التفسير الوسيط للواحدي ج ص معتمد 007

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12] فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} [العنكبوت: 13] يعني: أوزارهم التي عملوها، {وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أوزارا مع أوزارهم، لقولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا، وهذا كقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] ونحو هذا، ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع، فعليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» .
{وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [العنكبوت: 13] سؤال توبيخ وتقريع، {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13] قال ابن عباس: يقولون على الله الكذب.
وقال مقاتل: يعني قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله.
ثم عزى نبيه بما ابتلي به النبيون من قبله من قومهم، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {14} فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ {15} } [العنكبوت: 14-15] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ} [العنكبوت: 14] أقام فيهم يدعوهم إلى الله، {أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]
709 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا هُدْبَةُ، أنا حَمَّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، عَاشَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا
وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت: 14] قال مقاتل: يعني الماء طفا فوق كل شيء فغرقوا.
وهم ظالمون قال ابن عباس: مشركون.
فأنجيناه يعني: نوحا من الغرق، وأصحاب السفينة الذين كانوا معه فيها، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15] تركنا السفينة عبرة لمن بعدهم من الناس، إن عصوا رسولهم فعلنا بهم مثل ذلك.
(3/415)
1
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {16} إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {17} وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {18} } [العنكبوت: 16-18] وإبراهيم عطفا على نوح، والمعنى: وأرسلنا إبراهيم، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت: 16] أطيعوا الله وخافوه، ذلكم يعني: عبادة الله، خير لكم من عبادة الأوثان، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16] ولكنكم لا تعلمون.
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت: 17] قال ابن عباس: يريد الأصنام التي تتخذ من الحجارة والخشب.
وتخلقون إفكا قال السدي: تقولون كذبا.
يعني زعمهم أنها آلهة، ثم ذكر عجز الآلهة عن رزق عابديها، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت: 17] لا يقدرون أن يرزقوكم، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] فاطلبوا الرزق مني، فأنا القادر على ذلك، وما بعدها هذا ظاهر إلى قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {19} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {20} يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ {21} وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {22} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {23} } [العنكبوت: 19-23] {أَوَلَمْ يَرَوْا} [العنكبوت: 19] يعني: كفار مكة، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب لهم، {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 19] كيف يخلقهم الله ابتداء من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى تمام الخلق، ثم يعيده في الآخرة عند البعث، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت: 19] قال ابن عباس: يريد الخلق الأول والخلق الآخر.
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] أي: ابحثوا وانظروا، هل تجدون خالقا غير الله، فإذا علموا أنه لا خالق ابتداء إلا الله لزمتهم الحجة في الإعادة، وهو قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] أي: ثم الله الذي خلقها وبدأ خلقها ينشئها نشأة ثانية، وقرأ أبو عمرو بالمد، قال الفراء: وهو مثل الرأفة والرافة، والكأبة والكآبة، كل نواب.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [العنكبوت: 20] من البدء والإعادة، قدير.
قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22] قال
(3/416)
1
قطرب: معناه ولا في السماء لو كنتم فيها، كقولك: ما يفوتني فلان ههنا ولا بالبصرة لو صار إليها.
وهذا معنى قول مقاتل: وما أنتم يا كفار مكة بسابقي الله، فتفوتونه في الأرض كنتم أو في السماء كنتم، أينما تكونوا حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} [العنكبوت: 22] يمنعكم مني، ولا نصير ينصركم من عذابي.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} [العنكبوت: 23] بالقرآن والبعث بعد الموت، {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت: 23] يعني من جنتي.
ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم، وهو قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {24} وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {25} } [العنكبوت: 24-25] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [العنكبوت: 24] يعني: حين دعاهم إلى الله ونهاهم عن عبادة الأصنام، {إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24] وفي هذا تسفيه لهم حين أجابوا من احتج عليهم بأن يقتل أو يحرق، {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24] قال مقاتل: فقذفوه في النار فأنجاه الله من ذلك.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 24] أي: إن في إنجاء الله إبراهيم من النار حتى لم تحرقه، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 24] بتوحيد الله وقدرته.
وقال إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت: 25] قال الزجاج: ترفع مودة على إضمار هي، كأنه قال: تلك مودة بينكم، أي ألفتكم واجتماعكم على الأصنام مودة بينكم.
{فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 25] وقرأ عاصم مودة بالرفع والتنوين، بينكم نصبا، وهذه القراءة كالأولى، إلا أنه لم يضف المودة ونصب بينكم على الظرف.
وقرأ حمزة مودة نصبا من غير تنوين بينكم خفضا جعل ما مع أن كافة، ولم يجعلها بمعنى الذي، ونصب مودة على أنه مفعول له، أي أتخذتم الأوثان للمودة، ثم أضافها إلى بينكم كما أضاف من وقع وقرأ نافع وابن عامر مودة بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، وهذه القراءة كقراءة حمزة في المعنى، إلا أنه لم يضف المودة.
قال المفسرون: يقول أنكم جعلتم الأوثان تتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها في الحياة الدنيا، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت: 25] يتبرأ القادة من الأتباع {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] يلعن الأتباع القادة، لأنهم زينوا لهم الكفر ومأواكم ومصيركم جميعا، {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] مانعين منها.
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {26} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {27} } [العنكبوت: 26-27] {
(3/417)
1
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] صدق بإبراهيم لوط، وهو ابن أخيه، وقال إبراهيم: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] هاجر من كوثا، وهو سواد العراق، إلى الشام، وهجر قومه المشركين.
والمعنى: إلى حيث أمرني.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [العنكبوت: 27] من بعد إسماعيل، ويعقوب من إسحاق، {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] وذلك أن الله لم يبعث نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه، {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27] يعني الثناء الحسن، فكل أهل الأديان يحبونه ويتولونه، وقال السدي: هو أنه أري مكانه في الجنة، ثم أعلم أن له مع ما أعطي في الدنيا الدرجات العلى بقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] قال ابن عباس: مثل آدم ونوح، أي أنه في درجتهما.
وقد قال الله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] .
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ {28} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {29} قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ {30} } [العنكبوت: 28-30] وما بعد هذا مفسر إلى قوله: وتقطعون السبيل وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس الممر بهم.
قال الفراء: كانوا يعترضون الناس من الطرق لعملهم الخبيث.
{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] النادي والندي والمنتدى: مجلس القوم ومتحدثهم، قال ابن عباس، ومجاهد: هو إتيانهم الرجال، واستمكنت تلك الفاحشة فيهم حتى فعل بعضهم ببعض في المجالس.
وقال القاسم بن محمد: هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم.
710 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذَ الْعَدْلُ، أنا حَمْدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أنا جَدِّي، نا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا زُرَيْعٌ، نا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} ، قُلْتُ: مَا الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَ؟ قَالَ: كَانُوا يَخْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ حَاتِمٍ
قال الزجاج: وفي هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المناكير، وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي، ولما أنكر لوط على قومه ما كانوا يأتونه من القبائح قالوا له استهزاء: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29] أن العذاب نازل بنا.
وعند
(3/418)
1
ذلك قال لوط: رب انصرني أي: بتحقيق قولي في العذاب، {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30] العاصين بإتيان الرجال، فاستجاب الله دعاءه، فبعث جبريل ومعه الملائكة لتعذيب قومه، وهو قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ {31} قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {32} وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {33} إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {34} وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {35} وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {36} فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {37} } [العنكبوت: 31-37] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [العنكبوت: 31] أي: بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] يعنون: قرية لوط، {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] يعني مشركين، وما بعد هذا مفسر في { [هود إلى قوله:] إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [سورة العنكبوت: 33] يعني بناته، قال المبرد: الكاف في منجوك مخفوضة، ولم يجز عطف الظاهر على الضمير المخفوض، فحمل الثاني على المعنى، وصار التقدير وننجي أهلك، ومنجون أهلك.
قوله: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [العنكبوت: 34] قال مقاتل: يعني الخسف والحصب.
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت: 34] جزاء لفسقهم.
{وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} [العنكبوت: 35] يعني: آثار منازلهم الخربة، وقال قتادة: هي الحجارة التي أبقاها الله فأدركها أوائل هذه الأمة.
وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض.
وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت: 36] قال مقاتل: واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال.
وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ {38} وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ {39} فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {40} } [العنكبوت: 38-40] {
(3/419)
1
وَعَادًا وَثَمُودَ} [العنكبوت: 38] قال مقاتل، والزجاج: وأهلكنا عادا وثمود.
{وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38] ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجر والحجاز واليمن آية في هلاكهم، وقوله: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38] يقال: استبصر في أمره إذا كان ذا بصيرة.
قال قتادة، والكلبي: إنهم كانوا مستبصرين في دينهم وضلالتهم، معجبين بما يحسبون أنهم على هدى، ويرون أن أمرهم حق.
والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين فيما كانوا عليه من الضلالة.
قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] أي: عاقبنا بتكذيبه الرسل، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} [العنكبوت: 40] يعني: قوم لوط، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} [العنكبوت: 40] يعني ثمودا، {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} [العنكبوت: 40] يعني: قارون وأصحابه، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] يعني: قوم نوح وفرعون، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت: 40] ليعذبهم على غير ذنب.
ثم ضرب لهم مثلا، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {41} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {42} وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ {43} } [العنكبوت: 41-43] {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} [العنكبوت: 41] يعني: الأصنام يتخذونها أولياء، يرجون ضرها ونفعها، {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41] وبيتها لا يغني عنها في حر ولا قر ولا مطر، كذلك آلهتهم لا ترزقهم شيئا، ولا تملك لهم ضرا ولا نفعا، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41] لا بيت أضعف منه فيما يتخذه الهوام، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] أن اتخاذهم الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتا.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42] أي: إنه عالم بما عبدتموه من دونه، لا يخفى على الله ذلك، فهو يجازيكم على كفركم.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {42} وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} [العنكبوت: 42-43] يعني: أمثال القرآن، وهي التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة.
نضربها للناس قال مقاتل: نبينها لكفار مكة.
{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله.
711 - حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَطَّانُ، نا الْحَارِثُ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا عَبَّادٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَلا هَذِهِ الآيَةَ {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} قَالَ: الْعَالِمُ: الَّذِي عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبَ سَخَطَهُ "
(3/420)
1
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ {44} اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {45} } [العنكبوت: 44-45] {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [العنكبوت: 44] أي: للحق وإظهار الحق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 44] في خلقها، {لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] لدلالة على قدرة الله وتوحيده.
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45] يعني القرآن، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] الفحشاء ما قبح من العمل، والمنكر لا يعرف في شريعة ولا سنة، قال ابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد إلا بعدا.
وهذا قول الحسن، وقتادة، قالا: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليس صلاته بصلاة، وهي وبال عليه.
712 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْجَوْزَقِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ السُّكَيْنِ، نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلا بُعْدًا»
713 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلاةِ أَنْ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»
ومعنى هذا أن الله تعالى أخبر أن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فمن أقامها ثم لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة التي وصفها الله، فإذا لم تكن بتلك الصفة لم تكن صلاة، فإن تاب يوما وترك معاصيه تبينا أن ذلك من نهي الصلاة، وأن صلاته كانت نافعة له ناهية وإن لم ينته إلا بعد زمان.
وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] يعني: مما سواه، وأفضل من كل شيء، قال قتادة: ليس أفضل من ذكر الله، والمعنى أن العبد إذا كان ذاكرا الله لم يجر عليه القلم بمعصية، لأنه إذا ذكر الله ارتدع عما يهم به من السوء، ولهذا قال الفراء، وابن قتيبة: ولذكر الله هو التسبيح والتهليل: يقول: هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر.
أي: من كان ذاكرا لله فيجب أن ينهاه عن الفحشاء والمنكر.
أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، نا محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق الضغاني، نا حسن بن موسى الأشيب، نا حماد، عن ثابت البناني، أن رجلا أعتق أربع رقاب، فقال آخره: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم دخل المسجد فأتى حبيب بن أوفى
(3/421)
1
المسلمي، فقال: ما تقول في رجل أعتق أربع رقاب وأني أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها أفضل.
فنظروا فنيهة، فقالوا: ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله، وفي الآية قول آخر: وهو أن المعنى ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه.
قال مقاتل: إذا صليت لله فقد ذكرته فيذكرك الله بخير، وذكر الله إياك أفضل من ذكرك إياه.
أخبرنا أبو نعيم المهرجاني، أنا بشر بن أحمد بن بشر، أنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، نا علي بن الجعد، نا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي، في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] قال: أكبر من ذكر العبد لله.
714 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قَالَ: قُلْتُ: ذِكْرُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ حَسَنٌ، وَذِكْرُهُ بِالصَّلاةِ حَسَنٌ، وَبِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ حَسَنٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ الرَّجُلُ رَبَّهُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ فَيَنْحَجِزَ عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ قُلْتَ قَوْلا عَجَبًا وَمَا هُوَ كَمَا قُلْتَ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكِمْ إِيَّاهُ
715 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى: إِنِّي كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ: {ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ فَقَالَ: الصَّلاةُ وَالصَّوْمُ ذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي تَرَكْتُ رَجُلا فِي رَحْلِي يَقُولُ غَيْرَ هَذَا، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ الْعِبَادَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعِبَادِ إِيَّاهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ وَاللَّهِ صَاحِبُكَ
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45] قال عطاء: يريد لا يخفى على الله شيء.
قوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] أي: بالقراءة والدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه، {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] إلا من أبى أن يقر بالجزية ونصب الحرب، فجادلوا هؤلاء بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وقولوا لمن قبل الجزية منهم إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] .
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ {47} وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ
(3/422)
1
الْمُبْطِلُونَ {48} بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ {49} } [العنكبوت: 47-49] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 47] وكما أنزلنا عليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب، {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت: 47] يعني: مؤمني أهل الكتاب، ومن هؤلاء يعني: كفار مكة، {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت: 47] يعني: من أسلم منهم، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} [العنكبوت: 47] أي: بعد المعرفة، إلا الكافرون من اليهود، وذلك أنهم عرفوا أن محمدا نبي، والقرآن حق، فجحدوا وتنكروا.
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48] وما كنت تقرأ قبل القرآن كتابا، أي: ما كنت قارئا، ولا كاتبا قبل الوحي، وهو قوله: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وكذا كان صفته في التوراة والإنجيل: أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقوله: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] ولو كنت قارئا كاتبا لشك اليهود فيك، وقالوا: إن الذي نجده في التوراة أمي لا يقرأ الكتاب وما كانوا يرتابون في نبوة محمد لما يجدونه من نعته، ولكنهم جحدوا نبوته بعد اليقين، فلو كان كاتبا قارئا لكان بغير النعت الذي عرفوه، فكانوا يشكون، والمبطل الذي يأتي بالباطل، وكل من ادعى دينا الإسلام فهو مبطل.
قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [العنكبوت: 49] قال الحسن: القرآن آيات بينات.
{فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] يعني: المؤمنين الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحملوه بعده.
وقال قتادة، ومقاتل: بل يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو آيات بينات، أي: ذو آيات بينات في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، لأنهم يجدونه بنعته وصفته.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49] يعني: كفار اليهود.
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {51} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {52} } [العنكبوت: 50-52] وقالوا يعني: كفار مكة، لولا أنزل عليه آية من ربه هلا أنزل على محمد آية من ربه كما كانت الأنبياء يجيء بها إلى قومهم، وقرئ آيات على الجمع، وقد تقع آية على الكثرة، وإن كانت على لفظ الواحد فالقراءتان معناهما واحد.
{قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50] هو القادر على إرسالها، إذا شاء أرسلها، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50] أنذر أهل المعصية بالنار، وليس إنزال الآيات بيدي.
ولما سألوا الآيات قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 51] أو لم يكفهم من الآيات القرآن، يتلى عليهم فيه خبر ما بعدهم وما قبلهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 51] في إنزال الكتاب عليك، لرحمة لمن آمن وعمل به، وذكرى وتذكير أو موعظة، لقوم يؤمنون.
قال مقاتل: فكذبوا بالقرآن، فنزل {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [العنكبوت: 52] أي: بالله شاهدا بينا أني رسوله، وكفى هو شاهدا، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [العنكبوت: 52] وشهادة الله له إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} [العنكبوت: 52] قال ابن عباس: بغير الله.
وقال مقاتل: بعبادة الشيطان.
{وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] بالعقوبة وفوت المثوبة.
(3/423)
1
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {51} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {52} } [العنكبوت: 50-52] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [العنكبوت: 53] استهزاء وتكذيبا منهم بذلك، {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت: 53] لعذابهم، وهو يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني مدة أعمارهم، لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب.
{لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53] بإتيانه.
ثم ذكر أن موعد عذابهم النار، فقال: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54] جامعة لهم، يوم يغشاهم يعلوهم، {الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] كقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] .
ويقول بالياء يعني: الموكل بعذابهم، يقول لهم: ذوقوا ومن قرأ بالنون، فلأن ذلك لما كان بأمره سبحانه جاز أن ينصب، ومعنى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] أي: جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب.
قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ {56} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {57} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {58} الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {59} وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {60} } [العنكبوت: 56-60] {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] قال مقاتل: نزلت في ضعفاء المسلمين بمكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، فاخرجوا منها.
قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على من كان في بلدة يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته.
ثم خوفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57] أي: كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت، {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57] بعد الموت، فنجزيكم بأعمالكم.
ثم ذكر ثواب من هاجر، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت: 58] يعني المهاجرين، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت: 58] قال ابن عباس: لنسكنهم غرف الدر والزبرجد والياقوت، ولننزلنهم قصور الجنة.
وقرأ حمزة لنثوينهم، قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه، قال الأخفش: ولا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول أثويته الدار بل تقول في الدار وليس في الآية حرف جر في، المفعول الثاني، وقال أبو علي الفارسي: هو على إرادة حرف الجر، ثم حذف كما يقال: أمرتك الخير، أي بالخير، ثم وصف تلك الغرف، فقال: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [العنكبوت: 58] لا يموتون، {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136] لله غرف.
ثم وصفهم، فقال: الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه لشدة لحقتهم، {وَعَلَى
(3/424)
1
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 59] قال ابن عباس: وذلك أن المهاجرين توكلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم.
وقال مقاتل: إن أحدهم كان يقول بمكة كيف أهاجر إلى المدينة، وليس لي بها مال ولا معيشة، فقال الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ} [العنكبوت: 60] وهي كل حيوان يدب على الأرض مما يعقل ولا يعقل، والمعنى: من نفس دابة.
{لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] لا ترجع رزقها معها، ولا تدخر شيئا لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا} [العنكبوت: 60] حيث ما توجهت، وإياكم يرزق إن خرجتم إلى المدينة ولم يكن لكم زاد ولا نفقة، قال سفيان: وليس شيء مما خلق الله يخبئ ويدخر إلا الإنسان والفأرة والنملة.
وقوله: وهو السميع أي: لقولكم إنا لا نجد ما ننفق بالمدينة.
العليم بما في قلوبكم.
716 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْجَمَّالُ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَجَلِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْن مِنْهَالٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الأَنْصَارِ فَجَعَل يَلْتَقِطُ مِنَ الثَّمَرِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ: يَابْنَ عُمَرَ، مَا لَكَ لا تَأْكُلُ؟ فَقُلْتُ: لا أَشْتَهِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَكِنِّي أَشْتَهِيهِ وَهَذِهِ صُبْحٌ رَابِعَةٌ مُذْ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَكَيْفَ بِكَ، يَابْنَ عُمَرَ، إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ وَيَضْعُفُ الْيَقِينُ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْنَا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآيَةَ
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ {61} اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {62} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ {63} } [العنكبوت: 61-63] قوله: ولئن سألتهم يعني: كفار مكة، {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] أي: الله خلقها، يقررن بأنه خالق السموات والأرض، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت: 63] أي: احمد الله على إقرارهم، لأن ذلك يلزمهم الحجة، ويوجب عليهم التوحيد.
ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] توحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خلق الأشياء، وأنزل المطر، والمراد بالأكثر الجميع.
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {64} فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ {65} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {66} } [العنكبوت: 64-66] قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64] يعني: الحياة في هذه الدار، {إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64] باطل وغرور وعبث، تنقضي عن قريب، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 64] يعني الجنة {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: الحيوان الحياة.
وهو قول
(3/425)
1
المفسرين: ذهبوا إلى أن معنى الحيوان ههنا الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة، ويكون كالثوران والغليان، ويكون التقدير وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان، أو ذات الحيوان، والمعنى: إن حياة الدار الآخرة هي الحياة، لأنه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها، ولا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، وهذا معنى قول جماعة المفسرين.
وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] يعني: لو علموا لرغبوا في الباقي الدائم عن الفاني الزائل، ولكنهم لا يعلمون.
قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت: 65] يعني المشركين، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] أفردوا الله بالطاعة، وتركوا شركاءهم فلا يدعونهم لأنجائهم، فلما نجاهم الله من أهوال البحر وأفضوا، {إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] به، وهذا إخبار عن عنادهم، وأنهم عند الشدائد يعلمون أن القادر على كشفها الله وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم.
قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوا تلك الأصنام في البحر، وصاحوا: يا خذاي.
قوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [العنكبوت: 66] هذه لام الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] والمعنى: ليجحدوا نعمة الله، وليتمتعوا بباقي عمرهم، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، ومن كسر اللام في وليتمتعوا جعل اللام في ليكفروا لام كي، والمعنى: إذا هم يشركون ليكفروا، والمعنى: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما تستمتعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ {67} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ {68} وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69} } [العنكبوت: 67-69] أولم يروا يعني: كفار مكة، {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] يعني مكة، وذكرنا تفسير هذه الآية في { [القصص،] وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [سورة العنكبوت: 67] يعني: العرب يسبي بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون، أفبالباطل يؤمنون يعني الشيطان، وبنعمة الله بمحمد والإسلام، يكفرون.
ثم ذكر أنهم أظلم الخلق، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [العنكبوت: 68] لا أحد أظلم ممن زعم أن لله شريكا، وأنه أمر بالفواحش، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68] بمحمد والقرآن، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟ وهو استفهام معناه التقرير.
قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار.
وقال ابن زيد: والذين جاهدوا هؤلاء المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا، لنهدينهم سبلنا لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة، والأولى أن يكون معنى الهداية ههنا الزيادة منها والتثبيت عليها، قال الزجاج: أعلم الله أنه يزيد المجاهدين هداية، كما أنه يزيد الكافرين بكفرهم ضلالة، كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] .
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] بالنصرة والعون، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد بالمحسنين الموحدين.
(3/426)
1
سورة الروم
مكية وآياتها ستون.
717 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرُّومِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ مَلَكٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَأَدْرَكَ مَا ضَيَّعَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ»
{الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5} وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {6} يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {7} } [الروم: 1-7] بسم الله الرحمن الرحيم الم ذكرنا تفسيره.
غلبت الروم قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم، ففرح بذلك كفار مكة، وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين، وقالوا: نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم.
وقوله: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 3] يريد الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، وقال عكرمة: يعني أذرعات وكسكر، وهما من بلاد الشام، يعني الروم.
{مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [الروم: 3] من بعد غلبة فارس إياهم، والغلب والغلبة لغتان، سيغلبون فارس.
{فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد مر، أخبر الله أن الروم بعد ما غلبوا سيغلبون، ثم التقى الروم وفارس في السنة السابعة من غلبة فارس إياهم، فغلبتهم الروم، فجاء جبريل عليه السلام بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر.
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] أي: من قبل أن غلبت الروم ومن بعد ما
(3/427)
1
غلبت، يعني أن غلبة أحد الفريقين الآخر أيهما كان الغالب أو المغلوب فإن ذلك كان بأمر الله وإرادته، وقضائه وقدرته، ويومئذ يعني: يوم تغلب الروم فارس، {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5] الروم على فارس، قال السدي: فرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك بنصر الله.
{يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ} [الروم: 5] الغالب، الرحيم بالمؤمنين، قال الزجاج: وهذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله، لأنه أنبأ بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا الله عز وجل.
718 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ لُوَيْنٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ دِينَارِ بْنِ مُكْرَمٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ خَرَجَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا: هَذَا كَلامُ صَاحِبِكَ، قَالَ: اللَّهُ أَنْزَلَ هَذَا وَكَانَتْ فَارِسُ قَدْ غَلَبَتِ الرُّومَ، فَاتَّخَذُوهُمْ شِبْهَ الْعَبِيدِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ لا تَغْلِبَ الرُّومُ فَارِسَ؛ لأَنَّهُمْ أَهْلُ جَحْدٍ وَتَكْذِيبٍ بِالْبَعْثِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَتَصْدِيقٍ بِالْبَعْثِ، فَقَالُوا لأَبِي بَكْرٍ: نُرَاهِنُكَ عَلَى أَنَّ الرُّومَ لا تَغْلِبُ فَارِسَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلاثِ إِلَى التِّسْعِ، قَالُوا: الْوَسَطُ فِي ذَلِكَ سِتَّةٌ لا أَقَلَّ وَلا أَكْثَرَ، قَالَ: فَوَضَعُوا الرِّهَانَ، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يُحَرَّمَ الرِّهَانُ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، أَلا أَقْرَرْتَهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ سِتًّا لَقَالَ، فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ سِتٍّ لَمْ تَظْهَرِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَخَذُوا الرِّهَانَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ سَبْعٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}
قوله: وعد الله أي: وعد الله ذلك وعدا، {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] في ظهور الروم على فارس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [الروم: 6] يعني: كفار مكة، لا يعلمون أن الله لا يخلف وعده في إظهار الروم على فارس.
ثم وصف كفار مكة، فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7] يعني: معايشهم وما يصلحهم، وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم، ومتى حصادهم.
وروي عنه أنه قال: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم بيده، فيخبرك بوزنه، ولا يحسن أن يصلي.
وقال الضحاك: يعلمون بنيات قصورها، وتشقيق أنهارها، وغرس أشجارها.
وقال الزجاج: يعلمون معايش الحياة، لأنهم كانوا يعالجون التجارات، فأعلم الله مقدار ما يعلمون.
{وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] حين لم يؤمنوا بها، ولم يعدوا لها.
ثم وعظهم ليعتبروا، فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ {8} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
(3/428)
1
كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {9} ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ {10} } [الروم: 8-10] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] في خلق الله إياهم، ولم يكونوا شيئا، فيعلموا {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الروم: 8] قال الفراء: إلا للخلق، يعني الثواب والعقاب.
وأجل مسمى قال مقاتل: للسموات والأرض أجل تنتهيان إليه، وهو يوم القيامة.
والمعنى: أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئا، فيعلموا أن خلق السموات والأرض لأمر، وأن لهما أجلا وهو يوم القيامة.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [الروم: 8] يعني: كفار مكة، بلقاء ربهم بالبعث بعد الموت، لكافرون لا يؤمنون بأنه كائن.
ثم خوفهم، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9] أولم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم، ويعلموا أنهم أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا.
ثم وصف تلك الأمم، فقال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] أعطوا من القوة ما لم يعطها هؤلاء، وأثاروا الأرض حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، وعمروها أي: كفار مكة، لأنهم كانوا أطول عمرا، وأكثر عددا، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم: 9] بالدلالات والحجج، وأخبروهم بأمر العذاب، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [الروم: 9] بتعذيبهم على غير ذنب، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] بالكفر والتكذيب، ودل هذا على أنهم لم يؤمنوا فأهلكهم الله.
ثم أخبر عن عاقبتهم، فقال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] في السوأى قولان: أحدهما أنها النار ضد الحسنى وهي الجنة، وهذا قول الفراء، والزجاج، والأكثرين.
قال ابن قتيبة: السوأى جهنم ضد الحسنى وهي الجنة.
وإنما سميت سوءى لأنها يسوء صاحبها، ومعنى أساءوا أشركوا، قاله ابن عباس، ومقاتل.
وفي عاقبة الذين قراءتان: النصب والرفع، فمن نصب جعلها خبر كان ونصبها متقدمة، كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وتقدير الكلام ثم وكان السوء عاقبة الذين أساءوا، ويكون أن في قوله: أن كذبوا مفعولا له، أي لأن كذبوا.
قال الزجاج: المعنى: ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم.
القول الثاني في السوأى: أنها مصدر بمنزلة الإساءة، ويكون المعنى: ثم كان التكذيب آخر أمرهم، أي ماتوا على ذلك، فكأن الله تعالى جازاهم على إساءتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب والشرك عقابا لهم بذنوبهم.
أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الأصفهاني، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا أحمد بن منصور المروزي، نا
(3/429)
1
محمد بن عبد الله بن بكير، سمعت ابن عيينة يقول في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الروم: 10] إن لهذه الذنوب عواقب سوء، لا يزال الرجل يذنب فينكت على قلبه حتى يسوء القلب كله، فيصير كافرا.
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {11} وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ {12} وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ {13} وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ {14} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ {15} وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ {16} } [الروم: 11-16] قوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [الروم: 11] أن يخلقها أولا، ثم يعيده ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] فيجزيهم بأعمالهم، والخلق هم المخلوقون في المعنى، وجاء قوله: ثم يعيده على لفظ الخلق، وقوله: يرجعون على المعنى، ووجه قراءة من قرأ بالتاء أنه صار من الغيبة إلى الخطاب.
قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 12] قال الكلبي: ييأس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب.
وقال الفراء: ينقطع كلامهم وحجتهم.
وذكرنا تفسير الإبلاس عند قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} [الروم: 13] أوثانهم التي عبدوها ليشفعوا لهم، {شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم: 13] يتبرءون منها وتتبرأ منهم.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم: 14] تظهر القيامة، {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] قال مقاتل: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار، فلا يجتمعون أبدا.
وقال الحسن: لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليتفرقن يوم القيامة، هؤلاء في أعلى عليين، وهؤلاء في أسفل سافلين.
وهو قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] ينعمون ويسرون، والحبرة والحبر: السرور، قال ابن عباس، والمفسرون: في رياض الجنة ينعمون.
ثم أخبر عن حال الكافرين بقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 16] وهي ظاهرة.
ثم ذكر ما يدرك به الجنة، فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ {17} وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ {18} يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ {19} } [الروم: 17-19] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] قال المفسرون: فصلوا لله، على تأويل فسبحوا لله.
قال ابن عباس: جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها، حين تمسون المغرب والعشاء، وحين تصبحون الفجر، وعشيا العصر،
(3/430)
1
وحين تظهرون الظهر.
ومعنى تمسون: تدخلون في وقت المساء، ومثله تصبحون، وتظهرون في الوقتين جميعا، واعترض بين ذكر الأوقات قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 18] قال ابن عباس: يحمده أهل السموات وأهل الأرض ويصلون له ويسبحون.
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19] مفسر فيما تقدم، {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19] يجعلها تنبت، وذلك حياتها بعد أن كانت لا تنبت، وكذلك تخرجون من الأرض يوم القيامة، وقرأ حمزة تخرجون بفتح التاء، أضاف الخروج إليهم، كقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [المعارج: 43] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ {20} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {21} } [الروم: 20-21] قوله: ومن آياته دلائل قدرته، {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] يعني: آدم أبا البشر، {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} [الروم: 20] من لحم ودم، يعني ذريته، تنتشرون تنبسطون في الأرض.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21] جعل لكم أزواجا من مثل خلقكم، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] جعل بين الزوجين المودة والرحمة، فهما يتوادان ويتراحمان، وما من شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم: 21] الذي ذكر من صنعه، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] في عظمة الله وقدرته.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ {22} وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {23} } [الروم: 22-23] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 22] على عظمتهما وكثافتهما وكثرة أجزائهما، واختلاف ألسنتكم يعني: اختلاف اللغات من العربية والعجمية، وألوانكم لأن الخلق من بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] للبر والفاجر، والإنس والجن، وقرأ حفص بكسر اللام، قال الفراء: وهو وجه جيد لأنه قد قال: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5] ، و {لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23] التقدير: منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، هذا يعني تصرفكم في طلب المعيشة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23] سماع اعتبار وتدبر.
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {24} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ {25} } [الروم: 24-25] {
(3/431)
1
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} [الروم: 24] للمسافر من الصواعق، وطمعا للحاضر المقيم في المطر.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] قال ابن مسعود: قامتا بغير عمد.
وقال الفراء: يقول أن تدوما قائمتين بأمره، يدعو إسرافيل من صخرة بيت المقدس حين ينفخ في الصور بأمر الله للبعث بعد الموت.
ثم {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] من الأرض.
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ {26} وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {27} } [الروم: 26-27] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 26] عبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] قال الكلبي: هذا خاص لمن كان منهم مطيعا.
وقال ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والبقاء، والموت والبعث وإن عصوا في العبادة.
وهذا مفسر في { [البقرة.
قوله:] وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [سورة الروم: 27] يخلقهم أولا ثم يخلقهم ثانيا للبعث، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أي: هين عليه الإعادة، وما شيء عليه بعزيز، ويجيء أفعل بمعنى المفاعل، كقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
أي: عزيزة طويلة، وهذا قول الحسن، والربيع، وقتادة، والكلبي.
وقال مقاتل: يقول: البعث أيسر عليه عندكم يا معشر الكفار من الخلق الأول.
قال المبرد: وهو أهون عليه عندكم، لأنكم أقررتم بأنه بدأ الخلق، وإعادة الشيء عند المخلوقين أهون من ابتدائه.
واختار الزجاج هذا القول، فقال: إن الله خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء.
والكناية في قوله: وهو تعود إلى الإعادة، وهو مصدر، فأجري على التذكير ودل عليه الفعل، وهو قوله يعيده والفعل يدل على المصدر.
وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 27] الصفة العليا، وهي أنه لا إله غيره، وهو العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {28} بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {29} } [الروم: 28-29] ضرب لكم أيها المشركون، {مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28] أي: بَيَّنَ لكم شبها لحالكم ذلكم المثل، فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الروم: 28] من عبيدكم، {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28] من المال والعبيد والأهل، أي: هل يشاركونكم في أموالكم.
وهو قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] أي: أنتم وشركاؤكم من
(3/432)
1
عبيدكم فيما رزقناكم شرع سواء؟ تخافونهم أي: يشاركونكم فيما ترثونه من آبائكم، كخيفتكم أنفسكم كما يخاف الرجل الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه دونه بأمر، فكما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه، لأنه يحب أن ينفرد به، فهو يخاف شريكه كما أن يرثه عصبته من ذريته، يعني أن هذه الخيفة لا تكون بين المالكين والمملوكين كما بين الأحرار، ومعنى أنفسكم ههنا أمثالكم من الأحرار، كقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] ، وكقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] أي: بأمثالهم من المؤمنين، قال صاحب النظم: وهذا مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه سواء يخاف غيره من شريك لو كان له فيه شركه، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فجعلتموهم شركاء لي.
كذلك كما بينا في ضرب المثل من أنفسكم، {نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28] عن الله.
ثم بين لهم أنهم إنما اتبعوا فيما أشركوا به الهوى، فقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم: 29] أشركوا بالله، أهواءهم في الشرك، بغير علم يعلمونه جاءهم من الله، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم: 29] أي: لا هادي لمن أضله الله، وهذا يدل على أنهم إنما أشركوا بإضلال الله إياهم عن الحق، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29] مانعين من عذاب الله، قاله مقاتل.
ثم أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوحيده، فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} } [الروم: 30-32] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم: 30] أي: أخلص دينك، وهو قول سعيد بن جبير.
وقال غيره: سدد عملك.
والوجه: ما يتوجه إليه، وعمل الإنسان ودينه ما يتوجه إليه لتسديده وإقامته، حنيفا مائلا إليه مستقيما عليه، لا ترجع عنه إلى غيره، وقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فطرة الله: الملة، وهي الإسلام والتوحيد الذي خلق الله عليه المؤمنين، هذا قول المفسرين في فطرة الله.
والمراد بالناس ههنا المؤمنون الذين فطرهم الله على الإسلام، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، ولفظ الناس عام، والمراد به الخصوص وانتصابها بالإغراء، وهو قول الزجاج، قال: فطرة الله منصوب بمعنى اتبع فطرة الله.
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] قال مجاهد، وإبراهيم: لا تبديل لدين الله.
وهي نفي معناه النهي، أي: لا تبدلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشرك والكفر، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] يعني التوحيد، وهو الدين المستقيم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [الروم: 30] يعني: كفار مكة، لا يعلمون توحيد الله.
قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 31] قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا فأقيموا وجوهكم منيبين، لأن مخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل فيها الأمة، والدليل على ذلك قوله: {
(3/433)
1
يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 30] معناه: فأقيموا وجوهكم، منيبين إليه راجعين إلى كل ما أمر به مع التقوى، وأداء الفرض، وهو قوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم: 31] .
ثم أخبر أنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد، فقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31-32] تقدم تفسيره في آخر { [الأنعام،] كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم: 32] قال مقاتل: كل أهل ملة بما عندهم من الدين راضون.
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ {33} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {34} أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ {35} وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ {36} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {37} } [الروم: 33-37] قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ} [الروم: 33] يعني: كفار مكة، ضر وقحط وسنة، {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33] أي: لا يلتجئون في شدائدهم إلى أوثانهم التي يعبدونها مع الله، إنما يرجعون في دعائهم إلى الله وحده، {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم: 33] إذا أعطاهم من عنده المطر، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33] تركوا توحيد ربهم في الرخاء وقد وحدوه في الضر.
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم: 34] ذكرنا تفسيره في آخر { [العنكبوت.
ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد بقوله:] فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [سورة الروم: 34] حالكم في الآخرة.
{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ} [الروم: 35] على هؤلاء، سلطانا حجة وكتابا من السماء، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] يقولون من الشرك، يعني يأمرهم به، وهذا استفهام إنكار، أي ليس الأمر على هذا.
ثم ذكر بطرهم عند النعمة، ويأسهم عند الشدة بقوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم: 36] يعني: فرح البطر وترك الشكر، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الروم: 36] شدة وبلاء، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم: 36] بما عملوا من السيئات، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] قنطوا من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمن، فإنه يشكر عند النعمة، ويرجو ربه عند الشدة.
ثم وعظهم، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37] والآية ظاهرة.
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {38} وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ {39} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {40} } [الروم: 38-40] قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38] أي: من الصلة والبر، والمسكين قال مقاتل: حقه أن يتصدق عليه.
وابن السبيل يعني الضيافة، ذلك خير إعطاء الحق خير وأفضل من الإمساك، {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] يطلبون
(3/434)
1
بما يعلمون ثواب الله، ثم نعتهم بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .
قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم: 39] قال السدي: الربا في هذا الموضع الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة، فإن ذلك لا يراد عند الله، لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه.
وروى قتادة، عن ابن عباس، قال: هي هبة الرجل، يهب الشيء يريد أن يثاب عليه أفضل منه.
وهذا قول جماعة المفسرين، قال الزجاج: يعني دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه، لأن الذي يهبه يستدعي رد ما هو أكثر منه.
وقرأ ابن كثير أتيتم مقصورا، وهو يئول في المعنى إلى قول من مد، كأنه قيل: وما جئتم من ربا ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء له، كما تقول: أتيت خطأ، وأتيت صوابا، وأتيت قبيحا، إنما هو فعل له وسمي المدفوع على وجه اجتلاب الزيادة ربا لأن غرضه فيه الاستزادة على ما أعطى، فسمي باسم الزيادة.
وقوله: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39] أي: في اجتلاب أموال الناس واجتذابها، وقرأ نافع لتربوا بالتاء وضمها، أي لتصير ذوي زيادة من أموال الناس بما آتيتم، وهو من الربى، أي صار ذا زيادة، {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] لأنكم قصدتم إلى زيادة العوض ولم تقصدوا البر والقربة.
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 39] وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] يضاعف لهم الثواب، يعطون الحسنة عشر أمثالها، والمضعف ذو الأضعاف من الحسنات.
ثم ذكر ما أصاب الناس بترك التوحيد، فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {41} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ {42} } [الروم: 41-42] ظهر الفساد يعني: قحط المطر وقلة النبات، في البر حيث لا يجري نهر، وهو البوادي، والبحر وهو كل قرية على ماء، قال ابن عباس: البحر ما كان من المدائن والقرى على شاطئ نهر.
{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] من المعاصي، يعني كفار مكة، ليذيقهم الله بالجوع في السنين السبع، {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41] أي جزاءه، لعلهم يرجعون لكي يرجعوا من الكفر إلى الإيمان، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] الآية.
وليس المراد بالبر والبحر في هذه الآية كل بر وبحر في الدنيا، وإنما المراد به حيث ظهر هناك
(3/435)
1
القحط بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم خوفهم، فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الروم: 42] مسافرين، {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42] لتروا مساكنهم ومنازلهم خاوية، وقوله: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم: 42] أي: كانوا مشركين فأهلكوا بكفرهم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ {43} مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ {44} لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {45} } [الروم: 43-45] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 43] قال الزجاج: أجعل جهتك إتباع الدين القيم، وهو الإسلام المستقيم.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم: 43] يعني: يوم القيامة، لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، يومئذ يصدعون يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار.
و {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم: 44] جزاء كفره، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] يوطئون لأنفسهم منازلهم، يقال: مهدت لنفسي خيرا، أي هيأته ووطأته.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 45] قال ابن عباس: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم.
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 45] لا يثيبهم ولا يثني عليهم.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {46} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {47} } [الروم: 46-47] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] تبشر بالمطر، {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم: 46] يعني: الغيث والخصب، ولتجري الفلك في البحر بتلك الرياح، بأمره ولتبتغوا في البحر، من فضله يعني: الرزق بالتجارة وكل هذا بالرياح، ولعلكم تشكرون هذه النعم فتوحدونه.
ثم عزى، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم: 47] بالدلالات الواضحات على صدقهم، {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الروم: 47] عذبنا الذين كذبوهم وكفروا بآياتنا، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا} [الروم: 47] واجبا وجوبا، هو أوجبه على نفسه، نصر المؤمنين إنجاؤهم مع الرسل من عذاب الأمم، وفي هذا تبشير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالظفر في العاقبة والنصر على من كذبه.
ثم أخبر عن صنعه ليعرفوا توحيده، فقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {48} وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ
(3/436)
1
لَمُبْلِسِينَ {49} فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {50} وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ {51} } [الروم: 48-51] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم: 48] تزعجه من حيث هو، فيبسطه الله، {فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48] إن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين، ويجعله كسفا بعد أن بسطه يجعله قطعا متفرقة، {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم: 48] مفسر في { [النور،] فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} [سورة الروم: 48] بالودق، {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48] يفرحون بنزوله.
وإن كانوا وما كانوا، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [الروم: 49] المطر، من قبله كرره للتأكيد، لمبلسين آيسين قانطين من المطر.
قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50] بعد إنزال المطر، انظر إلى حسن تأثيره في الأرض، ويقرأ آثار على الجمع، فمن أفرد فلأنه مضاف إلى مفرد، ومن جمع جاز، لأن رحمة الله يجوز أن يراد بها الكثرة، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [النحل: 18] قال مقاتل: أثر رحمة الله هو النبت، وهو أثر المطر، والمطر رحمة الله ونعمته على خلقه.
وقوله: {كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] أي: كيف يجعلها تنبت بعد أن لم تكن فيها نبت، إن ذلك الذي فعل ما ترون، وهو الله تعالى، لمحيي الموتى في الآخرة، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] البعث والموت.
ثم عاب كافر النعمة والجاهل بأن الله يفعل ما يشاء، فقال: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} [الروم: 51] باردة مضرة، والريح إذا أتت بلفظ الإفراد أريد بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عند هبوب الريح: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» .
قوله: فرأوه يعني: النبت والزرع الذي كان من أثر رحمة الله، مصفرا من البرد بعد الخضرة، لظلوا لصاروا، من بعده اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة، يعني أنهم يفرحون عند الخصب، ولو أرسلنا عذابا على زرعهم كفروا نعمي، وليس كذا حال المؤمن، لأنه لا يستشعر الخيبة والكفران عند الشدة والمنة.
{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ {52} وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ {53} } [الروم: 52-53]
(3/437)
1
قوله: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] هذه الآية والتي بعدها مفسرتان في { [النحل.
ثم أخبر عن خلق أنفسهم ليتفكر المكذب بالبعث في خلق نفسه، فقال:] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [سورة الروم: 54] قال المفسرون: يعني من نطفة.
والمعنى: خلقكم من ذي ضعف، أي من ماء ذي ضعف، كما قال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] ومعنى ضعف ذلك الماء أنه قليل، وقرئ بفتح الضاد، قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم، والاختيار الضم لما.
719 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، قَالَ: أنا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، قَالَ: أنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: أنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضُعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضُعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضُعْفًا} ، قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَرَأْتَهَا فَأَخَذَهَا عَلَيَّ كَمَا أَخَذْتُهَا عَلَيْكَ
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} [الروم: 54] يعني: ضعف الطفولة، قوة الشباب، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} [الروم: 54] يعني: عند الكبر والهرم، وشيبة وهو مصدر كالشيب، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم: 54] أي: من ضعف وقوه شيبة وشباب، وهو العليم بتدبير خلقه القدير على ما يشاء.
قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ {55} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {56} فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {57} } [الروم: 55-57] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 55] يحلف المشركون، ما لبثوا في القبور، غير ساعة إلا ساعة واحدة، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55] ي