التفسير الوسيط للواحدي ج ص معتمد 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ
الْحَمْدُ للَّهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، الْفَاطِرِ الْحَكِيمِ، الْجَوَادِ الْكَرِيمِ، الرَّبِّ الرَّحِيمِ مُنَزِّلِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى الْمَبْعُوثِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، خَاتَمِ الرِّسَالَةِ، وَالْهَادِي عَنِ الضَّلالَةِ، الْمُرْسَلِ بِأَشْرَفِ الْكُتُبِ إِلَى الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْهُدَاةِ الْمُهْتَدِينَ، وَأَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ الْمُنْتَخَبِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
 
وَبَعْدَ هَذَا: فَالْعِلْمُ أَشْرَفُ مَنْقَبَةٍ، وَأَجَلُّ مَرْتَبَةٍ، وَأَبْهَى مَفْخَرٍ وَأَرْبَحُ مَتْجَرٍ، بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَصْدِيقِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ.
 
وَالْعُلَمَاءُ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اجْتَبَاهُمْ، وَإِلَى مَعَالِمِ دِينِهِ هَدَاهُمْ، وَبِمِزْيَةِ الْفَضْلِ آثَرَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ، هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاؤُهُمْ، وَسَادَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُرَفَاؤُهُمْ، وَالدُّعَاةُ إِلَى الْمَحَجَّةِ الْمُثْلَى، وَالتَّمَسُّكِ بِالشَّرِيعَةِ وَالتَّقْوَى.
 
1 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزمجَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ،
(1/45)
1
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَكَّائِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
2 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَلَطِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُنَبِّهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ
(1/46)
1
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إِلا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْهُ فِيكُمْ لأُعَذِّبَكُمْ، انْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّةِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "
وَإِنَّ أُمَّ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَجْمَعَ الأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، كِتَابُ اللَّهِ الْمُودِعُ نُصُوصَ الأَحْكَامِ وَبَيَانَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمَوَاعِظَ النَّافِعَةَ، وَالْعِبَرَ الشَّافِيَةَ، وَالْحُجَجَ الْبَالِغَةَ، وَالْعِلْمُ بِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعَزُّهَا، وَأَجَلُّهَا وَأَمَزُّهَا، لأَنَّ شَرَفَ الْعُلُومِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ.
وَلَمَّا كَانَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى أَشْرَفَ الْمَعْلُومَاتِ، كَانَ الْعِلْمُ بِتَفْسِيرِهِ وَأَسْبَابِ تَنْزِيلِهِ وَمَعَانِيهِ وَتَأْوِيلِهِ، أَشْرَفَ الْعُلُومِ.
وَمِنْ شَرَفِ هَذَا الْعِلْمِ وَعِزَّتِهِ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِيهِ بِالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَالرَّأْيِ وَالتَّفَكُّرِ، دُونَ السَّمَاعِ وَالأَخْذِ عَمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ بِالرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَدْ شَدَّدُوا فِي هَذَا حَتَّى جَعَلُوا الْمُصِيبَ فِيهِ بِرَأْيِهِ مُخْطِئًا.
(1/47)
1
3 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْزَقِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبِشْرِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ»
4 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ صَدَقَةَ
(1/48)
1
الرَّقِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
وَكُلُّ عِلْمٍ سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِمَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَنْ تَحَلَّى مِنَ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِهِمَا فَهُوَ عَاطِلٌ عَنِ الآيَاتِ الْوَاضِحَةِ الْبَاهِرَةِ وَالسُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ الزَّاهِرَةِ، عَلَى هَذَا دَرَجَ الأَوَّلُونَ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ.
5 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُوسَى،
(1/49)
1
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، وَعَمِلْتُمْ بِمَا فِيهِمَا، كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»
وَقَدْ سَبَقَ لِي قَبْلَ هَذَا الْكِتَابِ، بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَيْسِيرِهِ، مَجْمُوعَاتٌ ثَلاثٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ: مَعَانِي التَّفْسِيرِ، وَمُسْنَدِ التَّفْسِيرِ، وَمُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ.
وَقَدِيمًا كُنْتُ أُطَالِبُ بِإِمْلاءِ كِتَابٍ فِي تَفْسِيرٍ (وَسِيطٍ) يَنْحَطُّ عَنْ دَرَجَةِ (الْبَسِيطِ) الَّذِي تُجَرُّ فِيهِ أَذْيَالُ الأَقْوَالِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْ مَرْتَبَةِ (الْوَجِيزِ) الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَى الإِقْلالِ.
وَالأَيَّامُ تَدْفَعُ فِي صَدْرِ الْمَطْلُوبِ بِصُرُوفِهَا، عَلَى اخْتِلافِ صُنُوفِهَا، وَسَآخُذُ نَفْسِي عَلَى فُتُورِهَا، وَقَرِيحَتِي عَلَى قُصُورِهَا، لِمَا أَرَى مِنْ جَفَاءِ الزَّمَانِ، وَخُمُولِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَعُلُوِّ أَمْرِ الْجَاهِلِ عَلَى جَهْلِهِ، بِتَصْنِيفِ تَفْسِيرٍ أَعْفِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ وَالإِكْثَارِ، وَأُسَلِّمُهُ مِنْ خَلَلِ الْوَجَازَةِ وَالاخْتِصَارِ، وَآتِي بِهِ عَلَى النَّمَطِ الأَوْسَطِ وَالْقَصْدِ الأَقْوَمِ حَسَنَةً بَيْنَ السِّيَّئَتَيْنِ، وَمَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، لا إِقْلالَ وَلا إِمْلالَ.
نِعْمَ الْمُعِينُ تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى، لإِتْمَامِ مَا نَوَيْتُ، وَتَيْسِيرِهِ لإِحْكَامِ مَا لَهُ تَصَدَّيْتُ.
(1/50)
1
الْقَوْلُ فِيمَا رُوِيَ مِنْ فَضَائِلِ
سُورَةِ الْفَاتِحَةِ
مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ
6 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَانِي فَلَمْ آتِهِ، حَتَّى فَرَغْتُ مِنْ صَلاتِي، فَقَالَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ؟» قُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، قَالَ: " أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] ، أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ "،
(1/51)
1
قَالَ: فَذَهَبَ يَخْرُجُ، فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ
7 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلالٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعُ الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْن عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، أَوْ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ اللَّهُ: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، وَإِذَا
(1/52)
1
قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ {7} } [الفاتحة: 6-7] قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ لَكَ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ سُفْيَانَ
8 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَزْرَقُ، حَدَّثَنِي جَدِّي، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ سِمْعَانَ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لَهُ وَنِصْفُهَا لِي، يَقُولُ عَبْدِي، إِذَا افْتَتَحَ صَلاتَهُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، فَيَذْكُرُنِي عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] ، فَأَقُولُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، فَأَقُولُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي: ثُمَّ يَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فَهَذِهِ الآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَآخِرُ السُّورَةِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ "
(1/53)
1
وما أسنى هذه الفضيلة، إذ لم يرد فِي شيء من القرآن هذه المقاسمة التي رويت فِي الفاتحة بين الله تعالى وبين العبد.
9 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ، أَوْ مُصَابٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا رَقَيْتُ إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: خُذُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ
(1/54)
1
10 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَخِيهِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلا، فَجَاءَتْنَا جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: أَنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، وَأَنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ فَهَلْ فِي الْقَوْمِ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَما كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ وَلا نَرَاهُ يُحْسِنُهَا، فَذَهَبَ فَرَقَاهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَأَحْسَبُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَسَقَانَا لَبَنًا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ قُلْنَا لَهُ، مَا كُنَّا نَرَاكَ تُحْسِنُ رُقْيَةً، قَالَ: وَلا أُحْسِنُهَا، إِنَّمَا رَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قُلْتُ: لا تُحْدِثُوا فِيهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «مَا كَانَ يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْتَسِمُوهَا وَاضْرِبُوا بِسَهْمِي مَعُكْم» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ،
(1/55)
1
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، كِلاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ
(1/56)
1
فصل فِي بيان نزول الفاتحة
11 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنِي جَدِّي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَرَزَ، سَمِعَ مُنَادِيًا يُنَادِيهِ: يَا مُحَمَّدُ، فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ
(1/57)
1
وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ، قَالَ: فَلَمَّا بَرَزَ سَمِعَ النِّدَاءَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «لَبَّيْكَ» ، قَالَ: قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} } [الفاتحة: 2-5] حَتَّى فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
(1/58)
1
القول فِي آية التسمية
12 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] : هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، قَالَ أَبِي: وَقَرَأَها عَلَيَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] الآيَةَ السَّابِعَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: وَقَرَأَهَا عَلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتُهَا عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] الآيَةَ السَّابِعَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَخَرَهَا لَكُمْ فَمَا أَخْرَجَهَا لأَحَدٍ قَبْلَكُمْ
(1/59)
1
13 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَشْجَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {1} الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} } [الفاتحة: 1-2] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ سَبْعُ آيَاتٍ، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] إِحْدَاهُنَّ.
وَعَدَّهُنَّ عُمَرُ فِي يَدِهِ، وَعَدَّهُنَّ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي يَدِهِ، وَعَدَّهُنَّ أَبُو سَعِيدٍ فِي يَدِهِ عَدَدَ الأَعْرَابِ
14 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا
(1/60)
1
عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلالٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] سَبْعُ آيَاتٍ، أُولاهُنَّ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ "
هذه الأخبار ناطقةٌ بأن التسمية آية من الفاتحة، وكذلك هي فِي غيرها من السور آية.
15 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
(1/61)
1
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعْرَفُ خَتْمُ السُّورَةِ حَتَّى يُنَزَّلَ عَلَيْهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
16 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعْرَفُ خَتْمُ السُّورَةِ حَتَّى يُنَزَّلَ عَلَيْهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
17 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْعَبْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، ذَكَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا لا نَعْلَمُ فَصْلَ مَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ حَتَّى تَنْزِلَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
وأما التفسير
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {1} الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ {7} } [الفاتحة: 1-7] فإن المتعلق به «الباء» فِي قوله: بسم الله محذوف، ويستغنى عن إظهاره لدلالة الحال عليه، وهو معنى الابتداء، كأنه قال: بدأت بسم الله، أو أبدأ بسم الله.
والحال تبين أنه مُبْتَدِئٌ فاستغنيت عن ذكره.
(1/62)
1
وهي أداة تجر ما بعدها من الأسماء نحو «من» و «عن» و «فِي» ، وحذفت الألف من بسم الله، لأنها وقعت فِي موضع معروف لا يجهل القارئ معناه، فاستُخِفَّ طرحُها، وأثبتت فِي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] ، لأن هذا لا يكثر كثرة بسم الله، ألا ترى أنك تقول: بسم الله عند ابتداء كل شيء.
ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله، ولا مع غير «الباء» من الحروف، فتقول: لاسم الله حلاوة فِي القلوب، وليس اسم كاسم الله.
فتثبت الألف مع اللام والكاف، هذا فِي سقوطها فِي الكتابة.
وأما سقوطها فِي اللفظ: فلأنها للوصل، وقد استغني عنها بالباء.
وعند البصريين أن «الاسم» مشتق من السمو، لأنه يعلو المسمى، فالاسم ما علا وظهر، فصار علما للدلالة على ما تحته من المعنى.
وعند الكوفيين: «الاسم» : مشتق من الوسم والسمة وهي العلامة، ومن هذا قال أبو العباس ثعلب: الاسم سمة توضع على الشيء يعرف به.
والصحيح ما قال أهل البصرة، لأنه لو كان مشتقا من الوسم لقيل فِي تصغيره: وُسَيْمٌ.
كما قالوا: وُعَيدة، ووُصَيلة.
فِي تصغير عدة وصلة، فلما قالوا: «سُميّ» .
ظهر أنه من السمو لا من السمة.
وأما الله فإن كثيرا من العلماء ذهبوا إلى أن هذا الاسم ليس بمشتق، وأنه اسم تفرد به الباري سبحانه، يجري فِي وصفه مجرى أسماء الأعلام، لا يشركه فِيهِ أحد، قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، أي: هل تعلم أحدا يُسَمَّى اللهَ غيره؟
(1/63)
1
وهذا القول يحكى عن الخليل بن أحمد، وابن كيسان، وهو اختيار أبي بكر القفال الشاشي.
والأكثرون ذهبوا إلى أنه مشتق من قولهم: «أَلَهَ إلاهةً» .
أي: عبد عبادة، وكان ابن عباس يقرأ ويذرك وإلاهتك، قال: معناه: عبادتك.
ويقال: تأله الرجل.
إذا نسك، قال رؤبة:
سبحن واسترجعن من تألهي
ومعناه: المستحق للعبادة، وذو العبادة: الذي إليه تُوجَّهُ العبادةُ وبها يُقْصَدُ، وقال أبو الهيثم الرازي: الله أصله «إلاه» ، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] ، ولا يكون إلها حتى يكون لعابده خالقا ورازقا ومدبرا وعليه مقتدرا، فمن لم يكن كذلك فليس بإله، وإن عُبد عُبد ظلما، بل هو مخلوق ومتعبد.
قال: وأصل إله: «ولاه» ، فقلبت الواو همزة كما قالوا للوشاح: إشاح.
وللوجاج: أجاج.
ومعنى «ولاه» : أن الخلق
(1/64)
1
يولهون إليه فِي حوائجهم، ويضرعون إليه فيما ينوبهم، ويفزعون إليه فِي كل ما يصيبهم، كما يوله كل طفل إلى أمه.
قوله: الرحمن الرحيم قال الليث: هما اسمان اشتقاقهما من الرحمة.
وقال أبو عبيدة: هما صفتان لله معناهما: ذو الرحمة.
ورحمة الله: إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى من يرحمه.
والرحمن عند قوم أشد مبالغة من الرحيم، كالعلام من العليم، ولهذا قيل: «رحمن الدنيا ورحيم الآخرة» .
لأن رحمته فِي الدنيا عمت المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ورحمته فِي الآخرة اختصت بالمؤمنين.
وقال آخرون: إنهما بمعنى واحد، كندمان ونديم، ولهفان ولهيف، وجمع بينهما للتأكيد، كقولهم: فلان جاد مجد.
قوله: الحمد لله قال ابن عباس: يعني الشكر لله، وهو أنه صنع إلى خلقه فحمدوه، يعني أنه أحسن إليهم فشكروه وأثنوا عليه.
والحمد قد يكون شكرا للصنيعة وقد يكون ابتداء للثناء على الرجل، يقال: حمدته على معروفه.
كما يقال: شكرته.
ويقال: حمدته على علمه وعلى شجاعته.
إذا أثنيت عليه بذلك، ولا يقال فِي هذا المعنى: شكرته.
فحمد الله: الثناء عليه والشكر لنعمه.
قال ابن الأنباري: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] يحتمل أن يكون هذا إخبارا أخبر الله تعالى به، والفائدة فِيهِ: أنه بين أن حقيقة
(1/65)
1
الحمد له، وتحصيل كل الحمد له لا لغيره، ويحتمل أن يكون هذا ثناء أثنى به على نفسه، علم عباده فِي أول كتابه ثناء عليه وشكرا له، يكتسون بقوله وتلاوته أعظم الثواب، ويكون المعنى: قولوا: الحمد لله.
فيضمر «القول» ههنا، كما يضمر فِي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر: 3] ، معناه: يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله.
وقوله: لله هذه «اللام» تسمى لام الإضافة، ولها معنيان، أحدهما: الملك، نحو المال لزيد، والآخر: الاستحقاق، نحو الحبل للدابة، أي: استحقته، وكذلك الباب للدار.
وقوله: رب العالمين الرب فِي اللغة له معنيان، أحدهما: أن يكون من الرب بمعنى التربية، يقال: رب فلان الضيعة يربها ربا.
إذا أتمها وأصلحها، فهو رب، مثل بر وطب، قال الشاعر:
يرب الذي يأتي من الخير إنه ... إذا فعل المعروف زاد وتمما
والمعنى على هذا: أنه يربى الخلق ويغذيهم بما ينعم عليهم.
والثاني: أن يكون الرب بمعنى المالك، يقال: رب الشيء.
إذا ملكه، وكل من ملك شيئا فهو ربه، يقال: هو رب الدار ورب الضيعة.
والله تعالى رب كل شيء، أي: مالكه.
وقوله: العالمين هو جمع عالم، على وزن فاعل، نحو خاتم وطابع ووافق وقالب، وهو اسم عام لجميع
(1/66)
1
المخلوقات، يقال: العالم محدث.
وهذا قول الحسن، ومجاهد وقتادة فِي تفسير «العالم» أنه جميع المخلوقات.
قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] المالك: الفاعل من الملك، يقال: ملك الشيء يملكه ملكا وملكا ومملكة.
ويقرأ هذا الحرف بوجهين: مالك وملك، فمن قرأ ملك قال: الملك أشمل وأتم، لأنه يكون مالك ولا ملك له، ولا يكون ملك إلا وله ملك، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا.
ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه: 114] وقوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23] وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ، ولم يقل: المالك.
ومن قرأ مالك فلأنه أجمع وأوسع، لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء، ولا يقال: ملك كل شيء.
إنما يقال: ملك الناس.
ولا يكون مالك الشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون ملك الشيء وهو لا يملكه كقولهم: ملك العرب والعجم.
والدين: الجزاء، ويوم الدين: يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
تقول العرب: دنته بما فعل.
أي: جازيته، ومنه قوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] أي: مجزيون، وتقول العرب: كما تدين تدان، أي: كما تجازي تجازى، ومعنى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] : أنه ينفرد فِي ذلك اليوم بالحكم، بخلاف الدنيا فإنه يحكم فِيها الولاة والقضاة، ولا يملك أحد الحكم فِي ذلك اليوم إلا الله.
وتقدير الآية: مالك يوم الدين الأحكام، وحذف المفعول من الكلام للدلالة عليه، ومن قرأ ملك يوم الدين فمعناه: أنه يتفرد بالملك فِي ذلك اليوم، لزوال ملك الملوك، وانقطاع أمرهم ونهيهم، وهذا كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26] .
(1/67)
1
قوله: إياك نعبد «إيا» ضمير المنصوب المنفصل، ويدخل عليه المكاني من الياء، والنون، والكاف، والهاء نحو: إياي، وإيانا، وإياك، وإياه، ويستعمل مقدما على الفعل نحو: إياك أعني، إياك نعبد، ولا يستعمل مؤخرا، لا يقال: قصدت إياك.
فإذا فصلت بينه وبين الفعل «بإلا» جاز التأخير، نحو: ما عنيت إلا إياك.
ونعبد من العبادة، وهي الطاعة مع الخضوع، ولا يستحقها إلا الله عز وجل، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه، «وطريق معبد» : إذا كان مذللا بالأقدام.
وإياك نستعين: أصله: نستعون من المعونة، سكن ما قبل الواو فاستثقلت فنقلت إلى العين، فصار نستعين، ومعناه: نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلها.
قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] معنى الهداية فِي اللغة: الدلالة، يقال: هداه فِي الدين يهديه هدى.
وهداه يهديه هداية.
إذا دله على الطريق.
والصراط أصله بالسين، لأنه من الاستراط، بمعنى الابتلاع، فالسراط يسترط السابلة.
فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد فلأنها أخف على اللسان، لأن الصاد حرف مطبق كالطاء، فيتقاربان ويحسنان فِي السمع.
ومن قرأ بالزاي أبدلَ من السين حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء فِي الجهر، ويحتج بقول العرب: «زقر» فِي «صقر» .
ومن قرأ بإشمام الزاي فإنه لم يجعلها زايا خالصةً ولا صادا خالصة لئلا يلتبس أصل الكلمة بأحدهما، وكلها لغات.
ومعنى سؤال المسلمين الهدى وهم مهتدون: التثبيت على الهدى وهذا كما نقول للقائم: قم حتى أعود إليك.
أي: اثبت على قيامك.
(1/68)
1
والصراط المستقيم: كتاب الله عز وجل وهو القرآن.
روي ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد الله بن مسعود، وأبي العالية.
وروى السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: هو الإسلام.
وكذلك روي عن جابر قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] أي: بالثبات على الإيمان والاستقامة والهداية إلى الصراط، وهم: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وهذا قول أبي العالية.
وقال السدي وقتادة: يعني طريق الأنبياء.
وقال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا دين الله تعالى.
(1/69)
1
قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] : غير: منخفض على ضربين: على البدل من الذين، وعلى صفة الذين، لأن {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] هم الذين أنعم عليهم، لأن من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه، ومعنى الغضب من الله: إرادة العقوبة.
قوله: ولا الضالين أصل الضلال فِي اللغة: الغيبوبة، يقال: ضل الماء فِي اللبن إذا غاب فِيهِ.
وضل الكافر إذا غاب عن المحجة.
ومن هذا قوله تعالى: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة: 10] ، أي: غبنا فِيها بالموت وصرنا ترابا.
والمغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى، والله تعالى حكم على اليهود بالغضب فِي قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] ، وعلى النصارى بالضلال فِي قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} [المائدة: 77] .
ومعنى الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام، ولم تغضب عليهم كما غضبت على اليهود، ولم يضلوا عن الحق كما ضلت النصارى.
ويستحب للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة: آمين.
مع سكتة على نون ولا الضالين، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن.
وفيه لغتان: آمين بالمد، وآمين بالقصر، ومعناهما: اللهم استجب، وهي موضوعة لطلب الإجابة.
18 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ
(1/70)
1
الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي إِذَا بَرَزْتُ أَسْمَعُ مَنْ يُنَادِينِي وَلا أَرَى شَيْئًا» ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: قُلْ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فَقَالَهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: قُلْ: آمِينَ
19 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْقِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَقُولُ:
(1/71)
1
آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِي الصَّحِيحِ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
(1/72)
1
القول فِي فضائل
سورة البقرة
مدنية، وآياتها ست وثمانون ومائتان.
20 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّوْسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأبِيوَرْدِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»
21 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
(1/73)
1
الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ»
22 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
(1/74)
1
عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجَرَشِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْبَقَرَةُ» ، قِيلَ: أَيُّ الْبَقَرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «آيَةُ الْكُرْسِيِّ»
التفسير {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {3} وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} } [البقرة: 1-5] قوله عز وجل: الم: كثر اختلاف المفسرين فِي الحروف المقطعة فِي القرآن، فذهب قوم إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلا إلى إدراك معانيها، وأنها مما استأثر الله تعالى بعلمها، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل علمها إلى الله تعالى.
قال داود بن أبي هند: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فقال: يا داود إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما سوى ذلك.
(1/75)
1
وفسرها الآخرون، فقال ابن عباس، فِي رواية سعيد بن جبير وأبي الضحى: الم أنا الله أعلم.
وقال الضحاك: كل الم فِي القرآن: أنا الله أعلم.
وهذا اختيار الزجاج، قال: المختار ما روي عن ابن عباس هو أن معنى الم: أنا الله أعلم، وأن كل حرف منها له تفسير.
قال: والدليل على ذلك أن العرب قد تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها.
وأنشد:
قلت لها قفي لنا قالت قاف
فنطق بقاف فقط يريد: قالت قف.
ويروى عن الحسن، أنه قال: الم وسائر حروف التهجي فِي القرآن: أسماء للسور.
وعلى هذا القول إذا قال القائل: قرأت المص.
عرف السامع أنه قرأ ال { [التي افتتحت ب المص.
قوله عز وجل: ذلك الكتاب: ذلك يجوز أن يكون بمعنى: هذا، عند كثير من أهل التفسير.
قال الفراء: ومثاله فِي الكلام أنك تقول: قد قدم فلان.
فيقول السامع: قد بلغنا ذلك.
أو يقول: قد بلغنا
(1/76)
1
الخبر.
فصلحت: هذا، لأنه قرب من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت: ذلك لانقضاء كلامه، والمنقضي كالغائب.
وذكر ابن الأنباري لهذا شرحا شافيا فقال: إنما قال عز ذكره: ذلك الكتاب، فأشار إلى غائب، لأنه أراد: هذه الكلمات يا محمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، لأن الله تعالى لما أنزل على نبيه عليه السلام:] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [سورة المزمل: 5] كان واثقا بوعد الله إياه، فلما أنزل الله تعالى عليه: {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1-2] دله على الوعد المتقدم.
وقال الزجاج: القرآن: ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى، وعيسى.
فجعل الم بمعنى القرآن، لأنه من القرآن.
والكتاب مصدر كتبتُ، ويسمى المكتوب كتابا، كما يسمى المخلوق خلقا، والمفعول يسمى بالمصدر، يقال: هذا درهم ضرب الأمير.
أي: مضروبه، وهذا الثوب نسج اليمن.
أي: منسوجه.
وأصل الكتب فِي اللغة: الجمع والضم، يقال: كتبت البغلة.
إذا ضممتَ بين شفريها بحلقة، وكتبت السقاء.
إذا خرزته، والكتب: الخروز، واحدتها: كتبة، والكتابة: جمع حرف إلى حرف.
والمراد ب الكتاب ههنا: القرآن، فِي قول جميع المفسرين.
قوله: لا ريب فِيهِ: الريب: الشك، قال أبو زيد: يقال: رابني من فلان أمر رأيته منه ريبا.
إذا كنت مستيقنا منه الريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فِيهِ.
إذا ظننته من غير أن تستيقنه.
قال سيبويه: «لا» تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب «إنَّ» ، إلا أنها تنصب بغير تنوين، وإنما شبه «لا» ب «إنَّ» ، لأن «إن» للتحقيق فِي الإثبات و «لا» فِي النفي، فلما كان لا تقتضي تحقيق النفي كما تقتضي «إن» تحقيق الإثبات أجري مجراه، وهي مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد.
(1/77)
1
وموضع لا ريب رفع بالابتداء عند سيبويه، لأنه بمنزلة: «خمسة عشر» إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه بالرفع فِي قول الشاعر:
لا أم لي أن كان ذاك ولا أب
وموضع فِيهِ رفع لأنه خبر بالابتداء الذي هو لا ريب.
فإن قيل: كيف قال لا ريب فِيهِ وقد ارتاب به المبطلون؟ قيل: معناه: أنه حق فِي نفسه، وصدق وإن ارتاب به المبطلون، كما قال الشاعر:
ليس فِي الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب
فنفى الريب عن الحق، وإن كان المتقاصر فِي العلم يرتاب.
ويجوز أن يكون خبرا فِي معنى النهي، ومعناه: لا ترتابوا، كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
قوله: هدى للمتقين معنى الهدى: البيان، لأنه قوبل به الضلالة فِي قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] ، أي: من قبل هداه.
ومعنى الاتقاء فِي اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بترسه.
أي: جعل الترس حاجزا بينه وبينه، ومنه التقية فِي الدين: يجعل ما يظهر حاجزا بينه وبين ما يخشاه من المكروه، ومنه الحديث: «كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أقربنا إلى العدو» .
(1/78)
1
فالمتقي: هو الذي يتحرز بطاعته عن العقوبة، ويجعل اجتنابه عما نهي عنه، وفعله ما أمر به حاجزا بينه وبين العقوبة التي توعد بها العصاة.
والمراد ب المتقين فِي هذه الآية: المؤمنون الذين اتقوا الشرك، وجعلوا إيمانهم حاجزا بينهم وبين الشرك، كأنه قال: القرآن بيان وهدى لمن اتقى الشرك وهم المؤمنون.
وخص المؤمنين بأن الكتاب بيان لهم دون الكفار، الذين لم يهتدوا بهذا الكتاب، لانتفاعهم به دونهم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ، وكان عليه السلام منذرا لمن خشي ولمن لم يخش.
قال ابن الأنباري: معناه: هدى للمتقين والكافرين، فاكتفى بأحد الفريقين عن الآخر كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ، أراد الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما.
وأما إعراب هدى فقال الزجاج: يجوز أن يكون موضعه نصبا على الحال كأنه قال: هاديا للمتقين، ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار هو، كأنه لما تم الكلام قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون الوقف على قولك لا ريب، أي: ذلك الكتاب لا ريب ولا شك، كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا.
لأن لا شك بمعنى: حقا، ثم قيل بعد فِيهِ هدى.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] قال الزجاج: موضع الذين خفض نعتا للمتقين.
ومعنى يؤمنون: يصدقون، قال الأزهري: اتفق العلماء أن الإيمان معناه التصديق، كقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: بمصدق.
(1/79)
1
ومعنى التصديق: هو اعتقاد السامع صدق المخبر فيما يخبر، فمن صدَّق الله تعالى فيما أخبر به فِي كتابه وصدَّق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر معتقدا بالقلب تصديقَهما فهو مؤمنٌ.
وأنشد ابن الأنباري، على أن آمن معناه: صدق، قولَ الشاعر:
ومن قبل آمنا وقد كان قومنا ... يصلون للأوثان قبل محمدا
معناه: من قبل آمنا محمدا، أي: صدقنا محمدا.
والغيب: ما غاب، وهو مصدر غاب يغيب غيبا، وكل ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] والعرب تسمي المكان المنخفض من الأرض: الغيب، لأنه غائب عن الأبصار.
والمراد ب الغيب المذكور ههنا: ما غاب علمه عن الحس والضرورة مما يدرك بالدليل.
قال قتادة: آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، كل هذا غيب.
وقال أبو العالية: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وجنته وناره، ولقائه، وبالبعث بعد الموت.
قال الزجاج: وكل ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو غيب.
23 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
(1/80)
1
مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سَبَقُوا بِهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1-3] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]
وقوله: ويقيمون الصلاة أي: يديمونها، ويحافظون عليها، ويقال: قام الشيء.
إذا دام وثبت.
وأقامه.
إذا أدامه، والصلاة معناها فِي اللغة: الدعاء، ومنه الحديث: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليصل» .
قال أبو عبيدة: قوله: «فليصل» أي: فليدع له بالبركة والخير، وكل داع فهو مصل.
هذا معنى الصلاة فِي اللغة، ثم ضمت إليها هيئات وأركان سميت مجموعها صلاة، قال قتادة فِي قوله: ويقيمون
(1/81)
1
الصلاة: إقامتها: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
وقوله: ومما رزقناهم يقال: رزق الله الخلق رزقا ورزقا، فالرَّزق، بالفتح، هو المصدر الحقيقي، والرِّزق: الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر، وكل ما انتفع به العبد فهو رزقه من مال وولد وعبد وغيره.
وقوله: ينفقون معنى الإنفاق فِي اللغة: إخراج المال من اليد، ومن هذا يقال: نفق المبيع.
إذا كثر مشتروه فخرج عن يد البائع، ونفقت الدابة.
إذا خرجت روحها، قال قتادة: ينفقون فِي طاعة الله وسبيله.
قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] الآيةَ، قال مجاهد: الآيات الأربع من أول هذه ال { [نزلت فِي جميع المؤمنين، سواء كانوا من العرب أو من أهل الكتاب، وقال ابن عباس، وابن مسعود: إن آيتين من أول السورة نزلتا فِي مؤمني العرب، والآيتان بعدهما نزلتا فِي مؤمني أهل الكتاب، لأنه لم يكن للعرب كتاب كانوا مؤمنين به قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمراد بقوله:] بما أنزل إليك} : القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة البقرة: 4] يعني: الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل.
وقوله: وبالآخرة أي: وبالدار الآخرة، هم يوقنون يقال: يقن ييقن يقنا فهو يقين، وأيقن بالأمر واستيقن وتيقن كله واحد.
واليقين: هو العلم الذي يحصل بعد استدلال ونظر، ولا يجوز أن يسمى علمُ الله تعالى يقينا، لأن علمه لم يحصل عن استدلال ونظر، والمعنى: أنهم يؤمنون بالآخرة ويعلمونها علما باستدلال.
قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] «أولاء» : كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو «هم» ، والكاف فِيهِ للمخاطبة، نحو كاف «ذلك» .
(1/82)
1
والمعنى: هم على بيان وبصيرة من عند ربهم، لأن الله تعالى هداهم لدينه.
{وأولئك هم المفلحون} قال الزجاج: يقال لكل من أصاب خيرا: مفلح.
قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] ، و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] .
والمعنى: هم الذين أدركوا البغية ووجدوا النعيم المقيم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {6} خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {7} } [البقرة: 6-7] قوله: إن الذين كفروا الآية، قال الضحاك: نزلت فِي أبي جهل وخمسة من أهل بيته.
وقال الكلبي: يعني اليهود.
يقال: كفر كفرا وكفورا.
كما يقال: شكر شكرا وشكورا.
ومعنى الكفر فِي اللغة: الستر، قال ابن السكيت: كل ما ستر شيئا فقد كفره، ومنه قيل: الليل كافر.
لأنه يستر بظلمته الأشياءَ، ومنه سمي الكافر كافرا لأنه ستر إنعام الله تعالى بالهدى والآيات التي بانت لذوي التمييز: أن الله تعالى واحد لا شريك له، فمن لم يصدق بها وردها فقد كفر النعمة، أي: سترها وغطاها.
والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، فمن لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له.
(1/83)
1
أما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، وكفر الجحود: أن يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر أمية بن أبي الصلت، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] يعني: كفر الجحود.
وأما كفر المعاندة: فهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يقبل ولا يدين به، ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وأما كفر النفاق: فأن يقر بلسانه، ويكفر بقلبه.
وقوله تعالى: سواء عليهم أي: معتدل ومتساو عندهم، أأنذرتهم: أأعلمتهم وخوفتهم.
والإنذار: إعلام مع تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، يقال: أنذرته فنذر.
أي: علم بموضع الخوف.
قال الوالبي، عن ابن عباس فِي هذه الآية: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة فِي الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله تعالى الشقاء فِي الذكر الأول.
ثم ذكر السبب فِي تركهم الإيمان فقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] قال الزجاج: معنى «ختم» ، «وطبع» فِي اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء
(1/84)
1
والاستيثاق منه بأن لا يدخله شيء، والختم على الوعاء يمنع الدخول فِيهِ والخروج منه، كذلك الختم على قلوب الكفار، يمنع دخول الإيمان فِيها وخروج الكفر منها، وإنما يكون ذلك بأن يخلق الله الكفر فِيها، ويصدهم عن الهدى فلا يدخل الإيمان فِي قلوبهم كما قال الله عز وجل: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] وقوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وحَّد السمع لأنه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، وقال سيبويه: اكتفى من الجمع بالواحد لأنه توسط جمعين فصار كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] ، وقوله {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] .
وتم الكلام، ههنا، ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] الأبصار: جمع البصر وهو العين، يقال: تبصرت الشيء إذا رأيته.
والغشاوة: الغطاء، ويقال للجلدة التي على الولد: غشاوة.
ومثل هذه الآية فِي المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النحل: 108] ، وطبع فِي المعنى ك ختم.
قال الزجاج فِي هذه الآية: إنهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكن لم يستعملوا هذه الحواسَّ استعمالا ينفعهم، فصاروا كما لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر.
وقوله: {ولهم عذاب عظيم} العذاب: كل ما يُعَنِّي الإنسان ويشق عليه، والعظيم: فعيل من العظم، وهو كثرة المقدار فِي الجثة، ثم قيل: كلام عظيم، وأمر عظيم.
أي: عظيم القدر، يريدون به: المبالغة فِي وصفه.
ومعنى وصف العذاب العظيم: هو المواصلة بين أجزاء الآلام، بحيث لا يتخللها فرجة.
(1/85)
1
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {10} } [البقرة: 8-10] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] : الناس: لفظ وضع للجمع كالنوم والرهط والجيش وواحده: إنسان، لا من لفظه.
وقوله: وباليوم الآخر يعني: يوم القيامة، وسمي آخرًا لأنه بعد أيام الدنيا.
وقوله: {وما هم بمؤمنين} : جمع بعد التوحيد فِي من يقول لأن لفظ من يصلح للواحد وللجميع، فقوله: من يقول يجوز أن يراد به الجمع وإن كان اللفظ على واحد.
قال المفسرون: نزلت هذه الآية فِي المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان وأسروا الكفر، فأخبر الله سبحانه أنهم يقولون: إنا مؤمنون.
ويظهرون كلمة الإيمان، ثم نفى الله عنهم الإيمان فقال: {وما هم بمؤمنين} ، فدل على أن حقيقة الإيمان ليس الإقرار فقط.
قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] : يخادعون: يفاعلون، من الخدع، يقال: خدعته خدْعًا وخدَعًا وخديعةً، إذا أظهر له غير ما يضمر.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يظهرون غير ما فِي نفوسهم ليدرءوا عنهم أحكام الكفر فِي ظاهر الشريعة من القتل والجزية وغيرهما.
فإن قيل: المفاعلة تكون بين اثنين، والله تعالى يَجِلُّ أن يشاركهم فِي الخداع، فما وجه قوله: يخادعون الله؟ قيل: يخادعون ههنا بمعنى: يخدعون.
قال أبو عبيدة: خادعت الرجل بمعنى: خدعته.
والمفاعلة كثيرًا ما يقع من الواحد، كالمعافاة والمعاقبة وطارقت النعل، على هذا.
(1/86)
1
وقال الحسن: يخادعون الله: أي نبيه، لأن الله بعث نبيه بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] ، وإذا خادعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد خادعوا الله.
وقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] قرئ بوجهين: فمن قرأ بالألف قال: هو من المفاعلة التي تقع من الواحد كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] ، فلما وقع الاتفاق على الألف فِي قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] أجري الثاني على الأول طلبًا للتشاكل.
ومن قرأ: يخدعون قال: إن فَعَلَ أُوِّلَ بفعل الواحد، من فاعل الذي فِي أكثر الأمر يكون لفاعلين.
ومعنى قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] : هو أنهم طلبوا الخداع فلم يخدعوا الله ولا المؤمنين وما خدعوا إلا أنفسهم، لأن وبال خداعهم عاد عليهم، لا أن الله تعالى يطلع نبيه على أسرارهم ونفاقهم فيفتضحون فِي الدنيا، ويستوجبون العقاب فِي العقبى.
وقوله وما يشعرون أي: وما يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم، وأن وبال خداعهم يعود عليهم.
قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] : قال ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وقتادة، وجميع المفسرين: أي: شك ونفاق.
وقال الزجاج: المرض فِي القلب: كل ما خرج به الإنسان من الصحة فِي الدين.
وقوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] أي: بما أنزل من القرآن، فشكوا فِيهِ كما شكوا فِي الذي قبله.
(1/87)
1
قوله: {ولهم عذاب أليم} : الأليم بمعنى: المؤلم، كالسميع بمعنى المسمع، وهو العذاب الذي يصل وجعه إلى قلوبهم.
قوله: {بما كانوا يكذبون} : «ما» : فِي تأويل المصدر، أي: بتكذيبهم وبكونهم مكذبين.
وقرأ أهل الكوفة يكذبون بالتخفيف، من الكذب، وهو أشبه بما قبله وما بعده لأن ما قبله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] ، وهذا كذب منهم، وبعده قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] ، وهذا يدل على كذبهم فِي دعوى الإيمان.
وقال ابن عباس: {بِمَا كَانُوا يكذّبُونَ} [البقرة: 10] يعني: تكذيب الأنبياء.
قال: ومن خففها فالمراد أنهم يتكلمون بما يعلم الله خلافه فِي قلوبهم، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ {12} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ {14} اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {16} } [البقرة: 11-16] قوله: {وإذا قيل لهم} : موضع «إذا» من الإعراب نصب، لأنه اسم للوقت، كأنك قلت: وحين قيل لهم، أو يوم قيل لهم.
وقيل: كان فِي الأصل: قُوِل، فنقلت كسرة الواو إلى القاف، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فصارت ياءً.
والكسائي يُشِمُّ قيل وأخواتِه الضمَّ، ليدل بذلك على أنه كان فِي الأصل «فعل» .
ومعنى الآية {وإذا قيل لهم} يعني: لهؤلاء المنافقين، {لا تفسدوا فِي الأرض} بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] يظهرون هذا القول كذبا ونفاقا، كما أنهم قالوا: آمنا وهم كاذبون.
(1/88)
1
فرد الله عليهم قولَهم: {نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] ، قال الزجاج: ألا: كلمة يُبتدأ بها، يُنبَّه بها المخاطب ليُدَلَّ على صحة ما بعدها، وهم لتأكيد الكلام.
والمعنى: هم المفسدون أنفسَهم بالكفر، والناسَ بالتعويق عن الإيمان، ولكن لا يشعرون لا يعلمون أنهم مفسدون، لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاحٌ.
ولكنْ: معناها استدراك بإيجاب بعد نفي، أو نفي بعد إيجاب كالتي فِي هذه الآية، لأنه إذا قيل: هم المفسدون سبق إلى الوهم أنهم يفعلون ذلك من حيث يشعرون، فقال: ولكن لا يشعرون فاستدرك بالنفي بعد الإيجاب.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] الآية، قال جميع المفسرين: المراد بالناس فِي هذه الآية أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذين آمنوا به.
والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: آمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما آمن أصحابه.
قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار.
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] الألف فِي أنؤمن استفهام معناه: الجحد والإنكار، أي: لا نفعل كما فعلوا، والسفهاء: الجهال الذين قلت عقولهم، جمع السفيه، ومصدره: السَّفَهُ، والسَّفاهة والسفاه.
قال أهل اللغة: معنى السفه: الخفة، والسفيه: الخفيف العقل، ولهذا سمى الله تعالى الصبيان والنساء سفهاء فِي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، لجهلهم وخفة عقلهم.
وعنوا ب السفهاء: أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس: قالوا: أولئك سفهاؤنا.
فإن قيل: كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] ؟ قيل: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم، لا عند المؤمنين، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.
(1/89)
1
قال ابن عباس: فرد الله عليهم جواب كفرهم فقال: ألا إنهم هم السفهاء لا المؤمنون الذين صدقوا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا يعلمون ولكنهم لا يعلمون ما يقولون.
قوله: وإذا لقوا الذين آمنوا الآية، قال المفسرون: أراد ب الذين آمنوا: أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأصحابَه، وذلك أن المنافقين كانوا إذا لقوهم واجتمعوا معهم قالوا: إيماننا كإيمانكم ونحن معكم.
يقال: لقيته لقاء ولقيانا ولقيا، وكل شيء استقبل شيئا فقد لقيه.
وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] يقال: خلوت بفلان، أخلو به خلوة وخلاء.
وخلوت معه وخلوت إليه بمعنًى واحدٍ.
والشيطان: كل متمرد عات من الجن والإنس، قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] ، واشتقاقه من شطن، أي: بعد، فمعنى الشيطان: البعيد من الجنة.
قال الزجاج: ومعنى الشيطان: الغالي فِي الكفر، المتعبد فِيهِ من الجن والإنس.
قال ابن عباس: أراد ب شياطينهم: كبراءهم ورؤساءهم.
وقوله: إنا معكم أي: على دينكم، إنما نحن مستهزءون بأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث نقول لهم: آمنا.
يقال: هزئ به يهزأ وتهزأ به، واستهزأ به.
وهو أن يظهر غير ما يضمر، استصغارا وعبثا.
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] أي: يجازيهم جزاء استهزائهم، فسمى الجزاء باسم المجازى عليه كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، فسمى الثاني سيئة باسم الأول، وقال أيضًا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] .
(1/90)
1
قال ابن عباس، فِي رواية عطاء، فِي قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] : هو أن الله تعالى إذا قسم النور يوم القيامة للجواز على الصراط أعطى المنافقين مع المؤمنين نورًا، حتى إذا ساروا على الصراط طُفِئَ نورُهم.
قال: فذلك قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ، حيث يعطيهم ما لا يتم ولا ينتفعون به.
وروي عنه، أيضًا، أنه قال: هو أن الله تعالى يطلع المؤمنين وهم فِي الجنة على المنافقين وهم فِي النار، فيقولون لهم: أتحبون أن تدخلوا الجنة؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم بابٌ من الجنة، ويقال لهم: ادخلوا.
فيسيرون وينقلبون فِي النار، فإن انتهوا إلى الباب سُدَّ عنهم ورُدوا إلى النار، ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {35} هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {36} } [المطففين: 34-36] .
24 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَادكَ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ الْكِلابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جُنَادَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ:
(1/91)
1
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنَاسٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَاسْتَنْشَقُوا رَائِحَتَهَا، وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا، نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، قَالَ: فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ بِمِثْلِهَا الأَوَّلُونَ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا، قَالَ: ذَلِكَ أَرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بِي بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلافِ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي وَأَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي، وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمُ الْعَذَابَ الأَلِيمَ، مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ الثَّوَابِ "
قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] أي: يمهلهم ويطول أعمارهم ومدتهم.
والطغيان: مصدر كالرجحان والكفران، ومعناه: مجاوزة القدر، وكل شيء جاوز القدر فقد طغى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] ، وقيل لفرعون: {إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] ، أي: أسرف حيث ادعى الربوبية.
ومعنى يعمهون: يترددون متحيرين، يقال: عمه الرجل يعمه فهو عامهٌ وعَمِهٌ إذا حار عن الحق.
قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] حقيقة الاشتراء: الاستبدال، والعرب تجعل من آثر شيئًا على شيء مشتريًا له وبائعًا للآخر، وإن لم يكن ثَمَّ شراءٌ ولا بيعٌ ظاهرٌ.
قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
(1/92)
1
وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] الربح: الزيادة على أصل المال، والتجارة: تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء، يقال: تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر.
والمعنى: ما ربحوا فِي تجارتهم، وأضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فِيها، والعرب تقول: ربح بيعك، وخسر بيعك، وخاب سعيك.
على معنى: ربحت فِي بيعك، فيسندون الربح إلى البيع، وما كانوا مهتدين أي: مصيبين فِي تجارتهم.
ثم ضرب الله مثلًا للمنافين فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ {17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ {18} } [البقرة: 17-18] {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] : والمثل من الكلام: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فِيهِ: التشبيه، وحقيقته: ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول، مثال ذلك قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلًا ... وما مواعيده إلا الأباطيل
فمواعيد عرقوب: علم فِي كل ما لا يصح من المواعيد.
واستوقد بمعنى: أوقد.
وأضاء: يكون لازمًا ومتعديًا، يقال: أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره، وأضاءت النار، وأضاءها غيرها، والذي فِي هذه الآية متعد.
وما فِي قوله: ما حوله: منصوب بوقوع الإضاءة عليه، وحوله نصب على الظرف، يقال: هم حوله وحوليه وحواله وحواليه.
قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والسدي: يقول: مَثَلُ هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارا فِي
(1/93)
1
ليلة مظلمة فِي مغارة، فاستضاء بها واستدفأ، ورأى ما حوله، فاتقى ما يحذر ويخاف، وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي مظلما خائفا متحيرا، كذلك المنافقون، لما أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها، واعتزوا بعزها وأمنوا، فناكحوا المسلمين ووارثوهم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، وبقوا فِي العذاب، وذلك معنى قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] .
وكان يجب فِي حق النظم أن يكون اللفظ: فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره، ليشاكل جواب لما معنى هذه القصة، ولكن كان إطفاء النار مثلا لإذهاب نورهم، أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء، وجعل جواب لما اختصارا وإيجازا.
ومعنى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وهو أن الله تعالى يسلب المنافقين ما أعطوا من النور مع المؤمنين فِي الآخرة، وذلك قوله تعالى، فيما أخبر عنهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] .
قوله: صم أي: هم صم، جمع أصم، وهو المُنْسَدُّ الأذن، يقال: رمح أصم إذا لم يكن أجوفَ.
وصخرة صماء: إذا كانت صلبة.
وإنما وصفوا بالصم لتركهم قبول ما يسمعون، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل على ما يسمعه: أصم.
بكم أي: عن الخير فلا يقولونه، عمي لتركهم ما يبصرون من الهدى والقرآن.
وقوله: فهم لا يرجعون أي: عن الجهل والعمى إلى الإيمان.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ {19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {20} } [البقرة: 19-20] قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] الآية، الصيب من المطر: الشديد، من قولهم: صاب يصوب، إذا نزل من علو إلى سفل.
والسماء: كل ما ارتفع وعلا، يقال لسقف البيت: سماء.
ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] ، والسماء: السحاب، من سما يسمو.
وقوله: فِيهِ: أي فِي ذلك الصيب، ظلمات: جمع ظلمة، والمطر لا يخلو من ظلمة، لأنه يأتي من السحاب، والسحاب يغشي الشمس بالنهار، والنجوم بالليل فيظلم الجو.
(1/94)
1
قوله: ورعد وبرق: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن أشياء، فإن أجبتنا عنها اتبعناك، أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث ما أمر الله» .
فقالوا: فما هو الصوت الذي نسمعه؟ قال: «زجرة السحاب، إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله» .
فقالوا: صدقت.
وقال أصحاب ابن عباس: مجاهد وطاوس وعكرمة: الرعد: ملك يزجر السحاب بصوته، ويسوقه، والرعد الذي هو الصوت سمي به.
وسئل وهب بن منبه عن الرعد، فقال: الله أعلم.
25 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَلاءِ أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّعْدَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لا يُصِيبُ ذَاكِرًا»
(1/95)
1
والبرق: مصع ملك يسوق السحاب، وقال علي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البرق: مخاريق بأيدي الملائكة.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى البرق وسمع الصواعق قال: «اللهم لا تهلكنا بعذابك، ولا تقتلنا بغضبك، وعافنا قبل ذلك» .
وأما معنى الآية، فقال المفسرون: إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلا آخر وشبههم بأصحاب مطر.
ومعنى أو كصيب: أو كأصحاب صيب، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وأراد بالمطر: القرآن، وشبهه بالمطر لما فِيهِ من حياة القلوب، وبالظلمات: لما فِي الكفر من ذكر الكفر والشرك، وبيان الفتن والأهوال، وبالرعد: لما خوفوا به من الوعيد وذكر النار، وبالبرق: حجج القرآن وما فِيهِ من البيان والنور والشفاء والهدى، وشبه جعل المنافقين أصابعهم فِي آذانهم لكيلا يسمعوا ما ينزل من القرآن ما فِيهِ افتضاحهم بجعل الذي فِي هذا المطر أصابعه فِي أذنه كيلا يسمع صوت الرعد.
والصواعق: وهي جمع صاعقة، والصاعقة والصعقة: الصيحة، يغشى منها على من يسمعها أو يموت، قال الله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13] .
ويقال للرعد والبرق إذا قتل إنسانًا: أصابته صاعقة.
وقيل: الصاعقة: الصوت الشديد من الرعد يسقط معها قطعة نار.
وقوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19] : قال الزجاج: إنما نصب حذر لأنه فِي تأويل المصدر، كأنه قيل: يحذرون حذرا، لأن جعل الأصابع فِي الآذان يدل على الحذر.
وقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] : قال مجاهد: جامعهم يوم القيامة، يقال: أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شيء،
(1/96)
1
كقوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ، أي: لم يشذ عن علمه شيء.
وجاء فِي التفسير: والله مهلكهم، يقال: أحاط بفلان، إذا دنا هلاكه فهو محاط به.
قال الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي: أصابه ما أهلكه وأفسده، وقوله تعالى: {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي: تهلكوا جميعا.
وقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] : كاد: موضوع عند العرب لمقاربة الفعل، وكدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء.
والخطف: أخذ باستلاب، يقال: خطف يخطف خطفا، ومنه الخطاف.
وهذه الآية من تمام التمثيل، والمعنى: يكاد ما فِي القرآن من الحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر فِي أمر دينهم، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} [البقرة: 20] البرق، {مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق، كذلك المنافقون كلما قرئ عليهم شيء من القرآن مما يحبون صدقوا، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 20] الطريق، قاموا أي: وقفوا، كذلك المنافقون كلما سمعوا شيئا مما يكرهون وينكرون وقفوا عن تصديقه، وتم التمثيل ههنا ثم أوعدهم فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] أي: لو شاء الله لأصمهم وأعماهم فذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة حتى يصيروا صما عميا، كما ذهب بأسماعهم وبأبصارهم الباطنة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] أي أنه ذو قدرة على إيقاع ما أوعدهم به، فليحذروا عاجل عقوبة الله وآجله.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {22} } [البقرة: 21-22] قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] : يأيها الناس: عموم فِي كل مكلف من مؤمن وكافر، ويروى عن الحسن وعلقمة أن يأيها الناس خطاب لأهل مكة، ويأيها الذين آمنوا خطاب لأهل المدينة.
ومعنى اعبدوا ربكم: اخضعوا له بالطاعة، ولا يجوز ذلك إلا لمالك الأعيان.
(1/97)
1
قوله: الذي خلقكم: الخلق: إبداع شيء لم يسبق إليه، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه أولا على غير مثال سبق إليه.
ومعنى الآية: أن الله تعالى احتج على العرب بأنه خلقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] ، فقيل لهم: إذ كنتم معترفين بأن الله خالقكم فاعبدوه، فإن عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوقين من الأصنام.
وقوله: لعلكم تتقون: قال ابن الأنباري: لعل: يكون ترجيا ويكون بمعنى كي.
وقال سيبويه: لعل: كلمة ترجية وتطميع، أي: كونوا على رجاء وطمع أن تتقوا بعبادتكم عقوبة الله أن تحل بكم، كما قال فِي قصة فرعون: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] كأنه قال: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما، والله تعالى من وراء ذلك وعالم بما يئول إليه أمره.
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] : الأرض التي عليها الناس هي فراش الأنام، على معنى أنها فرشت لهم، أي: بسطت لهم، وهذا كقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] ، والمعنى: أنه لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها.
{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة: 22] يعني المطر، والمعنى: من نحو السماء، فحذف المضاف وإن جعلت السماء بمعنى السحاب لم يحتج إلى تقدير المضاف.
وقوله: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] : الثمرات: جمع ثمرة وهي حمل الشجرة فِي الأصل، ثم صارت اسما لكل ما ينتفع به مما هو زيادة على أصل المال، يقال: ثمر الله ماله، وعقل مثمر إذا كان يهدي صاحبه إلى رشد.
والثمرة: تستعمل فيما ينتفع به ويستمتع مما هو فرع الأصل.
قال المفسرون: أراد بالثمرات: جميع ما ينتفع به مما يخرج من الأرض.
وقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] : يقال: فلان ند فلان.
أي: شبهه ومثاله، قال حسان:
(1/98)
1
أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء
وقال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيم لذي حسب نديد
قال ابن عباس والسدي: لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم فِي معصية الله.
وقال ابن زيد: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه.
وقال الزجاج: هذا احتجاج عليهم لإقرارهم بأن الله خالقهم، فقيل لهم: لا تجعلوا لله أمثالا وأنتم تسلمون أنهم لا يخلقون، والله الخالق.
وقال ابن الأنباري: وأنتم تعلمون أن الأنداد التي تعبدونها لم ترفع لكم السماء، ولم تمهد لكم الأرض، ولم ترزقكم رزقا، وإنما وصفهم الله تعالى بهذا العلم لتتأكد الحجة عليهم إذا اشتغلوا بشيء يعلمون أن الحق فيما سواه.
26 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا وَالِدِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
(1/99)
1
إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ: أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، كُلُّهُمْ عَنْ جَرِيرٍ
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {23} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {24} وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {25} } [البقرة: 23-25] قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] : إن: دخلت ههنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب فِي خطابهم كقولك: إن كنت إنسانا فافعل كذا.
وأنت تعلم أنه إنسان، وإن كنت ابني فأطعني.
فخاطبهم الله تعالى على عادة خطابهم فيما بينهم.
وقيل: إن ههنا بمعنى: إذا.
قال أبو زيد: وتجيء إن بمعنى إذا، نحو قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
(1/100)
1
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، وقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ، وقال الأعشى:
وسمعت حلفتها التي حلفت ... إن كان سمعك غير ذي وقر
وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] : ال { [: عرق من عروق الحائط، وتجمع: سور وسور، وكل منزلة رفيعة فهي سورة، مأخوذة من سور البناء، ومنه قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وهذا قول أبي عبيدة وابن الأعرابي فِي تفسير السورة، فكل سورة من سور القرآن بمنزلة درجة عالية رفيعة ومنزل عال، يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن.
وقال أبو الهيثم: السورة من سور القرآن عندنا: قطعة من القرآن، وخص ذلك القدر بتسميته سورة، لأنه أقل قطعة وقع به التحدي.
وعلى هذا القول: هي مأخوذة من سؤر الشراب، وهي بقيته وقطعة منه، إلا أنها لما كثرت فِي الكلام ترك الهمز.
(1/101)
1
فإن قيل: ما الفائدة فِي تفصيل القرآن على السور؟ قيل: فِيهِ فوائد كثيرة منها: أن القارئ إذا خرج من سورة إلى سورة أخرى كان أنشط لقراءته وأحلى فِي نفسه.
ومنها: أن تختص كل سورة بقدر مخصوص كاختصاص القصائد.
ومنها: أن الإنسان قد يضعف عن حفظ الجميع، فيحفظ سورة تامة، فربما كان ذلك سببا يدعوه إلى حفظ غيرها.
قال المفسرون: ومعنى ال:: أن الله تعالى لما احتج عليهم فِي إثبات توحيده، احتج عليهم، أيضا، فِي إثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قطع عذرهم فقال:] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا} [البقرة: 23] أي: فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد، وقلتم: لا ندري هل هو من عند الله أم لا؟ {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أي: من مثل القرآن، كقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِ