التفسير الوسيط للواحدي ج ص معتمد 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
كلهم قالوا: إلا ليس باستثناء ههنا، ولكنه مع ما بعده صفة للآلهة في معنى غير.
قال الزجاج: وكذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها، وأنشد:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال: المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
وقوله: لفسدتا أي: لخربتا وبطلتا وهلكتا، وهلك من فيهما لوجود التماني بين الآلهة، فلا يجري أمر العالم على النظام، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام.
ثم نزه نفسه عما يصفه به الكافرون عن الشريك والولد بقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {22} لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} } [الأنبياء: 22-23] أي: لا يسأل الله عما يفعله ويقضيه في خلقه، والناس يسألون عن أعمالهم، والمعنى أنه لا يسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال، وهدى وإضلال، وإسعاد وإشقاء، لأنه الرب مالك الأعيان، والخلق يسألون سؤال توبيخ، يقال لهم يوم القيامة: لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعلته: لم فعلته؟
614 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، نا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا أَبُو عَاصِمٍ، نا عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَلَيْسَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ؟ قُلْتُ: بَلْ هُوَ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ قُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلا وَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ، وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقَالَ: ثَبَّتَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَحْرِزَ عَقْلَكَ، قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَوْ مُزَيْنَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ، أَلَيْسَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ، أَوْ فِيمَ نَعْمَلُ؟ قَالَ: مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ لإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ أَلْهَمَهُ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وَلَمَّا أَبْطَلَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ إِلَهٌ سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أَبْطَلَ جَوَازَ اتِّخَاذِ إِلَهٍ سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ الأَمْرِ
فقال: {
(3/234)
1
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ {24} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} } [الأنبياء: 24-25] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الأنبياء: 24] وهذا استفهام إنكار وتوبيخ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24] بينتكم على ما تقولون من جواز اتخاذ إله سواه، {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} [الأنبياء: 24] يعني القرآن، يقول فيه خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة بمالهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 24] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد التوراة والإنجيل وما أنزل الله من الكتب.
والمعنى: هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي، فانظروا هل في واحد من الكتب أن الله أمر باتخاذ إله سواه، فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود سواه من حيث الأمر به.
قال الزجاج: قل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من قبلي إلا توحيد الله.
يدل على صحة هذا المعنى قوله بعد هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] فلما توجهت الحجة عليهم، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] عن التأمل والفكر، وما يجب عليهم من الإيمان.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ {26} لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {27} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ {28} وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {29} } [الأنبياء: 26-29] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26] قال ابن عباس: يريد من الملائكة.
سبحانه نزه نفسه عما يقولون، بل عباد بل هم عباد، يعني الملائكة، مكرمون أكرمتهم واصطفيتهم.
{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء: 27] لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، وقال ابن قتيبة: لا يقولون حتى يقول، ويأمر وينهى، ثم يقولون عنه كما لا يعلمون حتى يأمرهم.
وهو قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {27} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الأنبياء: 27-28] ما قدموا من أعمالهم، وما خلفهم وما أخروا منها، أي: ما عملوا، وما هم عاملون، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] قال ابن عباس: لمن قال لا إله إلا الله.
وقال مجاهد: لمن رضي عنه.
{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} [الأنبياء: 28] أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى المفعول، مشفقون خائفون لا يأمنون مكره.
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} [الأنبياء: 29] من الملائكة، {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] من دون الله، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] قال المفسرون: يعني إبليس، لأنه أمر بطاعة نفسه، ودعا إلى عبادته، كذلك كما جزيناه جهنم، نجزي الظالمين يعني المشركين.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ {30} وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {31}
(3/235)
1
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ {32} وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {33} } [الأنبياء: 30-33] قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 30] أو لم يعلموا، {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30] الرتق: السد، يقال: رتقت الشيء فارتتق.
ففتقناهما قال ابن عباس: فتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، كانت السموات لا تنزل مطرا، والأرض لا تنبت نباتا.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أي: وأحيينا بالماء الذي تنزله من السماء كل شيء حي من الحيوان، ويدخل فيه النبات والشجر، يعني أنه سبب لحياة كل شيء، والمفسرون يقولون: يعني أن كل شيء فهو مخلوق من الماء، كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] قال أبو العالية: يعني النطفة، وعلى هذا لا يتعلق هذا بما قبله، وهو احتجاج على المشركين بقدرة الله.
أفلا يؤمنون أفلا يصدقون بعد هذا البيان؟ {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] مفسر في { [النحل، وجعلنا فيها في الرواسي، فجاجا قال أبو عبيدة: هي المسالك.
وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين هو فج.
قال ابن عباس: جعلنا بين الجبال طرقا حتى يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار.
وقوله: سبلا تفسير للفجاج، وبيان أن تلك الفجاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفج غير نافذ.
] وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [سورة الأنبياء: 32] السقف من أسماء السماء، قال الله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5] والسماء للأرض كالسقف للبيت، وقوله: محفوظا قال ابن عباس: من الشياطين بالنجوم، دليله قوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] .
وذكر الزجاج وجها آخر، قال: حفظه من الوقوع على الرض إلا بإذنه، دليله قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] .
وهم يعني المشركين، عن آياتها شمسها وقمرها ونجومها، معرضون لا يتدبرونها ولا يتفكرون فيها، فيعلموا أن خالقها لا شريك له.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [الأنبياء: 33] يعني الطوالع، في فلك الفلك في كلام العرض: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فلكة المغزل، وتفلك ثدي الجارية، قال السدي: في مجرى واستدارة.
وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء، وكل شيء استدار فهو فلك.
وهذا قول أكثر المفسرين، قالوا: الفلك مدار النجوم الذي يضمها.
قال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل، يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة.
وقوله: يسبحون أي: يجرون بسرعة كالسابح في الماء، وقد قال في موضع آخر: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3] يعني النجوم، والسبح لا يختص بالجري في الماء، فقد يقال للفرس الذي يمد يديه في الجري: سابح.
قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {34} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {35} } [الأنبياء: 34-35] {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] الخلد: اسم من الخلود، وهو البقاء الدائم، يقول: ما خلدنا قبلك أحدا من
(3/236)
1
بني آدم.
يعني أن سبيله سبيل من مضى قبله من الرسل، ومن بني آدم في الموت، {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] يعني: مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون.
فقيل لهم: إن مات محمد فأنتم أيضا تموتون، لأن كل نفس ذائقة الموت، قالت عائشة رضي الله عنها: استأذن أبو بكر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد مات وسجي عليه الثوب، فكشف عن وجهه، ووضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبياه، واخليلاه، واصفياه، صدق الله ورسوله {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {34} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34-35] ثم خرج إلى الناس فخطب.
وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] قال الوالبي عن ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، وكلها بلاء.
وقال ابن زيد: نبلوكم بما تحبون وبما تكرهون، لننظر كيف شكركم، وكيف صبركم.
وإلينا ترجعون تردون للجزاء بالأعمال، حسنها وسيئها.
قوله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ {36} خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ {37} } [الأنبياء: 36-37] {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 36] قال ابن عباس: يعني المستهزئين.
{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} [الأنبياء: 36] أي: ما يتخذونك إلا مهزوءا به، قال السدي: نزلت في أبي جهل، مر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضحك، وقال: هذا نبي بني عبد مناف.
وقوله: أهذا الذي فيه إضمار القول، ومعنى يذكر آلهتكم قال ابن عباس: يعيب أصنامكم، قال الزجاج: يقال فلان يذكر الناس، أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله، أي بصفة بالتعظيم ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه، وعلى ما قل لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث يراد به العيب حذف منه السوء.
وقوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36] وذلك أنهم قالوا: ما نعرف الرحمن فكفروا بالرحمن.
قوله: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] قال قتادة: خلق الإنسان عجولا.
والإنسان اسم الجنس، قال الفراء: كأنه يقول بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة.
وقال الزجاج: خوطبت العرب بما تفعل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه، كما تقول: أنت من لعب، وخلقت من لعب، يريد المبالغة في وصفه بذلك، ويدل على هذا المعنى قوله: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] .
وقال عكرمة: لما خلق آدم ونفخ فيه الروح، صار في رأسه، فذهب لينهض قبل أن يبلغ الروح إلى رجليه، فوقع، فقيل: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] وهذا قول سعيد بن جبير، والسدي، والكلبي، وعلى هذا المراد بالإنسان آدم، وإذا كان آدم خلق من عجل على معنى أنه خلق عجولا، وجد ذلك في أولاده، وأورث أولاده العجلة حتى استعجلوا في كل شيء، والآية نازلة في أهل مكة حين استعجلوا العذاب، قال ابن عباس في رواية عطاء: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] يريد النضر بن الحارث، وهو الذي قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية.
يدل على هذا قوله: سأريكم آياتي قال: يريد القتل ببدر.
فلا تستعجلون أي أنه نازل.
(3/237)
1
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {38} لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {39} بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {40} } [الأنبياء: 38-40] ويقولون يعني المشركين، {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الأنبياء: 38] الذي تعدنا، يريدون وعد يوم القيامة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء: 38] في هذا الوعد.
قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 39] أي: لو عرفوا ذلك الوقت، وهو قوله: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} [الأنبياء: 39] قال ابن عباس: يريد ساعة يدخلون النار، لا يدفعون {عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39] لإحاطتها بهم، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء: 39] يمنعون مما نزل بهم، وجواب لو محذوف على تقدير لو علموا ذلك ما استعجلوا ولا قالوا متى هذا الوعد؟ بل تأتيهم يعني الساعة، بغتة فجأة، فتبهتهم تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره، ذكرنا ذلك عند قوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] .
{فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء: 40] صرفها عنهم، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الأنبياء: 40] يمهلون لتوبة أو معذرة.
ثم عزى نبيه فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونْ {41} قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ {42} أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ {43} } [الأنبياء: 41-43] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنبياء: 41] أي: كما استهزأ قومك بك، فحاق نزل وأحاط، {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنبياء: 41] من الرسل، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونْ} [الأنبياء: 41] يعني: العذاب الذي استهزأوا به.
قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42] قال ابن عباس: من يمنعكم من عذاب الرحمن.
قال الزجاج: معناه من يحفظكم من بأس الرحمن.
كما قال: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 63] أي من عذاب الله، ونحو هذا قال الفراء، والمعنى: من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة؟ وهو استفهام إنكاري، أي: لا أحد يفعل ذلك، يقال: كلأه الله، كلأه أي حفظه وحرسه، وقوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] أي: عن القرآن وعن مواعظ الله، لا يتفكرون ولا يعتبرون.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43] تقديم وتأخير تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وتم الكلام، ثم وصف آلهتهم بالضعف، فقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} [الأنبياء: 43] أي: فكيف تنصرهم وتمنعهم إذا لم تقدر على منع أنفسها عما يراد بها؟ وقوله: ولا هم يعني الكفار، منا يصحبون قال الكلبي: يقول لا يجارون من عذابنا.
وقال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار.
والعرب تقول: صحبك الله، أي حفظك الله وأجارك.
ثم ذكر أن هؤلاء اغتروا بطول الإمهال إذا لم يعاجلوا بالعقوبة، فقال: {
(3/238)
1
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ {44} قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ {45} وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {46} وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ {47} } [الأنبياء: 44-47] {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الأنبياء: 44] يعني أهل مكة، متعهم الله بما أنعم عليهم، {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء: 44] فاغتروا بذلك، فقال الله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء: 44] قال الضحاك: ألم ير المشركون الذين يحاربون رسول الله ويقاتلون، إنا ننقصهم له، فنأخذ ما حولهم من قراهم وأراضيهم، أولا يرون أنهم المنقوصون والمغلوبون.
وقال الحسن: ننقصها من أطرافها: ظهور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من قاتله، أرضا فأرضا، قوما فقوما.
أفهم الغالبون أي: ليسوا بغالبين، ولكنهم المغلوبون، ورسول الله هو الغالب، تفسير هذا تقدم في آخر { [الرعد.
قوله:] قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [سورة الأنبياء: 45] أي: أخوفكم بالقرآن، والمعنى: إنما أنذركم بالوحي الذي يوحيه الله إلي، لا من قبل نفسي، وذلك أن الله أمره بإنذارهم، كقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] ، وقوله: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} [الأنبياء: 45] تمثيل للكفار بالصم الذين لا يسمعون النداء إذا أنذروا شيئا، كذلك هؤلاء في تركهم الانتفاع بما سمعوا، كالصم الذين لا يسمعون، وقرأ ابن عامر: ولا تسمع الصم على إسناد الفعل إلى المخاطب، والمعنى أنهم معاندون، فإذا أسمعتهم لم يعملوا بما يسمعوه كما لا يسمع الصم، قال أبو علي الفارسي: ولو كان كما قال ابن عامر، فكان إذا تنذرهم ليحسن نظم الكلام، فأما ما ينذرون فحسن أن تتبع قراءة العامة.
قوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] قال المبرد: النفحة الدفعة من الشيء التي دون معظمه.
يقال: نفحه نفحة بالسيف للضربة الخفيفة.
وهذا موافق لقول ابن عباس في تفسير نفحة، قال: طرف.
وقال ابن كيسان: قليل.
وقال ابن جريج: نصيب من قولهم نفحه من ماله إذا أعطاه.
ومعنى الآية: لئن أصابهم طرف من العذاب لأيقنوا بالهلاك، ودعوا على أنفسهم بالويل، مع الإقرار بأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وتكذيب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] وقال الزجاج: القسط مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط وموازين قسط والمعنى: ذات قسط، وذكرنا الكلام في الموازين عند قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8] .
615 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ
(3/239)
1
عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَا بَنِي هَاشِمٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاسْعَوْا فِي فِكَاكِ رِقَابِكِمْ وَلا تَغُرَّنَّكُمْ قَرَابَتُكُمْ مِنِّي، فَإِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَبَكَتْ عَائِشَةُ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنَكُونُ يَوْمَ لا تُغْنِي عَنَّا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَقَالَ: نَعَمْ، فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ، يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {8} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8-9] الآية، وعند النور والظلمة، وعلى الصراط من شاء الله سلمه وأجاره، ومن شاء كبكبه في النار ".
ومعنى قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزيد في إساءة مسيء، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [الأنبياء: 47] قال الزجاج: وإن كان العمل مثقال حبة.
وقال أبو علي الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال حبة.
وقال: وهذا حسن لتقدم قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] .
وعلى ما قال أبو علي يكون تأويل قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] لأن المظلومين يستوفون حقوقهم من الظالمين حتى لا يبقى لأحد عند أحد ظلامة، ولو مثقال حبة، من خردل وقوله: أتينا بها قال الزجاج: جئنا بها.
يعني: أحضرناها للمجازاة بها، وعلى ما قال أبو علي: أتينا بها للمحاسبة عليها، يدل على صحة هذا قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] قال السدي: محصين، والحسب معناه العد.
وقال ابن عباس: عالمين حافظين، وذلك أن من حسب شيئا علمه وحفظه.
616 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْمُخْتَارِ، عَنْ بِلالٍ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: زِنْ بَيْنَهُمْ وَرِدْ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلا ذَهَبَ يَوْمَئِذٍ وَلا فِضَّةَ، فَيُرَدُّ الْمَظْلُومُ مِنَ الظَّالِمِ مَا وَجَدَ لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَيُرَدَّ عَلَى الظَّالِمِ فَيَرْجِعُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْجَبَلِ
(3/240)
1
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ {48} الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ {49} وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ {50} } [الأنبياء: 48-50] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] قال مجاهد، وقتادة: يعني التوراة التي تفرق بين الحلال والحرام.
وضياء من صفة التوراة، مثل قوله: {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] والمعنى أنهم استضاءوا بها حتى اهتدوا في دينهم، ومعنى وذكرا للمتقين أنهم يذكرونه ويعلمون بما فيه، ويتعظون بمواعظه.
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء: 49] أي: في الدنيا، غائبين عن الآخرة وأحكامها، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} [الأنبياء: 49] أي: من أهوالها وعذابها، مشفقون خائفون.
ثم عاد إلى ذكر القرآن، فقال: وهذا ذكر قال الزجاج: المعنى هذا القرآن ذكر لمن تذكر به، وعظة لمن اتعظ.
مبارك أنزلناه كثير خير أفأنتم يا أهل مكة، له منكرون إياه جاحدون؟ وهذا استفهام توبيخ وتعيير.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ {51} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {52} قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ {53} قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {54} قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55} قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ {56} } [الأنبياء: 51-56] وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء: 51] أي هداه، من قبل أي: من قبل بلوغه، والمعنى: آتيناه هذا صغيرا حين كان في السرب حتى عرف الحق من الباطل، {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] علمنا أنه موضع لإيتاء الرشد، وأنه يصلح للنبوة.
ثم بين متى أتاه، فقال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الأنبياء: 52] أي: في ذلك الوقت الذي قال لهم وهم يعبدون الصنم، {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي} [الأنبياء: 52] يعني الأصنام، والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به، واسم ذلك الممثل ثمثال، وجمعه تماثيل، وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] أي: على عبادتها مقيمون، فأجابوه بأنهم وجدوا آباءهم يعبدونها، فاقتدوا بهم على طريق التقليد في عبادتها، فأجابهم إبراهيم بأنهم فيما فعلوه وآباؤهم كانوا في ضلال مبين بعبادة الأصنام، وهذا الذي ذكرنا معنى قوله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [الأنبياء: 53] إلى قوله: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55] يعنون أجاد أنت فيما تقول حق أم لاعب مازح؟ وهذا جهل منهم، تخيلوا المحق لاعبا، فأجابهم إبراهيم بما يزيل تخيلهم ويدلهم على أن المستحق للعبادة هو الله، لا الصنم.
وهو قوله: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} [الأنبياء: 56] أي: على أنه رب السموات والأرض، من الشاهدين {
(3/241)
1
وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ {63} } [الأنبياء: 57-63] {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] معنى الكيد: ضر الشيء بتدبير عليه، {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] ينطلقوا ذاهبين، قال المفسرون: كان لهم في كل سنة مجمع وعيد، قالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا.
فقال إبراهيم سرا منهم: وتالله لأكيدن الآية.
ولم يسمع هذا القول من إبراهيم إلا رجل واحد، وهو الذي أفشاه عليه.
قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58] الجذ: القطع والكسر، والجذاذ: قطع ما كسر، الواحد جذاذة، وهو مثل الحطام والرفات والدقاق، وقرأ الكسائي بكسر الجيم على أنه جمع جذيذ، مثل ثقال وثقيل، وخفيف وخفاف، والجذيذ بمعنى المجذوذ وهو المكسور.
قال المفسرون: لما انطلقوا إلى عيدهم، رجع إبراهيم إلى بيت الأصنام، وجعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه، ثم خرج.
فذلك قوله: {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء: 58] قال الزجاج: أي: كسر الأصنام إلا أكبرها، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58] أي: إلى دينه وإلى ما يدعوهم إليه بوجوب الحجة عليهم في عبادة ما لا يدفع عن نفسه، وتنبهوا إلى جهلهم وعظيم خطاهم، ولما رجعوا من عيدهم، ونظروا إلى آلهتهم، وهم جذاذ.
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] استفهموا عمن صنع ذلك؟ وأنكروا عليه فعله بقولهم: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59] أي: فعل ما لم يكن له أن يفعله.
فقال من سمع من إبراهيم قوله: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] أي بالغيب، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وشاعت القصة حتى بلغت نمروذ.
وأشرف قومه {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} [الأنبياء: 61] أي: بالذي يقال له إبراهيم، {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء: 61] أي: ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه، لعلهم يشهدون عليه بما قاله، فيكون ذلك حجة عليه بما فعل، هذا قول الحسن، وقتادة، والسدي، قالوا: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
وقال محمد بن إسحاق: لعلهم يشهدون عقابه وما يصنع به.
أي يحضرون.
فلما أتوا به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62-63] أسند فعله إلى كبير الأصنام، إقامة للحجة عليهم، قال: غضب من أن يعبدوا معه الصغار فكسرهن.
617 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ، أنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، نا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلا ثَلاثَ كَذِبَاتٍ؛ قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ: إِنَّهَا أُخْتِي، وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}
قال المفسرون: وجاز أن يكون الله قد أذن له في ذلك ليوبخ قومه، ويعرفهم خطأهم، كما أذن
(3/242)
1
ليوسف حتى أمر مناديه، فقال لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا شيئا.
وقوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {67} } [الأنبياء: 64-67] {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنبياء: 64] أي: تفكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم، فقال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] هذا الرجل في مسألتكم إياه، وهذه آلهتكم حاضرة، فسئلوها، وقال عطاء، عن ابن عباس: إنكم أنتم الظالمون، حيث عبدتم من لا يتكلم.
وكان هذا إقرار منهم على أنفسهم بالكفر، ثم أدركتهم الشقاوة، فعادوا إلى كفرهم، وهو قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] النكس: رد الشيء وقلبه على آخره، يقال: نكست فلانا في ذلك الأمر، أي رددته فيه بعدما خرج منه.
والمعنى: ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.
ف قالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] قال ابن عباس: لقد علمت أن هذه الأصنام لا تتكلم.
وهذا اعتراف منهم بعجز ما يعبدونه عن النطق.
فلما اتجهت الحجة عليهم بإقرارهم وبخهم إبراهيم، ف {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا} [الأنبياء: 66] لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئا إذ عبدتوها، ولا يضركم إذا لم تعبدوها، وفي هذا حث على عبادة من يملك النفع والضر، وهو الله تعالى.
ثم حقرهم وحقر معبودهم، فقال: أف لكم أي: نتنًا لك، {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67] أليس لكم عقل فتعلموا أن هذا الأصنام لا تستحق العبادة، فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب، غضبوا.
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ {70} } [الأنبياء: 68-70] {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68] أي: بتحريق إبراهيم، لأنه يعيبها ويطعن عليها، فإذا أحرقتموه كان ذلك نصر منكم إياها، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] أي: إن كنتم ناصريها، والمعنى: لا تنصروها منه بالتحريق بالنار، قال السدي: جمعوا الحطب حتى إن الرجل ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله، فيشتري به حطبا، فيلقى في النار، وحتى إن المرأة لتغزل، فتشتري به حطبا، فتلقيه في النار، حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم، ولم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق.
وهو أول منجنيق صنع، فوضعوه فيه، ثم رموه، فبلغنا أن السموات والأرض والجبال والملائكة، قالوا: ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك.
فقيل لهم: إن استغاث بكم فأغيثوه.
فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل.
فنزل جبريل معه، فضرب النار، فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فلم يبق
(3/243)
1
يومئذ نار إلا طفئت، ظنت أنها عنيت، والمعنى: كوني بردا وسلامة، قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها.
618 - أَخَبْرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ، أنا أَبُو لُبَابَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، نا عُمَارَةُ، نا شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ نُمْرُوذَ الْجَبَّارَ لَمَّا أَلْقَى إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَطُنْفُسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطُّنْفُسَةِ، وَقَعَد مَعَهُ يُحَدِّثُهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّارِ: أَنْ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْلا أَنَّهُ قَالَ: وَسلامًا لأَذَاهُ الْبَرْدُ وَقَتَلَهُ الْبَرْدُ، فَرَأَى أَبُو إِبْرَاهِيمَ بَعْد سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي الْمَنَامِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَرَجَ مِنَ الْحَائِطِ الَّذِي أُوقِدَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَطَلَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَأَتَى نُمْرُوذَ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي لأُخْرِجَ عِظَامَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْحَائِطِ فَأَدْفِنُهَا فَانْطَلَقَ نُمْرُوذُ إِلَى الْحَائِطِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْحَائِطِ فَنُقِبَ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ فِي رَوْضَةٍ تَزْهَرُ وَثِيَابُهُ تَفَدَّى عَلَى طُنْفُسَةٍ مِنْ طَنَافِسِ الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ قُمُصِ الْجَنَّةِ
وقال كعب الأحبار: ما أحرقت النار من إبراهيم غير وثاقه.
فذلك قوله: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الأنبياء: 70] يعني التحريق بالنار، فجعلناهم الأخسرين قال ابن عباس: هو أن الله سلط البعوض على نمروذ وخيله حتى أخذت لحومهم وشربت دمائهم، ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته، والمعنى أنهم كادوه بسوء فانقلب عليهم ذلك.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ {71} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ {72} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ {73} وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ {74} وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} } [الأنبياء: 71-75] ونجيناه أي: من نمروذ وكيده، ولوطا وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وكان قد آمن به وهاجر من أرض العراق إلى أرض الشام، وهو قوله: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] أي: بالخصب وكثرة الأشجار، والثمار، والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء.
ووهبنا له لإبراهيم، إسحاق حين سأل الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]
(3/244)
1
فاستجاب الله دعاءه، ووهب له إسحاق، ويعقوب نافلة النافلة: الزيادة على الأصل، وهو ولد الولد، قال ابن عباس: نفله يعقوب.
أي زاده ولدا من إسحاق، كأنه سأل واحدا فأعطاه الله يعقوب زيادة على ما سأل، قال الفراء: النافلة يعقوب.
خاصة لأنه ولد الولد، وقوله: وكلا يعني: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلنا صالحين أنبياء صالحين بطاعة الله.
وجعلناهم أئمة رؤساء يقتدى بهم في الخير، يهدون بأمرنا يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بذلك، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73] قال ابن عباس: شرائع النبوة.
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا} [الأنبياء: 74] يعني: النبوة، {وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74] يعني إتيانهم الذكور، وما كانوا يأتونه من المنكرات، وأراد بالقرية أهلها، ثم ذمهم، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ {74} وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} [الأنبياء: 74-75] بانجائنا إياه من القوم السوء، {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75] يعني: من الأنبياء.
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {76} وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ {77} } [الأنبياء: 76-77] {وَنُوحًا إِذْ نَادَى} [الأنبياء: 76] دعا ربه من قبل، من قبل إبراهيم ولوط، لأنه كان قبلهما دعا على قومه بالهلاك، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ} [نوح: 26] الآية.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأنبياء: 76] يعني: من كان معه في سفينته، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76] قال ابن عباس: يريد الغرق وتكذيب قومه له.
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 77] أي: منعناه من أن يصلوا إليه بسوء.
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ {78} فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ {79} وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ {80} وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ {81} وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ {82} } [الأنبياء: 78-82] قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] أكثر المفسرين على أن الحرث كان كرما قد تدلت عناقيده.
وقال قتادة: كان زرعا.
{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] رعت ليلا في قول الجميع، قال ابن السكيت: النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع.
قال المفسرون: دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا تفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فلم يبقى منه شيئا.
فقال: لك رقال الغنم، فقال سليمان: أو غير ذلك؟ ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم، حتى إذا
(3/245)
1
كان كليلة نفشت فيه، دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم.
فقال داود: القضاء ما قضيت.
وحكم بذلك، فهو قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] قال ابن عباس: لم يغب عني من أمرهم شيء.
قال الفراء: جمع أقلين، فقال: {لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء: 78] وهو يريد داود وسليمان، لأن الاثنين جمع، وهو مثل قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] وهو يريد أخوين، والحكم الذي حكما به بعضه موافق بشرعنا، وبعضه مخالف، أما الموافق: فهو الحكم بالضمان على صاحب الماشية إذا أفسدت بالليل حرثا، وكذا هو في شرعنا: وهو ما
619 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نا أَبُو الأَزْهَرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالا:، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ وَقَعَتْ فِي حَائِطِ قَوْمٍ فَأُفْسِدَ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَ الأَمْوِالِ بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ، أَمَّا الْمُخَالِفُ لِشَرْعِنَا فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ بِالْقِيمَةِ، أَوْ بِالْمِثْلِ، لا تَسْلِيمُ الْمَاشِيَةِ وَلا تَسْلِيمُ مَنَافِعِهَا
وقوله: ففهمناها سليمان أي: القضية والحكومة، كنى عنها لأنه ما يدل عليها من ذكر الحكم، وكلا منهما، آتينا حكما نبوة، وعلما بأمور الدين.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] وهو أنه كان إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح، وقال وهب: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير.
وهو قوله: {وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] يعني: ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير.
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] اللبوس الدرع، لأنها تلبس، قال قتادة: أول من صنع الدروع داود، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فجمعت الخفة والتحصين.
وهو قوله: ليحصنكم أي: ليحرزكم ويمنعكم، يعني اللبوس، ومن قرأ بالتاء فلتقدم قوله: وعلمناه ومن قرأ بالياء حمله على المعنى، لأن معنى اللبوس الدرع، وقوله: من بأسكم أي: من حربكم، وقال السدي: من وقع السلاح فيكم.
فهل أنتم يا معشر أهل مكة، شاكرون نعمي بطاعة الرسول وتصديقه.
وقوله: ولسليمان الريح المعنى: وسخرنا لسليمان الريح، عاصفة شديدة الهبوب، قال ابن عباس: إن أمر
(3/246)
1
الريح أن تعصف عصفت، وإذا أراد أن ترخي أرخت، وذلك قوله: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] ، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] وهي أرض الشام، وقد مر في هذه ال { [، قال الفراء: كانت تجري بسليمان إلى موضع، ثم تعود به من يوم إلى منزله.
] وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنبياء: 81] علمناه، عالمين بصحة هذا التدبير فيه، علمنا أنه ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه.
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82] الغوص: الدخول تحت الماء، كانوا يستخرجون له الجواهر من البحر، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 82] سوى الغوص من البناء وغيره من الأعمال، {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82] من أن يفسدوا ما عملوا، قاله الفراء، والزجاج.
قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ {84} } [الأنبياء: 83-84] {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83] دعا ربه، {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] أصابني الجهد، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بمسألة الرحمة، إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت، وقال رجل لأبي عبد الله الناجي: يا أبا عبد الله، الراضي يسأل ربه.
قال يعرض، قال: مثل أيش، قال: مثل قول أيوب: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وقال العلماء: لم يكن جزعا من أيوب مع ما وصفه الله به من الصبر، إذ يقول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] وكان هذا دعاء منه.
ألا ترى أن الله قال: فاستجبنا له على أن الجزع إنما هو في الشكوى إلى الخلق، فأما من اشتكى إلى الله فليس بجازع، وقوله يعقوب عليه السلام: {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا يحمل على الجزع، قال سفيان بن عينية: وكذلك من شكا إلى الناس، وهو في شكواه راض بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعا، ألم تسمع إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: «أجدني مغموما، وأجدني مكروبا» .
وقال عليه السلام: «بل أنا واراساه» .
قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] قال ابن عباس: يريد الأوجاع.
{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 84] قال ابن مسعود، وقتادة، والحسن: أحيا الله له أولاده الذين هلكوا في بلائه، وأوتي مثلهم في الدنيا.
620 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: سَأَلْتُ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ {، فَقَالَ: يَابْنَ عَبَّاسٍ، رَدَّ اللَّهُ امْرَأَتَهُ إِلَيْهِ، وَزَادَ فِي شَبَابِهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ذَكَرًا، وَأَهْبَطَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ، إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ بِصَبْرِكَ عَلَى الْبَلاءِ، فَاخْرُجْ إِلَى أَنْدَرِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَحَابَةً حَمْرَاءَ فَهَبَطَتْ عَلَيْهِ بِجَرَادِ الذَّهَبِ، وَالْمَلَكُ قَائِمٌ مَعَهُ، فَكَانَتِ الْجَرَادُ تَذْهَبُ فَيَتْبَعُهَا حَتَّى يَرُدَّهَا فِي أَنْدَرِهِ، فَقَالَ الْمَلَكُ: يَا
(3/247)
1
أَيُّوبُ، أَمَا تَشْبَعُ مِنَ الدَّاخِلِ حَتَّى تَتْبَعَ الْخَارِجَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ بَرَكَةٌ مِنْ بَرَكَاتِ رَبِّي، وَلَسْتُ أَشْبَعُ مِنْهَا
} رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا { [الأنبياء: 84] أي: فعلنا ذلك به رحمة من عندنا،} وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ { [الأنبياء: 84] قال ابن عباس: موعظة للمطيعين.
} وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ {85} وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ {86} { [الأنبياء: 85-86] قوله: وذا الكفل قال عطاء: إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن يكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر، ويصوم النهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، فادفع إليه ملكك ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا فتكفل بذلك، ووفى به فشكر الله له ونبأه ولذلك سمي ذا الكفل، وقوله:} كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ { [الأنبياء: 85] أي: على طاعة وعن معاصي الله،} وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ { [الأنبياء: 86] يعني: ما أنعم الله به عليهم من النبوة، وما صيرهم إليه في الجنة من الثواب.
} وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ {88} { [الأنبياء: 87-88] وذا النون يعنى: يونس بن متى عليه السلام، حبسه الله في بطن النون، وهو الحوت،} إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا { [الأنبياء: 87] قال الضحاك: مغاضبا لقومه.
وهو قول ابن عباس في رواية العوفي، قال: إن شعياء النبي، والملك الذي كان في وقته، وذلك أن القوم أرادوا أن يبعثوه إلى ملك قد غزا بني إسرائيل، وسبي الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، فقال يونس لشعياء: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا.
قال: فهل سماني لك قال: لا.
قال: فههنا غيري أنبياء، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم، فكان من قصته ما كان، وإنما حبس في بطن الحوت بتركه ما أمره به شعياء وقومه لأن الله تعالى، قال فيه:} فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ { [الصافات: 142] والمليم: الذي أتى ما يلام عليه، وقال جماعة من المفسرين: إن يونس لما أخبر قومه عن الله أنه منزل العذاب بهم لأجل معلوم ثم بلغه بعد ما مضى الأجل أنه لم يأتهم ما وعدهم خشي أن ينسب إلى الكذب ويعير به سيما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه
(3/248)
1
وكان مشتهيا أن ينزل بأس الله بهم لطول ما قاس من تكذيبهم وهزئهم وأذاهم فذهب} مُغَاضِبًا { [الأنبياء: 87] لربه أي لأمر ربه وهو رفعه العذاب، عن قومه كره ذلك وغضب منه ومضى على جهة مضي الآبق الناد، يقول الله تعالى} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ { [الصافات: 140] وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده، وقال: والله لا أرجع إلى قومي كذابا أبدا وعدتهم العذاب في يوم فلم يأت، وروي في الحديث: أنه كان ضيق الصدر، قليل الصبر على ما صبر على مثله أولو العزم من الرسل.
وقوله:} فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ { [الأنبياء: 87] أي: لن نقضي عليه من العقوبة ما قضيناه، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وعطية، يقال: قدر الله الشيء وقدره، أي قضاه، وهذا القول اختيار الفراء، والزجاج.
وقال آخرون: لن نقدر عليه، لن نضيق عليه الحبس، من قوله عز وجل:} وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ { [الطلاق: 7] أي: من ضيق عليه، وقد ضيق الله على يونس تضييقه على معذب في الدنيا، وهذا معنى قول عطاء، والحسن: ظن أن لن نعاقبه.
وقال:} فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ { [الأنبياء: 87] أكثر المفسرين قالوا: يعني ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر.
وقال سالم بن أبي الجعد: حوت في حوت في ظلمة.
وقوله:} أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ { [الأنبياء: 87] قال الحسن، وقتادة: هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته، تاب إلى ربه في بطن الحوت، وراجع نفسه، فقال: إني كنت من الظالمين حين ذهبت مغاضبا، ولم أعبد غيرك.
وهذا معنى قوله:} لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ [الأنبياء: 87] الآية.
621 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا مُعْتَمِرٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إِلا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، كَلِمَةَ أَخِي يُونُسَ {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
قوله: فاستجبنا له أي: أجبنا دعاءه، {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء: 88] من تلك الظلمات، {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] إذا دعوني كما أنجينا ذا النون، وروي عن عاصم أنه قرأ نجى المؤمنين مشددة الجيم، وجميع النحويين حكموا على هذه القراءة بالغلط، وأنها لحن، ثم ذكر الفراء وجها، فقال: أضمر المصدر في ننجي فنوى به الرفع ونصب المؤمنين، كقولك: ضرب الضرب زيدا.
ثم يقول زيدا على إضمار المصدر.
(3/249)
1
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
قال أبو علي الفارسي: هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر.
وراوي هذه القراءة عن عاصم غالط في الرواية، فإنه قرأ ننجي بنونين، كما روى حفص عنه، ولكن النون الثانية من ننجي تخفى مع الجيم، ولا يجوز تبيينها، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام، فظن أنه إدغام، ويدل على هذا إسكانه الياء من ننجي ونصب قوله: المؤمنين ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء، ولوجب أن يرفع المؤمنين.
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ {89} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ {90} } [الأنبياء: 89-90] وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء: 89] قال ابن عباس: وحيد بلا ولد.
وهذا كقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا {5} يَرِثُنِي} [مريم: 5-6] .
وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء خلقه، وأنه أفضل من يبقى حيا بعد ميت، وأن الخلق كلهم يموتون، ويبقى هو، وقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] قال قتادة: كانت عاقرا فجعلها الله ولودا.
وقال الكلبي: كانت عقيما فأصلحت له بالولد، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة.
وهذا قول أكثرهم: إن إصلاح زوجه إزالة عقرها.
وقوله: إنهم يعني: زكريا وامرأته ويحيى، وبعض المفسرين يذهب إلى أن الكفاية تعود إلى الأنبياء الذين ذكرهم الله في هذه ال { [.
ومعنى] يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [سورة الأنبياء: 90] يبادرون في طاعة الله وأداء فرائضه، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] أي: للرغبة والرهبة، رغبة في الجنة، وخوفا من النار، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] قال قتادة: ذللا لأمر الله.
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] والتي يعني: مريم، أحصنت فرجها حفظت فرجها، ومنعته عما لا يحل، وقال الفراء: ذكر المفسرون أنه جيب درعها.
وهذا محتمل لأن الفرج في اللغة: كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق، وهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إذا منعت جيب درعها فهي لنفسها أمنع، فنفخنا فيها أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأجرينا فيها روح المسيح كما تجري الريح بالمنفخ، وذلك أن الله تعالى أجرى فيها روح المسيح بنفخ جبريل، وأحدث بذلك النفخ عيسى في رحمها، وقوله: من روحنا أضاف الروح إليه إضافة الملك، للتشريف
(3/250)
1
والتخصيص، وهو يريد روح عيسى، {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] يعني: ما ظهر فيها من الأعجوبة التي دلت على قدرة الله، ووحد الآية بعد ذكرهما جميعا، لأن الآية فيهما واحدة، وهي ولادة من غير فحل.
قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ {92} وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ {93} فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ {94} } [الأنبياء: 92-94] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [الأنبياء: 92] قال ابن عباس: يريد دينكم.
وهو قول الحسن، ومجاهد، والجميع، قال ابن قتيبة: والأمة الدين.
ومنه قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي على دين، والأصل أنه يقال للقوم يجتمعون على دين واحد، أمة، فتقام مقام الدين، وقوله: أمة واحدة قال ابن عباس: دينا واحدا.
والمعنى أن هذه الشريعة التي نبينها لكم في كتابكم دينا واحدا، إبطالا لما سواها من الأديان، وهي نصب على الحال، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] أي: لا دين سوى ديني، ولا رب غيري.
ثم ذكر اليهود والنصارى وذمهم بالاختلاف، فقال: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء: 93] أي: اختلفوا في الدين فصاروا فيه فرقا وأحزابا، يعني: طوائف اليهود والنصارى.
قال الكلبي: فرقوا دينهم فيما بينهم، يلعن بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض.
والتقطع في هذه الآية بمنزلة التقطيع، ثم أخبر أن مرجع جميع أهل الأديان إليه، وأنه مجاز جميعهم، فقال: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ {93} فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [الأنبياء: 93-94] أي: شيئا منها من أداء الفرائض، وصلة الرحم، ونصرة المظلوم، وغيرها من أعمال البر، وهو مؤمن مصدق بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما جاء به، {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] لا جحود لعمله، يعني أنه يقبل ويشكر بالثواب عليه، {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] نأمر الحفظة أن يكتبوا لذلك العامل ما عمل ليجازى به.
وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ {95} حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ {96} وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ {97} } [الأنبياء: 95-97] {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 95] قال قتادة: واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها.
ونحو هذا قال عكرمة، عن ابن عباس، وعطاء، والكلبي، قال عطاء: يريد حتما مني.
وقال الكلبي: يقول وجب على أهل قرية.
أهلكناها يريد عذبناها {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] إلى الدنيا، والمعنى أن الله كتب على من أهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة، وأن لا يرجع إلى الدنيا قضاء منه حتما، وفي هذا تخويف لكفار مكة أنهم إن عذبوا وأهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة، وذهب ابن جريج، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وجماعة إلى أن لا في قوله: لا يرجعون زيادة وقالوا المعنى: حرام على قرية مهلكة ترجعوهم إلى الدنيا، كما قال: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً
(3/251)
1
وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] ومن قرأ وحرم فهو بمعنى حرام، كما قيل: حل وحلال وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96] معنى فتحهما إخراجهما عن السد الذي جعلا وراءه، وكأنهما قيدا بذلك السد، فإذا ارتفع السد انفتحا، وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] الحدب كل أكمة مرتفعة من الأرض، وينسلون من النسلان، وهو كمشية الذئب إذا أسرع، والمعنى: وهم من كل شيء من الأرض يسرعون، يعني أنهم يتفرقون في الأرض فلا ترى أكمة إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين.
622 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِزَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ عَفَازَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ؛ لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ، فَبَدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، ثُمَّ مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، فَرَجَعُوا إِلَى عِيسَى فَقَالَ: عَهِدَ اللَّهُ إِلَيَّ فِيمَا دُونَ وَجْبَتِهَا، فَأَمَّا وَجْبَتُهَا فَلا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ، فَذَكَرَ خُرُوجَ الدَّجَّالَ، قَالَ: فَأَهْبِطُ فَأَقْتُلُهُ وَيَرْجِعُ النَّاسَ إِلَى بِلادِهِمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَلا يَمُرُّونَ بِمَاءٍ إِلا شَرِبُوهُ وَلا يَمُرُّونَ بِشَيْءٍ إِلا أَفْسَدُوهَ فَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ فَأَدْعُو اللَّهَ فَيُمِيتُهُمْ فَتَجْوَى الأَرْضُ مِنْ رِيحِهِمْ وَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ فَأَدْعُو اللَّهَ فَيُرْسِلُ السَّمَاءَ بِالْمَاءِ فَيَحْمِلُ أَجْسَادَهُمْ فَيَقْذِفُهَا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ الْجِبَالُ وَتُمَدُّ الأَرْضُ مَدَّ الأَدِيمِ، فَعَهِدَ اللَّهُ إِلَيَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنَّ السَّاعَةَ مِنَ النَّاسِ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ لا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَّى تَفْجَأُهُمْ بِوِلادَتِهَا لَيْلا أَمْ نَهَارًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَجَدْتُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97] قال ابن عباس: يريد القيامة، فإذا هي فإذا القصة، {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97] أي: القصة أن أبصارهم تشخص في ذلك اليوم، قال الكلبي: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم.
وهو قوله وقالوا: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا} [الأنبياء: 97] في الدنيا، {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء: 97] اليوم {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 97] أنفسنا بتكذيب الرسل.
ثم خاطب أهل مكة، فقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ {98} لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ {99} لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ {100} إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ {101} لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ {102} لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ {103} } [الأنبياء: 98-103] {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] يعني: الأوثان، حصب جهنم الحصب: ما رميت به في النار، قال ابن عباس:
(3/252)
1
يريد وقودها.
وقال مجاهد، وقتادة، وعكرمة: حطبها.
وقال الضحاك: يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء.
{أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] فيها داخلون.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ} [الأنبياء: 99] يعني: الأصنام، آلهة كما يزعم الكفار، ما وردوها يعني: العابدين والمعبودين، لقوله: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ {99} لَهُمْ فِيهَا} [الأنبياء: 99-100] في جهنم، {زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100] قال ابن مسعود: إذا بقي في النار من يخلد فيها، جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] قال أكثر المفسرين: لما نزل {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أتى ابن الزبعرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا محمد، ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح، وأن عيسى رجل صالح، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال: بلى.
قال: فإن الملائكة وعيسى ومريم وعزيرا يعبدون من دون الله، فهؤلاء في النار.
فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] يعني: هؤلاء الذين ذكرهم سبقت لهم من الله السعادة.
أولئك عنها عن جهنم، {مُبْعَدُونَ {101} لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 101-102] أي: حسها وحركة تلهبها، والحس والحسيس الصوت تسمعه من الشيء يمر منك قريبا، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ} [الأنبياء: 102] من النعيم، {خَالِدُونَ {102} لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 102-103] قال أكثرهم: يعني إطباق جهنم على أهلها.
وقال الحسن: هو أن يؤمر بالعبد إلى النار.
وقال ابن جريج: هو ذبح الموت بين الفريقين.
623 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا عَبَّادُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَرْزَمِيُّ، نا عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " ثَلاثَةٌ عَلَى كُثْبَانٍ مِنْ مِسْكٍ لا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَلا يَكْتَرِثُونَ لِلْحِسَابِ؛ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا ثُمَّ أَمَّ بِهِ قَوْمًا مُحْتَسِبًا، وَرَجُلٌ أَذَّنَ مُحْتَسِبًا، وَمَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وَتَسْتَقْبِلُهُمْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِي الدُّنْيَا "
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ملكا يقال له سجل، هو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه.
وهذا قول السدي، قال: السجل ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان، دفع إليه كتابه فطواه.
ونحو هذا روي عن ابن عمر، أنه قال: السجل ملك، والمراد بالكتاب والكتب على اختلاف القراءتين الصحائف،
(3/253)
1
كما تقول: كطي زيد الكتب وتكون اللام زائدة، كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] .
وقال مجاهد: السجل الصحيفة فيها الكتب.
وهو قول قتادة، والكلبي، واختيار الفراء، وابن قتيبة، وعلى هذا القول، الكتب يراد بها المكتوب، ولما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة جعل السجل كأنه يطوي الكتاب، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا، كذلك نعيدهم يوم أول.
624 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْمَاوَرْدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أنا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَلا إِنَّ أَوَّلَ مِنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ
وقال الزجاج: المعنى نبعث الخلق كما ابتدأناه، أي: قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء، والخلق ههنا مصدر لا يعني المخلوق، وقوله: وعدا علينا أي: وعدناكم ذلك وعدا علينا {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] ما وعدناكم من ذلك.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ {106} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ {107} } [الأنبياء: 105-107] وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء: 105] يعني: جميع الكتب المنزلة من السماء، {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] يعني: أم الكتاب الذي عند الله، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد، واختيار الزجاج، قال: الزبور جميع الكتب التوراة والإنجيل، والقرآن زبور لأن الزبور والكتاب في معنى واحد، يقال: زبرت الشيء وكتبت.
وقوله: أن الأرض يريد أرض الجنة كقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} [الزمر: 74] ، {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] يعني: المؤمنين العاملين بطاعة الله، ويرثونها كقوله: {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11] .
{إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء: 106] يعني القرآن، لبلاغا لكفاية، يقال في هذا الشيء: بلاغ وبلغة وتبلغ أي كفاية، والمعنى أن من اتبع القرآن وعمل به كان القرآن بلاغه إلى الجنة، وقوله: لقوم عابدين قال كعب: هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، سماهم عابدين.
ونحو هذا روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
625 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، بِمَكَّةَ، نا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّعْبِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(3/254)
1
قَرَأَ إِنَّ هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ثُمَّ قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قال ابن عباس: يريد للبر والفاجر، لأن كل نبي غير محمد إذا كذب أهلك الله من كذبه وأخر من كذبه إلى موت أو قيامة، والذي صدقه عجلنا له الرحمة في الدنيا والآخرة.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة» .
626 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {108} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ {109} إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ {110} وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {111} قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ {112} } [الأنبياء: 108-112] {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] منقادون إلى ما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد لله، والمراد بهذا الاستفهام الأمر، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .
فإن تولوا أعرضوا ولم يسلموا، فقل آذنتكم أعلمتكم للحرب، على سواء أي: إيذانا على سواء، إعلاما يستوي في علمه الجميع، ولم نبدأ به دونكم لتتأهبوا لما يراد منكم.
وإن أدري ما أدري، {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] يعني: أجل القيامة لا يدري به أحد إلا الله.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} [الأنبياء: 110] ما تعلنون، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] سركم لا يغيب عن علمه شيء منكم.
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] قال الزجاج: ما أدري لعل ما آذنتكم به فتنة لكم.
أي اختبار، يعني: ما أخبركم به من أنه لا يدري وقت عذابهم، وهو القيامة، فكأنه قال: لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم، ليرى كيف صنيعكم.
وقوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111] أي: تستمتعون إلى انقضاء آجالكم.
قوله: قل رب احكم بالحق أي: بعذاب كفار قومي الذي هو حق نازل بهم، ويدل على هذا ما روي أنه كان إذا شهد قتالا، قال: «رب احكم بالحق» .
قال الكلبي: فحكم عليهم بالقتل يوم بدر،
(3/255)
1
ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، ويوم الخندق.
والمعنى على هذا: افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع.
وقرأ حفص {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] يعني: قال الرسول ذلك، وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112] من كذبهم وباطلكم في قولكم: {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] ، وقولكم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26] .
والوصف بمعنى الكذب، ذكر في مواضع من التنزيل كقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] ، وقوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] .
(3/256)
1
سورة الحج
مدنية وآياتها ثمان وسبعون.
627 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَحَجَّةٍ اعْتَمَرَهَا، بِعَدَدِ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا بَقِيَ»
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ {1} يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ {2} } [الحج: 1-2] {يَأَيُّهَا النَّاسُ} [الحج: 1] قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
اتقوا ربكم اتقوا عقابه بطاعته، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج: 1] الزلزلة: شدة الحركة على الحال الهائلة.
قال علقمة، والشعبي: هي من أشراط الساعة، وهي في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقال الحسن، والسدي: وهذه الزلزلة تكون يوم القيامة.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: زلزلة الساعة قيام الساعة.
يعني أنها تقارن قيام الساعة، وتكون معها، وقوله: شيء عظيم يعني أنه لا يوصف لعظمه.
يوم ترونها ترون تلك الزلزلة، تذهل في هذا اليوم، {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] تنسى وتترك كل والدة ولدها، يقال: وهل عن كذا يذهل ذهولا؟ إذا تركه أو شغله عنه شاغل.
قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام.
وهو قوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2] يعني: من هول ذلك اليوم، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا يكون حبلى، وعند شدة الفزع تلقي المرأة جنينها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج: 2] من شدة الخوف، {وَمَا هُمْ
(3/257)
1
بِسُكَارَى} [الحج: 2] من الشراب، هذا قول جميع المفسرين، والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم، يضطربون اضطراب السكران من الشراب، يدل على صحة هذا قراءة من قرأ وترى الناس بضم التاء، أي تظنهم، قال الفراء: ولهذه القراءة وجه جيد.
وسكارى وقرئ سكرى قال الفراء: ولهذه القراءة وجه جيد في العربية، لأنه بمنزلة الهلكى والجرحى والمرضى والزمنى، والعرب تجعل فعلى علامة لجمع كل ذي زمانة وضرر وهلاك، ولا يبالون أكان واحده فاعلا أو كان فعيلا أو فعلان.
وقوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] دليل على أن سكرهم من خوف العذاب.
628 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الزَّاهِدُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أنا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، قَالَ: فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْوَلِيدُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنْ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فَيَقُولُونَ: وَمَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْكُم وَاحِدٌ، فَقَالَ النَّاسُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: يُكَبِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، كِلاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ {3} كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ {4} } [الحج: 3-4] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج: 3] قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث، كان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله قادر على إحياء من بلي.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد الوليد وعتبه بن ربيعة.
والمعنى أنه
(3/258)
1
يخاصم في قدرة الله، ويزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم في ذلك، إنما يقوله باغواء الشيطان وطاعته إياه، وهو قوله: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3] قال ابن عباس: المريد المتمرد على الله.
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] قال ابن عباس: قضى الله أن من أطاع إبليس أضله ولم يرشده وجره إلى عذاب السعير.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْ