التفسير لابن جرير الطبري ج ص معتمد 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 104] لَا تَضْعُفُوا "
(7/454)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنِ الرَّبِيعِ , قَوْلُهُ: {وَلَا تَهِنُوا} [آل عمران: 139] يَقُولُ: «لَا تَضْعُفُوا»
(7/454)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 104] قَالَ: " يَقُولُ: لَا تَضْعُفُوا عَنِ ابْتِغَائِهِمْ {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104] الْقِتَالَ {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104] قَالَ: " وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تُصِيبَهُمُ الْجَرَّاحُ إِنْ كُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فَتَأْلَمُونَهُ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] يَقُولُ: «فَلَا تَضْعُفُوا فِي ابْتِغَائِهِمْ مَكَانَ الْقِتَالِ»
(7/454)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104] تُوجَعُونَ "
(7/454)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ قَالَ: «تُوجَعُونَ لِمَا يُصِيبُكُمْ مِنْهُمْ , فَإِنَّهُمْ يُوجَعُونَ كَمَا تُوجَعُونَ وَتَرْجُونَ أَنْتُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِيمَا يُصِيبُكُمْ مَا لَا يَرْجُونَ»
(7/454)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ , قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ , عَنْ عِكْرِمَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: لَمَّا كَانَ قِتَالُ أُحُدٍ , وَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَ , صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَبَلَ , فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ , لَا جُرْحَ إِلَّا بِجُرْحٍ , الْحَرْبُ سِجَالٌ , يَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «أَجِيبُوهُ» فَقَالُوا: لَا سَوَاءَ , قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ , وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عُزَّى لَنَا وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُولُوا لَهُ: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ " قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ. اعْلُ هُبَلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُولُوا لَهُ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ ". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَوْعِدُنَا وَمَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ الصُّغْرَى. ونَامَ الْمُسْلِمُونَ وَبِهِمُ الْكُلُومُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَفِيهَا أُنْزِلَتْ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]
(7/455)
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ , عَنِ الضَّحَّاكِ , فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104] قَالَ: «يَيْجَعُونَ كَمَا تَيْجَعُونَ»
(7/455)
وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] وَتَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَخَافُونَ , مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] بِمَعْنَى: لَا يَخَافُونَ أَيَّامَ اللَّهِ. وغَيْرُ مَعْرُوفٍ صَرْفُ الرَّجَاءِ إِلَى مَعْنَى الْخَوْفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ , إِلَّا مَعَ جَحْدٍ سَابِقٍ لَهُ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] بِمَعْنَى: لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً , وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْهُذَلِيُّ:
[البحر الرجز]
لَا تَرْتَجِي حِينَ تُلَاقِي الَّذَائِدَا ... أَسَبْعَةً لَاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا
وَكَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
[البحر الطويل]
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
وَهِيَ فِيمَا بَلَغَنَا لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ , يَقُولُونَهَا بِمَعْنَى: مَا أُبَالِي وَمَا أَحْفِلُ
(7/456)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ عَلِيمًا بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ , حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ , وَمِنْ عِلْمُهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمَصَالِحِكُمْ عَرَّفَكُمْ عِنْدَ حُضُورِ صَلَاتِكُمْ , [ص:457] وَوَاجِبِ فَرْضِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ , وَأَنْتُمْ مُواقِفُو عَدُوِّكُمْ مَا يَكُونُ بِهِ وُصُولُكُمْ إِلَى أَدَاءِ فَرْضِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ , وَالسَّلَامَةُ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَمِنْ حِكْمَتِهِ بَصَرُكُمْ بِمَا فِيهِ تَأْيِيدُكُمْ , وَتَوْهِينُ كَيَدِ عَدُوِّكُمْ
(7/456)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْكِتَابَ , يَعْنِي الْقُرْآنَ {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105] لِتَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ , فَتَفْصِلَ بَيْنَهُمْ {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] يَعْنِي: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِهِ {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] يَقُولُ: " وَلَا تَكُنْ لِمَنْ خَانَ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ , خَصِيمًا تُخَاصِمُ عَنْهُ , وَتَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ الَّذِي خَانَهُ فِيهِ. {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 106] يَا مُحَمَّدُ وَسَلْهُ أَنْ يَصْفَحَ لَكَ عَنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِكَ فِي مُخَاصَمَتِكَ عَنِ الْخَائِنِ مَنْ خَانَ مَالًا لِغَيْرِهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23] يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ يَصْفَحُ عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ عَلَيْهَا , إِذَا اسْتَغْفَرُوهُ مِنْهَا , رَحِيمًا بِهِمْ , فَافْعَلْ ذَلِكَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ , يَغْفِرِ اللَّهُ لَكَ مَا سَلَفَ مِنْ خُصُومَتِكَ عَنْ هَذَا الْخَائِنِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ
(7/457)
خَاصَمَ عَنِ الْخَائِنِ , وَلَكِنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ , فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا هَمَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ» . وَذُكِرَ أَنَّ الْخَائِنِينَ الَّذِينَ عَاتَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُصُومَتِهِ عَنْهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلَ فِي خِيَانَتِهِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُ فَوَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ سَرِقَةً سَرَقَهَا
(7/458)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ وَدِرْعِهِ مِنْ حَدِيدٍ الَّتِي سَرَقَ , وَقَالَ أَصْحَابُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلنَّبِيِّ: اعْذُرْهُ فِي النَّاسِ بِلِسَانِكَ. ورَمَوْا بِالدِّرْعِ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ بَرِيئًا " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , نَحْوَهُ
(7/458)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ أَبُو مُسْلِمٍ الْحَرَّانِيُّ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ , عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ , [ص:459] قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ , قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالَ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ: بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ , وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا , وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْحِلُهُ إِلَى بَعْضِ الْعَرَبِ , ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا , وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا , فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْرَ , قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلَّا هَذَا الْخَبِيثُ , فَقَالَ:
[البحر الكامل]
 
أَوَكُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَضِمُوا وَقَالُوا ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا
قَالَ: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ , وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ , وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ بِالدَّرْمَكِ ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ , فَخَصَّ بِهِ نَفْسَهُ , فَأَمَّا الْعِيَالُ: فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ. فقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ , فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ , فَجَعَلَهُ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ , وَفِي الْمَشْرُبَةِ سِلَاحٌ لَهُ: دِرْعَانِ وَسَيْفَاهُمَا وَمَا يُصْلِحُهُمَا. فعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ اللَّيْلِ , فَنُقِبَتِ الْمَشْرُبَةُ , وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ. [ص:460] فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي تَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ , فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا , فَذُهِبَ بِسِلَاحِنَا وَطَعَامِنَا. قَالَ: فَتَجَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا , فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ , وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَاهُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ: وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْمٍ , رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ , فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ , ثُمَّ أَتَى بَنِي أُبَيْرِقٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ. قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ , فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا. فسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا , فَقَالَ عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي , لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ , فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلُ جَفَاءٍ , عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ فَنَقَبُوا مَشْرُبَةً لَهُ , وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ , فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا , فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالَ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ , فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ , وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ , فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدُوا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ [ص:461] بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ , فَقَالَ: «عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهُمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ» قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. فأَتَيْتُ عَمِّي رِفَاعَةَ , فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] يَعْنِي: بَنِي أُبَيْرِقٍ {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 106] أَيْ مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] أَيْ بَنِي أُبَيْرِقٍ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} [النساء: 107] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] أَيْ أَنَّهُمْ إِنِ يَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يَغْفِرْ لَهُمْ {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} [النساء: 111] وَإِثْمًا مًبِينًا قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء: 113] يَعْنِي أُسَيْرًا وَأَصْحَابَهُ {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] إِلَى قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّلَاحِ , فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَلَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ , [ص:462] وَكُنْتُ أَرَى إِسْلَامَهُ مَدْخُولًا؛ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِالسِّلَاحِ , قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي , هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بَشِيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سَهْلٍ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ {وَمَنْ يُشَاقِقِ} [النساء: 115] الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا} [النساء: 116] بَعِيدًا فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ رَمَاهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ , فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعِتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ فَرَمَتْهُ بِالْأَبْطَحِ , ثُمَّ قَالَتْ: أَهْدَيْتَ إِلَيَّ شِعْرَ حَسَّانَ , مَا كُنْتَ تَأْتِيَنِي بِخَيْرٍ "
(7/458)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] يَقُولُ: " بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَيَّنَ لَكَ {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] فَقَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107] ذِكِرَ لَنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِي شَأْنِ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ وَفِيمَا هَمَّ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُذْرِهِ , وَبَيِّنَ اللَّهُ شَأْنَ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ , وَوَعَظَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَذَّرَهُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا. وَكَانَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ , ثُمَّ أَحَدَ بَنِي ظَفَرٍ , سَرَقَ دِرْعًا لِعَمِّهِ كَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ , ثُمَّ قَذَفَهَا عَلَى يَهُودِيٍّ كَانَ يَغْشَاهُمْ , يُقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ , فَجَاءَ الْيَهُودِيُّ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص:463] يَهْتِفُ , فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمُهُ بَنُو ظَفَرٍ جَاءُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْذِرُوا صَاحِبَهُمْ , وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ هِمَّ بِعُذْرِهِ , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ مَا أَنْزَلَ , فَقَالَ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] إِلَى قَوْلِهِ: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْمَهُ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] وَكَانَ طُعْمَةُ قَذَفَ بِهَا بَرِيئًا. فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ شَأْنَ طُعْمَةَ نَافَقَ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]
(7/462)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي , قَالَ: ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ غَزَوْا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ , فَسُرِقَتْ دِرْعٌ لِأَحَدِهِمْ , فَأَظَنَّ بِهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ , فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ: إِنَّ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ سَرَقَ دِرْعِي. فأَتِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ ذَلِكَ , عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ , وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي قَدْ غَيَّبْتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ , وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُ. فَانْطَلَقُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا , فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ , وَإِنَّ سَارِقَ الدِّرْعِ فُلَانٌ , وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْمًا , فَاعْذُرْ صَاحِبَنَا عَلَى رُءُوسِ [ص:464] النَّاسِ وَجَادِلْ عَنْهُ , فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللَّهُ بِكَ يَهْلِكْ. فقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرَّأَهُ وَعَذَرَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] يَقُولُ: " احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فِي الْكِتَابِ {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] الْآيَةُ , ثُمَّ قَالَ لِلَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 108] إِلَى قَوْلِهِ: {أَمْ مَنْ يَكُونِ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109] يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} [النساء: 112] وَإِثْمًا مُبِينًا يَعْنِي: السَّارِقَ وَالَّذِينَ يُجَادِلُونَ عَنِ السَّارِقِ "
(7/463)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] الْآيَةُ. قَالَ: كَانَ رَجُلٌ سَرَقَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرَحَهُ عَلَى يَهُودِيٍّ , فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُهَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ , وَلَكِنْ طُرِحَتْ عَلَيَّ. وَكَانَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَرَقَ جِيرَانٌ يُبَرِّئُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَيَقُولُونَ:
(7/464)
يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ الْخَبِيثَ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ. قَالَ: حَتَّى مَالَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الْقَوْلِ , فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 106] بِمَا قُلْتَ لِهَذَا الْيَهُودِيِّ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23] ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى جِيرَانِهِ فَقَالَ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {أَمَّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} قَالَ: " ثُمَّ عَرَضَ التَّوْبَةَ فَقَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 110] فَمَا أَدْخَلَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى خَطِيئَةِ هَذَا تَكَلَّمُونَ دُونَهُ؟ {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 111] وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] قَالَ: " أَبَى أَنْ يَقْبَلَ التَّوْبَةَ الَّتِي عَرَضَ اللَّهُ لَهُ , وَخَرَجَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ , فَنَقَبَ بَيْتًا لِيَسْرِقَهُ , فَهَدَمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] وَيُقَالَ: هُوَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ , وَكَانَ نَازِلًا فِي بَنِي ظَفَرٍ "
(7/465)
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْخِيَانَةُ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا مَنْ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] جُحُودُهُ وَدِيعَةً كَانَ أُودِعَهَا
(7/466)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] قَالَ: " أَمَّا {مَا أَرَاكَ اللَّهُ} : فَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ؛ قَالَ: نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ , وَاسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ دِرْعًا , فَانْطَلَقَ بِهَا إِلَى دَارِهِ , فَحَفَرَ لَهَا الْيَهُودِيُّ ثُمَّ دَفَنَهَا , فَخَالَفَ إِلَيْهَا طُعْمَةُ فَاحْتَفَرَ عَنْهَا , فَأَخَذَهَا. فَلَمَّا جَاءَ الْيَهُودِيُّ يَطْلُبُ دِرْعَهُ كَافَرَهُ عَنْهَا , فَانْطَلَقَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ عَشِيرَتِهِ , فَقَالَ: انْطَلِقُوا مَعِي , فَإِنِّي أَعْرِفُ وَضْعَ الدِّرْعِ. فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ طُعْمَةُ أَخَذَ الدِّرْعَ فَأَلْقَاهَا فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلٍ الْأَنْصَارِيِّ , فَلَمَّا جَاءَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُ الدِّرْعَ فَلَمَّا تَقْدِرْ عَلَيْهَا , وَقَعَ بِهِ طُعْمَةُ وَأُنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ , فَسَبُّوهُ , وَقَالَ أَتُخَوِّنُونَنِي؟ فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهَا فِي دَارِهِ , فَأَشْرَفُوا عَلَى بَيْتِ أَبِي مُلَيْلٍ , فَإِذَا هُمْ بِالدِّرْعِ , وَقَالَ طُعْمَةُ: أَخَذَهَا أَبُو مُلَيْلٍ. وجَادَلَتِ الْأَنْصَارُ دُونَ طُعْمَةَ وَقَالَ لَهُمُ: انْطَلِقُوا مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا لَهُ يَنْضَحُ عَنِّي وَيُكَذِّبُ حُجَّةَ الْيَهُودِيِّ , فَإِنِّي إِنْ أُكَذَّبْ كَذَبَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْيَهُودِيُّ. فأَتَاهُ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , جَادِلْ عَنْ طُعْمَةَ وَأَكْذِبِ الْيَهُودِيَّ. فهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَلَا تَكُنْ [ص:467] لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 106] مِمَّا أَرَدْتَ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 106] ثُمَّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَمُجَادَلَتَهُمْ عَنْهُ , فَقَالَ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيَّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] يَقُولُ: " يَقُولُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ثُمَّ دَعَا إِلَى التَّوْبَةِ , فَقَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ حِينَ قَالَ: أَخَذَهَا أَبُو مُلَيْلٍ , فَقَالَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] " {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} [النساء: 112] وَإِثْمًا مُبِينًا ثُمَّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَإِتْيَانَهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يَنْضَحَ عَنْ صَاحِبِهِمْ وَيُجَادِلَ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] يَقُولُ: " النُّبُوَّةَ. ثُمَّ ذَكَرَ مُنَاجَاتِهِمْ فِيمَا يُرِيدُونَ أَنْ يكْذِبُوا عَنْ طُعْمَةَ , فَقَالَ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمَّا فَضَحَ اللَّهُ طُعْمَةَ بِالْمَدِينَةِ بِالْقُرْآنِ , هَرَبَ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ , فَكَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ. ونَزَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطِ السُّلَمِيِّ , فَنَقَبَ بَيْتَ الْحَجَّاجِ فَأَرَادَ أَنْ يَسْرِقَهُ , فَسَمِعَ الْحَجَّاجُ خَشْخَشَةً فِي بَيْتِهِ وَقَعْقَعَةَ جُلُودٍ كَانَتْ عِنْدَهُ , فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِطُعْمَةَ , فَقَالَ: ضَيْفِي وَابْنُ عَمِّي وَأَرَدْتَ أَنْ تَسْرِقَنِي؟ . فأَخْرَجَهُ فَمَاتَ بِحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ كَافِرًا , وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ} [النساء: 115] الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ [ص:468] لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى إِلَى: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] "
(7/466)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجُ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ , قَالَ: اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ مَشْرُبَةً لَهُ فِيهَا دِرْعٌ , وَخَرَجَ فَغَابَ. فَلَمَّا قَدِمَ الْأَنْصَارِيُّ فَتَحَ مَشْرُبَتَهُ فَلَمْ يَجِدِ الدِّرْعَ , فَسَأَلَ عَنْهَا طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ , فَرَمَى بِهَا رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ يُقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ. فتَعَلَّقَ صَاحِبُ الدِّرْعِ بِطُعْمَةَ فِي دِرْعِهِ؛ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمُهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَلَّمُوهُ لِيَدْرَأَ عَنْهُ فَهَمَّ بِذَلِكَ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 106] يَعْنِي طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ وَقَوْمَهُ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُ طُعْمَةَ {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] مُحَمَّدٌ وَطُعْمَةُ وَقَوْمُهُ , قَالَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] الْآيَةُ , طُعْمَةُ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112] يَعْنِي: زَيْدَ بْنَ السَّمِينِ {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 113] يَا مُحَمَّدُ {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113] قَوْمُ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ {وَأَنْزَلَ
(7/468)
اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء: 114] حَتَّى تَنْقَضِيَ الْآيَةُ لِلنَّاسِ عَامَّةً {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الْآيَةُ. قَالَ: لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ لَحِقَ بِقُرَيْشٍ وَرَجَعَ فِي دِينِهِ , ثُمَّ عَدَا عَلَى مَشْرُبَةٍ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطِ الْبَهْزِيِّ ثُمَّ السُّلَمِيِّ حَلِيفٍ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ , فَنَقَبَهَا , فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَلَحِجَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ , فَخَرَجَ فَلَقِيَ رَكْبًا مِنْ بُهَرَاءَ مِنْ قُضَاعَةَ , فَعَرَضَ لَهُمْ , فَقَالَ: ابْنُ سَبِيلٍ مُنْقَطِعٌ بِهِ. فحَمَلُوهُ حَتَّى إِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عَدَا عَلَيْهِمْ فَسَرَقَهُمْ , ثُمَّ انْطَلَقَ فَرَجَعُوا فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكُوهُ , فَقَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا فِيهِ نَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] أُنْزِلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ , يَقُولُونَ: إِنَّهُ رَمَى بِالدِّرْعِ فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَزْرَجِيِّ , فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بِقُرَيْشٍ , فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ "
(7/469)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ , ثنا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ , قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ , يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] يَقُولُ: " بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْكَ وَأَرَاكَهُ فِي كِتَابِهِ. ونَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ
(7/469)
الْأَنْصَارِ اسْتُودِعَ دِرْعًا فَجَحَدَ صَاحِبَهَا , فَخَوَّنَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَغَضِبَ لَهُ قَوْمُهُ , وَأَتَوْا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَالُوا: خَوَّنُوا صَاحِبَنَا وَهُوَ أَمِينٌ مُسْلِمٌ , فَاعْذُرْهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَازْجُرْ عَنْهُ. فقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ فَعَذَرَهُ وَكَذَّبَ عَنْهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ بَرِيءٌ وَأَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَيَانَ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] إِلَى قَوْلِهِ: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109] فَبَيَّنَ اللَّهُ خِيَانَتَهُ. فلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ , وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ , فَنَزَلَ فِيهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] إِلَى قَوْلِهِ: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَتْ خِيَانَتُهُ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ جُحُودُهُ مَا أُودِعَ , لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعَانِي الْخِيَانَاتِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ وَتَوْجِيهُ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إِلَى الْأَشْهَرِ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
(7/470)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَا تُجَادِلْ} [النساء: 107] يَا مُحَمَّدُ فَتُخَاصِمُ {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] يَعْنِي: يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ , يَجْعَلُونَهَا خَوَنَةً بِخِيَانَتِهِمْ مَا خَانُوا مِنْ أَمْوَالِ مَنْ خَانُوهُ مَالَهُ وَهُمْ بَنُو [ص:471] أُبَيْرِقٍ , يَقُولُ: لَا تُخَاصِمُ عَنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُهُمْ بِحُقُوقِهِمْ , وَمَا خَانُوهُ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107] يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مِنْ صِفَتِهِ خِيَانَةُ النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ , وَرُكُوبُ الْإِثْمِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ
(7/470)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ , يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] قَالَ: " اخْتَانَ رَجُلٌ عَمًّا لَهُ دِرْعًا , فَقَذَفَ بِهَا يَهُودِيًّا كَانَ يَغْشَاهُمْ , فَجَادَلَ عَمُّ الرَّجُلِ قَوْمَهُ , فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَرَهُ , ثُمَّ لَحِقَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ , فَنَزَلَتْ فِيهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] الْآيَةُ "
(7/471)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] " يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} [النساء: 108] يَسْتَخْفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ مَا أُوتُوا مِنَ الْخِيَانَةِ , وَرَكِبُوا مِنَ الْعَارِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنَ النَّاسِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا ذِكْرَهُمْ بِقَبِيحِ مَا أُوتُوا مِنْ فِعْلِهِمْ وَشَنِيعِ مَا رَكِبُوا مِنْ جُرْمِهِمْ إِذَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُمْ , وَحَذَرًا مِنْ قَبِيحِ الْأُحْدُوثَةِ
(7/471)
{وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 108] الَّذِي هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ , لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ , وَبِيَدِهِ الْعِقَابُ وَالنَّكَالُ وَتَعْجِيلُ الْعَذَابِ , وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ , وَأَوْلَى أَنْ يُعَظَّمَ بِأَنْ لَا يَرَاهُمْ حَيْثُ يَكْرَهُونَ أَنْ يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ {وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] يَعْنِي: وَاللَّهُ شَاهِدُهُمْ {إِذْ يُبَيَّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] يَقُولُ حِينَ يُسَوُّونَ لَيْلًا مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ فَيُغَيِّرُونَهُ عَنْ وَجْهِهِ , وَيَكْذِبُونَ فِيهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى التَّبْيِيتِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , وَأَنَّهُ كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ أُصْلِحَ لَيْلًا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الطَّائِيِّينَ أَنَّ التَّبْيِيتَ فِي لُغَتِهِمُ التَّبْدِيلُ , وَأَنْشَدَ لِلْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جُوَيْنٍ الطَّائِيِّ فِي مُعَاتَبَةِ رَجُلٍ:
[البحر المتقارب]
وَبَيَّتَ قَوْلِيَ عَبْدَ الْمَلِيكِ ... قَاتَلَكَ اللَّهُ عَبْدًا كَنُودَا
بِمَعْنَى: بَدَّلْتَ قَوْلِي وَرُوِي عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُبَيَّتُونَ} [النساء: 81] : يُؤَلِّفُونَ "
(7/472)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي رَزِينٍ: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] قَالَ: «يُؤَلِّفُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ» . [ص:473] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ , قَالَ: ثنا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي رَزِينٍ , بِنَحْوِهِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي رَزِينٍ , مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ شَبِيهُ الْمَعْنَى بِالَّذِي قُلْنَاهُ , وَذَلِكَ أَنَّ التَّأْلِيفَ هُوَ التَّسْوِيَةُ وَالتَّغْيِيرُ عَمَّا هُوَ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 108] الرَّهْطُ الَّذِينَ مَشَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُدَافَعَةِ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ وَالْجِدَالِ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ فِيمَا أُوتُوا مِنْ جُرْمِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ مِنْ تَبْيِيتِهِمْ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مُحِيطًا مُحْصِيًا , لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ , حَافِظًا لِذَلِكَ عَلَيْهِمْ , حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَيْهِ جَزَاءَهُمْ
(7/472)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}
(7/473)
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هَا أَنْتُمُ الَّذِينَ جَادَلْتُمْ يَا مَعْشَرَ مَنْ جَادَلَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا , وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: {عَنْهُمْ} [البقرة: 86] مِنْ ذِكْرِ الْخَائِنِينَ {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ} [النساء: 109] يَقُولُ: " فَمَنْ ذَا يُخَاصِمُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِمَحْشَرِهِمْ , فَيُدَافِعُ عَنْهُمْ مَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ , وَمُعَاقِبُهُمْ بِهِ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَافِعُونَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْخَائِنِينَ أَنْفُسَهُمْ , وَإِنْ دَافَعْتُمْ عَنْهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا , فَإِنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ إِلَى مَنْ لَا يُدَافِعُ عَنْهُمْ عِنْدَهُ أَحَدٌ فِيمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ وَنَكَالِ الْعِقَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمَّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَمَنْ ذَا الَّذِي يَكُونُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخَائِنِينَ وَكِيلًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْ وَمَنْ يَتَوَكَّلُ لَهُمْ فِي خُصُومَةِ رَبِّهِمْ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْوَكَالَةِ فِيمَا مَضَى وَأَنَّهَا الْقِيَامُ بِأَمْرِ مَنْ تُوكَلُ لَهُ
(7/474)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ ذَنْبًا , وَهُوَ السُّوءُ , أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بِإِكْسَابِهِ إِيَّاهَا مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ عُقُوبَةَ اللَّهِ {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 110] يَقُولُ: " ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ بِإِنَابَتِهِ مِمَّا عَمِلَ مِنَ السُّوءِ وَظَلْمِ نَفْسِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَمْحُو ذَنْبَهُ وَتُذْهِبُ جُرْمَهُ
(7/474)
, {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] يَقُولُ: " يَجِدْ رَبَّهُ سَاتِرًا عَلَيْهِ ذَنْبَهُ بِصَفْحِهِ لَهُ عَنْ عُقُوبَتِهِ جُرْمَهُ , رَحِيمًا بِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْخِيَانَةِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهَا الَّذِينَ يُجَادِلُونَ عَنِ الْخَائِنِينَ , الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَدْ ذَكَرْنَا قَائِلِي الْقَوْلَيْنِ كِلَيْهِمَا فِيمَا مَضَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ عُنِيَ بِهَا كُلُّ مَنْ عَمِلَ سُوءًا أَوْ ظَلَمَ نَفْسَهُ , وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أَمْرِ الْخَائِنِينَ وَالْمُجَادِلِينَ عَنْهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
(7/475)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ , عَنْ شُعْبَةَ , عَنْ عَاصِمٍ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ , قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ قَدْ كُتِبَ كَفَّارَةُ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَى بَابِهِ , وَإِذَا أَصَابَ الْبَوْلُ شَيْئًا مِنْهُ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ , فَقَالَ رَجُلٌ: لَقَدْ أَتَى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرًا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا آتَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا آتَاهُمْ , جَعَلَ اللَّهُ الْمَاءَ لَكُمْ طَهُورًا , وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [ص:476] ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] وَقَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] "
(7/475)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ , قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ , قَالَ: ثنا ابْنُ عَوْنٍ , عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ , قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ , فَسَأَلَتْهُ عَنِ امْرَأَةٍ فَجَرَتْ فَحَبَلَتْ , فَلَمَّا وَلَدَتْ قَتَلَتْ وَلَدَهَا , فَقَالَ ابْنُ مُغَفَّلٍ: مَا لَهَا؟ لَهَا النَّارُ. فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَبْكِي , فَدَعَاهَا , ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَى أَمْرَكِ إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] قَالَ: «فَمَسَحَتْ عَيْنَهَا ثُمَّ مَضَتْ»
(7/476)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] قَالَ: «أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ , وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ , فَمَنْ أَذْنَبَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا , ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ , يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا , وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَعْظَمَ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ»
(7/476)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 111] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَنْ يَأْتِ ذَنْبًا عَلَى عَمْدٍ مِنْهُ
(7/476)
لَهُ وَمَعْرِفَةٍ بِهِ , فَإِنَّمَا يَجْتَرِحُ وَبَالَ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَضَرِّهِ وَخِزْيِهِ وَعَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِ اللَّهِ , يَقُولُ: فَلَا تُجَادِلُوا أَيُّهَا الَّذِينَ تُجَادِلُونَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْخَوَنَةِ , فَإِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ لَهُمْ عَشِيرَةً وَقَرَابَةً وَجِيرَانًا بُرَآءَ مِمَّا أَتَوْهُ مِنَ الذَّنْبِ وَمِنَ التَّبِعَةِ الَّتِي يُتَّبَعُونَ بِهَا , فَإِنَّكُمْ مَتَى دَافَعْتُمْ عَنْهُمْ أَوْ خَاصَمْتُمْ بِسَبَبِهِمْ كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ , فَلَا تُدَافِعُوا عَنْهُمْ , وَلَا تُخَاصِمُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَكَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِمَا تَفْعَلُونَ أَيُّهَا الْمُجَادِلُونَ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي جِدَالِكُمْ عَنْهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِكُمْ وَأَفْعَالِ غَيْرِكُمْ , وَهُوَ يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ , حَتَّى يُجَازِيَ جَمِيعَكُمْ بِهَا {حَكِيمًا} [النساء: 11] يَقُولُ: " وَهُوَ حَكِيمٌ بِسِيَاسَتِكُمْ وَتَدْبِيرِكُمْ , وَتَدْبِيرِ جَمِيعِ خَلْقِهِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَنِي أُبَيْرِقٍ , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ
(7/477)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً , وَهِيَ الذَّنْبُ , أَوْ إِثْمًا , وَهُوَ مَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ , لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْعَمْدِ وَغَيْرِ الْعَمْدِ , وَالْإِثْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَمْدِ , فَفَصَلَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِذَلِكَ بَيْنَهُمَا , فَقَالَ: وَمَنْ يَأْتِ خَطِيئَةً عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ مِنْهُ لَهَا , أَوْ إِثْمًا عَلَى عَمْدٍ مِنْهُ ثُمَّ يَرْمِ
(7/477)
بِهِ بَرِيئًا , يَعْنِي بِالَّذِي تَعَمَّدَهُ بَرِيئًا , يَعْنِي ثُمَّ يَصِفُ مَا أَتَى مِنْ خَطَئِهِ أَوْ إِثْمِهِ الَّذِي تَعَمَّدَهُ بَرِيئًا مِمَّا أَضَافَهُ إِلَيْهِ وَنَحَلَهُ إِيَّاهُ {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] يَقُولُ: " فَقَدْ تَحَمَّلَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ فِرْيَةً وَكَذِبًا وَإِثْمًا عَظِيمًا , يَعْنِي وَجُرْمًا عَظِيمًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ وَعَمْدٍ لِمَا أَتَى مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَذَنْبِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {بَرِيئًا} [النساء: 112] بَعْدَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ الَّذِيَ رَمَى الْبَرِيءَ مِنَ الْإِثْمِ الَّذِي كَانَ أَتَاهُ ابْنُ أُبَيْرِقٍ الَّذِي وَصَفْنَا شَأْنَهُ قَبْلُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْبَرِيءِ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالَ لَهُ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ يُقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَمِمَّنْ. قَالَ كَانَ يَهُودِيًّا , ابْنُ سِيرِينَ
(7/478)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا غُنْدَرٌ , عَنْ شُعْبَةَ , عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112] قَالَ: «يَهُودِيًّا» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ خَالِدٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , مِثْلَهُ وَقِيلَ: {يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112] بِمَعْنَى: ثُمَّ يَرْمِ بِالْإِثْمِ الَّذِي أَتَى هَذَا الْخَائِنُ مَنْ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ , فَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ {بِهِ} [النساء: 112] عَائِدَةٌ عَلَى الْإِثْمِ , وَلَوْ جُعِلَتْ كِنَايَةً مِنْ ذِكْرِ الْإِثْمِ وَالْخَطِيئَةِ كَانَ جَائِزًا , لِأَنَّ الْأَفْعَالَ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ عَنْهَا فَرَاجِعَةٌ إِلَى
(7/478)
مَعْنًى وَاحِدٍ بِأَنَّهَا فِعْلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَقَدْ تَحَمَّلَ هَذَا الَّذِي رَمَى بِمَا أَتَى مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَرَكِبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالْخَطِيئَةِ مَنْ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ بُهْتَانًا , وَهُوَ الْفِرْيَةُ وَالْكَذِبُ , وَإِثْمًا مُبِينًا , يَعْنِي وِزْرًا مُبِينًا , يَعْنِي أَنَّهُ يُبِينُ عَنْ أَمْرٍ عَمِلَهُ وَجَرَاءَتِهُ عَلَى رَبِّهِ وَتَقَدُّمِهِ عَلَى خِلَافِهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ لِمَنْ يَعْرِفُ أَمْرَهُ
(7/479)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 113] وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فَعَصَمَكَ بِتَوْفِيقِهِ وَتِبْيَانِهِ لَكَ أَمْرَ هَذَا الْخَائِنِ , فَكُفِفْتَ لِذَلِكَ عَنِ الْجِدَالِ عَنْهُ , وَمُدَافَعَةِ أَهْلِ الْحَقِّ عَنْ حَقِّهِمْ قِبَلَهُ {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 113] يَقُولُ: " لَهَمَّتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ , يَعْنِي مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ {أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء: 113] يَقُولُ: " يُزِلُّوكَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ , وَذَلِكَ لِتَلْبِيسِهِمْ أَمْرَ الْخَائِنِ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهَادَتِهِمْ لِلْخَائِنِ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ , وَمَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ يَعْذِرُهُ وَيَقُومَ بِمَعْذِرَتِهِ فِي أَصْحَابِهِ , فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَا يُضِلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَمُّوا بِأَنْ يُضِلُّوكَ عَنِ الْوَاجِبِ مِنَ الْحُكْمِ فِي أَمْرِ هَذَا الْخَائِنِ دِرْعَ جَارِهِ , إِلَّا أَنْفُسَهُمْ.
(7/479)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا كَانَ وَجْهُ إِضْلَالِهِمْ أَنْفُسَهُمْ؟ قِيلَ: وَجْهُ إِضْلَالِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَخَذُهُمْ بِهَا فِي غَيْرِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَخْذَ بِهَا فِيهِ مِنْ سُبُلِهِ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ إِلَى خَلْقِهِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْأَمْرِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْحَقِّ , فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ لِلَّهِ فِيمَنْ سَعَى فِي أَمْرِ الْخَائِنِينَ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] مُعَاوَنَةُ مَنْ ظَلَمُوهُ دُونَ مَنْ خَاصَمَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِ حَقِّهِ مِنْهُمْ , فَكَانَ سَعْيُهُمْ فِي مَعُونَتِهِمْ دُونَ مَعُونَةِ مَنْ ظَلَمُوهُ , أَخْذًا مِنْهُمْ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ , وَذَلِكَ هُوَ إِضْلَالُهُمْ أَنْفُسَهُمْ , الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فَقَالَ: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113] وَمَا يَضُرُّكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَمُّوا لَكَ أَنْ يُزِلُّوكَ عَنِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ هَذَا الْخَائِنِ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ مِنْ شَيْءٍ , لِأَنَّ اللَّهَ مُثَبِّتُكَ وَمُسَدِّدُكَ فِي أُمُورِكَ وَمُبَيِّنٌ لَكَ أَمْرَ مَنْ سَعَوْا فِي ضَلَالِكَ عَنِ الْحَقِّ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ , فَفَاضِحُهُ وَإِيَّاهُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] يَقُولُ: " وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَعَ سَائِرِ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْكَ مِنْ نِعَمِهِ , أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ , وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ , وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ {وَالْحِكْمَةُ} [البقرة: 129] يَعْنِي وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ مَعَ الْكِتَابِ الْحِكْمَةَ , وَهِيَ مَا كَانَ فِي الْكِتَابِ مُجْمَلًا ذِكْرُهُ , مِنْ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ , وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَأَحْكَامِهِ , وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] مِنْ خَبَرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ , وَمَا كَانَ , وَمَا هُوَ كَائِنٌ قَبْلَ , ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْكَ
(7/480)
يَا مُحَمَّدُ مُذْ خَلَقَكَ , فَاشْكُرْهُ عَلَى مَا أَوْلَاكَ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ بِالتَّمَسُّكِ بِطَاعَتِهِ , وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ , وَلُزُومِ الْعَمَلِ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ وَحِكْمَتِهِ , وَمُخَالَفَةِ مَنْ حَاوَلَ إِضْلَالَكَ عَنْ طَرِيقِهِ وَمِنْهَاجِ دِينِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَاكَ بِفَضْلِهِ , وَيَكْفِيكَ غَائِلَةَ مَنْ أَرَادَكَ بِسُوءٍ وَحَاوَلَ صَدَّكَ عَنْ سَبِيلِهِ , كَمَا كَفَاكَ أَمْرَ الطَائِفَةِ الَّتِي هَمَّتْ أَنْ تُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِهِ فِي أَمْرِ هَذَا الْخَائِنِ , وَلَا أَحَدَ مِنْ دُونِهِ يُنْقِذُكَ مِنْ سُوءٍ إِنْ أَرَادَ بِكَ إِنْ أَنْتَ خَالَفْتَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَاتَّبَعْتَ هَوَى مَنْ حَاوَلَ صَدَّكَ عَنْ سَبِيلِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْضِعِ حَظِّهِ , وَتَذْكِيرٌ مِنْهُ لَهُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ
(7/481)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَى النَّاسِ جَمِيعًا {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء: 114] وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَدَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وَهُوَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الْمُتَبَايِنَيْنِ أَوِ الْمُخْتَصِمَيْنِ بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا لِيَتَرَاجَعَا إِلَى مَا فِيهِ الْأُلْفَةُ وَاجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَا وَعَدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , فَقَالَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
(7/481)
مَرْضَاةِ اللَّهِ} يَقُولُ: " وَمَنْ يَأْمُرْ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ , أَوْ يَصْلُحْ بَيْنَ النَّاسِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ , يَعْنِي طَلَبَ رِضَا اللَّهِ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] يَقُولُ: " فَسَوْفَ نُعْطِيهِ جَزَاءً لِمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ عَظِيمًا , وَلَا حَدَّ لِمَبْلَغِ مَا سَمَّى اللَّهُ عَظِيمًا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء: 114] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِي نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ. كأَنَّهُ عَطَفَ {مَنْ} [البقرة: 4] عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ الَّتِي فِي {نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] وَذَلِكَ خَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ إِلَّا لَا تَعْطِفُ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْهُ الْجَحْدُ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: قَدْ تَكُونُ {مِنْ} [البقرة: 4] فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ وَنَصْبٍ؛ وَأَمَّا الْخَفْضُ فَعَلَى قَوْلِكَ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] إِلَّا فِيمَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ , فَتَكُونُ النَّجْوَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هُمُ الرِّجَالُ الْمُنَاجُونَ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وَكَمَا قَالَ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47] وَأَمَّا النَّصَبُ , فَعَلَى أَنْ تَجْعَلَ النَّجْوَى فِعْلًا فَيَكُونَ نَصْبًا؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا , لِأَنَّهُ مِنْ خِلَافِ النَّجْوَى , فَيَكُونُ
(7/482)
ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر البسيط]
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُها ... عَيَّتْ جَوَابًا ومَا بِالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ
إِلَّا الْأَوَارِيُّ لَايًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلومَةِ الْجَلَدِ
وَقَدْ يَحْتَمِلُ {مِنْ} [البقرة: 4] عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا , كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أُنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ , أَنْ تَجْعَلَ مِنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالرَّدِّ عَلَى النَّجْوَى , وَتَكُونَ النَّجْوَى بِمَعْنَى جَمْعِ الْمُتَنَاجِينَ , خَرَجَ مَخْرَجَ السَّكْرَى وَالْجَرْحَى وَالْمَرْضَى , وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِيهِ , فَيَكُونَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَنَاجِينَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ النَّاسِ , إِلَّا فِيمَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ , أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ , فَإِنَّ أُولَئِكَ فِيهِمُ الْخَيْرُ
(7/483)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] وَمَنْ يُبَايِنِ الرَّسُولَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَادِيًا لَهُ , فَيُفَارِقَهُ عَلَى الْعَدَاوَةِ لَهُ {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ , وَأَنَّ مَا
(7/483)
جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ , وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. {وَيَتِّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] يَقُولُ: " وَيَتَّبِعْ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ أَهْلِ التَّصْدِيقِ , وَيَسْلُكُ مِنْهَاجًا غَيْرَ مِنْهَاجِهِمْ , وَذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ , لِأَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرُ مِنْهَاجِهِمْ {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] يَقُولُ: " نَجْعَلْ نَاصِرَهُ مَا اسْتَنْصَرَهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ , وَهِيَ لَا تُغْنِيهِ وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَنْفَعُهُ. كَمَا:
(7/484)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] قَالَ: «مِنْ آلِهَةِ الْبَاطِلِ»
(7/484)
حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ. {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] يَقُولُ: " وَنَجْعَلُهُ صِلَاءَ نَارِ جَهَنَّمَ , يَعْنِي نُحَرِّقُهُ بِهَا , وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الصِّلَى فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] يَقُولُ: " وَسَاءَتْ جَهَنَّمُ مَصِيرًا: مَوْضِعًا يَصِيرُ إِلَيْهِ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْخَائِنِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] لَمَّا أَبَى التَّوْبَةَ مِنْ أبَى مِنْهُمْ، وَهُوَ طِعْمَةُ بْنُ الْأُبَيْرِقِ، وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ بِمَكَّةَ مُرْتَدًّا مُفَارِقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ "
(7/484)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
(7/484)
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِطُعْمَةَ إِذْ أَشْرَكَ وَمَاتَ عَلَى شِرْكِهِ بِاللَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ بِشِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] يَقُولُ: " وَيَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ مِنَ الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشَاءُ , يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّ طُعْمَةَ لَوْلَا أَنَّهُ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَمَاتَ عَلَى شِرْكِهِ لَكَانَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خِيَانَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ , وَكَانَ إِلَى اللَّهِ أَمْرُهُ فِي عَذَابِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ. وكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَنِ اجْتَرَمَ جُرْمًا , فَإِلَى اللَّهِ أَمْرُهُ , إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُرْمُهُ شِرْكًا بِاللَّهِ وَكُفْرًا , فَإِنَّهُ مِمَّنْ حَتَّمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِذَا مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ , فَإِذَا مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ , فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ , وَمَأْوَاهُ النَّارُ
(7/485)
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] يَقُولُ: «مَنْ يَجْتَنِبِ الْكَبَائِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَمَنْ يَجْعَلْ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِ شَرِيكًا , فَقَدْ ذَهَبَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ , وَزَالَ عَنْ قَصَدِ السَّبِيلِ ذَهَابًا بَعِيدًا وَزَوَالًا شَدِيدًا. وَذَلِكَ أَنَّهُ بِإِشْرَاكِهِ بِاللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ , فَقَدْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَسَلَكَ طَرِيقَهُ وَتَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ وَمِنْهَاجَ دِينِهِ , فَذَاكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ وَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
(7/485)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يُدْعَونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا اللَّاتَ , وَالْعُزَّى , وَمَنَاةَ , فَسَمَّاهُنَّ اللَّهُ إِنَاثًا بِتَسْمِيَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُنَّ بِتَسْمِيَةِ الْإِنَاثِ "
(7/486)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ , قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ , فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] قَالَ: «اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ , كُلُّهَا مُؤَنَّثٌ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ , قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ , عَنْ حُصَيْنٍ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ بِنَحْوِهِ , إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كُلُّهُنَّ مُؤَنَّثٌ
(7/486)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] يَقُولُ: " يُسَمُّونَهُمْ إِنَاثًا: لَاتُ , وَمَنَاةُ , وَعُزَّى "
(7/486)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] قَالَ: " آلِهَتَهُمْ: اللَّاتُ , وَالْعُزَّى , وَيَسَافُ , [ص:487] وَنَائِلَةُ , هُمْ إِنَاثٌ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَرَأَ: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا مَوَاتًا لَا رُوحَ فِيهِ
(7/486)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] يَقُولُ: «مَيْتًا»
(7/487)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] أَيْ إِلَّا مَيْتًا لَا رُوحَ فِيهِ "
(7/487)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ , قَالَ: ثنا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ , عَنِ الْحَسَنِ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] قَالَ: " وَالْإِنَاثُ: كُلُّ شَيْءٍ مَيِّتٌ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ , خَشَبَةٌ يَابِسَةٌ , أَوْ حَجَرٌ يَابِسٌ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} [النساء: 119] " وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ
(7/487)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ , عَنِ الضَّحَّاكِ , فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] قَالَ: «الْمَلَائِكَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ أَهْلَ الْأَوْثَانِ كَانُوا يُسَمُّونَ أَوْثَانَهُمْ إِنَاثًا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ كَذَلِكَ
(7/488)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ , عَنْ أَبِي رَجَاءٍ , عَنِ الْحَسَنِ , قَالَ: كَانَ لِكُلِّ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ صَنَمٌ يُسَمُّونَهَا أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَيْفٍ أَبُو رَجَاءٍ الْحُدَّانِيُّ , قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: كَانَ لِكُلِّ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ , فَذَكَرَ نَحْوَهُ " وَقَالَ آخَرُونَ: الْإِنَاثُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْأَوْثَانُ
(7/488)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
(7/489)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {إِنَاثًا} [النساء: 117] قَالَ: «أَوْثَانًا» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ
(7/489)
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: كَانَ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أُثُنًا» , بِمَعْنَى جَمْعِ وَثَنٍ , فَكَأَنَّهُ جَمَعَ وَثَنًا وُثُنًا , ثُمَّ قَلَبَ الْوَاوَ هُمَزَةً مَضْمُومَةً , كَمَا قِيلَ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْأَجْوُهَ , بِمَعْنَى الْوُجُوهِ , وَكَمَا قِيلَ: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] بِمَعْنَى: وُقِّتَتْ. وذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ , أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أُنُثًا) , كَأَنَّهُ أَرَادَ جَمْعَ الْإِنَاثِ , فَجَمَعَهَا أُنُثًا , كَمَا تُجْمَعُ الثِّمَارُ ثُمُرًا.
(7/489)
وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] بِمَعْنَى جَمْعِ أُنْثَى , لِأَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مَصَاحِفَ الْمُسْلِمِينَ , وَلِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ إِذْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا وَصَفْتُ , تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ الْآلِهَةَ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ , وَيُسَمُّونَهَا بِالْإِنَاثِ مِنَ الْأَسْمَاءِ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَنَائِلَةَ وَمَنَاةَ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ , لِأَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ مَعَانِي الْإِنَاثِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا عُرِفَ بِالتَّأْنِيثِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَالْوَاجِبُ تَوْجِيهُ تَأْوِيلِهِ إِلَى الْأَشْهَرِ مِنْ مَعَانِيهِ , وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى , وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ,} [النساء: 115] {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] , يَقُولُ: مَا يَدْعُو الَّذِينَ يُشَاقُّونَ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ بَعْدَ اللَّهِ وَسِوَاهُ , إِلَّا إِنَاثًا , يَعْنِي: إِلَّا مَا سَمُّوهُ بِأَسْمَاءِ الْإِنَاثِ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَحَسْبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَعَبَدُوا مَا عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ , حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَذَهَابِهِمْ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ , أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إِنَاثًا وَيَدْعُونَهَا آلِهَةً وَأَرْبَابًا. وَالْإِنَاثُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَخَسُّهُ؛ فَهُمْ يُقِرُّونَ لِلْخَسِيسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْعُبُودِيَّةِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِخَسَاسَتِهِ , وَيَمْتَنِعُونَ مِنْ
(7/490)
إِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّذِي لَهُ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِيَدِهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
(7/491)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] وَمَا يَدْعُو هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَ هَذِهِ الْأَوْثَانَ الْإِنَاثَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِدُعَائِهِمْ إِيَّاهَا إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا , يَعْنِي مُتَمَرِّدًا عَلَى اللَّهِ فِي خِلَافِهِ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ. كَمَا:
(7/491)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] قَالَ: «تَمَرَّدَ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ»
(7/491)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء: 118] أَخْزَاهُ وَأَقْصَاهُ وَأَبْعَدَهُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا قَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ: {لَأَتَّخِذَنَّ} [النساء: 118] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ قَالَ لِرَبِّهِ إِذْ لَعَنَهُ: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] يَعْنِي بِالْمَفْرُوضِ: الْمَعْلُومَ؛ كَمَا:
(7/491)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ
(7/491)
الضَّحَّاكِ: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] قَالَ: «مَعْلُومًا» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَتَّخِذُ الشَّيْطَانُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ نَصِيبًا مَفْرُوضًا؟ قِيلَ: يَتَّخِذُ مِنْهُمْ ذَلِكَ النَّصِيبَ بِإِغْوَائِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ , وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ , وَتَزْيِينِهِ لَهُمُ الضُّلَالَ وَالْكُفْرَ , حَتَّى يُزِيلَهُمْ عَنْ مَنْهَجِ الطَّرِيقِ؛ فَمَنْ أَجَابَ دُعَاءَهُ وَاتَّبَعَ مَا زَيَّنَهُ لَهُ , فَهُوَ مِنْ نَصِيبِهِ الْمَعْلُومِ وَحَظِّهِ الْمَقْسُومِ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الشَّيْطَانِ مِنْ قِيلِهِ: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] لِيَعْلَمَ الَّذِينَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أَنَّهُمْ مِنْ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَعَنَهُ اللَّهُ الْمَفْرُوضِ , وَأَنَّهُ مِمَّنْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى اللَّعْنَةِ فِيمَا مَضَى , فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ
(7/492)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُضِلَنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانِ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَ