التفسير لابن جرير الطبري ج ص معتمد 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ تَكْرِيرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ اسْمَهُ مَعَ قَوْلِهِ: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210] ظَاهِرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْمُهُ ظَاهِرًا مَعَ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَمَّا زَيْدٌ فَذَهَبَ زَيْدٌ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف]
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فَأَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: لَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ هَذَا الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمَوْتِ الثَّانِي فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ كِنَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خَبَرُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210] فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِصَّتَيْنِ مُفَارِقٌ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْأُخْرَى مُكْتَفِيَةٌ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى الْأُخْرَى، وَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: «لَا أَرَى» الْمَوْتُ مُحْتَاجٌ إِلَى تَمَامِ الْخَبَرِ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَنَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤْخَذُ مَعَانِيهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ إِلَى الشَّوَاذِّ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَعَانِي وَلَهُ فِي الْفَصِيحِ مِنَ الْمَنْطِقِ وَالظَّاهِرِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَفْهُومِ وَجْهٌ صَحِيحٌ مَوْجُودٌ.
(5/670)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210] فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِلَى اللَّهِ مَصِيرُ أَمْرِ جَمِيعِ خَلْقِهِ الصَّالِحِ مِنْهُمْ، وَالطَّالِحِ وَالْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْهُ الْجَزَاءَ بِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُ أَحَدًا مِنْهُمْ
(5/671)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَخَاصَّةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(5/671)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ فِي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ»
(5/671)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ»
(5/671)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110][ص:672] قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَالَ» أَنْتُمْ «، فَكُنَّا كُلَّنَا،» وَلَكِنْ قَالَ: {كُنْتُمْ} [البقرة: 23] «فِي خَاصَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ صَنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ، كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»
(5/671)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عِكْرِمَةُ: «نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ»
(5/672)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ عُمَرُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «تَكُونُ لِأَوَّلِنَا، وَلَا تَكُونُ لِآخِرِنَا»
(5/672)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ»
(5/672)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَرَأَى مِنَ النَّاسِ رِعَةً سَيِّئَةً، فَقَرَأَ هَذِهِ: {كُنْتُمْ [ص:673] خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكِ الْأُمَّةِ، فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا»
(5/672)
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، يَعْنِي وَكَانُوا هُمُ الرُّوَاةَ الدُّعَاةَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، إِذْ كُنْتُمْ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي وَصَفَهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ بِهَا، فَكَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أُخْرِجُوا لِلنَّاسِ فِي زَمَانِكُمْ
(5/673)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] يَقُولُ: " عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، يَقُولُ: لِمَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ " كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]
(5/673)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: يَقُولُ: «كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، يَقُولُ لِمَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ» كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]
(5/674)
وَحَدَّثنا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَجِيئُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ، تُدْخِلُونَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ»
(5/674)
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأُمَمِ اسْتِجَابَةً لِلْإِسْلَامِ
(5/674)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «لَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ اسْتِجَابَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» فَمِنْ ثَمَّ [ص:675] قَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
(5/674)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «قَدْ كَانَ مَا تَسْمَعُ مِنَ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ»
(5/675)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعْدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: «نَحْنُ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَ الْحَسَنُ
(5/675)
وَذَلِكَ أَنَّ: يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّكُمْ وَفَّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمَّةٍ أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
(5/675)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا [ص:676] مَعْمَرٌ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: «أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةٍ أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
(5/675)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: «نَحْنُ نُكْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةٍ نَحْنُ آخِرُهَا وَخَيْرُهَا» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] فَإِنَّهُ يَعْنِي: تَأْمُرُونَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] يَعْنِي: وَتَنْهَوْنَ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ، وَعَنِ الْعَمَلِ بِمَا نَهَى عَنْهُ
(5/676)
كَمَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] يَقُولُ: " تَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هُوَ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْمُنْكَرُ: هُوَ التَّكْذِيبُ، وَهُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ " وَأَصْلُ الْمَعْرُوفِ: كُلُّ مَا كَانَ مَعْرُوفًا فَفِعْلُهُ جَمِيلٌ مُسْتَحْسَنٌ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ طَاعَةُ اللَّهِ مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَا [ص:677] يُسْتَنْكِرُونَ فِعْلَهُ، وَأَصْلُ الْمُنْكَرِ مَا أَنْكَرَهُ اللَّهُ، وَرَأَوْهُ قَبِيحًا فِعْلُهُ، وَلِذَلِكَ سُمَّيَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ مُنْكَرًا، لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ يَسْتَنْكِرُونَ فِعْلَهَا، وَيَسْتَعْظِمُونَ رُكُوبَهَا وَقَوْلُهُ: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] يَعْنِي: تُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ، فَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ. فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ: وَكَيْفَ قِيلَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، لِقَوْمٍ كَانُوا خِيَارًا فَتَغَيَّرُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ، كَمَا قِيلَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] ، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] فَإِدْخَالُ «كَانَ» فِي مِثْلِ هَذَا وَإِسْقَاطُهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعْرُوفٌ مَعْنَاهُ، وَلَوْ قَالَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ قَائِلٌ: كُنْتُمْ بِمَعْنَى التَّمَامِ، كَانَ تَأْوِيلُهُ: خُلِقَتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، أَوْ وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ اللَّذَانِ قُلْنَا أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ قَبْلُ. وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أَهْلِ طَرِيقَةٍ، وَقَالَ: الْأُمَّةُ الطَّرِيقَةُ
(5/676)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ صَدَّقَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الْيَهُودِ
(5/677)
وَالنَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، وَآجِلِ آخِرَتِهِمْ {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 110] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَخُوهُ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ وَأَخُوهُ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِمَّنْ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] يَعْنِي: الْخَارِجُونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ دِينِ الْيَهُودِ اتِّبَاعُ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالتَّصْدِيقُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ دِينِ النَّصَارَى اتِّبَاعُ مَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي كِلَا الْكِتَابَيْنِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتُهُ، وَمَبْعَثُهُ، وَأَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَكِلْتَا الْفِرْقَتَيْنِ، أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مُكَذِّبَةٌ، فَذَلِكَ فِسْقُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ عَنْ دِينِهِمُ الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِهِ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] وَقَالَ قَتَادَةُ
(5/678)
بِمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] «ذَمَّ اللَّهُ أَكْثَرَ النَّاسِ»
(5/678)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلِّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: لَنْ يَضُرَّكُمْ يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ [ص:679] وَرَسُولِهِ، هَؤُلَاءِ الْفَاسِقُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكُفْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا أَذًى، يَعْنِي بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ يُؤْذُونَكُمْ بِشِرْكِهِمْ، وَإِسْمَاعِكُمْ كُفْرَهُمْ، وَقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ وَعُزَيْرٍ، وَدُعَائِهِمْ إِيَّاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَلَا يَضُرُّونَكُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ الَّذِي هُوَ مُخَالِفٌ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا قِيلَ مَا اشْتَكَى شَيْئًا إِلَّا خَيْرًا، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مَحْكِيَّةٌ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(5/678)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111] يَقُولُ: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى تَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ»
(5/679)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111] قَالَ: «أَذًى تَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ»
(5/679)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111] قَالَ: «إِشِرْاكُهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَعِيسَى وَالصَّلِيبِ»
(5/679)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي [ص:680] قَوْلِهِ: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111] الْآيَةَ، قَالَ: «تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ، يَدْعُونَكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ»
(5/679)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلِّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَإِنْ يُقَاتِلْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يُهْزَمُوا عَنْكُمْ، فَيُوَلُّوكُمْ أَدْبَارَهُمُ انْهِزَامًا، فَقَوْلُهُ: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} [آل عمران: 111] كِنَايَةٌ عَنِ انْهِزَامِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يُحَوِّلُ ظَهْرَهُ إِلَى جِهَةِ الطَّالِبِ هَرَبًا إِلَى مَلْجَأٍ، وَمَوْئِلٍ يَئِلُ إِلَيْهِ مِنْهُ، خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَالطَّالِبُ فِي أَثَرِهِ، فَدُبُرُ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُحَاذِيَ وَجْهِ الطَّالِبِ الْهَازِمَةِ {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] يَعْنِي: ثُمَّ لَا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْكُمْ لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِيمَانِكُمْ بِمَا آتَاكُمْ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ كَائِدِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِكُمْ. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ نَصْرَهُمْ عَلَى الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا رُفِعَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] وَقَدْ جُزِمَ قَوْلُهُ: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} [آل عمران: 111] عَلَى جَوَابِ الْجَزَاءِ ائْتِنَافًا لِلْكَلَامِ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ الْآيَاتِ قَبْلَهَا بِالنُّونِ، فَأَلْحَقَ هَذِهِ بِهَا، كَمَا قَالَ: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] رَفْعًا، وَقَدْ
(5/680)
قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] إِذْ لَمْ يَكُنْ رَأْسَ آيَةٍ
(5/681)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران: 112] أُلْزِمُوا الذِّلَّةَ، وَالذِّلَّةُ: الْفِعْلَةُ مِنَ الذُّلِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب: 61] يَعْنِي: حَيْثُمَا لُقُوا، يَقُولُ جَلَّ ثناؤُهُ: أُلْزِمَ الْيَهُودُ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّلَّةَ أَيْنَمَا كَانُوا مِنَ الْأَرْضِ، وَبِأَيِّ مَكَانٍ كَانُوا مِنْ بِقَاعِهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
(5/681)
كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا هَوْذَةُ، قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} قَالَ: «أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَإِنَّ الْمَجُوسَ لَتُجِبُيهُمُ الْجِزْيَةُ»
(5/681)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قُلْ: ثنا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ [ص:682] اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} قَالَ: «أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ» وَأَمَّا الْحَبْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَأَمَانٍ تَقَدَّمَ لَهُمْ عَقْدُهُ قَبْلَ أَنْ يُثْقَفُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
(5/681)
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112] قَالَ: «بِعَهْدٍ» {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] قَالَ: «بِعَهْدِهِمْ»
(5/682)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} يَقُولُ: «إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
(5/682)
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ: يَقُولُ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] قَالَ: «بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ»
(5/682)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] يَقُولُ: «إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ»
(5/683)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] يَقُولُ: «إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ»
(5/683)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} " فَهُوَ عَهْدٌ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٌ مِنَ النَّاسِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: ذِمَّةُ اللَّهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ الْمِيثَاقُ "
(5/683)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} قَالَ: «بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ»
(5/683)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ " الْعَهْدُ: حَبْلُ اللَّهِ "
(5/683)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} قَالَ: " إِلَّا بِعَهْدٍ وَهُمْ يَهُودُ، قَالَ: وَالْحَبْلُ: الْعَهْدُ " قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَتْهُ الْأَنْصَارُ فِي الْعَقَبَةِ: " أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّا قَاطِعُونَ فِيكَ حِبَالًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ، يَقُولُ: عُهُودًا " قَالَ: " وَالْيَهُودُ لَا يَأْمَنُونَ فِي أَرْضٍ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ إِلَّا بِهَذَا الْحَبْلِ الَّذِي [ص:684] لِلَّهِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] ، قَالَ: فَلَيْسَ بَلَدٌ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا وَهُمْ فَوْقَ يَهُودَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ هُمْ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا مُسْتَذَلُّونَ، قَالَ اللَّهُ: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 168] يَهُودُ "
(5/683)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] يَقُولُ: «بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ» حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَلَبَ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: الَّذِي جَلَبَ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: {بِحَبْلٍ} [آل عمران: 103] فِعْلٌ مُضْمَرٌ قَدْ تُرِكَ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، فَأُضْمِرَ ذَلِكَ، وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]
رَأَتْنِي بِحَبْلَيْهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ فَرُوقُ
(5/684)
وَقَالَ: أَرَادَ: أَقْبَلَتْ بِحَبْلَيْهَا، وَبِقَوْلِ الْآخَرِ:
[البحر الوافر]
حَنَتْنِي حَانِيَاتُ الدَّهْرِ حَتَّى ... كَأَنِّي خَاتِلٌ أَحْنُو لِصَيْدِ
فَأَوْجَبَ إِعْمَالَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَإِظْهَارَ صِلَتِهِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَذَلِكَ فِي مَذَاهِبِ الْعَرَبِيَّةِ ضَعِيفٌ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ بَعِيدٌ، وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ لِقَوْلِهِ مِنَ الْأَبْيَاتِ، فَغَيْرُ دَالٍ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: «رَأَتْنِي بِحَبْلَيْهَا» دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهَا رَأَتْهُ بِالْحَبَلِ مُمْسِكًا، فَفِي إِخْبَارِهِ عَنْهَا أَنَّهَا رَأَتْهُ بِحَبْلَيْهَا إِخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا رَأَتْهُ مُمْسِكًا بِالْحَبْلَيْنِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ مُسْتَغْنًى عَنْ ذِكْرِ الْإِمْسَاكِ، وَكَانَتِ الْبَاءُ صِلَةً لِقَوْلِهِ: «رَأَتْنِي» ، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا بِاللَّهِ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ، وَمَعْرِفَةُ السَّامِعِ مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُحْتَاجَةً إِلَى كَلَامٍ يَكُونُ لَهَا جَالِبًا غَيْرَ الَّذِي ظَهَرَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَا بِاللَّهِ مُسْتَعِينٌ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: قَوْلُهُ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112] اسْتِثْنَاءٌ
(5/685)
خَارِجٌ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَشَدَّ مِنْ قَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا: أَيْ بِكُلِّ مَكَانٍ، إِلَّا بِمَوْضِعِ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا تَقُولُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي الْأَمْكِنَةِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا أَيْضًا طَلَبَ الْحَقَّ، فَأَخْطَأَ الْمُفَصَّلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا كَمَا زَعَمَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ إِذَا ثُقِفُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةَ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ أَيْنَمَا ثُقِفُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَيْرِ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، فَالذِّلَّةُ مَضْرُوبَةٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَبْلُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ إِذَا ثُقِفُوا بِعَهْدٍ وَذِمَّةٍ أَنْ لَا تَكُونَ الذِّلَّةُ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ خِلَافُ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَتِهِمْ، وَخِلَافُ مَا هُمْ بِهِ مِنَ الصِّفَةِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَيْضًا بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ عِنْدَنَا أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112] أُدْخِلَتْ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مُقْتَضٍ فِي الْمَعْنَى الْبَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ بِكُلِّ مَكَانٍ ثُقِفُوا، ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بِالْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى
(5/686)
الِانْقِطَاعِ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنْ يُثْقَفُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قِيلَ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} فَالْخَطَأُ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا بِمَا عَمِلَ فِيمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ بِمَعْنَى إِلَّا خَطَأً، فَإِنَّ لَهُ قَتْلَهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: وَلَكِنْ قَدْ يَقْتُلُهُ خَطَأً، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَبَ الْبَاءَ الَّتِي بَعْدَ إِلَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَقْتَضِيهَا قَبْلَ إِلَّا، فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالَّذِي قَبْلَهُ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا لُقُوا، فَالذِّلَّةُ زَائِلَةٌ عَنْهُمْ، بَلِ الذِّلَّةُ ثَابِتَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ مَا بَيَّنَّا آنِفًا
(5/687)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وَتَحَمَّلُوا غَضَبَ اللَّهِ، فَانْصَرَفُوا بِهِ مُسْتَحِقِّيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ، وَمَعْنَى الْمَسْكَنَةِ، وَأَنَّهَا ذُلُّ الْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ وَخُشُوعُهُمَا، وَمَعْنَى الْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 61] يَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ: أَيْ بَوْؤُهُمُ الَّذِي بَاءُوا بِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ بَدَلًا مِمَّا كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، يَقُولُ: مِمَّا كَانُوا يَجْحَدُونَ أَعْلَامَ اللَّهِ وَأَدِلَّتَهُ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ، وَمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ
(5/687)
حَقٍّ} [آل عمران: 112] يَقُولُ: وَبِمَا كَانُوا يَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَرُسُلَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، اعْتِدَاءً عَلَى اللَّهِ، وَجَرَاءَةً عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَبِغَيْرِ حَقٍّ اسْتَحَقُّوا مِنْهُمُ الْقَتْلَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: أُلْزِمُوا الذِّلَّةَ بِأَيِّ مَكَانٍ لُقُوا إِلَّا بِذِمَّةٍ مِنَ اللَّهِ وَذِمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْصَرَفُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مُتَحَمِّلِيهِ، وَأُلْزِمُوا ذُلَّ الْفَاقَةِ، وَخُشُوعَ الْفَقْرِ، بَدَلًا مِمَّا كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأَدِلَّتِهِ وَحُجَجِهِ وَيَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا وَاعْتِدَاءً
(5/688)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ، فَأَعْلَمَ رَبُّنَا جَلَّ ثناؤُهُ عِبَادَهُ، مَا فَعَلَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ إِحْلَالِ الذِّلَّةِ وَالْخِزْيِ بِهِمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، مَعَ مَا ادَّخَرَ لَهُمْ فِي الْأَجَلِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَأَلِيمِ الْعَذَابِ، إِذْ تَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ تَذْكِيرًا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَوْضِعِ الْبَلَاءِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ أَتَوْا لِيُنِيبُوا وَيَذَّكَّرُوا وَعِظَةً مِنْهُ لِأُمَّتِنَا أَنْ لَا يَسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِمْ، وَيَرْكَبُوا مِنْهَاجَهُمْ، فَيُسْلَكَ بِهِمْ مَسَالِكَهُمْ، وَيُحِلَّ بِهِمْ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ وَمَثُلَاتِهِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ
(5/688)
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] «اجْتَنِبُوا الْمَعْصِيَةَ وَالْعُدْوَانَ، فَإِنَّ بِهِمَا أُهْلِكَ مَنْ أُهْلِكَ قَبْلَكُمْ مِنَ النَّاسِ»
(5/689)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثناؤُهُ: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113] لَيْسَ فَرِيقَا أَهْلِ الْكِتَابِ، أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَالْكُفْرِ سَوَاءً، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَسَاوِينَ، يَقُولُ: لَيْسُوا مُتَعَادِلِينَ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَإِنَّمَا قِيلَ: لَيْسُوا سَوَاءً؛ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] ، ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ عَنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ، عِنْدَهُ، الْمُؤْمِنَةِ مِنْهُمَا وَالْكَافِرَةِ، فَقَالَ: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113] أَيْ لَيْسَ هَؤُلَاءِ سَوَاءً، الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُونَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ عَنْ صِفَةِ الْفِرْقَةِ الْمُؤْمِنَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَدَحَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بَعْدَمَا وَصَفَ الْفِرْقَةَ الْفَاسِقَةَ مِنْهُمْ بِمَا وَصَفَهَا بِهِ مِنَ الْهَلَعِ وَنَخْبِ الْجَنَانِ، وَمُحَالَفَةِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَمُلَازَمَةِ الْفَاقَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَتَحَمُّلِ خِزْيِ الدُّنْيَا وَفَضِيَحِةِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115]
(5/689)
فَقَوْلُهُ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] وَقَدْ تَوَهَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْمُقَدَّمِينَ مِنْهُمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ أَنَّ مَا بَعْدَ سَوَاءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] تَرْجَمَةٌ عَنْ سَوَاءٍ، وَتَفْسِيرٌ عَنْهُ بِمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذِكْرَ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى تُرِكَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ، وَهِيَ الْأُمَّةُ الْقَائِمَةُ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
[البحر الطويل]
عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
وَلَمْ يَقُلْ: «أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ» اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ: «أَرُشْدٌ» مِنْ ذِكْرِ «أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ» وَبِقَوْلِ الْآخَرِ:
[البحر الطويل]
أَزَالُ فَلَا أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتَهُ ... وَذُو الْهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ قَوْلُ الْقَائِلِ الْمُرِيدِ أَنْ يَقُولَ: سَوَاءٌ أَقُمْتُ أَمْ قَعَدْتُ، سَوَاءٌ أَقُمْتُ حَتَّى يَقُولَ أَمْ قَعَدْتُ، وَإِنَّمَا يُجِيزُونَ حَذْفَ الثَّانِي فِيمَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ مُكْتَفِيًا بِوَاحِدٍ دُونَ مَا كَانَ نَاقِصًا عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ نَحْوَ مَا أُبَالِي أَوْ مَا أَدْرِي، فَأَجَازُوا فِي ذَلِكَ مَا أُبَالِي أَقُمْتُ، وَهُمْ يُرِيدُونَ: مَا أُبَالِي أَقُمْتُ أَمْ قَعَدْتُ، لِاكْتِفَاءِ مَا أُبَالِي بِوَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ فِي مَا أَدْرِي، وَأَبَوُا الْإِجَازَةَ فِي
(5/690)
سَوَاءٍ مِنْ أَجْلِ نُقْصَانِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِوَاحِدٍ، فَأَغْفَلُوا فِي تَوْجِيهِهِمْ قَوْلَهُ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ إِلَى مَا وَجَّهُوهُ إِلَيْهِ مَذَاهِبَهُمْ فِي الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ أَجَازُوا فِيهِ مِنَ الْحَذَفِ مَا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ فِي الْكَلَامِ مَعَ سَوَاءٍ، وَأَخْطَئُوا تَأْوِيلَ الْآيَةِ، فَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى التَّمَامِ وَالِاكْتِفَاءِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ، نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ
(5/691)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ وَمَنَحُوا فِيهِ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا تَبِعَهُ إِلَّا أَشْرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارِنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113] إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114] " [ص:692] حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ
(5/691)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] الْآيَةَ، يَقُولُ: «لَيْسَ كُلُّ الْقَوْمِ هَلَكَ، قَدْ كَانَ لِلَّهِ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ»
(5/692)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَلَامٍ أَخُوهُ، وَسَعْيَةُ، وَمُبَشِّرٌ، وَأُسَيْدٌ وَأَسَدٌ ابْنَا كَعْبٍ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَمَةُ مُحَمَّدٍ الْقَائِمَةُ بِحَقِّ اللَّهِ سَوَاءً عِنْدَ اللَّهِ
(5/692)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] قَالَ: «لَا يَسْتَوِي أَهْلُ الْكِتَابِ، [ص:693] وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
(5/692)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] الْآيَةَ، يَقُولُ: «لَيْسَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَمِثْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ قَائِمَةٌ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: قَدْ تَمَّتِ الْقِصَّةُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113] عَنْ إِخْبَارِ اللَّهِ بِأَمْرِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] خَبَرٌ مُبْتَدَأٌ عَنْ مَدْحِ مُؤْمِنِيهِمْ، وَوَصْفِهِمْ بِصِفَتِهِمْ، عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَيَعْنِي جَلَّ ثناؤُهُ بِقَوْلِهِ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] جَمَاعَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الْأُمَّةِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا الْقَائِمَةُ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا: الْعَادِلَةُ
(5/693)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] مَنْ قَالَ: «عَادِلَةٌ» [ص:694] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهَا قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ
(5/693)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] يَقُولُ: «قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ»
(5/694)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] يَقُولُ: «قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ»
(5/694)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَّى أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] يَقُولُ: «أُمَّةٌ مُهْتَدِيَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَمْ تَنْزِعْ عَنْهُ وَتَتْرُكْهُ كَمَا تَرَكَهُ الْآخَرُونَ وَضَيَّعُوهُ» وَقَالَ آخَرُونَ. بَلْ مَعْنَى قَائِمَةٍ: مُطِيعَةٌ
(5/694)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] الْآيَةَ، يَقُولُ: «لَيْسَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، كَمِثْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ قَانِتَةٌ لِلَّهِ، وَالْقَانِتَةُ الْمُطِيعَةُ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَنْ قَالَ [ص:695] بِقَوْلِهِمَا عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ سَائِرُ الْأَقْوَالِ الْأُخَرِ مُتَقَارِبَةَ الْمَعْنَى مِنْ مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى الْهُدَى، وَكِتَابِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ، وَشَرَائِعِ دِينِهِ، بِالْعَدْلِ وَالطَّاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ مِنْ صِفَةِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا» فَالْقَائِمُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُعْتَصِمَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَمَسِّكَةٌ بِهِ، ثَابِتَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَمَا سَنَّ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(5/694)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113] يَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {آيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 231] مَا أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، يَقُولُ: يَتْلُونَ ذَلِكَ آنَاءَ اللَّيْلِ، يَقُولُ: فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، فَيَتَدَبَّرُونَهُ وَيَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، وَأَمَّا {آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] فَسَاعَاتُ اللَّيْلِ، وَاحِدُهَا: إِنْي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط]
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقَدَحِ مِرَّتَهُ ... فِي كُلِّ إِنْيٍ قَضَاهُ اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ
[ص:696] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ وَاحِدَ الْآنَاءِ: إِنْي مَقْصُورٌ، كَمَا وَاحِدُ الْأَمْعَاءِ: مِعًى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: سَاعَاتُ اللَّيْلِ، كَمَا قُلْنَا
(5/695)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] «أَيْ سَاعَاتُ اللَّيْلِ»
(5/696)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: {آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] «سَاعَاتُ اللَّيْلِ»
(5/696)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَّى حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: " سَمِعْنَا الْعَرَبَ تَقُولُ: {آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] سَاعَاتُ اللَّيْلِ " وَقَالَ آخَرُونَ {آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] جَوْفُ اللَّيْلِ
(5/696)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَتْلُونَ آيَاتٍ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] أَمَّا آنَاءُ اللَّيْلِ: فَجَوْفُ اللَّيْلِ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ قَوْمًا كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ
(5/696)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] «صَلَاةُ الْعَتَمَةِ، هُمْ يُصَلُّونَهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُصَلِّيهَا»
(5/697)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِهِ وَنِسَائِهِ، فَلَمْ يَأْتِنَا لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَ لَيْلٌ، فَجَاءَ وَمِنَّا الْمُصَلِّي وَمِنَّا الْمُضْطَجِعُ، فَبَشَّرَنَا وَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]
(5/697)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ الْعِشَاءَ يُرِيدُ الْعَتَمَةَ فَقَالَ لَنَا: «مَا عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَنْتَظِرُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ غَيْرُكُمْ» قَالَ: [ص:698] فَنَزَلَتْ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
(5/697)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] «فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، بِأَنَّهُمْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَهِيَ آنَاؤُهُ، وَقَدْ يَكُونُ تَالِيهَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ تَالِيًا لَهَا آنَاءَ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَلَاهَا فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَمَنْ تَلَاهَا جَوْفَ اللَّيْلِ، فَكُلُّ تَالٍ لَهُ سَاعَاتَ اللَّيْلِ غَيْرَ أَنَّ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يُصَلِّيَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَوَصَفَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى [ص:699] السُّجُودِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمُ الصَّلَاةِ لَا السُّجُودُ؛ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَكُونُ فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الرُّكُوعِ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ فِيهَا، فَالسُّجُودُ هُوَ السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ
(5/698)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [آل عمران: 114] يُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ؛ وَلَيْسُوا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَيُنْكِرُونَ الْمُجَازَاةَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَقَوْلُهُ: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] يَقُولُ: يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] يَقُولُ: وَيَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ تَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران: 114] يَقُولُ: وَيَبْتَدِرُونَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ مُعَاجَلَتِهِمْ مَنَايَاهُمْ.
(5/699)
ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ مِنْ عِدَادِ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَاسِقًا قَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، لِكُفْرِهِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِصْيَانِهِ رَبَّهُ، وَاعْتِدَائِهِ فِي حُدُودِهِ
(5/700)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] جَمِيعًا، رَدًّا عَلَى صِفَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ جَلَّ ثناؤُهُ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِالتَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ) بِمَعْنَى: وَمَا تَفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يَكْفُرُكُمُوهُ رَبُّكُمْ، وَكَانَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ جَائِزًا بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] بِالْيَاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا، يَعْنِي بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ التَّالِيَةِ آيَاتِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْآيَاتِ خَبَرٌ عَنْهُمْ، فَإِلْحَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنْ صِفَتِهِمْ بِمَعَانِي الْآيَاتِ
(5/700)
قَبْلَهَا أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا عَنْ مَعَانِي مَا قَبْلَهَا، وَبِالَّذِي اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ
(5/701)
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُمَا جَمِيعًا بِالْيَاءِ» فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا عَلَى مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ: وَمَا تَفْعَلْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ خَيْرٍ، وَتَعْمَلْ مِنْ عَمَلٍ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا فَلَنْ يَكْفُرَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ: فَلَنْ يُبْطِلَ اللَّهُ ثَوَابَ عَمَلِهِمْ ذَلِكَ، وَلَا يَدَعَهُمْ بِغَيْرِ جَزَاءٍ مِنْهُ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُجْزِلُ لَهُمُ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، وَيُسْنِي لَهُمُ الْكَرَامَةَ وَالْجَزَاءَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى الْكُفْرِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ، وَأَنَّ أَصْلَهُ تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] فَلَنْ يُغَطَّى عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ، فَيُتْرَكُوا بِغَيْرِ مُجَازَاةٍ، وَلَكِنَّهُمْ يُشْكَرُونَ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ، فَيُجْزَلُ لَهُمُ الثَّوَابُ فِيهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
(5/701)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ) يَقُولُ: «لَنْ يُضَلَّ عَنْكُمْ» [ص:702] حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِمِثْلِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115] فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنِ اتَّقَاهُ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَحَافَظٌ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ حَتَّى يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُجَازِيَهُمْ بِهَا تَبْشِيرًا مِنْهُ لَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، وَحَضًّا لَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي ارْتَضَاهَا لَهُمْ
(5/701)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116] وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْأُمَّةِ الْأُخْرَى الْفَاسِقَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ وَأَنَّهُمْ قَدْ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْهُ، وَلِمَنْ كَانَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] يَعْنِي الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبُوا بِهِ، وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10] يَعْنِي: لَنْ تَدْفَعَ أَمْوَالُهُ الَّتِي جَمَعَهَا فِي الدُّنْيَا وَأَوْلَادُهُ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ أَخَّرَهَا لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا فِي الدُّنْيَا إِنْ عَجَّلَهَا لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا خَصَّ أَوْلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الرَّجُلِ أَقْرَبُ أَنْسِبَائِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى مَالِهِ أَقْرَبُ مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ، وَأَمْرُهُ فِيهِ أَجْوَزُ مِنْ أَمْرِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ وَمَالُهُ الَّذِي هُوَ نَافِذُ الْأَمْرِ فِيهِ، فَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَسَائِرِ
(5/702)
أَنْسِبَائِهِ وَأَمْوَالِهِمْ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ تُغْنِيَ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا بِقَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة: 217] ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أَصْحَابُهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُفَارِقُونَهَا، كَصَاحِبِ الرَّجُلِ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ وَقَرِينِهِ الَّذِي لَا يُزَايِلُهُ، ثُمَّ وَكَّدَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، صُحْبَتُهُمْ إِيَّاهَا صُحْبَةٌ لَا انْقِطَاعَ لَهَا، إِذْ كَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُفَارِقُ صَاحِبَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَيُزَايِلُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صُحْبَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّارَ الَّتِي أُصْلُوهَا، وَلَكِنَّهَا صُحْبَةٌ دَائِمَةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِمَّا قَرَّبَ مِنْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ
(5/703)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: شِبْهُ مَا يُنْفِقُ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ شِبْهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ الْكَافِرُ مِنْ مَالِهِ، فَيُعْطِيهِ مَنْ يُعْطِيهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى رَبِّهِ، وَهُوَ لِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ جَاحِدٌ وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَذِّبٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ نَافِعِهِ مَعَ كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ مُضْمَحِلٌّ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ ذَاهِبٌ بَعْدَ الَّذِي كَانَ يَرْجُو مِنْ عَائِدَةِ نَفْعِهِ عَلَيْهِ، كَشِبْهِ رِيحٍ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ {أَصَابَتْ} [آل عمران: 117] هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي فِيهَا الْبَرْدُ الشَّدِيدُ {حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران: 117] يَعْنِي زَرْعَ قَوْمٍ، قَدْ أَمَّلُوا إِدْرَاكَهُ، وَرَجَوْا رِيعَهُ وَعَائِدَةَ نَفْعِهِ، {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117] يَعْنِي أَصْحَابَ الزَّرْعِ، عَصَوُا اللَّهَ، وَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ {فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117] يَعْنِي فَأَهْلَكَتِ الرِّيحُ الَّتِي فِيهَا الصِّرُّ زَرْعَهُمْ ذَلِكَ، بَعْدَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَلِ، وَرَجَاءَ عَائِدَةِ نَفْعِهِ عَلَيْهِمْ،
(5/703)
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَذَلِكَ فِعْلُ اللَّهِ بِنَفَقَةِ الْكَافِرِ وَصَدَقَتِهِ فِي حَيَاتِهِ حِينَ يَلْقَاهُ يُبْطِلُ ثَوَابَهَا، وَيُخَيِّبُ رَجَاءَهُ مِنْهَا، وَخَرَجَ الْمَثَلُ لِلنَّفَقَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ صَنِيعَ اللَّهِ بِالنَّفَقَةِ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] فَهُوَ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي مِثَلِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَثَلُ إِبْطَالِ اللَّهِ أَجْرَ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَثَلِ رِيحٍ صِرٍّ. وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُ ذِكْرِ إِبْطَالِ اللَّهِ أَجْرَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] وَلِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ ذَلِكَ مَعْنَاهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى النَّفَقَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النَّفَقَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي النَّاسِ
(5/704)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 117] قَالَ: «نَفَقَةُ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ قَوْلُهُ الَّذِي يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ مِمَّا لَا يُصَدِّقُهُ بِقَلْبِهِ
(5/704)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثني أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117] يَقُولُ: «مَثَلُ مَا يَقُولُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَمَثَلِ هَذَا الزَّرْعِ إِذَا زَرَعَهُ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ، فَأَصَابَهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْهُ فَأَهْلَكَتْهُ، فَكَذَلِكَ أَنْفَقُوا فَأَهْلَكَهُمْ شِرْكُهُمْ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَبْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا تَأْوِيلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا الصِّرُّ، فَإِنَّهُ شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَذَلِكَ بِعُصُوفٍ مِنَ الشَّمَالِ فِي إِعْصَارِ الطَّلِّ وَالْأَنْدَاءِ فِي صَبِيحَةٍ مُعْتِمَةٍ بِعَقَبِ لَيْلَةٍ مُصْحِيَةٍ
(5/705)
كَمَا: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، يَقُولُ: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] قَالَ: «بَرْدٌ شَدِيدٌ»
(5/705)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] قَالَ: «بَرْدٌ شَدِيدٌ وَزَمْهَرِيرُ»
(5/705)
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] يَقُولُ: «بَرْدٌ»
(5/706)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " الصِّرُّ: الْبَرْدُ "
(5/706)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] «أَيْ بَرْدٌ شَدِيدٌ» حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ
(5/706)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي الصِّرِّ: «الْبَرْدُ الشَّدِيدُ»
(5/706)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثنا عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] يَقُولُ: «رِيحٌ فِيهَا بَرْدٌ»
(5/706)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] قَالَ: " صِرٌّ بَارِدَةٌ أَهْلَكَتْ حَرْثَهُمْ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَدَعُوهَا الضَّرِيبَ: تَأْتِي الرِّيحُ بَارِدَةً فَتُصْبِحُ ضَرِيبًا قَدْ أَحْرَقَ الزَّرْعَ، تَقُولُ: «قَدْ ضُرِبَ اللَّيْلَةَ» أَصَابَهُ ضَرِيبُ تِلْكَ الصِّرِّ الَّتِي أَصَابَتْهُ "
(5/706)
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] قَالَ: «رِيحٌ فِيهَا بَرْدٌ» يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: وَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مَا فَعَلَ بِهِمْ، مِنْ إِحْبَاطِهِ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ، وَإِبْطَالِهِ أُجُورَهَا ظُلْمًا مِنْهُ لَهُمْ، يَعْنِي: وَضْعًا مِنْهُ لِمَا فَعَلَ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، بَلْ وَضَعَ فَعْلَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَفَعَلَ بِهِمْ مَا هُمْ أَهْلُهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمُ الَّذِي عَمِلُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ، وَهُمْ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ دَائِنُونَ وَلِأَمْرِهِ مُتَّبِعُونَ، وَلِرُسُلِهِ مُصَدَّقُونَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَهُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَلِأَمْرِهِ مُخَالِفُونَ، وَلِرُسُلِهِ مُكَذِّبُونَ، بَعْدَ تَقَدُّمٍ مِنْهُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا مِنْ عَامِلٍ إِلَّا مَعَ إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لَهُ، وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، وَتَصْدِيقِ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ، وَتَوْكِيدِهِ الْحُجَجَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ مَا فَعَلَ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ مِنْ إِحْبَاطِ وَافِرِ عَمَلِهِ لَهُ ظَالِمًا، بَلْ الْكَافِرُ هُوَ الظَّالِمُ نَفْسَهُ لِإِكْسَابِهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَخِلَافِ أَمْرِهِ مَا أَوْرَدَهَا بِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَأَصْلَاهَا بِهِ سَعِيرَ سَقَرَ
(5/707)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يِأَلْوُنَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] يَقُولُ: لَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ وَأَصْدِقَاءَ
(5/707)
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ دُونِكُمْ، يَقُولُ: مِنْ دُونِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْبِطَانَةَ مَثَلًا لِخَلِيلِ الرَّجُلِ فَشَبَّهَهُ بِمَا وَلِيَ بَطْنَهُ مِنْ ثِيَابِهِ لِحُلُولِهِ مِنْهُ فِي اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِهِ، وَمَا يَطْوِيهِ عَنْ أَبَاعِدِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَقَارِبِهِ، مَحَلَّ مَا وَلِيَ جَسَدَهُ مِنْ ثِيَابَهُ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ بِهِ أَخِلَّاءَ وَأَصْفِيَاءَ ثُمَّ عَرَّفَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَهُمْ مُنْطَوُونَ مِنَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ، وَبَغْيَهُمْ إِيَّاهُمُ الْغَوَائِلَ، فَحَذَّرَهُمْ بِذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] يَعْنِي لَا يَسْتَطِيعُونَ شَرًّا، مِنْ أَلَوْتُ آلُو أُلُوًّا، يُقَالُ: مَا أَلَا فُلَانٌ كَذَا، أَيْ مَا اسْتَطَاعَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الكامل]
جَهْرَاءُ لَا تَأْلُو إِذَا هِيَ أَظْهَرَتْ ... بَصَرًا وَلَا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِينِي
يَعْنِي لَا تَسْتَطِيعُ عِنْدَ الظُّهْرِ إِبْصَارًا. وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] الْبِطَانَةُ الَّتِي نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِهَا مِنْ دُونِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْبِطَانَةَ لَا تَتْرُكُكُمْ طَاقَتُهَا خَبَالًا: أَيْ لَا تَدَعُ جَهَدَهَا فِيمَا أَوْرَثَكُمُ الْخَبَالَ وَأَصْلُ الْخَبَالِ، وَالْخَبَالُ: الْفَسَادُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُصِيبَ بَخَبَلٍ أَوْ جِرَاحٍ»
(5/708)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَدُّوا عَنَتَكُمْ، يَقُولُ: يَتَمَنَّوْنَ لَكُمُ الْعَنَتَ وَالشَّرَّ فِي دِينِكُمْ وَمَا يَسُوءُكُمْ وَلَا يَسُرُّكُمْ. ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخَالِطُونَ حُلَفَاءَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ مِنْهُمْ، وَيُصَافُونَهُمُ الْمَوَدَّةَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَسْتَنْصِحُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ
(5/709)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنَ الْيَهُودِ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحَلِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ، فَنَهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ تَخَوُّفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] إِلَى قَوْلِهِ: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119]
(5/709)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] «فِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ»
(5/709)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] «نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَدْخِلُوا الْمُنَافِقِينَ أَوْ يُؤَاخُوهُمْ، أَيْ يَتَوَلَّوْهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ»
(5/710)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] «هُمُ الْمُنَافِقُونَ»
(5/710)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] يَقُولُ: «لَا تَسْتَدْخِلُوا الْمُنَافِقِينَ، تَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ»
(5/710)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» قَالَ: فَلَمْ نَدْرِ مَا ذَلِكَ حَتَّى أَتَوُا الْحَسَنَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: «لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ «مُحَمَّدٌ» ؛ وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَلَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ» ، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْمُشْرِكِينَ، يَقُولُ: لَا تَسْتَشِيرُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118]
(5/710)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ