فتح القدير للكمال ابن الهمام 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: فتح القدير
المؤلف: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ)
عدد الأجزاء: 10
[خِطْبَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا أَلْهَمَ وَعَلَّمَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ نَعْلَمْ،
(1/5)
 
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْلَى مَعَالِمَ الْعِلْمِ وَأَعْلَامَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ
(1/6)
 
 
وَأَظْهَرَ شَعَائِرَ الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ، الْمَبْعُوثِ إلَى سَائِر الْأُمَمِ بِالشَّرْعِ الْأَقْوَمِ وَالْمَنْهَجِ الْأَحْكَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ -[وَبَعْدُ] فَهَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى كِتَابِ الْهِدَايَةِ لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ بُرْهَانِ الدِّينِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْجَلِيلِ الرِّشْدَانِيِّ الْمَرْغِينَانِيِّ
(1/7)
 
 
وَبَعَثَ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - إلَى سُبُلِ الْحَقِّ هَادِينَ، وَأَخْلَفَهُمْ عُلَمَاءَ إلَى سُنَنِ سُنَنِهِمْ دَاعِينَ، يَسْلُكُونَ فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
شَيْخِ الْإِسْلَامِ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ دَارَ السَّلَامِ، شَرَعْت فِي كِتَابَتِهِ فِي شُهُورِ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي إقْرَائِهِ لِبَعْضِ الْإِخْوَانِ، أَرْجُو مِنْ كَرَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَهْدِيَنِي فِيهِ صَوَابَ الصَّوَابِ،
(1/8)
 
 
مُسْتَرْشِدِينَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ وَلِيُّ الْإِرْشَادِ، وَخَصَّ أَوَائِلَ الْمُسْتَنْبِطِينَ بِالتَّوْفِيقِ حَتَّى وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ جَلِيٍّ وَدَقِيقٍ غَيْرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ مُتَعَاقِبَةُ الْوُقُوعِ، وَالنَّوَازِلُ يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ الْمَوْضُوعِ، وَاقْتِنَاصُ الشَّوَارِدِ بِالِاقْتِبَاسِ مِنْ الْمَوَارِدِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ مِنْ صَنْعَةِ الرِّجَالِ، وَبِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَأْخُوذِ يُعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى الْوَعْدِ فِي مَبْدَإِ بِدَايَةِ الْمُبْتَدِي أَنْ أَشْرَحَهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْحًا أَرْسُمُهُ بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهِي، فَشَرَعْت فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَأَنْ يَجْمَعَ فِيهِ أَشْتَاتَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ لُبِّ اللُّبَابِ، لِيَكُونَ عُدَّةً لِطَالِبِي الرِّوَايَةِ، وَمَرْجِعًا لِصَارِفِي الْعِنَايَةِ فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ، وَإِيَّاهُ سُبْحَانَهُ أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَمُوجِبًا لِرِضَاهُ الْمُوصِلِ إلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. هَذَا، وَإِنَى كُنْت قَرَأْت تَمَامَ الْكِتَابِ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ عَلَى وَجْهِ الْإِتْقَانِ وَالتَّحْقِيقِ عَلَى سَيِّدِي الشَّيْخِ الْإِمَامِ بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَخَلَفِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ سِرَاجِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْكِنَانِيِّ الشَّهِيرِ بِقَارِئِ الْهِدَايَةِ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ بُحْبُوحَةَ جَنَّتِهِ، وَهُوَ قَرَأَهُ عَلَى مَشَايِخَ عِظَامٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ السِّيرَامِيُّ، وَهُوَ
(1/9)
 
 
وَالْوَعْدُ يُسَوِّغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ، وَحِينَ أَكَادُ أَتَّكِي عَنْهُ اتِّكَاءَ الْفَرَاغِ، تَبَيَّنْتُ فِيهِ نُبَذًا مِنْ الْإِطْنَابِ وَخَشِيت أَنْ يُهْجَرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابُ، فَصَرَفْت الْعِنَانَ وَالْعِنَايَةَ إلَى شَرْحِ آخَرِ مَوْسُومٍ بِالْهِدَايَةِ، أَجْمَعُ فِيهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ عُيُونِ الرِّوَايَةِ وَمُتُونِ الدِّرَايَةِ، تَارِكًا لِلزَّوَائِدِ فِي كُلِّ بَابٍ، مُعْرِضًا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِسْهَابِ، مَعَ مَا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أُصُولٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا فُصُولٌ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِهَا، وَيَخْتِمَ لِي بِالسَّعَادَةِ بَعْدَ اخْتِتَامِهَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَنْ شَيْخِهِ السَّيِّدِ الْإِمَامِ جَلَالِ الدِّينِ شَارِحِ الْكِتَابِ، وَهُوَ عَنْ شَيْخِهِ قُدْوَةِ الْأَنَامِ، بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَاءِ الدِّينِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّجَّارِيِّ صَاحِبِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ، وَهُوَ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أُسْتَاذِ الْعُلَمَاءِ حَافِظِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ، وَهُوَ عَنْ شَيْخِهِ
(1/10)
 
 
حَتَّى إنَّ مَنْ سَمَتْ هِمَّتُهُ إلَى مَزِيدِ الْوُقُوفِ يَرْغَبُ فِي الْأَطْوَلِ وَالْأَكْبَرِ، وَمَنْ أَعْجَلَهُ الْوَقْتُ عَنْهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَقْصَرِ وَالْأَصْغَرِ. وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ وَالْفَنُّ خَيْرٌ كُلُّهُ.
ثُمَّ سَأَلَنِي بَعْضُ إخْوَانِي أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ الْمَجْمُوعَ الثَّانِيَ، فَافْتَتَحْتُهُ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيرِ مَا أُقَاوِلُهُ مُتَضَرِّعًا إلَيْهِ فِي التَّيْسِيرِ لِمَا أُحَاوِلُهُ، إنَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ عَسِيرٍ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْإِمَامِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ السِّتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ الْكَرْدَرِيِّ، وَهُوَ عَنْ شَيْخِهِ شَيْخِ مَشَايِخِ الْإِسْلَامِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَنَامِ الْمَخْصُوصِ بِالْعِنَايَةِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، فَهَذَا طَرِيقُ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَرَأْته قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى فَصْلِ الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ أَوْ نَحْوِهِ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْحُمَيْدِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَبِهَا قَرَأْت بَعْضَهُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِسْكَنْدَرِيِّ الْحَنَفِيِّ بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ تَغَمَّدَهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ أَجْمَعِينَ.
(1/11)
 
 
كِتَابُ الطَّهَارَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَمَّا جَاءَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَكْبَرَ مِنْ قَدْرِي بِمَا لَا يَنْتَسِبُ بِنِسْبَةٍ، عَلِمْت أَنَّهُ مِنْ فَتْحِ جُودِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَسَمَّيْته وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ [فَتْحَ الْقَدِيرِ] لِلْعَاجِزِ الْفَقِيرِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
 
[كِتَابُ الطَّهَارَاتِ]
ِ جَمَعَهَا عَلَى إرَادَةِ الْأَنْوَاعِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهَا مِنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَآلَتُهَا مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا قِيلَ الْحَدَثُ وَالْخَبَثُ. وَرُدَّ بِأَنَّهُمَا يَنْقُضَانِهَا فَكَيْفَ يُوجِبَانِهَا وَقَدْ يُقَالُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ نَقْضِهِمَا شَرْعًا الصِّفَةَ
(1/12)
 
 
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْحَاصِلَةَ عَنْ تَطْهِيرٍ سَابِقٍ وَإِيجَابِ تَطْهِيرٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: السَّبَبِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلِ الْجَعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ التَّجْوِيزِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، وَاخْتَارُوا أَنَّهُ إرَادَةُ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِرَادَةِ لَا يُظْهِرُ وَجْهَ إيجَابِهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ لُحُوقَ الشُّرُوعِ الْمُسْتَلْزِمِ عَدَمَ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لَوْ لَمْ تُقَدَّمْ، فَحَقِيقَةُ سَبَبِهَا وُجُوبُ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ إيجَابَ شَرْطِهِ لَا لَفْظًا لُغَةٌ، وَكَوْنُ الْإِرَادَةِ مُضْمَرَةً فِي قَوْله تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] يُقَيِّدُ تَعْلِيقَ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِالْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْحِقَةِ لِلشُّرُوعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مَشْرُوطٌ بِهَا، فَآلَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ وُجُوبَهَا بِسَبَبِ فِعْلِ مَشْرُوطِهَا، إلَّا أَنَّ وُجُوبَهَا بِوُجُوبِهِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِنَقْلِهِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْإِرَادَةُ، إذْ لَا وُجُوبَ إلَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِمُجَرَّدِ إرَادَةِ النَّافِلَةِ حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِهَا وَإِنْ لَمْ يُصَلِّهَا، وَجَعْلُهَا سَبَبًا بِشَرْطِ الشُّرُوعِ يُوجِبُ تَأَخُّرَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَفِيهِ الْمَحْذُورُ، فَإِنَّ
(1/13)
 
 
(فَفَرْضُ الطَّهَارَةِ: غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ) بِهَذَا النَّصِّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
إيجَابَهُ شَرْطًا بِإِيجَابِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ كَوْنُ إرَادَةِ النَّافِلَةِ سَبَبَ وُجُوبِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْوُضُوءُ، وَإِمَّا تَرْكُ النَّافِلَةِ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الْخُلُوِّ فَيَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَهِيَ حِينَئِذٍ سَبَبُ وُجُوبٍ وَاجِبٍ مُخَيَّرٍ فَيَصْدُقُ أَنَّهَا سَبَبُ وُجُوبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، أَمَّا إذَا جُعِلَتْ سَبَبَ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَالْإِشْكَالُ أَخَفُّ.
وَأَرْكَانُهَا فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَرْبَعَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ، وَفِي الْأَكْبَرِ غَسْلُ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَالْفَمِ وَالْأَنْفِ، وَفِي الْخَبَثِ إزَالَةُ الْعَيْنِ بِالْمَائِعِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ ثَلَاثًا فِيمَا لَا يُرَى (قَوْلُهُ بِهَذَا النَّصِّ) لِنَفْيِ أَنَّ وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلِ بِالْحَدِيثِ فَقَطْ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قِرَاءَةَ نَصْبِ الرِّجْلِ عَطْفٌ عَلَى الْمَغْسُولِ، وَقِرَاءَةُ جَرِّهَا كَذَلِكَ وَالْجَرُّ لِلْمُجَاوِرَةِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ بَلْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ، وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ الرُّءُوسِ وَهُوَ مَحَلٌّ يَظْهَرُ فِي الْفَصِيحِ، وَهَذَا أَوْلَى
(1/14)
 
 
وَالْغَسْلُ هُوَ الْإِسَالَةُ وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ. وَحَدُّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهَا (وَالْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِتَخْرِيجِ الْقِرَاءَتَيْنِ بِهِ عَلَى الْمُطَّرَدِ، بِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ إنَّ الْعَرَبَ إذَا اجْتَمَعَ فِعْلَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى وَلِكُلٍّ مُتَعَلَّقٌ جَوَّزَتْ حَذَفَ أَحَدِهِمَا وَعُطِفَ مُتَعَلَّقُ الْمَحْذُوفِ عَلَى مُتَعَلَّقِ الْمَذْكُورِ كَأَنَّهُ مُتَعَلَّقُهُ كَقَوْلِهِمْ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا، وَتَقَلَّدْت بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ، وَعَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَالْحَمْلُ عَلَى الْجِوَارِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ إذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا كَلَامٍ فَصِيحٍ انْتَهَى
إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ إعْرَابُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي عَلَفْتهَا وَسَقَيْتهَا، وَهُنَا الْإِعْرَابُ مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا قَالَ يَكُونُ الْأَرْجُلُ مَنْصُوبًا؛ لِأَنَّهُ مَعْلُولُ اغْسِلُوا الْمَحْذُوفُ فَحِينَ تُرِكَ إلَى الْجَرِّ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِمُجَاوِرَةِ إعْرَابِ الرُّءُوسِ، فَمَا هَرَبَ مِنْهُ وَقَعَ فِيهِ.
فَإِنْ قُلْت: حَاصِلُ هَذَا تَجْوِيزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّصِّ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَجْوِيزُهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ بَلْ حَتَّى تُوجِبَهُ قَرِينَةٌ كَتَعْيِينِ بَعْضِ مَفَاهِيمِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا.
فَالْجَوَابُ: بَلْ ثَابِتٌ، وَهُوَ إطْبَاقُ رُوَاةِ وُضُوئِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِكَايَةِ الْغُسْلِ لَيْسَ غَيْرُ، فَكَانَتْ السُّنَّةُ قَرِينَةً مُنْفَصِلَةً تُوجِبُ إرَادَةَ اسْتِعْمَالِ الْمُوَافِقِ لَهَا بِالنَّصِّ، هَذَا. وَقَدْ وَرَدَ الْحَمْلُ عَلَى الْجِوَارِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ.
فَإِنْ صَحَّتْ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ وَلَا كَلَامٌ فَصِيحٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْإِطْلَاقُ، وَالْمَنْعُ، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الرَّاوِي عَرَبِيًّا فَنَعَمْ أَوْ عَجَمِيًّا فَلَا.
وَحَلَّ النَّصْبُ عَلَى حَالَةِ ظُهُورِ الرِّجْلِ وَالْجَرِّ عَلَى الْمَسْحِ حَالَةَ اسْتِتَارِهَا بِالْخَلْفِ حَمْلًا لِلْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمَجْمَع: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْخُفِّ لَيْسَ مَاسِحًا عَلَى الرِّجْلِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، لِأَنَّ الْخُفَّ اُعْتُبِرَ مَانِعًا سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَمَا حَلَّ بِالْخُفِّ أُزِيلَ بِالْمَسْحِ فَهُوَ عَلَى الْخُفِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (قَوْلُهُ: وَالْغَسْلُ الْإِسَالَةُ) يُفِيدُ أَنَّ الدَّلْكَ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَيْهِ، وَمَرْجِعُهُمْ فِيهِ قَوْلُ الْعَرَبِ غَسَلَتْ الْمَطَرُ الْأَرْضَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا الْإِسَالَةُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِأَنْ وَقَعَهَا مِنْ عُلُوٍّ خُصُوصًا مَعَ الشِّدَّةِ وَالتَّكْرَارِ: أَيْ دَلَكَ وَهُمْ لَا يَقُولُونَهُ إلَّا إذَا نُظِّفَتْ الْأَرْضُ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلْكٍ، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمَعْنَى الْمَعْقُولِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْغُسْلِ وَهُوَ تَحْسِينُ هَيْئَةِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَخْفِيفًا، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ الْكُلُّ، وَالنَّاسُ بَيْنَ حَضَرِيٍّ وَقَرَوِيٍّ خَشِنِ الْأَطْرَافِ لَا يُزِيلُ مَا اسْتَحْكَمَ فِي خُشُونَتِهَا إلَّا الدَّلْكُ، فَالْإِسَالَةُ لَا تُحَصِّلُ مَقْصُودَ شَرْعِيَّتِهَا، ثُمَّ حَدُّ الْإِسَالَةِ الَّتِي هِيَ الْغُسْلُ: أَنْ يَتَقَاطَرَ الْمَاءُ وَلَوْ قَطْرَةً عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْزِئُ إذَا سَالَ عَلَى الْعُضْوِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطُرْ
(قَوْلُهُ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ) خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا طُولُهُ مِنْ مَبْدَإِ سَطْحِ الْجَبْهَةِ إلَى أَسْفَلِ اللَّحْيَيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَصْلَعَ لَا يَجِبُ مِنْ قِصَاصِهِ، وَيُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى الصَّلْعَةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْقِصَاصُ مُثَلَّثٌ الْقَافِ
(قَوْلُهُ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ) يُعْطِي ظَاهِرُهُ وُجُوبَ
(1/15)
 
 
هُوَ يَقُولُ: الْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا كَاللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا إذْ لَوْلَاهَا لَاسْتَوْعَبَتْ الْوَظِيفَةُ الْكُلَّ، وَفِي بَابِ الصَّوْمِ لِمَدَّ الْحُكْمِ إلَيْهَا إذْ الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِمْسَاكِ سَاعَةً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
إدْخَالِ الْبَيَاضِ الْمُعْتَرَضَ بَيْنَ الْعَذَارِ وَالْأُذُنِ بَعْدَ نَبَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ النَّابِتُ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ، وَيُعْطِي أَيْضًا وُجُوبَ الْإِسَالَةِ عَلَى شَعْرِ اللِّحْيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَ الْوَجْهِ وَحْدَهُ بِذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَعَنْهُ يَجِبُ مَسْحُ رُبْعِهَا، وَعَنْهُ مَسْحُ مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ، وَعَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ اسْتِيعَابُهَا.
وَأَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ كُلِّهِ، قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْبَشَرَةِ فَتَحَوَّلَ الْفَرْضُ إلَيْهِ كَالْحَاجِبِ.
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ عَنْ ابْنِ شُجَاعٍ: إنَّهُمْ رَجَعُوا عَمَّا سِوَى هَذَا، كُلُّ هَذَا فِي الْكَثَّةِ، أَمَّا الْخَفِيفَةِ الَّتِي تُرَى بَشَرَتُهَا فَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهَا، وَلَوْ أَمَرَّ الْمَاءَ عَلَى شَعْرِ الذَّقَنِ ثُمَّ حَلَقَهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ الذَّقَنِ.
وَفِي الْبَقَّالِيِّ: لَوْ قَصَّ الشَّارِبَ لَا يَجِبُ تَخْلِيلُهُ، وَإِنْ طَالَ يَجِبُ تَخْلِيلُهُ وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى الشَّفَتَيْنِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ قَطْعَهُ مَسْنُونٌ فَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُهُ فِي سُقُوطِ غَسْلِ مَا تَحْتَهُ، بِخِلَافِ اللِّحْيَةِ فَإِنَّ إعْفَاءَهَا هُوَ الْمَسْنُونُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَبَتَتْ جِلْدَةٌ لَا يَجِبُ قَشْرُهَا وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهَا، بَلْ لَوْ أَسَالَ عَلَيْهَا أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي قَشْرِهَا؛ إذْ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ سُنَّةٌ
وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ قِيَامُهَا مَانِعًا مِنْ الْغُسْلِ، وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ بَعْدَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى مَنَابِتِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ مِنْ الْآدَابِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَأَمَّا الشَّفَةُ فَقِيلَ تَبَعٌ لِلْفَمِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: مَا انْكَتَمَ عِنْدَ انْضِمَامِهِ تَبَعٌ لَهُ وَمَا ظَهَرَ فَلِلْوَجْهِ.
وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ: إنْ كَانَ وَافِرَ الْأَظْفَارِ وَفِيهَا دَرَنٌ أَوْ طِينٌ أَوْ عَجِينٌ أَوْ الْمَرْأَةُ تَضَعُ الْحِنَّاءَ جَازَ فِي الْقَرَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ.
قَالَ الدَّبُوسِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَقَالَ الْإِسْكَافُ: يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ إلَّا الدَّرَنَ لِتَوَلُّدِهِ مِنْهُ.
وَقَالَ الصَّفَّارُ فِيهِ: يَجِبُ الْإِيصَالُ إلَى مَا تَحْتَهُ إنْ طَالَ الظُّفْرُ، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الظَّوَاهِرِ لَكِنْ إذَا طَالَ الظُّفْرُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ عَرُوضِ الْحَائِلِ كَقَطْرَةِ شَمْعَةٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ.
وَفِي النَّوَازِلِ يَجِبُ فِي الْمِصْرِيِّ لَا الْقَرَوِيِّ؛ لِأَنَّ دُسُومَةَ أَظْفَارِ الْمِصْرِيِّ مَانِعَةٌ وُصُولَ الْمَاءِ بِخِلَافِ الْقَرَوِيِّ، وَلَوْ لَزِقَ بِأَصْلِ ظُفْرِهِ طِينٌ يَابِسٌ وَنَحْوُهُ أَوْ بَقِيَ قَدْرُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْغَسْلِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَجِبُ نَزْعُ الْخَاتَمِ وَتَحْرِيكُهُ إذَا كَانَ وَاسِعًا، وَالْمُخْتَارُ فِي الضَّيِّقِ الْوُجُوبُ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ شَيْءٌ يَسْقُطُ الْغُسْلُ، وَلَوْ بَقِيَ وَجَبَ، وَلَوْ طَالَ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانِ عَلَى الْمَنْكِبِ فَالتَّامَّةُ هِيَ الْأَصْلِيَّةُ يَجِبُ غَسْلُهَا، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ فَمَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ وَمَا لَا فَلَا (قَوْلُهُ: هُوَ يَقُولُ الْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ) أَيْ هَذِهِ الْغَايَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ.
(1/16)
 
 
وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ هُوَ الصَّحِيحُ وَمِنْهُ الْكَاعِبُ. قَالَ (وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ) لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ» وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ بَيَانًا بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ شَعْرَاتٍ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَقَوْلُهُ كَاللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ تَنْظِيرٌ لَا قِيَاسٌ لِعَدَمِ الْجَامِعِ، فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ: الْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ لِزُفَرَ الِاسْتِدْلَال بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ وَمِنْهَا مَا لَا فَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ كُلًّا مِنْهُمَا فَلَا تَدْخُلُ بِالشَّكِّ، وَأَيْضًا مَا بَعْدَ الْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ فِي دُخُولِهِ فِي مُسَمًّى الْيَدِ وَالرِّجْلِ اشْتِبَاهٌ، فَبِتَقْدِيرِ دُخُولِهِ تَدْخُلُ وَبِعَدَمِهِ لَا لِلْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ، وَهُوَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ إنْ دَخَلَ فِي الْمُسَمَّى لَوْلَا ذِكْرُهَا دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا تَدْخُلُ بِالشَّكِّ، وَمَا أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى غَدٍّ لَا يَدْخُلُ مَعَ أَنَّهُ يَدْخُلُ لَوْ تُرِكَتْ لِلْغَايَةِ غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَالْأَيْمَانُ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ، وَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ الْعُرْفُ اللُّغَةَ، وَكَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مَرَافِقِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِافْتِرَاضَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ كَالزِّيَادَةِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إلَى أَنْ اسْتَوْعَبَهُ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِنَقْلِ دُخُولِهَا فِي الْمُسَمَّى لُغَةً وَهُوَ أَوْجَهُ الْقَوْلَيْنِ بِشَهَادَةِ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَال بِهِ، وَكَوْنِهِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْغَايَةُ دَاخِلَةً لُغَةً، وَأَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ مَا قَالَ يَثْبُتُ الْإِجْمَالُ فِي دُخُولِهَا فَيُلْتَحَقُ بِهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ» بَيَانًا لِلتَّوَعُّدِ عَلَى تَرْكِهِ فَيَكُونُ اقْتِصَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَرَافِقِ وَقَعَ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنْ الْيَدِ فَيَتَعَيَّنُ دُخُولُ مَا أَدْخَلَهُ.
وَقَوْلُهُ: اغْسِلْ يَدَك لِلْأَكْلِ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَمَّا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ الَّذِي فِي وَسَطِ الرِّجْلِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، فَإِنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ الْكَعْبُ الَّذِي يَقْطَعُ الْمُحْرِمُ أَسْفَلَهُ مِنْ الْخُفَّ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ
(قَوْلُهُ وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ) أَيْ فِي حَقِّ الْكَمْيَّةِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ: هَذَا
(1/17)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مُطْلَقٌ لَا مُجْمَلٌ، وَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلَى كَمِّيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ أَجْمَلَ فِيهَا، بَلْ إلَى الْإِطْلَاقِ لِيَسْقُطَ بِأَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مَسْحُ الرَّأْسِ عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ النَّاصِيَةِ لِجَوَازِ كَوْنِ ذِكْرِهَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْفَوْدِ أَوْ الْقَذَالِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِكُمْ، وَلَوْ نَظَرْنَا إلَيْهِ عَلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ الْمُغِيرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ» كَانَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي الْبَاءِ كَالْآيَةِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لَا، وَلَوْ قُلْنَا إنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ لَزِمَ التَّبْعِيضُ بِصَرِيحِ تَقْرِيرِكُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] لِدُخُولِهَا عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا سَنَذْكُرُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قِطْرِيَّةٌ، فَأَدْخَلَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حُجَّةٌ، وَظَاهِرُهُ اسْتِيعَابُ تَمَامِ الْمُقَدَّمِ، وَتَمَامُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ هُوَ الرُّبْعُ الْمُسَمَّى بِالنَّاصِيَةِ.
وَقِطْرِيَّةٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ: ثِيَابٌ حُمْرٌ لَهَا أَعْلَامٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى قَطَرَ مَوْضِعٌ بَيْنَ عُمَانَ وَسَيْفِ الْبَحْرِ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ضَرْبٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهِ حُمْرَةٌ وَلَهَا أَعْلَامٌ فِيهَا بَعْضُ الْخُشُونَةِ، وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، أَوْ قَالَ نَاصِيَتَهُ» فَإِنَّهُ حُجَّةٌ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا عِنْدَنَا كَيْفَ وَقَدْ اُعْتُضِدَ بِالْمُتَّصِلِ.
بَقِيَ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ الْفِعْلِ كَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ جَوَازِ الْأَقَلِّ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ضَمِّ الْمُلَازَمَةِ الْقَائِلَةِ لَوْ جَازَ الْأَقَلُّ لِفِعْلِهِ مَرَّةً تَعْلِيمًا لَجَازَ وَتُسَلَّمُ، وَقَدْ تُمْنَعُ بِأَنَّ الْجَوَازَ إذَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ فِيهِ، وَهُنَا كَذَلِكَ نَظَرًا إلَى الْآيَةِ فَإِنَّ الْبَاءَ فِيهَا لِلتَّبْعِيضِ.
وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ نَفْيَ جَوَازِ الْأَقَلِّ فَيَرْجِعُ الْبَحْثُ إلَى دَلَالَةِ الْآيَةِ، وَنَقُولُ فِيهِ إنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَهَا، بِخِلَافِ التَّبْعِيضِ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ يَنْفُونَ كَوْنَهُ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا لِلْبَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَ فِي ضِمْنِ الْإِلْصَاقِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ إلْصَاقَ الْآلَةِ بِالرَّأْسِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ لَا يَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ، فَإِذَا أَلْصَقَ فَلَمْ يَسْتَوْعِبْ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِذَلِكَ الْبَعْضِ لَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَادُ بِالْبَاءِ.
وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى الْبَدِيعِ فِي الْأُصُولِ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ إنَّمَا تَسْتَوْعِبُ قَدْرَهُ غَالِبًا فَلَزِمَ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ جَوَازِ قَدْرِ الثَّلَاثِ الْأَصَابِعِ، وَإِنْ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْمَشَايِخِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إلْصَاقُ الْيَدِ وَالْأَصَابِعِ أَصْلُهَا؛ وَلِهَذَا يَلْزَمُ كَمَالُ دِيَةِ الْيَدِ بِقَطْعِهَا
(1/18)
 
 
الِاسْتِيعَابِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: قَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي آلَةِ الْمَسْحِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَرَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَيُفِيدُ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَنْصُورِ رِوَايَةُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَدْرُهُ وَدِرَايَةٌ أَنَّ الْمُقَدَّمَةَ الْأَخِيرَةَ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقَدَّرِ الشَّرْعِيِّ بِوَاسِطَةِ تَعَدِّي الْفِعْلِ إلَى تَمَامِ الْيَدِ فَإِنَّ بِهِ يَتَقَدَّرُ قَدْرُهَا مِنْ الرَّأْسِ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ عَيْنُ قَدْرِهِ، وَقَوْلُنَا عَيْنُ قَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْمَطَرُ قَدْرَ الْفَرْضِ سَقَطَ، وَلَا تُشْتَرَطُ إصَابَتُهُ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ لَمْ تُقْصَدْ إلَّا لِلْإِيصَالِ إلَى الْمَحَلِّ فَحَيْثُ وَصَلَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا، وَلَوْ مَسَحَ بِبَلَلٍ فِي يَدِهِ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ جَازَ لَا إنْ أَخَذَهُ وَلَوْ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ مَدَّهَا قَدْرَ الْفَرْضِ جَازَ عِنْدَ زَفَرَ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ، وَعَلَّلُوا بِأَنَّ الْبِلَّةَ صَارَتْ مُسْتَعْمَلَةً، وَهُوَ مُشْكِلٌ بِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَمَا قِيلَ الْأَصْلُ ثُبُوتُ الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِ الْمُلَاقَاةِ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي الْمَغْسُولِ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ بِإِلْزَامِ إصَابَةِ كُلِّ جُزْءٍ بِإِسَالَةِ غَيْرِ الْمُسَالِ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ، وَلَا حَرَجَ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْإِصَابَةِ فَبَقِيَ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ، دُفِعَ بِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا عَلَّلَ بِهِ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ إدْخَالِ الرَّأْسِ فِي الْإِنَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ عِنْدَهُ، فَقَالُوا: الْمَسْحُ حَصَلَ بِالْإِصَابَةِ، وَالْمَاءُ إنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَالْمُصَابُ بِهِ لَمْ يُزَايِلْ الْعُضْوَ حَتَّى عَدَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى التَّعْلِيلِ بِلُزُومِ انْفِصَالِ بِلَّةِ الْأُصْبُعِ بِوَاسِطَةِ الْمَدِّ فَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُصَابِ فِي إدْخَالِ الرَّأْسِ الْإِنَاءَ، وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَدَّ أُصْبُعَيْنِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ، وَكَذَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ مَدِّ الثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ الرُّبُعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخَذَ الِاسْتِعْمَالَ بِالْمُلَاقَاةِ أَوْ انْتَقَلَتْ الْبِلَّةُ لَزِمَ ذَلِكَ، لَكِنِّي لَمْ أَرَ فِي مَدِّ الثَّلَاثِ إلَّا الْجَوَازَ
وَاخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَنْعَ فِي مَدِّ الْأُصْبُعِ وَالِاثْنَتَيْنِ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِاسْتِعْمَالِ الْبِلَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا خُصُوصًا إذَا تَيَمَّمَ عَلَى الْحَجَرِ الصَّلْدِ، بَلْ الْوَجْهُ عِنْدَهُ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالْمَسْحِ بِالْيَدِ وَالْأُصْبُعَانِ مِنْهَا لَا تُسَمَّى يَدًا، بِخِلَافِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا، وَهُوَ حَسَنٌ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْإِصَابَةِ بِالْيَدِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِمَسْأَلَةِ الْمَطَرِ.
وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَعْيِينُهَا أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ الْآلَاتِ عِنْدَ قَصْدِ الْإِسْقَاطِ بِالْفِعْلِ اخْتِيَارًا، غَيْرَ أَنَّ لَازِمَهُ كَوْنُ تِلْكَ الْآلَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْيَدِ مَثَلًا قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ الْيَدِ، حَتَّى لَوْ
(1/19)
 
 
قَالَ (وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَانَ عُودًا مَثَلًا لَا يَبْلُغُ ذَلِكَ الْقَدْرَ قُلْنَا بِعَدَمِ جَوَازِ مَدِّهِ.
وَقَدْ يُقَالُ عَدَمُ الْجَوَازِ بِالْأُصْبُعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبِلَّةَ تَتَلَاشَى وَتَفْرُغُ قَبْلَ بُلُوغِ قَدْرِ الْفَرْضِ، بِخِلَافِ الْأُصْبُعَيْنِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَنْحَمِلُ فِيهِ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ الْمَضْمُومَتَيْنِ فَضْلُ زِيَادَةٍ تَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ إلَى قَدْرِ الْفَرْضِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ أَوْ مَظْنُونٌ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ صِحَّةِ الِاكْتِفَاءِ بِقَدْرِ ثَلَاثِ أَصَابِعَ يَجُوزُ مَدُّ الْأُصْبُعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَاءِ يَمْتَدُّ قَدْرَ أُصْبُعٍ ثَالِثٍ، وَعَلَى اعْتِبَارِ تَوَقُّفِ الْإِجْزَاءِ عَلَى الرُّبْعِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إيعَابُهُ الرُّبُعَ، إلَّا أَنَّ هَذَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ عَدَمُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِأُصْبُعَيْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَازُ بِجَوَانِبِ الْأُصْبُعِ فَإِنَّهُ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الِاكْتِفَاءِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَوْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ إنَاءَ مَاءٍ نَاوِيًا لِلْمَسْحِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ عَنْ الْفَرْضِ.
وَالْمَاءُ طَهُورٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَالْمَاءُ مُسْتَعْمَلٌ.
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَاَلَّذِي لَاقَى الرَّأْسَ مِنْ أَجْزَائِهِ لَصِقَ بِهِ فَطَهَّرَهُ وَغَيْرُهُ لَمْ يُلَاقِهِ فَلَمْ يُسْتَعْمَلْ وَفِيهِ نَظَرٌ، ثُمَّ مَحَلُّ الْمَسْحِ مَا فَوْقَ الْأُذُنَيْنِ، فَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِهِ أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ ذُؤَابَتَاهُ مَشْدُودَتَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ فَمَسَحَ عَلَى أَعْلَاهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْمَسْنُونُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ آخِذًا إلَى قَفَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوْعِبُ، ثُمَّ يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ، وَأَمَّا مُجَافَاةُ السَّبَّاحَتَيْنِ مُطْلَقًا لِيَمْسَحَ بِهِمَا الْأُذُنَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ فِي الْإِدْبَارِ لِيَرْجِعَ بِهِمَا عَلَى الْفَوْدَيْنِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي السُّنَّةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ حَتَّى جَازَ اتِّحَادُ بِلَتِّهِمَا، وَلِأَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَسْنُونَةِ وَهُمْ شَارِعُونَ فِي حِكَايَتِهَا لِتُرْتَكَبَ وَهِيَ غَيْرُ مُتَبَادِرَةٍ لَنَصُّوا عَلَيْهَا.
وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ: إذَا دَهَنَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَأَمَرَّ الْمَاءَ عَلَى رِجْلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمَاءَ لِلدُّسُومَةِ جَازَ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ الْمُغِيرَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ تَمَامُ مَتْنَيْنِ رَوَاهُمَا الْمُغِيرَةُ أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْهُ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ» وَالْآخَرُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا» فَجَمَعَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَ مَرْوِيَّيْ الْمُغِيرَةَ وَوَهَمَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ إذْ جَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ» ، وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي السُّبَاطَةِ وَالْبَوْلِ قَائِمًا وَهُوَ يَقْتَضِي تَخْطِئَةَ الْقُدُورِيِّ فِي نِسْبَةِ حَدِيثِ السُّبَاطَةِ إلَى الْمُغِيرَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا الْمُغِيرَةُ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ
 
(قَوْلُهُ وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ) إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ لِصِدْقِ السُّنَّةِ مَعَ الطَّهَارَةِ فِي طَهَارَةٍ مَسْنُونَةٍ،
(1/20)
 
 
إذَا اسْتَيْقَظَ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ نَوْمِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّطْهِيرِ فَتُسَنُّ الْبُدَاءَةُ بِتَنْظِيفِهَا، وَهَذَا الْغَسْلُ إلَى الرُّسْغِ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ فِي التَّنْظِيفِ.
 
قَالَ (وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا وُضُوءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَسُنَّةٌ بِلَا طَهَارَةٍ فِي سُنَّةٍ مَثَلًا صَلَوِيَّةٍ، وَطَهَارَةٌ بِلَا سُنَّةٍ فِي طَهَارَةٍ وَاجِبَةٍ فُعِلَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ السُّنَّةِ.
وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ: يَعْنِي الطَّهَارَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ الْوُضُوءُ، فَانْدَفَعَ لُزُومُ كَوْنِ السُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ سُنَنًا لِغَيْرِ الْوُضُوءِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ.
وَالسُّنَّةُ: مَا وَاظَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَرْكِهِ أَحْيَانًا (قَوْلُهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ إذَا اسْتَيْقَظَ إلَخْ) الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَأَمَّا بِهَا فَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَلَفْظُهُ «فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي طَهُورِهِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا» ثُمَّ غَسْلُهُمَا هَذَا يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ فَهُوَ فَرْضٌ تَقْدِيمُهُ سُنَّةٌ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ: ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ.
وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالِاسْتِيقَاظِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِمَا إذَا نَامَ مُسْتَنْجِيًا بِالْأَحْجَارِ أَوْ مُتَنَجِّسَ الْبَدَنِ، أَمَّا لَوْ نَامَ مُتَيَقِّنًا طَهَارَتَهُمَا مُسْتَنْجِيًا بِالْمَاءِ فَلَا يُسَنُّ لَهُ.
وَقِيلَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُطْلَقًا لِلْمُسْتَيْقِظِ وَغَيْرِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدَّمَهُ، وَإِنَّمَا يُحْكَى مَا كَانَ دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ لَا خُصُوصُ وُضُوئِهِ الَّذِي هُوَ عَنْ نَوْمٍ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ اطِّلَاعَهُمْ عَلَى وُضُوئِهِ عَنْ غَيْرِ النَّوْمِ، نَعَمْ مَعَ الِاسْتِيقَاظِ وَتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ السُّنَّةُ آكَدٌّ، أَمَّا الْوُجُوبُ فَإِنَّمَا يُنَاطُ بِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ.
 
(قَوْلُهُ وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى) لَفْظُهَا الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ، وَقِيلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِاسْمِ
(1/21)
 
 
لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ» وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا فِي الْكِتَابِ سُنَّةً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْأَفْضَلُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَعْدَ التَّعَوُّذِ، وَفِي الْمُجْتَبَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ بِسْمِ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرْنَا.
وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَضُعِّفَ بِالِانْقِطَاعِ، وَهُوَ عِنْدَنَا كَالْإِرْسَالِ بَعْدَ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ وَثِقَتِهِمْ لَا يَضُرُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَبِيحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَأُعِلَّ بِأَنَّ رَبِيحًا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ. وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ: رَبِيحٌ شَيْخٌ، وَقَالَ ابْنُ عَمَّارٍ: ثِقَةٌ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: رَوَى عَنْهُ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ: الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ فَقَالَ: أَحْسَنُ مَا فِيهَا حَدِيثُ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهَا حَدِيثًا ثَابِتًا، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ أَحْكُمُ بِهِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَخْ) يَجُوزُ كَوْنُ مُسْتَنَدِهِ فِيهِ ضَعْفَ الْأَحَادِيثِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ بِحَدِيثِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلِيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْعَبْدِيِّ حَدَّثَنَا نَافِعٌ قَالَ: انْطَلَقْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي حَاجَةٍ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إذْ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثُمَّ إنَّهُ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْحَائِطَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ مَسْحًا ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ كَفَّهُ وَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طَهَارَةٍ» وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَجُلٌ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَادَ وَقَالَ: «إنَّمَا رَدَدْتُ عَلَيْك خَشْيَةَ أَنْ تَقُولَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلِيَّ، فَإِذَا رَأَيْتَنِي هَكَذَا فَلَا تُسَلِّمْ عَلِيَّ فَإِنِّي لَا أَرُدُّ عَلَيْكَ» وَأَبُو بَكْرٍ هَذَا هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَوَقَعَ مُصَرَّحًا بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ هَذَا فِي مُسْنَدِ السِّرَاجِ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إذَا
(1/22)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
رَأَيْتَنِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إلَخْ» وَلِيُنْظَرْ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ وَكَيْفَ كَانَ فَهِيَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى عَدَمِ ذِكْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَمُقْتَضَاهُ انْتِفَاؤُهُ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ الْكَائِنِ عَنْ حَدَثٍ، وَمَا أُعِلَّ بِهِ غَيْرُ قَادِحٍ لِلْمُتَأَمِّلِ فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِخَبَرِ التَّسْمِيَةِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِحُسْنِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ طُرُقِ الضَّعِيفِ تُرَقِّيهِ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَوْجُهُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، بَلْ بَعْضُهَا بِخُصُوصِهِ حَسَنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ أَهْلِ الشَّأْنِ عَلَيْهَا فَيُخْرِجُهُ مِنْ السُّنَّةِ كَمَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْإِيجَابِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَكَذَا عَدَمُ نَقْلِهَا فِي حِكَايَةِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّعْفَ مُنْتَفٍ لِمَا قُلْنَا، وَالْمُعَارَضَةُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ ذِكْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْوُضُوءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَةَ مَا جُعِلَ شَرْعًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَكْمِيلًا لَهُ بَعْدَ ثُبُوتِ جَعْلِهِ كَذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْحَسَنِ، فَذَلِكَ الذِّكْرُ ضَرُورِيٌّ لِلْوُضُوءِ الْكَامِلِ شَرْعًا فَلَا تَعَارُضَ لِلِاخْتِلَافِ، وَعَدَمُ نَقْلِهَا فِي حِكَايَتَيْهِمَا إمَّا؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا حَكَيَا الْأَفْعَالَ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالتَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ ذِكْرٌ يَفْتَتِحُ هُوَ بِهَا، وَصِدْقُ هَذَا التَّرْكِيبِ يُفِيدُ خُرُوجَهَا عَنْ مُسَمَّاهُ، وَإِمَّا لِعَدَمِ نَقْلِ الرُّوَاةِ عَنْهُمَا، وَإِنْ قَالَاهَا؛ إذْ قَدْ يَنْقُلُ الرَّاوِي بَعْضَ الْحَدِيثِ اشْتِغَالًا بِالْمُهِمِّ بِنَاءً عَلَى اشْتِهَارِ الِافْتِتَاحِ بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ السَّلَفِ فِي كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَجْذَمُ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِينَ وَحَسَّنَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُرَّةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ عَدَمُ النَّقْلِ لَا يَنْفِي الْوُجُودَ فَكَيْفَ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِوَجْهٍ آخَرَ، أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا مِنْ حِكَايَتِهِمَا التَّخْلِيلَ، وَلَا شُبْهَةَ فِي اعْتِقَادِي أَنَّهُ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا لَمْ يَنْقُلُوا السِّوَاكَ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَبَعْضُ مَنْ حَكَى لَمْ يَحْكِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ أَوَّلًا وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي ثُبُوتِهَا إذَا ثَبَتَ بِطُرُقٍ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَإِذَا سَلِمَ خَبَرُ التَّسْمِيَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ مَعَ حُجِّيَّتِهِ فَمَا مُوجِبُ الْعُدُولِ بِهِ إلَى نَفْيِ الْكَمَالِ وَتَرْكِ ظَاهِرِهِ مِنْ الْوُجُوبِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ حَدِيثُ «إذَا تَطَهَّرَ أَحَدُكُمْ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ جَسَدُهُ كُلُّهُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَهُورِهِ لَمْ يَطْهُرْ إلَّا مَا مَرَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ» فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، إنَّمَا يَرْوِيهِ عَنْ الْأَعْمَشِ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ» وَفِي لَفْظٍ «إنَّهَا لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدَهُ» الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَسْمِيَةً فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ، فَقَدْ أَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ يَحْيَى بْنَ عَلِيِّ بْنِ خَلَّادٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَالٌ وَهُوَ مِنْ رُوَاتِهِ، فَأَدَّى النَّظَرُ إلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ، غَيْرَ أَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَاطِعِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ نَسْخُ آيَةِ الْوُضُوءِ بِهِ: يَعْنِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِتَقْدِيرِ الِافْتِرَاضِ لَا الْوُجُوبِ.
وَمَا قِيلَ إنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْوُجُوبِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ تَابِعٌ، فَلَوْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فِيهِ الْمُسَاوِي التَّبَعِ الْأَصْلِ غَيْرُ لَازِمٍ إذْ اشْتِرَاكُهُمَا بِثُبُوتِ الْوَاجِبِ فِيهِمَا لَا يَقْتَضِيهِ لِثُبُوتِ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بِوَجْهٍ آخَرَ نَحْوَ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ وَاجِبِ الصَّلَاةِ كَفَرْضِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَرْضِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ.
الرَّابِعُ مِنْهَا مَا هُوَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ وَأَعْطَوْا حُكْمَهُ إفَادَةَ السُّنِّيَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَجَعَلُوا مِنْهُ خَبَرَ التَّسْمِيَةِ، وَصَرَّحَ
(1/23)
 
 
وَيُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
 
قَالَ (وَالسِّوَاكُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ فَقْدِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بَعْضُهُمْ بِأَنَّ وُجُوبَ الْفَاتِحَةِ لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» بَلْ بِالْمُوَاظَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ لِذَلِكَ، فَالْجَوَابُ إنْ أَرَادُوا بِظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ مُشْتَرَكَهَا سَلَّمْنَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ وَمَنَعْنَا كَوْنَ الْخَبَرَيْنِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ نَفْيُ الْكَمَالِ فِيهِمَا احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ الظُّهُورُ فَإِنَّ النَّفْيَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ فِيهِمَا.
فَإِنْ قُلْنَا: النَّفْيُ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى نَفْسِ الْجِنْسِ بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى حُكْمِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الصِّحَّةُ فَإِنَّهُ الْمَجَازُ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ قُلْنَا يَتَسَلَّطُ هُنَا؛ لِأَنَّهَا حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فَيَنْتَفِي شَرْعًا لِعَدَمِ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، وَإِنْ وُجِدَتْ حِسًّا فَأَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ، فَنَفْيُ الْكَمَالِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ احْتِمَالٌ هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا فِيهِ احْتِمَالٌ، وَلَوْ مَرْجُوحًا مَنَعْنَا صِحَّةَ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَأَسْنَدْنَاهُ بِأَنَّ الظَّنَّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ مُتَعَلَّقِهِ، وَعَلَى هَذَا مَشَى الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي خَبَرِ الْفَاتِحَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مِنْ طَرَفِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ لَكِنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَعَمَلنَا بِوُجُوبِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
[فَرْعٌ]
نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَذَكَرَهَا فِي خِلَالِ الْوُضُوءِ فَسَمَّى لَا يُحَصِّلُ السُّنَّةَ، بِخِلَافِ نَحْوِهِ فِي الْأَكْلِ.
كَذَا فِي الْغَايَةِ مُعَلَّلًا بِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَهُوَ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ فِي الْأَكْلِ تَحْصِيلَ السُّنَّةِ فِي الْبَاقِي لَا اسْتِدْرَاكَ مَا فَاتَ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ قَبْلَهُ فَقَطْ وَمَا قِيلَ بَعْدَهُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ حَالَ الِانْكِشَافِ، وَالْأَصَحُّ قَبْلَهُ أَيْضًا لَا حَالَ الِانْكِشَافِ، وَلَا فِي مَحَلِّ النَّجَاسَةِ، وَمِنْ الثَّابِتِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» وَالْمُرَادُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ.
 
(قَوْلُهُ وَالسِّوَاكُ) أَيْ الِاسْتِيَاكُ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ (لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ) الْمَطْلُوبُ مُوَاظَبَتُهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَلَمْ أَعْلَمْ حَدِيثًا صَرِيحًا فِيهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» وَفِي لَفْظٍ «إذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ» وَفِي مُسْلِمٍ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ» وَفِي أَبِي دَاوُد «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَيْقِظُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إلَّا تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» وَفِي الطَّبَرَانِيِّ «مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ حَتَّى يَسْتَاكَ» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى السِّوَاكِ اسْتِيَاكُهُ بِسِوَاكِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» وَعِنْدَ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَةٍ «عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» وَرَوَاهَا
(1/24)
 
 
يُعَالِجُ بِالْأُصْبُعِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ كَذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُسْتَحَبُّ.
 
قَالَ (وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَهُمَا عَلَى الْمُوَاظَبَةِ. وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يُمَضْمِضَ ثَلَاثًا يَأْخُذُ لِكُلِّ مَرَّةٍ مَاءً جَدِيدًا ثُمَّ يَسْتَنْشِقَ كَذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَصَحَّحَهَا الْحَاكِمُ وَذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَلَا دَلَالَةَ فِي شَيْءٍ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْوُضُوءِ إلَّا هَذِهِ، وَغَايَةُ مَا يُفِيدُ النَّدْبُ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ سِوَى الِاسْتِحْبَابِ، إذْ يَكْفِيهِ إذَا نَدَبَ لِشَيْءٍ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ أَحْيَانَا.
وَلَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِدْلَالُهُ فِي الْغَايَةِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ» يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا ظَاهِرُهُ النَّدْبُ عِنْدَ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَوْنُهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْهِدَايَةِ الْغَزْنَوِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: اصْفِرَارُ السِّنِّ، وَتَغَيُّرُ الرَّائِحَةِ، وَالْقِيَامُ مِنْ النَّوْمِ، وَالْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْوُضُوءِ وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ.
وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ ثَلَاثٌ بِثَلَاثِ مِيَاهٍ وَأَنْ يَكُونَ السِّوَاكُ لَيِّنًا فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ وَطُولِ شِبْرٍ مِنْ الْأَشْجَارِ الْمُرَّةِ، وَيَسْتَاكُ عَرْضًا لَا طُولًا.
(قَوْلُهُ يُعَالِجُ بِالْأُصْبُعِ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ: قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: التَّشْوِيصُ بِالْمُسَبَّحَةِ وَالْإِبْهَامِ سِوَاكٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ «يُجْزِي مِنْ السِّوَاكِ الْأَصَابِعُ» وَتَكَلَّمَ فِيهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَذْهَبُ فُوهُ يَسْتَاكُ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: يُدْخِلُ أُصْبُعَهُ فِي فِيهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
 
(قَوْلُهُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ) وَالسُّنَّةُ فِيهِمَا الْمُبَالَغَةُ لِغَيْرِ الصَّائِمِ وَهُوَ فِي الْمَضْمَضَةِ إلَى الْغَرْغَرَةِ، وَفِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَى مَا اشْتَدَّ مِنْ الْأَنْفِ، وَلَوْ شَرِبَ الْمَاءَ عَبًّا أَجْزَأَ عَنْ الْمَضْمَضَةِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَجَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهَا، وَقِيلَ لَا يُجْزِئُهُ، وَمَصًّا لَا يُجْزِئُهُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَهُمَا عَلَى الْمُوَاظَبَةِ) جَمِيعُ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِعْلًا وَقَوْلًا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ نَفَرًا، وَلَا بَأْسَ بِإِفَادَةِ حَصْرِهِمْ تَكْمِيلًا وَإِسْعَافًا: الْأَوَّلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فِعْلًا، وَفِيهِ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ، وَفِيهِ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، رَوَاهُ السِّتَّةُ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، وَوَهَمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَعْلِهِ إيَّاهُ ابْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ رَاوِيَ الْأَذَانِ. وَفِي قَوْلِهِ مَسَحَ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ بِمَعْنَى أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. الثَّانِي عُثْمَانُ فِعْلًا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَدَدَ غَرْفَاتٍ، وَلَا فِي الْمَسْحِ إقْبَالًا وَلَا غَيْرَهُ. الثَّالِثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِعْلًا فِي الْبُخَارِيِّ وَفِيهِ «أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ» وَفِيهِ «ثُمَّ أَخَذَ
(1/25)
 
 
هُوَ الْمَحْكِيُّ مِنْ وُضُوءٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ» . الرَّابِعُ الْمُغِيرَةُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. الْخَامِسُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِعْلًا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَفِيهِ «فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً» ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ قَالَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ. السَّادِسُ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ قَوْلًا دُونَ تَنْصِيصٍ عَلَى عَدَدٍ فِي شَيْءٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. السَّابِعُ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فِعْلًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. الثَّامِنُ أَبُو بَكْرَةَ قَوْلًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ التَّاسِعُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَوْلًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى، وَزَادَ " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَضَحَ تَحْتَ ثَوْبِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا إسْبَاغُ الْوُضُوءِ. الْعَاشِرُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَوْلًا، وَفِيهِ «ثُمَّ مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا وَظَاهِرِ أُذُنَيْهِ ثَلَاثًا وَظَاهِرِ رَقَبَتِهِ» ، وَأَظُنُّهُ قَالَ وَظَاهِرِ لِحْيَتِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَفَصَلَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَوْ قَالَ خَلَّلَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَرَفَعَ الْمَاءَ حَتَّى جَاوَزَ الْكَعْبَ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى السَّاقِ، ثُمَّ فَعَلَ بِالْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَمَلَأَ بِهَا يَدَهُ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى انْحَدَرَ الْمَاءُ مِنْ جَوَانِبِهِ وَقَالَ: هَذَا إتْمَامُ الْوُضُوءِ، وَلَمْ أَرَهُ يُنَشِّفُ بِثَوْبٍ ". قَالَ الْإِمَامُ: يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُجْرٌ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ.
الْحَادِيَ عَشَرَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ دُونَ تَنْصِيصٍ عَلَى عَدَدٍ فِي الرَّأْسِ وَغَرْفَاتِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ. الثَّانِي عَشَرَ أَبُو أُمَامَةَ فَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَسٌ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ ذَلِكَ التَّنْصِيصِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَوَضَّأَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ مِنْ تَحْتِ لِحْيَتِهِ فَخَلَّلَهَا» . الْخَامِسَ عَشَرَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْيَمَانِيُّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهُ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَرَأَيْتُهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ» اهـ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفَصَّلَ مَعْنَى التَّفْصِيلِ وَسَنَذْكُرُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَ عَشَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَوْلًا، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى دُونَ ذَلِكَ التَّنْصِيصِ. السَّابِعَ عَشَرَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِعْلًا، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَذَلِكَ. الثَّامِنَ عَشَرَ أَبُو كَاهِلٍ قَيْسُ بْنُ عَائِذٍ قَوْلًا، وَفِيهِ «فَغَسَلَ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ ثَلَاثًا وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَلَمْ يُوَقِّتْ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَمْ يُوَقِّتْ» ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ لِلْقَائِلِينَ بِعَدَمِ سُنِّيَّةِ التَّثْلِيثِ فِي غَسْلِ الرِّجْلِ، وَقَدْ ضُعِّفَ بِالْهَيْثَمِ بْنِ جَمَّازٍ، وَحَدِيثُ الرَّبِيعِ بَعْدَهُ صَرِيحٌ فِي تَثْلِيثِ الرِّجْلَيْنِ. التَّاسِعَةَ عَشَرَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهَا قَوْلًا قَالَتْ فِيهِ: فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا وَوَضَّأَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مَرَّةً وَوَضَّأَ يَدَهُ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ يَبْدَأُ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ، وَفِيهِ: وَضَّأَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. الْعِشْرُونَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِعْلًا، رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى، وَفِيهِ: مَسَحَتْ رَأْسَهَا مَسْحَةً وَاحِدَةً إلَى مُؤَخَّرِهِ ثُمَّ مَرَّتْ بِيَدَيْهَا بِأُذُنَيْهَا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ التَّسْمِيَةِ إلَّا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَسَّ طَهُورًا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى» .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فِعْلًا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ: مَسَحَ بِرَأْسِهِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا وَمَسَّ أُذُنَيْهِ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَسَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا، وَقَدْ أَشَرْنَا فِيهَا إلَى الْأَطْرَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ وَغَرْفَاتِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا مَوْضِعَا خِلَافٍ فَتَتَيَسَّرُ الْإِحَالَةُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا، وَكُلُّهَا نَصَّ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِمَا (قَوْلُهُ هُوَ الْمَحْكِيُّ) تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ
(1/26)
 
 
(وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ) وَهُوَ سُنَّةٌ بِمَاءِ الرَّأْسِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ لَيْسَ أَخْذَ مَاءٍ لِيَكُونَ لَهُ غَرْفَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ مِثْلُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا، فَكَمَا أَنَّ الْمُرَادَ كُلٌّ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ثَلَاثًا فَكَذَا كُلٌّ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ مُشَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْيَامِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَضْمَضَ ثَلَاثًا وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، يَأْخُذُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَاءً جَدِيدًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، فَلَمَّا مَسَحَ رَأْسَهُ قَالَ هَكَذَا، وَأَوْمَأَ بِيَدَيْهِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى بَلَغَ بِهِمَا إلَى أَسْفَلِ عُنُقِهِ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ» وَقَدَّمْنَا رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد مُخْتَصَرًا وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ. وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَلِكَعْبٍ صُحْبَةٌ؟ فَقَالَ: الْمُحَدِّثُونَ يَقُولُونَ إنَّهُ رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَهْلُ بَيْتِ طَلْحَةَ يَقُولُونَ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ غَيْرُ قَادِحٍ، فَإِذَا اعْتَرَفَ أَهْلُ الشَّأْنِ بِأَنَّ لَهُ صُحْبَةً تَمَّ الْوَجْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِقْسَمٍ الْبَرِّيِّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ الْيَامِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ هَكَذَا، وَوَصَفَ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ جَرَّ يَدَيْهِ إلَى قَفَاهُ»
وَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بِمَاءٍ وَاحِدٍ لَا يُعَارِضُ الصَّحِيحَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ زَيْدٍ وَكَعْبٍ، وَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَجْدِيدُ الْمَاءِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْيَدَيْنِ ثَلَاثَ غَرْفَاتٍ لَا غَرْفَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَخَذَ مَاءً لِلْيُمْنَى ثُمَّ مَاءً لِلْيُسْرَى، إذْ لَيْسَ يَحْكِي الْفَرَائِضَ فَقَدْ حَكَى السُّنَنَ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ لَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْمَضْمَضَةِ بِهِ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا يُقَامُ فَرْضُ الْيَدِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ إنَّمَا هُوَ وُضُوءُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ لِيَتَّبِعَهُ الْمَحْكِيُّ لَهُمْ، وَمَا رُوِيَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ فَلِنَفْيِ كَوْنِهِ بِكَفَّيْنِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ بِالْيُمْنَى وَالِاسْتِنْشَاقَ بِالْيُسْرَى
 
(قَوْلُهُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ) عَنْ الْحَلْوَانِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ: يُدْخِلُ الْخِنْصِرَ فِي أُذُنَيْهِ وَيُحَرِّكُهُمَا كَذَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى.
وَاَلَّذِي فِي ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ أُذُنَيْهِ فَأَدْخَلَهُمَا السَّبَّابَتَيْنِ، وَخَالَفَ إبْهَامَيْهِ إلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ فَمَسَحَ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا» وَقَوْلُ مَنْ قَالَ يَعْزِلُ السَّبَّابَتَيْنِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ مَشَايِخِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُ إدْخَالُهُمَا وَهُوَ الْأَوْلَى (قَوْلُهُ خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ) قِيلَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ سُنَّةٍ بِمَاءِ الرَّأْسِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ بِمَاءِ الرَّأْسِ لَيْسَ إلَّا مِنْ حَيْثُ اتِّصَالُهُ بِسُنَّةٍ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» ) يَعْنِي فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ مَاءٍ
(1/27)
 
 
وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ دُونَ الْخِلْقَةِ. قَالَ (وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مُنْفَرِدٍ لَهُمَا، كَمَا لَا يُؤْخَذُ فِي السُّنَّةِ مَاءَانِ لِعُضْوٍ وَاحِدٍ فِي غَيْرِ التَّكْرَارِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَشْهَرُ إسْنَادٍ لِلْحَدِيثِ هَذَا يَعْنِي رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ قَالَ: الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَانَ حَمَّادُ يَشُكُّ فِي رَفْعِهِ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي أَمِنَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَرْوِيهِ عَنْ حَمَّادٍ وَيَقُولُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ انْتَهَى. وَقَدْ ضُعِّفَ شَهْرٌ أَيْضًا. وَأُجِيب بِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى حَمَّادٍ، فَأَبُو الرَّبِيعِ رَفَعَهُ عَنْهُ وَمَنْ سَمِعَتْ عَلَى مَا عَلِمْت. وَاخْتَلَفَ عَلَى مُسَدَّدٍ عَنْ حَمَّادٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِذَا رَفَعَ ثِقَةٌ حَدِيثًا وَوَقَّفَهُ آخَرُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ شَخْصٌ وَاحِدٌ قُدِّمَ الرَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ، وَالصَّحِيحُ فِي شَهْرٍ التَّوْثِيقُ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَأَحْمَدُ وَيَحْيَى وَالْعِجْلِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ وَسِنَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ تَوَهَّمَ فِي الْبَيْهَقِيّ التَّحَامُلَ بِسَبَبِ اقْتِصَارِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّكَلُّمِ فِيهِ
، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» وَهُمَا ثَابِتَانِ لِلِاتِّصَالِ وَثِقَةِ الرِّجَالِ، وَقَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الثَّانِي إسْنَادُهُ وَهَمٌ إنَّمَا هُوَ مُرْسَلٌ مُحْتَجًّا بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِصِحَّتِهِ ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ الدَّارَقُطْنِيِّ: لَيْسَ بِقَدْحٍ فِيهِ، وَمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَدِيثَانِ مُسْنَدٌ وَمُرْسَلٌ.
وَلَنَا أَحَادِيثُ أُخَرُ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ» . وَفِيهِ: ثُمَّ غَرَفَ غَرْفَةً فَمَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ بَابَ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ مَعَ
(1/28)
 
 
وَقِيلَ هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَالدَّاخِلُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الرَّأْسِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لِفَنَاءِ الْبِلَّةِ قَبْلَ الِاسْتِيعَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا انْعَدَمَتْ الْبِلَّةُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْأَخْذِ كَمَا لَوْ انْعَدَمَتْ فِي بَعْضِ عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ رَجَّحْنَا كَانَ مَا رَوَيْنَاهُ أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ، فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ كُتُبِ الرِّوَايَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمَا، وَأَمْثَلُ حَدِيثٍ فِيهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عُثْمَانَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: احْتَجَّا بِجَمِيعِ رُوَاتِهِ إلَّا عَامِرَ بْنَ شَقِيقٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ طَعْنًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ أَخْرَجَ أَحَادِيثَهُمْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ» ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَامِرًا ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَحَاصِلُ الْأَوَّلِ طَعْنٌ مُبْهَمٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ لَمْ يَقْبَلْهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالثَّانِي: لَا يُخْرِجُهُ إلَى الضَّعْفِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَغَايَةُ الْأَمْرِ اخْتِلَافٌ فِيهِ لَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ الْحَسَنِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: يَعْنِي الْبُخَارِيَّ أَصَحُّ شَيْءٍ عِنْدِي حَدِيثُ عُثْمَانَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ انْتَهَى. وَكَيْفَ وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَأَنَسٍ كَمَا رَوَاهُمَا الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ رَأَيْتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ، وَإِنْ ضُعِّفَ بِالِانْقِطَاعِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ» . رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَاجَهْ وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ نَحْوُهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/29)
 
 
قَالَ (وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ كَيْ لَا تَتَخَلَّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ» وَلِأَنَّهُ إكْمَالُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَقَالَ فِيهِ: فَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ. وَفِيهِ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ هَكَذَا الطَّهُورُ؟ قَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَرُوِيَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ: «كَانَ إذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ» . وَضُعِّفَ بِخَالِدِ بْنِ إلْيَاسَ الْعَدَوِيِّ. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ» . وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ وَضَّأَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غ