التفسير الوسيط للواحدي ج ص معتمد 009

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
في قرء واحد، وللعلم ببقاء زمان الرجعة، ولمراعاة النفقة والسكنى، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق: 1] فلا تعصوه فيما أمركم به، {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يساكنها فيه قبل الطلاق.
{وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وعلى المرأة أيضًا ألا تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت، سواء خرجت ليلًا أو نهارًا، وقوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة ههنا: الزنا، وهو أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها، وقال السدي، والكلبي: الفاحشة: خروجها من البيت في زمان العدة.
وقال الضحاك، وقتادة: هي النشوز، وسوء الخلق.
فهي إذا زنت، أو خرجت في عدتها، أو نشزت، كان للزوج إخراجها من البيت، وقطع سكناها، وقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق: 1] يعني: ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [الطلاق: 1] فيطلق لغير السنة، {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] أثم فيما بينه وبين الله تعالى، {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يوقع في قلب الزوج المحبة، لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين، وهذا يدل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقًا، وأن لا يجمع بين الثلاث، قال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثًا في وقت واحد، فلا معنى لقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] .
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {3} } [الطلاق: 2-3] .
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق: 2] قاربن انقضاء أجل العدة، فأمسكوهن بأن تراجعوهن، بمعروف بما أمر الله به، وهذا مفسر في { [البقرة،] وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: 2] قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق، وعند
(4/312)
1
الرجعة.
ثم قال للشهداء: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وهو مفسر فيما سبق، إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدو ابنًا له، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر له بذلك، وشكا إليه الفاقة أيضًا، فقال له: " اتق الله واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".
ففعل الرجل ذلك، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه، وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلًا، وجاء بها إلى أبيه.
فذلك قوله: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] .
1210 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا سَعِيدُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، نا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قَالَ: مِنْ شُبُهَاتِ الدُّنْيَا، وَمِنْ غَمَراتِ الْمَوْتِ، وَشَدَائِدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
1211 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ الْعَنَزِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، نا مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّمْلِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
(4/313)
1
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا»
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: ومن يثق به فيما نابه، كفاه الله ما أهمه، كما ورد في الحديث: «من سره أن يكون أقوى من الناس، فليتوكل على الله» ، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] سيبلغ أمره فيما يريد منكم، ومن أضاف حذف التنوين وهو مراد، كقوله: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] و {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ} [الطلاق: 3] من الشدة، والرخاء أجلا ينتهي إليه قدر الله ذلك كله لا يقدم ولا يؤخر.
وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {4} ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا {5} } [الطلاق: 4-5] .
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ} [الطلاق: 4] الآية، لما نزلت عدة النساء المطلقة، والمتوفى عنها زوجها في { [البقرة، قال أبيّ بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون: قد بقي من النساء من لم يذكر فيه شيء.
قال: ما هو؟ قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل.
فنزلت:] وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [سورة الطلاق: 4] شككتم، فلم تدروا ما عدتهن، {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي: هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست، عدتها ثلاثة أشهر، وأولات الأحمال يعني: الحوامل،
(4/314)
1
أجلهن عدتهن، {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها، مطلقة كانت، أو متوفى عنها زوجها، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 4] في جميع ما أمره الله بطاعته فيه، {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.
ذلك يعني: ما ذكر من الأحكام، {أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 5] بطاعته، {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: 5] من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، ويعظم له في الآخرة، أجرًا.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى {6} لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا {7} } [الطلاق: 6-7] .
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] من صلة معناه: أسكنوهن حيث سكنتم، من وجدكم سعتكم وطاقتكم، والوجد معناه: المقدرة، قال الفراء: يقول على ما يجد، فإن كان موسعًا وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان مقترًا فعلى قدر ذلك.
قال قتادة: وإن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه.
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] نهى الله تعالى عن مضارتهن، بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة، {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لأن عدتها تكون بوضع الحمل، فلها النفقة إلى أن تضع حملها، وإن كانت مطلقة ثانية أو ثالثة، فإنها تستحق النفقة إذا كانت حاملًا، {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يعني: حق الرضاع وأجرته، {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] قال مقاتل: يتراضى الأب والأم أجر مسمى.
والخطاب للأزواج من الرجال والنساء، يأمرهم أن يأتوا المعروف وما هو الأحسن، ولا يقصدوا التعاسر والضرار، وإن تعاسرتم في الأجرة، ولم يتراض الوالدان على شيء، {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي.
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن، على قدر سعتهم، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: كان رزقه بمقدار القوت، {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فلينفق على قدر ذلك، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] أعطاها من الرزق، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] بعد ضيق وشدة غنى وسعة، وكان الغالب على
(4/315)
1
أكثرهم في ذلك الوقت الفقر، ثم فتح الله عليهم بعد ذلك وجعل يسرًا بعد عسر.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا {8} فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا {9} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا {10} رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا {11} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {12} } [الطلاق: 8-12] .
وكأين وكم، {مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [الطلاق: 8] قال ابن عباس: عتوا على الله، وعلى أنبيائهم.
{فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 8] قال مقاتل: حاسبها الله تعالى في الدنيا، فجازاها بالعذاب.
وهو قوله: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8] فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] ثقل عاقبة أمر كفرها، {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 9] خسرانًا في الدنيا والآخرة، وهو قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 10] يخوف الله كفار مكة، ثم قال للذين آمنوا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا {10} رَسُولا} [الطلاق: 10-11] يعني: أنزل إليكم قرآنا، وأرسل ورسولًا، وإنزال الذكر يدل على إرسال الرسول، يتلو عليكم يعني: الرسول، {آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} [الطلاق: 11] إلى قوله: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] خلق من الأرض بعدد السموات، {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه، خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
{لِتَعْلَمُوا} [الطلاق: 12] أي: أعلمكم هذا، لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه، وهو قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .
(4/316)
1
تفسير سورة التحريم
اثنتا عشرة آية، مدنية.
1212 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِئُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَايِنِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] أَعْطَاهُ اللَّهُ تَوْبَةً نَصُوحًا ".
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {1} قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {2} وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ {3} إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ {4} عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا {5} } [التحريم: 1-5] .
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] قال المفسرون: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت حفصة، فزارت أباها، فلما رجعت، أبصرت مارية في بيتها مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت، وقالت: إني رأيت من كان معك في البيت.
وكان ذلك يوم عائشة، فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجه حفصة الغيرة والكآبة، قال لها: «لا تخبري عائشة، ولك عليّ ألا أقربها أبدًا» .
فأخبرت حفصة عائشة، وكانتا
(4/317)
1
متصافيتين، فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى حلف ألا يقرب مارية، فأنزل الله هذا ال { [.
قال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: جعلت امرأتي علىّ حرامًا.
قال: كذبت، ليست عليك بحرام.
ثم تلا هذه ال::] يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الآية، عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة، وقوله: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] أي: تطلب رضاهن بتحريم مارية على نفسك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] غفر لك ما فعلت من تحريم الجارية على نفسك.
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} [التحريم: 2] أي: بين وأوجب، {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] تحليلها بالكفارة، وتحلة أصلها: تحللة، على وزن تفعلة فأدغمت، وتفعلة من مصادر التفعيل، كالتوضية والتسمية، قال مقاتل: قد بين الله كفارة إيمانكم في { [المائدة.
أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة، قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله.
] وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} [سورة التحريم: 2] وليكم وناصركم، وهو العليم بخلقه، الحكيم فيما فرض من حكمه.
قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] قال جماعة المفسرين: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى الغيرة، والكراهية في وجه حفصة، أراد أن يترضاها، فأسر إليها بشيئين: تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر
(4/318)
1
رضي الله عنهما.
{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم: 3] أخبرت به حفصة عائشة، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم: 3] أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فأخبر النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفصة عند ذلك ببعض ما قالت، وهو قوله: عرف بعضه أي: عرف حفصة بعض ما أخبرت به عائشة، {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] يعني: ذكر الخلافة، كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتشر ذلك في الناس، فأعرض عنه.
1213 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا سَلامُ بْنُ عِصَامٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، نا عَمِّي، نا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ إِمَارَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ»
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] قال لحفصة: «أبوك وأبو عائشة واليا الناس من بعدي، وإياك أن تخبري أحدًا» .
وقرئ عَرَفَ بالتخفيف ومعناه: جازي عليه، ولا يكون أن العلم، لأنه لا يجوز أن يعرف البعض مع إطلاع الله إياه على جميعه، وهذا كما تقول لمن يحسن إليك أو يسيء: أنا أعرف لك هذا.
أي: لا يخفى علي فأجازيك بما يكون وفقًا له.
قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [التحريم: 3] أي: أخبر حفصة بإفشائها السر، {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم: 3] من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ قال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] .
ثم خاطب عائشة وحفصة، فقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] أي: من التعاون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيذاء، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] عدلت ومالت عن الحق، وهو: أنهما أحبتا ما كره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اجتناب جاريته، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4] أي: تتظاهرا، وتتعاونا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيذاء.
1214 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّضْرَوِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا رَأَيْتُ مَوْضِعًا فَمَكَثْتُ سَنَتَيْنِ، فَلَمَّا كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَذَهَبَ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، فَجَاءَ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، فَذَهَبْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ
(4/319)
1
مِنَ الْمَاءِ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ.
قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم: 4] أي: وليه في العون، يعني: يتولى نصرته، وجبريل وليه، وصالح المؤمنين قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، يواليان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينصرانه.
1215 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُثَنَّى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّ أَبَا زُمَيْلٍ الْحَنَفِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّ مَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلامٍ إِلا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ.
1216 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] ، قَالَ: صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَعْنَى الآيَةِ، إِنْ تَعَاوَنْتُمَا عَلَى إِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَبَوَيْكُمَا يُوَافِقَانِكُمَا، وَلا يَتَظَاهَرَانِ مَعَكُمَا، فَإِنَّهُمَا وَلِيَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ} [التحريم: 4] قال مقاتل: بعد الله جبريلُ وصالحُ المؤمنين.
ظهير أعوان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع، كقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ
(4/320)
1
رَفِيقًا} [النساء: 69] .
ثم خوف نساءه، فقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] أي: واجب من الله إن طلقكن رسوله، {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] ، ثم نعت تلك الأزواج التي كان يبدله لو طلق نساءه، فقال: مسلمات خاضعات لله بالطاعة، مؤمنات مصدقات بتوحيد الله، قانتات طائعات، سائحات صائمات، وذكرنا تفسيره عند قوله: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112] ، ثيبات جمع ثيب، وهي: المرأة التي قد تزوجت، ثم بانت عن زوجها، فعادت كما كانت غير ذات زوج، وأبكارًا يريد: عذارى.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} يَأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {7} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {8} } [التحريم: 6-8] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم: 6] قال عطاء، عن ابن عباس: أي: بالانتهاء عما نهاكم الله عنه، والعمل بطاعته.
وأهليكم قال عمر: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ قال: «تنهونهم عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهم بما أمركم الله به» .
قال مقاتل بن حيان: هو أن يؤدب الرجل المسلم نفسه وأهله، فيعلمهم الخير، وينهاهم عن الشر.
وذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه، وأهله، وعبيده وإمائه، في تأديبهم وتعليمهم، قال مقاتل بن سليمان: قوا أنفسكم، وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة.
وهو قوله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وقد سبق تفسيره، عليها ملائكة يعني: خزنة النار، غلاظ على أهل النار، شداد أقوياء، يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفًا في جهنم، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] يعني: ينصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه، قال أبو زيد: توبة نصوح صادقة، يقال: نصحته.
أي: صدقته، وروى عكرمة، عن ابن عباس،
(4/321)
1
قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، ما التوبة النصوح؟ قال: «أن يتوب التائب، ثم لا يرجع في ذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع» .
وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، وهو في القرآن.
ثم قرأ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] .
وقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] أي: لا يعذبهم الله بدخول النار، {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] مفسر في { [الحديد،] يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [سورة التحريم: 8] إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا الله أن يتمم لهم نورهم، ويبلغهم به الجنة، قال ابن عباس: ليس أحد من الموحدين إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق.
فهو يقول: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] من إطفاء نور المنافقين، وإثبات نور المؤمنين.
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {9} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ {10} } [التحريم: 9-10] .
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم: 9] مفسر في { [براءة.
ثم خوف عائشة وحفصة في تظاهرهما على الرسول، وذكر أنهما إن عصتا ربهما، لم يغن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهما شيئًا، وضرب لهما امرأة نوح، وامرأة لوط مثلًا، فقال:] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [سورة التحريم: 10] ثم ذكر حالهما، فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم: 10] يعني: نوحا ولوطا، {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين: كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف: إذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت، ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف.
وقال الكلبي: أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان.
{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم: 10] لم يدفعا عنهما عذاب الله أعلم الله تعالى، أن الأنبياء لا يغنون عمن عمل بالمعاصي شيئًا، فقطع الله تعالى بهذه الآية طمع من ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره.
ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا، وهو قوله:
(4/322)
1
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {11} وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ {12} } [التحريم: 11-12] .
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] وهي: آسية ابنة مزاحم، كانت قد آمنت بموسى، وسألت الله بيتًا في الجنة، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] أي: حيث لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة، قال أبو هريرة: إن فرعون أوتد لامرأته بأوتاد في يديها ورجليها، فكانت إذا تفرقوا عنها، ظللتها الملائكة.
فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] فكشف الله لها بيتها في الجنة، حتى رأته قبل موتها، وقوله: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال مقاتل: وعمله الشرك.
وروى أبو صالح، عن ابن عباس: {وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال: جماعة: {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] المشركين أهل دينه.
قال مقاتل: يقول الله تعالى لعائشة، وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية، كونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم.
وهو قوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] وقد تقدم تفسيره، {فَنَفَخْنَا فِيهِ} [التحريم: 12] أي: في جنب درعها، وذلك: أن جبريل عليه السلام مد جيب درعها بإصبعه، ثم نفخ في جيبها، فحبلت، والكناية من غير مذكور.
1217 - أَخْبَرَنَا بِالْإِسْنَادِ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيَّ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(4/323)
1
قَالَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم: 12] يعني: الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة في كتبه، وهو قوله: وكتبه قال ابن عباس: يعني: التي أنزلت على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى عليهم السلام.
وقرئ: وكتابه والمراد به الكثرة أيضًا، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] قال قتادة: من القوم المطيعين لربهم.
وقال عطاء: من المصلين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء.
ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم مريم، وكانوا مطيعين لله، أهل بيت صلاح وطاعة.
(4/324)
1
تفسير سورة المُلك
ثلاثون آية، مكية.
1218 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ تَبَارَكَ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ»
1219 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدُونَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، أنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
1220 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا الْحَوْضِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أُتِيَ رَجُلٌ مِنْ جَوَانِبِ قَبْرِهِ فَجَعَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاثُونَ آيَةً تُجَادِلُ عَنْهُ حَتَّى مَنَعَتْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: فَنَظَرْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ، فَلَمْ نَجِدْهَا إِلا تَبَارَكَ.
بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2} الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ
(4/325)
1
فُطُورٍ {3} ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ {4} وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ {5} } [الملك: 1-5] .
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 1-2] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة.
وقال قتادة: يعني: موت الإنسان أذل الله به ابن آدم، والحياة حياته في الدنيا.
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] اللام في: ليبلوكم تتعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء بالحياة، وفيها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] : «أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله» ، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتمكم عقلًا، أشدكم خوفًا لله، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظرًا» .
وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا، وأترك لها.
وهو العزيز في انتقامه ممن عصاه، الغفور لمن تاب إليه.
ثم أخبر عن صنعه الذي يدل على توحيده، فقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3] بعضها فوق بعض، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] قال مقاتل: يعني: ما ترى يابن آدم في خلق السموات من عيب.
وقال قتادة: ما ترى خللًا ولا اختلافًا.
وقال الكلبي: وهو الذي يفوت بعضه بعضًا.
وقرئ تفاوت وهما بمنزلة واحدة، مثل: تصعد وتصاعد، وتعهد به وتعاهدته، فارجع البصر كرر النظر، {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] شقوق، وصدوع، وخروق.
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] قال ابن عباس: مرة بعد مرة.
(4/326)
1
{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} [الملك: 4] مبعدًا صاغرًا، لم ير ما يهوى، وهو حسير كليل منقطع، قال الزجاج: أي: وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللًا.
وهو فعيل بمعنى: فاعل، من الحسور وهو الإعياء.
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك: 5] الأولى إلى الأرض، وهي التي يراها الناس، بمصابيح واحدها: مصباح وهو السراج، ويسمى الكوكب أيضًا مصباحًا لإضاءته.
قال ابن عباس: بنجوم لها نور.
{وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع، وأعتدنا لهم في الآخرة، عذاب السعير النار الموقدة.
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6} إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ {7} تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ {9} وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ {11} } [الملك: 6-11] .
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الملك: 6] الآية، وهي ظاهرة.
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} [الملك: 7] صوتًا مثل أول نهيق الحمار، وهو أقبح الأصوات، {وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] تغلي بهم كغلي المرجل، وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل.
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] تنقطع من تغيظها عليهم، قال ابن قتيبة: تكاد تنشق غيظًا على الكفار.
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك: 8] جماعة منهم، سألهم خزنتها سؤال توبيخ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} [الملك: 10] الهدى، أو نعقله، قال الزجاج: لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر، أو نعقل عقل من يميز وينظر.
ما كنا من أهل النار.
1221 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أنا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَتَكِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ السُّلَمِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عِيسَى السِّجْزِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ
(4/327)
1
شَيْءٍ دِعَامَةً وَدِعَامَةُ الْمُؤْمِنِ عَقْلُهُ، فَبِقَدْرِ مَا يَعْقِلُ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ نَدِمَ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] .
1222 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، نا مَنْصُورُ بْنُ سُفْيَانَ، نا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَمِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، وَمِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يُجْزَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ» .
1223 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا سَلامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَابَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَثْنَى قَوْمٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَبْلَغُوا الثَّنَاءَ فِي خِصَالِ الْخَيْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ عَقَلَ الرَّجُلُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُخْبِرُكَ عَنِ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَأَصْنَافِ الْخَيْرِ، وَتَسْأَلُنَا عَنْ عَقْلِهِ؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَحْمَقَ لَيُصِيبُ بِحُمْقِهِ أَعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الْفَاجِرِ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ الْعِبَادُ غَدًا فِي الدَّرَجَاتِ وَيَنَالُونَ الزُّلْفَى مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» .
وقال الله تعالى: فاعترفوا بذنبهم يعني: بتكذيبهم الرسل، وهو قولهم: {فَكَذَّبْنَا} [الملك: 9] ، فسحقًا فبعدًا، {لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] من رحمة الله.
ثم أخبر عن المؤمنين، وعما أعد لهم في الآخرة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12} وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {14} هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {15} } [الملك: 12-15] .
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: 12] يخافون عذاب ربهم، ولم يروه، فيؤمنون به خوفًا من عذابه، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] وهو الجنة.
ثم عاد إلى خطاب الكفار، فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
(4/328)
1
اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ألا يعلم ما في الصدور من خلقها، وهو اللطيف لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما فيها من السر، والوسوسة.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا} [الملك: 15] لم يجعلها بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة، والغلظ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] جبالها وإكامها، وقال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: طرقها، وأطرافها، وجوانبها.
{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] مما خلقه رزقًا لكم في الأرض، وإليه النشور وإلى الله تبعثون من قبوركم.
ثم خوف كفار مكة، فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ {17} وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {18} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ {19} } [الملك: 16-19] .
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] قال المفسرون: يعني: عقوبة من السماء، أو عذاب من في السماء.
والمعنى: من في السماء سلطانه، وملكه، وقدرته، لا بد من أن يكون المعنى هذا، لاستحالة أن يكون الله في مكان أو موصوفًا بجهة، وأهل المعاني يقولون: من في السماء هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل.
والمعنى: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] بأمره، {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] تضطرب، وتتحرك، والمعنى: أن الله يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتلعو عليهم، وهم يخسفون فيها، والأرض تمور فوقهم، فتقلبهم إلى أسفل.
{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17] كما أرسل على قوم لوط، فستعلمون في الآخرة، وعند الموت، كيف نذير أي: إنذاري إذا عاينتم العذاب.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الملك: 18] يعني: كفار الأمم السابقة، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 18] أي: إنكاري عليهم بالعذاب.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19] تصف أجنحتها في الهواء، ويقبضن أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو: بسط الأجنحة، وقبضها بعد البسط، {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ} [الملك: 19] أي: في الحالين: في حال الصف، والقبض،
(4/329)
1
وفي هذا أكبر آية على قدرة الله تعالى، إذ أمسكها في الهواء على ثقلها ضخم أبدانها، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] الآية.
قوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ {20} أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ {21} أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {22} قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {23} قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {24} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {25} قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {26} فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ {27} } [الملك: 20-27] .
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20] لفظ الجند موحد، لذلك قيل: هذا الذي هو استفهام إنكار، أي: لا جند لكم، ينصركم يمنعكم من عذاب الله، قال ابن عباس: ينصركم مني إن أردت عذابكم.
{إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أي: من الشيطان، يعدهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] أي: من الذي يرزقكم بالمطر، إن أمسكه الله عنكم؟ {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21] أي: ليسوا يعتبرون ولا يتفكرون، بل لجوا في طغيانهم، وتماديهم، وتباعدهم عن الإيمان.
ثم ضرب مثلًا، فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: 22] الآية، والإكباب مطاوع الكب، يقال: كببته فأكب.
ضرب المكب على وجهه مثلًا للكافر، لأنه ضال أعمى القلب، فهذا {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] معتدلًا يبصر الطريق، {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] يعني به: الإسلام، وقال قتادة: هذا في الآخرة، يحشر الله الكافر مكبًا على وجهه يوم القيامة.
كما قال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97] ، والمؤمن يمشي سويًا.
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23] إلى قوله: {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] قال مقاتل: يعني: أنهم لا يشكرون رب هذه النعم، فيوحدونه.
وذكر الله أنهم يستعجلون العذاب بقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك: 25] .
ثم ذكر حالهم عند معاينة العذاب، فقال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} [الملك: 27] يعني: رأوا العذاب قريبًا،
(4/330)
1
{سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27] اسودت، وعلتها الكآبة، ومعنى سيئت أي: قبحت وجوههم بالسواد، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ، إذا قبح، وقيل لهم، هذا العذاب، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 27] قال الفراء: يريد: تدعون وهما واحد، مثل تذكرون، والمعنى: كنتم به تستعجلون، وتدعون الله بتعجيله.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {28} قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {29} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ {30} } [الملك: 28-30] .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} [الملك: 28] بعذابه، ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا فلم يعذبنا، {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} [الملك: 28] يمنعهم، ويؤمنهم، {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28] والمعنى: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟ أي: أنه لا رجاء لكم كما للمؤمنين.
قل لهم، {هُوَ الرَّحْمَنُ} [الملك: 29] الذي نعبده، {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ} [الملك: 29] عند معاينة العذاب، من الضال منا، أنحن أم أنتم؟ ومن قرأ بالياء فهو إخبار عن الكافرين الذين تقدم ذكرهم.
ثم احتج عليهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ} [الملك: 30] يعني: ماء زمزم، غورًا ذاهبًا في الأرض غائرًا، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] ظاهر تراه العيون، وتناله الدلاء.
(4/331)
1
تفسير سورة القلم
اثنتان وخمسون آية، مكية.
1224 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ ن وَالْقَلَمِ أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الَّذِينَ حَسُنَ أَخْلاقُهُمْ»
بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ {1} مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ {2} وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ {3} وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ {4} فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ {5} بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ {6} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {7} } [القلم: 1-7] .
ن قال ابن عباس: يعني: الحوت الذي على ظهر الأرض.
وهو قول مجاهد، ومقاتل، والسدي، قالوا: هو الحوت الذي يحمل الأرض.
وروى عكرمة، عن ابن عباس، أن: {ن} [القلم: 1] ههنا آخر حروف الرحمن.
{وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] قال جماعة المفسرين:
(4/332)
1
هو القلم الذي كتب الله به اللوح المحفوظ.
1225 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا الْمُحَارِبِيُّ، وَعُبَيْدَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقِيلَ لَهُ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: ثُمَّ خَلَقَ نُونًا فَبَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: {ن} [القلم: 1] الدواة.
وهو قول الحسن، وقتادة، وروي ذلك مرفوعًا.
1226 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، نا أَبُو مَرْوَانَ هِشَامُ بْنُ خَالِجٍ الْأَزْرَقُ، نا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ عَمَلٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجَلٍ فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ختَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ وَلا يَنْطِقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وقوله: وما يسطرون يعني: ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم.
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] هذا جواب لقولهم: {يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ، فأقسم الله بنون، وبالقلم، وبأعمال بني آدم، فقال: ما أنت يا محمد بنعمة ربك، أي: بإنعامه عليك بالإيمان والنبوة، بمجنون.
وقال الزجاج: هذا كما تقول: أنت بنعمة الله فهم، وما أنت بنعمة الله بجاهل.
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا} [القلم: 3] بصبرك على بهتهم، وافترائهم عليك، ونسبتهم إياك إلى الجنون، {غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] غير منقوص، ولا مقطوع.
قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى
(4/333)
1
خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: دين عظيم، لم أخلق دينًا أحب إلىّ ولا أرضى عندي منه.
وهذا قول الأكثرين، قالوا: يعني: الإسلام والدين.
وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: يعني: القرآن.
وهو قول الحسن، والعوفي: أدب القرآن.
وفسره قتادة، فقال: هو ما كان يأتمر به من أمر الله، وينتهي عنه من الله.
واختاره الزجاج، فقال: المعنى: إنك على الخلق الذي أمرك الله في القرآن.
1227 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السُّلَمِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَاسَرْجِسِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، نا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَخُلُقُهُ الْقُرْآنُ.
1228 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيُّ، نا مَرْوَانُ، نا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، نا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، يَسْخَطُ لِسَخَطِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ
قوله: فستبصر يا محمد، ويبصرون يعني:
(4/334)
1
أهل مكة، قال مقاتل: هذا وعيد بالعذاب ببدر.
يعني: سترى، ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر.
بأيكم الباء زائدة، والمعنى: أيكم، المفتون المجنون الذي فتن بالجنون، أأنت أم هم؟ يعني: أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين عبدوا الأصنام، وتركوا دينك لا بك.
أخبر أنه عالم بالفريقين، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} [القلم: 7] الآية.
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ {8} وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ {9} وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ {10} هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ {11} مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ {12} عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ {13} أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ {14} إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {15} سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ {16} } [القلم: 8-16] .
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] يعني: رؤساء أهل مكة، وذلك: أنهم دعوه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم.
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] تلين لهم، فيلينون لك، قال مجاهد: تركن إليهم، وتترك ما أنت عليه من الحق، فَيُمَالئونك.
قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبد ألهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة.
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} [القلم: 10] كثير الحلف بالباطل، مهين فعيل من المهانة، وهي: القلة في الرأي والتمييز، قال عطاء: يعني: الأخنس بن شريق.
وقال مقاتل: يعني: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المال ليرجع عن دينه.
هماز مغتاب، طعان للناس، مشاء بنميم يمشي بالنميمة بين الناس، ليفسد بينهم.
مناع للخير بخيل بالمال، معتد ظلوم، يتعدى الحق، أثيم في جميع أفعاله.
عتل قال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل.
وقال الزجاج: الغليظ الجافي.
وقال الليث: هو الأكول المنوع.
والمفسرون يقولون: هو الشديد الخلق، الفاحش الخلُق.
بعد ذلك أي: مع ما وصفناه به، زنيم قال عطاء، عن ابن عباس: يريد مع هذا هو دعي في قريش ليس منهم.
والزنيم: الملصق في القوم، وليس منهم.
1229 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحِذَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نا إِسْرَائِيلُ، نا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(4/335)
1
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] قَالَ: يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا
قال ابن قتيبة: ولا نعلم أن الله وصف أحدًا، ولا بلغ من ذكر عيوبه ما بلغه من ذكر عيوب الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه بالحلف، والمهانة، والغيب للناس، والمشي بالنمائم، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدعوة، فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] قال الفراء، والزجاج: {أَنْ كَانَ} [القلم: 14] أي: لأن كان.
والمعنى: لا تطع كل حلاف مهين {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] أي: لا تطعه لماله وبنيه، ومن قرأ: أأن كان فإنه توبيخ له، أي: جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر بآياتنا، وهو قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم: 15] .
ثم أوعده، فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16] قال أبو عبيدة، وأبو زيد، والمبرد: الخرطوم الأنف.
قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك: أنه يسود وجهه قبل دخول النار.
وهو قول الأكثرين، قال الفراء: والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة، فإنه في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض.
وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العَلَم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم.
وقال قتادة: سنلحق به شيئًا لا يفارقه.
واختاره ابن قتيبة، وقال: العرب تقول: قد وسمه ميسم سوء.
يريدون: ألصق به عارًا لا يفارقه، لأن السمة لا ينمحي، ولا يعفو أثرها.
وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عارًا لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وأبين ما يكون الوسم على الوجه.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلا يَسْتَثْنُونَ {18} فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ
(4/336)
1
نَائِمُونَ {19} فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ {20} فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ {21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ {22} فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ {23} أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ {24} وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ {25} فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ {26} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {27} قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ {28} قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {29} فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ {30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ {31} عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ {32} كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {33} } [القلم: 17-33] .
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17] أي: بلونا أهل مكة بالجوع والقحط، كما ابتلينا أصحاب الجنة حين هلكت جناتهم، وهم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين، ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنان وزروع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظًا للمساكين عند الحصاد والصرام، فقال بنوه: المال قليل، والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا.
وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله في كتابه، وهو قوله: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] حلفوا ليقطعن ثمر نخيلهم، إذا أصبحوا بسدفة من الليل، من غير أن يشعر المساكين.
ولا يستثنون لا يقولون: إن شاء الله.
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] قال ابن عباس: أحاطت بها النار، فاحترقت.
وقال قتادة: طرقها طارق من أمر الله.
وقال مقاتل: بعث الله نارًا بالليل على جنتهم، فأحرقتها حتى صارت سوداء.
فذلك قوله: فأصبحت كالصريم كالليل المظلم، والصريمان: الليل والنهار، لانصرام أحدهما من الآخر.
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} [القلم: 21] لما أصبحوا، قال بعضهم لبعض: {اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} [القلم: 22] يعني: الثمار، والزروع، والأعناب، {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 22] قاطعين للنخل.
فانطلقوا ذهبوا على جنتهم، {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 23] يسرون الكلام بينهم، بألا {يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] .
{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] الحرد في اللغة يكون بمعنى: المنع، والغضب، والقصد، قال قتادة: على جد من أمرهم.
وهو قول مقاتل، والكلبي، والحسن، ومجاهد، وهذا بمعنى:
(4/337)
1
القصد، لأن القاصد إلى الشيء جاد، وقال أبو عبيدة، والمبرد، والقتيبي: غدوا من بيتهم إلى جنتهم على منع المساكين.
وقال الشعبي، وسفيان: على حنق، وغضب على المساكين.
قادرين عند أنفسهم على جنتهم وثمارهم، لا يحول بينهم وبينها آفة.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم: 26] لما رأوا الجنة محترفة، قالوا: إنا قد ضللنا طريق جنتنا.
أي: ليست هذه.
ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 27] أي: حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المساكين.
قال أوسطهم أعدلهم، وأفضلهم، {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] هلا تستثنون، فتقولون: إن شاء الله؟ أنكر عليهم ترك الاستثناء في قوله: {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلا يَسْتَثْنُونَ {18} } [القلم: 17-18] وسمى الاستثناء تسبيحًا، لأنه تعظيم الله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل شيئًا إلا بمشيئة الله تعالى.
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} [القلم: 29] نزهوه عن أن يكون ظالمًا فيما صنع، وأقروا على أنفسهم بالظلم، فقالوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29] بمنعنا المساكين.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم: 30] يلوم بعضهم بعضًا في منع المساكين حقوقهم.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل، فقالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم: 31] حين لم نصنع ما صنع آباؤنا من قبل.
ثم رجعوا إلى الله، وسألوه أن يبدلهم بها خيرًا منها، وهو قوله: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 32] .
قال الله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} [القلم: 33] يعني: كما ذكر من إحراقها بالنار، وتمت قصة أصحاب الجنة، ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] يعني: المشركين.
ثم أخبر بما عنده للمتقين، فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ {34} أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ {37} إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ {38} أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ {39} سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ {40} أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ {41} } [القلم: 34-41] .
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34] قال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما يعطون.
فقال الله تعالى، مكذبًا لهم: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} } [القلم: 35-36] إذ حكمتم أن لكم ما للمسلمين.
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 37] تقرءون.
إن لكم في ذلك الكتاب، لما تخيرون تختارون.
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} [القلم: 39] يقول: ألكم عهود على الله بالغة؟ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القلم: 39] أي: مؤكدة، وكل شيء مُتَنَاهٍ في الجودة والصحة فهو: بالغ، ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها، وتأكدها، {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم: 39] لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله.
ثم قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] أيهم كفيل لهم، بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله، والمعنى: أم عندهم لله شركاء؟ فليأتوا بهؤلاء الشركاء، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [القلم: 41] في أنها شركاء لله.
قوله:
(4/338)
1
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ {43} فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ {44} وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {45} أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ {46} أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {47} } [القلم: 42-47] .
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] يوم ظرف لقوله: {فَلْيَأْتُوا} [القلم: 41] أي: فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم، وتشفع لهم، قال المفسرون: في قوله: {عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أي: عن شدة من الأمر.
قال مجاهد، عن ابن عباس، قال: هو أشد ساعة في يوم القيامة.
1230 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْفَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] فَقَالَ: إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاق هُوَ يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ.
أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا حماد بن مسعدة، أنا عمر بن أبي زائدة، قال: سمعت عكرمة سئل عن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] قال: إذا اشتد الأمر في الحرب، قيل: كشفت الحرب عن ساق.
أخبرهم الله تعالى عن شدة ذلك اليوم، وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، شمر عن ساقة، فاستُعِيرَ الكشف عن الساق في موضع الشدة، وأنشد لدريد بن الصمة قوله:
(4/339)
1
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الجلاء طلاع أنجد
وتأويل الآية: يوم يشتد الأمر، كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن الساق، {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة، ويبقى الكفار والمنافقون، يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود.
قال الربيع بن أنس: يكشف عن الغطاء، فيقع من كان آمن به في الدنيا فيسجدون له، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون، لأنهم لم يكونوا آمنوا به في الدنيا.
1231 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا هُدْبَةُ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَارَةَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: وَفَدْتُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي حَوَائِجِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ حَوَائِجِي أَتَيْتُهُ فَوَدَّعْتُهُ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَضَيْتُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ أَبِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحَدِّثَهُ بِهِ، لِمَا أَوْلانِي مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: لَقَدْ رَدَّ الشَّيْخَ حَاجَةٌ، فَلَمَّا قَرُبْتُ مِنْهُ قَالَ: مَا رَدَّكَ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَضَيْتُ حَوَائِجَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنْ حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُثِّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، فَيَذْهَبُ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَيَبْقَى أَهْلُ التَّوْحِيدِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَنْتَظِرُونَ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّ لَنَا رَبًّا كُنَّا نَعْبُدُهُ فِي الدُّنْيَا لَمَّا نَرَهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: وَتَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ لا شَبَهَ لَهُ، فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنِ الْحِجَابِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، وَيَبْقَى أَقْوَامٌ ظُهُورُهُمْ مِثْلُ صَيَاصِي الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عِبَادَي ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ قَدْ جَعَلْتُ بَدَلَ كُلِّ
(4/340)
1
رَجُلٍ مِنْكُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي النَّارِ "، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيُحَدِّثُكَ أَبُوكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَحَلَفْتُ لَهُ ثَلاثَةَ أَيْمَانٍ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا سَمِعْتُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ، حَدِيثًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا، رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاج فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْبَزَّاز، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
قوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43] يعني: حين أيقنوا بالعذاب، وعاينوا النار، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43] يغشاهم ذل الندامة والحسرة، {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: 43] يعني: بالأذان في دار الدنيا والإقامة، ويؤمرون بالصلاة المكتوبة، {وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] معافون، ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد، قال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح، فلا يجيبون.
وفي هذا وعيد لمن قعد عن الصلاة في الجماعة.
قوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44] يقول: خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن.
قال الزجاج: معناه: لا تشغل قلبك به، كله إلىّ فإني أكفيك أمره.
{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] وهذا مفسر في { [الأعراف مع ال: التي بعدها.
وقوله:] أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [القلم: 46] مفسر مع الآية التي بعدها في { [الطور.
] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ {48} لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ {49} فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {50} وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ {51} وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {52} } [سورة القلم: 48-52] .
قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 48] اصبر على أذاهم، لقضاء ربك الذي هو آت، ولا تكن في الضجر، والغضب، والعجلة، {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] يونس بن متى، ثم أخبر عن عقوبة يونس حين لم يصبر، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83] من بطن الحوت، بقوله: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ، وهو مكظوم مملوء غمًا، ومثله: {كَظِيمٌ} [يوسف: 84] .
{لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ} [القلم: 49] أدركه، نعمة رحمة، من ربه وهو أن رحمه، وتاب عليه، {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} [القلم: 49] لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض، {وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] يذم، ويلام
(4/341)
1
بالذنب.
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [القلم: 50] استخلصه، واصطفاه، {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 50] قال ابن عباس: رد إليه الوحي، وشفعه في قومه وفي نفسه.
قوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} [القلم: 51] من أزلقه عن موضعه إذا نحاه، يقال: زلق من مكانه، وأزلقته أنا.
وقرأ نافع بفتح الياء، يقال: زلق هو وزلقته، مثل حزن وحزنته، والأولى أكثر وأوسع، نزلت الآية في قصد الكفار أن يصيبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعين، فكانوا ينظرون إليه نظرًا شديدًا، وليس هذا بالوجه، قال الزجاج: مذهب أهل اللغة والتأويل: أنهم من شدة إبغاضهم وعداوتهم، يكادون بنظرهم نظر البغضاء، أن يصرعوك، وهذا مستعمل في الكلام، يقول القائل: نظر إلىّ نظرًا كاد يصرعني، ونظرًا كاد يأكلني.
وقال ابن قتيبة: ليس يريد الله تعالى، يقال: إنهم يصيبوك بأعينهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد: أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن، نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك، كما قال الشاعر:
نظرًا يزيل مواطئ الأقدام
ويدل على صحة هذا المعنى: أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن وهو قوله: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية، فيحدون إليه النظر بالبغضاء، والإصابة بالعين تكون مع الإعجاب والاستحسان، ولا تكون مع البغض، والقول الأول هو قول الكلبي، ولم يعرف معنى الآية، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] أي: ينسبونه إلى الجنون، إذا سمعوه يقرأ القرآن، فقال الله: وما هو يعني: القرآن، {إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52] قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين.
(4/342)
1
تفسير سورة الحاقة
اثنتان وخمسون آية، مكية.
1232 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا»
بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَاقَّةُ {1} مَا الْحَاقَّةُ {2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ {3} كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ {4} فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ {5} وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ {6} سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ {7} فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ {8} وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ {9} فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً {10} إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ {11} لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ {12} } [الحاقة: 1-12] .
الحاقة يعني: القيامة في قول جميع المفسرين، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود.
وقوله: ما الحاقة استفهام، معناه التفخيم لشأنها، كما تقول: زيد ما هو؟ على التعظيم لشأنه.
ثم زاد في التهويل، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3] أي: كأنك لست تعلمها، إذ لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال.
ثم أخبر عن المكذبين بها، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 4] وهي التي تقرع قلوب العباد بالمخافة.
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5] يعني: بطغيانهم وكفرهم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد،
(4/343)
1
وقال آخرون: يعني: بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت المقدار.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة: 6] وقد سبق تفسيرها، عاتية عتت على خزانها، فلم يكن لهم عليها سبيل، ولم يعرفوا كم خرج منها.
أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا سعيد بن أبي مريم، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: ما يخرج من الريح شيء إلا عليها خُزَّان يعلمون قدرها، وعددها، وكيلها، حتى كانت التي أرسلت على عاد، فاندفق منها شيء لا يعلمون قدره غضبًا لله تعالى، ولذلك سميت عاتية.
وقوله: سخرها عليهم قال مقاتل: سلطها.
وقال الزجاج: أقامها عليهم كما شاء.
{سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] ولاء متتابعة، يعني: أن هذه الأيام والليالي تتابعت عليهم بالريح المهلكة، فلم يكن فيها فتور، ولا انقطاع.
قال الفراء: والحسوم التتابع إذا تتابع الشيء ولم ينقطع أوله عن آخره، قيل له: حسوم، وقال الزجاج: الذي توجبه اللغة في معنى حسومًا أي: تحسمهم حسومًا تفنيهم وتذهبهم.
وهذا معنى قول النضر بن شميل: حسمتهم فقطعتهم، وأهلكتهم.
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} [الحاقة: 7] أي: في تلك الليالي والأيام، {صَرْعَى} [الحاقة: 7] جمع صريع، يعني: أنهم صرعوا بموتهم، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] أصول نخل ساقطة، وهذا كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] وقد مر.
{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أي: من نفس باقية، يعني: لم يبق منهم أحد.
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9] من الأمم الكافرة، وقرئ ومن قِبَلَهُ يعني: من يليه، ويحف به من جنوده وأتباعه، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة: 9] يعني: قرى قوم لوط، ويكون المعنى: وأهل المؤتفكات، ويجوز أن يريد: الأمم والجماعات الذين ائتفكوا بخطيئتهم، وقوله: {بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة: 9] يعني: الشرك والكفر، وهي: مصدر كالخطأ والخطيئة.
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة: 10] يعني: لوطًا، وموسى، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] نامية، زائدة على
(4/344)
1
عذاب الأمم، قال الزجاج: تزيد على الأخذات.
وقال صاحب النظم: بالغة في الشدة، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وتضاعف.
قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] أي: تجاوز حده حتى علا كل شيء، وارتفع فوقه، يعني: زمن نوح، {حَمَلْنَاكُمْ} [الحاقة: 11] حملنا آباءكم، وأنتم في أصلابهم، {فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] في السفينة، التي تجري في الماء.
لنجعلها لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها، من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملناه، تذكرة لكم عبرة، وموعظة، {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] تحفظها، وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله.
قال قتادة: أذن وسمعت، وعقلت ما سمعت.
وقال الفراء: لتحفظها كل أذن، فتكون عظة لمن يأتي بعد.
قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ {13} وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً {14} فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ {15} وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ {16} وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ {18} } [الحاقة: 13-18] .
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] قال عطاء: يريد النفخة الأولى.
وقال الكلبي، ومقاتل: يريد النفخة الأخيرة.
{وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة: 14] رفعت من أماكنها، {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] كسرتا كسرة واحدة لا تثنى، حتى يستوي ما عليها من شيء مثل الأديم الممدود.
{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 15] قامت القيامة.
{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الحاقة: 16] لنزول من فيها من الملائكة، {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16] قال الزجاج: يقال لكل ما ضعف جدًا: قد وهي فهو واه.
وقال الفراء: وَهْيُهَا تشققها.
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] أطرافها ونواحيها، واحدها: رجى، مقصور، وتثنيته: رجوان، مثل: قفا وقفوان، قال الضحاك: إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة على حافاتها، حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بالأرض ومن عليها.
{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} [الحاقة: 17] فوق رءوسهم، يعني: الحملة، يومئذ يعني: يوم القيامة، ثمانية ثمانية أملاك، على صورة الأوعال، بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء،
(4/345)
1
ويقال: ثمانية صفوف من الملائكة.
يومئذ تعرضون على الله لحسابكم، لا تخفى على الله، منكم خافية أي: نفس خافية، أو فعلة خافية، قال الكلبي: لا يخفى على