التفسير لابن جرير الطبري ج ص معتمد 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] إِنْ ظَنَّا أَنَّ نِكَاحِهُمَا عَلَى غَيْرِ دَلْسَةٍ " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنْ ظَنَّا} [البقرة: 230] إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: إِنْ أَيْقَنَا. وَذَلِكَ مَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يُوقِنُ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ أَنَّهُمَا إِذَا تَرَاجَعَا أَقَامَا حُدُودَ اللَّهِ؟ وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِذْ ظَنَّا} بِمَعْنَى طَمِعَا بِذَلِكَ وَرَجَوَاهُ [ص:177] وَ «أَنْ» الَّتِي فِي قَوْلِهِ {أَنْ يُقِيمَا} [البقرة: 230] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «ظَنَّا» ، وَ «أَنْ» الَّتِي فِي {أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] جَعَلَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَقْدِ الْخَافِضِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، فَلَمَّا حُذِفَتْ «فِي» الَّتِي كَانَتْ تَخْفِضُهَا نَصَبَهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا تَرَاجُعُهُمَا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَوْضِعُهُ خَفْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا خَافِضُهَا، وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَمَعْرُوفٌ مَوْضِعُهُ
(4/176)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبِيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 230] هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي بَيِّنَهَا لِعِبَادِهِ فِي الطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْفِدْيَةِ وَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، حُدُودُ اللَّهِ مَعَالِمُ فُصُولِ حَلَالِهِ، وَحَرَامِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ {يُبَيِّنُهَا} [البقرة: 230] يُفَصِّلُهَا، فَيُمَيِّزُ بَيْنَهَا، وَيُعَرِّفُهُمْ أَحْكَامَهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَهَا إِذَا بَيَّنَهَا اللَّهُ لَهُمْ، فَيَعْرِفُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُصَدَّقُونَ بِهَا، وَيَعْمَلُونَ بِمَا أَوْدَعَهُمُ اللَّهُ مِنْ عِلْمِهِ، دُونَ الَّذِينَ قَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهَا تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حُمَيْدٍ. وَلِذَلِكَ خَصَّ الْقَوْمَ الَّذِي يَعْلَمُونَ بِالْبَيَانِ دُونَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ، إِذْ كَانَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ قَدْ آيَسَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ كَثِيرٍ
(4/177)
مِنْهُمْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ بَيَّنَهَا لَهُمْ مِنْ وَجْهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَلُزُومِ الْعَمَلِ لَهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لَهُمْ مِنْ وَجْهِ تَرْكِهِمُ الْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ بِهِ
(4/178)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَإِذَا طَلَّقْتُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ نِسَاءَكُمْ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يَعْنِي مِيقَاتَهُنَّ الَّذِي وَقَّتَهُ لَهُنَّ مِنَ انْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْأَقْرَاءِ وَانْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ، إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الشُّهُورِ {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] يَقُولُ: فَرَاجِعُوهُنَّ إِنْ أَرَدْتُمْ رَجْعَتَهُنَّ فِي الطَّلْقَةِ الَّتِي فِيهَا رَجْعَةٌ، وَذَلِكَ إِمَّا فِي التَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ التَّطْلِيقَتَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَأَمَّا قَوْلُهُ: {بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] فَإِنَّهُ عَنَى بِمَا أَذِنَ بِهِ مِنَ الرَّجْعَةِ مِنَ الْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ دُونَ الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ، وَالْجِمَاعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَعَلَى الصُّحْبَةِ مَعَ ذَلِكَ وَالْعِشْرَةِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبَيَّنَّهُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] يَقُولُ: أَوْ خَلُّوهُنَّ يَقْضِينَ تَمَامَ عِدَّتِهِنَّ وَيَنْقَضِي بَقِيَّةُ أَجَلِهِنَّ الَّذِي أَجَّلْتُهُ لَهُنَّ لِعِدَدِهِنَّ بِمَعْرُوفٍ، يَقُولُ: بِإِيفَائِهِنَّ تَمَامَ حُقُوقِهِنَّ عَلَيْكُمْ عَلَى مَا أَلْزَمْتُكُمْ لَهُنَّ مِنْ مَهْرٍ وَمُتْعَةٍ وَنَفَقَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِنَّ قَبْلَكُمْ {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] يَقُولُ: وَلَا تُرَاجِعُوهُنَّ إِنْ رَاجَعْتُمُوهُنَّ فِي
(4/178)
عِدَدِهِنَّ مُضَارَّةً لَهُنَّ لِتُطَوِّلُوا عَلَيْهِنَّ مُدَّةَ انْقِضَاءِ عَدَدِهِنَّ، أَوْ لِتَأْخُذُوا مِنْهُنَّ بَعْضَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ بِطَلَبِهِنَّ الْخُلْعَ مِنْكُمْ لِمُضَارَّتِكُمْ إِيَّاهُنَّ بِإِمْسَاكِكُمْ إِيَّاهُنَّ، وَمُرَاجَعَتِكُمُوهُنَّ ضِرَارًا وَاعْتِدَاءً. وَقَوْلُهُ: {لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] يَقُولُ: لِتَظْلِمُوهُنَّ بِمُجَاوَزَتِكُمْ فِي أَمْرِهِنَّ حُدُودِي الَّتِي بَيَّنْتُهَا لَكُمْ. وبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(4/179)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ: " {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} [البقرة: 231] قَالَ: يُطَلِّقَهَا حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَنْقَضِي رَاجَعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَيَدَعُهَا، حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا رَاجَعَهَا، وَلَا يُرِيدُ إِمْسَاكَهَا، فَذَلِكَ الَّذِي يُضَارُّ وَيُتَّخَذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا "
(4/179)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا يُضَارُّهَا؛ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ "
(4/179)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] قَالَ نَهَى اللَّهُ عَنِ الضِّرَارِ ضِرَارًا أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا عِنْدَ آخَرَ يَوْمِ يَبْقَى مِنَ الْأَجَلِ حَتَّى يَفِيَ لَهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِيُضَارَّهَا بِهِ " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنِ الضِّرَارِ، وَالضِّرَارُ، فِي الطَّلَاقِ: أَنْ يُطَلِّقَ، الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا. وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو
(4/180)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثنا أَبِي قَالَ: ثنا عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، يَفْعَلُ ذَلِكَ يُضَارُّهَا وَيَعْضُلُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ "
(4/180)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَدَعُهَا، حَتَّى إِذَا مَا تَكَادُ تَخْلُوَ عِدَّتُهَا رَاجَعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، حَتَّى إِذَا مَا كَادَ تَخْلُوَ عِدَّتُهَا رَاجَعَهَا، وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَضَارَّهَا بِذَلِكَ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ [ص:181] وَتَقَدَّمَ فِيهِ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] "
(4/180)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، وَبَلَغَتْ أَجَلَهَا فَلْيُرَاجِعْهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ لِيُسَرِّحْهَا بِإِحْسَانٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ضِرَارًا، وَلَيْسَتْ لَهُ فِيهَا رَغْبَةٌ إِلَّا أَنَّ يُضَارَّهَا "
(4/181)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] قَالَ: هُوَ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا شَيْءٌ رَاجَعَهَا يُضَارُّهَا بِذَلِكَ، وَيُطَوِّلُ عَلَيْهَا؛ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ "
(4/181)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَى أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، " أَنَّ رَجُلًا، كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا، وَلَا يُرِيدُ إِمْسَاكَهَا، كَيْمَا يُطَوِّلُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ الْعِدَّةَ لِيُضَارَّهَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] يُعَظِّمُ ذَلِكَ "
(4/181)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ [ص:182] ضِرَارًا} [البقرة: 231] هُوَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا؛ لِيُضَارَّهَا بِذَلِكَ لِتَخْتَلِعَ مِنْهُ "
(4/181)
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] قَالَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى ثَابِتَ بْنَ يَسَارٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا إِلَّا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهَا، حَتَّى مَضَتْ لَهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ مَضَارَّةً يُضَارَّهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] "
(4/182)
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، يَسْأَلُ عَنْ طَلَاقِ الضِّرَارِ، فَقَالَ: " يُطَلِّقُ ثُمَّ يُرَاجِعُ ثُمَّ يُطَلِّقُ، ثُمَّ يُرَاجِعُ، فَهَذَا الضِّرَارُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] "
(4/182)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ: " {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] قَالَ: الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يُمْسِكُ عَنْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا لِتَعْتَدُوا؛ قَالَ: لَا يُطَاوِلُ عَلَيْهِنَّ " وَأَصْلُ التَّسْرِيحِ مِنْ سَرَّحَ الْقَوْمَ، وَهُوَ مَا أُطْلِقَ مِنْ نَعَمِهِمْ لِلرَّعْيِ، يُقَالُ لِلْمَوَاشِي الْمُرْسَلَةِ لِلرَّعْيِ: هَذَا سَرَّحَ الْقَوْمُ، يُرَادُ بِهِ مَوَاشِيَهُمُ الْمُرْسَلَةَ لِلرَّعْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُ
(4/182)
اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] يَعْنِي بِقَوْلِهِ حِينَ تَسْرَحُونَ: حِينَ تُرْسِلُونَهَا لِلرَّعْيِ فَقِيلَ لِلْمَرْأَةِ إِذَا خَلَّاهَا زَوْجُهَا فَأَبَانَهَا مِنْهُ: سَرَّحَهَا، تَمْثِيلًا لِذَلِكَ بِتَسْرِيحِ الْمُسَرِّحِ مَاشِيَتَهُ لِلرَّعْيِ وَتَشْبِيهًا بِهِ "
(4/183)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَمَنْ يُرَاجِعِ امْرَأَتَهُ بَعْدَ طَلَاقِهِ إِيَّاهَا فِي الطَّلَاقِ الَّذِي لَهُ فِيهِ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ ضِرَارًا بِهَا لِيَتَعَدَّى حَدَّ اللَّهِ فِي أَمْرِهَا، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، يَعْنِي فَأَكْسَبَهَا بِذَلِكَ إِثْمًا، وَأَوْجَبَ لَهَا مِنَ اللَّهِ عُقُوبَةً بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الظُّلْمِ فِيمَا مَضَى، وَأَنَّهُ وَضَعَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَفَعَلَ مَا لَيْسَ لِلْفَاعِلِ فِعْلُهُ
(4/183)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَتَّخِذُوا أَعْلَامَ اللَّهِ وَفُصُولَهُ بَيْنَ حَلَالِهِ، وَحَرَامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فِي وَحْيِهِ، وَتَنْزِيلِهِ اسْتِهْزَاءً وَلَعِبًا، فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ فِي تَنْزِيلِهِ وَآيِ كِتَابِهِ مَا لَكُمْ مِنَ الرَّجْعَةِ عَلَى نِسَائِكُمْ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي جُعِلَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فِيهِ الرَّجْعَةُ، وَمَا لَيْسَ لَكُمْ مِنْهَا، وَمَا الْوَجْهُ الْجَائِزُ لَكُمْ مِنْهَا وَمَا الَّذِي لَا يَجُوزُ، وَمَا الطَّلَاقُ الَّذِي لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَمَا لَيْسَ لَكُمْ ذَلِكَ فِيهِ، وَكَيْفَ وُجُوهُ ذَلِكَ؛ رَحْمَةً مِنْهُ بِكُمْ، وَنُعْمَةً مِنْهُ عَلَيْكُمْ، لِيَجْعَلَ بِذَلِكَ لِبَعْضِكُمْ مِنْ مَكْرُوهٍ إِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ
(4/183)
صَاحِبِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ الْمَخْرَجُ وَالْمُخَلِّصُ بِالطَّلَاقِ، وَالْفِرَاقِ، وَجُعِلَ مَا جُعِلَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الرَّجْعَةِ سَبِيلًا لَكُمْ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَا نَازَعَهُ إِلَيْهِ وَدَعَاهُ إِلَيْهِ هَوَاهُ بَعْدَ فِرَاقِهِ إِيَّاهُنَّ مِنْهُنَّ، لِتُدْرِكُوا بِذَلِكَ قَضَاءَ أَوْطَارِكُمْ مِنْهُنَّ، إِنْعَامًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، لَا لِتَتَّخِذُوا مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي آيِ كِتَابِي، وَتَنْزِيلِي تَفَضُّلًا مِنِّي بِبَيَانِهِ عَلَيْكُمْ، وَإِنْعَامًا وَرَحْمَةً مِنِّي بِكُمْ لَعِبًا وَسُخْرِيًّا. وَبِمَعْنَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(4/184)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبَّوَيْهِ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ الْحَسَنَ حَدَّثَهُمْ: " أَنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ أَوْ يَعْتِقُ، فَيُقَالُ: مَا صَنَعْتَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّمَا كُنْتُ لَاعِبًا؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَّقَ لَاعِبًا أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا فَقَدْ جَازَ عَلَيْهِ» قَالَ الْحَسَنُ: وَفِيهِ نَزَلَتْ: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] "
(4/184)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: " {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا طَلَّقْتُ لَاعِبًا، وَيَتَزَوَّجُ أَوْ يَعْتِقُ أَوْ يَتَصَدَّقُ فَيَقُولُ: إِنَّمَا فَعَلْتُ لَاعِبًا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] "
(4/184)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ [ص:185] يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ عَلَى الْأَشْعَرِيِّينَ فَأَتَاهُ أَبُو مُوسَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غَضِبْتُ عَلَى الْأَشْعَرِيِّينَ فَقَالَ: «يَقُولُ أَحَدُكُمْ قَدْ طَلَّقْتُ قَدْ رَاجَعْتُ لَيْسَ هَذَا طَلَاقُ الْمُسْلِمِينَ، طَلِّقُوا الْمَرْأَةَ فِي قُبْلِ عِدَّتِهَا»
(4/184)
حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنِ شَبَّةَ، قَالَ: ثنا أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ يَعْنِي الدَّالَانِيَّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ الْأَوْدِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " يَقُولُ أَحَدُكُمْ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ طَلَّقْتُكِ، قَدْ رَاجَعْتُكِ لَيْسَ هَذَا بِطَلَاقِ الْمُسْلِمِينَ، طَلِّقُوا الْمَرْأَةَ فِي قُبْلِ عِدَّتِهَا "
(4/185)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ، الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهِ، فَهَدَاكُمْ لَهُ، وَسَائِرِ نِعَمِهِ الَّتِي خَصَّكُمْ بِهَا دُونَ غَيْرِكُمْ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، فَاشْكُرُوهُ
(4/185)
عَلَى ذَلِكَ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَاذْكُرُوا أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ، مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِهِ ذَلِكَ، الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاذْكُرُوا ذَلِكَ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَاحْفَظُوا حُدُودَهُ فِيهِ. وَالْحِكْمَةُ: يَعْنِي: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَهِيَ السُّنَنُ الَّتِي عَلَّمَكُمُوهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَّهَا لَكُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
(4/186)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] يَعِظُكُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ وَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ «بِهِ» عَائِدَةٌ عَلَى الْكِتَابِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189] يَقُولُ: وَخَافُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ، وَفِيمَا أَنْزَلَهُ فَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوهُ وَتَتَعَدُّوا حُدُودَهُ، فَتَسْتَوْجِبُوا مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، وَنَكَالِ عَذَابِهِ
(4/186)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] وَقَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] يَقُولُ: وَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي حَدَّ لَكُمْ هَذِهِ الْحُدُودَ، وَشَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الشَّرَائِعَ، وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْفَرَائِضَ فِي كِتَابِهِ وَفِي تَنْزِيلِهِ، عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا أَنْتُمْ عَامِلُوهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَحَسَنٍ، وَسَيِّئٍ، وَطَاعَةٍ، وَمَعْصِيَةٍ، عَالِمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ، وَخَفِيِّهِ، وَسِرِّهِ، وَجَهْرِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَبِالسَّيِّئِ سَيِّئًا، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ؛ فَلَا تَتَعَرَّضُوا لِعِقَابِهِ، وَلَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ
(4/186)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232] ذِكْرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ كَانَ زَوْجُهَا مِنَ ابْنِ عَمٍّ لَهَا، فَطَلَّقَهَا وَتَرْكَهَا فَلَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا مِنْهُ، فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا إِيَّاهُ وَمَنَعَهَا مِنْهُ وَهِيَ فِيهِ رَاغِبَةٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ
(4/187)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: " كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ خَلَا عَنْهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا، فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا وَقَالَ: خَلَا عَنْهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] "
(4/187)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دَلْهَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ: " أَنَّ أُخْتَهُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَمَنَعَهَا مَعْقِلٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232][ص:188] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ "
(4/187)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثني مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ: " كَانَتْ لِي أُخْتٌ تُخْطَبُ وَأَمْنَعُهَا النَّاسَ، حَتَّى خَطَبَ إِلَيَّ ابْنُ عَمٍّ لِي فَأَنْكَحْتُهَا، فَاصْطَحَبَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَهُ رَجْعَةَ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خُطِبَتْ إِلَيَّ فَأَتَانِي يَخْطُبُهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقُلْتُ لَهُ: خَطَبْتَ إِلَيَّ فَمَنَعْتُهَا النَّاسَ، فَآثَرْتُكَ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقْتَ طَلَاقًا لَكَ فِيهِ رَجْعَةٌ، فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَيَّ آتَيْتَنِي تَخْطُبُهَا مَعَ الْخُطَّابِ؟ وَاللَّهِ لَا أَنْكِحُكُهَا أَبَدًا قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] قَالَ: فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ "
(4/188)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ خَلَّا عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ قَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْطُبُهَا وَالْمَرْأَةُ أُخْتُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فَأَنِفَ مِنْ ذَلِكَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَقَالَ: خَلَا عَنْهَا وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا وَلَوْ شَاءَ رَاجَعَهَا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ؟ فَأَبَى عَلَيْهَا أَنْ يُزَوِّجِهَا إِيَّاهُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَعَاهُ فَتَلَاهَا عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ "
(4/188)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ "
(4/189)
قَالَ الْحَسَنُ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، " أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: زَوَّجَتْ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ أُخْتِي وَأَكْرَمْتُكَ، ثُمَّ طَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؟ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا قَالَ: وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] قَالَ: فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ "
(4/189)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: " كَانَتْ أُخْتُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، فَخَطَبَ إِلَيْهِ، فَمَنَعَهَا أَخُوهَا، فَنَزَلَتْ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ "
(4/189)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأُبِينَتْ مِنْهُ، فَنَكَحَهَا آخَرُ، فَعَضَلَهَا أَخُوهَا مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ يُضَارُّهَا خِيفَةَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ "
(4/189)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ: «نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ [ص:190] أُخْتَهُ جُمَيْلُ ابْنَةُ يَسَارٍ كَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْبَدَّاحِ طَلَّقَهَا، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَخَطَبَهَا، فَعَضَلَهَا مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ»
(4/189)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَعَضَلَهَا أَخُوهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَهُوَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَخُوهَا " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: وَهُوَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ
(4/190)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ: " أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ يَسَارٍ، طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَخَطَبَهَا، فَأَبَى مَعْقِلٌ، فَقَالَ: زَوَّجْنَاكَ فَطَلَّقْتَهَا وَفَعَلْتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] "
(4/190)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] قَالَ: نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، كَانَتْ أُخْتَهُ تَحْتَ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ فَخَطَبَهَا، فَعَضَلَهَا مَعْقِلٌ، فَأَبَى أَنْ يَنْكِحُهَا إِيَّاهُ، فَنَزَلَتْ فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي بِهِ الْأَوْلِيَاءَ يَقُولُ: {فَلَا [ص:191] تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] "
(4/190)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: " كَانَتْ أُخْتِي عِنْدَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، فَخَطَبَهَا، فَأَبَيْتُ أَنْ أُزَوِّجَهَا، مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] الْآيَةَ وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ الرَّجُلُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ
(4/191)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] قَالَ: نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ ابْنَةُ عَمٍّ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ رَجَعَ يُرِيدُ رَجْعَتَهَا، فَأَمَّا جَابِرٌ فَقَالَ: طَلَّقْتَ ابْنَةَ عَمِنْا ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا الثَّانِيَةَ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ زَوْجَهَا قَدْ رَاضَتْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " وَقَالَ آخَرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَلَالَةً عَلَى نَهْيِ الرَّجُلِ عَنْ مُضَارَّةِ وَلِيَّتِهِ مِنَ النِّسَاءِ، يَعْضُلُهَا عَنِ النِّكَاحِ
(4/191)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232][ص:192] فَهَذَا فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً، أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِي تَزْوِيجِهَا وَأَنْ يُرَاجِعَهَا، وَتُرِيدُ الْمَرْأَةُ، فَيَمْنَعُهَا أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَمْنَعُوهَا "
(4/191)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ، وَيَنْقَضِي أَجَلُهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَتَرْضَى بِذَلِكَ، فَيَأْبَى أَهْلُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] "
(4/192)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَيَأْبَى أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ أَنْ يُزَوِّجُوهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] "
(4/192)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَصْحَابِهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] قَالَ: الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَيُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا فَلَا يَعْضُلُهَا وَلِيُّهَا أَنْ يَنْكِحَهَا إِيَّاهُ "
(4/192)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ثني اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] الْآيَةَ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَهُوَ وَلِيُّهَا، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، [ص:193] فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا حَتَّى يَرِثَهَا، وَيَمْنَعَهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِزَوْجٍ "
(4/192)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] هُوَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً ثُمَّ يَسْكُتُ عَنْهَا، فَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، فَقَالَ اللَّهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ: لَا تَعْضُلُوهُنَّ، يَقُولُ: لَا تَمْنَعُوهُنَّ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا رَضِيتِ الْمَرْأَةُ وَأَرَادَتْ أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْزَلَهَا دَلَالَةً عَلَى تَحْرِيمِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ مُضَارَّةَ مَنْ كَانُوا لَهُ أَوْلِيَاءً مِنَ النِّسَاءِ بِعَضْلِهِنَّ عَمَّنْ أَرَدْنَ نِكَاحَهُ مِنْ أَزْوَاجٍ كَانُوا لَهُنَّ، فَبِنَّ مِنْهُنَّ بِمَا تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَمْرِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَمْرِ أُخْتِهِ أَوْ فِي أَمْرِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمْرِ ابْنَةِ عَمِّهِ، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] لَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ بِمَنْعِكُمْ إِيَّاهُنَّ أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ مِنْ مُرَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِنَّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ تَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهُنَّ، يُقَالُ مِنْهُ: عَضَلَ فُلَانٌ فُلَانَةَ عَنِ الْأَزْوَاجِ يَعْضُلُهَا عَضْلًا وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مَنْ لُغَتُهَا: عَضَلَ يَعْضُلُ، فَمَنْ كَانَ مَنْ لُغَتُهُ عَضَلَ، فَإِنَّهُ إِنْ صَارَ إِلَى يَفْعَلُ، قَالَ: يَعْضَلُ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَالْقِرَاءَةُ عَلَى ضَمِّ الضَّادِ دُونَ كَسْرِهَا، وَالضَّمُّ مِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ عَضَلَ، وَأَصْلُ الْعَضْلِ: الضِّيقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِ: «وَقَدْ أَعْضَلَ بِي أَهْلُ [ص:194] الْعِرَاقِ، لَا يَرْضَوْنَ عَنْ وَالٍ، وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ وَالٍ» يَعْنِي بِذَلِكَ حَمَلُونِي عَلَى أَمْرٍ ضَيِّقٍ شَدِيدٍ لَا أُطِيقُ الْقِيَامَ بِهِ، وَمِنْهُ أَيْضًا: الدَّاءُ الْعُضَالُ، وَهُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَا يُطَاقُ عِلَاجُهُ لِضِيقِهِ عَنِ الْعِلَاجِ، وَتَجَاوُزِهِ حَدَّ الْأَدْوَاءِ الَّتِي يَكُونُ لَهَا عِلَاجٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
[البحر الوافر]
وَلَمْ أَقْذِفْ لِمُؤْمِنَةٍ حَصَانٍ ... بِإِذْنِ اللَّهِ مُوجِبَةً عُضَالًا
وَمَنْ قِيلَ: عَضَلَ الْفَضَاءُ بِالْجَيْشِ لِكَثْرَتِهِمْ: إِذَا ضَاقَ عَنْهُمْ مِنْ كَثْرَتِهِمْ وَقِيلَ: عَضَلَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا نَشَبَ الْوَلَدُ فِي رَحِمَهَا فَضَاقَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
[البحر الطويل]
وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ... يَذُمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلَا
وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتُ آمِنًا ... وَصَاحِبُكَ الْأَدْنَى إِذَا الْأَمْرُ أَعْضَلَا
و «أَنْ» الَّتِي فِي قَوْلِهِ {أَنْ يَنْكِحْنَ} [البقرة: 232] فِي مَوْضِعِ نَصْبِ قَوْلِهِ: {تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] إِذَا تَرَاضَى الْأَزْوَاجُ وَالنِّسَاءُ بِمَا يَحِلُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مِنْ أَبْضَاعِهِنَّ مِنَ الْمُهُورِ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ مُسْتَأْنَفٍ
(4/193)
كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ [ص:195] عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْكِحُوا الْأَيَامَى» فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَلَائِقُ بَيْنَهُمْ، قَالَ: «مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ أَهْلُوهُمْ» حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْو مِنْهُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مِنَ الْعَصَبَةِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَنَعَ الْوَلِيَّ مِنْ عَضْلِ الْمَرْأَةِ إِنْ أَرَادَتِ النِّكَاحَ، وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ إِنْكَاحُ نَفْسِهَا بِغَيْرِ إِنْكَاحِ وَلِيِّهَا إِيَّاهَا، أَوْ كَانَ لَهَا تَوْلِيَةُ مَنْ أَرَادَتْ تَوْلِيَتَهُ فِي إِنْكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ لِنَهْيِ وَلِيِّهَا عَنْ عَضْلِهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ، إِذْ كَانَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى عَضْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَتَى أَرَدَاتِ النِّكَاحَ جَازَ لَهَا إِنْكَاحُ نَفْسِهَا أَوِ إِنْكَاحُ مَنْ تُوَكِّلُهُ إِنْكَاحَهَا، فَلَا عَضْلَ هُنَالِكَ لَهَا مِنْ أَحَدٍ، فَيَنْهَى عَاضِلَهَا عَنْ عَضْلِهَا وَفِي فَسَادِ الْقَوْلِ بِأَنْ لَا مَعْنَى لِنَهْيِ اللَّهِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِأَنَّ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِهَا حَقًّا لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْوَلِيَّ مِنْ تَزْوِيجِهَا إِذَا خَطَبَهَا خَاطِبُهَا وَرَضِيَتْ بِهِ، وَكَانَ رِضًى عِنْدَ أَوْلِيَائِهَا جَائِزًا فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ لِمِثْلِهَا أَنْ تُنْكَحَ مِثْلَهُ، وَنَهَاهُ عَنْ خِلَافِهِ مِنْ عَضْلِهَا، وَمَنْعِهَا عَمَّا أَرَادَتْ [ص:196] مِنْ ذَلِكَ وَتَرَاضَتْ هِيَ وَالْخَاطِبُ بِهِ
(4/194)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 232] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْ نَهْيِ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ عَنْ عَضْلِهَا عَنِ النِّكَاحِ؛ يَقُولُ: فَهَذَا الَّذِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنْ عَضْلِهِنَّ عَنِ النِّكَاحِ عِظَةٌ مِنِّي مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، " يَعْنِي يُصَدِّقُ بِاللَّهِ فَيُوَحِّدُهُ، وَيَقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 62] يَقُولُ: وَمَنْ يُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَيُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، لِيَتَّقِيَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَظْلِمُهَا بِضَرَارِ وَلِيِّتِهِ، وَمَنْعِهَا مِنْ نِكَاحِ مَنْ رَضِيتَهُ لِنَفْسِهَا مِمَّنْ أَذِنَتْ لَهَا فِي نِكَاحِهِ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} [البقرة: 232] وَهُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَقَدْ قَالَ مِنْ قَبْلُ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] وَإِذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي خِطَابِ الْجَمِيعِ ذَلِكَ أَفَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَأَنْتَ تُخَاطِبُهُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ: هَذَا غُلَامُكَ وَهَذَا خَادِمُكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ: هَذَا خَادِمُكُمْ وَهَذَا غُلَامُكُمْ؟ قِيلَ: لَا، إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مَعَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَاتِ، لِأَنَّ مَا أُضِيفَ لَهُ الْأَسْمَاءُ غَيْرَهَا، فَلَا يَفْهَمُ سَامِعٌ سَمِعَ قَوْلَ قَائِلٍ لِجَمَاعَةٍ أَيُّهَا الْقَوْمُ هَذَا غُلَامُكَ، أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ: هَذَا غُلَامُكُمْ، إِلَّا عَلَى اسْتِخْطَاءِ النَّاطِقِ فِي مَنْطِقِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ طَلَبَ لِمَنْطِقِهِ ذَلِكَ وَجْهًا، فَالصَّوَابُ صَرْفُ كَلَامِهِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ انْصَرَفَ عَنْ خِطَابِ الْقَوْمِ بِمَا أَرَادَ خِطَابَهُمْ بِهِ إِلَى خِطَابِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَتَرْكِ مُجَاوَزَةِ
(4/196)
الْقَوْمِ بِمَا أَرَادَ مُجَاوَزَتَهُمْ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ لِكَثْرَةِ جَرْيِ ذَلِكَ عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ فِي مَنْطِقِهَا وَكَلَامِهَا، حَتَّى صَارَتِ الْكَافُ الَّتِي هِيَ كِنَايَةٌ اسْمَ الْمُخَاطَبِ فِيهَا كَهَيْئَةِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهَا، وَصَارَتِ الْكَلِمَةُ بِهَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا، كَأَنَّهَا لَيْسَ مَعَهَا اسْمٌ مُخَاطَبٌ، فَمَنْ قَالَ: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 232] أَقَرَّ الْكَافَ مِنْ ذَلِكَ مُوَحَّدَةً مَفْتُوحَةً فِي خِطَابِ الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوَاحِدِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالتَّثُنِيَةِ وَالْجَمْعِ، وَمَنْ قَالَ: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق: 2] كُسِرَ فِي خِطَابِ الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَفُتِحَ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ مِنَ الرِّجَالِ، فَقَالَ فِي خِطَابِ الِاثْنَيْنِ مِنْهُمْ ذَلِكُمَا، وَفِي خِطَابِ الْجَمْعِ ذَلِكُمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [البقرة: 232] خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ وَحَّدَ؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [البقرة: 232] وَإِذَا جَاءَ التَّأْوِيلُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُؤْنَةٌ
(4/197)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ} [البقرة: 49] نِكَاحُ أَزْوَاجِهِنَّ لَهُنَّ، وَمُرَاجَعَةُ أَزْوَاجِهِنَّ إِيَّاهُنَّ بِمَا أَبَاحَ لَهُنَّ مِنْ نِكَاحٍ، وَمَهْرٍ جَدِيدٍ، أَزْكَى لَكُمْ أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ، وَالْأَزْوَاجُ وَالزَّوْجَاتُ،
(4/197)
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {أَزْكَى لَكُمْ} [البقرة: 232] أَفْضَلُ وَخَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ فُرْقَتِهِنَّ أَزْوَاجَهُنَّ وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الزَّكَاةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَأَطْهَرُ} [البقرة: 232] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَطْهُرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَقُلُوبِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الرِّيبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الزَّوْجَ وَالْمَرْأَةَ عَلَاقَةُ حُبٍّ، لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَتَجَاوَزَا ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمَا، وَلَمْ يُؤْمَنْ مِنْ أَوْلِيَائِهِمَا أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْهُمَا مَا لَعَلَّهُمَا أَنْ يَكُونَا مِنْهُ بَرِيئَيْنِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْأَوْلِيَاءَ إِذَا أَرَادَ الْأَزْوَاجُ التَّرَاجُعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي الْحَالِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ لَهُمَا بِالتَّرَاجُعِ أَنْ لَا يَعْضُلَ وَلِيَّتَهُ عَمَّا أَرَادَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ لِجَمِيعِهِمْ، وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ مِمَّا يُخَافُ سُبُوقُهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَكْرُوهَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ سَرَائِرِهِمْ وَخَفِّيَاتِ أُمُورِهِمْ، مَا لَا يَعْلَمُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَدَلَّهُمْ بِقَوْلِهِ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ أَوْلِيَاءَ النِّسَاءِ بِإِنْكَاحِ مَنْ كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النِّسَاءِ إِذَا تَراضَتِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْخَاطِبُ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عَضْلِهِنَّ عَنْ ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِمَّا فِي قَلْبِ الْخَاطِبِ وَالْمَخْطُوبِ مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَالْمَيْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي وَبِثَوَابِي وَبِعِقَابِي فِي مَعَادِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ قَلْبِ الْخَاطِبِ وَالْمَخْطُوبَةِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنَ الْهَوَى وَالْمَحَبَّةِ، وَفِعْلُكُمْ ذَلِكَ أَفْضَلُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَهُمْ، وَأَزْكَى وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ فِي الْعَاجِلِ
(4/198)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَالنِّسَاءُ اللَّوَاتِي بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ وَلَهُنَّ أَوْلَادٌ قَدْ وَلَدْنَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ قَبْلَ بَيْنُونَتِهِنَّ مِنْهُمْ بِطَلَاقٍ أَوْ وَلَدْنَهُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ فِرَاقِهِمْ إِيَّاهُنَّ مِنْ وَطْءٍ كَانَ مِنْهُمْ لَهُنَّ قَبْلَ الْبَيْنُونَةِ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُنَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِهِمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِيجَابٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَيْهِنَّ رَضَاعَهُمْ، إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ لَهُ وَالِدًا حَيًّا مُوسِرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى: {وَإِنَّ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وَأَخْبَرَ تَعَالَى، أَنَّ الْوَالِدَةَ، وَالْمَوْلُودِ، لَهُ إِنْ تَعَاسَرَا فِي الْأُجْرَةِ الَّتِي تُرْضِعُ بِهَا الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، أَنَّ أُخْرَى سِوَاهَا تُرْضِعُهُ، فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا فَرْضًا رَضَاعَ وَلَدِهَا، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] دَلَالَةٌ عَلَى مَبْلَغِ غَايَةِ الرَّضَاعِ الَّتِي مَتَى اخْتَلَفَ الْوِلْدَانِ فِي رَضَاعِ الْمَوْلُودِ بَعْدَهَا، جُعِلَ حَدًّا يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَهُمَا، لَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَرْضًا عَلَى الْوَالِدَاتِ رَضَاعُ أَوْلَادِهِنَّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ {حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ سَنَتَيْنٍ
(4/199)
كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] سَنَتَيْنِ " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ [ص:200] مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَأَصْلُ الْحَوْلِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: حَالَ هَذَا الشَّيْءُ: إِذَا انْتَقَلَ، وَمِنْهُ قِيلَ: تَحَوَّلَ فُلَانٌ مِنْ مَكَانِ كَذَا: إِذَا انْتَقَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا مَعْنَى ذِكْرِ كَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] بَعْدَ قَوْلِهِ {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] وَفِي ذِكْرِ الْحَوْلَيْنِ مُسْتَغْنًى عَنْ ذِكْرِ الْكَامِلَيْنِ؟ إِذْ كَانَ غَيْرَ مُشْكِلٍ عَلَى سَامِعٍ سَمِعَ قَوْلَهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] مَا يُرَادُ بِهِ، فَمَا الْوَجْهُ الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ زِيدَ ذِكْرُ كَامِلَيْنِ؟ قِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَقُولُ: أَقَامَ فُلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا حَوْلَيْنِ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ شَهْرَيْنٍ، وَإِنَّمَا أَقَامَ بِهِ يَوْمًا وَبَعْضَ آخَرَ أَوْ شَهْرًا وَبَعْضَ آخَرَ، أَوْ حَوْلًا وَبَعْضَ آخَرَ فَقِيلَ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِيَعْرِفَ سَامِعُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِيَ أُرِيدَ بِهِ حَوْلَانِ تَامَّانِ، لَا حَوْلٌ وَبَعْضُ آخَرَ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ إِنَّمَا يَتَعَجَّلُ فِي يَوْمٍ وَنِصْفٍ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ تَامٌّ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ خَاصَّةً، فَتَقُولُ: الْيَوْمُ يَوْمَانِ مُنْذُ لَمْ أَرَهُ، وَإِنَّمَا تَعْنِي بِذَلِكَ يَوْمًا وَبَعْضَ آخَرَ، وَقَدْ تُوقِعُ الْفِعْلَ الَّذِي تَفْعَلُهُ فِي السَّاعَةِ أَوِ اللَّحْظَةِ عَلَى الْعَامِ وَالزَّمَانِ وَالْيَوْمِ، فَتَقُولُ زُرْتُهُ عَامَ كَذَا، وَقَتَلَ فُلَانٌ فُلَانًا زَمَانَ صِفِّينَ، وَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ [ص:201] الْخَبَرَ عَنْ عَدَدِ الْأَيَّامِ، وَالسِّنِينَ، وَإِنَّمَا تَعْنِي بِذَلِكَ الْأَخْبَارَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَنْطِقَ بِالْحَوْلَيْنِ، وَالْيَوْمَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْتُ قَبْلُ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ: فَعَلْتُهُ إِذْ ذَاكَ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] لَمَّا جَازَ الرَّضَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَيْسَا بِالْحَوْلَيْنِ، فَكَانَ الْكَلَامُ لَوْ أَطْلَقَ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ تَضْمِينِ الْحَوْلَيْنِ بِالْكَمَالِ، وَقِيلَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ حَوْلٌ وَبَعْضُ آخَرَ نَفْي اللَّبْسِ عَنْ سَامِعِيهِ بِقَوْلِهِ: {كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ حَوْلٌ وَبَعْضُ آخَرَ، وَأَبَيْنَ بِقَوْلِهِ: {كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] عَنْ وَقْتِ تَمَامِ حَدِّ الرَّضَاعِ، وَأَنَّهُ تَمَامُ الْحَوْلَيْنِ بِانْقِضَائِهِمَا دُونَ انْقِضَاءِ أَحَدِهِمَا وَبَعْضِ الْآخَرِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مَبْلَغِ غَايَةِ رَضَاعِ الْمَوْلُودِينَ، أَهُوَ حَدٌّ لِكُلِّ مَوْلُودٍ، أَوْ هُوَ حَدٌّ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حَدٌّ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ
(4/199)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " فِي الَّتِي تَضَعُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ: أَنَّهَا تُرْضِعُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وَإِذَا وَضَعَتْ لَسَبْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ لِتَمَامِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَإِذَا وَضَعَتْ لَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ شَهْرًا " [ص:202] حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
(4/201)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: " رُفِعَ إِلَى عُثْمَانَ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ: إِنَّهَا رُفِعَتْ لَا أُرَاهَا إِلَّا قَدْ جَاءَتْ بِشَرٍّ، أَوْ نَحْوِ هَذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَتَمَّتِ الرَّضَاعَ كَانَ الْحَمْلُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ: وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَإِذَا أَتَمَّتِ الرَّضَاعَ كَانَ الْحَمْلُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَخَلَّى عُثْمَانُ سَبِيلَهَا " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ حَدُّ رَضَاعِ كُلِّ مَوْلُودٍ اخْتَلَفَ وَالِدَاهُ فِي رَضَاعِهِ، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْبُلُوغَ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُ التَّقْصِيرَ عَنْهُ
(4/202)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرَّضَاعَ حَوْلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضِ مِنْهُمَا وَتَشَاورٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] إِنْ أَرَادَا أَنْ يَفْطِمَاهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَبَعْدَهُ "
(4/202)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، [ص:203] قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] قَالَ: إِنْ أَرَادَتْ أُمُّهُ أَنْ تُقْصُرَ عَنْ حَوْلَيْنِ كَانَ عَلَيْهَا حَقًّا أَنْ تَبْلُغَهُ لَا أَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ "
(4/202)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، جَمِيعًا، عَنِ الثَّوْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] وَالتَّمَامُ: الْحَوْلَانِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَفْطِمَهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ أَنَا أَفْطِمُهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَقَالَ الْأَبُ: لَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْطِمَهُ حَتَّى يَرْضَى الْأَبُ حَتَّى يَجْتَمِعَا، فَإِنِ اجْتَمَعَا قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَطَمَاهُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يَفْطِمَاهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضِ مِنْهُمَا وَتَشَاورٍ} [البقرة: 233] " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ دَلَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] عَلَى أَنْ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَإِنَّ الرَّضَاعَ إِنَّمَا هُوَ كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ
(4/203)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا آدَمُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ: ثنا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَقُولُ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وَلَا نَرَى رَضَاعًا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يُحَرِّمُ شَيْئًا "
(4/203)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، يَقَوْلَانِ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ»
(4/204)
حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا حَفْصٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «مَا كَانَ مِنْ رَضَاعٍ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، أَوْ فِي الْحَوْلَيْنِ بَعْدَ الْفِطَامِ فَلَا رَضَاعَ»
(4/204)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ: «أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً تُرْضِعُ بَعْدَ حَوْلَيْنٍ، فَقَالَ لَا تُرْضِعِيهِ»
(4/204)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: «مَا كَانَ مِنْ وَجُورٍ، أَوْ سَعُوطٍ، أَوْ رَضَاعٍ فِي الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يَحْرُمْ شَيْئًا»
(4/204)
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ، أَوْ بَعْدَ حَوْلَيْنِ»
(4/204)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَيْسَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ بَعْدَ التَّمَامِ، إِنَّمَا يَحْرُمُ مَا أَنَبْتَ اللَّحْمُ، وَأَنْشَأَ الْعَظْمُ»
(4/205)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالِ السَّنَتَيْنِ»
(4/205)
حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] قَالَ: لَا رَضَاعَ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْحَوْلَيْنِ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] دَلَالَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ فَرْضًا عَلَى وَالِدَاتِ الْمَوْلُودِينَ أَنْ يُرْضِعَنَّهُمْ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنٍ، ثُمَّ خَفَّفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فَجَعَلَ الْخِيَارَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ إِذَا أَرَادُوا الْإِتْمَامَ أَكْمَلُوا حَوْلَيْنِ، وَإِنْ أَرَادُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَطْمَ الْمَوْلُودِ كَانَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ عَلَى النَّظَرِ مِنْهُمْ لِلْمَوْلُودِ
(4/205)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الْيُسْرَ، وَالتَّخْفِيفَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] "
(4/205)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] يَعْنِي الْمُطَلَّقَاتِ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، ثُمَّ أَنْزَلَ الرُّخْصَةَ، وَالتَّخْفِيفَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] " ذِكْرُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَالِدَاتِ اللَّوَاتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْبَائِنَاتِ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا قَبْلُ
(4/206)
حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] إِلَى: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] أَمَّا الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، وَأَنَّهَا تُرْضِعُ لَهُ وَلَدَهُ بِمَا يَرْضَعُ لَهُ غَيْرُهَا "
(4/206)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ لَهُ وَلَدًا " حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، بِنَحْوِهِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [ص:207] لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] الْقَوْلُ الَّذِي رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَافَقَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا فِي الرَّضَاعِ الْمَوْلُودُ إِذَا اخْتَلَفَ وَالِدُهُ، وَأَنْ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يُحَرِّمُ شَيْئًا، وَأَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ كُلُّ مَوْلُودٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ وِلَادُهُ، أَوْ لَسَبْعَةٍ أَوْ لَتِسْعَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُنَا: إِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْغَايَةِ الَّتِي يُنْتَهَى إِلَيْهَا فِي الرَّضَاعِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْوَالِدَيْنِ فِيهِ؛ فَلَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا حَدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا، كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَا وَرَاءَ حَدُّهُ مُوَافِقًا فِي الْحُكْمِ مَا دُونَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ مَعْنًى مَعْقُولٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِيَ هُوَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ مِنَ الْأَجَلِ لَمَّا كَانَ وَقْتُ رَضَاعٍ، كَانَ مَا وَرَاءَهُ غَيْرَ وَقْتٍ لَهُ، وَأَنَّهُ وَقْتٌ لِتَرْكِ الرَّضَاعِ، وَأَنَّ تَمَامَ الرَّضَاعِ لَمَّا كَانَ تَمَامُ الْحَوْلَيْنِ، وَكَانَ التَّامُّ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا مَعْنَى إِلَى الزِّيَادَةِ فِيهِ، كَانَ لَا مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ فِي الرَّضَاعِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ، وَأَنَّ مَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ مِنَ الرَّضَاعِ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا، كَانَ مَا وَرَاءَهُ غَيْرَ مُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ كُلُّ مَوْلُودٍ لِأَيٍّ وَقْتٍ كَانَ وِلَادُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ سَبْعَةٍ، أَوْ تِسْعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضَ الْمَوْلُودِينَ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْخُصُوصِ بِغَيْرِ بَيَانِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِنَا «كِتَابُ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ» بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. [ص:208] فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَجَعَلَ ذَلِكَ حَدًّا لِلْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ حَمْلٌ، وَرَضَاعٌ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَمَا نَقَصَ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ عَنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَهُوَ مَزِيدٌ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَمَا زِيدَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ نَقَصَ مِنْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجَاوِزَ بِهِمَا كِلَيْهِمَا مُدَّةَ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، كَمَا حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ؟ قِيلَ لَهُ: فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُدَّةُ الْحَمْلِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِنْ بَلَغَتْ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، أَلَّا يَرْضَعَ الْمَوْلُودُ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَإِنْ بَلَغَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ أَنْ يَبْطُلَ الرَّضَاعُ فَلَا تُرْضِعُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قَدِ اسْتَغْرَقَ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا وَجَاوَزَ غَايَتَهُ أَوْ يَزْعُمُ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ لَنْ تَجَاوِزَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَيَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ، وَيُكَابِرُ الْمَوْجُودَ وَالْمُشَاهَدَ، وَكَفَى بِهِمَا حُجَّةً عَلَى خَطَأِ دَعْوَاهُ إِنِ ادَّعَى ذَلِكَ، فَإِلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ لَجَأَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَضَحَ لِذَوِي الْفَهْمِ فَسَادُ قَوْلِهِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَدْ ذَكَرْتُ آنِفًا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَا جَاوَزَ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَظِيرَ مَا دُونَ حَدِّهِ فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ قُلْتُ: إِنَّ الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ قَدْ يُجَاوِزَانِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا؟ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] حَدًّا تَعْبُدُ عِبَادُهُ بِأَنْ لَا يُجَاوِزَهُ كَمَا جَعَلَ قَوْلَهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] حَدًّا لِرَضَاعِ الْمَوْلُودِ التَّامِّ الرَّضَاعِ، وَتَعَبُّدِ [ص:209] الْعِبَادِ بِحَمْلِ وَالِدَيْهِ عَلَيْهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ، وَإِرَادَةِ أَحَدِهِمَا الضِّرَارَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَكُونُ لِلْعِبَادِ السَّبِيلُ إِلَى طَاعَتِهِ بِفِعْلِهِ وَالْمَعْصِيَةِ بِتَرْكِهِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَى فِعْلِهِ، وَلَا إِلَى تَرْكِهِ سَبِيلٌ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ وَلَا النَّهْي عَنْهُ، وَلَا التَّعَبُّدُ بِهِ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْحَمْلَ مِمَّا لَا سَبِيلِ لِلنِّسَاءِ إِلَى تَقْصِيرِ مُدَّتِهِ، وَلَا إِلَى إِطَالَتِهَا فَيَضَعْنَهُ مَتَى شِئْنَ وَيَتْرُكْنَ وَضْعَهُ إِذَا شِئْنَ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَنَّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ حَمْلَتُهُ وَوِلْدَتُهُ وَفَصْلَتُهُ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا، لَا أَمْرٌ بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزَ فِي مُدَّةِ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا لِمَا وَصَفْنَا، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعْتُهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، فَإِنْ ظَنَّ ذُو غَبَاءٍ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذْ وَصَفَ أَنَّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَوَضَعَتْهُ، وَفَصَلَتْهُ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ خَلْقِهِ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَمْلَ كُلِّ عِبَادِهِ وَفِصَالِهِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا؛ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عِبَادِهِ صِفَتَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِذَا بَلَغُوا أَشَدَّهُمْ وَبَلَغُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدِيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19] عَلَى مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الَّذِي وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي وُجُودِنَا مَنْ يَسْتَحْكِمُ كُفْرُهُ بِاللَّهِ وَكُفْرَانُهُ نِعَمَ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَجُرْأَتِهِ عَلَى وَالِدَيْهِ بِالْقَتْلِ وَالشَّتْمِ وَضُرُوبِ الْمَكَارِهِ عِنْدَ [ص:210] اسْتِكْمَالِهِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِيهِ وَبُلُوغِهِ أَشَدَّهُ مَا يَعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ صِفَةَ جَمِيعِ عِبَادِهِ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَ بِهَا بَعْضًا مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ مَا لَا يُنْكِرُهُ وَلَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ مِنَ النَّاسِ لَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُولَدُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَلِسَنَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ مَنَ يُولَدُ لَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُولَدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بِالْيَاءِ فِي (يُتِمَّ) وَنَصْبِ الرَّضَاعَةِ بِمَعْنَى: لِمَنْ أَرَادَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يُتِمَّ رَضَاعَ وَلَدِهِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تَتِمَّ الرَّضَاعَةُ) بِالتَّاءِ فِي «تَتِمَّ» وَرَفْعُ «الرَّضَاعَةُ» بِصِفَتِهَا، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فِي «يُتِمُّ» وَنَصْبِ «الرَّضَاعَةِ» لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] فَكَذَلِكَ هُنَّ يُتَمِّمُهَا إِذَا أَرَدْنَ هُنَّ وَالْمَوْلُودُ لَهُ إِتَمَامُها، وَأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ الَّذِي ثَبَتَتْ بِهِ الْحُجَّةُ دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ حُكِيَ فِي الرَّضَاعَةِ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ كَسْرُ الرَّاءِ الَّتِي فِيهَا، وَإِنْ تَكُنْ صَحِيحَةً فَهِيَ نَظِيرَةُ الْوَكَالَةِ وَالْوِكَالَةِ، وَالدَّلَالَةُ وَالدَّلَالَةُ، وَمَهَرْتُ الشَّيْءَ مَهَارَةً وَمَهَارَةً، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ الرَّضَاعُ وَالرَّضَاعُ، كَمَا قِيلَ الْحَصَادُ وَالْحَصَادُ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ [ص:211] فَبِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ
(4/206)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] وَعَلَى آبَاءِ الصِّبْيَانِ لِلْمَرَاضِعِ رِزْقُهُنَّ، يَعْنِي رِزْقَ، وَالِدَتِهِنَّ وَيَعْنِي بِالرِّزْقِ مَا يَقُوتُهُنَّ مِنْ طَعَامٍ، وَمَا لَا بُدَّ لَهُنَّ مِنْ غِذَاءٍ وَمَطْعَمٍ وَكِسْوَتِهِنَّ، وَيَعْنِي بِالْكِسْوَةِ الْمَلْبَسِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] بِمَا يَجِبُ لِمِثْلِهَا عَلَى مِثْلِهِ إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَلِمَ تَفَاوَتَ أَحْوَالِ خَلْقِهِ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَنَّ مِنْهُمُ الْمُوسِعُ وَالْمُقْتِرُ وَبَيَّنَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ كُلًّا أَنْ يُنْفِقَ عَلَى مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسَرَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]
(4/211)
وَكَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ لَهُ وَلَدًا، فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ تُرْضِعَ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فَعَلَى الْوَالِدِ رِزْقُ الْمُرْضِعِ، وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ، لَا تُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا "
(4/211)
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثنا زَيْدٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، قَوْلَهُ: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] وَالتَّمَامُ: الْحَوْلَانِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] عَلَى الْأَبِ طَعَامُهَا، وَكِسْوَتُهَا بِالْمَعْرُوفِ "
(4/212)
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ: " {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] قَالَ: عَلَى الْأَبِ "
(4/212)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: لَا تُحَمَّلُ نَفْسٌ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا مَا لَا يَضِيقُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا وُجُودُهُ إِذَا أَرَادَتْ، وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: لَا يُوجِ