فصول البدائع في أصول الشرائع 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: فصول البدائع في أصول الشرائع
المؤلف: محمد بن حمزة بن محمد، شمس الدين الفناري (أو الفَنَري) الرومي (المتوفى: 834هـ)
عدد الأجزاء: 2
 
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله (2) الذي شرع شوارع الشرائع، لإحكام أحكام الوقائع، فنصب لعموم عباده منار الهداية، ورفع لخصوص عباده أعلام الرواية والدراية، حيث انتهضوا بعد تحصيل محصول خطابه، وتحقيق محيط كتابه، وتنقيح مناط السنن والأثر، حسبما يبلغه نهاية القوى والقدر، للاعتبار بالأمثال، فإنه من صنعة الرجال، والصلاة على محمَّد المخصوص بجوامع الكلم ومجامع الحكم، المغني عن الانتهاج بمنهاج نصائح الأمم، حاوى بديع إرشاده الأتم لسلوك الأمم، وشامل مبسوط كرمه الأعم، في التنبيه على اختيار الأعدل الأقوم، وعلى آله الواصلين من أصول فخر الإِسلام إلى منتهى السؤل، وأصحابه الحاصلين من فروع زيادات الكمال في الغاية القصوى من القبول.
"أما بعد" ...
فهذا كتاب فصول البدائع، في أصول الشرائع، وهو بحمد الله كأسمه جامع لغرائب المعقول والمنقول، قامع عن صفائح العقول، الشبة القادحة في الوصول إلى حقيقة الأصول، مأمول من جناب الجلال الفياض لا رفع النوال أن يتأصل كل مكن تدخل فيه، ويتكمل كلُّ من يحمل به من طالبه؛ لأن عرفانَه شامل، وإحسانَه كاملٌ، فيه التلفيق بين
__________
(1) الباء للملابسة، والظرف مستقر حال في ضمير أبتديء الكتاب كما في دخلت عليه بثياب السفر، أو للاستعانة والظرف لغوٌ كما في كتبت بالقلم، من اختار الأول نظر إلى أنه أدخل في التعظيم، ومن اختار الثاني نظر إلى أنه مشعر بأن الفعل لا يتم ما لم يصدر باسمه تعالى، وإضافة اسم الله تعالى إذا كانت للاختصاص في الجملة تشمل أسماءه كلها، وإن كانت للاختصاص وصفًا لذاته تعالى المتصف بالصفات الجميلة اختص بلفظ الله للوفاق على أن ما سواه معان وصفات، وفي التبرك بالاسم والاستعانة به كمال تعظيم للمسمى، فلا يدل على اتحادهما، بل ربما يستدل بالإضافة على تغايرهما. والرحمن الرحيم: اسمان بنيا للمبالغة من رحم كالغضبان من غضب، والعلم من علم، والأول أبلغ لأن زيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى ومختص به تعالى، لا لأنه من الصفات الغالبة؛ لأنه يقتضي جواز استعماله في غيره تعالى بحسب الوضع، وليس كذلك بل لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وتعقيبه بالرحيم من قبيل التتميم، فإنه لما دلّ على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها.
انظر / غرر الأحكام لمنلا خسرو (1/ 3).
(2) الحمد هو: الثناء باللسان على الجميل الاختياري من إنعام أو غيره.
والمدح هو: الثناء باللسان على الجميل مطلقًا.
انظر / غرر الأحكام لمنلا خسرو (1/ 3 - 4).
(1/7)
 
 
شتائت المباني من كنوز المذهبين، والتوفيق بين أباعد المعاني من رموز المقصدين، والتحقيق لمداحض لم يزل الفحول البزل لغموضها غموضًا عنها الأعين، والتدقيق في مغالط لم يتسن لهم في حلها إلا أن مضغوا الألسن، ثم مع أنه في فنه حاوٍ لكافة قوادح القرائح خاوٍ عن عامة مقادح القوارح يجمع إلى ضبط شوارد القوم نتائج الخواطر الفاتر ويعين بالبرهان ما عوّل عليه الرأي القاصر، كل ذلك في عبارة متصفة بعد الاقتصاد بالإعجاز لا مملة بالتطويل ولا مخلة بالإيجاز (شعر).
فجاء بفضل الله جمعًا ممهدا ... بتحقيقه في فنِّه صار أوحدا
لضبط أصول الفخر والحاجبي بل ... شروحهما لا كالبديع مجردا
وتحصيل محصول ومنهاجهم معا ... وما قيل شرحًا فيهما لا مفردا
وتلويح توضيح لتنقيحنا وذا ... بأن كل طعن فيه صارَ مسددا
كذا حال مغنينا ببحث شروحه ... فمن ذا أتى ركن الأصول مشيدًا
وكيف ولولا الذب عن أصل فرعنا ... لما ذكروا من قادحات معددا
لما صح دعوى العلم منا لرأينا ... ولا صح تعويل على مذهب بدا
ولا جاز تقليد لما بان ضعفه ... فكيف اجتهاد بالفساد مؤكدا
إذا ما ترى سعيي وغاية طاقتي ... لعلك تدعو لي إلها موحدا
تقول كما أعطيت علمًا مؤيدًا ... فوفق لما ترضى إلهي مؤبدا
فهذا مرادي بل نهاية مطلبي ... ولا كدني الخلق جاهًا ممددا
وقد ندبني إلى صياغته، جد بي إلى صناعة الشرع وصيانته، وإلى طالبي ضبطه ورعايته، إغناء لهم بالصباح، عن تكثير المصباح، وتقوية بتلفيق الأرواح، عن مؤنة تفريق الأشباح، وطالما طالبوني بجرأته فيه وفي ثمرته، وعاتبوني ما استعفى وأتعلل، ادعاء لمظنة الضنة، وإلا فمئِنة الكسل، ولما يسرني الله هنا لآخر الكلام، دعوت الله أن يوفقني لآخر المرام، والحمد لله ولي التوفيق، وإليه بالتحقيق انتهاء الطريق.
وينحصر مقصوده في فاتحة ومطلب:
أما الفاتحة: ففي مقاصد أربعة معرفة الماهية والفائدة والموضوع والاستمداد الإجمالي.
وأما المطلب: ففيه مقدمتان ومقصدان وخاتمة.
(1/8)
 
 
المقدمة الأولى: في عدة الموضوع وأهليتها.
المقدمة الثانية: في المبادئ التفصيلية الكلامية واللغوية والإحكامية.
المقصد الأول: فيه أربعة أركان للأدلة الأربعة.
المقصد الثاني: فيه ركنان للتعارض والترجيح.
 
أما الخاتمة ففي الاجتهاد وما يتبعه من مسائل الفتوى، ووجه الضبط أن ما يتضمنه الكتاب إما مسمى العلم أو ما يتوقف عليه الشروع بالبصيرة فيه، والثاني الفاتحة والمسمى هو المطلب وذلك إما أهلية الموضوع وإما مباديء وهما المقدمتان، وإما مسائل باحثة عن الأدبة من حيث الإثبات بها وهو المقصد الأول أو من حيث تعارضها وهو المقصد الثاني أو من حيث طلب الإثبات وهو الخاتمة والحصر استقرائي حاصل يتتبع جزئيات جزء الكتاب المتصورة لا عقلي لعدم اقتضاء العقل أن لا يذكر في كل قسم إلا ما فيه.
وأما أن ذلك لكونه مطلبًا لا يجزم العقل بطرفيه فلا لجزم العقل ها هنا بالاستقراء فإنه تام.
 
الفاتحة:
في أربعة مقدمات الشروع بالبصيرة في العلم، وللمقام تمهيدات:
1 - أن كل علم في الأصل مسائل كثيرة تضبطها جهةً واحدةً ذاتيةً هي خصوصية بحثها عن الأعراض الذاتية لشيءٍ واحدٍ حقيقية أو اعتبارية هو موضوعه وباعتبارها وضع علمه بإزائه أو عرضية تلزمها.
2 - أنه لكون موضوع المسائل عائدًا إلى موضوعه والبرهنة عليها موقوفة على تصورات وتصديقات بينة تسمى علومًا متعارفة أو مسلمة ها هنا مبينة في علم أعلى من جنسه أو خلافه إن كان وتسمى مصادرات أو محققة عند روم التحقيق لكن بوجه لا يتوقف عليها لئلا يدور وإن لم يكن أعلى ففي ذلك العلم اصطلاحًا، وقيل: أوفى أدنى لكن لا على وجه الدور وهو الحق وهي المبادئ جزءين له في وضع ثان بخلاف مقدمات الشروع لتقدمها بمرتبتين.
3 - أن الاطلاع على ذاتيات الماهيات صعبةٌ أما الحقيقة فمطلقًا وأما الاعتبارية فبالنسبة إلى غير المعتبر فلذلك نظروا في الآثار الفائضة عنها واشتقوا منها ما يحمل على الماهية وجعلوا المستتبع العام جنسًا والخاص فصلًا، وإن لم يعلم ذاتيتها وتابعيها عرضًا
(1/9)
 
 
عامًّا وخاصة فماهية العلم لكونها اعتبارية جعل تعريفها بالوحدة التي اعتبرها واضع علمه حدًّا له فجعل الموضوع كمادته والعرض الذاتي كصورته وأخذ باعتبارهما محمولان هما كونه علمًا بالموضوع وعلمًا به من الحيثية المخصوصة أو معلومًا هو الموضوع والحيثية المخصوصة إن كان العلم بمعنى المعلوم فجعلا جن سًا وفصلًا كالحيوان من بدن الإنسان والناطق من نفسه وتعريفها بالجهة العرضية المميزة المشتملة على شروط القبول رسمًا فمن مقدمة الشروع ما هو حد لكون التحديد بالأجزاء العقلية لا الخارجية حتى يمتنع فذات المسائل كأعضاء زيد وليس التحديد بها.
4 - إن كل طالب كثرة كذلك حقه عقلًا أن يعرفها بتلك الجهة ليأمن فوات ما يعنى وضياع وقته فيما لا يعني. فنقول: فحق كل طالب علم أن يعرفه بإحدى الجهتين ليكون على بصيرة في شروعه، أي: بعد تحصيل معرفة إجمالية بجميع مسائله فيأمن الأمرين وفائدته لأمور.
1 - أن يجزم بأن طلبه ليس عبثًا سواء فسر العبث بما لا فائدة فيجوز انتقاؤه عن فعل الموجب والمختار والغرض هي الفائدة المقصودة أو بما لا يقصد به فائدة ما ففعل الموجب عبث دون المختار سواء كانت الفائدة غرضًا إن لم يمكن تحصيلها إلا بذلك الفعل أولًا إن أمكن كفعل المختار عندنا، وإن كانت الفائدة عائدة إلى العباد دفعًا للاستكمال.
2 - أن يزداد جده إذا كانت الفائدة مهمة.
3 - أن لا يصرف فيه وقته إذا لم يعجبه وموضوعه لأمرين:
1 - أن يحصل له البصير الكاملة بالتميز الذاتي فإن اشتمل تعرفه عليه جاز الاكتفاء بالذكر الضمني وإلا فحقه التصريح بالتصديق لموضوعيته.
2 - أن يتميز المقصود بالذات عن المقصود بالعرض ليهتم به أكثر منه واستمداده الإجمالي أنه من أي علم يستمد ليرجع إليه عند روم تدقيق التحقيق، وإنما لم يجعله من المبادئ لأن البرهنة على المسائل لا تتوقف بعد معرفة المبادئ التفصيلية على بيان أنها من على كذا.
 
المقصد الأول في معرفة الماهية
لأصول الفقه معنيان إضافي حده بيان أجزائه المضاف والمضاف إليه والإضافة من حيث يصح تركيبها.
(1/10)
 
 
فالأصل في اللغة ما يبتني عليه غيره حسيًا كالبناء على الأساس أو عقليًا كالمعلول على علته والمنقول على المنقول عنه والمشتق على المشتق منه والجزئي على القاعدة الكلية ثم أطلق على الدليل والراجح والمستصحب والقاعدة بخصوصيتها (1).
وقيل: وعلى المحتاج إليه (2) فيحتمل أن يكون عرفًا للبعض ولا تشاح فيه يورد أنه غير مانع للفاعل والصورة والغاية والشروط وإن سلم عدم جواز التعريف بالأعم (3).
والفقه: قيل: معرفة النفس ما لها وما عليها (4)، فالمعرفة لكونها إدراك الجزئيات عن دليل يخرج التقليد وما لها وعليها ما أن يراد بهما ما ينتفع وما يتضرر به في الآخرة كالثواب وعدمه أو لعدم العقاب ووجوده وإما أن يراد ما يجوز وما يحرم وأيًّا ما كان فإن أريد عمومهما للاعتقاديات والوجدانيات اكتفى به وألا يزاد عملًا للاحتراز عنهما واحتمال المعاني الصحيحة يكفي لتصحيح لما قيل لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سواءًا ما وجدت لها محملًا صحيحًا.
وقيل: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية (5) فالعلم وسيجيء تفسيره كالجنس لما مر أنها ماهيةٌ اعتباريةٌ وإلا كان جنسًا وخرج بالأحكام العلم بالحقائق والصنائع.
والمراد بها ها هنا النسب الحكمية بين الأشياء الخمسة، وأفعال المكلفين التي هي مورد الإيجاب والسلب لأنفسهما ليكون العلم بها تصديقات، ولا المفسر بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير أو ليندرج الوضعي كالتكليفي وهو الخطاب بتعلق شيء بشيء بالدليلية أو السببية أو الشرطية أو المانعية أو نحوها وذلك لئلا يورد تارة على تعريف الحكم بأن الحكم ما ثبت بالخطاب لا عينه فيجاب بأن المراد بالخطاب
__________
(1) قاله أبو الحسن البصري في شرح العمد. انظر / المعتمد لأبي الحسن البصري (1/ 5).
(2) قاله الإِمام فخر الدين الرازي في المحصل والمنتخب، وتبعه صاحب التحصيل. انظر / المحصول للرازي (1/ 9)، نهاية السول للإسنوي (1/ 7).
(3) والثالث: ما يستند تحقيق الشيء إليه، قاله الشيخ سيف الدين الآمدي في الإحكام ومنتهى السول. انظر إحكام الأحكام للآمدي (1/ 8).
والرابع: ما منه الشيء، قاله صاحب الحاصل.
والخامس: منشأ الشيء، قاله بعضهم انظر / نهاية السول للإسنوي (1/ 7).
(4) قاله صدر الشريعة. انظر / التنقيح ومعه التلويح على التوضيح (1/ 10).
(5) انظر / المحصول للرازي (1/ 10)، المستصفى لحجة الدين الغزالي (1/ 4)، المعتمد لأبي الحسين البصري (1/ 4)، نهاية السول للإسنوي (1/ 22).
(1/11)
 
 
أيضًا ما ثبت به أو الحكم إيجاب وإطلاقه على الوجوب مجاز أو هو عين الوجوب بالذات، وإن كان غيره بالاعتبار وبأن الخطاب قديم والحكم حادث كالحل بالنكاح فيجاب تارةً بأن الحادث تعلق الحكم بفعل المكلف لا عينه، وطورًا بأن الحادث ظهوره وإن قدم تعلقه أيضًا وبخروج فعل الصبي فيجاب بأن تعلق الخطاب به باعتبار وليه ولا حكم فيما لا حكم على وليّه، وأخرى على حد الفقه بلزوم تكرار الشرعية فيجاب بأنه تعريف للحكم الشرعي وبخروج ما ثبت بالقياس والإجماع والسنة، فيجاب بأن كلًا منها كاشف عن الخطاب وبخروج نحو آمنوا ولزوم التكرارِ بين العملية والأفعال ويجاب عنهما بأن المراد بالأفعال ما يتناول الجوارح والقَلب وبالعملية ما يخصها فإن كل ذلك تكلف مستغنى عنه.
وخرج بالشرعية العقلية كالتماثل والاختلاف والحسية كحرارة النار والاصطلاحية كرفع الفاعل.
وبالعملية الاعتقادية إذ تسمى أصلية وكلامية كوجوب الإدمان وحجية الإجماع وليست من مسائلنا لأنه إثبات الموضوع والوجدانية كالأخلاق فإنها ملكات لا تتعلق بالمباشرة فهي أولى من الفرعية إلا أن يترادف بينهما اصطلاحًا وبالأخير أصول الفقه كالعلم بوجوب المأمور والخلاف كالعلم عن المقتضى والنافي وعلم المقلد.
وقوله قول مقلدي وظنونًا ليس بدليل أو ليس بتفصيلي والمراد العلم بلا واسطة إذ به الاستناد إلى الأدلة الأربعة عنده، وكذا علم الرسول وجبريل عليهما السلام لأن علمهما بالضرورة لا عن الأدلة، وربما قيل: هما عن الأدلة كوجوب الصلاة من {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: من الآية 78] لأنه من الغيب الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم الله لكن لا بالاستدلال لأن المؤيد من عند الله لا يحتاج إلى النظر بل بتوجه النفس أو الحدس أو قضايا قياساتها معها، فالمراد بعلم الرسول ما عدا مجتهداته إن جوز عليه الاجتهاد فقيد بالاستدلال احترازًا عنهما ومن فهمه مما قبله إما بالالتزام فذكره مقتضى صناعة التحديد أو دفع وهم الشمول، وإما بالمطابقة فذكره للتأكيد والبيان.
وأما علم الله تعالى فإن كان الكلام النفسي هو المعنى المعبر عنه بالعبارات المختلفة كان الحكم بالنسبة إليه لا عن دليل، وإن كان النظم والمعنى جميعًا كان الحكم إنشاء وهو إيجاد معنى ينظم يقارنه في الوجود، والعلم تابع للمعلوم عندنا فكان علمه عن دليل كعلم الرسول في الخروج بالاستدلال.
(1/12)
 
 
وقبل الاختلاف في الاحتياج إلى زيادة قيد الاستدلال فيما إذا تعلق عن الأدلة بالعلم أما إذا تعلق بالأحكام أو الفرعية لأن لها معنى الوصفية فلا.
قلنا لو أريد قيد الحيثية أي العلم بالأحكام من حيث هي متفرعة عن الأدلة لم يكن فرق بين التعلقين وقد يقيد الأحكام بالتي لا يعلم كونها من الدين ضرورةً لإخراج مثل وجوب الصلاة والصوم وليس بصحيح لأنه منه إلا أن يصطلح وربما يزاد عليه قيد انضمام العمل لوجوه:
1 - إن الحكمة التي هي في اللغة العلم مع العمل فسرها ابن عباس - رضي الله عنه - بالفقه.
2 - مقارنة الخير الكثير بها في قوله تعالى {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا} [البقرة: من الآية 269] ولا يقارن العلم إلا بذلك.
3 - دلالة موضع الاشتقاق نحو طبا فقيهًا بذوات إلا بلام.
4 - أنه الفقه مندوب إليه بقوله تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ} [التوبة: من الآية 122] وبالحديث والعلم المجرد عن العمل ليس كذلك بل مذموم لقوله تعالى {كمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: من الآية 176] و {كمَثَلِ الْحِمَارِ} [الجمعة: من الآية 5] و {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: من الآية 2] وبالحديث.
5 - أنه وصفهم بالإنذار المقصود به الحذر ولا يستحق فاعله مدحًا ولا فعله رواجًا إلا بالعمل لقوله تعالى {أَتَأمُرُونَ النَّاسَ} [البقرة: من الآية 44] الآية وعدم اشتراطه في الأمر بالمعروف أمر آخر لا ينافي هذا.
ولما كان ماهية العلم اعتبار انضمام العمل جزءًا من العلم والتحقيق أن كمال العلم بالعمل فالقولان اعتبار المكمل جزءًا وعدمه كما في العمل مع الإيمان ولا مساحة في التسمية لكن الأخير أنسب لغةً وشريعةً.
والفرق على مذهب الحنفية أن الإيمان بدون العمل منجٍ عن عقاب الكفر بالآتية والحديث إلا عند الخوارج والعلم بدونه ليس بمنج عن عقاب الفسق بل يقتضي شدته بالحديث.
وعلى مذهب الشافعية أن الإيمان مبطن له أحكام جارية بين العامة متعدية إلى الكافة فنبط بأمور ظاهرة تدل عليه كالإقرار من جملتها والعمل فعد من أجزائه مثله بخلاف العلم إذ ليس له حكم متعد ليحتاج إلى الأدلة الظاهرة فلم يجعل العمل من أجزائه تحصيل فالأركان عندهم ثلاثة لأنه إن لم يكن مقوّمًا فركن مكمل كالعمل في الفقه عند من يقول
(1/13)
 
 
به منا وفي الإيمان عند الشافعية وإن كان مقومًا فأما أبدًا ويسمى ركنًا أصليًا ولازمًا كالتصديق فيه والعمل عند الخوارج وكذا عند المعتزلة إما عدم دخوله في الكفر فلثبوت الواسطة أو في بعض الأحيان ويسمى ركنًا زائدًا كالإقرار فيه حالة الاختيار والنظم في القرآن في غير حالة الصلاة وما يلحق بها عند أبي حنيفة رحمه الله وفي غير حالة الضرورة عندهما ولا مشاحة في الاصطلاح.
وأورد على حدي الفقه بأن المراد بما في الأول وبالأحكام في الثاني أما كلها إن كان للاستغراق والمجموع إنما يراد بالكل المضاف إلى المعرف فأما لام الاستغراق فلكل فرد من أفراد المجموع حقيقة المجموع حقيقة الوحدان مجازًا وأما بعضها إن كان للعهد الخارجي كالأحكام المنصوصة والإجماعية أو الذهني كالنصف أو الأكثر منه كما قيل بجملة غالبة أو مطلق البعض وكذا إن كان للحقيقة لأن حقيقة الجمع أفراد أقلها ثلاثة والمهمل في حكم الجزئي فعلى الأول لا جمع إذ لا فقيه إن كان الاستغراق حقيقيًا أو ليس من قال لا أدري كما لك بفقيه إن كان عُرفيًا بأن أريد كل حكم يقع في الوجوب ويلتفت إليه ذهن المجتهد، وعلى الثاني فيه جهالة إذ لا دلالة ولا إحاطة بالكل أو ليس بمانع المقلد العالم بمثله أو ثلاث عن أدلتها.
وأجيب تارة: باختيار الأول وإرادة الاستغراق العرفي وكون المراد بالعلم التهيؤ القريب له وهو حصول ما يكفي في استعلام كل حكم من معرفة النصوص بمعانيها وسائر شروط الاجتهاد.
ورد بأن لا دلالة للفظ عليه وأن بعض الفقهاء لم يعلموا بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة - رضي الله عنه - لم يعلم دهرًا وجواز الخطأ في الاجتهاد وأن لا مساغ للاجتهاد في بعضها.
وأجيب: بأن الدلالة في العلم بالقوة القريبة عرفية وأن عدم العلم في الحالة الراهنة أو الخطأ فيها لا ينافي وجود التهيؤ لجواز أن يكون لتعارض الأدلة أو الوهم مع العقل أو موانع أُخر كعدم تيسير مدة مديدة يقتضيها أو فراغ فيها وأن عدم مساغ الاجتهاد فيما عدا المنصوصة والمجمع عليها مم بدلالة حديث معاذ - رضي الله عنه - (1).
__________
(1) أخرجه الترمذي (3/ 616) - ح (1327)، والدارمي (1/ 72) - ح (168)، وأبو داود (3/ 303) - ح (3592)، والنسائي في الكبرى (3/ 468) - ح (5944)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 230) - ح (22060)، والطبراني في الكبرى (20/ 170)، والخطيب في تاريخ بغداد (13/ 368).
(1/14)
 
 
وأخرى باختيار أن المراد مطلق البعض وبالعلم اليقين وبالأدلة الأمارات التي يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن بمطلوب خبري واليقين من الأدلة الظنية لا يحصل إلا لمجتهد يفيده ظن الحكم الجزم به في حقه وحق مقلديه أما ظنه الذي هو علة الجزم فوجداني وأما عليته فالإجماع المتواتر على أثر الجزم وهو وجوب العمل والفتوى، أو بأن رجحان المرجوح ممتنع فالأولى وجدانية والثانية ضرورية من الدين والحاصل من المقدمتين القطعيتين وهما هذا مظنوني مجتهدًا وكل ما هو كذلك فهو مجزومٌ به في حق مقلدي قطعي غاية الأمران الثابت قطعية في حقه وحق مقلديه لا في نفس الأمر ولذا لم يقطع بتخطئة المخالف اجتهادًا بالإجماع وجاز توليه مجتهد مخالف وذلك لا ينافي صدق تعلق اليقين به لأن صدق الشيء ببعض الاعتبارات طاف في أصل الصدق ومجزومية الحكم في حقه وحق مقلديه هي المرادة بالحكم بمجزومية وجوب العمل والفتوى لا أن الفقه هو العلم بوجوب العمل بالأحكام الخمسة من حيث تعلقها بأفعال المكلفين وفي حقه لا في نفس الأمر ليضره جواز كون وجوب العمل وجوبًا بما يظن أنه حكم الله تعالى كما في نحو خبر الواحد والتحقيق أن مناط الحكم قد يكون نفس المحل كحرمة لحم الخنزير وقد يكون وصفًا خارجًا كحرمة لحم المذكاة فإذا اشتبه مع لحم الميتة وكون ظن المجتهد مناطًا لقطعية الحكم من القبيل الثاني.
ثم الطعن في الإجماع بأن أدلته سمعية فلا يفيد اليقين وفي الدليل العقلي بالنقض بصور ظن يجب العمل فيها بخلافه كشهادة واحد عدل ليس بشيء لأن الحق أن الأدلة السمعية تفيد اليقين بالقرائن العقلية كتواتر القدر المشترك وأن المظنون يجب العمل به ما دام مطنونًا وعند المعارض الأقوى لم يبقَ مظنونًا. نعم يرد على الثاني أن امتناع رجحان المرجوح في نفس الأمر فيلزم أن يثبت به القطعية في نفس الأمر.
وجوابه: إنما يلزم أن لو كان الرجحان في نفس الأمر وهو ممنوع بل عند المستدل.
فإن رد بأن ما يستنبطه المقلد أيضًا قطعي حينئذ وهو خلاف الإجماع.
يجاب بأنه: إنما يلزم لو كان الرجحان الذي عنده معتبرًا وليس كذلك بالإجماع فما رأيه حتى يكون له عند.
ثم تفسير الأمارات بالأدلة الظنية لا محذور فيه إذا لم يجعل الأحكام الثانية بالأدلة القطعية من الفقه وإن جعلت كما هو الحق فاندراجها أما بأن المراد بالظن الراجح الشامل لجواز المرجوح ولعدمه أو بأن المراد إفادة الأدلة من حيث هي، والسمعية إنما يفيد
(1/15)
 
 
العقلية أما الجواب بأن المقلد المتمكن من استنباط الحكم عن الأمارات المراد فقيه ففاسد لأن ما يستنبطه إنما يكون علمًا لو أجمع على أثره وهو وجوب العمل موجب ظنه وليس كذلك وبأن المقلد فقيه وقول إمامه أمارة أفسد لأن التقليد ليس بحجة كالإلهام والأمارة حجة وإن سلم فكونه أمارة من حيث هو قول إمامه فليس بدليل تفصيلي ولئن سلم فالمراد الأمارات من الأدلة الأربعة.
ولما زعم البعض أن ذلك الإيراد وارد عدل إلى أنه العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها فالعالم ببعض ذلك وغير العالم بشيء منه ليس فقيهًا وكذا على الجواب الأول أن لا تهيؤ بدون معرفتها وهذا المجتهد العالم ببعض الأحكام على الجواب الثاني فالحد متساويان ولا يقدح فيه عدم العلم بما نزل به الوحي ولم يظهر.
واعترض بأنه حينئذ علم بجملة تتزايد بالوحي والإجماع ويتناقص بالنسخ والإجماع على خلف خبر الواحد يومًا فيومًا فليس اسمًا لشيء معين.
وبأنه لا يصدق على فقه الصحابة - رضي الله عنهم - لعدم الإجماع في زمنه عليه السلام وبأنه لا يكون العلم بالأحكام القياسية فقهًا إلا بالنسبة إلى قائسها فهو بالنسبة إلى كل مجتهد شيء آخر.
وبأن الظهور ولو لواحد لا يكفي وإلا لم تكن الصحابة الراجعون إلى عائشة رضي الله عنها مثلًا فقهاء وللأعم الأغلب غير مضبوط.
والجواب على الأولين أن التزايد والتناقص غير قادح في التعين النوعي الكافي وإلا لقد جاء فيما مر أيضًا لأن التهيؤ لا يحصل إلا بمعرفة النصوص الثابتة بمعانيها والمسائل المجمع عليها المتزايدة المتناقصة إن كان وهي المراد.
وعن الثالث أن اعتبار المسائل القياسية لنفسه دور ولغيره للمجتهد لا يجوز.
وعن الرابع بأن ظهور نزول الوحي ثبوته لدى المجتهد في طلب الكل بوجع معتبر شرعًا قطعي كمحكمات الكتاب والسنة المتواترة والمشافه بها أو ظني كغيره منهما.
أو نقول نفس ظهوره لكن لأكثر أهل الحلّ والعقد وذلك مضبوط كالإجماع والأول هو هو.
والإضافة إن كان مضافها دالًا على معنى مشتقًا كان كمكتوب زيدًا وغيره كدق القصار يفيد الاختصاص باعتبار ذلك المعنى وإن لم يدل الأعلى الذات فمطلقًا.
(1/16)
 
 
فالمراد بأصول الفقه أدلة تختص دلالتها بالفقه والاختصاص في الإثبات لا في الثبوت وبه الفرق بين غلام زيد وغلام ليس إلا لزيد.
فنقل إلى المعنى اللقبي ووضع بإزاء ما مر من الأقسام وإن لم يصدق عليها قبل النقل.
ولو حمل الأصول على اللغوي بمعنى ما يبتني عليه الفقه شمل الأقسام قبل النقل وهذا أولى لأن الأصل عدم النقل لاحتياجه إلى وضع سابق وتجاوزه إلا عند النظر إلى فوائد العملية.
ولقبي وحده العلم بالقواعد التي يتوصل بها توصلًا قريبًا إلى الاستنباط المذكور (1) فالتوصل القريب لإخراج المبادئ والاستنباط يخرج الخلاف لأن قواعده موصلة إلى حفظ المستنبط وهدية لا إلى الاستنباط، إذ لا نظر له في خصوصيات الأحكام فلا حاجة إلى قيد على التحقيق إلا بالنظر إلى أن بعض نكاته خصصت بالتعمل والحساب لأن قواعده موصلة إلى تعيين المقادير لا إلى استنباط وجوبها أو حرمتها مثلًا والقاعدة هي الأمر الكلي المنطق على جزئياته أي الذي يصلح أن يكون كبرى لصغرى معلومة في الفقه ليثبت المطلوب فالصغرى المعلومة في الفقه إن هذا الحكم مدلول الكتاب أو السنة أو مجمع عليه أو مقيس على كذا بالشروط المعتبرة في كل منها والكبرى المبحوث عنها هنا أن كل حكم كذلك فهو ثابت ولما كان قولنا كذلك فهو ثابت ولما كان قولنا كذلك مشمولًا على شروط استنباط كل حكم من الأحكام الخمسة عن كل من الأدلة اندرج تحته جميع مسائل هذا العلم المتعلقة بالأدلة من حيث الإثبات بها وتعارضها وطلب الثبوت وأما مسائل التقليد والاستغناء فإنما تذكر لكونها في مقابلة الاجتهاد لا لأن كل ما هو قول أمامي فهو واقع عندي مسألة أصولية كما ظن.
وفي تحديد العلوم بحث هو أن كل علم شخص من أشخاصه والشخص لا يحد وجوابه منع أنه شخص بلا نوع أشخاصه ما في العقول لاختلافها بالمحال ولا يرد أن اختلاف المحال لو أثر في الشخص لما تشخص زيد إلا بمحله وكان في محل آخر شخصًا آخر لأن بينهما فرقًا وهو أن تشخص العرض بتحيزه خلاف الجوهر.
 
المقصد الثاني في فائدته
فائدة: معرفة الأحكام الربانية بحسب الطاقة الإنسانية لينال بالجريان على موجبها
__________
(1) انظر/ المحصول للرازي (1/ 11)، إحكام الأحكام للآمدي (1/ 8)، نهاية السول للإسنوي (1/ 5)، المستصفى للغزالي (1/ 5)، التنقيح دمعه التلويح على التوضيح (1/ 20).
(1/17)
 
 
السعادات الدنيوية والكرامات الأخروية قيل لو كانت فائدته معرفة الأحكام لكانت قواعده كافية فيها وليست كذلك بل لا بد من جزء آخر باحث عن الأدلة التفصيلية ليحصل الغرض.
لا يقال الملازمة ممنوعة لأن شأن فائدة الشيء توقفها عليه لا عدم توقفها إلا عليه.
لأنا نقول الأصول جميع قوانين الاستنباط فلا بد أن يكون كافية.
أجيب بأن الأدلة التفصيلية وما يعرضها مندرجة تحتها من حيث هي أدلة وإن لم تكن ملحوظة بخصوصيتها كما أن فائدة المنطق الذي هو جميع قوانين الاكتساب هي صون الذهن عن الخطأ في طرقه ويندرج جميع الطرق تحته من حيث إنها كاسبة وإن لم يلاحظ خصوصيتها.
وتحقيقه أن في الأدلة التفصيلية ثلاث أمور جهات دلالتها على الأحكام وحصول تلك الجهات فيها وأعيانها فالأولى التي هي قوانين الاستنباط معلومة مبينة ها هنا والثانية لا تحتاج إلى البيان والثالثة وظيفة الفقه فلم يذكر من قوانين الاستنباط شيء إلا فيه.
 
المقصد الثالث في التصديق بموضوعية موضوعه
موضوعية الأدلة السمعية من حيث يستنبط عنها الأحكام الفرعية لأن البحث فيه عن أعراضها التي تلحقها لذاتها أو لما يساويها وهو حملها إما عليه نحو الكلب يثبت الحكم قطعًا أو على نوعه نحو الأمر يفيد الوجوب أو على عرضه الذاتي نحو يفيد القطع أو على نوعه نحو العام الذي خص منه البعض أو على غير ذلك كما سنوفي في موضوعه أما الأعراض أي المحمولات الخارجية اللاحقة للخارج الأعم أو الأخص أو المباين والحق ذكره لأن المراد الوسط في الثبوت وإلا لم تكن المسائل اللاحقة بلا واسطة من المفاسد العلمية.
ولذا قيل التمثيل لمباديء المحمولات أولى فغريبة وكذا اللاحق للجزء الأعم في الصحيح لأنه للعلم الأعلى في الحقيقة.
وقيل: والأحكام من حيث هي ثابتة بها لأنه يبحث فيه من أعراضها الذاتية أيضًا نحو الوجوب ثابت بالأمر والفرضية بقطعي لا شبهة فيه والوجوب القضائي يثبت بما يثبت به الأدائي والقضائي بمثل غير معقول لا يثبت بالقياس.
وقيل: والاجتهاد والترجيح للبحث عن أعراضهما أيضًا والتحقيق أن الإثبات نسبة
(1/18)
 
 
بين الأدلة والأحكام بالنسبة إلينا لأن الإثبات في الحقيقة لله تعالى والأدلة أمارات له والنسبة لها تتعلق بالمنتسبين فباعتبار تعلقها بالأدلة تسمى إثباتًا وباعتبار تعلقها بالأحكام تسمى ثبوتًا باعتبار انتسابها إلينا تسمى استنباطًا يقتضي الترجيح عند المعارضة.
ولما كان جواز تعدد الموضوع مما منعه بعض الأئمة كما يجيء وعند القائلين بجوازه الأصل عدمه تقريبًا للضبط وتقليل خلاف الأصل هو الأصل كان تقليل التعدد أولى فالمختار هو الأول لأن جميع مباحثه راجع إلى الإثبات أو النفع فيه كما حققناه وإن اختلفت العبارات وأحكام الأحكام أحكام أعراض الأدلة وأنواع أعراضها فهي في الحقيقة لها وحيثية الإثبات أعم من إثباته ونفيه فيندرج فيها مباحث الأدلة المختلف فيها.
 
تمهيدات في قواعد الموضوع
الأولى في تعدده قيل يجوز ذلك إذ تتناسب باشتراكها في ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي المشتركة في جنسها المقدار للهندسة أو عرضي كبدن الإنسان والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغيرها المشتركة في النسبة إلى الصحة للطب فالجهة الضابطة هي جهة الاشتراك المفيدة للوحدة الذاتية أو الاعتبارية.
وقيل لا يجوز إن لم يكن المبحوث عنه إضافة شيء إلى آخر وإلا لاختلفت المسائل فاختلف العلم كما لو قيل الفقه والهندسة علم واحد وموضوعه فعل المكلف والمقدار.
أما إذا كان إضافة شيء إلى آخر كالإيصال في المنطق والإثبات ها هنا فجاز أن يكون كلا المضافين.
وأورد بمنع لزوم اختلاف المسائل إن أريد عدم تناسبها ومنع اللازم إن أريد تكثرها.
وجوابه أن المراد عدم المناسبة التامة الضابطة للكثرة عند الفهم.
فبيان اللزوم أن جهة البحث هي جهة الوحدة الضابطة للمسائل الرابطة للموضوعات بها لوجوب ملاحظتها في كل مسألة والربط هو المراد بالإضافة.
وبيان بطلان اللازم أن جعل المسائل العديدة علمًا واحدًا بمجرد الاصطلاح ولا بمناسبة ما كيف كانت وإلا لجاز ما مر لمناسبة الأفعال والمقادير في أشياء كثيرة كالعريضة فلا بد من المناسبة التامة الضابطة.
ثم نقول كلما كانت أقرب كانت أضبط ولا شك أن الموضوع إذا اتحد كان الضبط أقرب ما يمكن وتم المناسبة فاختياره أولى تقليلًا لخلاف الأصل وهذا المقدار يكفي في الأمور الاصطلاحية.
(1/19)
 
 
والمحققون على أن موضوع الهندسة المقدار والطب بدن الإنسان وتعدادهم أنواعهما قصر المسافة كما نحن فيه.
نعم يرد أن هذا يجري فيما كان المبحوث عنه نفس النسبة أيضًا كما حققناه فيما نحن فيه.
الثاني في قيد حيثية قيل تارة تكون جزء الموضوع نحو موضوع الإلهي الموجود من حيث هو موجود فإن الوجود فيه ليس جهة البحث إذ لا يبحث فيه بأن ذاك موجود وهذا لا بل يمثل العلية والمعلولية والوجوب والإمكان العارضة من جهة الوجود وأخرى يكون جهة البحث بأن تكون بيانًا لنوع أعراضه الذاتية المبحوث عنها وإن كان له نوع آخر منها نحو موضوع الطب بدن الإنسان من حيث الصحة والزوال عنها فإن البحث فيه من هذه الجهة.
ويرد على الأول وجهان:
أن موضوع إلالهي ليس مركبًا من الموجود والوجود وليس البحث عن أعراض هذا المجموع إذ ليس المجموع أمرًا محققًا حتى يبحث عن أعراضه في أعلى العلوم الحقيقية.
2 - أنه لا يلزم من عدم كون الوجود جهة البحث أن يكون جزءًا لجواز أن يكون قيدًا خارجيًا معتبرًا في البحث وذلك هو الحق.
وأورد على الثاني أن الحيثية لو كانت بيانًا للأعراض المبحوث عنها والأعراض مبحوث عنها من تلك الحيثية يلزم تقدم الشيء على نفسه ضرورة تقدم سبب اللحوق عليه.
واجب بأن المراد حيثية الاستعداد لعروضها كحيثية الاستعداد للصحة في الطب وللحركة والسكون في العلم الطبيعي.
وفيه بحث إذ لا يتمشى في مثل قولهم موضوع علم السماء من الطبيعي أجسام العالم من حيث الطبيعة إذ لا يصح تفسيره بحيثية استعداد الطبعة وإن أمكن تأويله بصرف الطبعة إلى تأثيرها.
والحق من الجواب أن حيثية الصحة مثلًا اعتبارها واعتبارها غيرها وليست علة للحوقها بل لجملها والفرق بين اعتبارها في الموضوع والمسائل بأنه في الأول بالعروض وفي الثاني بالجزئية ولو صح حديث الاستعداد لما احتيج إلى الفرق.
الثالث في وحدته لعلمين أو أكثر.
(1/20)
 
 
قيل: ممتنعة وإلا لم يتمايزا.
وقيل: جائزة فيما له أعراض متنوعة في كل علم عن نوع منها لأن حقيقة العلم المسائل المركبة من الموضوع والمحمول فكما جاز اختلافه بحسب الموضوع جاز بحسب المحمول وواقعة فإن أجسام العالم موضوع الهيئة التامة من حيث الشكل مثلًا وموضوع علم السماء من حيث الطبعة والحيثية فيهما بيان المبحوث عنه لا جزء الموضوع.
ولما حققنا أن قيد الحيثية لا يكون بيانًا للمبحوث عنها علم أن موضوعهما مختلف بالاعتبار وذلك كاف حتى في نفس المسائل كاشتراكهما في كرية البسيط لكن علم السماء يقيد اللمية والهيئة الآنية فهذا الاختلاف فرع الاختلاف السابق.
الرابع: في شرط إفرازه وجعل أحكامه علمًا برأسه، إفرازه موضوعًا لعلم برأسه يتوقف على أمور:
1 - أن يهتم بشأن معرفة أحكامه لفوائد منوطة بها وإلا فيندرج أحكامه في العلم الأعلى على التفصيل السالف فيما مضى إفراز بدن الإنسان للطب من حيث الصحة وزوالها وبدن الفرس للفروسة من حيث التربية وأشغالها والبزاة لعلمها من حيث تعليمها والأحجار النفيسة من حيث حقيقتها وخاصيتها وتقويمها بخلاف أكثر الأحجار والحيوانات مع أن لكل منها مختصان.
2 - كون أحكامه مشتملة على وحدة جامعة وإلا اختلط العلوم بل والمتباينة وعاد الأمر على موضوعه بالنقض.
3 - كونها أعراضًا ذاتية لئلا يختلط أي لاحقه بلا واسطة أو بالمساوي لا بالأعم وإلا اختلطت بمسائل الأعلى ولا بالأخص وإلا فبمسائل الأدنى فلا بد من كونها مختصة وشاملة.
أما اختصاصها فلتكون مطلوبة منه.
وأما شمولها فأما على الإطلاق كالتحيز للجسم وإثبات أحد الأحكام الخمسة للأدلة الأربعة فيحمل على كليته وأما على التقابل كالحركة والسكون له وإثبات وجوب العلم والهمل أو العمل فقط لها فلا يحمل على كلية أحدهما معينًا بل مرددًا.
ولم يعتبر الواحد المعين حتى يعد من الغريب اللاحق بالأخص لأن الأخص إذا لم يجعل موضوعًا لعلم آخر أدى إلى إهمالها وهي مهتم بشأنها.
(1/21)
 
 
إما أنه متى يجعل الأخص موضوعًا لعلم آخر فقيل الأمر الكلي فيه أن لحوقها إن احتاج إلى أن يصير الأخص نوعًا متهيئًا لقبولها كالإنسان لنحو الضحك يفرز علمًا باحثًا عنها وإلا كالتحرك من الحيوان فلا.
وفيه بحث بأن الشق الثاني منقوش بنحو الكيمياء الباحثة عن كيفية تبديل الصور النوعية على هيولى واحدة غير مختص بمعدني أو نباتي أو حيواني والسيمياء الباحثة عن خواص الأجسام والأعراض من حيث ارتباطهما بالمبادئ المؤثرة من حيث التأثير غير مختص بنوع منها وبنحو الهيئة المجردة الباحثة عن أحوال أشخاص البسائط من الفلكيات والعنصريات لا عن أحوال أنواعها الكلية فإنها في علم السماء أو التامة.
والشق الأول يمثل مباحث النفس ومباحث كائنات الجو وغيرهما حيث يحتاج لحوقها إلى أن يصير نوعًا متهيئًا لقبولها لكن لا يعد علمًا مفرزًا إلا إذا اصطلح جديدًا.
فالحق عندي أن الأخص نوعًا كان أو صنفًا أو شخصًا إذا اهتم لبيان أحكامه من حيث هو أخص فإن كان جهة البحث عنها عين جهته عن أحكام الأعم عدت جزءًا منها لا جزئيًا واعتبر شمولها على التقابل ولم يفرز حتى لو أفرز لكان تسامحًا إفراز علم الفرائض من الفقه والكحالة في الطب.
وإن تغايرت جهتا البحث جعل علمًا جزئيًا أدنى إفراز الجسم الطبيعي من مطلق الموجود والطب والثلاثة الآخر منه.
الخامس: في نسبة العلوم وهي إما بالتداخل أي بالعموم والخصوص وبالتباين فترتب العلوم أعلى وأوسط وأدنى بحسب ترتيب موضوعاتها وخصوصًا المكلوم للكلام ثم الكتاب أو السنة للتفسير والحديث.
أما علم القراءة وأسماء الرجال فجزءان منهما لا جزئيان ثم هما للأصول كالإجماع والقياس وكذا تباينها كالفقه للأصول إن جعل موضوعه فعل المكلف وإن جعل الأدلة الجزئية من حيث إثباتها الأفعال الجزئية فجزئي منه فنظير المباين لعلمنا علم الأخلاق.
ففي التداخل إما أن يكون الأخص نوعًا كالهندسة والمجسمات أو نوعًا مع عرض ذاتي كالطبيعي والطب أو غريب غير نسبة كالأكر والأكر المتحركة أو غريب هو نسبة كالمناظر فموضوعها خطوط مضافة إلى البصر.
والتباين إما بالجنس كالطب والهندسة أو بالنوع كالحساب والهندسة أولًا بهما بل باختلاف الجهة كعلم السماء والهيئة وعليك باعتبارها في الشرعيات.
(1/22)
 
 
تتمة:
الموضوع إذا تركب من معروض وعارض فإن كان البحث عن أعراضهما معًا يعد العلم مندرجًا تحت مطلق المعروض كما تكرر مثاله وإن كان عن أعراض العارض فقط فتحت مطلق العارض كالموسيقي الباحث عن أعراض النغمة والصوت من حيث العدد العارض عليهما كالاتفاق والاختلاف فيعد مندرجًا تحت الحساب لا تحت الطبيعي.
 
المقصد الرابع
في أنه يستمد من الكلام والعربية والأحكام (1) فمن الكلام لأن غير الكتاب من الأدلة الشرعية مستندة إليه في الحجية وحجيته موقوفة على معرفة الباري تعالى ليعلم وجوب امتثال ما كلف به بخطاب مفترض الطاعة وهي على معرفة حدوث العالم عندنا سواء كان نفس المحوج أو جزئه أو شرطه.
وهذا التوجيه لا يتوقف على اعتبار حكم السنة باعتبار مبلغية الرسول والإجماع باعتبار سنده حكمًا لله تعالى ولأن حجية الكتاب موقوفة على صدق الرسول المبلغ وهو على دلالة المعجزة المقصود بها إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله الموقوفة على شيئين على امتناع تأثير قدرة الله تعالى ليتعذر المعارضة سواء قلنا بأنها ليست مقدورة لرسول أو مقدورة بأقدار الله تعالى فإن ذلك كاف في التصديق وذلك موقوف على بيان أن جمع الأفعال مخلوقة لله تعالى ليكون تصديقًا منه وعلى إثبات أن الله تعالى قادر عالم مريد ليوجد المعجزة على وفق دعوى النبي والقول بأن دلالتها تتوقف على الأشياء الثلاثة بلا واسطة فيه منع.
فهذه مسائل سبعة لا بد من الكلام في معرفتها إذ التقليد في العقبات المقصود فيها اليقين لا يفيد وإلا لاجتمع النقيضان فيها فيما قلد اثنان لا اثنين في النقيضين بخلاف الظنيات التي يجوز فيها أن يطابق نفس الأمر.
وأيضًا يستمد في المنطق وبحث النظر المجعولين جزءًا منه اصطلاحا لما لم يكن في الشرع علم أعلى من الكلام وعدم ذكرهم هنا اكتفاء بالمبادئ التفصيلية كما أن عدم ذكر المسائل السبعة فيها اكتفاء بطهور ثبوتها في الدين كأنها ضرورية أو مفروغ عنها.
ومن العربية لأن الكلب والسنة عربيان.
__________
(1) انظر/ إحكام الأحكام للآمدي (1/ 9 - 10).
(1/23)
 
 
ومن الأحكام أن تصورها لأن إثباتها ونفيها للأدلة المقصودين في الأصول نحو الأمر موجب والنهي ليس بموجب وللأفعال في الفروع نحو الوتر واجب والنفل ليس بواجب.
وكذا إثبات شيء لها أو نفيه عنها نحو وجوب الشيء يقتضي حرمة ضده أو لا يقتضيها لا يمكن بدونه فتصور ما يقع في محمولات مسائل العلم ومسائل غايته من المبادئ ومنعه مكابرة لظهور أن البرهنة على مسائله من حيث هي هي ومن حيث يترتب عليها غايتها يتوقف على هذه التصورات.
وفي المنطق كذلك من حيث أنه محمول ما أو واقع في محمول ما وذكره ها هنا أنسب كسائر مباديء الفقه.
ولكن رد الأخيرين إلى الأولين لما مر أن الإسناد إلى الأحكام إسناد إلى الأدلة الموجبة لها في الحقيقة أو المقصود منه إفادة تصورات جزئيات الأحكام ولذا ذكرت في المبادئ.
وليس إثباتها ونفيها في شيء من العلمين من المبادئ ها هنا وإلا دار صريحًا أو مضمرًا لأنهما ها هنا مقصودان لنا وفي الفقه غايتان لنا.
وذكرنا إثباتها أو نفيها في بعض المبادئ الأحكامية مع أنها من مسائلنا حقيقة إنما هو لما مر من تصور جزئيات الأحكام بذلك.
والمراد كان نفي توقف كل أصل على فرع نفسه فالدور لازم وإلا فلزومه مبني على مختار الجمهور وهو عدم جواز تجزي الاجتهاد إذ لا علم بحكم فقهي حينئذ إلا بعد العلم بجميع مسائلنا.
 
وأما المطلب ففيه مقدمتان
 
المقدمة الأولى: في عدة الموضوع وهيئتها، الأدلة السمعية أربعة عندنا بالكتاب والسنة ولكونهما من ضروريات الإِسلام ثابتين بالتواتر أو مفروغ عنهما في الكلام لم نحتج إلى إثباتهما بخلاف الباقين ولذا خولف فيهما فلما احتيج إلى إثباتهما رأوه في بابهما أليق.
ثم الإجماع المستند إليهما الرابع القياس الشرعي بالمعنى المستنبط من موارد الثلاثة وفي اختيار الاستنباط إلى أن العلم سبب حياة الروح كالماء للبدن فمن الكتاب كاللواطة على الوطء حالة الحيض في الحرمة بالأذى ومن السنة كالجص على الحنطة في الربا بالقدر والجنس ومن الإجماع كوطء أم المزنية على أم الأمة في حرمة المصاهرة بالجزئية ولا نص
(1/24)
 
 
إلا في أم المنكوحة.
فالقياس أصل من جهة إسناد الحكم إليه ظاهرًا وليس بأصل من جهة أن الاستدلال به موقوف على علة مستنبطة من مواردها فالحكم في الحقيقة لها ولذا قيل إنه مظهر لا مثبت وأن أثره في تعميم الحكم لإثباته فهذا معنى فرعيته من وجه لا ثبوت حجيته لشيء آخر وإلا كان السنة والإجماع كذلك وأورد أن الفرعية من جهة كالحجية لا ينافي إطلاق الأصالة من أخرى كالحكم مثل الأب وأن الأصالة للسبب القريب.
ولا يرد أيضًا أن التعميم لإثباته الحكم في صورة أخرى وأن حكم الإجماع يستند في الحقيقة على سنده.
لأنا لا نمنع أن التعميم بالإثبات فإن المراد به التعميم بالنسبة إلينا وذا بالإظهار ولأن الإجماع لا يحتاج في الدلالة إلى شيء كالقياس بل في الوجود ولأنه يفيد القطع بخلافه.
ووجه الضبط أن الدليل أما من الرسول أو من غيره والأول إن تعلق بنظمه الإعجاز فالكتاب وإلا فالسنة وقياس الرسول عليه السلام من باب السنة والثاني إما رأي جميع المجتهدين في عصره فالإجماع أو رأي البعض فالقياس أو أنه إما وحي أنزله جبريل عليه السلام فإن كان متلوا أي مظهرًا لما في اللوح لا يجوز لأحد تغييره وتبديله لفظًا أو معنى فالكتاب وإلا كما لو نزل على جبريل أو الرسول معناه فعبر أحدهما بعبارته ولذا جاز نقله بالمعنى وإن كان الأولى باللفظ والمعنى فالسنة وإن كانت أعم أو المراد بالوحي ما أوحى نفسه أو الاجتهاد فيه فيتناول قياس الرسول عليه السلام وأما غير وحي فالإجماع أو القياس، وأما تقسيم الحجيج من حيث الأصل إلى موجبة للعلم ومجوزة له وإن أوجبت العمل ثم كل منهما إلى أربعة فإلى أقسام الأقسام في الحقيقة مع تداخلها ظاهر أو لا وجه إلى إدخال التمسكات الفاسدة في القسمة لأن المورد الدليل الثابت ولأن الحصر في الحقيقة بالاستقراء وهذا ضبط ما يثبت به، وأما الخامس المسمى بالاستدلال عند من يقول به فمصرح في أحكام بأن مرجعه التمسك بمعقول النص أو الإجماع ولذا قالوا إن عين السبب المستلزم كان قياسًا ومنه الاستصحاب دفعًا وكذا شرائع من قبلنا لأنها حجة حين قصت على شريعتنا والتمسك بالأثر لأنه محمول على السماع فكونه سماعًا حكميًا ككون السكوت بيانًا حكميًا والتعامل إجماع فقد قال الإمام الكردري: شريعة من قبلنا متابعة للكتاب والآثار للسنة والتعامل للإجماع والتحري والاستصحاب للقياس، وذكر في الجامع السمرقندي أن الأخذ بالاحتياط عمل بأقوى الدليلين والقرعة لتطييب القلب عمل
(1/25)
 
 
الإجماع أو السنة المنقولة فيها أو بعموم قوله ولا تنازعوا وشهادة القلب عمل بقوله عليه السلام (لوابصة) استفت قلبك (1) والتحري عمل بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس لأن الأمة أجمعت على شريعته عند الحاجة وورد فيه السنة والآثار وكذا أقسام الاستحسان والمصالح المرسلة راجعة إليها قالوا الأدلة راجعة إلى الكلام النفسي قيل أي إلى كلام الله القديم القائم بذاته تعالى أن الحكم إلا لله وهو مدلول الكلام اللفظي إن لم يكن الحروف قديمة كما اختاره المتأخرون واللفظي الحاصل في النفس إن كانت كما عليه المتقدمون قولًا بأن الضروري حدوثه التلفظ لا اللفظ. وقيل: أي إلى الكلام النفسي القائم بذات من صدر عنه كل دليل كالمجتهد والشعبي وذات الله تعالى وأيًا كان فالكلام النفسي هي النسبة بين المفردين أعني المجموع القائمة بنفس المتكلم أي النسبة التامة الإخبارية أو الإنشائية من حيث إفادتها وأنها ثابتة وليست خارجية أي صادقة مع قطع النظر عن النفس لا موجودة فيه إذ لا وجود لنسبة ما غير الأكوان وذلك لتوقف حصولها على تعقل المفردين وليست العلم بها لتأصل ثبوتها ولذا تكون حيث خارجية كطلب الصلاة في صلوا ولا إرادتها إذ قد لا تكون مرادة.
 
المقدمة الثانية: في المبادئ التفصيلية وفيها مقاصد ثلاثة:-
المقصد الأول: في المبادئ الكلامية لما لم يكن استنباط الأحكام عنه أداتها غلا بالنظر في الدلالة والاستدلال والدليل المدلول تصوريا كان النظر الكاسب أو تصديقيًا لم يكن يد في كل منها تعريفًا وأقسامًا وأحكامًا، الكلام في الدلالة وهي لغة ترادف الإرشاد والهدي هو المعلوم من الصحاح وأخصية الهدي من الكشاف وأخصية الإرشاد من المصادر واصطلاحًا كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم والظن بشيء آخر أو من الظن به الظن بشيء آخر لزومًا ذاتيًا أو مع القرائن والقسم الرابع محال إلا شرعًا كما مر ومعنى الترديد أنه كل منها فهو تنويع لا تشكيك فالأول الدال والثاني المدلول والدال إن كان لفظًا فالدلالة لفظية وإلا فعقلية كدلالة المعجزة على صدق الرسول واللفظية إن كان للوضع فيها مدخل فوضعية وإلا فإن كانت باقتضاء طبيعة اللافظ التلفظ به عند عروض المعنى له فطبيعية كاح على السعال وإلا فعقلية كعلى اللافظ ومرادنا اللفطة الوضعية وهي
__________
(1) أخرجه الدارمي (2/ 320) - ح (2533) والإمام أحمد في مسنده (4/ 228) - والحارث في مسنده (1/ 201) - ح (60) البغية.
وأبو يعلى في مسنده (3/ 160 - 161) - ح (1586) وأبو نعيم في الحلية (2/ 24).
(1/26)
 
 
كون اللفظ بحيث إذا أطلق أو أحس فهم المعنى للعلم بالوضع وقيل: متى أطلق ومبنى الخلاف اعتبار القرائن وعدمه والموقوف على العلم بالوضع فهم المعنى من اللفظ وفي الحال وما يتوقف عليه العلم بالوضع فهمه في الجملة وسابقًا وهي إما على تمام الموضوع له فمطابقة أو على جزئه بأن تنتقل الذهن من الكل إليه انتقالًا من الإجمال إلى التفصيل بعكس الحد فتضمن أو على خارجه اللازم لزومًا ذهنيًا عقليًا أو عاديًا لا خارجيًا لدلالة العدم على الملكة فالتزام فيتبعان للمطابقة. وقيل: لزومًا عقليًا فقط أي بينا بالمعنى الأخص عند جمهورهم والأعم يكفي عند الرازي ويرد عليهم أنواع المجازات فإنه مفقود في أكثرها وأجيب بأنه متحقق بالنسبة إلى المسمى مع القرينة وليس بشيء لأن الدال على المعنى المجازي إن كان هو اللفظ مع القرينة نحو أسدًا يرمي لا يكون شيء من أقسام إنجاز مجازًا في المفرد وإن كان هو اللفظ بمعونة القرينة عاد الجواب على موضوعه بالنقض إذ لم يكن اللزوم البين بتفسيرهم شرطًا ولأن قرينة المجاز ليست لفهم المعنى المجازي مطلقًا بل قسم منها لرد إرادة الحقيقة كيرمي فيما مر فإن الأسد يتفهم منه معنى الشجاع هذا ما قيل وفي الجوابين شيء فإن اللزوم البين إذا فسر بما يعم ما بالقرينة لم يكن في الجواب نقض لموضوعه وأيضًا القرينة إنما تكون لرد إرادة الحقيقة فيما يكون اللزوم بينا بلا قرينة وإلا فلا فهم، والتحقيق ما أشرنا إليه أن هذا الخلاف مبني على اعتبار القرائن وعدمه لا على تفسير الدلالة كما ظن فإنه فرع اعتبار القرينة لا بالعكس ولا بد من قيد في كل منها وفهم الجزء قد يتأخر في العلم التفصيلي وهو الفهم بشرط لا وذلك هو المراد ولا ينافي لزوم سبق فهمه في الجملة ولذا قالوا الأجزاء العقلية بلا شرط محمول جنس أو فصل وبشرط لا جزء مادة أو صورة وليست هذه المادة والصورة ما قيل بتركب الجسم عنهما وإلا لم يمونا للأغراض بل كل منهما مشترك بين المعنين ثم فهم الجزء لا يستلزم فهمه مع جزئيته هذا عند المتطبقين، وعندنا المطابقة والتضمن واحدة بالذات متعددة بالإضافة بالنسبة إلى كمال المعنى وإلا لزم فهم الجزء عند إطلاق اللفظ الموضوع لمعنيين مرتين في ضمن المجموع ومنفردًا والوجدان يكذبه وإذا ذهبنا أن المطابقة والتضمن لفظية والعقلية فقط هي الالتزام لا مع التضامن كما ذهب إليه صاحب المفتاح فلا يرد النقض بالتضمن على مهجورية الالتزام لكونها عقلية قيل كون الدلالتين واحدة بالذات غير معقول فيما إذا نصب قرينة مانعة عن إرادة الكل ولا يجاب بأنه مطابقة حينئذ لأنها دلالة على تمام المراد لأن الدلالة بحسب الوضع لا يحسب الإرادة كما يفهم من تعريفها بل إما بأن عدم
(1/27)
 
 
الإرادة لا ينافي وجود الدلالة وإما بأن القرينة غير معتبرة عندنا في الدلالة اللفظية وحينئذ يتحدان بالذات ودلالة المركب بحسب مادته وصورته في الأقسام الخمسة عشر غير خارجة عن الثلاث وفي الأرقام والمعميات إن أوجبت القرائن اللهم فالتزام وإلا فلا دلالة، والنسبة بين الدلالات الثلث بحسب اللزوم في الوجود وعدمه ستة فالتضمن والالتزام يستلزمان المطابقة لامتناع وجود جزء الشيء ولازمه ولا يكون نفسه والمطابقة والالتزام لا يستلزمان التضمن لجواز بساطة الموضوع له والمطابقة والتضمن استلزامهما للالتزام محتمل، وعند الرازي مقطوع به لأن كل مفهوم يستلزم أنه ليس غيره ومرجع الخلاف إلى أن لمعتبر في دلالة الالتزام اللزوم البين بالمعنى الأخص كما هو الحق وهو لزوم تصوره من تصور الملزوم أو بالمعنى الأعم وهو اللزوم المجزوم به من تصورهما فإذا كفى تصور الملزوم في فهم اللزوم كفى التصوران ولا ينعكس والالتزام مهجور اصطلاحًا ولكونها عقلية على مذهبنا إلا في المحاورات بل في الحدود كلا وبعضًا والتضمن كلا ولا بعضًا والمطابقة لا كلا ولا بعضًا ودلالة المطابقة بطريق الحقيقة والتضمن والالتزام بطريق المجاز واللزوم اعتباري صادق لا كاعتبار الاجتماع في النقيضين فلا يتسلسل وصدق الشيء لا تستلزم وجوده كصدق الأسلوب.
 
الكلام في الاستدلال
وهو طلب الدلالة لغة واصطلاحًا فأما الكلي على الجزئي نحو هذا جسم متحيز وهو القياس العقلي لأن فيه جعل النتيجة المجهولة مساوية للمقدمتين في المعلومية وسيجيء تعريفه وأما بالجزئي على الكلي نحو كل جسم متحيز لأن أفراده كذلك ويسمى استقراء ويعرف بإثبات الحكم الكلي لثبوته في جزئياته فإن كان تمامًا يسمى قياسًا مقسمًا أيضًا ويفيد القطع وإلا فاستقراء ناقصًا ولا يفيد إلا الظن نحو كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ فإن التمساح بخلافه وأما بالجزئي على الجزئي لعلة جامعة ويسمى تمثيلًا وقياسًا فقهيًا لما فيه من تسوية الجزئيين في الحكم لتساويهما في العلة وسيجيء توفية مباحثه إن شاء الله تعالى، أما الاستدلال بالكلي على الكلي نحو كل إنسان ناطق وكل ناطق حيوان فيرجع إلى ما بالكلي على الجزئي قيل لأن الكليين إن دخلا تحت ثالث فهما جزئيان إضافيان وهو المراد ها هنا وإلا فلا تعدي لحكم الأكابر إلى الأصغر، وفيه نظر لأن مقتضاه لا يكون الاستدلال إلا بالجزئي على الجزئي بل لأن الملاحظ في التعدية خصوص الصغرى وعموم الكبرى كما سيحقق بناء على أن مرجع القياس إلى الحكم على ذات
(1/28)
 
 
الأصغر بواسطة مفهوم الأوسط وهو أعم وكذا في الاقتران الشرطي يستدل بعموم الأوضاع والتقادير على بعضها أما في الاستثنائيين فلا يصح إلا بالرجوع إلى الأول بأن مضمون التالي متحقق الملزوم فهو متحقق أو مضمون المقدم منتفى اللازم فهو منتف.
الكلام في الدليل هو لغة يقال للمرشد وما به الإرشاد والمرشد لناصب العلامة وذاكرها.
وقيل: المرشد للمعاني الثلاثة ولو مجازًا (1) لأن المورد ما يطلق عليه ولئن سلم فلا جمع مع أن المجاز إذا اشتهر التحق بالحقيقة فالدليل على الصانع هو الصانع أو العالم أو العالم وعلى الحكم الشرعي هو الله والفقيه أو الكتاب وغيره واصطلاحًا في الأصول ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري فيتناول البرهان والأمارة واعتبار الإمكان ليتناول ما قبل النظر والصحيح وهو ما فيه وجه دلالة لأن الفاسد لا معتبر به وإن أفضى اتفاقًا فإن التوصل يقتضي وجه الدلالة بخلاف الإفضاء والخبري ليخرج المعرف وبعضهم فرق بين اصطلاح الأصول والفقه فعمم الأول وخص الثاني بالقطعي ويسمى الظني أمارة والأصح الأول يعرف بتتبع موارده وأيًّا ما كان فهو الأصغر المحكوم عليه في الصغرى لا مجموع المقدمتين لأن النظر ترتيب أو حركة للترتيب فوقوعه في المرتب محال بخلاف المنطقين فإن الدليل عندهم قولان أي قضيتان في القياس البسيط فصاعدًا في المركب مفصول النتيجة أو موصولها يكون عن المجموع قول آخر أو لو سلمت لزم لذاته عنه قول آخر بطريق الكسب وهذا القيد يخرج لزوم عكسي القضية المركبة والمقدمة في الاستثنائي ليست عين اللازم بل لزومه وإحدى المقدمتين كيف ما كانت ليست بمستفادة منهما بل العلم بها سابق على العلم بهما فيتناول الصناعات الخمس أعني البرهاني والظني المتناول للخطابة والجدل والشعرى والمغالطي المنقسم إلى المشاغبي والسفسطي ولو قيل يستلزم لذاته لم يتناول إلا البرهاني لأن أقرب الصناعات إليه الظني وليس بين الظن وشيء ما ربط عقلي أي ليس شيء مستلزمًا للظن بحيث لا يتخلف عنه عادة لانتقاء الظن مع بقاء سببه عادة كظن المطر مع الغيم الرطب فليس البحث الكلامي ها هنا تجويز اللزوم العادي الذي هو المراد في الظني لما بينا من انتفائه عادة ولا بيان أن الدليل الظني لا يستلزم لذاته شيئًا بأن المؤلف من مقدمتين ظنيتين يحصل نتيجته على تقدير واحد هو صدقهما وينتفي على ثلاث تقادير كذبهما وكذب
__________
(1) انظر / إحكام الأحكام لسيف الدين الآمدي (1/ 11).
(1/29)
 
 
بهما وكذب هذه وتلك فالانتفاء إن لم يكن راجحًا فلا أقل من المساواة ولذلك يتخلف الظن بحصولها عنهما لأن البيان لا يسمى بحثا بل دليلًا بل الإشارة إلى اللزوم الذاتي أعم من العادي والتوليدي والإيجابي على المذاهب.
تذنيب
المراد هنا بالاستلزام الذاتي أن لا يختلف عنه اللازم أصلًا لا ما لا يكون بمقدمة أجنبية كما في قياس المساواة أو غريبة كنا لاستلزام بواسطة عكس النقيض فسيجيء أن ذلك معتبرًا عندهم.
(تنبيه) الدليل أخص من الدال لتناول التصورات بخلاف الدليل، الثاني في أقسامه الدليل أن أريد به المقدمات إما عقلي محض ولا يثبت ما يتوقف عليه النقل مثل المسائل السبعة السالفة إلا به وإلا لزم الدور وإما نقلي محض بمعنى أن مقدماته القريبة مأخوذة من النقل نحو تارك الأمر عاص لقوله تعالى {فَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: من الآية 93] وكل عاص يستحق العقاب لقوله تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللْهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: مِن الآية 14] الآية لا بمعنى عدم توقفه على العقل أصلًا فلا وجود له إذ لا بد لصدق ناقله من عقل دفعًا للتسلسل فما لا يمتنع عقلًا إثباته ولا نفيه كجلوس غراب الآن على منارة الإسكندرية لا يثبت إلا به وأما مركب بمعنى أن مقدماته القريبة بعضها من النقل وبعضها من العقل ويثبت ما عدا القسمين كوحدة الصانع إذ يمكن إثباتها بالعقل والنقل ومن أراد بالنقلي ما لا يكفي فيه العقل قسمة إلى قسمين وإن أريد به مأخذ المقدمات فإن كان استلزامه للمطلوب بحكم العقل فعقلي كالعالم للصانع وإلا فنقلي ولا معنى للمركب، الثالث في أحكامه الدليل العقلي قد يفيد اليقين الإجماع وإلا فلا برهان أما النقلي فقيل لا يفيد لتوقفه على العلم بالوضع والإرادة والأول لكونه مما لا يمتنع عقلا إثباته ولا نفيه إنما يثبت بنقل اللغة والنحو والصرف وأصولها ثبتت برواية الآحاد الغير الثقة وفروعها بالأقيسة وكلاهما إن صحّا فظني، والثاني يتوقف على عدم النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير والناسخ والكل جائز ولا يجزم بانتفائه بل غايته الظن. وبعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح إذ في إبطاله لكونه موقوفًا عليه إبطال النقل الموقوف وكل ما أدى إلى إبطاله كان مناقضًا لنفسه وباطلًا وعدمه غير يقيني، لا يقال احتمال المعارض ثابت في العقلي أيضًا؛ لأنا نقول
(1/30)
 
 
العقلي الصحيح ينفي بمجرده احتمال المعارض والإلزام تعارض القواطع وارتفع الأمان عن البديهيات وأيضًا فأدور الألفاظ كلفظ الله اختلف فيه أسرياني من لاها بحذف الألف وإدخال اللام أو عربيّ فإما مشتق وضعه كلي من أله كعبد وزنا ومعنى أو من وله تحير أو من لاه ارتفع وأما موضوع وضعا شخصيًا للذات الموصوفة بصفات الألوهية أو للذات معها فما الظن بغيره والصحيح أن النقلي يفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمال، وبيانه أن من المنقولات ما هو متواتر لغة كالأرض والسماء والحرّ والبرد في معانيها وصرفًا كقاعدة أن ضرب ماض ونحوا كقاعدة رفع الفاعل والمؤلف منه قطعي الدلالة ثم قد يكون قطعي الإرادة أيضًا لخلوه من المذكورة من العدميات فيحصل به علم قطعي كعلمنا بوجود مكة وبغداد فالقدح فيه بالدليل سفسطة وبدونه عناد فإن أراد المشكك أن بعض الدلائل اللفظية لا يفيد اليقين فلا نزاع أو شيء منها يفيده فشبهته لا يفيده، فإن قيل الخلو عن الأمور المذكورة إنما تبتني على الاستقراء الغير التام وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود وأيضًا السفسطة تستحق الجواب لأن العلم بكذب مقدماتها إما ضروري اشتبه على السوفسطائي فيجب التنبيه عليه أو كسبي فتحتاج إلى كاسب قلنا مما علم قطعًا بالتجربة إن العقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة الصارفة فيقال هذا قطعي الدلالة مستعمل مع عدمها وكل ما كان كذلك خال عن الأمور المذكورة وكل خال عنها قطعي الإرادة والمقدمة الثانية تجربته ومع ذلك فيجوزان ينضم إليه قرائن عقلية تقتضي عدم الأمور المذكورة وأن الأصل هو المراد كما في نصوص إيجاب الصلاة والزكاة والتوحيد والبعث وحينئذ لو لم يعلم قطعًا لبطل التخاطب بالجزميات وقطعية التواتر واو وجد المعارض العقلي لزم تعارض القواطع فمثله أيضًا ينفي المعارض بمجرده، وأما أن السفسطة لا تستحق الجواب فالمراد لا تتعين مقدمة منها للبطلان بل هو بالحقيقة نقض إجمالي أي دليلكم غير تام بجميع مقدماته لتخلفه إذ قد يحصل العلم القطعي بالوضع والإرادة وهذا ظاهر في الشرعيات التي يمتنع ثبوتها بمجرد العقل فلا معارض من قبله وعدمه من الشرع معلوم بالضرورة من الدين كما في النصوص المذكورة وأما في العقليات المحضة فقيل توقف لأن إفادة اليقين فيها مبنية على أنه هل يحصل بمجرد النقل بعدم المعارض العقلي وهل للقرينة مدخل في ذلك ولا قطع فيهما وهذا إنما يصح إذا نقل عمن لم يقطع عقلًا بصحة قوله كالنبي أما إذا سمع منه أو نقل عنه بالتواتر نقلا مشتملا في كل مرتبة على قرائن عقلية دالة على عدم خلاف الظاهر
(1/31)
 
 
أو عرف بالنقل المتواتر عدمه أيضًا فلو لم يصح وظهر المعارض العقلي لزم كذبه وحصل تعارض القواطع فإن العلم القطعي نوعان الحاصل من قطعي الثبوت المشتمل نقله على ذلك ويسمى علم اليقين كالمحكم المتواتر والحاصل منه غير مشتمل على قرائن خلاف الظاهر وعدمه وهو علم الطمأنينة كالظاهر والنص والخبر المشهور فالأول يقطع جميع الاحتمالات والثاني الاحتمالات الناشئة عن الدليل على أن الحق أن إفادة اليقين يتوقف على انتفاء المعارض لا الجزم بانتفائه لحصولها مع عدم خطوره أصلًا نعم يجب أن يكون بحيث إذا لوحظ جزم بانتفائه. الكلام في دلالة الدليل هي باشتماله على جهة الدلالة وهي أمر مستلزم للمطلوب ثابت للدليل لينتقل الذهن من الدليل لثبوته إلى المطلوب لاستلزامه إياه وهذا على عرفنا ولا بد من تفسير بعرف المنطق ليتضح حقيقته فالأمر هو الأوسط واستلزامه للمطلوب مفهوم الكبرى والمطلوب نسيبة الأكبر والدليل هو الأصغر وثبوت الأمر له مفهوم الصغرى وإنما قدمنا الإشارة إلى الكبرى لأنها أقوى المقدمتين لأن المعتبر في صغرى الخصوص بحسب المفهوم ساوتها في الوجود أولًا، ولأنها تشتمل على الحكم بالأكبر على الأصغر والاحتياج إلى الصغرى لاندراج الأصغر تحت الأوسط وذلك معلوم غالبًا بالحس أو الضرورة أو القوة القريبة من الفعل وهذا معنى كونها مهملة الحصول، ثم هذا البيان قبل حقيقة القياس الاستثنائي الذي وضع فيه المقدم. وقيل: الشكل الأول كما فسرناه ولكل منهما وجه لأن كليهما بديهي الإنتاج وبينهما تراجع فيجري على ما فسرنا، وفقول ثبوت الأمر للدليل يقتضي كون الصغرى موجبة موضوعها الأصغر فانتفاؤه إما بأن يكون سالبة أو موضوعها أوسط أو كليهما أما الأول ففي الثاني والرابع من الثاني وأما الثاني ففي ضروب الثالث والرابع سوى ثالثة ففيه كلاهما وينتفي أيضًا في الصغرى الشرطية من اقتراني الشرطيات وأن الثبوت فيها عند الدليل لا له ثم استلزامه للمطلوب يقتضي كون الكبرى كلية موجبة موضوعها الأوسط فانتفاعه إما بأن يكون جزئية أو سالبة أو كليهما أو موضوعها الأكبر فقط أو مع أحديهما أما الأول ففي ثالث الثالث وأما الثاني ففي الثاني والرابع من الأول والرابع والخامس من الثالث وأما كلاهما ففي سادس الثالث وأما الرابع فقط ففي الثاني والرابع من الثاني والأول والثالث من الرابع ومع الجزئية ففي ثاني الرابع ومع السالبة ففي الأول والثالث من الثاني والرابع والخامس من الرابع ومعهما لا وجود لها على مذهب على المتقدمين وعند الباحثين عن الموجهات لها وجود إذا كانت
(1/32)
 
 
إحدى الخاصتين كما عرف في موضعه ومن هذا يعلم أن انتفاء مجموع الأمرين أعني ثبوت الوسط للدليل واستلزامه للمطلوب في الثاني والرابع من الثاني والثلاثة التي كبرياتها سوالب من الثالث وجميع الشكل الرابع وانتفاء أحدهما في الأول والثالث من الثاني والثاني والرابع من الأول والثلاثة التي كبرياتها موجبات من الثالث بقى الأول والثالث من الأول فالباقية ترتد إليهما بل إلى الضروري من الضرب الأول وهما الموجبتان الكليتان ولارتدادها قواعد لا تخفي بعد الإحاطة بها على من ليس بممحو عن دفتر المخاطبين:
1 - الجزئي يكون كليًّا بتعيين الموضوع إن تعدد أفراده وإلا فشخصيًا.
2 - السالب يكون موجبًا سالب المحمول بتقديم الموضوع والرابطة على حرف السلب والموجب السالب المحمول مساو للسالب في المعنى.
3 - الأصغر إذا وقع محمولًا يجعل موضوعًا بالعكس المستوى وكذا الأكبر إذا وقع موضوعًا وإذا اجتمعا يجوز قلب المقدمتين وعكس النتيجة.
4 - الموجب الكلي يصير موجبًا سالب الطرفين مبدلهما بعكس النقيض على مذهب المتقدمين ولا فساد في بيانه لأن سلب السالب إيجاب ويجوز توسيط ما يخالف حدوده حدود القياس عندهم كما مر وسالبًا سالب الموضوع مبدل الطرفين على مذهب المتأخرين إن احتج إليه.
5 - كل قضية موجهة بجهة ما إذا جعلت جهتها جزءًا محمولها فهي ضرورية لضرورية الإمكان للممكن.
6 - المتصلة الموجبة حصول محمول مقدمها مستلزم لحصول محمول تاليها فهي في قوة الموجبة الكلية الحقيقية.
7 - المنفصلة ترتد إلى المتصلة من عين أحد الجزءين ونقيض الآخر على حسب الانفصال ثم المتصلة إلى الموجبة الكلية.
 
الكلام في النظر من وجوه
الأول في تعريفه قيل هو الفكر الذي يطلب به علم أو ظن (1) والمراد الفكر ها هنا انتقال النفس في المعقولات قصدًا سواء كان لتحصيل المطالب أولًا كأكثر أحاديث النفس فهو كالجنس وإن خرج الحدس المفسر بسنوح المبادئ مع المطالب دفعة فليس بزائد
__________
(1) هذا تعريف القاضي أبي بكر.
انظر / إحكام الأحكام للآمدي (1/ 13) المحصول للرازي (1/ 14).
(1/33)
 
 
وقيد القصد يخرج تذكر النظر وانتقال النائم والحسد المفسر بسرعة الانتقال لا حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ثم الرجوع ولا الحركة الأولى فقط والباقي كالفصل وقول الآمدي بأن الفكر تعريف أسمى معنيًا الآخيرين والباقي رسمي كتعريف الكتاب بالقرآن الموصوف بعيد لأن الرسم حينئذ مبهم ولصدقه على القوة العاقلة وآلات الإدراك ونفس الدليل ثم قد يطلب الظن من حيث هو ظن فيما يكفي وطرح الغلبة أولى لأن الظن في الغالب أغلب فالأقسام إلى القسمين خاصة مميزة شاملة وليس تعريفًا بالأخص الأخفى لا لأن المعروف أحدهما لا المهين منهما لأن معرفة أحدهما موقوفة على معرفةكل منهما بل كان كونه أخفى باعتبار كنهه لا لتميزه في الجملة المعتبر ها هنا ولأن كل قسم من المعرف معرف لكل من المعرف مساو له هذا تعريفه بعرفنا، وأما تعريف المنطقين فيختلف باعتبار المذاهب فمن يرى أنه اكتساب المجهول بالمعلوم وهم أرباب التعاليم القائلون لا طريق إلى المعرفة إلا التعليم الفكري عرفوه بتحصيل أمر أو ترتيب أمور حاصلة للتأدي إلى آخر والمراد حقيقته عند بعضهم فيشعر بالحركة الأولى ويستلزم الثانية وعند الأمور المرتبة يجعل المصدر بمعنى المفعول وإضافة بالصفة إلى موصوفها ويستلزم الحركتين وغطه في تعيين الأمور لا في الحركتين وهو يتناول الصحيح والفاسد وإن أريد تخصيصه بالصحيح يقال بحيث يؤدي ومن يرى أنه مجرد التوجه فمن جعله عدميًّا غرفه بتجريد الذهن عن الغفلات ومن أخذه وجوديًّا عرفه بتحديق العقل نحو المعقولات كتحديق البصر نحو المبصرات والعقل ليس بمشترك عندنا ولئن سلم فالقرينة المعينة واضحة.
 
الثاني في أقسامه
النظر إما صحيح إن اشتمل على جهة الدلالة وتعريفه بالمؤدي إلى المطلوب لا يناسب جعله محل النزاع الآتي في إفادة العلم وإلا ففاسد فصحته مادته وصورته معًا وفساده بفساد أحدهما أو كليهما وقسمته إلى الجلي والخفي ليست بحسب ذاته إن فسر بالترتيب ونحوه بل بعارض كيفيتي الدليل الصورية الحاصلة من تفاوت الأشكال في الجلاء والخفاء المادية كتوقفه على مقدمات كثيرة وأكثر قليلة وأقل من التفاوت في تجريد الطرفين فيكون كل منهما كالصحيح والفاسد مجازًا شائعًا ثم حقيقة عرفية وإن فسر بالأمور المرتبة فحقيقة مطلقًا كما كالدليل.
 
الثالث في شروطه
فلمطلق النظر بعد الحياة العقل وسيأتي تفسيره وعدم ضده العام والخاص مضادته
(1/34)
 
 
فالعام كل ما هو ضد الإدراك كالنوم والموت والغفلة والغشية والخاص هو العلم بالمطلوب والجهل المركب به إذ صاحبهما لا يتمكن من النظر لأنه مع العلم طلب الحاصل ومع الجهل المركب يمتنع الإقدام عليه أما البسيط فلا يضاده بل بينهما عدم وملكة بل هو شرط للنظر أما من علم بدليل ثم طلب دليلًا آخر فهو في الحقيقة طالب لجهة دلالة الدليل الثاني ونظر فيه بأن الاستدلال بشيء على شيء مبني على نسبة خاصة بينهما وهي في كل دليل بينه وبين المطلوب لا بين جهة الدلالة، فأقول المراد إن الغرض من تكثير الدلالة تكثير جهاتها لا إثباته لحصوله أو أن المطلوب إذا ثبت بلوازمه كعكسه وعدم نقيضه وجزئياته ومن جملتها جهة الدلالة المخصوصة في كل دليل فيجوز أن يقصد بالإثبات مجرد لازمه هذا أو المجموع وتعتبر النسبة بينهما وعندي أن المطلوب بجميع الدلائل واحد لكن النظر فيه بالثاني ليس بحسب الأمر نفسه بل على تقديران لا يكون معلومًا قبله وللنظر الصحيح أمران أن يكون في الحجة لا في الشبهة وأن يكون من جهة دلالته والألم ينفع.
 
الرابع في أحكامه العائدة إلى إفادة المطلوب
وهي أقسام الأول الصحيح يفيد العلم قد يفيده الرازي والآمدي كل نظر صحيح في القطعيات بشروطه يفيده والفرق أن الأول سهل البيان لثبوته بنظر جزئي بديهي إنتاجه قليل الجدوى إذ الجزئي لا يصلح كبرى لصغرى سهلة الحصول عند إرادة إثبات إنتاج نظر جزئي أثناء المحاورة فإن إثبات الجزئي بالجزئي إثبات بنفسه أو بما يباينه والثاني بالعكس خلافًا للسمنية والمهندسين في الإلهيات والملاحدة في معرفة الله تع بدون تعلم، فمنا من قال بأن العلم بالمط ضروري ومنه الرازي كإفادة الشكل الأول والعلم بالملازمة مع وجود الملزوم وجود اللازم فقيل عليه فلم يختلف فيه ولما فرق بينه وبين قولنا الواحد نصف الإثنين واجب بأنه قد يختلف قليل لخفاء أو عسر تجريد في التصورات كالسوفسطائية في جميع البديهيات والفرق للألف أو لتفاوت في التجريد لا لاحتمال النقيض ومنا من قال بنظريته منهم الإِمام وأنكر الرازي بأنه إثبات للشيء بنفسه وذلك يقتضي أن يعلم قيل نفسه فيعلم حسين لا يعلم وهو تناقض واجب يمنع كونه إثباتًا لنفسه بل للمهملة أو الكلية على التحريرين بنظر شخصي فيحتمل أن يكون الشخصي ضروريًّا دون المهملة أو الكلية بناء على اختلاف العنوان فإن تصور الشيء بكونه نظرًا ما أو كل
(1/35)
 
 
نظر غير تصوره بذاته المخصوصة والاختلاف بالضرورية والنظرية ناش من التصورات وأن يكون ذلك الشخصي من النظر ذات جهتين معلومة بالضرورة من حيث الذات مجهولة من حيث أنه نظر ما والعلم بها من حيث الذات لا يثبت بالنظر لضروريته فلا يلزم إثبات الشيء بنفسه، نظيره كل نظر صحيح فيه شروط الإنتاج مشتمل على جهة الدلالة المقتضية للعلم بالمط بلا مانع وهذا ضروري من فرض المبحث وكل مشتمل على المقتضى بلا مانع يجب ترتب الأثر عليه ضرورة فهذا نظر شخص ضروري من حيث ذاته يثبت الكلية فضلًا عن المهملة لا من حيث أنه نظر وهذا أولى من تمثيله بمطلق الشكل الأول البديهي الإنتاج بحسب ذاته ثم قياس سائر الأنظار لإثبات الكلية عليه بجامع اشتماله على جهة الدلالة على ما لا يخفي، ولنا أن قولهم لا شيء من النظر بمفيد إن كان ضروريًّا لم يختلف فيه أكثر العقلاء وهذا لا يمنع وإن كان نظريًّا لزم إثباته بنظر خاص يفيد العلم به والإيجاب الجزئي يناقض السلب الكلي، وللسمنية وجوه من الشبه:
1 - الاعتقاد بالمط بعد النظر إن كان ضروريًا لم يظهر خطؤه وقد ظهر لنقل المذهب وضروريته بعد النظر لا ينافي نظريته بالنسبة إلى النظر فليس الترديد قبيحًا وإن كان نظريًّا تسلسل وجوابه ضروري إن أريد بالضرورية نفى احتياجه إلى نظر آخر وما يظهر خطؤه لا يكون نظرًا صحيحًا والكلام فيه وهذا لضروري ليس خلاف المتعارف ونظري إن أريد احتياجه إلى النظر في الجملة لحصوله من النظر السابق ولا تسلسل إذ لا يحتاج إلى نظر آخر.
2 - المقدمة الواحدة لا تنتج والثنتان لا يجتمعان لامتناع اجتماع التوجهين إلى مقصدين في حالة واحدة وجوابه منع امتناع اجتماع المقدمتين كطرفي الشرطية في تصوري التصديقين وكالحكم على زيد إنه إنسان فإنه حكم فيه بحيوان وناطق في التصديقين وامتناع الاجتماع في التوجه لا يقتضي امتناعه في العلم ولا في النظر فسر بالأمور المرتبة فبالتوجه الواحد يطلع على أشياء.
3 - إفادته للعلم مع العلم بعدم المعارض وإلا لزم التوقف لاحتماله حتى يظهر عدمه وعدمه ليس ضروريًا العدم ممتنع الوقوع لكنه يقع أما للنقلي فظاهر الناظر لا في نفس الأمر فنظري محتاج إلى نظر آخر ويتسلسل وجوابه أن عدمه نظري فإن النظر الصحيح كما يقتضي العلم بالمط يقتضي العلم لعدم المعارض لاستحالة تعارض القواطع فلا يحتاج إلى نظر آخر وأن عدمه ضروري كضرورية النتيجة بعد النظر بمعنى عدم احتياجه إلى نظر آخر.
(1/36)
 
 
4 - النظر إما مستلزم للعلم بالمط فلا يكون عدم العلم شرطًا له إذ لو كان عدم اللازم شرطًا للملزم نافى الملزم اللازم وهو مح وأما غير مستلزم وهو المطلوب وجوابه بأن استلزامه استعقابه عادة لإيجابه غير شامل للمذهب فلا بد من قولنا أو إيجابه عند تمامه واشتراط عدم العلم قبل تمامه.
5 - دلالة الدليل إن توقفت على العلم بها لزم الدور وإلا كان دليلًا باشتماله على جهة الدلالة لا باعتبارها.
6 - العلم بعده أما الواجب فيقبح التكليف به لكونه غير مقدور أو أنه خلاف الإجماع وإلا فيجوز انفكاكه وجوابه أن التكليف بالنظر، ورد بأنه خلاف الظاهر مثلًا معرفة الله واجب والنظر فيها واجب آخر لا أن إيجاب أحدهما عين إيجاب الآخر وأجيب بأنه كلام على السند، وأقول في حله أن ارتكاب خلاف الظاهر جمعًا بين الأدلة ليس أول لحن لفظ بالبصرة فمعنى التكليف بالمعرفة التكليف بالنظر فيها ومعنى التكليف الآخر بالنظر أي العلم بوجوبه التكليف بالنظر للعلم به والكلام على السند المنحصر منعه فيه جائز ولصحته مطلقًا جهة ذكرناها في حواشي المطالع، وعندي توجيه آخران الباء للسببية أي التكليف بالعلم بسبب مقدورية النظر فإن المكلف به أعم من مقدورية نفسه أو طريق تحصيله وذلك لأن العلم وإن وجب بعده فبالغير والواجب بالغير يجوز التكليف به والفرق بينهما أن هذا منع قبح التكليف به والأول منع أن التكليف به.
7 - دليل وجود الصانع إن أوجب وجوده لزم من عدم الدليل عدمه في الواقع وإن أوجب العلم بوجوده فلا يكون دليلًا ما لم ينظر وجوابه أنه يوجب العلم به بمعنى متى علم علم وهذه الحيثية لا يفارقه نظر أو لم ينظر.
8 - الاعتقاد الجازم الحاصل بعد النظر قد يكون علمًا وقد يكون جهلًا فالتمييز بماذا وجوابه أن التمييز بأن العلم ما يقتضيه النظر الصحيح فإنه كما يقتضي العلم يقتضي كونه علمًا لا جهلًا أو بركون النفس بعد تجويز الطرفين وعدم العناد إلى أحدهما فلا يلزم الكفرة المصرون نعم يلزم المعتزلة القائلون بتمثل العلم مع الجهل فإن التمييز من التماثل مشكل لوجوب اتحاد المتماثلين في الذاتيات ولوازمها واختلاف العوارض لا يدل على اختلافها فكيف يميز به والجواب الكلي عن شبههم أنها إن أفادت فقد أبطلتهم النظر بالنظر وإلا فوجودها كعدمها، لا يقال الغرض من معارضة الفاسد بالفاسد التساقط لأنا نقول إن إفادته فقد أفاد بعض النظر وإلا فلا عبرة قبل الغرض إيقاع الشك وهو على غير
(1/37)
 
 
العلم بالمتقابلين قلنا إن أفاده النظر شيئًا وإلا فلا عبرة، وللمهندسين في أن الغاية في الإلهيات الظن بالأخلق والأولى دون العلم وجهان:
1 - إن الحقائق الإلهية لا تتصور فكيف يصدق بها بخلاف العلوم المتسقة كالحسابيات والهندسيات وجوابه منع عدم تصورها فإنه مختلف فيه ثم منع وجوب التصور بكنه الحقيقة للتصديق وإلا فيلزمهم في الظن.
2 - إن أقرب الأشياء إلى الإنسان هويته وأنها غير معلومة لكثرة الخلاف فيها فأبعدها أولى وجوابه أن كثرة الخلاف دليل العسر لا الامتناع الذي فيه النزاع، وللملاحدة وجهان:
1 - لو كفى العقل لما كثر الخلاف وجوابه أن كثرته لفساد الأنظار الحاصل من معارضة الوهم.
2 - العلوم الضعيفة كالنحو لا تستغنى عن التعلم فكيف بعد العلوم عن الحس والطبع وجوابه أن الاحتياج بمعنى العسر مسلم وبمعنى الامتناع الذي فيه النزاع لا، وقد يردّ عليهم بوجهين ضعيفين:
1 - صدق المعلم إن علم بقوله دار أو بالعقل ففيه كفاية وذلك لأنهم ربما يقولون بمشاركتهما بأن بضع مقدمات يعلم منها صدقه.
2 - لو لم يكف العقل لاحتاج المعلم إلى معلم آخر وتسلسل وذلك لأنه يكفي عقله دون عقل غيره أو ينتهي إلى الوحي هذا كله إذا قالوا النظر لا يفيد العلم بدون المعلم أما لو قالوا كما حكى عنهم صاحب التلخيص لا يفيد النجاة بدونه فالرد عليهم بإجماع من قبلهم على النجاة والآيات الآمرة بالنظر في معرض الهداية إلى سبيل النجاة من غير إيجاب للتعليم ورد هذا الرد بأن الإجماع غير متواتر فلا يكون حجة في العمليات والآيات الآمرة معارضة بالدالة على إيجاب التعليم ثم قيل والحق إن التعليم في العقليات ليس بضروري بل إعانة وفي المنقولات ضروري والأنبياء ما جاؤوا لتعليم الصنف الأول وحده بل وللصنف الثاني، وأقول بل الحق إن التعليم في العقليات يتوقف عليها صحة النقل ليس إلا للإعانة وفيما لا مدخل للعقل هو المفيد ضرورة وفي غيرهما مفيد بلا ضرورة فلكل من الآيات الآمرة للنظر والتعليم محمل فلا معارضة والإجماع إنما يحتج به ها هنا على من تواتر عنده كما لا يحتج به مطلقًا الأعلى من ثبت عنده.
الثاني: في كيفية إفادته للعلم وها هي كترتيب كل أثر على مؤثره العرفي بالعادة على
(1/38)
 
 
مذهب الأشاعرة لا بالتوليد لاستناد جميع الممكنات إلى الله ابتداء والاستناد إلى غيره مجازي كاستناد الإفادة إلى النظر ولا بالإيجاب لأنه مختار والمنفى الإيجاب الذي يقول به الحكماء فلا ينافيه الوجوب بالاختيار، وبالتوليد عند المعتزلة وهو الإيجاب بالواسطة كحركة المفتاح بحركة اليد ولا ينافي الاختيار بلا واسطة والنظر بولد العلم وأما تذكر النظر فلا يولده عندهم فقياس أصحابنا ابتداء النظر بالتذكر إلزامًا لهم فأجابوا بأن بينهما علة فارقة من وجهين عدم مقدورية التذكر وكون التذكر بعد حصول العلم فإن صح الفرق بطل القياس وإلا منعنا الحكم والتزمنا التوليد ثمة، والحاصل أنه قياس مركب فالخصم بين منع الجامع ومنع الحكم، وعلى سبيل الإعداد عند الحكماء فإن الفيض يتوقف على استعداد خاص يقتضيه وعند تمام الاستعداد يجب وهو مذهب الإِمام، وأما قول الرازي بأنه واجب غير متولد عملًا بدليل المذهبين فينافيه القواعد الكلامية ككونه مختارًا واستناد كل من الحوادث إليه ابتداء وأنه لا يجب على الله تعالى شيء اللهم إلا أن يريد الوجوب العادي.
الثالث: أن الفاسد يستلزم الجهل عند الرازي مطلقًا كاستلزام أن العالم قديم وكل قديم مستغن عن العلة أن العالم مستغن عنها ولا يفيده مطلقًا عند البعض وإلا لأفاد نظر المحق في شبهة المبطل الجهل له وجواب الأول منع الاستلزام في نفس الأمر لعدم اشتمال الفاسد على وجه الدلالة بلى يفيده عند الناظر لاعتقاده الفاسد لكن ليس كل من أتى بالنظر الفاسد يعتقده ولا كل ما يفيد الشيء من حيث المحل المعين يفيده من حيث هو فلا استلزام والقول بأن مدعاة مهملة فاسد والثاني أن نظر المحق في شبهة المبطل إنما يفيده الجهل لو اعتقد مقدماتها وإلا فنظر المبطل في حجة المحق يفيده العلم وقيل: الفساد المادي يستلزمه والصوري لا وليس بشيء إذ ربما يفيد فاسد المادة العلم مع صحة صورته نحو كل إنسان حجر وكل حجر ناطق والحق النزاع يرتفع بتحرير المبحث فإن أريد الاستلزام عند الناظر بشرط اعتقاد الصحة في المادة والصورة فالمذهب الأول وإن أريد استلزامه في نفس الأمر كما في الصحيح فالمذهب الثاني، لا يقال فنظر المبطل في حجة المحق يفيده العلم أو كان استلزامه في نفس الأمر؛ لأنا نقول نعم لو لم يمنع عقيدته الفاسدة المستقرة عن درك حقيقتها وإن أريد استلزامه عند الناظر في بعض الأحيان بشرط اعتقاد الصحة في المادة فقط إذا الصورة مضبوطة فالمذهب الثالث وهذا تحقيق لا تجده في كلام القوم، الرابع شرط ابن سينا في الإفادة التفطن لكيفية اندراج الأصغر الجزئي تحت الأكبر الكلي
(1/39)
 
 
قيل فإن أراد به اجتماع المقدمتين معا فحق وإلا فمم، وحديث البغلة المنتفخة البطن للذهول عن إحديهما ولا يلزم انضمام مقدمته أخرى فيحب ملاحظة ترتديها مع الأولين وبتسلسل كما ظنه الرازي بل العلم بأن هذا مندرج تحت ذاك عين ملاحظة نسبة المقدمتين إلى المطلوب وأما تفاوت الأشكال في الجلاء والخفاء فلاختلاف اللوازم قربًا وبعدًا، وأقول العلم بالاندراج هو العلم يكون الأصغر من جزئيات الأوسط التي حكم بالأكبر على جميعها وهو أمر يفيد مصورة القياس فيجب ملاحظته كالمستفاد من مادته فلئن كان تصديقًا آخر ليس مغايرًا للمقدمتين حتى يتسلسل وليس عين اجتماعهما وإلا لم يتفاوت الأشكال بل أمر فهمه من الأول بين ومن الآخر بملاحظة الارتداد إليه قربًا وبعدًا فلذا يتفاوت واختلاف النتائج متابعة له لا بالعكس، الخامس قيل الخلاف في كون وجه الدلالة كالحدوث غير الدليل كالعالم مع أنه صفته فرع الخلاف في أن صفة الشيء غيره أولًا هو ولا غيره والحق أنه فرغ الخلاف في الوجود الذهني إذ ليس في الخارج غير العالم والصانع.
 
الكلام في المدلول
وهو العلم أو الظن من وجوه الأول في أنه يحد أولًا، الرازي لا يحد لأنه ضروري لوجهين:
1 - أنه معلوم فلو كان كسبيًا لعلم بغيره وكل شيء يعلم به فدار.
2 - إن علم كل أحد بنفسه بل وبأنه عالم ضروري لحصوله للصبيان ومن لم يمارس الكسب مسبوق بالعلم المطلق والسابق على الضروري ضروري وجوابهما أن معلومية غير العلم بتعلق علم جزئي تصوري أو تصديقي به وزاد علم كل أحد بنفسه أو بكونه عالمًا حصول العلم فهو تصديق والتصديق ولو بديهيًّا بجملته لا يستلزم تصور كنه أطرافه حتى يتوقف معلومية الغير والعلم بنفسه على تصور كنهه الذي فيه النزاع ولأن حصول الشيء ولو في الذهن لا يستلزم تصوره فكم من راء ومريد لا يتصور عنه الرؤية والإرادة لا بعدها فيكون أثرًا لازمًا ولا قبلها فيكون شرطًا لازمًا فينفك أحدهما عن الآخر فلا يلزم من بداهة الآخر وبه يحصل الجواب عن دليلهم الثالث وهو أن مطلق العلم لو كان كسبيًا لكان كل علم كسبيًا ضرورة أن كسبية الجزء تستلزم كسبية الكل واللازم بط لأن من العلوم ما هو ضروري بالوجدان وذلك لأن اللازم منه كسبية تصور كل علم وهو لا ينافي في حصول بعض التصورات أو التصديقات بلا كسب لأن حصول الشيء ليس
(1/40)
 
 
مشروطًا بتصوره حتى يتوقف عليه وعن الرابع أن العلم من الوجدانيات وهي بديهية فإن البديهي حصولها لا تصورها ولأن تصور الشيء ربما سبق التصديق والسابق غير اللاحق فيتغايران فلا يلزم من بداهة أحدهما بداهة الآخر قيل هذا أولى، وفيه بحث لأن المغايرة لا تجدي إذا توقف البديهي عليه، لا يقال الموقوف عليه سابق ليس بدهيًا، لأنا نقول لا تم كلية الكبرى بل ما له سابق من نوعه إذ يجوز التصديق البديهي المفسر بالحكم أن يكون له تصور سابق، وأما الرازي فلما جعل التصديق هو المجموع فإنما يكون بديهيًا عنده لو كان كل تصور منه بديهيًا ولذا نراه يستدل في كتبه الحكمية ببداهة التصديقات على بداهة التصورات ولا يفيد اللازم لرجوعه إلى الإصلاح فهذا الجواب لا يستقيم على زعمه بل الجواب حينئذ منع بداهة التصديق والإمام والغزالي لعسر تحديده لصعوبة الاطلاع على ذاتياته وعروض الاشتباه في أن الإضافة فيه ذاتية أو عرضية وإنما يعرف بالقسمة كما سنقسم