قواعد الأحكام في مصالح الأنام الجزء الثاني جدول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

قواعد الأحكام في مصالح الأنام – الجزء الثاني
تأليف:
أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي
660 هـ
  
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل: فيما يفوت من المصالح أو يتحقق من المفاسد مع النسيان.
النسيان غالب على الإنسان، ولا إثم على النسيان، فمن نسي مأمورا به لم يسقط بنسيانه مع إمكان التدارك؛ لأن غرض الشرع تحصيل مصلحته، فمن نسي صلاة أو صوما أو حجا أو عمرة أو قصاصا أو شيئا من حقوق الله - تعالى - أو حقوق عباده، فإن كان مما لا يقبل التدارك كالجهاد والجمعات، وصلاة الكسوف والرواتب - على قول - وصلاة الجنازة في بعض، وإسكان من يجب إسكانه من الزوجات والآباء والأمهات والرقيق؛ سقط وجوبه بفواته، وإن كان مما يقبل التدارك من حقوق الله، أو حقوق عباده، كالصلاة والزكاة والصيام والنذور والديون والكفارات ونفقات الزوجات، وجب تداركه على الفور إن كان واجبا على الفور، وإن كان على التراخي فهو باق على تراخيه، والأولى تعجيله؛ لأنه مسارعة في الخيرات.
ولمن نسي التحريم حالان: إحداهما أن يكون من محرمات العبادة كالكلام، والفعل الكثير في الصلاة، وارتكاب محظورات الحج، ومنهيات الصيام، والاعتكاف مع نسيان العبادة التي هو ملابسها، فإن كان منهي العبادة من قبيل الإتلاف كقتل الصيد في الإحرام، وحلق الشعر، وقلم الأظفار، لم تسقط كفارته؛ لأنها وجبت جابرة، والجوابر لا تسقط بالنسيان، وإن لم يكن منهي العبادة إتلافا سقط إثمه من غير بدل. ولو صلى ناسيا لطهارة الحدث لم تصح؛ لأنه نسي مأمورا به، ولو صلى ناسيا لنجاسة لا يعفى عن مثلها في حال الاختيار ففي
 ج / 2 ص -2-
 
  
عذره قولان مأخذهما أن الطهارة عن النجس من جملة المأمورات كالطهارة عن الحدث، وأن استصحاب النجاسة في الصلاة من قبيل المنهيات، وإنما وجب تدارك المأمورات إذا ذكرت؛ لأن الغرض تحصيل مصلحتها وهي ممكنة التدارك بعد الذكر، والغرض من المنهي دفع المفاسد، فإذا وقع المنهي وتحققت مفسدته لم يمكن رفعا بعد وقوعها.
الحال الثانية: أن لا يختص تحريمها بالعبادة فيسقط إثمه ويجب الضمان، كمن باع جاريته ثم نسي بيعها فوطئها، أو أبان زوجته ثم نسي إبانتها فوطئها، أو أعتق أمته ثم نسي عتقها فوطئها، أو باعها، أو باع طعاما ثم نسي بيعه فأكله، فلا إثم عليه في ذلك كله، ولا ينفذ تصرفه، ويلزمه ضمان ما أتلفه من منافع البضع وغيره؛ لأن الضمان من الجوابر، والجوابر لا تسقط بالنسيان. ولو حلف بالله على شيء أو بطلاق أو إعتاق ثم فعل ما حلف عليه ناسيا لحلفه ففيه قولان بين العلماء والمختار حنثه، وبه قال الأئمة الثلاثة؛ لأن اللفظ لم يغلب في عرف الاستعمال على حال الذكر فيتقيد بها.
[فائدة]: الغالب من النسيان ما يقصر أمده ولا يستمر على طول الزمان إلا ما ندر منه، فمن أتى بمحظور الصلاة مع النسيان فإن قصر زمانه عفي عنه اتفاقا، وإن طال زمانه ففيه مذهبان: أحدهما يعفى عنه؛ لأنه ينتهك الحرمة به. والثاني: لا يعفى عنه؛ لأن الشرع قد فرق في الأعذار بين غالبها ونادرها، فعفا عن غالبها لما في اجتنابه من المشقة الغالبة، وآخذ بنادرها؛ لانتفاء المشقة الغالبة، فإنا نفرق بين دم البراغيث والبثرات، وبين غيرهما من النجاسات النادرات، وكذلك نفرق بين فضلة الاستجمار لغلبة الابتلاء بها، وبين غيرها من النجاسات.
فصل: في مناسبة العلل لأحكامها وزوال الأحكام بزوال أسبابها
فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصالحها، والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات درءا لمفاسدها، والنجاسات مناسبة لوجوب اجتنابها، ولا مناسبة
 ج / 2 ص -3-
 
  
بين طهارة الأحداث وأسبابها، إذ كيف يناسب خروج المني من الفرج أو إيلاج أحد الفرجين في الآخر أو خروج الحيض والنفاس لغسل جميع أعضاء البدن، ولا مناسبة بين المس واللمس وخروج الخارج من إحدى السبيلين لإيجاب تطهير الأربعة مع العفو عن نجاسة محل الخروج، ولا للمسح على العمائم والعصائب والجبائر والخفاف، وكذلك لا مناسبة؛ لأسباب الحدث الأصغر والأكبر لإيجاب مسح الوجه واليدين بالتراب، بل ذلك تعبد من رب الأرباب ومالك الرقاب الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وما أشبه هذه الأسباب بالتوقيت. والأصل أن تزول الأحكام بزوال عللها فإذا تنجس الماء القليل ثم بلغ قلتين زالت نجاسته؛ لزوال علتها، وهي القلة، ولو تغير الكثير ثم أزيل تغيره طهر؛ لزوال علة نجاسته، وهي التغير، فإذا انقلب العصير خمرا زالت طهارته، فإذا انقلب الخمر خلا زالت نجاستها، وكذلك الصبا والسفه والإغماء والنوم والجنون أسباب لزوال التكاليف ونفوذ التصرف، فإذا زالت حصل التكليف، ونفذ التصرف، وكلما عاد النوم أو الإغماء أو الجنون زال التكليف بزوال علته، وكذلك يثبت التصرف بحصول الملك ويزول بزواله، وكذلك أحكام الحدث الأصغر والأكبر، وكذلك حكم السهو والغفلة والذكر والنسيان، وكذلك وجوب العصمة بالإيمان، وزوالها بالكفر، وكذلك تزول ولاية الأب والوصي والحاكم بفسوقهم، فإن عادوا إلى العدالة عاد الأب إلى ولايته دون الوصي والحاكم؛ لأن فسوق الأب مانع، وفسوق الوصي والحاكم قاطع. وكذلك موانع ولاية النكاح في حق الأولياء ترفع الولاية بزوالها وتعود بارتفاعها، وقد شرع الرمل في الطواف لإيهام المشركين قوة المؤمنين، وقد زال ذلك والرمل مشروع إلى يوم الدين. ومثل هذا لا يقاس عليه؛ لأن القياس فرع لفهم المعنى، ويجوز أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع مع زوال السبب تذكيرا لنعمة
 ج / 2 ص -4-
 
  
الأمن بعد الخوف لنشكر عليها، فقد أمرنا الله بذكر نعمه في غير موضع من كتابه وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها.
[فائدة]: إذا خلف العلة علة موجبة حكم الأولى استمر الحكم، كما لو بلغ الصبي سفيها أو مغمى عليه أو مجنونا.
فصل: فيما يتدارك إذا فات بعذر وما لا يتدارك مع قيام العذر
والضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة فإن لم يختص وجوبه بالصلاة كالستر فإن كان في قوم يعمهم العري فلا قضاء عليه؛ لما فيه من المشقة، وإن ندر العري في بعض الجهات فإن أمرناه بإتمام الركوع والسجود لم يقض على الأصح، وإن أمرناه بالإيماء وجب القضاء على الأصح، وإن اختص وجوبه بالصلاة في الأركان والطهارتين كان العذر عاما؛ لعدم الماء في الأسفار، والقعود في الصلاة بالأمراض، فلا قضاء لما فيه من المشقة العامة، وإن ندر فإن كان مما يدوم إذا وقع كالاستحاضة وسلس البول واسترخاء الاست والاضطجاع في الصلاة بالمرض فلا قضاء، وإن كان للعذر النادر بدل كتيمم المسافر خوفا من البرد، وتيمم صاحب الجبيرة، وكالتيمم بانقطاع الماء في الحضر ففي القضاء لندرة هذا قولان، وإن لم يكن بدل كمن فقد الماء والتراب فالمذهب وجوب القضاء إلا في صلاة المحارب إذا اشتد الخوف والتحم القتال، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الصلاة لا تسقط إلا بسقوط التكليف أو الحيض، وقال أبو حنيفة رحمه الله كل صلاة لا يجب قضاؤها فلا يجب أداؤها لاختلاله، وهو قول الشافعي، إلا أن الشافعي لا يحرم الأداء خلافا لأبي حنيفة فإنه حرمه لاختلاله، وقال المزني كل صلاة وجب أداؤها فلا يجب قضاؤها وبنى على ذلك.
[قاعدة]: وهي أن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما قدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه لقوله - سبحانه وتعالى:
 ج / 2 ص -5-
 
  
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وبهذا قال أهل الظاهر. واستثنى بعض الظاهرية صلاة المحدث لقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور"، وقال أهل الظاهر وبعض العلماء: من تعمد ترك الصلاة أو الصيام يلزمه القضاء؛ لأن القضاء ورد في الناسي والنائم، وهما معذوران وليس المتعمد في معنى المعذور، ولما قالوه وجه حسن، وذلك أن الصلاة ليست عقوبة من العقوبات حتى يقال إذا وجبت على المعذور فوجوبها على غيره أولى؛ لأن الصلاة إكرام من الله - تعالى - للعبد، وقد سماه جليسا له وأقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا، ولا يستقيم مع هذا أن يقال إذا أكرم المعذور بالمجالسة والتقريب كان العاصي الذي لا عذر له أولى بالإكرام والتقريب، وما هذا إلا بمثابة من يرتب الكرامة على أسباب الإهانة فيقول إذا كففت عن عقوبة الإعفاء كان الكف عن حد الزناة وقطاع الطريق وشربة الخمر والجناة على النفوس والأطراف أولى، وهذا قطع للمناسبة من الأسباب ومسبباتها.
فصل: في بيان تخفيفات الشرع
وهي أنواع: منها تخفيف الإسقاط كإسقاط الجمعات والصوم والحج والعمرة بأعذار معروفات، ومنها تخفيف التنقيص كقصر الصلاة، وتنقيص ما عجز عنه المريض من أفعال الصلوات كتنقيص الركوع والسجود وغيرهما إلى القدر الميسور من ذلك.
ومنها تخفيف الأبدال كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود، والقعود بالاضطجاع، والاضطجاع بالإيماء، وإبدال العتق بالصوم، وكإبدال بعض واجبات الحج والعمرة بالكفارات عند قيام الأعذار ومنها تخفيف التقديم كتقديم العصر إلى الظهر. والعشاء إلى المغرب في السفر والمطر، وكتقديم الزكاة على حولها والكفارة على حنثها.
ومنها تخفيف التأخير كتأخير الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء ورمضان إلى ما بعده.
 ج / 2 ص -6-
 
  
ومنها تخفيف الترخيص، كصلاة المتيمم مع الحدث، وصلاة المستجمر مع فضلة النجو، وكأكل النجاسات للمداواة، وشرب الخمر للغصة، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، ويعبر عن هذا بالإطلاق مع قيام المانع، أو بالإباحة مع قيام الحاظر.
فصل: في المشاق الموجبة للتخفيفات الشرعية
المشاق ضربان: أحدهما مشقة لا تنفك العبادة عنها كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد، ولا سيما صلاة الفجر، وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، وكمشقة الحج التي لا انفكاك عنها غالبا، وكمشقة الاجتهاد في طلب العلم والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على الجناة، ولا سيما في حق الآباء والأمهات والبنين والبنات، فإن في ذلك مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرقة والمرحمة بها للسراق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب البنين والبنات، ولمثل هذا قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} وقال عليه الصلاة والسلام: "لو أن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - سرقت لقطعت يدها"، وهو صلى الله عليه وسلم أولى بتحمل هذه المشاق من غيره؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - وصفه في كتابه العزيز بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها؛ لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات أو في غالب الأوقات، ولفات ما رتب عليها من المثوبات الباقيات ما دامت الأرض والسموات.
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبا، وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص؛ لأن حفظ المهج
 ج / 2 ص -7-
 
  
والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات ثم تفوت أمثالها.
النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو سوء مزاج خفيف، فهذا لافتة إليه ولا تعريج عليه؛ لأن تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة التي لا يؤبه لها.
النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة والشدة فما دنا منها من المشقة العليا أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا لم يوجب التخفيف إلا عند أهل الظاهر، كالحمى الخفيفة ووجع الضرس اليسير وما وقع بين هاتين الرتبتين مختلف فيه، ومنهم من يلحقه بالعليا، ومنهم من يلحقه بالدنيا، فكلما قارب العليا كان أولى بالتخفيف، وكلما قارب الدنيا كان أولى بعدم التخفيف، وقد توسط مشاق بين الرتبتين بحيث لا تدنو من أحدهما فقد يتوقف فيها، وقد يرجح بعضها بأمر خارج عنها، وذلك كابتلاع الدقيق في الصوم، وابتلاع غبار الطريق، وغربلة الدقيق لا أثر له لشدة مشقة التحرز منها ولا يعفى عما عداها مما تخف المشقة في الاحتراز عنه وفي ما بينهما كابتلاع ماء المضمضة مع الغلبة اختلاق لوقوعه بين الرتبتين. ولما كانت المبالغة مستندة إلى تقصيره بفعله ما نهى عنه ألحقها بعضهم بما تيسر الاحتراز عنه وأبطل بها الصوم، وألحقها بعضهم بالمضمضة لوقوعها عن الغلبة، وتختلف المشاق باختلاف العبادات في اهتمام الشرع فما اشتد اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاق الشديدة أو العامة، وما لم يهتم به خففه بالمشاق الخفيفة، وقد تخفف مشاقه مع شرفه وعلو مرتبته لتكرر مشاقه كي لا يؤدي إلى المشاق العامة الكثيرة الوقوع.
مثاله: ترخيص الشرع في الصلاة التي من أفضل الأعمال تقام مع الخبث الذي يشق الاحتراز منه، ومع الحدث في حق المتيمم والمستحاضة, ومن كان
 ج / 2 ص -8-
 
  
عذره كعذر المستحاضة. وكذلك المشاق في الحج ثلاثة أقسام: منها ما يعظم فيمنع وجوب الحج، ومنها ما يخف ولا يمنع الوجوب، ومنها ما يتوسط فيتردد فيه، وما قرب منه إلى المشقة العليا كان أولى بمنع الوجوب، وما قرب منه إلى المشقة الدنيا كان أولى بألا يمنع الوجوب. ولا تختص المشاق بالعبادات بل تجري في المعاملات.
مثاله: الغرر في البيوع، وهو أيضا ثلاثة أقسام: أحدها ما يعسر اجتنابه كبيع الفستق والبندق والرمان والبطيخ في قشورها فيعفى عنه.
القسم الثاني: ما لا يعسر اجتنابه فلا يعفى عنه.
القسم الثالث: ما يقع بين الرتبتين وفيه اختلاف، منهم من يلحقه بما عظمت مشقته، لارتفاعه عما خفت مشقته، ومنهم من يلحقه بما خفت مشقته لانحطاطه عما عظمت مشقته، إلا أنه تارة يعظم الغرر فيه فلا يعفى عنه على الأصح كبيع الجوز الأخضر في قشرته، وتارة يخف العسر فيه لمسيس الحاجة إلى بيعه فيكون الأصح جوازه كبيع الباقلاء الأخضر في قشرته. فأما الصلاة فينتقل فيها القائم إلى القعود بالمرض الذي يشوش على الخشوع والأذكار ولا يشترط فيها الضرورة ولا العجز عن تصوير القيام اتفاقا، ويشترط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع عذرا أشق من عذر الانتقال من القيام إلى القعود؛ لأن الاضطجاع مناف لتعظيم العبادات ولا سيما والمصلي مناج ربه، وقد قال - سبحانه -: "أنا جليس من ذكرني".
وأما الأعذار في ترك الجماعات والجمعات فخفيفة؛ لأن الجماعات سنة والجمعات بدل. وأما الصوم فالأعذار فيه خفيفة كالسفر والمرض الذي يشق الصوم معه لمشقة الصوم على المسافر، وهذان عذران خفيفان، وما كان أشد منهما كالخوف على الأطراف والأرواح كان أولى بجواز الفطر.
وأما الحج: فالأعذار في إباحة محظوراته خفيفة إذ يجوز لبس المخيط فيه
 ج / 2 ص -9-
 
  
بالتأذي بالحر والبرد، ويجوز حلق الرأس فيه بالتأذي من المرض والقمل، وكذلك الطيب والدهن وقلم الأظفار.
وأما التيمم فقد جوزه الشافعي رحمه الله تارة بأعذار خفيفة، ومنعه تارة على قول بأعذار أثقل منها، والأعذار عنده رتب متفاوتة في المشقة.
الرتبة الأولى: مشقة عظيمة فادحة كالخوف على النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء فيباح بها التيمم.
الرتبة الثانية: مشقة دون هذه المشقة في الرتبة كالخوف من حدوث المرض المخوف، فهذا ملحق بالرتبة العليا على الأصح.
الرتبة الثالثة: خوف إبطاء البرء وشدة الضنى ففي إلحاقه بالرتبة الثانية خلاف، والأصح الإلحاق.
الرتبة الرابعة: خوف الشين إن كان باطنا لم يكن عذرا، وإن كان ظاهرا ففيه خلاف والمختار الإباحة، فهذه الأعذار كلها كما ذكرناه في إباحة الفطر في الصوم وفي إباحة القعود في الصلاة ويدل على ذلك صور جوز فيها الشافعي التيمم بمشاق خفيفة دون هذه المشاق.
أحدها: إذا بيع منه الماء بأكثر من ثمن المثل بشيء يسير فإنه لا يلزمه شراؤه، ولا شك أن ضرر الغبن بدانق دون ضرر المشقة بظهور الشين، وإبطاء البرء، وشدة الضنى، ولا سيما إذا ظهر الشين في وجوه النساء اللاتي نفاقهن في جمالهن، مع أن ضرر الشين يدوم إلى الممات، وضرر الغبن بالدانق ينصرم في الحال، وقد خالف مالك في ذلك، وخلافه متجه.
الصورة الثانية: إذا وهب منه ثمن الماء، وهو درهم مثلا فإنه لا يلزمه قبوله، وله أن يتيمم دفعا لتضرره بالمنة بالدرهم، ولا شك أن تضرره بالشين والمرض المخوف وشدة الضنى وبطء البرء دوامها أعظم من تضرره بذلك مع تصرمه.
الصورة الثالثة: إذا كان معه ثمن الماء، ولكنه محتاج إليه في نفقة سفره
 ج / 2 ص -10-
 
  
في ذهابه وإيابه، فإنه يتيمم، كي لا ينقطع عن سفره ويكون سفره سفر نزهة غير مهم في أمر الدين وتضرره لانقطاعه عن هذا السفر دون تضرره بما ذكرناه من المرض المخوف، وشدة الضنى، وبطء البرء، وظهور الشين، مع أن سفر النزهة من روعات النفوس التي لا يقصدها معظم العقلاء، بخلاف التضرر بما ذكرناه فإنه مقصود الدفع لكل عاقل.
ونظير هذا التشديد في باب التيمم، ما ذكره الشافعي ومالك - رحمهما الله في أن التحلل من الحج مختص بحصر العدو، وقد خولفوا في ذلك؛ لأن الآية دالة على جواز الخروج من الحج بالأعذار، فإن الإحصار عند المعتبر من أهل اللغة موضوع لإحصار الأعذار، والحصر موضوع لحصر الأعداء بدليل قوله: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} وقال بعض أهل اللغة هما لغتان في حصر الأعداء، فإن قيل إن قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية نزلت بالحديبية ولم يكن إحصار عذر وإنما كان إحصار عدو؟ قلنا: فإنها دلت على إحصار العذر بمنطوقها، وعلى إحصار العدو بمفهومها فتناولت الأمرين جميعا، ونبهت على أن التحلل بحصر الأعذار أولى من التحلل بحصر الأعداء.
فإن قيل: قد قرن بها ما يدل على أنها نزلت في حصر الأعداء، وهو قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فالأمن إنما يستعمل في زوال الخوف من الأعداء دون زوال الأمراض والأعذار؟ فالجواب أن الآية لما دلت على أن التحلل بالحصر أولى يرجع الأمر إلى ما دلت عليه الآية بطريق الأولى لا بطريق اللفظ، وإن جعلنا حصر وأحصر لغتين دل أحصر على الأمرين، ورجع لفظ الأمن إلى أحدهما دون الآخر، والذي ذكره مالك والشافعي لا نظير له في الشريعة السمحة التي قال الله - تعالى - فيها: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال فيها: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، فإن من انكسرت رجله وتعذر عليه أن يعود إلى الحج والعمرة يبقى
 ج / 2 ص -11-
 
  
في بقية عمره حاسر الرأس متجردا من اللباس محرما عليه النكاح والإنكاح، وأكل الصيود والتطيب والأدهان، وقلم الأظفار وحلق الشعر ولبس الخفاف والسراويلات، , وهذا بعيد من رحمة الشرع ورفقه ولطفه بعباده.
الصورة الرابعة: أن أصحابنا قالوا لا يلزمه طلب الماء من فرسخ ولا من نصف فرسخ لما فيه من المشقة، ولا شك أن هذه المشقة أخف مما ذكرناه من المرض المخوف، وبطء البرء، وشدة الضنى، وظهور الشين، وكذلك قالوا لا يطلبه مع الخوف على ماله، ولم يفرقوا بين المال القليل والكثير، قالوا: بل يطلبه من مكان لو استغاث منه برفقته لأغاثوه مع ما هم عليه من اشتغالهم.
وأما المنة فجعلوها ثلاثة أقسام: أحدها أن يوهب منه ثمن الماء والدلو والرشاء فيجوز له التيمم لعظم المنة فيها.
القسم الثاني: أن يوهب منه الماء أو يعار الدلو والرشاء أو يقرض ثمن الماء مع القدرة على الوفاء فلا يجوز له التيمم لخفة مشقة المنة بمثل ذلك.
القسم الثالث: هل يجب عليه استيهاب الماء أو استعارة الدلو والرشاء فيه، فإن قيل: المشاق تنقسم إلى ما هو في أعلى مراتب الشدة، وإلى ما هو في أدناها، وإلى ما يتوسط بينهما، فكيف تعرف المشاق المتوسطة المبيحة التي لا ضابط لها، مع أن الشرع قد ربط التخفيفات بالشديد والأشد والشاق والأشق، مع أن معرفة الشديد والشاق متعذرة؛ لعدم الضابط؟ قلنا: لا وجه لضبط هذا وأمثاله إلا بالتقريب فإن ما لا يحد ضابطه لا يجوز تعطيله، ويجب تقريبه، فالأولى في ضابط مشاق العبادات أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تلك العبادة، فإن كانت مثلها أو أزيد ثبتت الرخصة بها، ولن يعلم التماثل إلا بالزيادة، إذ ليس في قدرة البشر الوقوف على تساوي المشاق، فإذا زادت إحدى المشقتين على الأخرى علمنا أنهما قد استويا فما اشتملت عليه المشقة الدنيا منهما وكان ثبوت التخفيف والترخيص بسبب الزيادة أو؛ لأمثال ذلك. أن التأذي بالقمل
 ج / 2 ص -12-
 
  
مبيح للحلق في حق الناسك فينبغي أن يعتبر تأذيه بالأمراض بمثل مشقة القمل، كذلك سائر المشاق المبيحة للبس والطيب والدهن وغير ذلك من المحظورات، وكذلك ينبغي أن تقرب المشاق المبيحة للتيمم بأدنى مشقة أبيح بمثلها التيمم، وفي هذا إشكال، فإن مشقة الزيادة اليسيرة على ثمن المثل، ومشقة الانقطاع من سفر النزهة خفيفة لا ينبغي أن يعتبر بها الأمراض. وأما المبيح للفطر فينبغي أن تقرب مشقته بمشقة الصيام في الحضر، فإذا شق الصوم مشقة تربى على مشقة الصوم في الحضر فليجز الإفطار بذلك، ولهذا نظائر كثيرة.: منها مقادير الأغرار في المعاملات، ومنها توقان الجائع إلى الطعام وقد حضرت الصلاة، ومنها التأذي بالرياح الباردة في الليلة المظلمة، وكذلك التأذي بالمشي في الوحل، ومنها غصب الحكام المانع من الإقدام على الحكام، فإن المراتب في ذلك كله مختلفة، ولا ضابط لمتوسطاتها إلا بالتقريب. وقد ضبط غصب الحاكم بما يمنع من استيفاء النظر وكل هذه تقريبات يرجع في أمثالها إلى ظنون المكلفين، ولا ينهى الحاكم الغضبان عن الحكم بما هو معلوم له إذ لا حاجة به إلى النظر فيه مثاله أن يدعي إنسان على إنسان بدرهم معلوم فينكره فلا يكره للحاكم الحكم بينهما إذ لا يحتاج في هذه المسألة إلى نظر واعتبار بل حكمه في حال رضاه، فإن قيل قد تقرر في الشرع أن ما لا يمكن ضبطه لا يجب الحمل على أقله كمن باع عبدا، وشرط أنه كاتب أو نجار أو رام أو بان فإن الشرط يحمل على أقل رتبة الكتابة والتجارة والخياطة والبناء، وكذلك من أسلم في شيء ووصفه بصفات لكل واحدة منهن رتب عالية، ورتب دانية، ورتب متوسطة. فإنه يحمل على أدناهن، إذ لا ضبط لما زاد عليها، فإذا وصف الجارية بإشراق اللون، أو بالكحل، أو بالبياض حمل على أقل رتب ذلك، وكذلك سائر الصفات، فهلا قلتم بالحمل ههنا على أدنى رتب المشاق لعسر ضبط رتب المشاق الزائدة على أدناهن؟ قلنا: لا يجوز تفويت مصالح العبادات مع عظمها وشرفها بمثل هذه المشاق مع خفتها وسهولة تحملها، بل تحمل هذه
 ج / 2 ص -13-
 
  
المشاق لا وزن له في تحصيل مصالح العبادات؛ لأن مصالح العبادات باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين مع ما يبتنى عليها من رضا رب العالمين، ولذلك كان اجتناب الترخص في معظم هذه المشاق أولى؛ لأن تحمل المشاق فيها أعظم أجرا من تعاطيه بغير مشقة؛ لما ذكرناه من فضل تحمل المشاق؛ لأجل الله. وإنما حملنا في المعاملات على الأقل تحصيلا لمقاصد المعاملات ومصالحها، فإن الحمل على الأعلى يؤدي في السلم إلى عزة الوجود، وهي مبطلة للسلم، والحمل في الصفات المشروطة في البيوع على الأعلى يؤدي إلى كثرة التنازع والاختلاف، والحمل على ما بينهما لا ضابط له، ولا وقوف عليه؛ فتعذر تجويزه؛ لعدم الاطلاع عليه.
فصل: في الاحتياط في جلب المصالح ودرء المفاسد
المصالح التي أمر الشرع بتحصيلها ضربان: أحدهما مصالح الإيجاب. والثاني: مصالح الندب. والمفاسد التي أمر الشرع بدرئها ضربان: أحدهما: مفاسد الكراهة. الثاني: مفاسد التحريم. والشرع يحتاط لدرء مفاسد الكراهة والتحريم، كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب، والاحتياط ضربان:
أحدهما: ما يندب إليه، ويعبر عنه بالورع، كغسل اليدين ثلاثا إذا قام من النوم قبل إدخالهما الإناء، وكالخروج من خلاف العلماء عند تقارب المأخذ، وكإصلاح الحكام بين الخصوم في مسائل الخلاف، وكاجتناب كل مفسدة موهمة، وفعل كل مصلحة موهمة؛ فمن شك في عقد من العقود، أو في شرط من شروطه، أو في ركن من أركانه، فليعده بشروطه وأركانه، وكذلك من فرغ من عبادة، ثم شك في شيء من أركانها، أو شرائطها بعد زمن طويل، فالورع أن يعيدها، فلو شك في إبراء من دين، أو تعزير، أو حد، أو قصاص؛ فليبرئ من ذلك ليحصل على جزاء المحسنين، ويبرأ خصمه بيقين، وإن شك في إعتاق، أو نكاح قبل الدخول، فليجدد النكاح والإعتاق، وإن شك أطلق قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل انقضاء العدة، فليجدد رجعة ونكاحا، وإن كان بعد انقضائها، فليجدد النكاح، وإن
 ج / 2 ص -14-
 
  
شك أطلق واحدة أو اثنتين، فإن أراد بقاء النكاح مع الورع، فليطلق طلقة معلقة على نفي الطلقة الثانية، بأن يقول إن لم أكن طلقتها فهي طالق كي لا يقع عليه طلقتان، وإن شك في الطلقة أرجعية هي أم خلع فليرتجع، وليجدد النكاح؛ لأنها إن تكن رجعية، فقد تلافاها بالرجعة، وإن كانت خلعا، فقد تلافاها، وإن شك في حال المال المخرج في الزكاة، أو الكفارة، أو الديون، فليعد ذلك، ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، فالورع أن يحدث، ثم يتطهر، فإن تطهر من غير حدث، فالمختار أن الورع لا يحصل بذلك؛ لعجزه عن جزم نية رفع الحدث؛ لأن بقاء الطهارة يمنعه من الجزم، كما أن بقاء شعبان يمنع من جزم نية صوم شهر رمضان ليلة الثلاثين من شعبان، وهذا هو الجاري على أصول مذهب الشافعي، رحمه الله، من جهة أن استصحاب الأصل قد منع الجزم والإجزاء في مسائل شتى، ولا فرق بينهما وبين هذا، ولو التبس عليه المني بالمذي فليجامع ثم يغتسل لجزم النية، فإن اغتسل من غير جنابة فينبغي أن لا يجزئه إلا في أعضاء الوضوء، لا أن استصحاب الطهارة فيما عدا الوضوء مانع من جزم نية الغسل فيها، ونظائر هذا كثيرة، وضابطه أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
الضرب الثاني: ما يجب من الاحتياط لكونه وسيلة إلى تحصيل ما تحقق تحريمه، فإذا دارت المصلحة بين الإيجاب والندب، والاحتياط، حملها على الإيجاب؛ لما في ذلك من تحقق براءة الذمة، فإن كانت عند الله واجبة فقد حصل مصلحتها، وإن كانت مندوبة فقد حصل على مصلحة الندب وعلى ثواب نية الجواب، فإن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإذا دارت المفسدة بين الكراهة والتحريم فالاحتياط حملها على التحريم، فإن كانت مفسدة التحريم محققة، فقد فاز باجتنابها، وإن كانت منفية فقد اندفعت مفسدة المكروهة، وأثيب على قصد اجتناب المحرم، فإن اجتناب المحرم أفضل من اجتناب المكروه، كما أن فعل الواجب أفضل من فعل المندوب، والاحتياط لتحصيل مصلحة الواجب له أمثلة:
 ج / 2 ص -15-
 
  
أحدها: أن من نسي صلاة من خمس لا يعرف عينها، فإنه يلزمه الخمس ليتوسل بالأربع إلى تحصيل الواجبة.
المثال الثاني: أن من نسي ركوعا أوسجودا أو ركنا من أركان الصلاة ولم يعرف محله، فإنه يلزمه البناء على اليقين احتياطا لتحصيل مصلحة الواجب والبناء على اليقين تقدير أشق الأمرين والاتيان بالأشق منهما، فإذا شق أترك الركن من الركعة الأولى أم من الثانية بني على أنه من الأولى لأنه الأشق
المثال الثالث: يجب على الخنثى المشكل أن يستتر في الصلاة كالتستر للنساء احتياطا؛ لتحصيل مصلحة واجب السترة.
المثال الرابع: إذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار فإنا نغسل الجميع ونكفنهم وندفنهم، توسلا إلى إقامة حقوق المسلمين من الغسل والدفن والتكفين. وكذلك إذا تعارضت شهادتان في كفر الميت وإسلامه، فإنا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في قبور المسلمين، وفي اختلاط المسلمين بالكافرين لا نصلي على الكافرين. بل نخص المؤمنين بنية الصلاة عليهم لتحريم الصلاة على الكافرين، ولا يمكن الاختلاط عند تعارض النيات إلا بالصلاة.
المثال الخامس: أن من لزمته زكاة من زكاتين لا يعرف عينها مثل أن لزمته زكاة لا يدري أبقرة هي، أم بعير أم دينار، أم درهم أم حنطة، أم شعير فإنه يأتي بالزكاة ليخرج عما وجب عليه، وفي هذا نظر، فإن الأصل عدم كل واحدة منهما، بخلاف نسيان صلاة من خمس فإن الأصل في كل واحدة منهن الوجوب.
المثال السادس: إذا شك الناسك هل هو مفرد أو متمتع أو قارن وكان ذلك قبل الطواف، فإنه يجعل نفسه قارنا ليبرأ بيقين؛ لأنه إن كان قبل ذلك قارن لم تضره نية القران، وإن كان متمتعا فقد أدخل الحج على العمرة فيبرأ من الحج بكل حال.
المثال السابع: إذا شكت المرأة هل الواجب عليها عدة وفاة أو عدة طلاق فإنه
 ج / 2 ص -16-
 
  
يلزمها الإتيان بالعدتين لتخرج عما عليها بيقين.
المثال الثامن: إذا مات زوج الأمة وسيدها وشكت في السابق منهما، فإنه يلزمها الاستبراء وعدة الوفاة لتبرأ بيقين.
المثال التاسع: وجوب الغسل لكل صلاة على المتحيرة لتبرأ عما عليها بيقين؛ لأنها إن كانت حائضا فلا طهارة عليها، وإن كانت قد طهرت من الحيض فوظيفتها الغسل وقد أتت به.
المثال العاشر: وجوب الصلاة على المستحاضة المتحيرة في جميع الأوقات لاحتمال طهرها في كل واحدة منها.
المثال الحادي عشر: يجب على المستحاضة صوم شهر رمضان مع صوم شهر آخر، وقضاء يومين بستة من ثمانية عشر يوما لتبرأ عما عليها بيقين، وهذا مشكل من جهة أن الشافعي قدر لها أكثر الحيض وأقل الطهر، وذلك في غاية الندور، ورد المعتادة إلى العبادة من غير زيادة مع جواز أن يكون حيضها قد صار إلى خمسة عشر، فأي فرق بين رد المعتادة إلى العادة من غير زيادة بناء على أن الأصل عدم تغير العادة، وبين رد هذا إلى غالب العادات لندرة دوران العادة على أكثر الحيض وأقل الطهر. فإن قيل كيف تجزم المستحاضة نية الصوم والصلاة مع أنها ما من وقت تنوي فيه الصوم والصلاة إلا، وهي يجوز أن تكون فيه طاهرة، وأن تكون حائضا، ولا يتصور مع هذا التردد جزم؟ قلنا: لما كان وقت الطهر أكثر من وقت الحيض غالبا جاز استناد الجزم إلى هذه الغلبة، وللاحتياط لدرء مفسدة المحرم أمثلة:
أحدها: إذا اشتبه إناء طاهر بإناء نجس، أو ثوب طاهر بثوب نجس، وتعذر معرفة الطاهر منهما، فإنه يجب اجتنابهما درءا لمفسدة النجس منهما.
المثال الثاني: إذا اشتبهت أخته من الرضاع بأجنبية فإنهما يحرمان عليه احتياطا؛ لدرء مفسدة نكاح الأخت.
 ج / 2 ص -17-
 
  
المثال الثالث: إذا اختلط درهم حلال بدرهم حرام، وجب اجتنابهما دفعا لمفسدة الحرام.
المثال الرابع: إذا اختلط حمام بر بحمام بلد مملوك مع استوائهما فإنه يحرم الاصطياد منه درءا لمفسدة اصطياد المملوك على الاختيار.
المثال الخامس: نكاح الخنثى المشكل باطل درءا لمفسدة المرأة بالمرأة أو الرجل بالرجل.
المثال السادس: إذا قطع رجل أو امرأة ذكر خنثى مشكل وشفريه وأنثييه فإنا لا نوجب القصاص على واحد منهما درءا لمفسدة أخذ الزائد بالأصلي.
المثال السابع: إذا قال إذا كان هذا الطائر غرابا فامرأتي طالق، وإن لم يكن غرابا فأمتي حرة فطار الغراب وتعذرت معرفته، فإنا نحرم عليه الأمة والمطلقة درءا لمفسدة تحريم إحداهما. وكذلك إذا قال إذا كان هذا الطائر غرابا فأمتي حرة، وإن لم يكن غرابا فعبدي حر فإنه يمنع من التصرف فيهما درءا لمفسدة التصرف في الحر منهما.
المثال الثامن: تحريم وطء المستحاضة المتحيرة عند كثير من الأصحاب درءا لما يتوهم من مفسدة الوطء في الحيض، وقد جوزه بعضهم نظرا لحق الزوج في البضع، وأنه ليس تقدير الحيض بأولى من تقدير الطهر؛ ولما فيه من الضرر الدائم ولا سيما في حق الزوجين الشابين، فإن قيل الصلاة مع الحيض حرام، ومع الطهر واجبة فلم قدمتم الاحتياط لتحصيل مصالح الصلاة على الاحتياط لدرء مفسدة الصلاة في الحيض؟ قلنا: إن الطهارة شرط من شروط الصلاة فلا تهمل المصالح الحاصلة من أركان الصلاة وسائر شرائطها بفوات شرط واحد، فإن مصالح الصلاة خطيرة عظيمة لا تدانيها مصلحة الطهر من الحيض؛ لأن الطهر منه كالتتمة والتكملة لمقاصد الصلاة، فلا تقدم التتمات والتكملات على مقاصد الصلاة على ما سنذكره إن شاء الله - تعالى - في مقاصد
 ج / 2 ص -18-
 
  
الصلاة، كيف وكل ركن من أركان الصلاة وكل شرط من شروطها مقصود مهم لا يسقط ميسوره بمعسوره. وكذلك يصلي من لا يجد ماء ولا ترابا ولا سترة، ولا يتمكن من القبلة ولا من الركوع، ولا من السجود على حسب حاله.
المثال التاسع: لا يقتدي الرجل بالخنثى، , ولا الخنثى بالخنثى دفعا لمفسدة اقتداء الذكور بالإناث.
المثال العاشر: الاحتياط لمن يوجد ويتوقع وجوده كتحريم نكاح الأمة خوفا من إرقاق الولد الذي يتوقع وجوده، والرق من أعظم المفاسد.
فإن قيل: فكيف أجزتموه مع العنت وفقد مهر الحرة؟ قلت: دفع مفسدة الزنا عمن تحقق وجوده أولى من دفع مفسدة الرق عمن يتوهم وجوده، ولو تحقق وجوده لكان حق أبيه في درء مفسدة الزنا أولى من حقه في دفع مفسدة الرق؛ لأن مفاسد الزنا عاجلة وآجلة ومفاسد الرق عاجلة لا غير، إذ لا يأثم أحد بكونه رقيقا، ويأثم بكونه زانيا، بل العبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران.
المثال الحادي عشر: الشهادة بحصر الورثة ولها حالان: أحدهما: أن تكون احتياطا لما تحقق وجوده كالآباء والأمهات والأجداد والجدات، فإذا أقام الوارث بينة بأن الميت أخوه من أبويه لم يدفع إليه شيئا؛ لأن الأصل بقاء أبويهما، وكذلك أجدادهما وجداتهما.
الحال الثانية: الشهادة بنفي الزوجين والإخوة والأخوات، وأمثال ذلك فإنا لا ندفع شيئا من الميراث إلا بالحصر في الوارث المذكور، وإن كان الأصل عدم الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات، فهذا احتياط لمن لم يتحقق وجوده، ولكن وجوده كثير غالب، وللاحتياط لتحصيل مصلحة المندوب أمثلة:
منها: أن من نسي ركعتين من السنن الرواتب، ولم يعلم أهي سنة الفجر أم
 ج / 2 ص -19-
 
  
سنة الظهر فإنا نأتي بالسنتين لنحصل على المنسية لمن نسي صلاة من صلاتين مفروضتين.
ومنها من شك هل غسل في الوضوء ثلاثا أو اثنتين فإنه يأتي بالثالثة احتياطا للمندوب.
وللاحتياط لدفع مفسدة المكروه أمثلة: منها أن لا تقوم الخنثى عن يمين الإمام.
ومنها: ألا تتقدم الخنثى على الرجال. ومنها أنه يكره للرجال أن يصلوا وراء الخنثى في الصفوف وفي صف فيه خنثى.
[فائدة]: قد يتعذر الورع على الحاكم في مسائل الخلاف كما إذا كان ليتيم على يتيم حق مختلف في وجوبه فلا يمكن الصلح بينهما، إذ لا تجوز المسامحة بمال أحدهما، وعلى الحاكم التوسط في الخلاف، وكذلك حكم الأب والوصي.
فصل: فيما يقتضيه النهي من الفساد ولا يقتضيه
للنهي أحوال: الأولى أن ينهى عن الشيء لاختلال ركن من أركانه أو شرط من شرائطه: كالنهي عن الصلاة في المزبلة والمجزرة، وكالنهي عن صوم يومي العيدين. وكنهي المحرم عن النكاح والإنكاح، وكذا النهي عن بيع الحر، وعن بيع الملاقح، وبيع المضامين، فهذا كله محمول على فساد المنهي عنه.
الحال الثانية: النهي لاقتران مفسدته وله أمثلة: أحدها: التطهر بالماء المغصوب ليس النهي عنه لعينه، وإنما النهي عن استمرار غصبه، وكذلك التطهر بما يخاف منه التلف؛ لشدة حر أو برد فإنه لم ينه عنه لعينه، وإنما النهي عما اقترن به من خوف التلف.
المثال الثاني: الصلاة في الدار المغصوبة ليس النهي عنها لعينها، وإنما المراد بالنهي عما اقترن بها من الغصب، فالنهي متعلق بالصلاة من جهة اللفظ وبالغصب من جهة المعنى، وهو من المجاز العرفي لقولهم لا أرينك ههنا، وكقوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، النهي عن الموت باللفظ، وعما يقترن به
 ج / 2 ص -20-
 
  
من الكفر في المعنى. ومثله قوله: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، النهي عن الصد للشيطان في اللفظ، للمكلفين في المعنى.
المثال الثاني: النهي عن البيع وقت النداء مع توفر أركانه وشرائطه ليس نهيا عنه في نفسه، وإنما هو نهي عن التقاعد والتشاغل عن الجمعة.
المثال الرابع: النهي عن البيع على بيع الأخ مع توفر الشرائط والأركان، ليس النهي من جهة المعنى عن البيع، وإنما هو نهي عن الإضرار المقترن بالبيع، وليس النهي عن النجش والسوم على السوم، والخطبة على الخطبة من هذا القبيل؛ لأنها مناه منفصلة عن البيع.
المثال الخامس: بيع الحاضر للبادي ليس منهيا عنه لعينه، وإنما النهي عن الإضرار بالناس.
الحالة الثالثة: ما يتردد بين هذين النوعين كصوم يوم الشك وأيام التشريق، والصلاة في الأوقات المكروهات، وفيه خلاف مأخذه أن النهي عنه هل هو لعينه أو لأمر يقترن به.
الحال الرابعة: أن ينهى عما لا يعلم أنه لاختلال الشرائط والأركان أو لأمر مجاوز فهذا أيضا مقتض للفساد حملا للفظ على الحقيقة، ومثاله نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجزئ فيه الصاعان.
الحال الخامسة: أن ينهى عن الشيء لفوات فضيلة في العبادة فلا يقتضي الفساد كالنهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، فإنه ينهى عن ذلك؛ لما فيه من تشويش الخشوع، ولو ترك الخشوع عمدا لصحت الصلاة. وأما نهي الحاكم عن الحكم في حال الغضب الشديد فاحتياط للحكم، فإذا وقع الحكم بشرائطه وأركانه صح لحصول مقاصده.
فصل: في بيان جلب المصالح ودرء المفاسد على الظنون
لما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة؛ لأن كذبها
 ج / 2 ص -21-
 
  
نادر ولا يجوز تعطيل مصالح صدقها الغالب خوفا من وقوع مفاسد كذبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما ذكرناه، ولا يجوز العمل بكل ظن، والظنون المعتبرة أقسام:
أحدها: ظن في أدنى الرتب. والثاني: ظن في أعلاها، والثالث ظنون متوسطات. فإن قيل: لم ثبتت أحكام الشرع بالظنون المستفادة من أخبار الآحاد ولم ثبتت الحقوق عند الحكام بمثل ذلك؟ بل شرط في أكثرها العدد والذكورة وجعلت في رتب متفاوتة فأعلاها ما شرط فيه أربع شهادات وأدناها ما شرط فيه شاهد واحد كالشهادة على هلال رمضان وفوقه؟
المثال الرابع: أن يدعي بحد القذف فلا يحل له النكول كي لا يكون عونا على جلده، وإسقاط عدالته، والعزل عن ولايته التي يجب عليه المضي فيها.
المثال الخامس: أن يدعي على الولي المجبر أنه زوج ابنته فلا يحل له النكول كي لا يكون عونا على تسليم ابنته إلى من يزني بها، وكذلك ولي اليتيم حيث تشرع اليمين في حقه في التصرفات المالية لا يجوز له النكول كي لا يكون ذلك عونا على أخذ أموال اليتامى ظلما، ويلحق بذلك إذا لاعن الرجل امرأته كاذبا ولا يحل لها النكول عن اللعان، كي لا يكون عونا على جلدها أو رجمها وفضيحة أهلها، وأما يمين المدعي فإن كانت كاذبة لم تحل فضلا عن أن تجب، وإن كانت صادقة فللحق المدعي حالان. أحدهما: أن يكون مما يباح بالإباحة، فالأولى بالمدعي إذا نكل أن يبيح الحق أو يبرأ منه دفعا لمفسدة إضرار خصمه على الباطل.
الحال الثانية: أن يكون الحق مما لا يباح بالإباحة، ويعلم المدعي أن الحق يؤخذ منه إذا نكل عن اليمين، فيلزمه أن يحلف حفظا لما يحرم بذله وله أمثلة.
أحدها: أن تدعي الزوجة البينونة فتعرض اليمين على الزوج فينكر وينكل، فيلزمها الحلف حفظا لبضعها من الزنا وتوابعه من الخلوة وغيرها، فإن نكلت
 ج / 2 ص -22-
 
  
عن اليمين فسلمت إليه فراودها عن نفسها لزمها منعه بالتدرج إن قدرت، فإن لم تقدر عليه وقدرت على قتله في أول الأمر لزمها ذلك.
المثال الثاني: أن تدعي الأمة أن سيدها أعتقها فينكر وينكل فيلزمها الحلف حفظا لبضعها، ولما يتعلق بحريتها من حقوق الله وحقوق عباده.
المثال الثالث: أن يدعي العبد أن سيده أعتقه فينكر وينكل فيلزم العبد الحلف حفظا لحريته؛ ولما يتعلق بها من حقوق الله، وحقوق عباده كالجمعة والجهاد وغير ذلك.
المثال الرابع: أن يدعي الجاني عفو الولي فينكر وينكل فيلزم الجاني الحلف حفظا لنفسه أو لأطرافه.
المثال الخامس: أن يدعي القاذف عفو المقذوف فينكر وينكل فيلزم المقذوف الحلف حفظا لجسده من ثمانين جلدة، ولو نكل الولي عن أيمان القسامة فإن أوجبنا بها القصاص وجب اليمين بها وإلا فلا.
فإن قيل: هل يأمر الحاكم من عليه اليمين بالحلف، أم يعرضه عليه من غير طلب؟ قلنا: بل يعرضه عليه من غير طلب؛ لأنه لا يدري أصادق هو أم كاذب، ولو أمره وقال له احلف فلا بأس بذلك عندي بناء على الظاهر، فإن الشرع لا يعرض اليمين إلا على من ظهر صدقه وترجح جانبه. وقد جوز الشافعي رحمه الله لمن باع عبدا كان ملكه إذا خاصمه المشتري في قدم عيب يمكن حدوثه، أن يحلف أنه باعه وما به عيب بناء على أن الأصل عدم حدوث العيب في الزمن الماضي.
فإن قيل هل يجوز للمدعي مطالبة المدعى عليه باليمين مع علمه بكذبه فيها وفجوره؟ والقاعدة تحريم طلب ما لا يحل، ولا سيما هذه اليمين الموجبة لغضب الله، إذ صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف يمينا كاذبا يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان".
قلنا: يجوز ذلك استثناء من قاعدة تحريم طلب ما لا يحل الإقدام عليه لوجهين:
 ج / 2 ص -23-
 
  
أحدهما: أنا لو لم نجوز ذلك لبطلت فائدة الأيمان وضاعت بذلك حقوق كثيرة.
الوجه الثاني: أن ذلك لو حرم لجاز للحاكم أن يأذن له في تحليف خصمه؛ لأنه مصادق أن خصمه كاذب في إنكاره ويمينه جميعا، ولا يجوز للحاكم أن يأذن؛ لأحد في طلب ما اعترف بأنه معصية فيكون هذا مستثنى، كما جعلت اليمين على نية المستحلف من استثناء قاعدة كون اليمين على نية الحالفين، وكون مقاصد الألفاظ على نية اللافظين، والشرع يستثني من القواعد ما لا تداني مصلحته هذه المصلحة العامة، فما الظن بهذه المصلحة ؟
فصل: فيما يجب على الغريم إذا ادعى إلى الحاكم
إذا دعا الحاكم أحدا من الخصوم لزمته الإجابة من مسافة العدو فما دونها إذا لا تتم مصالح الأحكام وإنصاف المظلومين من الظالمين إلا بذلك، وإن دعاه خصمه إلى الحاكم فإن لم يكن عليه حق لم تلزمه الإجابة وإن كان عليه حق فللحق حالان:
أحدهما: أن يتوقف القيام به على حكم الحاكم، فإن كان قادرا عليه لزمه أداؤه، ولا يحل المطال به إلا بعذر شرعي، ولا تلزمه الإجابة إلى الحضور عند الحاكم، وإن كان معسرا به لم تلزمه إجابته إلى الحضور عند الحاكم، فإن علم عسرته لم تحل له مطالبته بالحق ولا بالحضور إلى الحاكم، وإن جهل عسرته فينبغي أن يخرج جواز إحضاره إلى الحاكم على الخلاف في حبس المعسر المجهول اليسار. وكذلك لو دعاه الحاكم مع علم المدعو بأنه يحكم عليه بالباطل بناء على الحجة الظاهرة، فإنه يجوز بينه وبين الله أن يمتنع من إتيان الحاكم، ولا سيما فيما يتعلق بالدماء والفروج والحدود وسائر العقوبات الشرعية.
الحال الثانية: أن يتوقف القيام بالحق على حكم الحاكم كضرب أجل للعنين فيتخير الزوج بين أن يطلق ولا تلزمه الإجابة إلى الحاكم، وبين أن يجيب الحاكم، وليس له الامتناع منها، وكذلك القسمة التي تتوقف على الحكم يتخير فيها المدعى
 ج / 2 ص -24-
 
  
عليه بين أن يملك حصته لغيره وبين الحضور عند الحاكم، وليس له الامتناع منهما. وكذلك الفسوخ الموقوفة على الحضور عند الحاكم ولو دعا خصمه إلى التحاكم في مختلف في ثبوته فإن كان المدعى عليه معتقدا ثبوته فهو على ما مضى، وإن اعتقد انتفاءه لم تلزمه إجابة خصمه، وإن دعاه الحاكم لزمته الإجابة، وإن طولب بدين أو حق واجب على الفور لزمه أداؤه، ولا يحل له أن يقول لخصمه لا أدفعه إلا بالحاكم؛ لأنه مطل والمطل بالحقوق المقدور عليها محظور؛ لقوله عليه السلام: "مطل الغني ظلم"، وكثيرا ما يصدر هذا من العامة مع الجهل بتحريمه، وإثمه أعظم من إثم المطال المجرد؛ لما فيه من تعطيل المدعي بانطلاقه إلى الحاكم ومثوله بين يديه، وبما يغرمه لأعوان الحاكم على الإحضار.
وأما النفقات: فإن كانت للأقارب وجبت الإجابة إلى الحضور عند الحاكم ليقدرها، وإن كانت للرقيق أو للزوجات يتخير بين تمليك الرقيق وإبانة الزوجة، وبين الإجابة إلى الحضور عند الحاكم.
[فائدة]: إذا لزم المدعى عليه إحضار العين لتقوم عليها البينة فأحضرت فإن ثبت الحق كانت مؤنة الإحضار على المدعي، وإن لم يثبت كانت مؤنة الإحضار والرد على المدعى عليه؛ لأنه مبطل في ظاهر الشرع، ولا يجب أجرة تعطيل المدعى عليه في مدة الإحضار؛ لأنه حق للحاكم لا تتم مصالح الأحكام إلا به.
[فائدة]: من ادعى عليه الحق مسندا إلى سبب كالبيع والإجارة والنكاح والجناية الموجبة للقصاص والحد والتعزير فنفاه أو نفى سببه قبل منه، وليس للحاكم إلزامه بنفي سببه؛ لأن الأسباب قد تتحقق ويسقط حقوقها ومواجبها بعد ثبوتها، فلا يلزمه أن يحلف ما باع لاحتمال أن يتحقق البيع ثم تقع الإقالة بعده، أو الفسخ أو الإبراء من الثمن، فلو كلف أن يحلف على نفي البيع لتضرر، فإنه إن صدق ألزم بموجب البيع، وإن كذب فقد حلف بالله كاذبا كذبا لا تدعوا الحاجة إليه، إذ له عنه مندوحة بنفي الاستحقاق الذي هو مقصود الخصم وكذلك
 ج / 2 ص -25-
 
  
الإجارة قد يتعقبها من الفسخ، أو الإبراء، أو الإقالة ما يقطع استحقاقها، وكذلك النكاح قد يرتفع بالإبانة والفسوخ، فلو اعترف به لألزم بحكمه وموجبه، وفيه إضرار به، وكذلك الجناية الموجبة للقصاص والحد والتعزير قد يقع بعدها عفو أو صلح يسقط موجبها، فإذا حلف على نفي الاستحقاق فقد نفى المقصود بالدعوى وسلم من هذه المؤاخذات، ولو ألزم الحلف على نفي السبب مع تحققه لحملناه على الحلف كاذبا مع أن كذبه غير محتاج إليه، وإن أقر بالسبب خوفا من الكذب تضرر بإلزامه حقا قد سقط، فكان الجمع بين حقه في ذلك، وبين حق الخصم في الإجابة لنفي الحق دفعا بين حقيهما من غير تعريض واحد منهما لضرر دينه أو حقه، ولا يخفى ما في هذا من الإنصاف الذي يبنى القضاء على أمثاله.
[فائدة] إن قيل كيف جعلتم القول قول المدعى عليه مع أن كذب كل واحد منهما ممكن؟ قلنا: جعلنا القول قوله لظهور صدقه فإن الأصل براءة ذمته من الحقوق، وبراءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات، وبراءته من الانتساب إلى شخص معين، ومن الأقوال كلها والأفعال بأسرها، وكذلك الأصل عدم إسقاط ما ثبت للمدعي من الحقوق وعدم نقلها. فيدخل في هذا جميع العقود والتصرفات حتى الكفر والإيمان، وكذلك الظاهر أن ما في يده مختص به فجعلنا عليه لرجحان جانبه بما ذكرناه فقوينا الظن المستند إلى ما ذكرناه بالظن المستفاد من اليمين، فإن نكل زال الظن المستفاد من براءة ذمته وجسده ويده؛ لأن الطبع وازع عن النكول الموجب لحلف المدعي بما يضر الإنسان في ذمته وجسده ويده فرجح بذلك جانب المدعي فعرضت اليمين عليه ليحصل لنا الظن المستفاد من النكول، وقد جعل بعض العلماء الظن المستفاد من النكول موجب للحكم لقوته وشدة ظهوره، فإذا قامت البينة العادلة قدمت على ذلك؛ لأن الظن المستفاد منها أقوى
 ج / 2 ص -26-
 
  
وأظهر من الظن المستفاد من تحليف أحد الخصمين. فإن قيل: قد أمر الأئمة والحكام بالعدل، وهو التسوية بين المستحقين والمتخاصمين وقد فاوتم بينهم فقدمتم قول المدعى عليه؟ قلنا: أما الحاكم فيسوي بين الخصوم من وجهين. أحدهما التسوية بينهم في الإقبال والإعراض والنظر والمجلس.
الوجه الثاني: التسوية بينهم في العمل بالظنون فيجعل القول قول كل مدع مع يمينه إلا ما استثناه الشرع كالقسامة واللعان، فيسوي فيه بين الأزواج، وكذلك يسوي بين النساء في درء الحدود باللعان، وكذلك يسوي بين الخصوم في تحليف كل مدع بعد النكول، وكذلك إذا تناكلا ولم يحلف واحد منهما فيسوي بينهما في صرفهما.
وأما الإمام فيلزمه مثل ما لزم الحاكم من ذلك، ويلزمه أن يقدم الضرورات على الحاجات في حق جميع الناس. وأن يسوي بينهم في تقديم أضرهم فأضرهم وأمسهم حاجة فأمسهم، والتسوية بينهم ليست من مقادير ما يدفع إليهم الإمام، بل التسوية بينهم أن يدفع إلى كل واحد منهم ما يدفع به حاجته من غير نظر إلى تفاوت مقاديره فيتساووا في اندفاع الحاجات، وكذلك يسوي بين الناس في نصب القضاة والولاة ودفع المضرات، ولا يخلي كل قطر من الولاة والحكام، ولا يخلي الثغور من كفايتها من الكراع والسلاح والأجناد الذين يرجى من مثلهم كف الفساد ودرء الكفار وعرامة الفجار، إلى غير ذلك مما يتصرف به الأئمة. وإذا قسم الإمام الأموال فليقدم الأفضل فالأفضل منهم في تسليم نصيبه إليه كي لا تنكسر قلوب الفضلاء بتأخيرهم، إلا أن يكون المفضول أعظم ضرورة وأمس حاجة فيبدأ به قبل الفاضل؛ لأن الفاضل إذا عرف ضرورة المضطر رق له، وهان عليه تقديمه.
فإن قيل: لم جعلتم القول قول بعض المدعين مع يمينه ابتداء؟ قلنا: فعلنا ذلك
 ج / 2 ص -27-
 
  
إما لترجح جانبه، أو لإقامة مصلحة عامة، أو لدفع ضرورة خاصة. فأما ترجح جانبه فله مثالان:
أحدهما: دعوى القتل مع اللوث، فإن اللوث قد رجح جانبه بالظن المستفاد من اللوث فانتقلت اليمين إلى جانبه، ثم أكدنا الظن بتحليفه خمسين يمينا؛ لما في ذلك من بعد الجرأة على الله بخمسين كاذبة، فأوجبنا الدية لما ظهر لنا من صدقه، وفي إيجاب القول بمثل هذا الظن خلاف بين العلماء.
المثال الثاني: قذف الرجل زوجته، فإن صدقه فيه ظاهر؛ لأن الغالب في الزوج نفي الفواحش عن امرأته، وأنه يتعير بظهور زناها، ولولا صدقه في هذه الواقعة لما أقدم على ذلك، فلما ظهر صدقه ضممنا إلى هذا الظهور الظهور المستفاد من أيمان اللعان، وأكدنا ذلك بدعائه على نفسه باللعن الذي لا يقدم عليه غالبا إلا صادق في قوله، فإذا تم لعانه فقد اختلف العلماء في حد المرأة بهذه الحجة، فذهب إلى أنها لا تحد لضعف هذه الحجة ورأي الشافعي رحمه الله أنها تحد بهذه الحجة عملا بقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} حملا للعذاب على الجلد المذكور في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وفرق الشافعي رحمه الله بين هذا وبين القود بالقسامة؛ لأن المرأة قادرة على درء الحد باللعان، بخلاف القصاص فإن المقتص منه لا يقدر على درئه. وأما قبول قول المدعي لإقامة مصلحة عامة فله أمثلة:
أحدها: قبول قول الأمناء في تلف الأمانة لو لم يشرع لزهد الأمناء في قبول الأمانات ولفاتت المصالح المبنية على حفظ الأمانات.
المثال الثاني: قبول قول الحكام فيما يدعونه من الجرح والتعديل، وغيرها من الأحكام لو لم يقبل لفاتت مصالح تلك الأحكام لرغبة الحكام عن ولاية الأحكام.
 ج / 2 ص -28-
 
  
المثال الثالث: قبول قول المدعي رد الأمانة على مستحقها وللأمين في ذلك حالان: أحدهما أن يكون أمينا من قبل الشرع كالوصي يدعي رد المال على اليتيم، وكذلك من كانت عنده أمانة شرعية فادعى ردها على مالكها الذي لم يأتمنه عليها فلا يقبل قوله في ذلك لتيسر الإشهاد على الرد فإذا فرط في الإشهاد لم نخالف القواعد والأصول؛ لأجل تفريطه. وأما ما يقبل في قول المدعي لرفع ضرورة خاصة: فكالغاصب يدعي تلف المغصوب فالقول قوله مع يمينه؛ لأنا لو رددنا قوله لأدى إلى أن نخلده في الحبس إلى موته، ويجب طرد هذا في كل يد ضامنة كيد المستعير والمستام.
فصل: فيما يقدح في الظنون من التهم وما لا يقدح فيها
التهم ثلاثة أضرب. أحدها تهمة قوية كحكم الحاكم لنفسه، وشهادة الشاهد لنفسه، فهذه تهمة موجبة لرد الحكم والشهادة؛ لأن قوة الداعي الطبعي قادحة في الظن المستفاد من الوازع الشرعي قدحا ظاهرا لا يبقى معه إلا ظن ضعيف لا يصلح للاعتماد عليه، ولا لاستناد الحكم إليه.
الضرب الثاني: تهمة ضعيفة كشهادة الأخ لأخيه، والصديق لصديقه والرفيق لرفيقه، والعتيق لمعتقه، فلا أثر لهذه التهمة، وقد خالف مالك رحمه الله في الصديق الملاصق، ولا تصلح تهمة الصداقة للقدح في الوازع الشرعي، وقد وقع الاتفاق على أن الشهادة لا ترد بكل تهمة.
الضرب الثالث: تهمة مختلفة في رد الشهادة والحكم بها ولها رتب.
أحدها: تهمة قوية، وهي تهمة شهادة الوالد لأولاده وأحفاده، أو لآبائه وأجداده فالأصح أنها موجبة للرد لقوة التهمة، وعن أحمد - رحمه الله تعالى - روايات، ثالثها: رد شهادة الأب وقبول شهادة الابن؛ لقوة تهمة الأب لفرط شفقته وحنوه على الولد.
 
 ج / 2 ص -29-
 
  
الرتبة الثانية: تهمة شهادة العدو على عدوه، وهي موجبة للرد لقوة التهمة، وخالف فيها بعض العلماء.
الرتبة الثالثة: تهمة أحد الزوجين إذا شهد للآخر وفيها أقوال، ثالثها: رد شهادة الزوجة دون الزوج؛ لأن تهمتها أقوى من تهمة الزوج؛ لأن ما ثبت له من الحق متعلق لكسوتها ونفقتها وسائر حقوقها.
الرتبة الرابعة: تهمة القاضي إذا حكم بعلمه، والأصح أنها لا توجب الرد إذ كان الحاكم ظاهر التقوى والورع.
الرتبة الخامسة: تهمة الحاكم في إقراره بالحكم، وهي موجبة للرد عند مالك رحمه الله، غير موجبة له عند الشافعي رحمه الله؛ لأن من ملك الإنشاء ملك الإقرار، والحاكم مالك لإنشاء الحكم، فملك الإقرار به، وقول مالك رحمه الله متجه إذا منعنا الحكم بالعلم.
الرتبة السادسة: تهمة حكم الحاكم مانعة من نفوذ حكمه؛ لأولاده وأحفاده وعلى أعدائه وأضداده، فإن سمع البينة وفوض الحكم إلى غيره فوجهان. وقال الإمام رحمه الله الأصح أنه لا يحكم بعلمه هاهنا، وإن جوزنا الحكم بالعلم. وإن حكم بالبينة فوجهان، وإنما ردت الشهادة بالتهم من جهة أنها مضعفة للظن المستفاد من الشهادة، موجبة لانحطاطه عن الظن الذي لا يعارضه تهمة، ولأن داعي الطبع أقوى من داعي الشرع، ويدل على ذلك رد شهادة أعدل الناس لنفسه ورد حكم أقسط الناس لنفسه.
فإن قيل: لم رجعتم في الجرح والتعديل إلى علم الحاكم؟ قلنا: لو لم نرجع إليه في التفسيق لنفذنا حكمه بشهادة من أقر بأنه لا يصلح للشهادة، وإقراره بفسق الشاهد يقتضي إبطال كل حكم ينبني على شهادته. وأما التعديل فإنه مسند في أصله إلى علمه، فإنه لا تقبل التزكية إلا ممن عرف بالعدالة، وكذلك تزكية المزكي ومزكي المزكي إلى أن يستند ذلك إلى علمه.
 ج / 2 ص -30-
 
  
فإن قيل: لم حرمتم على الحاكم ألا يحكم بخلاف علمه؟ قلنا: لأنه لو حكم بخلاف علمه لكان قاطعا ببطلان حكمه، والحكم على الباطل محرم في كل ملة، فإنه إذا رأى رجلا قتل رجلا فادعى الولي القتل على غير القاتل فأقر المدعى عليه بالقتل، أو قامت به بينة عادلة، فلا يجوز له قتل غير القاتل لعلمه بكذب المقر والبينة، فلو حكم بذلك لكان حكما بغير حجة شرعية، بل هو أقبح من الحكم بغير حجة شرعية؛ لأنه إذا حكم بغير حجة شرعية جاز أن يكون ما حكم به حقا موافقا للباطل. وأما هاهنا فإنه ظالم باطنا وظاهرا ويجب عليه القصاص.
[فائدة]: إذا زكيت البينة عند الحاكم ثم شهدت بحق آخر فإنها تقبل إذا قرب الزمان استصحابا لعدالتهم، وإن بعد الزمان فقد اختلف فيه، فمنهم من قبل الشهادة؛ لأن الأصل بقاء العدالة، وكما يحكم ببقاء عدالة الوصي والحاكم والإمام عند طول الزمان، ومنهم من لا يقبلها؛ لأن الغالب على الإنسان تغير الأحوال، وهذا مطرد في العدول المرتبين عند الحكام، والفرق أنا لو اعتبرنا ذلك في الأوصياء والأئمة والحكام لأدى ذلك إلى ضرر عظيم من تعطيل المصالح العامة والخاصة، بخلاف ما ذكرناه من إعادة تزكية الشهود، فإنه ليس من اعتباره ضرر عام، واختلف القائلون بهذا في طول الزمان فقدره العراقيون من ثلاثة أيام، وفيه بعد، وقدره آخرون بمدة تتغير فيها الأحوال في الغالب، وهذا أقرب.
[فائدة] لا ترد شهادة أهل الأهواء؛ لأن الثقة حاصلة بشهادتهم حصولها بشهادة أهل السنة، ومدار قبول الشهادة والرواية على الثقة بالصدق وذلك متحقق في أهل الأهواء تحققه في أهل السنة، والأصح أنهم لا يكفرون ببدعهم، وكذلك تقبل شهادة الحنفي إذا حددناه في شرب النبيذ؛ لأن الثقة بقولهم لم تنخرم بشربه لاعتقاده إباحته، وإنما ردت شهادة الخطابية؛ لأنهم يشهدون بناء على إخبار بعضهم بعضا فلا تحصل الثقة بشهادتهم لاحتمال بنائها على ما ذكرناه.
[فائدة]: إذا شهد على أبيه أنه طلق ضرة أمه ثلاثا فهذه شهادة تنفع أمه
 ج / 2 ص -31-
 
  
وتضر أباه وفي قبولها قولان، والمختار أنها تقبل لضعف التهمة، فإن طبعه يزعه عن نفع أمه بما يضر أباه. وكذلك لو شهد لأحد ابنيه على الآخر؛ لأن الوازع الطبعي قد تعارض وظهر الصدق لضعف التهمة المتعارضة، ولو شهد؛ لأعدائه على آبائه وأبنائه فهذه شهادة متأكدة؛ لأن الظاهر عليها الوازع الطبعي والشرعي؛ لأن طبعه يحثه على نفع أبنائه وآبائه، وعلى ضر خصومه وأعدائه فمنعه وازع الشرع من نفع آبائه وأبنائه وضر أضداده وأعدائه.
[فائدة]: إذا شهد الفاسق المستخفي بفسقه الذي يتعير بنسبته إليه فردت شهادته فأعادها بعد العدالة لم تقبل؛ لأن له غرضا طبعيا في نفي الكذب عن شهادته، وإن لم يكن الفاسق كذلك فأعاد الشهادة فوجهان. فإن تهمته ضعيفة لضعف غرضه، ولو شهد لمكاتبه أو على عدوه فردت شهادته فأعادها بعد العتق والصداقة فوجهان لضعف التهمة.
فإن قيل: متى يحكم بشهادة الفاسق إذا تاب مع كونه مدعيا للتوبة، فإن ركنيها، وهما الندم والعزم من أعمال القلوب؟ قلنا: القاعدة أن ما لا يعلم إلا من جهة الإنسان، فإنا نقبل قوله فيه، فإذا أخبر المكلف عن نيته فيما تعتبر فيه النية، أو أخبر الكافر عن إسلامه، أو المؤمن عن ردته، أو أخبرت المرأة عن حيضها أو أخبر الكتابي عن نيته أو المدين عن دفع دينه، فإنا نقبل ذلك كله وتجري عليه أحكامه؛ لأنا لو لم نقبله لتعطلت مصالح هذا الباب؛ لتعذر إقامة الحجج عليها، ولذلك قبلنا قول المرأة في الإجهاض. وأما التائب فلا يقبل قوله مع توبته حتى نحكم بعدالته، ولا بد أن تمضي مدة طويلة يعلم في مثلها صدقه بملازمته للمروءة واجتناب الكبائر وتنكب الإصرار على الصغائر، فإذا انتهى إلى حد يغلب على الظن عدالته، كما يغلب على الظن عدالة غيره من العدول قبلنا شهادته لإفادتها الظن الذي يفيده قول غيره من العدول، وقد اختلف في مقدار هذه المدة، فقدرها بعضهم بستة
 ج / 2 ص -32-
 
  
أشهر وذلك تحكم، والمختار أن ذلك يختلف باختلاف ما ظهر من التائبين من التلهف والتأسف، والتندم، والإقبال على الطاعات، وحفظ المروآت، والتباعد عن المعاصي والمخالفات، ويدل على ذلك قوله تعالى - في القذفة: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فشرط في قبول الشهادة بعد التوبة الإصلاح، وليس هذا شرطا في التوبة في نفس الأمر، فإن التوبة إذا تحققت بنيت عليها الأحكام في الباطن، وأما في الظاهر فلا بد من اختباره واستبرائه حتى يظهر صدقه في دعواه التوبة، فتعود إليه في الباطن كل ولاية تشترط فيها العدالة، ولا يعود شيء من ذلك في الظاهر إلا بعد استبرائه.
فإن قيل: كيف قال الشافعي رحمه الله توبة القاذف في إكذابه نفسه، مع أن الإكذاب ليس ركنا من أركان التوبة؟ قلنا: قد خفي هذا على كثير من أصحاب الشافعي حتى تأولوه بتأويل لا يصح، والذي ذكره رحمه الله ظاهر عائد إلى الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه، فإنا إنما فسقناه لكونه كاذبا في الظاهر، فلو لم يكذب نفسه لكان مصرا على الذنب الذي شرط الإقلاع عنه، فإذا أكذب نفسه، فقد أقلع عن الذنب الذي فسقناه؛ لأجله.
فإن قيل: إن كان كاذبا فهو فاسق، وإن كان صادقا فهو عاص؛ إذ لا يجوز تعيير من تحقق زناه بالقذف فكيف ينفعه تكذيبه نفسه مع كونه عاصيا بكل حال؟ قلنا: ليس قذفه، وهو صادق كبيرة موجبة لرد شهادته بل ذلك من الصغائر التي لا تحرم الشهادات ولا الروايات.
فإن قيل: إذا كان صادقا فكيف يجوز له أن يكذب نفسه فيما هو صادق فيه؟ قلنا الكذب للحاجة جائز في الشرع، كما يجوز كذب الرجل لزوجته، وفي الإصلاح بين المختصمين، وفي هذا الكذب مصالح.
أحدها: الستر على المقذوف، وتقليل أذيته وفضيحته عند الناس.
 ج / 2 ص -33-
 
  
الثانية: قبول شهادة القاذف بعد الاستبراء.
الثالثة: عوده إلى الولايات التي تشترط فيها العدالة؛ كنظره في أموال أولاده وإنكاحه لمولياته.
الرابعة: تعرضه للولايات الشرعية والمناصب الدينية.
[فائدة] بحث الحاكم عن الشهود عند الريبة والتهمة حق واجب في حقوق الله وحقوق عباده، فإن بحث على حسب إمكانه فلم تزل الريبة والتهمة لزمه القضاء؛ لأنه بذل ما في وسعه، وهذا مشكل عند قيام الشك مع تساوي الطرفين، عند غلبة كذب الشهود على ظنه.
فإن قيل: إذا شهد الوالد لولده أو العدو على عدوه أو الفاسق بما يعلمونه من الحق، والحاكم لا يشعر بالولادة والفسوق والعداوة فهل يأثم الشهود بذلك؟ قلت: هذا مختلف فيه والمختار جوازه؛ لأنهم لم يحملوا الحاكم على باطل، وإنما حملوه على إيصال الحق للمستحق، وإنما ردت شهادة هؤلاء للتهم؛ لأن التهمة مانعة للحاكم من جهة قدحها في ظنه، وههنا لا إثم على الحاكم لتوفر ظنه، ولا على الخصم؛ لأخذ حقه، ولا على الشاهد لمعونته.
فإن قيل: ما تقولون فيمن له حق على إنسان فاستعان على أخذه ببعض الولاة والقضاة فساعداه عليه بغير حجة شرعية، فهل يجوز له أن يستعين بالوالي والقاضي على ذلك مع كون الوالي والقاضي آثمين في أخذهما الحق بغير حجة شرعية؟ قلت: أما الوالي والقاضي فآثمان. وأما المستعين بهما فينبغي أن ينظر فيه إلى الحق المستعان عليه وله رتب.
أحدها: أن يكون الحق جارية استحل غاصبها بضعها فلا أرى بأسا بالاستعانة بالوالي والقاضي، وإن عصيا، بل ذلك واجب عند القدرة عليه؛ لأن مفسدة معصية الوالي والقاضي دون مفسدة الغصب والزنا، وكذلك لو غصب إنسان على زوجته فاستعان على تخليصها بالوالي والقاضي فلا إثم عليه مع كون القاضي
 ج / 2 ص -34-
 
  
والوالي عاصيين؛ لأن مفسدة بقائها مع من يزني بها أعظم من مفسدة مساعدة الوالي والقاضي بغير حجة شرعية. وكذلك لو استعان بالآحاد وأعانوه بمجرد دعواه فإنهم يأثمون بذلك ولا يأثم المستعين بهم؛ لأن مفسدة مخالفتهم الشرع في مثل هذا دون المفسدتين المذكورتين.
الرتبة الثانية: إذا استعان بالولاة أو بالقضاة أو بالآحاد على رد المغصوب من غاصبه أو المجحود من جاحده فأعانوه على تخليص ذلك من غير حجة شرعية مثل أن غصب إنسان دابته وثيابه وسلاحه ومنزله وماعونه أو جحده ذلك من غير غصب فاستعان بهم فأعانوه فإنهم يأثمون على إعانته بغير حجة شرعية ولا إثم عليه في ذلك؛ لأن مفسدة بقاء ذلك بيد للغاصب والجاحد أعظم من مفسدة عصيانهم؛ لأن الذي صدر منهم مجرد معصية لا مفسدة فيها، والذي صدر من الغاصب والجاحد عصيان مع تحقق المفسدة، وقد يجوز إجابة العاصي على معصيته لا من جهة كونها معصية بل لما تضمنته الإعانة من المصلحة كما ذكرناه في فداء الأسرى.
الرتبة الثالثة: أن يكون الحق حقيرا ككسرة أو ثمرة فهذا لا تجوز الاستعانة على تخليصه بغير حجة شرعية؛ لأن معصية مفسدة المساعد عليه تربى على مفسدة فواته.
[فائدة] الغرض من نصب القضاة إنصاف المظلومين من الظالمين، وتوفير الحقوق على المستحقين، والنظر لمن يتعذر نظره لنفسه كالصبيان والمجانين والمبذرين والغائبين، فلذلك كان سلوك أقرب الطرق في القضاء واجبا على الفور؛ لما فيه من إيصال الحقوق إلى المستحقين ودرء المفسدة عن الظالمين والمبطلين، وقد تقدم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على الفور، وأحد الخصمين ههنا ظالم أو مبطل وتجب إزالة الظلم والباطل على الفور وإن لم يكن آثما بجهله؛ لأن الغرض إنما هو دفع المفاسد سواء كان مرتكبا آثما أو غير آثم. وكذلك يجب القضاء على الغائب لما في تأخيره إلى حضوره من استمرار المفسدة؛ لأن الدعوة إن كانت بطلاق تضررت المرأة ببقائها في قيود نكاح
 ج / 2 ص -35-
 
  
مرتفع، ولم تتمكن من التزوج ولا مما يتمكن منه الخليات، وإن كانت بعتاق تضررت الأمة والعبد بإجراء أحكام الرق عليهما إلى حضور الغائب، وإن كانت الدعوى بعين تضرر ربها بالحيلولة بينه وبينها، وإن كانت بدين تضرر ربه بتأخير قبضه وعدم الارتفاق به، ولا فرق بين الغائب والحاضر في إقامة الحجج، فإن الظن المستفاد في إقامة الحجج على الغائب كالظن المستفاد من إقامتها على الحاضر.
فإن قيل: الحاضر يناضل عن نفسه بالمعارضات، والجرح بخلاف الغائب. قلنا: لا يجوز ترك ما وجب ظهوره بحجة شرعية لاحتمال الأصل وعدمه، والحاكم يناضل عن الغائب على حسب الإمكان، ولذلك يحلف المدعي، ولا يجوز إهمال الحجج الشرعية لمجرد الأوهام والظنون الضعيفة؛ لما ذكرناه من تقديم الظن القوي على الظن الضعيف في سائر الأحكام.
فإن قيل: ما المعنى بالظالم والمبطل في هذا الباب؟ قلنا: أما الظالم فهو ظالم بأنه عاص لله بجحوده وإنكاره ومنع الحق من مستحقه، فيجب على الحاكم سلوك أقرب الطرق في دفع هذه المفسدة عن المستحق، ولا سيما إذا تعلقت الدعاوى بالأبضاع؛ ولأن مطل الغني بالحقوق التي يقدر على دفعها ظلم، ولا تجوز الإعانة على الظلم، وقد قال عليه السلام: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وأراد بنصر الظالم أن يزعه عن الظلم ويكفه عنه كما فسره عليه السلام. وأما المبطل فهو الذي يجحد ما يجهل وجوبه من الحقوق الواجبة في نفس الأمر فهذا لا إثم عليه، ولكنه يجب إيصال الحق إلى مستحقه على الفور، وإن لم يكن المستحق عليه آثما دفعا لمفسدة تأخر الحق عن مستحقه ولا سيما إذا ادعت الزوجة الطلاق والأمة العتاق فأنكرهما، وكان وكيله قد طلق الزوجة وأعتق الأمة، وهو لا يشعر. وكذلك إذا أخرج وكيله شيئا من الأعيان والمنافع عن ملكه فأنكره ظنا أن الوكيل ما تصرف فيه. وكذلك لو زوجه أبوه امرأة في صغره فادعت عليه حقوق النكاح في كبره فأنكرها بناء على جهله بالنكاح فيجب
 ج / 2 ص -36-
 
  
سلوك أقرب الطرق في إيصالها وفي حقوق النكاح فوجوبها على الصحة، فإن المطل بالحق بعد طلبه مفسدة محرمة على من علمها.
[فائدة] الظن المستفاد من إخبار أكابر الصحابة آكد من الظن المستفاد من غيرهم من عدول الأزمان بعدهم، ولا تشترط المساواة بينهم وبين عدول سائر القرون، فإن ذلك يؤدي إلى إغلاق باب الشهادة والرواية، بل الموجب لقبول شهادة الصحابة إنما هو مساواتهم إيانا في حفظ المروءة، والانكفاف عن الكبائر، وعن الإصرار على الصغائر والزيادة مؤكدة ليست شرطا في القبول. وكذلك القول في العدالة المشروطة في القضاة والخلفاء والولاة، إذ لو شرطت الزيادة على ذلك لفاتت المصالح المتعلقة بالقضاة والخلفاء وغيرهما من الولاة، بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة بل قدمنا أمثل الفسقة فأمثلهم، وأصلحهم للقيام بذلك فأصلحهم، بناء على أنا إذا أمرنا أتينا منه بما قدرنا عليه ويسقط عنا ما عجزنا عنه، ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، وقد قال شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فعلق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة، فكذلك المصالح كلها.
ولمثل هذا قلنا: إذا عم الحرام بحيث لا يوجد حلال فلا يجب على الناس الصبر إلى تحقق الضرورة، لما يؤدي إليه من الضرر العام.
[فائدة]: إنما شرط العدد في الشهادة؛ لأن الخبر الصادر من اثنين آكد ظنا وأقوى حسبانا من الخبر المستفاد من قول الواحد، وكلما كثر المخبرون كثر الظن بكثرة عددهم إلى أن ينتهي خبرهم إلى الاعتقاد، فإن تكرر بعد حصول الاعتقاد انتهى إلى إفادة العلم، وهذا معلوم باطراد العادات فيما يندرج فيه من الخبر المتواتر، ويجب على هذا أن تتوارد الشهادتان على شيء متحد. فإذا شهد واحد على قتل أو قبض أو غصب أو قذف أو بيع أو إجارة في يوم الأحد، وشهد آخر
 ج / 2 ص -37-
 
  
على وقوع ذلك يوم الاثنين لم يثبت؛ لأن الشهادتين لم يتعلقا بشيء واحد حتى يتأكد الظن، ومن خالف في ذلك فقد أخطأ؛ لأن الشهادتين لم يتواردا على شيء واحد، فإن حكم بذلك كان حكما بشاهد واحد، ولا سيما في القتل والإتلاف، فإن الشهادتين متكاذبتان فلو حكم بذلك لكان حكما بالشك، وإن اختلف تاريخ الإقرار. فإن كان الإقرار بشيئين مختلفين لم يحكم بالشهادة إذ لم يقم في كل واحد من الإقرارين إلا شاهد واحد، وإن كان الإقرار بشيء واحد فالأصح ثبوت المقر به، وفيه إشكال من جهة أن الشهادتين لم تتواردا على إقرار واحد، فإن إقرار يوم الأحد لم يشهد به إلا واحدا وكذلك إقرار يوم الاثنين لم يشهد به إلا واحدا فلم تتوارد الشهادتان على إقرار واحد، فيتأكد الظن بانضمام إحدى الشهادتين إلى الأخرى، ولكن لما اتحد المقر به وقع القرار عليه، وهذا لا يزيل الإشكال؛ لأن الشاهدين لم يشهدا بالمقر به حتى يقال تواردت الشهادتان عليه، وإنما شهدا بلفظ، وليس لفظه عين المشهود به، فإن الخبر يغاير المخبر. وقد يكون المقر كاذبا في إقراره وبحثه قول من منع الثبوت بمثل هذا.
[فائدة] ليس قول الحاكم يثبت عندي حكما به إلا أن يقول الحاكم إذا أطلقت لفظ الثبوت فإنما أعني به الحكم بالحق الذي يثبت عندي، فإن لم يفعل ذلك، فمن قضى بأن لفظ الثبوت إخبار عن الحكم كلفظ القضاء والحكم فقد أخطأ؛ لأن اللفظة المترددة بين أمرين إذا صدرت من حكم أو غيره لم يجب حملها على أحد الأمرين إلا أن تكون ظاهرة فيه لا يفهم منه عند الإطلاق غيرها. ولفظ الثبوت قد يعبر به بعض الناس عن الحكم ويعبر به الأكثرون عن غير الحكم، فمن أين لمن لم يقض بأن مطلق هذه اللفظة إنما أطلقها بإزاء الحكم، وحمل المجمل على أحد محتمليه المتساويين غير جائز فما الظن بحمله على الاحتمال المرجوح، ولا وقفة عندي في نقض حكم من يحكم بأن الإثبات
 ج / 2 ص -38-
 
  
حكم، لمخالفته القاعدة المجمع عليها من غير دليل في منع حمل اللفظة على أحد معنييها المتساويين، أو على المعنى المرجوح، والقوم يسمعون ألفاظا لم يعرفوا معانيها ولا مأخذها فيختارون بلا علم. بل لا يفهمون حقيقة الخلاف في ذلك.
[فائدة]: لا يتغير حكم الباطن بحكم الحاكم في فسخ ولا عقد، ولا في غيرهما إلا أن يقع الحكم في مجتهد فيه، ففي تغير الباطن فيه خلاف يفرق في أن له بين الحكم على العامي، والحكم على المجتهد، إذ ليس اجتهاد الحاكم أولى من اجتهاد المحكوم عليه.
[فائدة] قد أقام الشافعي رحمه الله قول الحاكم: ثبت عندي مقام قول اثنين، وقد يكون كل واحد منهما أوثق منه وأعدل، ويغلب الظن بقول أحدهما أكثر مما يغلب بقوله، وذلك؛ لأجل الحاجة.
مثاله: إذا جعلنا الثبوت نقلا للشهادة فإنا نقيم قول الحاكم: ثبت عندي مقام قول شهود الواقعة.
[فائدة] إذا ادعى رجل رق إنسان يستسخره استسخار العبد وينطاع انطياع العبد، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إذا كان بالغا، وإن صغيرا فقد جعله الشافعي كالثبوت، وهذا مشكل؛ لأن الأصل في الثبات الملك، والأصل والغالب في الناس الحرية، وإنما جعل القول قول البالغ؛ لأن الأصل والغلبة الدالين على حريته لا يعارضهما مجرد الاستسخار فضلا عن أن يرجح عليهما، وهي موجودان في حق الصبي وجودهما في حق البالغ فعلى هذا لا ينبغي للحاكم أن يلتفت إلى قول المدعي؛ لرجحان جانب الصبا بالأصل والغلبة على مجرد استسخاره، وإن لم يثبت عند الحاكم استسخار لم يجز الحكم بجعل الصبي كالثوب، إذ لا معارض لرجحان جانبه بالأصل والغلبة، فكيف نحكم له بمجرد دعواه مع رجحان جانب المدعى عليه مع وجهين لا معارض لواحد منهما ؟،. والعجب ممن لا يجعل القول قول الصبي بعد البلوغ مع الرجحان
 ج / 2 ص -39-
 
  
المذكور؛ لأن من جعله كالثوب يحتج بأنه لا عبرة بقوله، فإذا صار قوله معتبرا فكيف نجزم برقه مع ظهور صدقه وكذب غريمه في دعواه، وهذا مما لا أتوقف فيه، والمسألة مشكلة، وكذلك إقامة قول الحاكم وحده مقام قول شاهدين، بل مقام قول أربعة شهود، وليست المسألة مشكلة إجماعية، فإن من جعل الثبوت حكما نفذ قول الحاكم؛ لأنه إنشاء يقدر عليه، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإقرار ومالك يختلف في إقرار الحاكم إذا منع القضاء بعلمه؛ لأن التهمة موجودة في قوله حكمت مثلها في غير ذلك من أحكامه، ولا شك أن إنشاء تصرف في حق من حقوقه فإنه يملك الإقرار به، ويملك المجبر الإقرار به ويملك المجبر بتزويج المجبرة لظهور صدقه ولتعلق حقه؛ بخلاف إقرار الأخ المأذون له في النكاح. ولو ملك إنشاء تصرف بالتوكيل ثم اختلف الموكل والوكيل في إنشائه فيه خلاف، إذ الأصل عدم الإنشاء وليس الحق عليه، وهذا ظاهر.
[فائدة] الظن المستفاد ممن يخبر عن الواقعة عن سماع أو مشاهدة أقوى من الظن المستفاد ممن يخبر بذلك عمن شهد الواقعة، أجرى الله العادة بذلك، فإن العدل إذا قال أخبرني فلان العدل أنه رأى فلانا قتل فلانا فإنا نظن صدقه في ذلك ظنا منحطا عن الظن المستفاد ممن يخبر أنه رآه قتله. ولهذا لا تقبل شهادة بشهود الفرع إلا عند تعذر حضور شهود الأصل أو عند المشقة في حضورهم، إذ لا يجتزئ بالظن الضعيف مع التمكن من الظن القوي في باب الشهادة إذا وجد النصاب، بخلاف مثله في الرواية؛ لأن التوسع في باب الرواية مقصود بخلاف الشهادات.
[فائدة]: إذا أمر القاضي أو الوالي بما هو محبوب للمأمور به أنه ليس بواجب عليه كي لا يغره بأنه واجب، فإنه إذا علم بندبه فقد لا تسخو به نفسه.
[فائدة] لو حكم الحاكم في محل يسوغ فيه الاجتهاد، ثم تغير اجتهاده فحكم بما أدى إليه اجتهاده ثانيا، كان ذلك قطعا لما حكم به أولا، ولا يبطل الأول بذلك بل
 ج / 2 ص -40-
 
  
ينقطع من حين تغير الاجتهاد، ويبقى الأول على ما كان عليه، كما تنتقض الطهارة عند الناقض وتنقطع أحكامها حينئذ، ولا تبطل فيما تقدم على الناقض. وكذلك فسخ المعاملات، فقولنا انتقضت الوضوء وانفسخ البيع وانتقض العهد، كل ذلك من مجاز الحذف أصله انتقض أحكام الوضوء المبنية عليه، وانفسخت أحكام البيع المبنية عليه. وانتقضت أحكام العهد المبنية عليه؛ لأن الوضوء والبيع والعهد حقائق قد دخلت في الوجود لا يمكن نقضها ولا رفعها.
فصل: في بيان أدلة الأحكام وهي ضربان
أحدهما: ما يدل على شرعيتها. والثاني: ما يدل على وقوعها مستندة إلى أسبابها: فالأسباب مثبتة، والأدلة مظهرة.
فأما أدلة شرعية الأحكام: فالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، والاستدلال المعتبر.
وأما أدلة وقوعها ووقوع أسبابها وشرائطها وموانعها وأوقاتها وإحلالها فضربان، أحدهما: ما يتحقق، ويعلم أسباب وقوعه كالعلم بطلوع الفجر الذي هو سبب لصلاة الصبح وتوابعها من الأذان والإقامة والسنة المقدمة على الصلاة وكالعلم بزوال الشمس الذي هو سبب لوجود الظهر وتوابعها، وكذلك مصير ظل الشمس مثله، وغروب الشمس، ومغيب الشفق الأحمر وهي أسباب لوجوب العصر والمغرب والعشاء وتوابعها، وكذلك الأسباب المرتبات كالقتل والقطع، وكذلك المسموعات كالطلاق والعتاق وعقود المعاوضات.
الضرب الثاني: ما يظن تحقق أسبابها ووقوعه بظنون متفاوتة في القوة والضعف، وهي أنواع: منها إقرار المقرين، ثم شهادة أربع من المعدلين، ثم شهادة رجلين من المؤمنين، ثم شهادة رجل وامرأتين من الصالحين، ثم شهادة عدل واحد مع اليمين.
ومنها شهادة أربع نسوة بما يخفى غالبا على الرجال المعدلين.
 ج / 2 ص -41-
 
  
ومنها الأيمان الواقعة بعد نكول الناكلين.
ومنها أيمان القسامة مع اللوث على القائلين.
ومنها أيمان اللعان على القاذفين.
وأما يمين المدعى عليه وأيمان لعان النساء فدافعة للمدعى به غير موجبة له. ومنها خبر الواحد في دخول الأوقات وتعريف جهات القبلة، وتعريف ما وقع في الأواني من النجاسات.
ومنها: تقويم المقومين، ومسح الماسحين، وقسمة القاسمين، وخرص الخارصين. ومنها استلحاق المستلحقين، وقيافة القائفين، والانتساب عند عدم القيافة إلى الوالدين.
ومنها زفاف العروس إلى بعلها مع إخبارها بأنها زوجته أو مع إخبار غيرها من النساء، ومنها إخبار المرأة عن حيضها وطهرها، ومنها إخبار المكلف عما في يده أنه ملكه، ومنها إخباره عن تحقق ما لا يعلم إلا من جهته كالثبات في الديون، وإخبار المأذون والولي عما يعاملان به للمولى عليه، ومنها وصف اللقطة، وتبيين عفاصها ووكائها فإنه مجوز لدفعها، ومنها دلالة الأيدي على استحقاق المستحقين. ومنها دلالة الأيدي والتصرف إلى إملاك المالكين
ومنها وصف اللقطة دلالة الاستفاضة على استحقاق ما استفاضت.
ومنها دلالة الدار على إسلام اللقيط، ومنها دلالة وصف الأبنية وأشكالها على استحقاق المستحقين. ومنها دلالة الاستطراق على اشتراك أهل المحلة فيما يستطرقون فيه إذا كان مفسدا من أحد طرفيه. ومنها دلالة الأجنحة والميازيب والقنى والجداول والسواقي والأنهار على استحقاق ما اتصلت بملكه.
ومنها معاملة من يجهل رشده وحريته، وأكل طعامه والحكم له وعليه بناء على أن الغالب في الناس الحرية. ولو توقفت المعاملات على إثبات الرشد والحرية لما عاملنا كثيرا من التجار الواردين، ولا من أهل الأسواق المقيمين، ولا
 ج / 2 ص -42-
 
  
من أهل الصناع المتربصين لاستعمال المستعملين كالحاكة والأساكفة والخياطين والنجارين، ولما جاز لسائل وفقير وعالم أن يتناولوا الزكاة والصدقة إلا ممن ثبت رشده وحريته عندهم من الباذلين، ولا يخفى ما في هذا من العسر الشديد المؤدي إلى تعطيل المعاملات والمحاكمات والتبرعات، وذلك على خلاف إجماع المسلمين. وهذا ما غلب فيه الظاهر على استصحاب الأصل المقطوع به، فإنا نقطع أن كل أحد إن كان تحت الحجر إذ هو صغير، وقد زال حجر الصبي بالبلوغ، فاحتمل بعد زواله أن يخلفه الرشد، وجاز أن يخلفه حجر السفه، وليس أحدهما أولى من الآخر، فيحجر على من قرب عهده بالبلوغ للشك في الرشد، بل لقلة العفة على من قرب عهده ببلوغه، فإذا انتهى إلى حد يغلب فيه الرشد عند الناس حكم برشده لغلبة الرشد عليه، ولما ذكرته من إجماع المسلمين على معاملة المجهولين البالغين إلى حدود الرشد في الغالب. ومنها استصحاب الأصول كمن لزمه طهارة أو صلاة أو زكاة أو حج أو عمرة أو دين لآدمي ثم شك في أداء ركن من أركانه أو شرط من شرائطه فإنه يلزمه القيام به؛ لأن الأصل بقاؤه في عهدته، ولو شك هل لزمه شيء من ذلك أو لزمه دين في ذمته، أو عين في ذمته، أو شك في عتق أمته أو طلاق زوجته، أو شك في نذر أو شيء مما ذكرناه فلا يلزمه شيء من ذلك؛ لأن الأصل براءة ذمته، فإن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم والأجساد من حقوقه وحقوق العباد إلى أن تتحقق أسباب وجوبها فهذه أدلة مفيدة لظنون متفاوتة في قوتها وضعفها أثبت ضعيفها لمسيس الحاجة إليه فاكتفى في الاستفاضة في السيب إلى الإبانة إذ لا سبيل إلى معرفته، ولو ثبتت الاستفاضة لانسد باب إثبات الأنساب، وإنما اكتفى في الأموال ومنافع الأموال بالشاهد واليمين؛ لكثرة التصرف بينهما والارتفاق في الظعن والإقامة، فلو شرط فيهما عدد الشهود لتعذر ذلك في كثير من الأحوال، إذ لا يتيسر العدد في كل مكان من الحضر أو السفر واكتفى في النساء
 ج / 2 ص -43-
 
  
المجردات فيما لا يطلع عليه الرجال إذ لو لم نكتف بهن لغلب ضياع ذلك الحق وفواته، وقد ذهب بعض العلماء إلى شرط الأربعة في القتل؛ لأنه أعظم من الزنا، وليس الأمر كما ظنه بل الغرض من كثرة العدد في الزنا ستر الأعراض، ودفع العار عن العشائر والقبائل فضيق الشرع طريق إثباته دفعا لمفاسده إذ لا يتيسر حضور أربعة من العدول يشاهدون زنا الزانين، ولا عار على القاتلين، ولا على عشائرهم في الغالب بل قد يتبجج كثير من الناس بقتل الأعداء وتتمدح به عشائرهم. وذلك كثير مشهور في أسفار العرب والناس كلهم حراس على كتم الفواحش كالزنا واللواط، وقد عيب على امرئ القيس ذكره مقدم الزنا في بعض قصائده ولا يتصور كذب العلم وإخلافه، والظن يتصور الكذب والإخلاف. إلا أن الصدق والوفاق غالب عليه، ولذلك اعتبره الشرع واتبعه العقلاء في التصرفات الدنيوية، فإن الصدق الظن المستفاد مع جميع الأدلة المذكورة، فقد حصل مقصود الشرع من جلب المصالح ودرء المفاسد ظاهرا وباطنا، وإن كذب الظن فقد فاتت المصالح وتحققت المفاسد ولم يحصل مقصود الشرع من ذلك، ويعفى عن كذبه في حق العاملين به لجهلهم بكذبه، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها وطاقتها.
فإن قيل: ما تقولون إذا تعارضت الأدلة؟ قلنا: أما أدلة نصب الشريعة ووضع الأحكام فالأصح أن المجتهد لا يتخير بين الدليلين بل يتوقف إلى أن يظهر له ترجح من نسخ وغيره، فإن بذل جهده فلم يظفر بمرجح، ورجع حينئذ إلى القياس، وإذا ليس أحد الدليلين بأولى من الآخر، ولا يتصور تعارض علمين، ولا تعارض ظنين؛ لأن ذلك مؤد إلى الجمع بين النفي والإثبات في شيء واحد في زمن واحد، وإنما يقع التعارض بين أدلتها التي ذكرناها، فتعارض الشهادتان والخبران والأصلان والظاهران. وكذلك يتعارض الأصل والظاهر، وتعارضت الأدلة المفيدة للظنون، فإن كان التعارض بين ظاهرين كشهادتين متناقضتين أو خبرين متناقضين فإن كانا متساويين من كل وجه وجب التوقيف؛
 ج / 2 ص -44-
 
  
لانتفاء الظن الذي هو مستند الأحكام، إذ لا يجوز الحكم في الشرع إلا بعلم أو اعتقاد، فإذا تعارض دليلان ظنيان فإن وجدنا من أنفسنا الظن المستند إلى أن أحد الدليلين حكمنا به. وإن وجدنا الشك والتردد على سواء وجب التوقف، وإنما يجب الظن عند التعارض بين أحدهما؛ لأن الظن المستفاد منه عند انفراده أقوى من الظن المستفاد من معارضه في حال الانفراد.
مثال ذلك اليد: ظاهرة في استحقاق ذي اليد، والبينة والإقرار واليمين المردودة مرجحة؛ لقوة إفادتها الظن، فإذا تعارضت بينتان ولم نجد ظنا لتساويهما من كل وجه، فقد اختلف في ذلك، والأصح ما ذكرناه من سقوطهما، فإن القرع بينهما لا يفيد رجحان أحدهما بالقرعة، وإذا لم يرجح أحدهما حكمنا بالشك، والحكم بالشك غير جائز، وال