التفسير الوسيط للواحدي ج ص معتمد 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا} [إبراهيم: 13] أي: ولا نساكنكم على مخالفتكم ديننا، {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13] ذكرنا معناه في قصة شعيب في { [الأعراف،] فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [سورة إبراهيم: 13] يعني الذين كفروا بالرسل، {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 14] لنعطينكم سكناها بعد هلاكهم، ذَلِكَ الإسكان، {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم: 14] .
قال ابن عباس: خاف مقامه بين يدي.
وقال الكلبي: مقامه بين يدي رب العالمين.
وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول، كما تقول: ندمت على ضربك، {وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] قال ابن عباس: خاف مما أوعدت من العذاب.
يعني أن العاقبة بالنصر تكون لمن خاف الله.
واستفتحوا يعني: الرسل، استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما يئسوا من إيمانهم، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} [إبراهيم: 15] متكبر عن طاعة الله، عنيد قال قتادة: العنيد المعرض عن طاعة الله.
وقال مجاهد: هو المجانب للحق.
وقال الزجاج: الذي يعدل عن القصد، والمعنى: فاز الرسل بالنصرة، وخاب كل من كفر.
{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] قال ابن عباس، والمفسرون: يريد أمامه جهنم، فهي بين يديه.
يعني: أنه يردها ويدخلها، ووراء، يكون لخلف وقدام، ومنه قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي: أمامهم.
{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] الصديد: ماء الجرح المختلط بالدم والقيح.
قال المفسرون: يريد صديد القيح والدم الذي يخرج من فروج الزناة.
498 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيُّ، أنا أَبُو الْمُوَجِّهِ، أنا عَبْدَانُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ،
(3/26)
1
عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ {16} يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 16-17] قَالَ: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَيَتَكَرَّهُهُ فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ هَوَى وَجْهُهُ، وَوَقَعَ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَ؛ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، يَقُولُ اللَّهِ، تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ، وَيَقُولُ اللَّهِ، تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] .
قَوْلُهُ: {يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17] التَّجَرُّعُ: تَنَاوُلُ الشَّرَابِ جَرْعَةً جَرْعَةً
قال ابن عباس: يريد بالكره.
{وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17] يقال: ساغ الشراب في الحلق سوغا وأساغه الله، قال المفسرون: يتحساه ويشربه بالجرع، لا بمرة واحدة، لمرارته، ولا يسيغه إلا بعد إبطاء، لكراهته للذلك الشراب.
وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ} [إبراهيم: 17] أي: همُّ الموت، وألمه، وكربه، {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم: 17] قال ابن عباس: من كل شعرة في جسده.
وقال الثوري: من كل عرق في جسده.
{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] موتا تنقطع معه الحياة، ومن ورائه ومن بعد هذا العذاب، وقال الكلبي: ومن بعد هذا الصديد.
{عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] متصل الآلام، وقال إبراهيم التيمي: يعني الخلود في النار.
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} [إبراهيم: 18] قال الفراء: تقدير الآية مثل أعمال الذين كفروا بربهم، فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه.
وقوله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] أراد عاصف الريح، فحذف الريح لأنها ذكرت في أول الكلام، ويقال: عصفت الريح عصوفا إذا اشتد هبوبها.
ومعنى الآية أن كل ما تقرب به الذين كفروا إلى الله، فمحبط غير منتفع به، لأنهم أشركوا فيها غير الله، كالرماد الذي ذّرَّتْهُ الريح وصار هباء لا ينتفع به، وذلك قوله: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا} [إبراهيم: 18] أي في الدنيا، على شيء
(3/27)
1
في الآخرة، قال ابن عباس: لا يجدون ثواب ما عملوا.
{ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] يعني: ضلال أعمالهم وذهابها كذهاب الرماد في عصوف الريح.
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ {19} وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ {20} وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ {21} وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {22} وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ {23} } [إبراهيم: 19-23] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [إبراهيم: 19] معنى ألم تر ههنا التنبيه على خلق السموات والأرض، وقرأ حمزة والكسائي خالق السموات على فاعل، كقوله: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ومعنى قوله: بالحق كقوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] وقد تقدم، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] قال ابن عباس: يريد أميتكم يا معشر الكفار، وأخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع.
وهذا خطاب لأهل مكة {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20] قال ابن عباس: لا يعز على الله شيء يريده.
وقال الكلبي: ليس يعز على الله شيء أن يميتكم ويأتي بغيركم.
قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] خرجوا من قبورهم للبعث، قال الزجاج: جمعهم الله في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع.
فقال الضعفاء وهم الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [إبراهيم: 21] والأكابر هم الذين استكبروا عن عبادة الله، إنا كنا في الدنيا، لكم تبعا جمع تابع، مثل خادم وخدم، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [إبراهيم: 21] فهل أنتم دافعون عنا من عذاب الله؟ {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21] لو أرشدنا الله لأرشدناكم، يريدون أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، ولو هداهم الله لدعوهم إلى الهدى.
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] قال زيد بن أسلم: جزعوا مائة سنة، وصبروا مائة سنة، فلم ينفعهم أحدهم، فقالوا هذا.
وقوله: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] أي: معدل عن العذاب.
قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [إبراهيم: 22] أي: فرغ منه، وقضى الله بين العباد، قال المفسرون: إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في
(3/28)
1
النار، اجتمع أهل النار على إبليس، فيقوم فيما بينهم خطيبا، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] أي: كون هذا اليوم، فصدقكم وعده، ووعدتكم أنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، فأخلفتكم الوعد، {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] ما أظهرت لكم حجة أحتج بها عليكم، {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] هذا من الاستثناء المنقطع، أي: لكن دعوتكم {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] فصدقتموني وقبلتم مقالتي، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] حيث أجبتموني وصدقتموني من غير برهان، {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم: 22] بمغيثكم، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] بمغيثين لي، أي: لا أنجيكم مما أنتم فيه، ولا تنجوني مما أنا فيه، قال الحسن: إذا كان يوم القيامة، قام إبليس خطيبا على منبر من نار، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] الآية.
والقراءة الصحيحة فتح الياء في مصرخي، وهو الأصل، لأن ياء الإضافة إذا كان قبلها ساكن، حركت إلى الفتح لا غير، نحو هداي وعصاي، وقرأ حمزة بكسر الياء، قال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، لا وجه لها إلا وجه ضعيف، وهو ما أجازه الفراء من الكسر على أصل التقاء الساكنين، وأنشد:
قلت لها هل لك يَا تَا فيَّ
قالت لنا ما أنت بالمرضي
وزعم قطرب أن هذه لغة في بني يربوع، يزيدون على ياء الإضافة ياء، نحو هل لك يا تافي؟ وكان الأصل مصرخي، ثم حذفت الياء الزائدة، وأقرت الكسرة على ما كانت عليه، وقوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] أي: كفرت بإشراككم إياي مع الله في الطاعة، والمعنى: جحدت أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني، إن الظالمين يريد المشركين، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] ، وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: 23] ذكرنا تفسيره في { [يونس.
قوله:] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ {26} يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ {27} } [سورة إبراهيم: 24-27] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [إبراهيم: 24] بين الله شبها، ثم فسر ذلك المثل، فقال: كلمة طيبة قال ابن عباس: يريد لا إله إلا الله، وهو قول الجميع.
{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] قالوا: يريد النخلة.
والمعنى: كشجرة طيبة الثمرة.
أصلها أي:
(3/29)
1
أصل هذه الشجرة، ثابت في الثرى، وفرعها أعلاها عال، {فِي السَّمَاءِ {24} تُؤْتِي} [إبراهيم: 24-25] تعطي هذه الشجرة، أكلها ثمرها وما يؤكل منها، كل حين قال ابن عباس: يريد ستة أشهر.
وهو قول سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، قالوا: ما بين صرامها إلى حملها ستة أشهر.
وقال مجاهد، وابن زيد، وعكرمة: كل سنة.
شبه الله تعالى الإيمان بالنخلة، لثبات الإيمان في قلب المؤمن، كثبات النخلة في منبتها، وشبه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة، وشبه ما اكتسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان، بما ينال من ثمر النخلة في أوقات السنة كلها من الرطب والتمر، {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 25] قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25] لكي يتعظوا.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] يعني الشرك بالله، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] قال ابن عباس: يريد الثوم.
وقال الضحاك عنه: هي الكشوث.
وقال أنس بن مالك: هي الحنظل.
فكما أنها أخبث الأشجار، فكذلك الشرك أخبث الكلمات، اجتثت انتزعت واقتلعت، {مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} [إبراهيم: 26] قال ابن عباس: يريد ليس لها أصل تام، فهي فوق الأرض، لم تضرب فيها بعرق.
وهو قوله: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] من أصل في الأرض، وكما أنها أخبث الأشجار، كذلك الشرك بالله أخبث الكلمات، ليس لها حجة ولا ثبات ولا شيء.
قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] الذين صدقوا محمدا، {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وهو لا إله إلا الله، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] يثبتهم بها على الحق، {وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] يعني في القبر، قال المفسرون: هذه الآية وردت في فتنة القبر، وسؤال الملكين، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال، وتثبيته إياه بها على الحق.
499 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سُئِلَ فِي قَبْرِهِ؛ قَالَ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] .
500 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ شَاذَانَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي
(3/30)
1
أَبِي، أنا أَبُو عَامِرٍ، نا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جِنَازَةً، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ، فَأَقْعَدَهُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا؛ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ، فَهَذَا مَنْزِلُكَ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، أَوْ مُنَافِقًا، يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَقُلْتُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا هُدِيتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: هَذَا لَكَ لَوْ آمَنْتَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ، فَإِنَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يُقْمِعُهُ بِالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً، يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مَطْرَقَةٌ، إِلا هِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ»
وقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] يعني: لا يلقن الله المشركين والكافرين حتى إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري.
قال الفراء: يضلهم عن هذه الكلمة.
{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] من تثبيت المؤمن وتلقينه الصواب، وإضلال الكافر، قال الفراء: أي لا تكون له قدرة، ولا يسأل عما يفعل.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ {28} جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ {29} وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ {30} } [إبراهيم: 28-30] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] قال جماعة المفسرين: هم مشركو مكة كفار قريش، أنعم الله عليهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكفروا به، ودعوا قومهم إلى الكفر به، وذلك قوله: وأحلوا قومهم يعني الذين اتبعوهم، {دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] أي الهلاك، يعني جهنم، ألا ترى أنه فسرها، فقال: جهنم يصلونها يقاسون حرها، وبئس القرار بئس المقر هي.
501 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا أَبُو مَالِكٍ الْجَنْبِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، عَنِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا؛ قَالَ: هُمُ الأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ، بَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ؛ فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ
وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [إبراهيم: 30] قال ابن عباس:
(3/31)
1
من الحجارة والخشب وغير ذلك، ليضلوا الناس عن دين الله، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بفتح الياء، والمعنى أنهم لم ينتفعوا بما اتخذوا من الأنداد، ولم يتخذوها إلا ليزيغوا عن الطريق المستقيم، وهذه لام العاقبة، ثم أوعدهم، فقال: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] قال ابن عباس في هذه الآية: لو صار الكافر مريضا سقيما لا ينام ليلا ولا نهارا، جائعا لا يجد ما يأكل ويشرب، لكان هذا كله نعيما يتمتع به القياس إلى ما يصير إليه من شدة العذاب، ولو كان المؤمن في الدنيا في أنعم عيشه، لكان بؤسا عندما يصير إليه من نعيم الآخرة.
قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] معناه: قل لهم أقيموا الصلاة، فصرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر، وجعل كالجواب للأمر، وهذه الآية أمر للمؤمنين بعبادة الله من الصلاة والإنفاق في وجوه البر قبل يوم القيامة، وهو قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] قال أبو عبيدة: البيع ههنا الفداء، والخلال: المخالة.
قال مقاتل: ذلك يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، إنما هي أعمال، يثاب بها قوم، ويعاقب عليها آخرون.
والخلال: فعال من المخالة، وهو مصدر الخليل، هذا قول جميع أهل اللغة.
وقال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون جمع خلة، مثل برمة وبرام، وعلبة وعلاب.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ {32} وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ {33} وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {34} } [إبراهيم: 32-34] {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32] أي: ذللها لكم بالركوب والإجراء إلى حيث تريدون.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [إبراهيم: 33] لتنتفعوا بهما، وتستضيئوا بضوئهما، {دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، لا يفتران، ومعنى الدءوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [إبراهيم: 33] لتسكنوا فيه، راحة لأبدانكم، والنهار لتبتغوا فيه من فضله.
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] مفعول الإيتاء محذزف بتقدير من كل ما سألتموه مسئولا أو شيئا، ويجوز أن يكون من زيادة، والمعنى: وآتاكم كل ما سألتموه، وقال ابن الأنباري: تقدير الآية وأتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، لأنا لم نسأله شمسا ولا قمرا، ولا كثير من نعمة التي ابتدأنا بها.
وكان قتادة يقرأ {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] قال: لم تسألوه كل الذي آتاكم.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: 34] أي: إنعامه، والنعمة ههنا
(3/32)
1
اسم أقيم مقام المصدر، ولذلك لم يجمع، لا تحصوها أي: لا تأتوا على جميعها بالعدد لكثرتها، قال الكلبي: لا تحفظوها.
وقال أبو العالية: لا تطيقون عدها.
إن الإنسان قال ابن عباس: يريد أبا جهل.
لظلوم لنفسه، كفار بنعمة ربه، قال الزجاج: الإنسان اسم الجنس، يقصد به الكافر خاصة.
كما قال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ومعنى ظلوم: شاكر غير من أنعم عليه، كفار جحود لنعم الله.
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {36} رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37} رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ {38} الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ {39} رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ {40} رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ {41} وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ {42} } [إبراهيم: 35-42] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] سبق تفسيره في { [البقرة، وقوله:] وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35] يقال: جنبته كذا، وأجنبته وجنبته، أي: باعدته عنه، وجعلته ناحية منه، والمعنى: ثبتني على اجتناب عبادتها، لأنه غير عابد لها، وهذه الدعوة مخصوصة بأبنائه من صلبه، فقد كان من نسله من عبد الصنم، وكان إبراهيم التيمي يقص ويقول: من يأمن البلاء بعد إبراهيم خليل الرحمن؟ يقرأ هذه الآية {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] أي: ضلوا بسببها، لأن الأصنام لا تفعل شيئا، ولكن لما ضلوا بسببها صارت كأنها أضلتهم، فمن تبعني على ديني بالتوحيد، فإنه مني أي من المتدينين بديني، {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] قال السدي: معناه من عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم.
وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم، قال ابن الأنباري: ويحتمل أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه.
قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 37] قال ابن الأنباري: من دخلت للتوكيد، والمعنى: أسكنت ذريتي.
وعند الفراء: دخلت من التبعيض.
أي: أسكنت بعض ذريتي، وذلك أنه أنزل إسماعيل وأمه بمكة، وإسماعيل بعض ذرية إبراهيم، يدل على هذا قول ابن عباس في هذه الآية يريد إسماعيل، {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] قال: يريد واد من مكة، ومكة كلها واد.
(3/33)
1
أخبرنا أبو حسان محمد بن أحمد بن جعفر، أنا هارون بن محمد بن هارون، أنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أنا أبو الوليد الأزرقي، حدثني جدي، نا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، أخبرني محمد بن إسحاق، أنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن إبراهيم خرج من الشام، وخرج معه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل يرضع، وحملوا على البراق ومعه جبريل حتى قدم مكة، وكانت هي إذ ذاك عضاه من سلم وسمر، وبها ناس يقال لهم العماليق، خارجا من مكة، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل عليهما السلام: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم.
فعمد بهما إلى موضع الحجر، فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، ثم قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] الآية.
والمعنى: عند بيتك المحرم الذي يحدث في هذا الوادي، لأن إسكان الخليل إسماعيل مكة كان قبل بنائهما البيت، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 37] قال ابن عباس: ليعبدوك.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] تريدهم وتسرع إليهم، قال عطاء: تحن إليهم.
وقال قتادة: تنزع إليهم.
وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند.
وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: أفئدة من الناس.
فهم المسلمون.
قال عكرمة: هو أنهم يحجون إلى مكة.
{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] هذا كقوله في { [البقرة:] وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [سورة البقرة: 126] .
{لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] قال ابن عباس: كي يوحدوك ويعظموك.
قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم، وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد إسحاق، وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] قال الزجاج: أي اجعل من ذريتي من يقيم الصلاة.
{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40] قال ابن عباس: يريد عبادتي.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم: 41] قال ابن الأنباري: استغفر
(3/34)
1
لأبويه وهما حيان طمعا في أن يهديا إلى الإسلام، ويسعدا بالدين.
وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [إبراهيم: 41] قال ابن عباس: يريد من لقيك مؤمنا مصدقا فتجاوز عنه.
{يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] يظهر الجزاء على الأعمال.
قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] .
502 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ حَبَشٍ الدِّينَوَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الدِّينَوَرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ الْمِصِّيصِيُّ، نا أَبُو الْمَلِيحِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] ، قَالَ: وَعِيدٌ لِلظَّالِمِ، وَتَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} [إبراهيم: 42] أَيْ: يُؤَخِّرُ جَزَاءَهُمْ وَلا يَأْخُذُهُمْ بِظُلْمِهِمْ، {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَشْخَصُ فِيهِ أَبْصَارُ الْخَلائِقِ إِلَى الْهَوَاءِ؛ لِعَجَائِبِ مَا يَرَوْنَ، وَلِشِدَّةِ الْحِيرَةِ وَالدَّهْشَةِ لا يُغْمِضُونَ
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] مهطعين قال سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة: مسرعين.
وقال الضحاك، والكلبي، والعوفي، عن ابن عباس: مديمي النظر من غير أن يطرفوا.
ومعنى الإهطاع: الإسراع مع إدامة النظر، وقوله: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43] يقال: أقنع رأسه إذا رفعه.
قال المفسرون: رافعي رءوسهم.
قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء، لا ينظر أحد إلى أحد.
{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43] لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة، وقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد خرجت القلوب من مواضعها، فصارت في الحناجر.
وقال قتادة: انْتُزِعَتْ حتى صارت في حناجرهم.
فعلى هذا أريد بالأفئدة مواضع القلوب، وأنها خلت عن القلوب فصارت هواء، وقال آخرون: معنى الآية أن قلوبهم خلت عن العقول لما رأوا من الفزع، فهي خالية عن العقل للدهشة والحيرة، ثم عاد إلى خطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره بالإنذار.
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ {44} وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ {45} } [إبراهيم: 44-45] فقال: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} [إبراهيم: 44] قال ابن عباس: يعني أهل مكة، {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} [إبراهيم: 44] يعني يوم القيامة، {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [إبراهيم: 44] أشركوا بالله، {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم: 44] استمهلوه مدة يسيرة لكي يجيبوا الدعوة، ويتبعوا الرسل، وهو قوله: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ
(3/35)
1
الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44] فيقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] حلفتم في الدنيا أنكم لا تبعثون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة.
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] يعني الأمم الكافرة قبلهم، ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية يقول: كان ينبغي أن يرتجعوا ويرتدعوا عن الكفر، اعتبارا بمساكنهم بعد ما تبين {لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45] قال ابن عباس: يريد الأمثال التي في القرآن.
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ {46} فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {47} يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ {48} وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {49} سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ {50} لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {51} } [إبراهيم: 46-51] قوله: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} [إبراهيم: 46] يعني مكرهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هموا بقتله ونفيه، {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] أي: جزاء مكرهم، {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] وما كان مكرهم، {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] يعني: أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أتى به من دين الإسلام، وضرب الجبال مثلا له على معنى أن ثبوته كثبوت الجبال، قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال.
وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام الأولى وضم الثانية، وإن على هذه القراءة لا يكون نفيا، بل يكون بمعنى قد، والمعنى: قد كادت الجبال تزول من مكرهم، وهذه مبالغة في وصف مكرهم بالعظم على مذهب العرب في المبالغة، قال الزجاج: وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله تعالى ينصر دينه.
يدل على هذا قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] قال ابن عباس: يريد النصر والفتح وإظهار الدين، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [إبراهيم: 47] منيع، {ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] من الكافرين، وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم.
قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأرض هي تلك الأرض، وإنما تبدل آكامها، وجبالها، وأشجارها.
ونحو هذا روى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " يبدل الله الأرض غير الأرض، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 107] ".
وأما تبديل السموات فقال ابن الأنباري: باختلاف هيئتها كما ذكر الله
(3/36)
1
أنها تكون مرة كالمهل، ومرة كالدهان.
قال ابن مسعود: تبدل بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة.
وهذا قول الكلبي، وعطاء، عن ابن عباس، وأكثر المفسرين.
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] كقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] .
وترى المجرمين قال ابن عباس: يريد الذين أجرموا، زعموا أن لله ولدا وشريكا.
{يَوْمَئِذٍ} [إبراهيم: 49] يوم القيامة، مقرنين يقال: قرنت الشيء بالشيء إذا وصلته به، وجاء ههنا على التشديد، لكثرة أولئك القوم، قوله: في الأصفاد جمع الصفد، وهو القيد، قال عطاء: يريد سلاسل الحديد والأغلال.
وقال الكلبي: كل كافر مع شيطان في غل.
وقال ابن زيد: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال.
سرابيلهم جمع سربال، وهو القميص، وقال الزجاج: هو كل ما لبس من قطران، وهو هناء الإبل، وهو شيء يتحلب من شجر، وجعلت سرابيلهم من قطران، لأنه أبلغ في اشتعال النار في جلودهم، {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] أي تعلوها.
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [إبراهيم: 51] ليقع لهم الجزاء من الله بما كسبوا، يعني الكفار.
هَذَا يعني القرآن {بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52] أي أنزل، ليبلغوا، {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52] قال ابن عباس: ولتنذر قومك يا محمد، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم: 52] أي: بما فيه من الحجج التي تدل على وحدانيته، {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52] وليتعظ أهل العقول والبصائر.
(3/37)
1
سورة الحجر
مكية وآياتها تسع وتسعون.
503 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، نا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ الْحِيرِيِّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْحِجْرَ، أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ» .
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ {1} رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {2} ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {3} وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ {4} مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ {5} } [الحجر: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم الر قال أبو الضحى، عن ابن عباس: أنا الله أرى.
وقال عكرمة عنه: الر، وحم، وق حروف الرحمن مقطعة.
تلك هذه، {آيَاتُ الْكِتَابِ} [الحجر: 1] يعني القرآن، ثم ذكره، فقال: وقرءان مبين فجمع بين الوصفين لموصوف واحد، قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2] وقرئ بالتخفيف لما فيه من التضعيف، والحروف المضاعفة قد تخفف نحو: إن وأن ولكن، وقد خفف كل واحد من هذه الحروف، قال الزجاج: العرب تقول: رب رجل جاءني.
ويخففون فيقولون: رب رجل.
قال المفسرون: نزلت الآية في تمني الكفار الإسلام عند خروج من يخرج من النار من أهل الإسلام.
وهذا تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما:
504 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا
(3/38)
1
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا أَبُو الشَّعْثَاءِ، نا خَالِدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ قَالَ الْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلامُكُمْ وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ، قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فَأُخْذِنَا بِهَا، فَسَمِعَ اللَّهُ مَا قَالُوا، فَأَمَرَ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَأُخْرِجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْكُفَّارُ؛ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ فَنَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَمَا أُخْرِجُوا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ {1} رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {2} } [الحجر: 1-2] .
505 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا عَبِيدَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا يَزَالُ اللَّهُ يَشْفَعُ وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَيَرْحَمُ، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] .
قوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3] يقول: دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك خلاقهم.
وهذا كقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83] ، {وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} [الحجر: 3] يشغلهم ما يأملون في دنياهم عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة، يقال: ألهاه الشيء أي شغله وأنساه.
فسوف يعلمون وعيد وتهديد، أي: فسوف يعلمون إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا.
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الحجر: 4] قال ابن عباس: يريد من أهل القرية.
{إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] أجل ينتهون إليه، يعني أن لأهل كل قرية أجلا مؤقتا لا يهلكهم حتى يبلغوه، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} [الحجر: 5] من زائدة، كقولك: ما جاءني من.
أجلها ما ضرب لها من الوقت، وما يستأخرون لا يتأخرون عنه، وهذا كقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] .
قوله: {وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ {6} لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {7} مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ {8} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9} وَلَقَدْ
(3/39)
1
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ {10} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {11} كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {12} لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ {13} وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ {14} لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ {15} } [الحجر: 6-15] {وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: 6] أي القرآن، قال عطاء، عن ابن عباس: هذا استهزاء منهم، لو أيقنوا أنه أنزل عليه الذكر ما قالوا: إنك لمجنون.
{لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [الحجر: 7] قال الفراء: لولا ولوما لغتان، معناهما هلا.
قال ابن عباس: أفلا جئتنا بالملائكة حتى نصدقك؟ قال الله تعالى جوابا لهم: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 8] أي: إذا نزل الملائكة وجب العذاب من غير تأخير ولا إنظار.
قال ابن عباس: إذا نزلت الملائكة، لم ينظروا، ولم يمهلوا.
وهو قوله: {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8] .
قوله: إنا نحن هذا من كلام الملوك، الواحد منهم إذا فعل شيئا قال: نحن فعلنا.
يريد نفسه وأتباعه، ثم صار هذا عادة الملك في خطابه، وإن انفرد بفعل الشيء قال: نحن فعلنا.
فخوطبت العرب بما يعقل من كلامها، وقوله: {نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] يعني القرآن، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] قال قتادة: لا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقا، حفظه الله من ذلك.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الحجر: 10] أي رسلا، فحذفت المفعول الدلالة الإرسال عليه، {فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} [الحجر: 10] قال الحسن، والكلبي: في فرق الأولين.
وقال عطاء، عن ابن عباس: في الأمم الأولين.
قال الفراء: الشيعة الأمة لمتابعة بعضهم بعضها فيما يجتمعون عليه من أمر.
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 11] يعني كما استهزأ به قومك، وهذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودلالة أن كل واحد من الرسل كان مبتلى بقومه.
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} [الحجر: 12] قال الزجاج: كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا، نسلك الضلال في قلوب المجرمين.
والسلك: إدخال الشيء في الشيء.
قال ابن عباس، والحسن: نسلك الشرك في قلوب المكذبين.
ثم أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم لا يؤمنون، فقال: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 13] بالرسول وبالقرآن، {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الحجر: 13] مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسول في القرون الماضية، وهذا تهديد لكفار مكة، ثم أخبر أنهم إذا وردت عليهم الآية بالمعجزة قالوا سحر، فقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر: 14] يقال: ظل كذا
(3/40)
1
إذا فعله بالنهار، والعروج الصعود.
يقال: عرج يعرج عروجا.
يقول: لو كشف لهؤلاء عن أبصارهم حتى يعاينوا بابا في السماء مفتوحا تصعد فيه الملائكة لصرفوا ذلك إلى أنهم سحروا، وهو قوله: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15] قال مجاهد: سدت بالسحر، فيخايل لأبصارنا غير ما نرى.
وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء، فكأن الأبصار منعت من النظر كما يمنع الماء من الجري، والتشديد لذكر الأبصار، {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15] سحرنا محمد، فنحن نرى ما لا حقيقة له.
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ {16} وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ {17} إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ {18} وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ {19} وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ {20} وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ {21} وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ {22} وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ {23} وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ {24} وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {25} } [الحجر: 16-25] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الحجر: 16] قال ابن عباس: يريد بروج الشمس والقمر، يعني منازلهما.
وزيناها بالشمس والقمر والنجوم، للناظرين للمعتبرين بها والمستدلين على توحيد صانعها.
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة، ثم قيل للعنِ والطردِ والإبعادِ رَجْمٌ، لأن الرمي بالحجارة يوجب هذه المعاني، والرجيم: الملعون المطرود المبعد.
وقال أبو عبيدة: الرجيم المرجوم بالنجوم.
بيانه قوله: رجوما للشياطين قال ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، وكانوا يدخلونها ويتحرون أخبارها، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا من السموات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب.
فذلك قوله: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] وذلك أن المارد من الشياطين يعلو لاستراق السمع، فيرمى بالشهاب، وهو قوله: فأتبعه أي لحقه، شهاب مبين شعلة نار ظاهرة
(3/41)
1
لأهل الأرض، ونحن في رأي العين نرى كأنهم يرمون النجوم، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى، ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان، ويجوز أنهم يرمون بشعلة نار من الهواء، ولكن لبعده عنا يخيل إلينا أنه نجم.
والأرض مددناها بسطناها على وجه الماء، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [الحجر: 19] وهي الجبال الثوابت، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الثمار مما يكال أو يوزن.
وقال الكلبي: وأنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة، والنحاس والحديد، والرصاص والكحل، والزرنيخ، وكل شيء يوزن وزنا.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الحجر: 20] من الثمار والحبوب، {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] يعني: العبيد والدواب والأنعام، يرزقهم الله ولا ترزقونهم.
وقال الكلبي: يعني الوحش والطير.
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الحجر: 21] أي من المطر في قول عامة المفسرين، وذلك أنه سبب الرزق والمعاش، ولما ذكر أنه يعطيهم المعاش، بَيَّنَ أن خزائن المطر الذي هو سبب المعاش عنده، أي في أمره وحكمه وتدبيره، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، ولا ينقصه ولا يزيده، غير أنه يصرفه إلى من شاء حيث شاء، يمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان في البحر.
قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] قال ابن عباس، والمفسرون: يعني للشجر والسحاب.
قال ابن مسعود: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب، فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ثم تمر به، فتدر كما تدر اللقحة، ولواقح ههنا بمعنى ملاقح، جمع ملقحة، فحذفت الميم وَرُدَّتْ إلى الأصل الثلاثي، كما يقال: أبقل النبت فهو باقل، يجعلونه بدلا من مبقل.
وقال ابن الأنباري: الريح اللاقح التي تحمل الماء والسحاب.
وهذا قول الفراء، وابن قتيبة، واختيار الأزهري، قالوا: جعل الله الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح.
وقال رجل: كنت جالسا عند ابن مسعود فهاجت ريح، فقال رجل: اللهم العنها.
فقال عبد الله: لا، مَه، فإنها نذور مبشرات ولواقح، ولكن سَلِ اللهَ من خيرها، وتعوذ به من شرها.
وقوله: فأسقيناكموه يقال: سقيته حتى روي، وأسقيته نهرا جعلته شربا له.
ومعنى فأسقيناكموه جعلناه سقيا لكم، {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ} [الحجر: 22] لذلك الماء المنزل من السماء، بخازنين بحافظين، يقول: ليست خزانته بأيديكم.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23] إذا مات جميع
(3/42)
1
الخلائق لم يبق حيا سواه، كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ} [مريم: 40] الآية.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] استقدم أي تقدم، وضده استأخر أي تأخر.
506 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ نَصْرُ بْنُ بَكْرٍ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، نا عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ تُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ فِي آخِرِ النِّسَاءِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَقَدَّمُ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ لِئَلا يَرَاهَا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ فِي آخِرِ الصَّفِّ، فَإِذَا رَكَعَ؛ قَالَ هَكَذَا وَنَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ فِي الصَّلاةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، وَاخْتَارَ الْفَرَّاءُ هَذَا الْقَوْلَ
وقال: معنى ولقد علمنا أي: وإنا نعلم جميعهم، فنجزيهم على نياتهم.
وقال الحسن، وعطاء: يعني المتقدمين في طاعة الله والمتأخرين عنها.
وقال قتادة، ومجاهد: يعني من مضى من الأمم السالفة ومن بقي، وهم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يدل على هذا قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} [الحجر: 25] .
يجمعهم للحساب، {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الحجر: 25] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {26} وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ {27} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ {29} فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ {30} إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ {31} قَالَ
(3/43)
1
يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ {32} قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {33} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ {34} وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {35} قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {36} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {37} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {38} قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {39} إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {40} قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ {41} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ {42} وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ {43} لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ {44} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {45} ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنْينَ {46} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {47} لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ {48} } [الحجر: 26-48] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الحجر: 26] يعني آدم، من صلصال وهو طين يصلصل إذا نقر عليه، يقال: صل الحديد وصلصل إذا صوت.
قال ابن عباس في رواية الوالبي: الصلصال الطين اليابس.
وقال في رواية إسرائيل: الصلصال الذي إذا قرع صوت.
507 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، فَأُلْقِيَ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى صَارَ طِينًا لازِبًا، وَهُوَ الطِّينُ الْمُلْتَزِقُ، ثُمَّ تُرِكَ، حَتَّى صَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، وَهُوَ الْمُنْتِنُ، ثُمَّ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فَكَانَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُصَوَّرًا، حَتَّى يَبِسَ فَصَارَ صَلْصَالا كَالْفُخَّارِ إِذَا ضُرِبَ عَلَيْهِ صَلْصَلَ، فَذَلِكَ الصَّلْصَالُ وَالْفُخَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ
وقوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] الحمأ الطين الأسود المنتن، والمسنون المتغير الرائحة، يقال: سن الماء فهو مسنون، أي تغير.
وقال سيبويه: المسنون المصور على صورة، ومثال من سنة الوجه وهي صورته.
قوله: والجان خلقناه قال عطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل: يريد إبليس.
وقال عامة المفسرين: الجان أبو الجن، سمي جانا لتوريته عن الأعين، يقال: جن الشيء إذا ستره.
فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، وقوله: من قبل يعني من قبل خلق آدم، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] قال الكلبي: هي نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها.
قال ابن مسعود: من نار الريح الحارة،
(3/44)
1
قال: وهذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية.
ومعنى السموم في اللغة: الريح الحارة وفيها نار، وفي الخبر: «إنها من لفح جهنم» .
وقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [الحجر: 29] أي: عدلت صورته وسويته بالصورة الإنسانية، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] النفخ إجراء الريح في الشيء، والروح جسم رقيق يحيا به البدن، ولما أجرى الله الروح في بدن آدم على صفة إجراء الريح، كان قد نفخ الروح فيه، وأضاف روح آدم إليه إكراما وتشريفا، وهي إضافة الملك، وقوله: فقعوا أمر من الوقوع، قال الكلبي: فَخَرُّوا له ساجدين سجود، تحية، ولم تكن سجدة طاعة.
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] قال سيبويه: توكيد بعد توكيد.
وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35] قال الكلبي: يلعنك أهل السماء وأهل الأرض إلى يوم الحساب، لأنه أول من عصى الله.
قال ابن عباس: يريد يوم الجزاء حين يجازى العباد بأعمالهم.
فاستنظر إبليس إلى يوم القيامة لئلا يموت إذ يوم القيامة لا يموت فيه أحد، فلم يجب إلى ذلك.
وقيل له: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 38] قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى حين تموت الخلائق كلهم.
قال الكلبي: إذا نفخت النفخة الأولى مات الخلائق كلهم، ومات إبليس معهم، وإنما سمي الوقت المعلوم لأنه يموت فيه الخلائق وإبليس.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] قال أبو عبيدة: معنى الباء ههنا القسم.
وقال غيره: هي بمعنى السبب، أي بكوني غاويا لأزينن، كما تقول: بطاعته ليدخلن الجنة، وبمعصيته ليدخلن النار.
ومعنى {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحجر: 39] يعني لأولاد آدم، ومفعول التزيين محذوف على تقدير لأزينن لهم الباطل حتى يقعوا فيه.
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد، فقال الله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] يعني الإخلاص والإيمان، طريق عليَّ وإليَّ، أي أنه يؤدي إلى جزائي وكرامتي، فهو طريق عليَّ، وهذا معنى قول مجاهد: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرج على شيء.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] قال ابن عباس: اختار الله عبادا فأخبر إبليس أنه ليس له عليهم سلطان، أي قوة وحجة في إغوائهم ودعائهم إلى الشرك والضلال.
ثم أوعد من اتبعه فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] قال ابن عباس: يريد إبليس ومن اتبعه من الغاوين.
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] قال: سبعة أطباق، طبق
(3/45)
1
فوق طبق.
وقال عليٌّ بن أبي طالب: إن الله وضع النيران بعضها فوق بعض، فأبوابها كإطباق اليد على اليد.
{لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ} [الحجر: 44] من أتباع إبليس، جزء مقسوم والجزء بعض الشيء والجمع أجزاء، قال الضحاك: هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض، وأعلاها فيه أهل التوحيد، يعذبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون، والثاني فيه للنصارى، والثالث فيه اليهود، والرابع فيه الصائبون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع فيه المنافقون.
قوله: إن المتقين قال الكلبي: إن المتقين للفواحش والكبائر.
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] يعني عيون الماء والخمر، ويقال لهم: ادخلوها بسلام أي بسلامة، قال ابن عباس: سلموا من سخط الله.
{آمِنْينَ} [الحجر: 46] أمنوا عذاب الله والموت.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] مفسر في { [الأعراف، إخوانا متوادين على سرر جمع سرير، قال ابن عباس: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، السرير مثل ما بين عدن إلى أيلة.
متقابلين لا يرى بعضهم قفا بعض، حيثما التفت رأى وجها يحبه يقابله.
] لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [سورة الحجر: 48] لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب، قال ابن عباس: مثل نصب الدنيا إذا مشى نصب، وإذا جامع نصب، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] يريد خلودا لا زوال فيه.
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ {50} وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ {51} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ {52} قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {53} قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ {54} قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ {55} قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ {56} قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ {57} قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ {58} إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ {60} } [الحجر: 49-60] نبئ عبادي أخبرهم، {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} [الحجر: 49] لأوليائي، الرحيم بهم.
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 50] لأعدائي.
508 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَرَّاقُ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، أنا مَرْوَانُ الْعُثْمَانِيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ
(3/46)
1
الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِه أَبَدًا، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَبَدًا»
509 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا قُتَيْبَةُ، نا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ؛ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ
قوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ} [الحجر: 51] هذه القصة مضى ذكرها في { [هود، والضيف في الأصل مصدر، ولذلك وحد في اللفظ، وإن كانوا جماعة.
] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} [سورة الحجر: 52] أي سلموا سلاما، فقال إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] الوجل الفزع، وجل يوجل وجلا فهو وجل.
{قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] .
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} [الحجر: 54] أي: على حالة الكبر والهرم، فبم تبشرون استفهام تعجب، كأنه عجب من الولد على كبره، وقرأ نافع تبشرون بكسر النون، أراد تبشرونني، فحذف النون الثانية وأبقى الكسرة التي تدل على الياء، وابن كثير أدغم ولم يحذف.
{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر: 55] بما قضاه الله أنه كائن، {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55] من الآيسين، والقنوط: اليأس من الخير.
{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} [الحجر: 56] وقرئ يقنط بفتح النون، وهما لغتان: قنط يقنط، وقنط يقنط قنوطا وقنطا.
قال ابن عباس: يريد ومن ييئس من رحمة ربه إلا المكذبون.
وهذا يدل على أن إبراهيم لم يكن قانطا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكة به قنوطا، فنفى ذلك عن نفسه وأخبر أن القانط من رحمة الله ضال.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} [الحجر: 57] قال الكلبي: فما بالكم؟ وما الذي جئتم به؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] يعنون قوم لوط، {إِلا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 59] استثناء ليس من الأول، وآل لوط هم أتباعه والذين كانوا على دينه، {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ {60} } [الحجر: 59-60] قضينا أنها تبقى مع من يبقى ويتخلف حتى تهلك كما يهلكون، وقرأ عاصم قدرنا
(3/47)
1
مخففة، يقال: قدرت الشيء وقدرته، ونحو هذا قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60] قرئ بالوجهين، وقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] .
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ {61} قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ {62} قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ {63} وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {64} فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ {66} } [الحجر: 61-66] {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} [الحجر: 63] أي: بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله.
وأتيناك بالحق أي بالأمر الثابت الذي لا شك فيه من عذاب قومك.
فأسر بأهلك مفسر في { [هود، إلى قوله:] وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [سورة الحجر: 65] قال ابن عباس: يعني الشام.
وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل.
وقال الكلبي: أمرهم جبريل أن يمضوا إلى صفر إحدى قرى قوم لوط.
وقضينا إليه أي: أوحينا إليه وألهمناه، وقال ابن قتيبة: أخبرناه، كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أي أخبرناهم.
وقوله: {ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر: 66] أي الأمر بهلاك قومه، قال الزجاج: موضع أن نصب، وهو بدل من قوله: {ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر: 66] لأنه فسر الأمر بقوله: أن دابر.
والمعنى: وقضينا إليه، {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66] أي: آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح، وهو قوله: مصبحين أي: داخلين في وقت الصبح.
{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ {67} قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ {68} وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ {69} قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ {70} قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {71} لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ {72} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ {73} فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ {74} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ {75} وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقيمٍ {76} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ {77} } [الحجر: 67-77] قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} [الحجر: 67] يعني مدينة قوم لوط، وهي سذوم، يستبشرون يفرحون بعملهم الخبيث طمعا منهم في ركوب الفاحشة، فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ} [الحجر: 68] .
(3/48)
1
يقال: فضحه يفضحه إذ أبان من أمره ما يلزمه به العار.
والمعنى: لا يفضحون بقصدكم إياهم بالسوء، فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} [الحجر: 69] مذكور في { [هود، فقالوا له:] أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة الحجر: 70] أي: عن ضيافة العالمين، والمعنى: أولم ننهك عن أن تدخل أحدا بيتك، لأنا نريد منه الفاحشة، فقال لهم لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71] أي: إن كنتم فاعلين لهذا الشأن، فعليكم بالتزوج ببناتي، ومضى الكلام في هذا.
قوله لعمرك العَمر والعُمر واحد، فإذا أقسموا فتحوا العين لا غير، قال الزجاج: لأن الفتح أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بلعمري، فلزموا الأخف.
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد وعيشك يا محمد.
510 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَتَّابٍ سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، نا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَلا ذَرَأَ وَلا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلا بِحَيَاتِهِ، قَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
وقوله: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] قال عطاء: يريد أن قومك في ضلالتهم يتمادون.
وقال عامة المفسرين: يعني قوم لوط.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73] يعني صيحة العذاب.
قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة أهلكتهم.
وقوله: {مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73] يقال: أشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، مثل أصبحوا وأمسوا.
والمعنى أن العذاب أتاهم في شروق الشمس، يقال: إن أول العذاب كان مع طلوع الصبح، ثم امتد إلى شروق الشمس، لذلك قال: مصبحين، ثم قال: مشرقين.
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: 74] مفسر في { [هود.
] إِنَّ فِي ذَلِكَ} [سورة الحجر: 75] يعني فيما فعل بقوم لوط، {لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] يقال: توسمت في فلان خيرا إذا رأيت أثره فيه.
والمتوسم: الناظر في السمة الدالة على الشيء.
قال عطاء، عن ابن عباس: للمتفرسين.
وقال الضحاك: للناظرين.
قال مقاتل: للمتفكرين.
وقال قتادة: للمعتبرين.
(3/49)
1
511 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ، نا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ، نا أَبُو بِشْرٍ الْمُزَلِّقُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ»
قوله: وإنها يعني مدينة قوم لوط، لبسبيل مقيم بطريق واضح لا يندر ولا يخفى، قال ابن عباس: على طريق قومك إلى الشام.
والمعنى أن الاعتبار بها ممكن.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77] لعبرة للمصدقين، يعني أن المؤمنين اعتبروا وصدقوا.
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ {78} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ {79} وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ {80} وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {81} وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ {82} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ {83} فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {84} } [الحجر: 78-84] قوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} [الحجر: 78] معنى إن واللام التوكيد، وإن ههنا مخففة من الثقيلة، والأيكة والأيك: الشجر الملتف، قال المفسرون: قوم شعيب كانوا أصحاب غياض، فكذبوا شعيبا، فأهلكوا بعذاب يوم الظلة.
وهو قوله: فانتقمنا منهم قال المفسرون: أخذهم الحر أياما، ثم اضطرم عليهم المكان نارا فهلكوا.
وقوله: وإنهما يعني الأيكة ومدينة قوم لوط، لبإمام مبين بطريق واضح، وسمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع.
قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 80] يعني ثمود، وكانت مساكنهم تسمى الحجر.
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} [الحجر: 81] قال ابن عباس: يريد الناقة، وكان في آيات خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظم خلقها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا.
{فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الحجر: 81] لم يتفكروا فيها، ولم يستدلوا بها.
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الحجر: 82] ذكرنا
(3/50)
1
ذلك في { [الأعراف، وقوله:] آمِنِينَ} [سورة الحجر: 82] قال الفراء: آمنين من أن تقع عليهم.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 83] أتتهم صيحة عظيمة، فماتوا عن آخرهم في وقت الصبح.
وهذا مما قد تقدم في { [الأعراف.
وقوله:] فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} [سورة الحجر: 84] أي: ما دفع عنهم العذاب، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 84] من الأموال والأنعام.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ {85} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ {86} وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ {87} لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ {88} وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ {89} كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ {90} الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ {91} فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {93} فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {94} إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ {95} الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {96} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99} } [الحجر: 85-99] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] أي: للحق وإظهار الحق، وهو الثواب للمصدق، والعقاب للمكذب، {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} [الحجر: 85] وإن القيامة لتأتي، فيجازى المشركون بقبح أعمالهم، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] أعرض عنهم إعراضا بغير جزع، وهذا منسوخ بآية القتال.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ} [الحجر: 86] خالق كل شيء، العليم بما خلق.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] واحد المثاني مثناة، وهي كل شيء يثنى، أي يجعل اثنين، وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالسبع المثاني فاتحة الكتاب، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والكلبي، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
512 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ، نا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، نا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، وَإِنَّمَا
(3/51)
1
سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ؛ لأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَهِيَ تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلاةٍ بِإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
وقال الزجاج: ويجوز أن يكون من المثاني مما أثني به على الله، لأن فيها حمد الله وتوحيده، وذكر ملكه يوم الدين، المعنى: ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله.
وهذه الآية تدل على فضيلة الفاتحة لأن الله تعالى امتن على رسوله بهذه ال { [، كما امتن عليه بجميع القرآن، حيث فصل هذا من القرآن بالذكر، ثم ذكر القرآن بعده، فقال: والقرءان العظيم أي: العظيم القدر، لأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، ولما ذكر منته عليه بالقرآن، نهاه عن النظر إلى الدنيا، فقال:] لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [سورة الحجر: 88] أي: أصنافا من المشركين واليهود، قال ابن عباس: «نهى اللهُ رسولَه عن الرغبة في الدنيا، فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا» .
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88] قال الكلبي: على كفار قريش إن لم يؤمنوا ونزل بهم العذاب.
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] ألن لهم جانبك، قال ابن عباس: ارفق بهم، ولا تغلظ عليهم.
والعرب تقول: فلان خافض الجناح إذا كان وقورا ساكنا.
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] قال ابن عباس: أنذركم بسخط الله وعذابه، وأبين لكم ما يقربكم إلى الله.
كما أنزلنا ويجوز أن يكون المعنى أني أنذركم ما أنزلنا، وتكون الكاف زائدة، وقوله: على المقتسمين يعني الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإيمان به، قال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم يقولون لمن أتى مكة: لا تغتروا بالخارج منا والمدعي النبوة فإنه مجنون.
فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} [الحجر: 91] قال ابن عباس: جزءوه أجزاء، فقالوا: سحر.
وقالوا: أساطير الأولين.
وقالوا: مفترى.
وعضين جمع عضة، مثل عزة وعزين من عضيت الشيء إذا مزقته، وكل قطعة عضة، والمعنى أنهم فرقوا القول في القرآن، حيث اختلفت في وصفة أقوالهم.
قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {93} } [الحجر: 92-93] قال الكلبي: عن ترك لا إله إلا الله والإيمان برسله، وهذا السؤال سؤال توبيخ، يسألون يوم القيامة، فيقال لهم: لم عصيتم الرسل، وتركتم الإيمان؟ فيظهر خزيهم وفضيحتهم عند تعذر الجواب.
وقال أبو العالية:
(3/52)
1
يسأل العباد كلهم يوم القيامة، عن خلتين عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين.
وأما قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} [الرحمن: 39] الآية، أي: لا يسألون سؤال استفهام ليعلم ذلك من جهتهم.
قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به، أخذ من الصديع وهو الصبح.
وقال المفسرون: اجهر بالأمر أي بأمرك، يعني إظهار الدعوة، وما زال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستخفيا حتى نزلت هذه الآية، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة.
{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] الذين كانوا يستهزئون بك وبالقرآن، وكانوا جماعة يؤذون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، وهو الأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن عدي، فأومأ جبريل بإصبعه إلى ساق الوليد، وإلى عيني أبي زمعة، وإلى رأس الأسود، وإلى بطن الحارث، وقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفيت أمرهم» .
فمر الوليد على قين لخزاعة، وهو يجر ثيابه، فتعلقت بثوبه شوكة، فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها، وجعل يضرب ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى قطع إنسياه، فلم يزل حتى مات، ووطئ العاص على شبرقة، فحكت رجله، فلم يزل يحكها حتى مات، وعمي أبو زمعة، وأخذت الأكلة في رأس الأسود، وأخذ الحارث الماء في بطنه فمات خبثا، يعني استسقاء.
ثم وصفهم بالشرك، فقال: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 96] وعيد لهم وتهديد.
ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] من تكذيبك والاستهزاء بك.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98] قال الضحاك: قل سبحان الله وبحمده.
{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] قال ابن عباس: من المصلين.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] قال جماعة المفسرين: يعني الموت، وسمي الموت
(3/53)
1
يقينا لأنه موقن به.
قال قتادة: اليقين الموت، وعند الموت والله يقين من الخير والشر.
قال الزجاج: المعنى اعبد ربك أبدا، لأنه لو قيل: اعبد ربك بغير توقيت، لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعا، فإذا قال: حتى يأتيك اليقين، فقد أمر بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيا.
513 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، نا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّوَّافُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الأَزْدِيُّ، نا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
(3/54)
1
سورة النحل
مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة.
514 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النَّحْلِ ل