فتح القدير للكمال ابن الهمام 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
 
وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ عَنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
«أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ فَرَوَوْهُ عَنْهُ.
وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ مِيقَاتَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَابْنُ عَوْنٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ نَافِعٍ، وَكَذَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا عُهِدَ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ: لَا يُعْلَمُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَدِّهِ، وَلَا أَنَّهُ لَقِيَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ جَدِّهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَفِيهِ «وَلِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْت لِعَطَاءٍ: إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَقِّتْ ذَاتَ عِرْقٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ مَشْرِقٍ يَوْمئِذٍ فَقَالَ: كَذَلِكَ سَمِعْنَا «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ» ، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمِنْ طَرِيقِ الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ عِرْقٍ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ مَشْرِقٍ حِينَئِذٍ فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ ذَاتَ عِرْقٍ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَحْسِبُهُ إلَّا كَمَا قَالَ طَاوُسٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " قَالَ لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهِيَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا وَإِنَّا إذَا أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ: اُنْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ
" قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: الْمِصْرَانِ هُمَا الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ وَحَذْوُهُمَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مُجْتَهَدٌ فِيهَا لَا مَنْصُوصَةٌ اهـ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَبْلُغْهُ تَوْقِيتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ عِرْقٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَحَادِيثُ بِتَوْقِيتِهِ حَسَنَةً فَقَدْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ تَوْقِيتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِلَّا فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ (قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ مِنْ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ بِالْإِجْمَاعِ) عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَقَدْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ أَتَى مِيقَاتًا مِنْهَا لِقَصْدِ مَكَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ سَوَاءٌ كَانَ يَمُرُّ بَعْدَهُ عَلَى مِيقَاتٍ آخَرَ أَمْ لَا، لَكِنَّ الْمَسْطُورَ خِلَافُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ كَلَامِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ
(2/425)
 
 
أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
جَاوَزَ وَقْتَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ. وَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ.
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ مِنْ وَقْتِهِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ اهـ. وَمِنْ الْفُرُوعِ: الْمَدَنِيُّ إذَا جَاوَزَ إلَى الْجُحْفَةِ فَأَحْرَمَ عِنْدَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَمُقْتَضَى كَوْنِ فَائِدَةِ التَّوْقِيتِ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْخِيرِ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّأْخِيرُ عَنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِنَّ مُرُورَهُ بِهِ سَابِقٌ عَلَى مُرُورِهِ بِالْمِيقَاتِ الْآخَرِ، وَلِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ عَنْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا رُوِيَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ» فَمَنْ جَاوَزَ إلَى الْمِيقَاتِ الثَّانِي صَارَ مِنْ أَهْلِهِ أَيْ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ تَحُجَّ أَحْرَمَتْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَعْتَمِرَ أَحْرَمَتْ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنْ لَا فَرْقَ فِي الْمِيقَاتِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْجُحْفَةُ مِيقَاتًا لَهُمَا لَمَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مِنْهَا، فَبِفِعْلِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْخِيرِ مُقَيَّدٌ بِالْمِيقَاتِ الْأَخِيرِ. وَيُحْمَلُ حَدِيثُ «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُجَاوِزُ الْمَوَاقِيتَ.
هَذَا وَمَنْ كَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ بَرٍّ لَا يَمُرُّ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَاذَى آخِرَهَا، وَيَعْرِفُ بِالِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يُحَاذِي فَعَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (قَوْلُهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ) بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ وَالنُّزْهَةِ أَوْ التِّجَارَةِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُجَاوَزُ الْوَقْتُ إلَّا بِإِحْرَامٍ» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَرُدُّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَذَكَرَهُ. وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا فُضَيْلٍ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ فَلَمْ يُحْرِمْ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ رَجَعَ إلَى الْوَقْتِ فَأَحْرَمَ، وَإِنْ خَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ وَيُهْرِيقُ لِذَلِكَ دَمًا فَهَذِهِ الْمَنْطُوقَاتُ أَوْلَى مِنْ الْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ كَلَامِ الرَّاوِي.
وَمَا فِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ» كَانَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ
(2/426)
 
 
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا
 
(وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ) لِأَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُهُ مَكَّةَ، وَفِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَصَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ يُبَاحُ لَهُمْ الْخُرُوجُ مِنْهَا ثُمَّ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ أَدَاءَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَحْيَانًا فَلَا حَرَجَ (فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ جَازَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
السَّاعَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ «مَكَّةُ حَرَامٌ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا» يَعْنِي الدُّخُولَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِلِّ الدُّخُولِ بَعْدَهُ لِلْقِتَالِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ) يَعْنِي وُجُوبَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْبُقْعَةِ لِتَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ.
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ إلَخْ) الْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوَاقِيتِ لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ بَعْدَهَا أَوْ فِيهَا نَفْسِهَا فِي نَصِّ الرِّوَايَةِ، قَالَ: لَيْسَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمِنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ أَنْ يَقْرُنَ وَلَا يَتَمَتَّعَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، كَذَا فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِ النُّسُكِ.
أَمَّا إذَا قَصَدُوهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ قَبْلَ دُخُولِهِمْ أَرْضَ الْحَرَمِ فَمِيقَاتُهُمْ كُلُّ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ، فَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ دَارِهِمْ إلَى الْحَرَمِ وَمَا عَجَّلُوهُ مِنْ دَارِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى قُدَيْدٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، قَالَ: وَكَذَا الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ فَبَلَغَ الْوَقْتَ وَلَمْ يُجَاوِزْهُ، يَعْنِي لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ رَاجِعًا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ (قَوْلُهُ كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ) رَوَى الْحَاكِمُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرَادِيِّ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَالَ: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ اهـ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَنَظَرَ فِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. ثُمَّ هَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ إيجَابَ الْإِتْمَامِ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي بَحْثِ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي أَوَّلُ كِتَابِ الْحَجِّ (قَوْلُهُ وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَوَاقِيتِ، بِخِلَافِ تَقْدِيمِ
(2/427)
 
 
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ
 
(وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ) مَعْنَاهُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ (وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ فِي عَرَفَةَ وَهِيَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَتَحَقَّقَ نَوْعُ سَفَرٍ، وَأَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ لِهَذَا، إلَّا أَنَّ التَّنْعِيمَ أَفْضَلُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْإِحْرَامِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ أَجْمَعُوا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ وَغَيْرِهِ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَفْضَلِيَّةِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ مِنْ دَارِهِ إلَى مَكَّةَ دُونَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، كَمَا قَيَّدَ بِهِ قَاضِي خَانْ وَإِنَّمَا كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَعْظِيمًا وَأَوْفَرُ مَشَقَّةً، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَلِذَا كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الْإِحْرَامَ بِهِمَا مِنْ الْأَمَاكِنِ الْقَاصِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ الْبَصْرَةِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الشَّامِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَهَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثُمَّ إذَا انْتَفَتْ الْأَفْضَلِيَّةُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ نَفْسَهُ هَلْ يَكُونُ الثَّابِتُ الْإِبَاحَةَ أَوْ الْكَرَاهَةَ؟ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. فَالْحَاصِلُ تَقَيُّدُ الْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْمَكَانِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْكَرَاهَةِ فِي الزَّمَانِ عَدَمُ تَقَيُّدِهَا بِخَوْفِ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورَاتِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمُنَاسِبُ التَّعْلِيلُ لِلْكَرَاهَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِكَوْنِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ كَمَا عَلَّلَ بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.
وَقِيلَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا التَّفْصِيلُ إنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُكْرَهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِلَّا كُرِهَ، وَلَا أَعْلَمُهُ مَرْوِيًّا عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَالْأَوْلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَئِمَّتِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ إطْلَاقِ الْكَرَاهَةِ وَتَعْلِيلُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَأَنَّهُ أُشْكِلَ عَلَى مَنْ خَالَفَ إطْلَاقُهُمْ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ فَفَصَّلُوا. وَالْحَقُّ هُوَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى شَبَهِ الْإِحْرَامِ بِالرُّكْنِ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَيُرَاعَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الشَّبَهِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا حَقِيقَةً لَمْ يَصِحَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ شَبِيهًا بِهِ كُرِهَ قَبْلَهَا لِشَبَهِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ، فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَجْهِ وَلِشَبَهِ الرُّكْنِ لَمْ يَجُزْ لِفَائِتِ الْحَجِّ، اسْتِدَامَةُ الْإِحْرَامِ لِيَقْضِيَ بِهِ مِنْ قَابِلٍ
 
(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ) أَوْ فِي نَفْسِ الْمَوَاقِيتِ (فَوَقْتُهُ الْحِلُّ) مَعْلُومٌ إذَا كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الَّذِي هُوَ الْحِلُّ، أَمَّا إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ فَمِيقَاتُهُ كَمِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ الْحَرَمُ فِي الْحَجِّ وَالْحِلُّ فِي الْعُمْرَةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
(2/428)
 
 
(بَابُ الْإِحْرَامِ)
(وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَنْهُ قَالَ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى. قَالَ: فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ»
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ» .
 
[بَابُ الْإِحْرَامِ]
حَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْمُرَادُ الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ: أَيْ الْتِزَامُهَا، وَالْتِزَامُهَا شَرْطُ الْحَجِّ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ شَرْعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوْ الْخُصُوصِيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَإِذَا تَمَّ الْإِحْرَامُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِعَمَلِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ.
وَإِنْ أَفْسَدَهُ إلَّا فِي الْفَوَاتِ فَبِعَمَلِ الْعُمْرَةِ وَإِلَّا الْإِحْصَارُ فَبِذَبْحِ الْهَدْيِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَلَى ظَنِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ يَمْضِي فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، فَإِنْ أَبْطَلَهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فَسْخُ الْإِحْرَامِ أَبَدًا إلَّا بِالدَّمِ وَالْقَضَاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْمُضِيِّ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْمَظْنُونِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا سَلَفَ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إنَّمَا حَسَّنَهُ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ لِلِاخْتِلَافِ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، وَالرَّاوِي عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَدَنِيُّ أَجْهَدْت نَفْسِي فِي مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا ذَكَرَهُ اهـ لَكِنَّ تَحْسِينَ التِّرْمِذِيِّ لِلْحَدِيثِ فَرْعُ مَعْرِفَتِهِ وَعَيْنَهُ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ» وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ مِمَّنْ جَمَعَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ حَدِيثَهُ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ» وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ.
وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا بِهَا أَوْ كَانَ يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ ارْتِفَاقٌ لَهُ أَوْ لَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
(2/429)
 
 
إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا فَيَقُومَ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اخْتَارَهُ. قَالَ (وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَذَلِكَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ، وَالْجَدِيدُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ.
قَالَ (وَمَسَّ طِيبًا إنْ كَانَ لَهُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَطُوفُ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا» وَرَوَاهُ مَرَّةً «طَيَّبْتُ فَطَافَ ثُمَّ أَصْبَحَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ «فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَأَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهَا «نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِالشَّجَرَةِ» وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَطْلُوبِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْحَائِضِ بِالدَّلَالَةِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَوْ النِّفَاسُ أَقْوَى مِنْ الْحَيْضِ لِامْتِدَادِهِ وَكَثْرَةِ دَمِهِ، فَفِي الْحَيْضِ أَوْلَى.
وَفِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «إنَّ النُّفَسَاءَ وَالْحَائِضَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَإِذَا كَانَ لِلنَّظَافَةِ وَإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّيَمُّمُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ وَيُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ.
وَيُسْتَحَبُّ كَمَالُ التَّنْظِيفِ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطَيْنِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَجِمَاعِ أَهْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ إلَخْ) وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ، وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ السَّاتِرُ جَائِزٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ائْتَزَرَ) فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «انْطَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَاكِبَ رَاحِلَتِهِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ» الْحَدِيثَ.
وَائْتَزَرَ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا هَمْزَةُ وَصْلٍ وَوَضْعُ تَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَكَانَ الثَّانِيَةِ خَطَأٌ (قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ) وَكَذَا قَوْلُ زُفَرَ (قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ)
(2/430)
 
 
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُلَبِّي» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا قَالَتْ «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبَ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ» وَلِلْآخَرِينَ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ حِلَّ الطِّيبِ كَانَ خَاصًّا بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ.
وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ لِحُرْمَةِ التَّطَيُّبِ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنُهُ لِخُصُوصِ ذَلِكَ الطِّيبِ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ خَلُوقٌ، فَلَا يُفِيدُ مَنْعُهُ الْخُصُوصِيَّةَ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ " وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ " وَقَدْ نَهَى عَنْ التَّزَعْفُرِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ التَّزَعْفُرِ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْقَطَّانِ صَحَّحَهُ، لِأَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَقْوَى خُصُوصًا، وَهُوَ مَانِعٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُبِيحِ.
وَحِينَئِذٍ فَالْمَنْعُ مِنْ خُصُوصِ الطِّيبِ الَّذِي بِهِ فِي قَوْلِهِ " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِك " إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ مُطْلَقًا لَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ عَنْ كُلِّ طِيبٍ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي الْحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «قَالَ لَهُ: اخْلَعْ عَنْكَ هَذِهِ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْكَ هَذَا الزَّعْفَرَانَ» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ مَا فِي أَبِي دَاوُد «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَنْهَانَا» وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي عَامِ الْجِعْرَانَةِ وَهُوَ سَنَةُ ثَمَانٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ.
وَرُئِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُحْرِمًا وَعَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الرُّبِّ مِنْ الْغَالِيَةِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ مُحْرِمًا وَفِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عَنْ الطِّيبِ مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَعَدَّ مِنْهُ رَأْسَ مَالٍ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ الْحَازِمِيُّ: وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ارْجِعْ فَاغْسِلْهُ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَإِلَّا لَرَجَعَ إلَيْهِ، وَإِذَا
(2/431)
 
 
وَالْمَمْنُوعُ عَنْهُ التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ.
 
قَالَ (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ قَالَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي» ) لِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَبَايِنَةٍ فَلَا يُعَرَّى عَنْ الْمَشَقَّةِ عَادَةً فَيَسْأَلُ التَّيْسِيرَ، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّ مُدَّتَهَا يَسِيرَةٌ وَأَدَاءَهَا عَادَةً مُتَيَسِّرٌ. قَالَ (ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَمْ يَبْلُغْهُ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثُبُوتِهَا أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ.
وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَزَادَ فِيهِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» وَلِلِاخْتِلَافِ اسْتَحَبُّوا أَنْ يُذِيبَ جِرْمَ الْمِسْكِ إذَا تَطَيَّبَ بِهِ بِمَاءِ وَرْدٍ وَنَحْوِهِ (قَوْلُهُ وَالْمَمْنُوعُ مِنْهُ التَّطَيُّبُ) لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَمْ يَتَطَيَّبْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَكِنْ هُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ.
وَهُنَاكَ مَنْعٌ آخَرُ قَبْلَهُ عَنْ التَّطَيُّبِ بِمَا يَبْقَى عَيْنُهُ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ: مَنْعُ ثُبُوتِ هَذَا الْمَنْعِ، فَإِنْ قِسْتُمْ عَلَى الثَّوْبِ فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُرُودِهِ بِهِ فِي الْبَدَنِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الثَّوْبِ فَعَقَلْنَا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي الْبَدَنِ تَابِعًا، وَالْمُتَّصِلُ فِي الثَّوْبِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَبَعًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِنَانِ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ حُصُولُ الِارْتِفَاقِ بِهِ حَالَةَ الْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى مِثَالِ السَّحُورِ لِلصَّوْمِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَحْصُلُ بِمَا فِي الْبَدَنِ، فَيُغْنِي عَنْ تَجْوِيزِهِ فِي الثَّوْبِ إذْ لَمْ يَقْصِدْ كَمَالَ الِارْتِفَاقِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْحَاجَّ الشَّعِثُ التَّفِلُ وَقَدْ قِيلَ: يَجُوزُ فِي الثَّوْبِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِمَا
 
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ الْمَعْرُوفُ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ» ) وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا. لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجًّا، فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَتُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَعَنْ أَنَسٍ
(2/432)
 
 
لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ» . وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ جَازَ، وَلَكِنْ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ» (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ) أَيْ التَّلْبِيَةُ دُبُرَ الصَّلَاةِ (لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ» اعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إهْلَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَرِوَايَاتٌ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ» أَكْثَرُ وَأَصَحُّ. فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا «عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ» مُخْتَصَرًا.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ» وَكَذَا هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ «ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» فَهَذِهِ تُفِيدُ مَا سَمِعْت.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ حَدَّثَنَا خُصَيْفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ رَوَاهُ غَيْرُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ. قَالَ فِي الْإِمَامِ. وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَخُصَيْفٌ.
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ: كَانَ فَقِيهًا صَالِحًا إلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا. وَالْإِنْصَافُ فِيهِ قَبُولُ مَا وَافَقَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ، وَتَرَكَ مَا لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي إدْخَالِهِ فِي الثِّقَاتِ، وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَتَرَكَهُ آخَرُونَ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ جُمِعَ وَإِلَّا تَرَجَّحَ مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ أَمْكَنَ بَلْ وَقَعَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ خُصَيْفٍ «عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: عَجِبْتُ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إهْلَالِهِ حِينَ أَوْجَبَ، فَقَالَ إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَمِنْ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا. خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجًّا فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظْتُهُ عَنْهُ ثُمَّ رَكِبَ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ أَقْوَامٌ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ أَرْسَالًا فَسَمِعْنَاهُ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، ثُمَّ مَضَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَمَّا عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ أَقْوَامٌ فَقَالُوا: إنَّمَا أَهَلَّ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ، وَاَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَ فِي مُصَلَّاهُ وَأَهَلَّ
(2/433)
 
 
(فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ يَنْوِي بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك) وَقَوْلُهُ إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا لِيَكُونَ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، وَأَهَلَّ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ اهـ.
وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا فِي ابْنِ إِسْحَاقَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ، وَصَحَّحْنَا تَوْثِيقَهُ، وَمَا فِي خُصَيْفٍ آنِفًا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ مُسْلِمًا قَدْ يَخْرُجُ عَمَّنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجُرْحِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَبِهِ يَقَعُ الْجَمْعُ وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ
 
(قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ) أَيْ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ نَوَاهُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ ذَكَرَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: نَوَيْت الْحَجَّ وَأَحْرَمْت بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَبَّيْكَ إلَخْ فَحَسَنٌ لِيَجْتَمِعَ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ تَجْتَمِعْ عَزِيمَتُهُ، فَإِنْ اجْتَمَعَتْ فَلَا، وَلَمْ نَعْلَمْ الرُّوَاةَ لِنُسُكِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَصْلًا فَصْلًا قَطُّ رَوَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: «نَوَيْتُ الْعُمْرَةَ وَلَا الْحَجَّ» (قَوْلُهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَا بِفَتْحِهَا) يَعْنِي فِي الْوَجْهِ الْأَوْجَهِ، وَأَمَّا فِي الْجَوَازِ فَيَجُوزُ وَالْكَسْرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الثَّنَاءِ وَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ لِلذَّاتِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلتَّلْبِيَةِ أَيْ لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا بِالذَّاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ.
هَذَا وَإِنْ كَانَ اسْتِئْنَافُ الثَّنَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ مَعَ الْكَسْرِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا مُسْتَأْنَفًا كَمَا فِي قَوْلِك عَلِّمْ ابْنَك الْعِلْمَ إنَّ الْعِلْمَ نَافِعُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ لَكِنْ لَمَّا جَازَ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَوْلَوِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْفَتْحِ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إنَّهُ صِفَةُ الْأُولَى يُرِيدُ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَالْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ.
الْأَوَّلُ: لَفْظُ لَبَّيْكَ وَمَعْنَاهَا لَفْظُهَا مَصْدَرٌ مُثَنَّى تَثْنِيَةً يُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أَيْ كَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ مَلْزُومُ النَّصْبِ كَمَا تَرَى وَالْإِضَافَةُ وَالنَّاصِبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ تَقْدِيرُهُ أَجَبْتُك إجَابَةً بَعْدَ إجَابَةٍ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إذَا أَقَامَ بِهِ، وَيُعْرَفُ بِهَذَا مَعْنَاهَا فَتَكُونُ مَصْدَرًا مَحْذُوفَ الزَّوَائِدِ، وَالْقِيَاسِيُّ مِنْهُ إلْبَابٌ وَمُفْرَدُ لَبَّيْكَ لَبٌّ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ لَبٌّ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدُ لَبَّيْكَ،
(2/434)
 
 
إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى، وَهُوَ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ (وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
غَيْرَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهَا.
وَقِيلَ: لَيْسَ هُنَا إضَافَةٌ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ النُّونُ لِشِبْهِ الْإِضَافَةِ. وَقِيلَ: مُضَافٌ إلَّا أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ وَأَصْلُهُ لَبَّى قُلِبَتْ أَلِفُهُ يَاءً لِلْإِضَافَةِ إلَى الضَّمِيرِ كَأَلِفِ عَلَيْك الَّذِي هُوَ اسْمُ فِعْلٍ، وَأَلِفِ لَدَى فَرَدَّهُ سِيبَوَيْهِ، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
دَعَوْت لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
حَيْثُ ثَبَتَتْ الْيَاءُ مَعَ كَوْنِ الْإِضَافَةِ إلَى ظَاهِرٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا إجَابَةٌ فَقِيلَ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ عَلَى مَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ. فَقَالَ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ. قَالَ: رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ. قَالَ: رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ، حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ»
وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ،
(2/435)
 
 
لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ (وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ. هُوَ اعْتَبَرَهُ بِالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ. وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ. وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: «لَمَّا أُمِرَ إبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ قَامَ عَلَى الْمَقَامِ فَارْتَفَعَ الْمَقَامَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى مَا تَحْتَهُ» الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ «قَامَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. قَالَ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ الْيَوْمَ فَهُوَ مِمَّنْ أَجَابَ إبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ» (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ) قِيلَ: لَا اتِّفَاقَ بَيْنَهُمْ. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ التَّلْبِيَةِ عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ إنِّي لَأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَلَمْ تَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ» وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ.
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ " (قَوْلُهُ أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ إلَخْ) ذَكَرْنَا زِيَادَةَ ابْنِ عُمَرَ آنِفًا وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ أَيْضًا.
وَزِيَادَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ وَفِي آخِرِهِ وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَلْبِيَتِهِ " فَقَالَ: لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ " وَمَا سَمِعْته قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، وَزِيَادَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْهُ قَالَ «كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَبَّيْكَ إلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ " سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ " وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُظْهِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ» وَسَاقَ الْمَشْهُورَ.
قَالَ «حَتَّى إذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يُصْرَفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُوَ فِيهِ فَزَادَ فِيهَا لَبَّيْكَ، إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَحَسِبْت أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ زَادُوا بِمَسْمَعٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ قَالَ «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ تَلْبِيَتَهُ الْمَشْهُورَةَ وَقَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ فَلَا
(2/436)
 
 
عَلَيْهِ. قَالَ (وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) يَعْنِي إذَا نَوَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ (وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا»
فَقَدْ صَرَّحَ بِتَقْرِيرِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ، بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ يَتَقَيَّدُ فِيهَا بِالْوَارِدِ لِأَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ شَرْعًا كَحَالَةِ عَدَمِهَا، وَلِذَا قُلْنَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ بِعَيْنِهِ حَتَّى إذَا كَانَ التَّشَهُّدُ الثَّانِي قُلْنَا لَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ بِالْمَأْثُورِ لِأَنَّهُ أُطْلِقَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ نَظَرًا إلَى فَرَاغِ أَعْمَالِهَا (قَوْلُهُ وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُهُ الْمُخَالِفِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي رِوَايَةِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِكُلِّ ثَنَاءٍ وَتَسْبِيحٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ وَلَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ.
وَالْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ افْتِتَاحِ الْإِحْرَامِ وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَالْأَخْرَسُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ مَعَ النِّيَّةِ، وَفِي الْمُحِيطِ: تَحْرِيكُ لِسَانِهِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَصَحُّ لَا يَلْزَمُهُ التَّحْرِيكُ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقَدُّمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ) قَدْ يُقَالُ: لَا حَاجَةَ إلَى اسْتِنْبَاطِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْخَفِيَّةِ بَلْ قَدْ ذَكَرَهَا نَصًّا، فَإِنَّ نَظْمَ الْكِتَابِ هَكَذَا: ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ ثُمَّ ذَكَرَ صُورَةَ التَّلْبِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ فَلَا يُشْكَلُ أَنَّ الْمَفْهُومَ إذَا لَبَّى التَّلْبِيَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ الْمَقْرُونَةُ بِنِيَّةِ الْحَجِّ فَقَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ. ثُمَّ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ سِوَى أَنَّهُ عِنْدَ النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا، أَمَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا بِشَرْطِ ذِكْرِ الْآخِرَةِ فَلَا. وَذَكَرَ حُسَامُ الدِّينِ الشَّهِيدُ: أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّلْبِيَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّكْبِيرِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى أَنَّ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَرْضِ وَلَا النَّفْلِ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْحَجِّ. وَكَانَ مِنْ الْمُهِمِّ ذِكْرُ أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ بِذَلِكَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ أَمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْيِينِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِإِطْلَاقِ نِيَّةِ الْحَجِّ بِخِلَافِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِلنَّفْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَفْلًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ الْفَرْضَ بَعْدُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إذَا نَوَى النَّفَلَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمِعَ شَخْصًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ مَعْنَاهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» . قُلْنَا: غَايَةُ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ لَا تُحَوِّلُهُ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ الْمَنْوِيِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ، فَالْقَوْلُ بِهِ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا مِثْلَهُ فِي رَمَضَانَ، لِأَنَّ رَمَضَانَ حُكْمُهُ تَعْيِينُ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إلَى مُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِتَتَمَيَّزَ الْعِبَادَةُ عَنْ الْعَادَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ انْصَرَفَ إلَى
(2/437)
 
 
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ كَمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَيَصِيرُ شَارِعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ سِوَى التَّلْبِيَةِ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْلِهَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، حَتَّى يُقَامَ غَيْرُ الذِّكْرِ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْبُدْنِ فَكَذَا غَيْرُ التَّلْبِيَةِ وَغَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ.
 
قَالَ (وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمَشْرُوعِ فِي الْوَقْتِ، بِخِلَافِ وَقْتِ الْحَجِّ لَمْ يَتَمَحَّضْ لِلْحَجِّ كَوَقْتِ الصَّوْمِ لِمَا عُرِفَ بَلْ يُشْبِهُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلِلْمُشَابَهَةِ جَازَ عَنْ الْفَرْضِ بِالْإِطْلَاقِ وَلِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمُشِقِّ تَحْصِيلُهَا وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ فَصَرَفْنَاهُ إلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلِلْمُفَارَقَةِ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْفَرْضِ بِتَعْيِينِ النَّفْلِ، وَأَيْضًا فَالدَّلَالَةُ تُعَبِّرُ عِنْدَ عَدَمِ مُعَارَضَةِ الصَّرِيحِ، وَالْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةٌ حَيْثُ صَرَّحَ بِالضِّدِّ وَهُوَ النَّفَلُ بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِطْلَاقِ إذَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَخَصِّ وَالْأَعَمِّ.
[فُرُوعٌ]
إذَا أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَا أَحْرَمَ بِهِ جَازَ، وَعَلَيْهِ التَّعْيِينُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَصْلُ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «حِينَ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَأَجَازَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحَدِيثُ مَرَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى طَافَ شَوْطًا وَاحِدًا كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ وَكَذَا إذَا أُحْصِرَ قَبْلَ الْأَفْعَالِ وَالتَّعْيِينِ فَتَحَلَّلَ بِدَمٍ تَعَيَّنَ لِلْعُمْرَةِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا قَضَاءُ حَجِّهِ، وَكَذَا إذَا جَامَعَ فَأَفْسَدَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي عُمْرَةٍ، وَلَوْ أَحْرَمَ مُبْهِمًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثَانِيًا بِحَجَّةٍ فَالْأَوَّلُ لِعُمْرَةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ فَالْأَوَّلُ لِحَجَّةٍ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ بِالثَّانِي أَيْضًا شَيْئًا كَانَ قَارِنًا، وَإِنْ عَيَّنَ شَيْئًا وَنَسِيَهُ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ احْتِيَاطًا لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا يَكُونُ قَارِنًا، فَإِنْ أُحْصِرَ تَحَلَّلَ بِدَمٍ وَاحِدٍ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَإِنْ جَامَعَ مَضَى فِيهِمَا وَيَقْضِيهِمَا إنْ شَاءَ جَمَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِشَيْئَيْنِ وَنَسِيَهُمَا لَزِمَهُ فِي الْقِيَاسِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمَسْنُونِ وَالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ إذْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إحْرَامَهُ كَانَ بِشَيْئَيْنِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ لَا يَنْوِي شَيْئًا فَهُوَ حَجٌّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ بِنِيَّةٍ سَابِقَةٍ، وَلَوْ أَحْرَمَ نَذْرًا وَنَفْلًا كَانَ نَفْلًا أَوْ نَوَى فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُ وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَهُوَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ فَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَا نَوَى لَا بِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، وَلَوْ لَبَّى بِحَجَّةٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَانَ قَارِنًا (قَوْلُهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -)
(2/438)
 
 
وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ أَوْ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ، أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ حُرْمَةً، وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ، وَقِيلَ: مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ
 
(وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَقَوْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ بِجَامِعِ أَنَّهَا عِبَادَةُ كَفٍّ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ فَتَكْفِي النِّيَّةُ لِالْتِزَامِهَا. وَقِسْنَا نَحْنُ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ أَفْعَالٍ لَا مُجَرَّدُ كَفٍّ بَلْ الْتِزَامُ الْكَفِّ شَرْطٌ فَكَانَ بِالصَّلَاةِ أَشْبَهَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يُفْتَتَحُ بِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا هُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] قَالَ: فَرْضُ الْحَجِّ الْإِهْلَالُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: التَّلْبِيَةُ.
وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْإِحْرَامُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمَا كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ التَّلْبِيَةُ، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَنْ عَائِشَةَ " لَا إحْرَامَ إلَّا لِمَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى " إلَّا أَنَّ مُقْتَضَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ تَعْيِينُ التَّلْبِيَةِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لَكِنْ ثَمَّةَ آثَارٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاكْتِفَاءِ بِالنِّيَّةِ صَحِيحٌ، ثُمَّ إذَا لَبَّى صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ الْمُعَلِّمِ لِلْخَيْرَاتِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا بِمَا شَاءَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ التَّلْبِيَةِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَيُسْتَحَبُّ فِي التَّلْبِيَةِ كُلِّهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغَ الْجَهْدُ فِي ذَلِكَ كَيْ لَا يَضْعُفُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهَا إلَّا أَنَّهُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ سَأَلَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهَا: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، وَاجْعَلْنِي مِنْ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لَك وَآمَنُوا بِوَعْدِك وَاتَّبَعُوا أَمْرَك وَاجْعَلْنِي مِنْ وَفْدِك الَّذِينَ رَضِيت عَنْهُمْ، اللَّهُمَّ قَدْ أَحْرَمَ لَك شَعْرِي وَبَشَرِي وَدَمِي وَمُخِّي وَعِظَامِي
 
(قَوْلُهُ وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] (أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ) وَدَوَاعِيهِ (بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِنَّ لَا يَكُونُ رَفَثًا، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْشَدَ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ... إنْ يَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فَقِيلَ لَهُ: أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنَّا نُنْشِدُ الْأَشْعَارَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَاذَا؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ:
قَامَتْ تُرِيك رَهْبَةً أَنْ تَهْضِمَا ... سَاقًا بَخَنْدَاةً وَكَعْبًا أَدْرَمَا
وَالْبَخَنْدَاةُ مِنْ النِّسَاءِ التَّامَّةُ، وَالدَّرْمُ فِي الْكَعْبِ أَنْ يُوَارِيَهُ اللَّحْمُ فَلَا يَكُونُ لَهُ نُتُوءٌ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَهِيَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ) فَإِنَّهَا حَالَةٌ يَحْرُمُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الْمُقَوِّيَةِ لِلنَّفْسِ فَكَيْفَ بِالْمُحَرَّمَاتِ الْأَصْلِيَّةِ (قَوْلُهُ وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ) وَهُوَ الْمُنَازَعَةُ وَالسِّبَابُ، وَقِيلَ: جِدَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ. وَقِيلَ: التَّفَاخُرُ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ حَتَّى رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْحَرْبِ
 
(قَوْلُهُ وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا إلَخْ) يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ
(2/439)
 
 
(وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَصْحَابِهِ: هَلْ أَشَرْتُمْ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: إذًا فَكُلُوا» وَلِأَنَّهُ إزَالَة الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ
 
قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ» وَقَالَ فِي آخِرِهِ «وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الثَّانِي: إزَالَةُ الشَّعْرِ كَيْفَمَا كَانَ حَلْقًا وَقَصًّا وَتَنَوُّرًا مِنْ أَيِّ مَكَان كَانَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالْإِبْطِ وَالْعَانَةِ وَغَيْرِهَا،
الثَّالِثُ: لُبْسُ الْمَخِيطِ عَلَى وَجْهِ لُبْسِ الْمَخِيطِ إلَّا الْمُكَعَّبَ فَيَدْخُلُ الْخُفُّ وَيَخْرُجُ الْقَمِيصُ إذَا اتَّشَحَ بِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الرَّابِعُ: التَّطَيُّبُ.
الْخَامِسُ: قَلْمُ الْأَظْفَارِ.
السَّادِسُ: الِاصْطِيَادُ فِي الْبَرِّ لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ.
السَّابِعُ: الِادِّهَانُ عَلَى مَا يُذْكَرُ مِنْ تَفْصِيلِهِ (قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ، وَبَعْضُهُمْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ الرُّمْحَ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ بَعْضِهِمْ وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ وَاسْتَبَقُوا. قَالَ: فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَكُلُوا» وَفِيهِ دَلَالَةٌ نَذْكُرُهَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
 
(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ؟ قَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» زَادُوا إلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» قِيلَ: قَوْلُهُ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ مَدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ، إذْ قَدْ يُفْتِي الرَّاوِي بِمَا يَرْوِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ أَحْيَانًا مَعَ أَنَّ هُنَا قَرِينَةً عَلَى الرَّفْعِ، وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ إفْرَادُ النَّهْيِ عَنْ النِّقَابِ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُمَا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنْ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ» قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ
(2/440)
 
 
وَالْكَعْبُ هُنَا الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ دُونَ النَّاتِئِ فِيمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
 
قَالَ (وَلَا يُغَطِّي وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» . وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الصَّحِيحَيْنِ مَا خَلَا ابْنَ إِسْحَاقَ اهـ.
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ حُجَّةٌ (قَوْلُهُ وَالْكَعْبُ هُنَا) قُيِّدَ بِالظُّرُوفِ لِأَنَّهُ فِي الطَّهَارَةِ يُرَادُ بِهِ الْعَظْمُ النَّاتِئُ وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْحَدِيثِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاتِئِ حُمِلَ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُ الْمُكَعَّبِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْخَلْفِ بَعْدَ الْقَطْعِ كَذَلِكَ مُكَعَّبٌ، وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ وَلَا الْبُرْنُسَ، لَكِنَّهُمْ أَطْلَقُوا جَوَازَ لُبْسِهِ، وَمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ
 
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا حُجَّةٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْ وَخُصُوصًا فِيمَا لَمْ يُدْرَكْ بِالرَّأْيِ.
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بِمَا أَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الَّذِي وُقِصَ: خَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» .
وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُخَمِّرُ وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْفُرَافِصَةُ بْنُ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْعَرَجِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَقْعَصَتْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» أَفَادَ أَنَّ لِلْإِحْرَامِ أَثَرًا فِي عَدَمِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُنَا قَالُوا لَوْ مَاتَ الْمُحْرِمُ يُغَطَّى وَجْهُهُ لِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَوَاهُ الْبَاقُونَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الْوَجْهَ، فَلِذَا قَالَ الْحَاكِمُ: فِيهِ تَصْحِيفٌ فَإِنَّ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْهُ «وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ» وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.
وَدُفِعَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَهِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرًا، وَكَيْفَ يَقَعُ التَّصْحِيفُ وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ حُرُوفِ الْكَلِمَتَيْنِ، ثُمَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي مُسْلِمٍ، لَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ تِلْكَ اقْتِصَارًا مِنْ الرَّاوِي، فَيُقَدَّمُ عَلَى مُعَارَضِهِ مَنْ مُرْوِيٍّ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ أَثْبَتُ سَنَدًا، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ، وَلَا يُغَطِّيَ فَاهُ وَلَا ذَقَنَهُ وَلَا عَارِضَهُ، فَيَجِبُ حَمْلُ التَّغْطِيَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مِثْلِهِ
(2/441)
 
 
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةٌ فَالرَّجُلُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ.
 
قَالَ (وَلَا يَمَسُّ طِيبًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» (وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ) لِمَا رَوَيْنَا (لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا شَعْرَ بُدْنِهِ) {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] الْآيَةَ (وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ) لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ.
 
قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ وَلَا عُصْفُرٍ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يَنْفُضُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَعْنِي عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُغَطِّي أَنْفَهُ بِيَدِهِ فَوَارَتْ بَعْضَ أَجْزَائِهِ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ جَمْعًا (قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ) بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ) أَيْ إحْرَامُهُ فِي رَأْسِهِ فَيَكْشِفُهُ وَإِحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا فَتَكْشِفُهُ، فَفِي جَانِبِهَا قَيْدٌ فَقَطْ مُرَادٌ، وَفِي جَانِبِهِ مَعْنًى لَفْظٌ أَيْضًا مُرَادٌ.
 
وَحَدِيثُ «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّا أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالشَّعَثُ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَيُّرُهُ لِعَدَمِ تَعَاهُدِهِ، فَأَفَادَ مَنْعَ الِادِّهَانِ، وَلِذَا قَالَ: وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ لِمَا رَوَيْنَاهُ، وَالتَّفْلُ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى تُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فَيُفِيدُ مَنْعَ التَّطَيُّبِ
 
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ» إلَخْ) تَقَدَّمَ فِي ضِمْنِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ قَرِيبًا (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يُنْفَضُ) أَيْ لَا تَظْهَرُ لَهُ رَائِحَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِلرَّائِحَةِ لَا لِلَّوْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الْمَصْبُوغِ بِمَغْرَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ الزِّينَةُ وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُهَا حَتَّى قَالُوا: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمَةِ أَنْ تَتَحَلَّى بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ وَتَلْبَسَ الْحَرِيرَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ الزِّينَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ الصِّبْغُ، وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ صَحِيحٌ، وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي نَصِّ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ وَسَاقَهُ إلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَلْبَسُوا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ
(2/442)
 
 
لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ. وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
 
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَا زَعْفَرَانٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا» يَعْنِي فِي الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ.
وَرَأَيْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَتَعَجَّبُ مِنْ الْحِمَّانِيُّ أَنْ يُحَدِّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذَا عِنْدِي، ثُمَّ ذَهَبَ مِنْ فَوْرِهِ فَجَاءَ بِأَصْلِهِ فَخَرَجَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَمَا ذَكَرَ الْحِمَّانِيُّ فَكَتَبَهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. قَالَ: وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَالنَّخَعِيِّ إطْلَاقَهُ فِي الْغَسِيلِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً) فَمَبْنَى الْخِلَافِ