهُ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَ اللَّهُ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} [المائدة: 37] ، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى
(9/169)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي "
(9/170)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَهْبَطَ رَحْمَةً إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا يَتَرَاحَمُ بِهَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَطَائِرُ السَّمَاءِ وَحِيتَانُ الْمَاءِ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا وَمَا بَيْنَ الْهَوَاءِ، وَاخْتَزَنَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اخْتَلَجَ الرَّحْمَةَ الَّتِي كَانَ أَهْبَطَهَا إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، فَحَوَاهَا إِلَى مَا عِنْدَهُ، فَجَعَلَهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ»
(9/170)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَهْبَطَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ رَحْمَةً وَاحِدَةً يَتَرَاحَمُ بِهَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالْبَهَائِمُ وَهَوَامُّ الْأَرْضِ»
(9/171)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثني أَبُو الْمُخَارِقِ زُهَيْرُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: مَا أَوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: " كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا لَمْ يَكْتُبْهُ بِقَلَمٍ وَلَا مِدَادٍ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ يَتْلُوهَا الزَّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ: «أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي»
(9/171)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [النساء: 87] وَهَذِهِ اللَّامُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] لَامُ قَسَمٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَالِبِهَا، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الرَّحْمَةَ غَايَةَ كَلَامٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفْتَ بَعْدَهَا: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، يَعْنِي كَتَبَ {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] كَمَا قَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} [الأنعام: 54] يُرِيدُ: كَتَبَ أَنَّهُ مِنْ عَمِلَ مِنْكُمْ. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي يَصْلُحُ مَعَهَا جَوَابُ كَلَامِ الْأَيْمَانِ بِأَنَّ الْمَفْتُوحَةِ وَبِاللَّامِ، فَيَقُولُونَ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ
(9/171)
أَنْ يَقُومَ، وَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ لَيَقُومَنَّ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] . قَالَ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: بَدَا لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوهُ، لَكَانَ صَوَابًا؟ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: نُصِبَتْ لَامُ {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] لِأَنَّ مَعْنَى كِتَابٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] غَايَةً، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: لَيَجْمَعَنَّكُمُ اللَّهُ أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لِيَنْتَقِمَ مِنْكُمْ بِكُفْرِكُمْ بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ إِعْمَالِ كَتَبَ فِي {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كَتَبَ} [البقرة: 178] قَدْ عَمِلَ فِي الرَّحْمَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وَقَدْ عَمِلَ فِي الرَّحْمَةِ أَنْ يَعْمَلَ فِي: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] أَنَّهُ بِفَتْحِ أَنْ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِذْ قُرِئَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ (أَنْ) بَيَانٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَتَرْجَمَةٌ عَنْهَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنْ يَرْحَمَ مَنْ تَابَ مِنْ عِبَادِهِ بَعْدَ اقْتِرَافِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ وَيَعْفُو، وَالرَّحْمَةُ يُتَرْجَمُ عَنْهَا، وَيُبَيَّنُ مَعْنَاهَا بِصِفَتِهَا، وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ
(9/172)
الرَّحْمَةِ {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] فَيَكُونُ مُبَيَّنًا بِهِ عَنْهَا. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُنْصَبَ بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ كَتَبَ مَرَّةً أُخْرَى مَعَهُ، وَلَا ضَرُورَةَ بِالْكَلَامِ إِلَى ذَلِكَ فَتَوَجَّهَ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي ظَاهِرٍ
(9/173)
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ فِيهِ، يَقُولُ: فِي أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَحْشُرُكُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، ثُمَّ يُؤْتَى كُلُّ عَامِلٍ مِنْكُمْ أَجْرَ مَا عَمِلَ مِنْ حَسَنٍ أَوْ سَيِّئٍ
(9/173)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 12] : الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيَجْمَعَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، يَقُولُ: الَّذِينَ أَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ وَغَبَنُوهَا بِادِّعَائِهِمْ لِلَّهِ النِّدَّ وَالْعَدِيلَ، فَأَبْقَوْهَا بِإِيجَابِهِمْ سَخَطَ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ فِي الْمَعَادِ. وَأَصْلُ الْخَسَارِ: الْغَبْنُ، يُقَالُ مِنْهُ: خَسِرَ الرَّجُلُ فِي الْبَيْعِ: إِذَا غُبِنَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
[البحر السريع]
لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ ... وَلَا يُبَالِي خَسَرَ الْخَاسِرِ
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَوْضِعُ (الَّذِينَ) فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 12] نَصْبٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ عَنْهَا.
(9/173)
وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، هُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] . وَقَوْلُهُ: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] ، يَقُولُ: فَهُمْ لِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسِهِمْ وَغَبْنِهِمْ إِيَّاهُ حَظَّهَا لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(9/174)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ، فَيُخْلِصُوا لَهُ التَّوْحِيدَ وَيُفْرِدُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَيُقِرُّوا بِالْأُلُوهِيَّةِ جَهْلًا {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] يَقُولُ: وَلَهُ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ سَاكِنٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا. {وَهُوَ السَّمِيعُ} [البقرة: 137] مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ لَهُ شَرِيكًا، وَمَا يَقُولُ غَيْرُهُمْ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ. {الْعَلِيمُ} [البقرة: 32] بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا يُظْهِرُونَهُ بِجَوَارِحِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ، لِيُوفِيَ كُلَّ إِنْسَانٍ ثَوَابَ مَا اكْتَسَبَ وَجَزَاءَ مَا عَمِلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سَكَنَ} [الأنعام: 13] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(9/174)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] يَقُولُ: «مَا اسْتَقَرَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»
(9/174)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَالْمُنْكِرِينَ عَلَيْكَ إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ لِرَبِّكَ، الدَّاعِينَ إِلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ: أَشْيَاءَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَتَّخِذُ وَلِيًّا وَأَسْتَنْصِرُهُ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى النَّوَائِبِ وَالْحَوَادِثِ؟
(9/175)
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] قَالَ: " أَمَّا الْوَلِيُّ: فَالَّذِي يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقِرُّونَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ "
(9/175)
{فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ أَشَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا؟ فَفَاطِرِ السَّمَوَاتِ مِنْ نَعْتِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ، وَلِذَلِكَ خُفِضَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} مُبْتَدِعَهُمَا وَمُبْتَدِئَهُمَا وَخَالِقَهُمَا
(9/175)
كَالَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: " كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنَا فَطَرْتُهَا، يَقُولُ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا "
(9/175)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ [ص:176] السُّدِّيِّ: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: «خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»
(9/175)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: «خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: فَطَرَهَا اللَّهُ يَفْطُرُهَا وَيَفْطِرُهَا فَطْرًا وَفُطُورًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] يَعْنِي: شُقُوقًا وَصُدُوعًا، يُقَالُ: سَيْفٌ فُطَارٌ: إِذَا كَثُرَ فِيهِ التَّشَقُّقُ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
[البحر الوافر]
وَسَيْفِيَ كَالْعَقِيقَةِ فَهُوَ كِمْعِي ... سِلَاحِي لَا أَفَلَّ وَلَا فُطَارَا
وَمِنْهُ يُقَالُ: فَطَرَ نَابُ الْجَمَلِ: إِذَا تَشَقَّقَ اللَّحْمُ فَخَرَجَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} أَيْ يَتَشَقَّقْنَ وَيَتَصَدَّعْنَ
(9/176)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَهُوَ يَرْزُقُ خَلْقَهُ وَلَا يُرْزَقُ
(9/176)
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] قَالَ: «يَرْزُقُ، وَلَا يُرْزَقُ» [ص:177] وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] أَيْ أَنَّهُ يُطْعِمُ خَلْقَهُ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ. وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْقِرَاءَةِ بِهِ
(9/176)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحُثُّونَكَ عَلَى عِبَادَتِهَا: أَغَيْرَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يَرْزُقُنِي وَغَيْرِي، وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ، أَتَّخِذُ وَلِيًّا هُوَ لَهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَخَلْقٌ مَخْلُوقٌ؟ وَقُلْ لَهُمْ أَيْضًا: إِنِّي أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ خَضَعَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَذَلَّلَ لَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَانْقَادَ لَهُ مِنْ أَهْلِ دَهْرِي وَزَمَانِي. {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] يَقُولُ: وَقُلْ: وَقِيلَ لِي لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: {أُمِرْتُ} [الأنعام: 14] بَدَلًا مِنْ (قِيلَ لِي) ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أُمِرْتُ} [الأنعام: 14] مَعْنَاهُ: قِيلَ لِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ إِنِّي قِيلَ لِي: كُنْ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَاجْتُزِئَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ مِنْ ذِكْرِ الْقَوْلِ، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ مَعْلُومًا أَنَّهُ قَوْلٌ.
(9/177)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15][ص:178] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ: إِنَّ رَبِّي نَهَانِي عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ سِوَاهُ، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي، فَعَبَدْتُهَا عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، يَعْنِي عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِالْعِظَمِ لِعِظَمِ هَوْلِهِ وَفَظَاعَةِ شَأْنِهِ.
(9/177)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام: 16] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} [الأنعام: 16] بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْعَذَابُ يَوْمَئِذٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى: مَنْ يَصْرِفِ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ يَوْمَئِذٍ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: (يَصْرِفْ عَنْهُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهِ بِتَسْمِيَةِ فَاعِلِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يُصْرَفْ} [الأنعام: 16] عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَانَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ: {فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] أَنْ يُقَالَ: (فَقَدْ رُحِمَ) غَيْرُ مُسَمًّى فَاعِلُهُ، وَفِي تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: {فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (مَنْ يَصْرِفُ عَنْهُ) .
(9/178)
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوْلَى بِالْقِرَاءَةِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: (مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ) مِنْ خَلْقِهِ {يَوْمَئِذٍ} [آل عمران: 167] عَذَابَهُ {فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام: 16] ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ} [البقرة: 2] : صَرْفَ اللَّهِ عَنْهُ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرَحْمَتَهُ إِيَّاهُ، {الْفَوْزُ} [النساء: 13] : أَيِ النَّجَاةُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَالظُّفُرِ بِالطِّلْبَةِ، {الْمُبِينُ} [المائدة: 92] يَعْنِي الَّذِي بَيِّنٌ لِمَنْ رَآهُ أَنَّهُ الظُّفُرُ بِالْحَاجَةِ وَإِدْرَاكُ الطِّلْبَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} [الأنعام: 16] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(9/179)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] قَالَ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْعَذَابُ
(9/179)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ يُصِبْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ، يَقُولُ: بِشِدَّةٍ وَشَظَفٍ فِي عَيْشِكَ وَضِيقٍ فِيهِ، فَلَنْ يَكْشِفَ ذَلِكَ عَنْكَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَذْعَنَ لَهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ، دُونَ مَا يَدْعُوكَ الْعَادِلُونَ بِهِ إِلَى عِبَادَتِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَدُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهَا مِنْ خَلْقِهِ. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} [الأنعام: 17] يَقُولُ: وَإِنْ يُصِبْكَ بِخَيْرٍ: أَيْ بِرَخَاءٍ فِي عَيْشٍ وَسَعَةٍ فِي الرِّزْقِ وَكَثْرَةٍ فِي الْمَالِ، فَتُقِرُّ أَنَّهُ أَصَابَكَ بِذَلِكَ
(9/179)
، {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي أَصَابَكَ بِذَلِكَ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِكَ وَضَرِّكَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُهُ قَادِرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ، لَيْسَ كالْآلِهَةِ الذَّلِيلَةِ الْمَهِينَةِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ عَلَى أَنْفُسِهَا وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا وَلَا غَيْرِهَا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُ مَنْ كَانَ هَكَذَا؟ أَمْ كَيْفَ لَا تُخْلِصُ الْعِبَادَةَ، وَتُقِرُّ لِمَنْ كَانَ بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَلَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ وَالْعِزَّةُ الظَّاهِرَةُ؟
(9/180)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: وَ {هُوَ} [البقرة: 29] نَفْسَهُ، يَقُولُ: وَاللَّهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {الْقَاهِرُ} [الأنعام: 18] الْمُذَلِّلُ الْمُسْتَعْبِدُ خَلْقَهُ الْعَالِي عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: {فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] ، لِأَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ، وَمِنْ صِفَةِ كُلِّ قَاهِرٍ شَيْئًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: وَاللَّهُ الْغَالِبُ عِبَادَهُ، الْمُذِلُّ لَهُمْ، الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِتَذْلِيلِهِ لَهُمْ وَخَلْقِهِ إِيَّاهُمْ، فَهُوَ فَوْقَهُمْ بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ، وَهُمْ دُونَهُ. {وَهُوَ الْحَكِيمُ} [الأنعام: 18] يَقُولُ: وَاللَّهُ الْحَكِيمُ فِي عُلُوِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ بِقُدْرَتِهِ وَفِي سَائِرِ تَدْبِيرِهِ، الْخَبِيرُ بِمَصَالِحِ الْأَشْيَاءِ وَمَضَارِّهَا، الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَوَاقِبُ الْأُمُورِ وَبَوَادِيهَا، وَلَا يَقَعُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَلٌ، وَلَا يَدْخُلُ حُكْمَهُ دَخَلٌ
(9/180)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
(9/180)
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ مِنْ قَوْمِكَ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ شَهَادَةً وَأَكْبَرُ، ثُمَّ أَخْبِرْهُمْ بِأَنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي شَهَادَةِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ وَالْغَلَطِ وَالْكَذِبِ، ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةُ شَهِيدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، بِالْمُحِقِّ مِنَّا مِنَ الْمُبْطِلِ وَالرَّشِيدِ مِنَّا فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مِنَ السَّفِيهِ، وَقَدْ رَضِينَا بِهِ حَكَمًا بَيْنَنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
(9/181)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} [الأنعام: 19] ، قَالَ: " أُمِرَ مُحَمَّدٌ أَنْ يَسْأَلَ قُرَيْشًا، ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يُخْبِرَهُمُ فَيَقُولُ: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
(9/181)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ [ص:182]: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام: 19] عِقَابَهُ، وَأُنْذِرُ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ غَيْرِكُمْ، إِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ وَتَحْلِيلِ حَلَالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِجَمِيعِهِ، نُزُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(9/181)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ بَلِّغُوا وَلَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ، أَخَذَهُ، أَوْ تَرَكَهُ»
(9/182)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَبَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ»
(9/182)
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، قَالَ: " مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} [الأنعام: 19]
(9/182)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: سَأَلْتُ لَيْثًا: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؟ قَالَ: كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: " حَيْثُمَا يَأْتِي الْقُرْآنُ فَهُوَ دَاعٍ وَهُوَ نَذِيرٌ. ثُمَّ قَرَأَ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} [الأنعام: 19]
(9/183)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(9/183)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَقَدْ أَبْلَغَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
(9/183)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام: 19] يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، {وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] يَعْنِي: وَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ "
(9/183)
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يُحَدِّثُ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام: 19] : [ص:184] الْعَرَبُ، {وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] : الْعَجَمُ "
(9/183)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] : أَمَّا {مَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] : فَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرُُ "
(9/184)
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، قَالَ: يَقُولُ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَأَنَا نَذِيرُهُ. وَقَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، قَالَ: «فَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرُهُ» فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: لِأُنْذِرَكُمْ بِالْقُرْآنِ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ وَأُنْذِرُ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَـ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ (أُنْذِرَ) عَلَيْهِ، وَ (بَلَغَ) فِي صِلَتِهِ، وَأُسْقِطَتِ الْهَاءُ الْعَائِدَةُ عَلَى (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: {بَلَغَ} [الأنعام: 19] لِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ ذَلِكَ فِي صِلَاتِ (مَنْ، وَمَا، وَالَّذِي)
(9/184)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ، الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ رَبًّا غَيْرَهُ: أَئِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، يَقُولُ: تَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَهَ مَعْبُودَاتٍ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ.
(9/184)
وَقَالَ: {أُخْرَى} [النساء: 102] وَلَمْ يَقُلْ: (أُخَرَ) ، وَالْآلِهَةُ جَمْعٌ، لِأَنَّ الْجُمُوعَ يَلْحَقُهَا التَّأْنِيثُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51] وَلَمْ يَقُلِ (الْأُوَلِ) ، وَلَا (الْأَوَّلِينَ) . ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لَا أَشْهَدُ بِمَا تَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، بَلْ أَجْحَدُ ذَلِكَ وَأُنْكِرَهُ. {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام: 19] يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ مَعْبُودٌ وَاحِدٌ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ. {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19] يَقُولُ: قُلْ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ شَرِيكٍ تَدْعُونَهُ لِلَّهِ وَتُضِيفُونَهُ إِلَى شِرْكَتِهِ وَتَعْبُدُونَهُ مَعَهُ، لَا أَعْبُدُ سِوَى اللَّهِ شَيْئًا وَلَا أَدْعُو غَيْرَهُ إِلَهًا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ بِأَعْيَانِهِمْ مِنْ وَجْهٍ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ
(9/185)
وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَب