التفسير الوسيط للواحدي ج ص معتمد 008

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12] لأن مفتاح الرزق بيده، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الشورى: 12] من البسط والقدر، عليم.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ {13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15} } [الشورى: 13-15] .
شرع لكم بين لكم، وأوضح، {مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] يعني: التوحيد، والبراءة من الشرك، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13] من القرآن، وشرائع الإسلام، وما وصينا وشرع لكم، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] ، ثم بين ما وصى به هؤلاء، فقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى: 13] قال مقاتل: يعني: التوحيد.
{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] يقول: لا تختلفوا في التوحيد، وقال مجاهد: يعني: أنه شرع لكم، ولمن قبلكم من الأنبياء دينا واحدا.
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] قال ابن عباس: من توحيد الله تعالى، والإخلاص له وحده لا شريك له.
وقال مقاتل: عظم على مشركي مكة ما تدعوهم إليه من التوحيد، لأنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .
ثم خص أولياءه بقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 13] يصطفي الله من عباده لدينه من يشاء، ويهدي إلى دينه، من ينيب من يقبل إلى طاعته، واتبع دينه.
ثم ذكر تفرقهم بعد الإيصاء بترك الفرقة، فقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الشورى: 14] أي: ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي، وهو قوله: بغيا بينهم قال عطاء: بغيا منهم على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [الشورى: 14] في تأخير المكذبين من هذه الأمة، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الشورى: 14] يعني: يوم القيامة، لقضي بينهم بين من آمن، وبين من كفر، يعني: لنزل العذاب بالمكذبين في
(4/46)
1
الدنيا، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ} [الشورى: 14] يعني: اليهود والنصارى، من بعدهم من بعد أنبيائهم، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [الشورى: 14] من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ} [الشورى: 14-15] قال الفراء، والزجاج: فإلى ذلك فادع، كما تقول: دعوت إلى فلان ولفلان.
وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد، {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: 15] على الدين الذي أمرت به، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15] أهواء أهل الكتاب، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، وقل لهم: {آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15] أي: آمنت بكتب الله كلها، {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] قال ابن عباس: أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم في الأحكام.
ومعنى العدل بينهم في الأحكام: هو أنهم إذا ترافعوا إليه، لم يلزمهم شيئا، لا يلزمهم الله، {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى: 15] أي: إلهنا واحد، وإن اختلفت أعمالنا، فكل يجازى بما يعمل، وهو قوله: لنا أعمالنا أي: ثوابها، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] لا خصومة، وهذا قبل أن أمر بالقتال، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة، لم تكن بينه وبين من لا يجيب خصومة، ولا قتال، ثم ذكر مصير الفريقين إلى الله، فيجازي كلا بعمله وهو قوله: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15] .
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] .
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} [الشورى: 16] يخاصمون في دين الله نبيه، قال قتادة: هم اليهود والنصارى، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا فبل نبيكم، فنحن خير منكم.
فهذه خصومتهم، وإنما قصدوا بما قالوا دفع ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} [الشورى: 16] أي: من بعد ما دخل الناس في الإسلام، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16] خصومتهم باطلة حين زعموا أن دينهم أفضل من الإسلام، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] في الآخرة.
{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ {17} يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا
(4/47)
1
يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ {18} اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {19} } [الشورى: 17-19] .
{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الشورى: 17] القرآن، بالحق بما ضمنه من الأمر والنهي، والفرائض، والأحكام وكله حق من الله تعالى، وقوله: والميزان قال قتادة، ومجاهد، ومقاتل: العدل.
وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف، والتسوية بين الخلق، قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالوفاء، ونهى عن البخس.
وقال مقاتل: وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الساعة، وعنده قوم من المشركين، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ تكذيبا بها، فأنزل الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .
وقد تقدم هذا في آخر { [الأحزاب.
] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [سورة الشورى: 18] لأنهم لا يخافون ما فيها، إذ لم يؤمنوا بها، فهم يطلبون قيامها إبعادا لكونها، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] قال مقاتل: لأنهم لا يدرون على ما يهجمون.
وقال الزجاج: لأنهم يعلمون أنهم محاسبون، ومجزيون.
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] أنها آتية لا ريب فيها، {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ} [الشورى: 18] يدخلهم المرية والشك، {فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18] حين لم يفكروا، فيعلموا أن الله الذي خلقهم أولا، قادر على بعثهم.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] حفي، بار، رفيق بأوليائه وأهل طاعته، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر، لا يهلكهم جوعا.
يدل على هذا قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 19] فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر،
(4/48)
1
وذي روح، فهو ممن شاء الله أن يرزقه، وهو القوي على ما أراد من رزقه من يرزقه، العزيز الغالب، فلا يغلب فيما أراد.
قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ {20} أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {21} تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ {22} } [الشورى: 20-22] .
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} [الشورى: 20] معنى الحرث في اللغة: الكسب، يقال: هو يحرث لعياله ويحترث، أي: يكتسب، قال ابن عباس: من كان يريد العمل لله بما يحب الله، ويرضى.
{نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] أعينه على عبادتي، وأسهل عليه، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: 20] أي: من كان يسعى لدنياه، وآثرها على آخرته، نؤته منها قال قتادة: أي: بقدر ما قسم له، كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18] .
{وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] لأن عمل لدنياه، لا لآخرته، وهذا يعني به الكافر.
قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [الشورى: 21] يعني: كفار مكة، يقول: ألهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ قال ابن عباس: شرعوا لهم دينا غير دين الإسلام.
{وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21] لولا أن الله تعالى حكم في كلمة الفصل بين الخلق، بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة، لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا، وإن الظالمين الذين يكذبونك، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21] في الآخرة.
ترى الظالمين يعني: في الآخرة، مشفقين خائفين، مما كسبوا من الكفر والتكذيب، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] أي: وجزاؤه واقع بهم، قال الزجاج: وجزاء كسبهم واقع بهم.
وباقي الآية ظاهر التفسير.
قوله: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ {23} أَمْ يقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى
(4/49)
1
قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {24} وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {25} وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ {26} } [الشورى: 23-26] .
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ} [الشورى: 23] يعني: ما تقدم ذكره من الجنات، يبشر الله به، {عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23] ، وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] .
817 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمُؤَمَّلُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِبْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلا وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا إِلا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ شُعْبَةَ.
وقال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية، فكتبنا إلى ابن عباس فسأله، فكتب ابن عباس: " إن رسول الله كان أوسط النسب في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه، فقال الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ} [الشورى: 23] على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تودوني في قرابتي منكم، وتحفظوني لها.
وقال عكرمة: لا أسألكم أجرا على ما أدعوكم إليه من الحق، إلا أن تحفظوني في قرابتي بيني وبينكم، قال: وليس كما يقول الكذابون.
(4/50)
1
أخبرنا محمد بن عبد العزيز المروزي فيما كتب إلي، أنا محمد بن الحسين الحدادي، أنا محمد بن يزيد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا علي بن عبد الله مولى بني قراد، عن عبد الكريم وهو أبو أمية، قال: سألت مجاهدا عن هذه الآية، فقال: " أما إني لا أقول قول الخشبية، يقول: يا معشر قريش، لا أسألكم على ما أقول أجرا، ارقبوني في الذي بيني وبينكم، لا تعجلوا إلي، ودعوني والناس ".
وهذا قول قتادة، ومقاتل، والسدي، والضحاك، وابن زيد، ورواية الوالبي، والعوفي، عن ابن عباس.
وقال الحسن: إلا أن توددوا إلى الله تعالى، فيما يقربكم إليه من العمل الصالح.
818 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ، نا حَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، نا قَزَعَةُ بْنُ سُوَيْدٍ، نا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلا أَنْ تُوَادُّوا اللَّهَ وَأَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ» .
وفي الآية قول ثالث:
819 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السُّدِّيُّ، نا
(4/51)
1
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، نا حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ، نا قَيْسٌ، نا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُنَا اللَّهُ تَعَالَى مَوَدَّتَهُمْ؟ قَالَ: عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَوَلَدَيْهِمَا ".
820 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَيْدٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ،
(4/52)
1
نا عَبْدُ الْغَفُورِ أَبُو الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرَّمَانِيِّ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فِينَا فِي آلِ حم آيَةٌ لا يَحْفَظُ مَوَدَّتَنَا إِلا كُلُّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]
وقال الكلبي: قل لا أسألكم على الإيمان جعلا، إلا أن تودوا أقاربي، حث الله تعالى الناس عن ذوي قرابته.
وعلى الأقوال كلها قول: إلا المودة استثناء ليس من الأول، وليس المعنى أسألكم المودة في القربى، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون أجرا على تبليغ الرسالة، والمعنى: ولكني أذكركم المودة في القربى، وأذكركم قرابتي منكم، وغلط من قال: إن هذه الآية نسخت، بقوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] ، وقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] لأنه لا يصح أن يقال: نسخت مودة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكف الأذى عنه لأجل قرابته، ولا مودة آله وأقاربه، ولا التقرب إلى الله بالطاعة، ومن ادعى النسخ، توهم أن الاستثناء متصل، ورأى إبطال الأجر في هاتين الآيتين، وليس الأمر على ذلك، فإن الاستثناء منقطع، ولا تنافي بين هذه الآية، والآيتين الأخرتين، وقوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} [الشورى: 23] قال مقاتل: يكتسب حسنة واحدة.
{نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى: 23] نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [الشورى: 23] للذنوب، شكور للقليل حتى يضاعفه.
أم يقولون بل أيقولون، يعنى: كفار مكة، {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الشورى: 24] حين زعم أن القرآن من عند الله، {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] يربط على قلبك، بالصبر على أذاهم، حتى لا يشق عليك قولهم: إنه مفتر.
ثم أخبر أنه يذهب ما يقولونه باطلا، فقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] أي: الإسلام، بكلماته بما أنزله من كتابه، وقد فعل الله ذلك، فأزهق باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24] بما في قلوب خلقه.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] قال ابن عباس: يريد أولياءه، وأهل طاعته.
{وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] من خير وشر، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للمشركين، وتهديد لهم.
قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
(4/53)
1
الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 26] يجيبهم إلى ما يسألونه، وقال عطاء، عن ابن عباس: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] ، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26] سوى ثواب أعمالهم، تفضلا عليهم.
وقال أبو صالح عنه: يشفعهم في إخوانهم.
قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ {27} وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ {28} } [الشورى: 27-28] .
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال قريظة والنضير، فتمنيناها، فأنزل الله هذه الآية.
قال مقاتل: يقول: لو أوسع الله الرزق لعباده، فرزقهم من غير كسب.
{لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27] لعصوا، وبطروا النعمة، وطلبوا ما ليس لهم أن يطلبوه، {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27] نظرا منه لأوليائه وأهل طاعته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] يعلم أنه لو أعطاهم ما يتمنون بغوا.
قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى: 28] أي: المطر، {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] من بعد ما يئس الناس منه، وذلك أدعى لهم إلى شكر منزله، والمعرفة بموقع إحسانه، قال مقاتل: حبس الله تعالى المطر عن أهل مكة سبع سنين، حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر، فذكرهم النعمة.
وينشر رحمته يبسط مطره، وهو الولي لأهل طاعته، الحميد عند خلقه.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ {29} وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {30} وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {31} } [الشورى: 29-31] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى: 29] يعني: الناس وغيرهم من الملائكة، قال مجاهد: الناس والملائكة.
{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ} [الشورى: 29] يوم القيامة في الآخرة، {إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] .
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الشورى: 30] يعني: ما يلحق المؤمن مما يكره من نكبة حجر، أو عثرة قدم، فصاعدا،
(4/54)
1
{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] من المعاصي، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] من السيئات، فلا يعاقب بها، وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده، ما من خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» .
821 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَلَبِيُّ، نا عُبَيْدُ بْنُ جَنَادٍ الْحَلَبِيُّ، نا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَزْهَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْخَضِرِ بْنِ الْقَوَّاسِ، عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] يَا عَلِيُّ، مَا مِنْ خَدْشٍ وَلا نَكْبَةِ قَدَمٍ إِلا بِذَنْبٍ وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ، وَمَا عَاقَبَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عَبْدِهِ ".
في
(4/55)
1
مصاحف المدينة والشام بما كسبت أيديكم بغير فاء، قال الزجاج: إثبات الفاء أجود، لأن الفاء مجازاة جواب الشرط.
ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي، والمعنى: الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم.
وما أنتم يا معشر المشركين، {بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 31] لا تعجزونني حيث ما كنتم، ولا تسبقونني هربا في الأرض، ولا في السماء لو كنتم فيها.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ {32} إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {33} أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ {35} فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {36} } [الشورى: 32-36] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} [الشورى: 32] السفن التي تجري، {فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى: 32] كالجبال، جمع علم، وهو الجبل الطويل.
{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33] التي تجريها، فيظللن يعني: الجواري، رواكد يعني: ثوابت على ظهر البحر، لا تجري ولا تبرح، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشورى: 33] الذي ذكر، {لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 33] أي: لكل مؤمن، لأن من صفة المؤمن الصبر في الشدة، والشكر في الرخاء.
أو يوبقهن يهلكهن ويغرقهن، يعني: أهلها، بما كسبوا بما أشركوا، واقترفوا من الذنوب، {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34] من ذنوبهم، فينجيهم من الهلكة، ولا يفرقهم.
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 35] يعني: أن الكفار الذين يكذبون بالقرآن، إذا صاروا إلى الله تعالى بعد البعث، علموا ألا مهرب لهم من عذاب الله، والوجه قراءة ويعلمُ رفعا، لأنه يقطعه من الأول، ويجعله جملة معطوفة على جملة، ومن قرأ بالنصب، فقال الفراء: هو مردود على الجزم، إلا أنه صرف، والجزم إذا صرف عنه
(4/56)
1
معطوفة نصب.
قوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى: 36] مفسر فيما تقدم إلى قوله: للذين آمنوا وهو بيان أن ما عند الله خير للمؤمنين، لا للكافرين، فقد استوى الفريقان في أن ما أعطوه من الدنيا متاع يتمتعون به ثم يزول، فإذا صاروا إلى الآخرة كان ما عند الله خيرا {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] .
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {37} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {38} وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ {39} وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {40} وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ {41} إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {42} وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {43} } [الشورى: 37-43] .
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [الشورى: 37] تقدم تفسير الكبائر في { [النساء، وقرأ حمزة: كبير الإثم على الواحد وهو يريد الجمع، كقوله:] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [سورة النحل: 18] ، أو يريد بكبير الإثم: الشرك، على ما فسره ابن عباس، قال: يريد: الشرك.
وقوله: والفواحش يعني: الزنا وأنواعه، وقال مقاتل: يعني: ما تقام فيه الحدود في الدنيا.
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] أي: يكظمون الغيظ، ويعفون عمن ظلمهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى، وعفوه.
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى: 38] أجابوه إلى ما دعاهم إليه، من توحيد الله تعالى، وعبادته، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] هي فعلى من المشاورة، وهي الأمر الذي يتشاور فيه، يقال: صار هذا الأمر شورى بين القوم، إذا تشاوروا فيه، والمعنى: أنهم يتشاورون فيما يبدو لهم، ولا يعجلون في الأمر، قال الحسن: والله ما تشاور قوم قط، إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم.
822 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا
(4/57)
1
الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ، نا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارُكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءُكُمْ وَأَمْرُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كاَنَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا» .
قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] الظلم والعدوان، هم ينتصرون ممن ظلمهم، قال عطاء: يعني المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة، وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض، حتى انتصروا ممن ظلمهم.
وقال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن ظالمهم، فبدأ بذكرهم، وهو قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] : وصنف ينتصرون من ظالمهم، وهم الذين ذكروا في هذه الآية.
ومن انتصر فأخذ بحقه، ولم يجاوز في ذلك ما حد الله تعالى له، فهو مطيع لله، ومن أطاع الله فهو محمود.
ثم ذكر حد الانتصار، فقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] قال مقاتل: يعني القصاص في الجراحات والدماء.
وقال مجاهد، والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله، يقول: أخزاك الله من غير أن يعتدي.
ثم ذكر العفو، فقال: فمن عفا أي: عمن ظلمه، وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ضمن الله تعالى له أجره بالعفو، وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة، قام مناد، فنادى: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] .
قال مقاتل: يعني من يبدأ بالظلم.
ثم ذكر المنتصر، فقال: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] بعد ظلم الظالم إياه، والمصدر ههنا مضاف إلى المفعول، كقوله: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] ، وبسؤال نعجتك، فأولئك يعني: المنتصرين {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] بعقوبة ومؤاخذة.
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] قال
(4/58)
1
ابن عباس: يريد: يبدءون بالظلم.
{وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] يعملون فيها بالمعاصي.
ولمن صبر فلم ينتصر، {وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ} [الشورى: 43] الصبر والتجاوز، {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها.
وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره ثوابا، فالرغبة في الثواب أتم عزم.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ {44} وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ {45} وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ {46} } [الشورى: 44-46] .
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [الشورى: 44] عن الهدى، {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى: 44] فما له من أحد يلي هدايته، بعد إضلال الله إياه، وترى الظالمين المشركين، {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [الشورى: 44] في الآخرة، يسألون الرجعة إلى الدنيا، يقولون: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] .
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [الشورى: 45] على النار، قبل دخولهم النار، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45] ساكنين، متواضعين، {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] يعني: خفي النظر لما عليهما من الذل، يسارقون النظر إلى النار، خوفا منها، وذلة في أنفسهم، وعرف المؤمنون خسران الكافرين ذلك اليوم، فقالوا: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الشورى: 45] بأن صاروا إلى النار، وأهليهم في الجنة، بأن صاروا لغيرهم، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45] .
قوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ} [الشورى: 46] ظاهر.
قوله: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ {47} فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ {48} } [الشورى: 47-48] .
(4/59)
1
استجيبوا لربكم أجيبوا داعي ربكم، يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} [الشورى: 47] لا يقدر أحد على رده ودفعه، وهو يوم القيامة، {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} [الشورى: 47] تلجئون إليه، {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى: 47] إنكار وتغيير للعذاب.
قوله: فإن أعرضوا عن الإجابة، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الشورى: 48] تحفظ أعمالهم، وإنما أرسلناك داعيا ومبلغا، وهو قوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] ما عليك إلا أن تبلغهم، {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [الشورى: 48] قال ابن عباس: يعني الغنى والصحة.
فرح بها يعني: الكافر، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48] يعني: قحط المطر، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الشورى: 48] من الكفر، {فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] أي: لما تقدم من نعمة الله عليه، ينسى ويجحد بأول شديدة جميع ما سلف من النعم.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ {49} أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ {50} } [الشورى: 49-50] .
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 49] له التصرف فيهما بما يريد، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] يعني: البنات ليس فيهم ذكر، كما وهب للوط عليه السلام، لم يولد له إلا بنات، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] يعني: البنين ليس معهم أنثى، كإبراهيم عليه السلام، لم يولد له إلا ذكور.
أو يزوجهم يعني: الإناث والذكور، يجعلهم أزواجا، وهو أن يولد للرجل ذكور وإناث، قال الحسن: يجمع لهم الإناث والذكران، كما جمع لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإنه ولد له أربعة بنين وأربع بنات، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50] لا يولد له، كعيسى ويحيى عليهما السلام، والآية عامة، وهذه الأقسام موجودة في غير الأنبياء، وإنما ذكر الأنبياء تمثيلا، إنه عليم بما خلق، قدير على ما يشاء.
قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ {51} وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ {53} } [الشورى: 51-53] .
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] يريد الوحي في المنام، أو الإلهام، كما كان الأنبياء
(4/60)
1
عليهم السلام، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] كما كلم موسى عليه السلام، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، كما يرى سائر المتكلمين ليس إن ثم حجابا يفصل موضعا من موضع، فيدل ذلك على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] جبريل، أو غيره من الملائكة، فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله، ما يشاء الله، قال الزجاج: المعنى: أن كلام الله للبشر، إما أن يكون بإلهام يلهمهم الله، أو يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيا، أو يكلمه من وراء حجاب، أو يرسل رسولا.
ومن قرأ يرسل رفعا، أراد وهو يرسل، فهو ابتداء واستئناف، والوقف كاف على ما قبله.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 52] أي: فعلنا في الوحي إليك، كما فعلنا بالرسل من قبلك، {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] قال مقاتل: يعين الوحي بأمرنا.
ومعناه: القرآن، لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر، {مَا كُنْتَ تَدْرِي} [الشورى: 52] قبل الوحي، {مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] لأنه كان لا يعرف القرآن قبل الوحي، وما كان يعرف شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلها إيمان، وهذا القول هو اختيار إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، واحتج بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني: الصلاة سماها إيمانا، وشيخنا الأستاذ أبو إسحاق، يقول في هذا التخصيص بالوقت، فقال: كان هذا قبل البلوغ، وحين كان طفلا في المهد ما كان يعرف الإيمان.
والحسين بن الفضل البجلي يجعل الآية من باب حذف المضاف، يقول: معناه: ولا أهل الإيمان، يعني: من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن؟ إجماع الأصوليين على أن الرسل قبل الوحي كانوا مؤمنين، ونبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام.
(4/61)
1
823 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ النَّصْرَابَاذِيِّ، أنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الرَّسْعَنِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ زُرَيْقٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو سَيَّارٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ عَبَدْتَ وَثَنًا قَطُّ؟ قَالَ: لا.
قَالُوا: هَلْ شَرِبْتَ خَمْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لا، وَمَا زِلْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] .
قوله: ولكن جعلناه يعني: القرآن، نورا يعني: ضياء، ودليلا على التوحيد والإيمان، {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] نرشده إلى الدين الحق، وإنك لتهدي قال ابن عباس، ومقاتل، والسدي، وقتادة: وإنك لتدعو.
فالهدى ههنا دعوة وبيان، والمعنى: وإنك لتدعو بما أوحينا إليك، إلى طريق مستقيم، يعني: الإسلام.
{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي} [الشورى: 53] شرعه لعباده، الذي {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 53] ملكا وخلقا، {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] يعني: أمور الخلائق في الآخرة.
(4/62)
1
تفسير سورة حم الزخرف
مكية، وهي ثمانون وتسع آيات.
824 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سَلْهَمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّخْرُف كَانَ مِمَّنْ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا عِبَادِي، لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ".
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {3} وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ {4} أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ {5} } [الزخرف: 1-5] .
{حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} } [الدخان: 1-2] أقسم الله تعالى بالقرآن، الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في الشريعة.
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أي: صيرنا قراءة هذا الكتاب عربيا، لأن من التنزيل ما هو عبري وسرياني، وكتاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بالعربية، وهذا يدل على أنه إذا قرئ بغير العربية لا يكون قرآنا.
وإنه يعني: القرآن، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف: 4] في اللوح المحفوظ، قال الزجاج: أم الكتاب: أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ {22} } [البروج: 21-22] .
وقوله: لدينا قال ابن عباس: يريد الذي عندنا.
لعلي حكيم قال
(4/63)
1
قتادة: يخبر عن منزلته وشرفه، وفضله، أي: إن كذبتم به يأهل مكة، فإنه عندنا رفيع شريف، محكم من الباطل.
قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف: 5] يقال: ضربت عنه، وأضربت عنه، أي: تركته، وأمسكت عنه، والصفح مصدر قولهم: صفحت، عند إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك، والمراد بالذكر ههنا القرآن، قال الكلبي: يقول الله لأهل مكة: أفنترك عنكم الوحي صفحا، فلا نأمركم ولا ننهاكم، ولا نرسل إليكم رسولا؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا نفعل ذلك، ومعنى الآية: أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم، فلا نعرفكم ما يجب عليكم، من أجل أنكم أسرفتم في كفركم؟ وهو قوله: {أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] والمعنى: لأن كنتم، والكسر في إن على أنه جزاء استغنى عن جوابه بما تقدمه، كما تقول: أنت ظالم إن فعلت كذا.
قال الفراء: ومثله {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة: 2] بالفتح والكسر، وقد تقدم.
ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ {6} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {7} فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ {8} } [الزخرف: 6-8] .
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ} [الزخرف: 6] إلى قوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف: 8] أقوى من قومك، يعني: الأولين الذين أهلكوا بتكذيبهم الرسل، {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8] سبق فيما أنزلنا إليك تشبيه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب، ولما أهلكوا أولئك بتكذيبهم، فعاقبة هؤلاء أيضا إلى هلاك.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ {9} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {10} وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا
(4/64)
1
بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ {11} وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ {12} لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ {13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ {14} } [الزخرف: 9-14] .
ولئن سألتهم سألت قومك، {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] أقروا بعزتي وعلمي، وهذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ أقروا بأن الله خلق السموات والأرض، ثم عبدوا معه غيره، وأنكروا قدرته على البعث، وقد تم الإخبار عنهم.
ثم ابتدأ جل وعز دالا على نفسه بصنيعه، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 10] وتفسير هذه الآية قد سبق في { [طه، وقوله:] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الزخرف: 10] لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم.
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف: 11] قال ابن عباس: يريد ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر، حتى أغرقهم وأهلكهم، بل هو بقدر، حتى يكون معاشا لكم، ولأنعامكم.
{وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 12] الأصناف والضروب والألوان، والذكر والأنثى، وكل هذا قول للمفسرين، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] في البحر، والبر.
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] على ظهور ما جعل لكم، فالكناية تعود إلى لفظ ما، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] يعني: النعمة بتسخير ذلك المركب في البر والبحر، قال مقاتل، والكلبي: هو أن يقول: الحمد لله الذي رزقني هذا، وحملني عليه.
{وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] ذلل لنا هذا المركب، قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم.
{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] قال ابن عباس: يريد: ولا طاقة لنا بالإبل، ولا بالفلك، ولا بالبحر لولا أن الله تعالى سخره لنا.
ومعنى المقرن: المطيق، يقال: أقرنت هذا البعير، أي: أطقته.
825 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا رَوْحٌ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَلِيًّا الْأَزْدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ
(4/65)
1
عُمَرَ عَلَّمَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا فِي سَفَرِهِ كَبَّرَ ثَلاثًا، وَقَالَ: " {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَالْعَمَلَ بِمَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ ".
وَإِذَا رَجَعَ، قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ رَوْحٍ.
ثم رجع إلى ذكر الكفار الذين قدم ذكرهم، فقال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ {15} أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ {16} وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ {17} أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ {18} } [الزخرف: 15-18] .
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] حكموا بأن بعض العباد، وهم الملائكة، له أولاد، ومعنى الجعل ههنا: الحكم بالشيء، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، قالوا: زعموا أن الملائكة بنات الله.
تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقال الأزهري: ومعنى الآية: أنهم جعلوا لله من عباده نصيبا على معنى أنهم جعلوا نصيب الله من الولد.
إن الإنسان يعني: الكافر، لكفور جحود لنعم الله، مبين ظاهر الكفران.
ثم أنكر عليهم هذا، فقال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] وهذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول: أتخذ ربكم لنفسه البنات؟ وأصفاكم أخلصكم، بالبنين كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] الآية.
ثم زاد في الاحتجاج عليهم بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا} [الزخرف: 17] بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كل شيء شبيهه وجنسه، والآية مفسرة في { [النحل.
ثم وبخهم بما افتروه، فقال:] أَوَمَنْ يُنَشَّأُ
(4/66)
1
فِي الْحِلْيَةِ} [سورة الزخرف: 18] قال المبرد: تقدير الآية: أوتجعلون له من ينشأ في الحلية؟ يعني: البنت تنبت في الزينة، وقرأ حمزة: ينشأ بالتشديد على غير تسمية الفاعل، وهو رديء، لأنه لم يحك في اللغة نشأ بمعنى أنشأ، إلا أن قال: إنه في القياس بلغ وأبلغ، وفرج وأفرج.
{وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} [الزخرف: 18] يعني: المخاصمة، غير مبين للحجة، قال قتادة: قل ما تتكلم امرأة بحجتها، إلا تكلمت بالحجة عليها.
{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ {19} وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {20} أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ {22} } [الزخرف: 19-22] وجعلوا الملائكة الجعل ههنا بمعنى القول، والحكم على الشيء، كما تقول: جعلت زيدا أفضل الناس، أي: وصفته بذلك، وحكمت به، {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 19] وقرئ: عند الرحمن وكل صواب، وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعا في وصف الملائكة، وذلك قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 206] ، وفي قوله: عند الرحمن دلالة على رفع
(4/67)
1
المنزلة، والقربة من الكرامة، وقوله: إناثا يعني قولهم: الملائكة بنات الله، قال الله تعالى: أشهدوا خلقهم من الشهادة التي هي بمعنى الحضور، وبخوا على ما قالوا ما لم يشاهدوا، مما يعلم بالمشاهدة، وقرأ نافع: أو أشهدوا خلقهم على أفعلوا من الإشهاد، وقبلها همزة الاستفهام، وتخفيف الهمزة الثانية على معنى: أحضروا خلقهم حتى علموا أنهم إناث؟ وهذا كقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150] ، قال ابن عباس: يريد: أحضروا أم عاينوا خلقهم؟ وقال الكلبي، ومقاتل: لما قالوا هذا القول، سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «وما يدريكم أنهم إناث؟» قالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا أنهم إناث.
فقال الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] عنها في الآخرة.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] يعني: بني مليح من خزاعة، كانوا يعبدون الملائكة، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] أي: بما قالوا من قولهم: الملائكة إناث، وهم بنات الله، أخبر الله تعالى أنهم لم يقولوا ذلك عن علم، وأنهم كذبوا في ذلك، وهو قوله: {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] أي: ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، ولم يتعرض لقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] بشيء، قال صاحب النظم: لأن هذا القول من الكفار حق، وإن كان من الكفار.
وهذا كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] .
وإن جعلت قوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] ردا لقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] كان المعنى: أنهم قالوا: إن الله قررنا على عبادتها، فلا يعاقبنا، لأنه رضي بذلك منا.
وهذا كذب منهم، لأن الله تعالى وإن أراد كفر الكافر لا يرضاه، وتقريره الكافر على كفره، لا يكون
(4/68)
1
رضا منه.
قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف: 21] يقول: هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن، بأن يعبدوا غير الله، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21] يأخذون بما فيه؟ ثم أعلم أنهم اتبعوا ملة آباءهم في الضلالة، فقال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] على سنة وملة، ودين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين، وليست لهم حجة إلا تقليد آبائهم.
ثم أخبر الله أن غيرهم قال هذا القول.
فقال: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {24} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {25} } [الزخرف: 23-25] .
وكذلك أي: وكما قالوا، {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [الزخرف: 23] ملوكها وأغنياؤها، ورؤساؤها: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] بهم.
فقال الله تعالى لنبيه عليه السلام، قال: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] قال الزجاج: قل لهم: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم، وإن جئتكم بأهدى منه؟ فأبوا أن يقبلوا ذلك، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} [الزخرف: 24] أيها الرسل، كافرون.
ثم ذكر ما فعل بالأمم المكذبة، تخويفا لهم، فقال: فانتقمنا منهم الآية، يعني: ما صنع بقوم نوح، وعاد، وثمود.
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ {26} إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ {27} وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {28} } [الزخرف: 26-28] .
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الزخرف: 26] يعني: حين خرج من المسرب، وهو ابن سبع عشرة سنة، رأى قومه وأباه يعبدون الأصنام، فقال لهم: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] والبراء: مصدر لا يثنى، ولا يجمع، ويريد بالمصدر الفاعل.
ثم استثنى خالقه من البراء، فقال: {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27] يرشدني لدينه.
وجعلها وجعل كلمة التوحيد، وهى لا إله إلا الله، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] في ذرية إبراهيم، ونسله، قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده.
لعلهم يرجعون لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين، ويرجعوه إلى دينك دين إبراهيم، إذ كانوا من ولده، قال السدي: لعلهم يتوبون، ويرجعون عما هم عليه إلى عبادة
(4/69)
1
الله.
ثم ذكر نعمته على قريش، فقال: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ {29} وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ {30} وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ {31} أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {32} وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ {34} وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ {35} } [الزخرف: 29-35] .
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف: 29] يعني: المشركين، يقول: أمتعتهم بأنفسهم وأموالهم، وأنواع النعم، ولم أعاجلهم بعقوبة كفرهم، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] يعني: القرآن، ورسول مبين يبين لهم الأحكام والدين، وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوا الرسول بإجابته، فلم يجيبوه، وعصوا.
وهو قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 30] يعني: القرآن، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 30] .
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعنون: الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
فقال الله عز وجل ردا عليهم، وإنكارا لما قالوا: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] يعني: النبوة، وذلك أنهم اعترضوا على الله بقولهم: لم لم ينزل هذا القرآن على غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فبين الله أنه هو الذي يقسم النبوة لا غيره، قال مقاتل: يقول: أبأيديهم مفاتيح الرسالة، فيضعونها حيث شاءوا؟ ثم قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] أي: قسمنا الرزق في المعيشة، وليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق، كذلك اصطفينا للرسالة من نشاء، ومعنى الآية: إنا تولينا قسم معايشهم، فكذلك تولينا قسم النبوة.
826 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَايِعُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، نا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ
(4/70)
1
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] الآية.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا مَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ.
وقال قتادة في قوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] : تلقى الرجل ضعيف الحيلة، عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، بسط اللسان، وهو مقتر عليه.
وقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] يعني: الفضل في الغنى والمال، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] ليستخدم بعضهم بعضا، فيتسخر الأغنياء بأموالهم الفقراء، ليلتئم قوام أمر العالم، وقال قتادة: ليملك بعضهم بما لهم بعضا، فيتخذونهم عبيدا ومماليك.
وقوله: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] يعني: الجنة للمؤمنين خير مما يجمع الكفار من الدنيا، أي: النبوة لك خير من أموالهم التي يجمعونها.
ثم أخبر عن قلة الدنيا عنده، فقال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33] لولا أن يجتمعوا على الكفر، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33] لهوان الدنيا عندنا، {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] يعني: سماء البيت، وهو واحد يدل على الجمع، وعلم بقوله: لبيوتهم أي: أن لكل بيت سقفا، وقرئ: سقفا وهو جمع سقف، مثل رهن ورهن، وفرس ورد، وخيل ورد، ومعارج يعني: الدرج، عليها يظهرون يرتقون ويعلون، يقال: ظهر على البيت وعلى السطح، إذا علاه.
ولبيوتهم أبوابا أي: من فضة، وسررا من فضة، وهو جمع سرير، عليها يتكئون من الاتكاء، وهو التحامل على الشيء.
وزخرفا كلهم قالوا: إنه الذهب.
والمعنى: ونجعل لهم مع ذلك ذهبا وغنى، ومعنى الآية: لولا أن تميل الدنيا بالناس، فيصير الخلق كفارا، لأعطى الله
(4/71)
1
الكافر في الدنيا غاية ما يتمنى فيها، لقلتها عنده، ولكنه عز وجل لم يفعل ذلك، لعلمه بأن الغالب على الخلق حب العاجلة، ثم أخبر أن جميع ما ذكر إنما يتمتع به في الدنيا، فقال: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35] الفراء على تخفيف لما وهو لغو، والمعنى: لمتاع الحياة الدنيا، وقرأ حمزة: لما بالتشديد، جعله في معنى إلا، حكى سيبويه: نشدتك الله لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت، ويقوي هذه القراءة أن في حرف أُبَيِّ: وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا قال ابن عباس: يزول ويذهب.
وقال مقاتل: يتمتعون فيها قليلا.
والآخرة يعني: الجنة، {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] خاصة لهم.
قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ {37} حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ {38} وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {39} } [الزخرف: 36-39] .
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 36] يعرض عن القرآن، ويقال: عشوت إلى النار أعشو عشوا، أي: قصدتها مهتديا بها، وعشوت عنها: أعرضت عنها، كما تقول: عدلت إلى فلان، وعدلت عنه، وملت إليه، وملت عنه، قال الزجاج: معنى الآية: أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة، إلى أباطيل المضلين، نعاقبه بشيطان، نقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينا له، فلا يهتدي، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين.
وهو قوله: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] صاحب له، يزين له العمى، ويخيل إليه أنه على الهدى، وهو على الضلالة.
وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف: 37] وإن الشياطين ليمنعونهم عن سبيل الهدى، وجمع الكناية، لأن قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] في مذهب جمع، وإن كان اللفظ على الواحد، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37] يحسب كفار بني آدم أنهم على هدى.
827 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَعْلَى، نا مُحَرِزُ بْنُ عَوْنٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ، نا
(4/72)
1
عَبْدُ الْغَفُورِ، عَنْ أَبِي نَضِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فَإِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِلا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ".
قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف: 38] يعني: الكافر، وقرئ: جاآنا يعني: الكافر وشيطانه، جعلا في سلسلة واحدة، وروى معمر عن الجريري، قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره، أخذ بيده شيطان، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار.
فذلك حيث يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 38] بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب لفظ المشرق، كما قالوا: القمران، والعمران، فبئس القرين أنت أيها الشيطان.
ويقول الله تعالى في ذلك اليوم للكفار: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39] أشركتم في الدنيا، {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] قال المفسرون: لا يخفف الاشتراك عنهم شيئا من العذاب، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب.
ثم ذكر أنه لا ينفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة، فقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {40} فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ {41} أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ {42} فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {43} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ {44} } [الزخرف: 40-44] .
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40] قال ابن عباس: يريد أنهم لا يعقلون ما جئت به، ولا يبصرونه، لأن من أعميت قلبه لم يهتد.
{وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف: 40] يريد من ظهرت ضلالته بتكذيب الصادق الأمين.
(4/73)
1
قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: 41] بأن نميتك قبل أن نريك النقمة في كفار مكة، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف: 41] بالقتل بعدك.
أو نرينك في حياتك، ما وعدناهم من العذاب بالذل، والقتل، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42] يقول الله تعالى لنبيه عليه السلام مطيبا قلبه: إن ذهبنا بك انتقمنا لك، ممن كذبك بعدك، أو أريناك في حياتك ما وعدناهم من العذاب، فإنا قادرون عليهم، متى شئنا عذبناهم.
ثم أري ذلك يوم بدر.
ثم أمره بالتمسك بالقرآن، فقال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43] يعني: دين الإسلام.
وإنه وإن القرآن الذي أوحي إليك، {لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] شرف لك بما أعطاك الله من الحكمة، ولقومك المؤمنين بما هداهم به، حتى أدركوا الحق.
وروى الضحاك، عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل: لمن هذا الأمر بعدك؟ لم يخبر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل، قال: «لقريش» .
فهذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن، ثم قومه من قريش يخلفونه في الولاية، بشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم، ومذهب مجاهد: أن القرآن ههنا العرب، والقرآن لهم شرف إذ أنزل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب، حتى يكون الشرف أكثر لقريش من غيرهم، ثم لبني هاشم.
وسوف تسألون عن شكر ما جعله الله لكم من الشرف، قاله الكلبي، والزجاج.
وقال غيرهما: تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه.
قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {46} فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا
(4/74)
1
يَضْحَكُونَ {47} وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {48} } [الزخرف: 45-48] .
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف: 45] الآية.
قال عطاء، عن ابن عباس: لما أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، فأذن جبريل، ثم أقام وقال: يا محمد، تقدم فصل بهم.
فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلاة، قال له جبريل: سل يا محمد {مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف: 45] الآية.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أسأل، قد اكتفيت» .
وهذا قول الزهري، وسعيد بن جبير، وابن زيد، قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به، فلقيهم، وأمر أن يسألهم، فلم يشكك، ولم يسأل.
وقال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب، الذين أرسلت إليهم الأنبياء: هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد؟ وعلى هذا قال الزجاج: المعنى: سل أمم من أرسلنا؟ فحذف المضاف.
وقال ابن الأنباري: سل أتباع من أرسلنا.
ومعنى الأمر بالسؤال: التقرير لمشركي قريش، بأنه لم يأت رسول، ولا كتاب بعبادة غير الله.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [الزخرف: 46] إلى قوله: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 47] أي: يهزءون بآياته، ويضحكون منها، جهلا وغفلة.
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] يعني: ما ترادف عليهم من الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من
(4/75)
1
التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله: وأخذناهم بالعذاب لأنهم عذبوا بهذه الآيات، فكانت عذابا لهم، ودلالات لموسى عليه السلام، فغلب عليهم الشقاء، ولم يؤمنوا.
{وَقَالُوا يَأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ {49} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ {50} } [الزخرف: 49-50] .
{وَقَالُوا يَأَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] قال الكلبي: يأيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يعظمونه، ولم يكن صفة ذم.
وقال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر.
{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف: 49] فيمن آمن به من كشف العذاب عنه، إننا لمهتدون مؤمنون بك.
فدعا موسى ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، فذلك قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 50] العهد الذي عاهدوا موسى.
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ {51} أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ {52} فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ {53} فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {54} فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ {55} فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ {56} } [الزخرف: 51-56] .
ونادى فرعون إلى قوله: وهذه الأنهار يعني: أنهار النيل، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] أراد: من تحت قصوري، وقال قتادة: بين يدي في جناني.
وقال الحسن: بأمري.
وعلى هذا معناه: تجري تحت أمري، أفلا تبصرون عظمتي، وشدة ملكي، وفضلي على موسى.
(4/76)
1
قال قتادة: افتخر عدو الله بملكه، وقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف: 52] أي: بل أنا خير وأفضل، {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] ضعيف حقير.
يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] الكلام، يعني: آفة بلسانه، وهي اللثغة التي كانت بلسان موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] هلا حلي بأ { [الذهب إن كان عظيما، وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه بسوار، وطوقوه بطوق من ذهب، أي: إن كان سيدا تجب طاعته، هلا سور،] أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [سورة الزخرف: 53] متتابعين، يعينوه على أمره الذي بعث له، ويشهدون له بصدقه.
فاستخف فرعون، قومه القبط، أي: حملهم على خفة الجهل بكيده وغروره، فأطاعوه على تكذيب موسى، وقبلوا قوله، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] عاصين لله.
قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا} [الزخرف: 55] قال المفسرون: أغضبونا.
والأسف الغضب، ذكرنا ذلك عند قوله: غضبان أسفا.
أخبرني محمد بن عبد العزيز المروزي، فيما كتب إلي أن أبا الفضل الحدادي أخبرهم، عن محمد بن يزيد، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، نا معمر، عن سماك بن الفضل، قال: كنا عند عروة بن الزبير، وإلى جانبه وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وذكروا منه شيئا قبيحا، فتناول وهب عصا كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل، حتى سال دمه، فضحك عروة، واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبد الله الغضب، وهو يغضب.
فقال وهب: وما لي لا أغضب، وقد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، يقول: أغضبونا.
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنا أبو بكر ابن الأنباري، نا محمد بن أبي العوام، يقول:
(4/77)
1
سمعت أبي، يقول: سمعت شعيب بن حرب، يقول: قال عمر بن ذر: يا أهل المعاصي، لا تغتروا بطول حلم الله عز وجل عنكم، فاحذروا أسفه، فإنه قال عز من قائل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55] .
فجعلناهم سلفا جمع سالف، مثل خادم وخدم، وحارس وحرس، يقال: سلف يسلف سلوفا، إذا تقدم ومضى.
قال الفراء، والزجاج، يقول: جعلناهم متقدمين، ليتعظ بهم الآخرون.
وقرأ حمزة: سلفا بالضم، وهو جمع سليف من سلف بضم اللام، أي: تقدم، فهو سليف، ومثلا للآخرين أي: عبرة وعظة لمن بقي بعدهم، والمعنى: أن حال غيرهم يشبه حالهم، إذا أقاموا على العصيان.
قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ {57} وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ {58} إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {59} وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ {60} وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {61} وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {62} } [الزخرف: 57-62] .
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا} [الزخرف: 57] أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية.
وقد ذكرنا تلك القصة، قال مقاتل: ولما وصف ابن مريم شبها في العذاب بالآلهة، أي: فيما قالوه وعلي زعمهم.
لأن الله تعالى لم يذكر عيسى ابن مريم عليه السلام في تلك الآية، ولم
(4/78)
1
يرده بقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية، وإنما أراد أوثانهم، ولكنهم ألزموه عيسى جدالا، وعنتا، وضربوه مثلا لآلهتهم، وشبهوه بها في أنه معبود للنصارى من دون الله، وقوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] يعني: قومه الكفار، كانوا يضجون ضجيج المجادلة حيث خاصموه، وقالوا: رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى.
وهو قوله: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] أي: ليست آلهتنا خيرا من عيسى، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله فكذلك آلهتنا، وقرئ يصدون بكسر الصاد وضمها، قال الفراء، والزجاج، والأخفش، والكسائي: هما لغتان، معناهما: يضجون.
قال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف: 58] قال مقاتل: ما وصفوا لك ذكر عيسى إلا ليجادلوك به، لأنهم قد علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموات، ثم ذكر أنهم أصحاب خصومات، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] .
ثم ذكر عيسى، فقال: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] أي: بالنبوة، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] آية وعبرة لهم، يعرفون به قدرة الله على ما يريد، حيث خلقه من غير أب، فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله.
ثم خاطب كفار مكة، فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً} [الزخرف: 60] أي: لو نشاء أهلكناكم، وجعلنا بدلا منكم ملائكة، {فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] يكونون خلفا منكم، قال الأزهري: ومن قد تكون للبدل، كقوله: جعلنا منكم، يريد: بدلا منكم.
ثم رجع إلى ذكر عيسى، فقال: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] يعني: نزول عيسى من أشراط الساعة، يعلم به قربها، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] قال ابن عباس: لا تكذبون بها.
واتبعون على التوحيد، هذا الذي أنا عليه، صراط مستقيم من دين إبراهيم.
قوله: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ
(4/79)
1
وَأَطِيعُونِ {63} إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {64} فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ {65} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {66} الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ {67} } [الزخرف: 63-67] .
{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى} [الزخرف: 63] بني إسرائيل، بالبينات قال قتادة، ومقاتل: يعني: الإنجيل.
وهو قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف: 63] وقال عطاء: يريد النبوة.
{وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] قال مجاهد: يعني: من أحكام التوراة.
وقال ابن عباس: ما تختلفون فيه من أمري، وأمر دينكم.
وقال قتادة: يعني: اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى.
وقال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل، وإنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ} [الزخرف: 66] أي: هل يرتقبون إلا القيامة، يعني: أن تأتيهم لا محالة، فكأنهم يرتقبونها، وإن كانوا أمواتا فهم أيضا يرتقبونها، ولكن لا يدري، متى تفجأ؟ وهو قوله: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف: 66] .
الأخلاء في الدنيا، يومئذ يوم تأتي الساعة، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67] يعني: أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر، صارت عداوة يوم القيامة، إلا المتقين يعني: الموحدين المؤمنين، الذين يخال بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة.
قوله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ {68} الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ {69} ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ {70} يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71} وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {72} لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ {73} } [الزخرف: 68-73] .
{يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف: 68] قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة، نادى مناد: يا
(4/80)
1
عبادي لا خوف عليكم، أي: من عذاب اليوم، فإذا سمعوا النداء، رفع الخلائق رءوسهم.
فيقال: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 69] فينكس أهل الأديان رءوسهم غير المسلمين.
ويقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] تكرمون، وتنعمون.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} [الزخرف: 71] جمع صحفة، وهي القصعة الواسعة العريضة، وأكواب جمع كوب، وهو إناء مستدير مدور الرأس، لا عرى لها، وفيها ما تشتهي الأنفس، وقرئ: تشتهيه بالهاء، وحذف الهاء ههنا كإثباتها، وأكثر ما جاء في التنزيل حذف الهاء من الصلة، كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] ، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] ، وإنما صنعوا كيد سحر، والأصل إثبات الهاء، والحذف حسن كثير، وقد جاءت مثبتة كقوله: {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، وقوله: وتلذ الأعين يقال: لذذت الشيء ألذه، مثل استلذذته، والمعنى: أنه ما من شيء اشتهته نفس، أو استلذته عين، إلا وهو في الجنة، وقد عبر الله تعالى بهذين اللفظين عن جميع نعيم أهل الجنة، فإنه ما من نعمة إلا وهي نصيب النفس، أو العين، ثم تمم هذه النعم بقوله: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71] لأنها لو انقطعت لم تطب.
وتلك الجنة يعني: الجنة التي ذكرها في قوله: ادخلوا الجنة، التي أورثتموها قال ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، والمؤمن يرث جنة الكافر.
وهذا كقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10] وقد تقدم.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {74} لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ {75} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ {76} وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ {77} لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {78} أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ {79} أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ {80} } [الزخرف: 74-80] .
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وما ظلمناهم أي: ما عذبناهم على غير ذنب، {و