قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : قواعد الأحكام في مصالح الأنام
المؤلف : أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء (المتوفى : 660هـ)
 
 
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنس والجن ليكلفهم أن يوحدوه ويعبدوه, ويقدسوه ويمجدوه ويشكروه ولا يكفروه, ويطيعوه ولا يعصوه, وأرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ليعزروه ويوقروه ويطيعوه وينصروه; فأمرهم على لسانه بكل بر وإحسان, وزجرهم على لسانه عن كل إثم وطغيان وكذلك أمرهم بالمعاونة على البر والتقوى, ونهاهم عن المعاونة على الإثم والطغوى. وحثهم على الاقتداء والاتباع, كما زجرهم عن الاختلاف والابتداع. وكذلك أمر عباده بكل خير؛ واجب أو مندوب، ووعدهم بالثواب على قليله وكثيره بقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7]. ونهاهم عن كل شر محرم أو مكروه، وتوعدهم بالعقاب على محظور جليله وحقيره بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}، وبقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وكذلك أمرهم بتحصيل مصالح إجابته وطاعته, ودرء مفاسد معصيته ومخالفته؛ إحسانا إليهم, وإنعاما عليهم; لأنه غني عن طاعتهم وعبادتهم. فعرفهم ما فيه رشدهم ومصالحهم ليفعلوه, وما فيه غيهم ومفاسدهم ليجتنبوه, وأخبرهم أن الشيطان عدو لهم ليعادوه ويخالفوه, فرتب مصالح الدارين على طاعته واجتناب معصيته, فأنزل الكتب بالأمر والزجر والوعد والوعيد, ولو شاء الله لأصلحهم بدون ذلك; ولكنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, وما ربك بظلام للعبيد.
(1/2)
 
 
فصل: في بيان جلب مصالح الدارين و درء مفاسدهما على الظنون
...
فصل: في بيان جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على الظنون
الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون. وللدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما، وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها مظنون غير مقطوع به؛ فإن عمال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة وإنما يعملون بناء على حسن الظنون، وهم مع ذلك يخافون ألا يقبل منهم ما يعملون، وقد جاء التنزيل بذلك في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، فكذلك أهل الدنيا إنما يتصرفون بناء على حسن الظنون، وإنما اعتمد عليها لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها؛ فإن التجار يسافرون على ظن أنهم يستعملون بما به يرتفقون، والأكارون يحرثون ويزرعون بناء على أنهم مستغلون، والجمالون والبغالون يتصدرون للكراء لعلهم يستأجرون، والملوك يجندون الأجناد ويحصنون البلاد بناء على أنهم بذلك ينتصرون. وكذلك يأخذ الأجناد الحذر والأسلحة على ظن أنهم يغلبون ويسلمون، والشفعاء يشفعون على ظن أنهم يشفعون والعلماء يشتغلون بالعلوم على ظن أنهم ينجحون ويتميزون. وكذلك الناظرون في الأدلة والمجتهدون في تعرف الأحكام، يعتمدون في الأكثر على ظن أنهم يظفرون بما يطلبون، والمرضى يتداوون لعلهم يشفون ويبرءون. ومعظم هذه الظنون صادق موافق غير مخالف ولا كاذب، فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفا من ندور وكذب الظنون، ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون.
(1/3)
 
 
فصل: فيما استثني من تحصيل المصالح و درء المفاسد
...
فصل: فيما استثني من تحصيل المصالح ودرء المفاسد
لما عارضه أو رجح عليه وقد أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة وأخرج بعضها عن الأمر، إما لمشقة ملابستها وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزجر إما لمشقة اجتنابها، وإما لمصلحة تعارضها، ويعبر عن
(1/3)
 
 
المصالح والمفاسد بالخير والشر، والنفع والضر، والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات، وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح، والسيئات في المفاسد.
(1/4)
 
 
فصل: فيما تعرف به المصالح و المفاسد و في تفاوتهما
...
فصل: فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما
ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن. واتفق الحكماء على ذلك. وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال. وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان، فيتحير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي. وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت؛ فإن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك. فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع فإن تساوت الرتب تخير، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه والتوقف عند الجهل به. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح ودرء مفاسدهم. وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح، وما يحيد عن
(1/4)
 
 
ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة. فمن حرم ذبح الحيوان من الكفرة رام بذلك مصلحة الحيوان فحاد عن الصواب؛ لأنه قدم مصلحة حيوان خسيس على مصلحة حيوان نفيس، ولو خلوا عن الجهل والهوى لقدموا الأحسن على الأخس، ولدفعوا الأقبح بالتزام القبيح. {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ؟ فمن وفقه الله وعصمه أطلعه على دق ذلك وجله، ووفقه للعمل بمقتضى ما أطلعه عليه فقد فاز وقليل ما هم. قال: وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل، وكذلك المجتهدون في الأحكام من وفقه الله وعصمه من الزلل أطلعه الله على الأدلة الراجحة، فأصاب الصواب فأجره على قصده وصوابه، بخلاف من أخطأ الرجحان فإن أجره على قصده واجتهاده، ويعفى عن خطئه وزلله. وأعظم من ذلك الخطأ فيما يتعلق بالأصول. واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظرا لهم من رب الأرباب، كما ذكرنا في هذا الكتاب، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولو خير بين فلس ودرهم لاختار الدرهم، ولو خير بين درهم ودينار لاختار الدينار. لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت. واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود، فإن المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن لا تحصل إلا بنصب مقترن بها، أو سابق، أو لاحق، وأن السعي في تحصيل هذه الأشياء كلها شاق على معظم الخلق لا ينال إلا بكد وتعب، فإذا حصلت اقترن بها من الآفات ما ينكدها وينغصها، فتحصيل هذه الأشياء شاق. أما المآكل والمشارب فيتألم الإنسان بشهوتها، ثم يتألم بالسعي في تحصيلها. ثم يتألم بما يصير إليه الطعام والشراب من النجاسة
(1/5)
 
 
والأقذار ومعالجة غسله بيده. وأما الملابس فمفاسدها مشقة اكتسابها، وما يقترن بها من آفاتها؛ كالتخرق والتفتق والبلى والاحتراق. وأما المناكح فيتألم المرء بمؤنها ونفقتها وكسوتها وجميع حقوقها. وأما المراكب فمفاسدها مشقة اكتسابها والعناء في القيام بعلفها وسقيها وحفظها وسياستها، وما عساه يلحقها من الآفات، وكذلك الرقيق فيه هذه المفاسد. وأما المساكن فلا تحصل إلا بكد ونصب، وتقترن بها آفاتها من الانهدام والاحتراق والتزلزل والتعيب وسوء الجار، والضيق على من لا يستطيع ضيقها، واتساعها على من يتألم باتساعها، وسوء صقعها في الوخامة والدمامة والبعد من الماء ومجاورة الأتونات والحمامات والمدابغ ذوات الروائح المستخبثات. والاشتهاء كله مفاسد لما فيه من الآلام، فلا تحصل لذة شهوة إلا بتألم الطبع بتلك الشهوة، فإن كانت مؤدية إلى مفسدة عاجلة أو آجلة يعقبها ما ينبني عليها من المفاسد العظام، ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا. فإن قيل إذا كانت الشهوة ألما ومرارة فالجنة إذن دار الآلام والمرارات لأن فيها ما تشتهي الأنفس؟ قلت ألم الشهوة مختص بدار المحنة. وأما دار الكرامة فإن اللذة تحصل فيها من غير ألم يتقدمها أو يقترن بها، لأن اللذة والألم في ذلك عرضان متلازمان في هذه الدار بحكم العادة المطردة، وتلك الدار قد خرقت فيها العادة كما خرقت في المخاط والبصاق والبول والغائط والتعادي والتحاسد ومساوئ الأخلاق. وكذلك تخرق العادة في وجدان لذتها من غير ألم سابق أو مقارن؛ فيجد أهلها لذة الشراب من غير عطش ولا ظمأ، ولذة الطعام من غير جوع ولا سغب، وكذلك خرق العادات في العقوبات؛ فإن أقل عقوبات الآخرة لا تبقى معه في هذه الدار حياة. وأما في تلك الدار فإن أحدهم لتأتيه أسباب الموت من كل مكان وما هو بميت. وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل، ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة فمنها؛ ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو منقسم إلى متفق
(1/6)
 
 
عليه ومختلف فيه. فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال. فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديان والكفر والفسوق والعصيان. ويتفاوت ثواب الآخرة بتفاوت المصالح في الأغلب، ويتفاوت عقابها بتفاوت المفاسد في الأغلب، ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها، فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها، لأن مصالح الآخرة خلود الجنان ورضا الرحمن، مع النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من نعيم مقيم، ومفاسدها خلود النيران وسخط الديان مع الحجب عن النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من عذاب أليم.
والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها مصالح المباحات. الثاني مصالح المندوبات. الثالث: مصالح الواجبات. والمفاسد نوعان: أحدهما: مفاسد المكروهات. الثاني: مفاسد المحرمات. فائدة قدم الأولياء والأصفياء مصالح الآخرة على مصالح هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت المصلحتين ودرءوا مفاسد الآخرة بالتزام مفاسد بعض هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت الرتبتين. وأما أصفياء الأصفياء فإنهم عرفوا أن لذات المعارف والأحوال أشرف اللذات فقدموها على لذات الدارين. ولو عرف الناس كلهم من ذلك ما عرفوه؛ لكانوا أمثالهم فنصبوا ليستريحوا واغتربوا ليقتربوا. فمنهم من تحضره المعارف بغير تكلف، فينشأ عنها الأحوال اللائقة بها بغير تصنع ولا تخلق، ومنهم من يستذكر المعارف لينشأ عنها أحوالها، وشتان ما بين الفريقين. وقد يتكلف المحروم استحضار المعارف فلا تحضره، فسبحان من عرف نفسه لهؤلاء من غير تعب ولا نصب ولا استدلال ولا وصب، بل جاد عليهم وسقاهم خالص وبله وصافي فضله فشغلهم
(1/7)
 
 
به عما سواه فلا هم لهم سواه ولا مؤنس لهم غيره ولا معتمد لهم إلا عليه، لعلمهم أنه لا ملجأ لهم إلا إليه؛ فرضوا بقضائه وصبروا على بلائه وشكروا لنعمائه، يتسع عليهم ما يضيق على الناس ويضيق عليهم ما يتسع للناس، أدبهم القرآن معلمهم الرحمن وجليسهم الديان وسرابيلهم الإذعان، قد انقطعوا عن الإخوان وتغربوا عن الأوطان، بكاؤهم طويل وفرحهم قليل يردون كل حين موردا لم يتوهموه، وينزلون منزلا لم يفهموه، ويشاهدون ما لم يعرفوه، لا يعرف منازلهم عارف، ولا يصف أحوالهم واصف، إلا من نازلها ولابسها، قد اتصفوا بأخلاق القرآن على حسب الإمكان، وتلك الأخلاق موجبة لرضا الرحمن وسكنى الجنان في الرغد والأمان، مع النظر إلى الديان.
(1/8)
 
 
فصل: فيما تعرف به مصالح الدارين و مفاسدهما
...
فصل: فيما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما
أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح. وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها، مع أن الله عز وجل لا يجب عليه جلب مصالح الحسن، ولا درء مفاسد القبيح، كما لا يجب عليه خلق ولا رزق ولا تكليف ولا إثابة ولا عقوبة، وإنما يجلب مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلا، ولو عكس الأمر لم يكن قبيحا إذ لا حجر لأحد عليه.
(1/8)
 
 
فصل: في بيان مقاصد هذا الكتاب
الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات لسعي العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خبر منها، وبيان ما يقدم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون ما لا قدرة لهم عليه ولا سبيل لهم إليه، والشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثا على اجتناب المفاسد وما في بعض الأحكام من المصالح حثا على إتيان المصالح.
(1/9)
 
 
فصل: في تقسيم اكتساب العباد
اعلم أن اكتساب العباد ضربان: أحدهما ما هو سبب للمصالح وهو أنواع: أحدها: ما هو سبب لمصالح دنيوية. والثاني: ما هو سبب لمصالح أخروية. الثالث ما هو سبب لمصالح دنيوية وأخروية، وكل هذه الاكتسابات مأمور بها، ويتأكد الأمر بها على قدر مراتبها في الحسن والرشاد، ومن هذه الاكتسابات ما هو خير من الثواب كالمعرفة والإيمان، وقد يكون الثواب خيرا من الاكتساب كالنظر إلى وجه الله الكريم ورضاه الذي هو أعلى من كل نعيم سوى النظر إلى وجهه الكريم. الضرب الثاني: من الاكتساب ما هو سبب للمفاسد وهو أنواع: أحدهما: ما هو سبب لمفاسد دنيوية، الثاني ما هو سبب لمفاسد أخروية، الثالث: ما هو سبب لمفاسد دنيوية وأخروية، وكل هذه الاكتسابات منهي عنها، ويتأكد النهي عنها على قدر مراتبها في القبح والفساد.
(1/9)
 
 
فصل: في بيان حقيقة المصالح و المفاسد
...
فصل: في بيان حقيقة المصالح والمفاسد
المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها، وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية، فأما لذات الدنيا وأسبابها وأفراحها وآلامها وأسبابها، وغمومها وأسبابها، فمعلومة بالعادات، ومن أفضل لذات الدنيا لذات المعارف وبعض الأحوال، ولذات بعض الأفعال في حق الأنبياء والأبدال، فليس من جعلت قرة عينه في الصلاة كمن جعلت الصلاة شاقة عليه، وليس من يرتاح إلى إيتاء الزكاة كمن يبذلها وهو كاره لها، وأما لذات الآخرة وأسبابها وأفراحها وأسبابها، وآلامها وأسبابها وغمومها وأسبابها، فقد دل عليه الوعيد، والزجر والتهديد. وأما اللذات فمثل قوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، وقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}. وأما الأفراح ففي مثل قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}، وقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وفي مثل قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}. وأما الآلام ففي مثل قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} . وأما الغموم ففي مثل قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}. فائدة سعى الناس كلهم في جانب الأفراح واللذات وفي درء الغموم المؤلمات، فمنهم من يطلب الأعلى من ذلك فالأعلى وقليل ما هم. ومنهم من يقتصر على طلب الأدنى، ومنهم الساعون في المتوسطات، والقدر من وراء سعي السعادة وكل متسبب في مطلوبه. فمن بين ظافر وخائب ومغلوب وغالب ورابح وخاسر ومتمكن وحاسر، كلهم يتقلبون وإلى القضاء ينقلبون، فمن طلب لذات المعارف والأحوال في الدنيا ولذة النظر والقرب في الآخرة فهو أفضل الطالبين، لأن مطلوبه أفضل من كل مطلوب، ومن طلب نعيم الجنان وأفراحها ولذاتها
(1/10)
 
 
فهو في الدرجة الثانية، ومن طلب أفراح هذه الدار ولذاتها في الدرجة الثالثة، ثم يتفاوت هؤلاء الطلاب في رتب مطلوباتهم. فمنهم الأعلون والمتوسطون، فأما طلاب الآخرة فاقتصروا من طلب لذات الدنيا وأفراحها على ما يدفع الحاجة أو الضرورة واشتغلوا بمطالب الآخرة، ولن يصل أحد منهم إلا إلى ما قدر له، وقد غر بعضهم أنهم أدركوا بعض ما طلبوا فظنوا أنهم نالوا ذلك بحزمهم وقواهم فخابوا ونكصوا ووكلوا إلى أنفسهم فهلكوا، ومنهم من واظب أنه لا ينال خيرا إلا بتوفيق الله ولا ينال ضيرا إلا بإرادة الله فهؤلاء لا يزالون في زيادة، لأن الطاعات والمعارف والأحوال إذا دامت أدت إلى أمثالها وإلى أفضل منها. وعلى الجملة فمن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن تقرب إلى الله شبرا تقرب منه ذراعا، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا، ومن مشى إليه هرول إليه ومن نسب شيئا إلى نفسه فقد زل وضل، ومن نسب الأشياء إلى خالقها المنعم بها كان في الزيادة، لأن الله تعالى قال: {لئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}. وأفضل ما تقرب به التذلل لعزة الله والتخضع لعظمته والإيحاش لهيبته، والتبري من الحول والقوة إلا به، وهذا شأن العارفين، وما خرج عنه فهو طريق الجاهلين أو الغافلين، وقد تمت الحكمة وفرغ من القسمة، وسينزل كل أحد في دار قراره حكما وعدلا وحقا، قسطا وفضلا، وما ثبت في القدم لا يخلفه العدم ولا تغيره الهمم، بعد أن جرى به القلم وقضاه العدل الحكم، فأين المهرب وإلى أين المذهب وقد عز المطلب ووقع ما يذهب، فيا خيبة من طلب ما لم تجز به الأقدار ولم تكتبه الأقلام، يا لها من مصيبة ما أعظمها وخيبة ما أفحمها. أين المهرب من الله وأين الذهاب عن الله وأين الفرار من قدرة الله؟ بينا يرى أحدهم قريبا دانيا إذ أصبح بعيدا نائيا، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حفظا ولا رفعا
(1/11)
 
 
بأي نواحي الأرض نرجو وصالكم وأنتم ملوك ما لمقصدكم نحو والله لن تصل إلى شيء إلا بالله فكيف توصل بغيره.
(1/12)
 
 
فصل: قي تقسيم المصالح
...
فصل: في تقسيم المصالح
[فصل] المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد بل لكونها المقصودة من شرعها كقطع السارق وقطع الطريق وقتل الجناة ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم: وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقة، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. وكذلك المفاسد ضربان: أحدهما حقيقي وهو الغموم والآلام، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المفاسد مصالح فنهى الشرع عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد وذلك كالسعي في تحصيل اللذات المحرمات والشبهات المكروهات والترفهات بترك مشاق الواجبات والمندوبات فإنها مصالح نهي عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد الحقيقة وتسميتها مفاسد من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. [فائدة] المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد ويدل عليه قوله عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات". والمكاره مفاسد من جهة كونها مكروهات مؤلمات، والشهوات مصالح من جهة كونها شهوات ملذات مشتهيات، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته، ولذلك شرعت الحدود ووقع التهديد والزجر والوعيد، فإن الإنسان إذا نظر إلى اللذات وإلى ما يترتب عليهما من الحدود والعقوبات العاجلة والآجلة نفر منها بطبعه لرجحان مفاسدها، لكن الأشقياء لا يستحضرون ذكر مفاسدها إذا قصدوها، ولذلك يقدمون عليها، فإن
(1/12)
 
 
العاقل إذا ذكر ما في قبلة محرمة من التعزير والذم العاجلين والعقاب الآجل، زجره ذلك. وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب سبحانه عليه حمله ألم الاستحياء والخجل على ترك المعصية واجتناب لذاتها، وكذلك إذا فكر في المصالح الشاقة من الغموم والآلام دعاه ذلك إلى تركها، فإذا ذكر ما يترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة حمله ذلك على الصبر على مكارهها ومشاقها، ألا ترى أن المريض يصبر على ألم مرارة الدواء، وألم قلع الأضراس المتوجعة وألم قطع الأعضاء المتآكلة؛ لما يتوقع من لذات العافية وفرحاتها. وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب عليه ونظره إليه حمله ذلك على الطاعة وتحمل مكارهها ومشاقها، وكذلك ترك الطعام الشهي والشراب الهني لما يتوقع من سوء عاقبة أكله وشربه، ولو شاء الله لما جعل في الطاعات شيئا من المكاره والمشقات، كما فعل بالملائكة، ولما جعل في المعاصي شيئا من اللذات والراحات، ولو فعل ذلك لما قعد أحد عن طاعة ولا أقدم على معصية، ولكن سبق القضاء بشدة الابتلاء، وليس الملائكة كذلك فإنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إذ لا مشقة عليهم في ذلك ولا ألم. وكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس، وكذلك لو شاء الله لم يخلق الأوهام ولا الشكوك ولا التخيلات ولا الظنون في العقائد ولا في غيرها، بل خلق العلم بالأشياء من غير توهم مضلل ولا شك متعب، ولا تخيل مجهل ولا ظن موهم، وليت شعري هل تزول هذه الأشياء في الجنة بحيث لا يبقى لأهلها إلا محض العلوم التي بها يتم نعيمهم وسرورهم وفرحهم وحبورهم، أم يبقى ذلك كما هو في الدنيا؟ ولقد أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولعل هذا يكون من جملة ما أعد الله لهم، فسبحان من لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وإنما نفع الطاعات لأربابها وسوء المخالفات لأصحابها. والقلوب معادن الخواطر والكفر والإيمان والعزوم والإرادات والبغض
(1/13)
 
 
والحب والطواعية والإباء والمعارف والأقوال، وكذلك استحسان الحسن واستقباح القبيح، وكذلك الظنون الصادقة والكاذبة، وقد قسم لكل قلب من ذلك ما سبقت به الأقدار وجرت به الأقلام، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، أسعد من أسعد بغير علة، وأشقى من أشقى بغير سبب، وكيف الخلاص مما حق وكتب، وأين المهرب مما حتم ووجب؟ فمثل القلب كمثل نهر تجري فيه المياه على الدوام، فكذلك الخواطر في ورودها على قلوب الأنام لا يذهب خاطرنا به ولا ما ابتنى عليه من العزوم والأحوال والكفر والإيمان والطاعة والعصيان إلا رده خاطر إما من نوعه أو من غير نوعه ثم المياه الجارية منها ما ينفع، ومنها ما يضر، ومنها ما لا يضر ولا ينفع، فكذلك الخواطر الجارية في القلوب والواردة عليها منها ما ينفع ومنها ما يضر ومنها ما لا ينفع ولا يضر والإنسان بعد ذلك مكلف باجتناب العزوم على المفاسد ووسائلها، وبالقصود إلى المصالح وأسبابها ولا تكليف قبل ورود الخواطر، ولا بورود الخواطر ولا بميل الطبع إلى ما وردت به الخواطر، ولا بنفوره عما أتت به الخواطر. والخواطر ضربان: أحدهما ما يرد على القلوب من غير اكتساب كورود المياه على الأنهار. الضرب الثاني: ما يرد على القلوب من الخواطر بالاكتساب، وعلى الاكتساب يترتب المدح والذم والثواب والعقاب.
(1/14)
 
 
فصل: في الحث على جلب المصالح و درء المفاسد
...
فصل: في الحث على جلب المصالح ودرء المفاسد
لما علم الرب سبحانه أنه قد جبل عباده على الميل إلى الأفراح واللذات، والنفور من الغموم والمؤلمات وأنه قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات، وعد من عصى هواه وأطاع مولاه بما أعده في الجنان من المثوبة والرضوان، ترغيبا في الطاعات ليتحملوا مكارهها ومشاقها، ويتوعد من عصى مولاه وأطاع هواه بما أعده في النيران من العقوبة والهوان، زجرا عن المخالفات ليجتنبوا ملاذها ورفاهيتها، ومدح الطائعين ترغيبا في الدخول في حمده ومدحته، وذم
(1/14)
 
 
العاصين تنفيرا من الدخول في لومه ومذمته. وكذلك وضع الحدود والعقوبات العاجلة زجرا عن السيئات. فالواجب على العباد اتباع الرشاد، وتنكب أسباب الفساد، وقضاء الله وقدره من وراء ذلك، فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، ولا خروج لعبد عما حكم له أو عليه من سعادة أو شقاوة.
(1/15)
 
 
فصل: في بيان أن الأسباب الشرعية بمثابة الأوقات
التكاليف كلها مبنية على الأسباب المعتادة من غير أن تكون الأسباب جالبة للمصالح بأنفسها ولا دارئة للمفاسد بأنفسها، بل الأسباب في الحقيقة مواقيت للأحكام ولمصالح الأحكام، والله هو الجالب للمصالح الدارئ للمفاسد، ولكنه أجرى عادته وطرد سنته بترتيب بعض مخلوقاته على بعض، لتعريف العباد عند وجود الأسباب ما رتب عليها من خير فيطلبوه عند وقوعها ووجودها، وما رتب عليها من شر فيجتنبوه عند قيامها وتحققها وهذا هو الغالب في العادة، وكثير من ينفك عن ذلك، فكم من مرغب لم يرغب، وكم من مرهب لم يرهب، وكم من مزجور لم يزدجر، وكم من مذكر لم يتذكر، وكم من مأمور بالصبر لم يصطبر، ولو شاء الله لقطع كل مسبب عن سببه، وخلق المسببات كلها مجردة عن الأسباب، وكذلك لو شاء لخلق الأسباب كلها مجردة عن المسببات، لكنه قرن الأسباب بالمسببات في مطرد العادات، ليضل بذلك من يشاء ويهدي من يشاء. وكذلك لو شاء لأقام الأجساد بدون الطعام والشراب ولما تحلل شيء من أجزائها حتى يحتاج إلى الخلف والإبدال. فله أن يخلق ألم النار بغير نار ولذة الشراب والطعام والجماع من غير ماء ولا طعام ولا جماع. وكذلك الحكم في جميع الأسباب المؤلمات، واللذات لو شاء لخلقها دون مسبباتها، ولو شاء لخلق مسبباتها دونها وكذلك القوى التي أودعها الله في النبات والحيوان لو شاء لخلق آثارها ابتداء كجذب الغذاء بغير قوة جاذبة، وأمسك الغذاء في حال إمساكه بغير قوة ممسكة، وغذى بغير، قوة مغذية، ودفع بغير قوة دافعة، وصور بغير قوة
(1/15)
 
 
مصورة، ولما رأى الأغبياء العمي عن الأمور الإلهية ربط المسببات من غير انفكاك في مطرد العادات، اعتقدوا أن المسببات صادرة عن الأسباب، وأن الأسباب أفادتها الوجود؛ فاقتطعوا ذلك عن رب الأرباب ومسبب الأسباب، وأضافوه إلى تلك الأسباب:
ولو أن ليلى أبرزت حسن وجهها ... لهام بها اللوام مثل هيامي
ولكنها أخفت محاسن وجهها ... فضلوا جميعا عن حضور مقامي
وما أشد طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سببا، كلما نظروا فيه وحرصوا عليه ازدادوا حيرة وغفلة، فالحزم الإضراب عنه كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار فمن حرص أن يرى ببصره ما وارته الجبال لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر. وكذلك تحديق البصائر إلى ما غيبه الله عنها وستره بالأوهام والظنون والاعتقادات الفاسدة كم من اعتقاد جزم المرء به وبالغ في الإنكار على مخالفه ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه. ومن السعادة أن يختار المرء لنفسه المواظبة على أفضل الأعمال فأفضلها بحيث لا يضع بذلك ما هو أولى بالتقديم منه، والسعادة كلها في اتباع الشريعة في كل ورد وصدر، ونبذ الهوى فيما يخالفها؛ فقد قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}، أي فلا يضل في الدنيا عن الصواب ولا يشقى في الآخرة بالعذاب. وقال ابن عباس في قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، الكتاب والسنة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} ما من طاعة يأتي بها الطالب على وجهها إلا أحدثت في قلبه نورا، وكلما كثرت الطاعات تراكمت الأنوار حتى يصير المطيع إلى درجات العارفين الأبرار {الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وهذا مما يعرفه المطيعون المخلصون. فإذا خلت الأعمال عن الإخلاص لم يزدد العاملون إلا ظلمة في القلوب، لأنهم عاصون بترك الإخلاص وإبطال ما أفسده الرياء والتصنع من الأعمال. وعلى الجملة فلو أن الرب سبحانه وتعالى
(1/16)
 
 
عرف عباده نفسه وأوصافه من غير نظر ولا استدلال لهاموا في جلاله وتحيروا في كماله، لكنه كشف الحجاب بينه وبين السعداء وسدله بينه وبين الأشقياء، فلا يستطيع أحد كشف حجاب سدله الله ولا حفظ ما ضيعه الله وأهمله، جرت المقادير من الأزل واستمرت في الأبد وجفت الأقلام بما قضي على الأنام؛ فلا يتقدم أحد منهم قدر أنملة ولا يتأخر إلا بمقادير سابقة وكتابة لاحقة. فلو تهيأت أسباب السعادة كلها للأشقياء لما سعدوا، ولو تهيأت أسباب الشقاوة كلها للسعداء لما شقوا: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ}، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}.
(1/17)
 
 
فصل: في بيان ما رتب على الطاعات و المخالفات
...
فصل: في بيان ما رتب على الطاعات والمخالفات
الطاعات ضربان: أحدهما ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف. الضرب الثاني: ما هو مصلحة في الآخرة لباذله وفي الدنيا لآخذيه كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف والصلاة، والخير كله في الطاعات والشر كله في المخالفات؛ ولذلك جاء القرآن بالحث على الطاعات دقها وجلها قليلها وكثيرها جليلها وحقيرها، والزجر عن المخالفات دقها وجلها قليلها وكثيرها جليلها وحقيرها، فأما الحث على الطاعات فبمدحها وبمدح فاعليها، وبما وعدوا عليها من الرضا والمثوبات، وبما رتب عليها في الدنيا من الكفاية والهداية، والتأهل للشهادة والرواية والولاية. وأما الزجر عن المخالفات فبذمها وذم فاعليها، وبما وعدوا عليها من السخط والعقوبات، وبرد الشهادات والولايات والانعزال عن الولايات. وأما ما قرن بالآيات من الصفات فإنه جاء أيضا حاثا على الطاعات، وزجرا عن المخالفات، مثل أن يذكر سعة رحمته ليرجوه فيعملوا بالطاعات، ويذكر شدة نقمته ليخافوه فيجتنبوا المخالفات، ويذكر نظره إليهم، ليستحيوا من اطلاعه عليهم فلا يعصوه، ويذكر تفرده بالضر والنفع، ليتوكلوا عليه ويغوضوا إليه، ويذكر إنعامه عليهم وإحسانه إليهم، ليحبوه ويطيعوه ولا
(1/17)
 
 
فصل: فيما عرفت حكمته من المشروعات و ما لم تعرف حكمته من المشروعات
...
فصل: فيما عرفت حكمته من المشروعات وما لم تعرف حكمته من المشروعات
المشروعات ضربان: أحدهما ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد. وفي التعبد من الطواعية والإذعان مما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته ما ليس مما ظهرت علته وفهمت حكمته، فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته، والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالا للرب وانقيادا إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد، ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان، من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب، ودرء مفسدة غير مفسدة العصيان، فيحصل من هذا أن الثواب قد يكون على مجرد الطواعية من غير أن تحصل تلك الطواعية جلب مصلحة أو درء مفسدة، سوى مصلحة أجر الطواعية.
(1/18)
 
 
فصل: في تفاوت رتب الأعمال بتفاوت رتب المصالح والمفاسد
طلب الشرع لتحصيل أعلى الطاعات، كطلبه لتحصيل أدناها في الحد والحقيقة، كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع أدناها، إذ لا تفاوت بين طلب وطلب، وإنما التفاوت بين المطلوبات من جلب المصالح ودرء المفاسد، لذلك انقسمت الطاعات إلى الفاضل والأفضل، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل، وانقسمت المعاصي إلى الكبير والأكبر لانقسام مفاسدها إلى الرذيل والأرذل.
(1/19)
 
 
فصل: فيما تتميز به الصغائر من الكبائر
إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليها فهي من الكبائر. فمن شتم الرب أو الرسول أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة. وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم، ويغتنمون أموالهم ويزنون بنسائهم ويخربون ديارهم، فإن تسببه إلى هذه المفاسد أعظم من توليته يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر. وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه، ولو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه تؤخذ منه تمرة بسبب كذبه لم يكن ذلك من الكبائر، وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير كزبيبة وتمرة فهذا مشكل، فيجوز أن يجعل من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة
(1/19)
 
 
من الخمر من جملة الكبائر وإن لم يتحقق المفسدة فيه، ويجوز أن يضبط ذلك المال بنصاب السرقة. والحكم بغير الحق كبيرة فإن شاهد الزور متسبب متوسل والحاكم مباشر فإذا جعل التسبب كبيرة فالمباشرة أكبر من تلك الكبيرة، ولو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص فسلم الحاكم المشهود عليه إلى الوالي فقتله وكلهم عالمون بأنهم ظالمون فشهادة الزور كبيرة والحكم أكبر منها ومباشرة القتل أكبر من الحكم، والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزة ولا يهتدي إليها إلا من وفقه الله تعالى، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب، ولا يلزم من النص على كون الذنب كبيرة أن يكون مساويا لغيره من الكبائر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن من الكبائر أن يشتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وكيف يشتم الرجل والديه؟ فقال. نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". رواه مسلم في الصحيح. جعل صلى الله عليه وسلم التسبب إلى سبهما من الكبائر، وهذا تنبيه على أن مباشرة سبهما أكبر من التسبب إليه. وفي رواية البخاري: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" جعل اللعن من أكبر الكبائر لفرط قبحه بخلاف السب المطلق. وقد نص الرسول عليه السلام على أن عقوق الوالدين من الكبائر، مع الخلاف في رتب العقوق، ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه، فإن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما وما يجب للأجانب فهو واجب لهما، ولا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء، وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهما على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو على عضو من أعضائه، وقد ساوى الوالدان
(1/20)
 
 
الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى. وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن قال. كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن فهو من الكبائر. فتغيير منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به. وكذلك قتل المؤمن كبيرة لأنه اقترن به الوعيد واللعن والحد، والمحاربة والزنا والسرقة والقذف كبائر لاقتران الحدود بها، وعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو اللعن أو الحد أو أكبر من مفسدته فهو كبيرة. [فائدة] فإن قيل الكذب فيما لا يضر ولا ينفع صغيرة فما تقولون فيمن قذف محصنا قذفا لا يسمعه أحد إلا الله تعالى والحفظة؟ مع أنه لم يواجه به المقذوف ولم يغتبه به عند الناس، هل يكون قذفه كبيرة موجبة للحد مع خلوه من مفسدة الأذى؟ قلنا الظاهر أنه ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة ولا يعاقب في الآخرة عقاب المجاهر في وجه المقذوف أو في ملأ من الناس، بل عقاب الكذابين غير المصرين وقد قال الشاعر:
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
شبهه بالذي لم يقل لانتفاء ضرره وأذيته، فإن قيل إذا اغتابه بالقذف لم يتأذ المقذوف مع غيبته، فلم أوجبتم الحد مع انتفاء مفسدة التأذي؟ قلنا لأن ذلك لو بلغه لكان أشد عليه من القذف في الخلوة، ولأنه إذا قذفه على ملأ من الناس احتقروه بذلك وزهدوا في معاملته ومواصلته، وربما أشاعوا ذلك إلى أن يبلغه وليس كذلك قذفه في الخلوة، والإنسان يكره بطبعه أن يهتك عرضه في غيبته وأما قذفه في الخلوة فلا فرق بين إجرائه على لسانه وبين إجرائه على قلبه.
(1/21)
 
 
فصل: في من ارتكب كبيرة في ظنه يتصورها بتصور الكبائر و ليست في الباطن كبيرة
...
فصل: في من ارتكب كبيرة في ظنه يتصورها بتصور الكبائر وليست في الباطن كبيرة
إن قيل لو أن إنسانا قتل رجلا يعتقد أنه معصوم فظهر أنه يستحق دمه أو وطئ امرأة يعتقد أنها أجنبية وأنه زان بها فإذا هي زوجته، أو أمته أو أكل مالا يعتقد أنه ليتيم ثم تبين أنه ملكه، أو شهد بالزور في ظنه وكانت شهادته
(1/21)
 
 
موافقة للباطن، أو حكم بباطل ثم ظهر أنه حق، فهل يكون مرتكبا لكبيرة مع كونه لم تتحقق المفسدة؟ قلنا أما في الدنيا فيجري عليه أحكام الفاسقين، وتسقط عدالته لجرأته على رب العالمين، وترد شهادته وروايته، وتبطل بذلك كل ولاية تشترط فيها العدالة، لأن العدالة إنما شرطت في الشهادات والروايات والولايات، لتحصل الثقة بصدقه في أخباره وشهادته وبأدائه الأمانة في ولايته، وقد انخرمت الثقة في ذلك كله لجراءته على ربه بارتكاب ما يعتقده كبيرة، لأن الوازع عن الكذب في أخباره وشهادته، وعن التقصير في ولايته إنما هو خوفه من الجرأة على ربه بارتكاب كبيرة، أو بالإصرار على صغيرة، فإذا حصلت جرأته على ما ذكرته سقطت الثقة، بما يزعه عن الكذب في خبره وشهادته والنصح في ولايته. وأما مفاسد الآخرة وعذابها فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل ولا آكل مالا حراما، لأن عذاب الآخرة مرتب على رتب المفاسد في الغالب كما أن ثوابها مرتب على رتب المصالح في الغالب، ولا يتفاوتان بمجرد الطاعة ولا بمجرد المعصية، مع قطع النظر عن رتب المصالح والمفاسد، ولو كان كذلك لكان أجر التصدق بتمرة كأجر التصدق ببدرة، ولكانت غيبة المؤمنين بنسبتهم إلى الكبائر كغيبتهم بنسبتهم إلى الصغائر، ولكان سب الأنبياء كسب الأولياء، والظاهر أن هذا لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة لأجل جرأته وانتهاكه الحرمة بل يعذب عذابا متوسطا بين الكبيرة والصغيرة بجرأته على الله تعالى بما يعتقد أنه كبيرة، والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك، ولم أقف لأحد من العلماء على ضابط لذلك.
(1/22)
 
 
فصل: في حكم الإصرار على الصغائر
فإن قيل قد جعلتم الإصرار على الصغيرة بمثابة ارتكاب الكبيرة، فما حد الإصرار أيثبت بمرتين أم بأكثر من ذلك؟ قلنا إذا تكررت منه الصغيرة تكررا يشعر
(1/22)
 
 
بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ردت شهادته وروايته بذلك. وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر أصغر الكبائر.
(1/23)
 
 
فصل: في إتيان المفاسد ظنا أنها من المصالح
من أتى ما هو مصلحة في ظنه وهو مفسدة في نفس الأمر كمن أكل مالا يعتقده لنفسه، أو وطئ جاريته يظن أنها في ملكه، أو لبس ثوبا يعتقده لنفسه، أو سكن دارا يعتقدها في ملكه، أو استخدم عبدا يعتقده لنفسه، ثم بان أن وكيله أخرج ذلك عن ملكه فلا إثم عليه لظنه، ولا يتصف فعله بكونه طاعة ولا معصية ولا مباحا، وإنما هو معفو عنه كأفعال الصبيان والمجانين، ويلزم ضمان ما فوته من ذلك لأنه جائز، والجوائز لا تتوقف على المآثم. وكذلك لو وطئ أجنبية يعتقدها زوجته أو أمته فإنه لا يأثم ويلزمه مهر مثلها.
(1/23)
 
 
فصل: فيمن فعل ما يظنه قربة أو واجبا و هو مفسدة في نفس الأمر
...
فصل: فيمن فعل ما يظنه قربة أو واجبا وهو مفسدة في نفس الأمر
من فعل فعلا يظنه قربة أو مباحا وهو من المفاسد المحرمة في نفس الأمر؛ كالحاكم إذا حكم بما يظنه حقا بناء على الحجج الشرعية، وكالمصلي يصلي على ظن أنه متطهر، أو كمن يصلي على مرتد يعتقده مسلما، وكالشاهد يشهد بحق عرفه بناء على استصحاب بقائه فظهر كذب الظن في ذلك كله، فهذا خطأ معفو عنه كالذي قبله، ولكن يثاب فاعله على قصده دون فعله، إلا من صلى محدثا فإنه يثاب على قصده وعلى ما أتى به في صلاته مما لا تشترط الطهارة فيه. ولو أوجر مضطرا طعاما قاصدا لحفظ حياته وكان الطعام مسموما فقتل المضطر فإنه يثاب على قصده دون إيجاره، وتجب الدية على عاقلته والكفارة في ماله، ونظائر هذا كثيرة، ولو أكل في المخمصة طعاما يجهل كونه مسموما فقتله فلا دية على عاقلته، وفي وجوب الكفارة في ماله اختلاف جار في كل من قتل نفسه.
(1/23)
 
 
فصل: في بيان تقسيم المصالح و المفاسد
...
فصل: في بيان تقسيم المصالح والمفاسد
المصالح والمفاسد أقسام: أحدها: ما تعرفه الأذكياء والأغبياء الثاني ما يختص بمعرفته الأذكياء، الثالث ما يختص بمعرفته الأولياء، لأن الله تعالى ضمن لمن جاهد في سبيله أن يهديه إلى سبيله فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، ولأن الأولياء يهتمون بمعرفة أحكامه وشرعه فيكون بحثهم عنه أتم واجتهادهم فيه أكمل، مع أن من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم. وكيف يستوي المتقون والفاسقون؟ لا والله لا يستوون في الدرجات ولا في المحيا ولا في الممات. والعلماء ورثة الأنبياء، فينبغي أن يعرضوا عن الجهلة الأغبياء الذين يطعنون في علومهم ويلغون في أقوالهم، ويفهمون غير مقصودهم، كما فعل المشركون في القرآن المبين فقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. فكما جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، جعل لكل عالم من المقربين عدوا من المجرمين. فمن صبر من العلماء على عداوة الأغبياء كما صبر الأنبياء، نصر كما نصروا وأجر كما أجروا وظفر كما ظفروا وكيف يفلح من يعادي حزب الله ويسعى في إطفاء نور الله؟ والحسد يحمل على أكثر من ذلك، فإن اليهود لما حسدوا الرسول عليه السلام حملهم حسدهم على أن قاتلوه وعاندوه، مع أنهم جحدوا رسالته وكذبوا مقالته.
(1/24)
 
 
فصل: في بيان تفاوت رتب المصالح و المفاسد و تساويها
...
فصل: في بيان تفاوت رتب المصالح والمفاسد وتساويها
المصالح والمفاسد في رتب متفاوتة، وعلى رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا، والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة، وقد تستوي مصلحة الفعلين من كل وجه فيوجب الرب تحصيل إحدى المصلحتين نظرا لمن أوجبها له أو عليه، ويجعل أجرها أتم من أجر التي لم يوجبها. فإن درهم النفل مساو لدرهم الزكاة لكنه أوجبه لأنه لو لم يوجبه لتقاعد الأغنياء عن بر الفقراء فيهلك الفقراء، وجعل الأجر
(1/24)
 
 
عليه أكثر من الأجر على غيره، ترغيبا في التزامه والقيام به، فإنه قد يؤجر على أحد العملين المتماثلين ما لا يؤجر على نظيره، مع أنه لا تفاوت بينهما إلا بتحمل مشقة الإيجاب ووجوب العقاب على الترك ولذلك أمثلة: أحدها: أن حج الفرض وعمرته متساويان بحج النفل وعمرته من كل وجه. الثاني: أن صوم رمضان مساو لصوم شعبان من كل وجه، مع أن صوم رمضان أفضل من صوم شعبان، بل لو وقع صوم رمضان في أقصر الأيام وصوم غيره في أطولها لكان صوم رمضان أفضل مع خفته وقصره من صوم سائر الأيام مع ثقلها وطولها. المثال الثالث: أن الذكر الواجب والمندوب متساويان من كل وجه فإن تكبيرة الإحرام مماثلة لسائر التكبيرات وهي أفضل منها بلا خلاف، وكذلك قراءة حمدلة الفاتحة في الصلاة مساوية لقراءتها في غير الصلاة مع أنها أفضل منها إذا قرئت خارج الصلاة وكذلك الأذكار التي في القرآن إذا قصد بها القراءة شرطت فيها الطهارة عن الجنابة، ولو قصد بها الذكر كالبسملة على الطعام والشراب، والحمدلة عند الفراغ منها، والتسبيحات المذكورة في القرآن، لم يشترط فيها الطهارة عن الجنابة، مع تساوي هذه الأذكار من كل وجه. وكذلك ما فرضه الله في الزكاة قد تساوي مصلحته مصلحة نظيره من الصدقات في سد الخلات ودفع الحاجات وله أمثلة: أحدها إخراج درهمين متساويين أحدهما زكاة والآخر صدقة. الثاني: شاتان متساويتان تصدق بأحدهما وزكى بالأخرى، الثالث إخراج العشر في الزكاة مع عشر آخر من ذلك الجنس، فالزكاة في ذلك كله أفضل من الصدقة مع القطع بالاستواء في دفع الحاجات وسد الخلات، وقد يكون النفل من الصدقات أكمل مصلحة من الفرض في الزكاة وتكون الزكاة أفضل. وله أمثلة. أحدها: أن يتصدق بشاة نفيسة أو بغير نفيس أو حنطة جيدة ويزكي بشاة خسيسة أو بعير رذل أو بحنطة ردية. الثاني: أن يخرج بنت مخاض في الزكاة ويتصدق بحقة أو جذعة. الثالث أن يتصدق بفضة لينة حسنة ويزكي بفضة خشنة ردية من جنس النصاب
(1/25)
 
 
فإن الجيد من جنس هذه الأجناس أكمل مصلحة وأتم فائدة في باب الصدقات، مع القطع بأن أجره دون أجر ما ذكرناه في الزكاة، ومدار ذلك كله قوله عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال: "ولن يتقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه"، ولا شك أن هذا الحديث معمول به إذا ساوى الفرض النفل كما ذكرناه في درهم الصدقة ودرهم الزكاة، وفي حج الفرض وحج النفل وفي صوم الفرض وصوم النفل، فإنهما متساويان من كل وجه، أما إذا تفاوتا بالقلة والكثرة مثل أن يزكي بخمسة دراهم ويتصدق بعشرة آلاف درهم، وزكى بشاة وتصدق بعشرة آلاف شاة، فيحتمل في مثل هذا أن يكون الفرض أفضل من النفل من غير نظر إلى تفاوت المصلحتين، ويحتمل أن يخص الحديث بالعملين المتساويين في المصلحة كدرهم الزكاة مع درهم الصدقة، وشاة الزكاة مع شاة الصدقة، ولكن فيه مخالفة لظاهر الحديث، وليس ببعيد من تفضل الرب أن يؤجر على أقل العملين المتجانسين، أكبر مما يؤجر على أكثرهما، كما فضل أجر هذه الأمة مع قلة عملها على أجر اليهود والنصارى مع كثرة عملهم، وكما فضل أجر الفرائض على مساويها من النوافل طولا على من يشاء من عباده، وكما أن قيام ليلة القدر موجب لغفران الذنوب مع مساواته لقيام كل ليلة من ليالي رمضان. وكذلك العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر مع التساوي. وكذلك الصلاة في المسجدين أفضل منها في سائر المساجد مع تساويهما في جميع ما شرع فيها، وإذا كانت الحسنة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف حسنة في غيرها، مع أن تسبيحها كتسبيح غيرها، وصلاتها كصلاة غيرها، وقراءتها كقراءة غيرها؛ علم أن الله يتفضل على عباده في بعض الأزمان بما لا يتفضل به في غيره مع القطع بالتساوي، وليس ذلك إلا تفضلا من الإله، إذ لا فرق بين وقت ووقت. وكذلك تفضله سبحانه في بعض الأماكن بتضعيف الأجور؛ كما جعل الصلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام مع التساوي بين الصلوات. ومما يدل أيضا
(1/26)
 
 
على أن الله قد يؤجر على قليل الأعمال ما لا يؤجر على كثيرها ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثلكم ومثل أهل الكتابين كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين، فهم أنتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء ؟، فقال: هل نقصتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا, قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء"، أخرجه البخاري. ويدل هذا الحديث أيضا على أن الثواب ليس على قدر النصب قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وهو من المصالح العامة لكل مجتاز بالطريق بإزالة الشوك والأحجار والأقذار مع مشقة ذلك وخفة النطق بكلمة الإيمان. فإن قيل هل تتفاوت رتب المعارف والإيمان بالفرض والنفل، كما تفاوتت رتب العبادات بالفرض والنفل؟ قلنا نعم فإن الإيمان الأول والتعرف الأول مفروض بالإجماع، واستحضارها بعد ذلك نفل لا يلزم تعاطيه، فيكون تفاوتهما لسبب الفرضية والنفلية لا بتفاوت شرفهما في أنفسهما فإنهما متساويان في الشرف والكمال، إلا ما استثني من وجوب التشهد في الصلاة ونحوه. وأما التفاوت في الأحوال فظاهر فإن مرتبة التعظيم والإجلال أكمل من مرتبة الخوف والرجاء، لأن الإعظام والإجلال صدرا عن ملاحظة الذات والصفات فكان لهما شرفان: أحدهما من مصدرهما، والثاني من تعلقهما. وأما الخوف والرجاء فإن الخوف صدر على ملاحظة العقوبات والرجاء صدر عن ملاحظة المثوبات، وتعلقا بما صدرا عنه فانحطا عن التعظيم والإجلال بمرتبتين، وكذلك رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة الإنعام والأفضال منحطة عن رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة الكمال والجمال، لصدور تلك المحبة عن ملاحظة الأغيار، وصدور محبة الإجلال عن ملاحظة أوصاف
(1/27)
 
 
الجمال والكمال، والتعظيم والمهابة أفضل من المحبة الصادرة عن معرفة الجلال والجمال لما في المحبة من اللذة بجمال المحبوب، بخلاف المعظم الهائب فإن الهيبة والتعظيم يقتضيان التصاغر والانقباض، ولا حظ للنفس في ذلك فخلص لله وحده. فإن قيل هل يستوي الحاج عن نفسه والمحجوج عنه في مقاصد الحج؟ قلنا: قيل يستويان في براءة الذمة ولا يستويان في الأجر، وأين مجرد بذل الأجرة في مباشرة الحج والقيام بأركانه وشرائطه وسننه وآدابه مع تحمل مشقته، وما يحصل فيه من الخضوع والخشوع والتناوش والاستكانة والتعظيم، وهكذا الأبدال كلها لا تساوي مبدلاتها، فليس التيمم كالوضوء والغسل، وليس صوم الكفارة كإعتاقها ولا إطعامها كصيامها، ولا تساوت الأبدال والمبدلات في المصالح لما في شرط الانتقال إلى أحدهما من فقد الآخر. فإن قيل لو حصل للأجير على الحج تذلل وتمسكن وتناوش وخضوع وخشوع وإجلال وتعظيم ومهابة ومحبة وأنس وفرح وسرور وخوف ورجاء وبكاء واستحياء، فهل يحصل أجر ذلك للمحجوج عنه؟ قلنا: لا فإن الإجارة متعلقة بأركان الحج وواجباته وسننه ولا يحصل فيه من أعمال القلوب إلا النية لوقوف الصحة عليها، ولا يحصل شيء من ذلك للمحجوج عنه، لأن الإجارة لم تتناوله، بل لو استؤجر عليه لم يصح للعجز عنه في الغالب، وعدم الاحتياج إليه بخلاف الحج وسننه.
فإن قيل. ما تقولون في من سد جوعة مسكين في عشرة أيام؟ هل يساوي أجره أجر من سد جوعة عشرة مساكين، مع أن الفرض سد عشر جوعات، والكل عباد الله، والفرض الإحسان إليهم، فأي فرق بين تحصيل هذه المصالح في محل واحد أو في محال متعددة؟ قلنا لا يستويان لأن الجماعة يمكن أن يكون فيهم ولي لله أو أولياء له فيكون إطعامهم أفضل من تكرير إطعام واحد.
وقد حث الرب سبحانه وتعالى على الإحسان إلى الصالحين بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، ومثل هذا لا يتحقق في واحد بعينه،
(1/28)
 
 
ولأنه يرجى من دعاء الجماعة ما لا يرجى من دعاء الواحد، كما يرجى من دعاء المصلين على الميت إذا بلغوا أربعين ما لا يرجى من دعائهم إذا نقصوا عن ذلك، كما جاء في الحديث، ولمثل هذا أوجب الشافعي رضي الله عنه صرف الزكاة إلى الأصناف، لما فيه من دفع أنواع من المفاسد وجلب أنواع من المصالح، فإن دفع الفقر والمسكنة نوع مخالف لدفع الرق عن المكاتبين، والغرم عن الغارمين، والغربة والانقطاع عن أبناء السبيل.
وكذلك التأليف على الدين عند من يرى أن سهم المؤلفة باق، وكذلك إعانة المجاهدين على الجهاد الذي هو تلو الإيمان برب العالمين.
فإن قيل: قد يترتب الشرع على الفعل اليسير مثل ما يترتب على الفعل الخطير، كما رتب غفران الذنوب على الحج المبرور، ورتب مثل ذلك على موافقة تأمين المصلي تأمين الملائكة، ورتب غفران الذنوب على قيام ليلة القدر، كما رتبه على قيام جميع رمضان، فالجواب أن هذه الطاعات وإن تساوت في التكفير فلا تساوي بينها في الأجور؛ فإن الله سبحانه وتعالى رتب على الحسنات رفع الدرجات وتكفير السيئات، ولا يلزم من التساوي في تكفير السيئات التساوي في رفع الدرجات، وكلامنا في جملة ما يترتب على الفعل من جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك مختلف فيه باختلاف الأعمال. فمن الأعمال ما يكون شريفا بنفسه وفيما رتب عليه من جلب المصالح ودرء المفاسد، فيكون القليل منه أفضل من الكثير من غيره، والخفيف منه أفضل من الشاق من غيره، ولا يكون الثواب على قدر النصب في مثل هذا الباب كما ظن بعض الجهلة، بل ثوابه على قدر خطره في نفسه، كالمعارف العلية والأحوال السنية والكلمات المرضية. فرب عبادة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان وعبادة ثقيلة على الإنسان خفيفة في الميزان بدليل أن التوحيد خفيف على الجنان واللسان وهو أفضل ما أعطيه الإنسان ومن به الرحمن، والتفوه به أفضل كل كلام، بدليل أنه يوجب الجنان ويدرأ غضب الديان، وقد صرح
(1/29)
 
 
عليه الصلاة السلام بأنه أفضل الأعمال، لما قيل له أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله"، وجعل الجهاد دونه مع أنه أشق منه، وكذلك معرفة التوحيد أفضل المعارف، واعتقاده أفضل الاعتقادات، مع سهولة ذلك وخفته مع تحققه، وقد كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وكانت شاقة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مع خفتها وقرتها، وكذلك إعطاء الزكاة عن طيب نفس أفضل من إعطائها مع البخل، ومجاهدة النفس.
وكذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة.
وجعل للذي يقرؤه يتعتع فيه وهو عليه شاق أجرين، ومما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات ما روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟" قالوا: بلى قال: "ذكر الله"، قال معاذ بن جبل: ما شيء أنجا من عذاب الله من ذكر الله، رواه الترمذي.
ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه"، أخرجه مسلم في صحيحه. وكذلك قوله عليه السلام فيما رواه أبو هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" ، أخرجاه في الصحيحين.
والحاصل بأن الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف، فإن تساوى العملان من كل وجه كان أكثر الثواب على أكثرهما لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}.
(1/30)
 
 
فصل: فيما يتفاوت أجره بتفاوت تحمل مشقته
إن قيل: ما ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه أكثر مما يؤجر على الخفيف؟ قلت: إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقا فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه وتعالى، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيما ولا توقيرا. ويدل على ذلك أن من تحمل مشقة في خدمة إنسان فإنه يرى ذلك لا لأجل كونه شق عليه وإنما يراه له بسبب تحمل مشقة الخدمة لأجله، وذلك كالاغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى الاغتسال في شدة برد الشتاء؛ فإن أجرهما سواء لتساويهما في الشرائط والسنن والأركان، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل مشقة البرد، فليس التفاوت في نفس الغسلين وإنما التفاوت فيما لزم عنهما. وكذلك مشاق الوسائل في من يقصد المساجد والحج والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابيهما يتفاوتان بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هذه العبادات وشرائطها وأركانها. فإن الشرع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد، مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد. وكذلك جعل لكل خطوة يخطوها المصلي إلى إقامة الجماعة رفع درجة وحط خطيئة، وجعل أبعدهم ممشى إلى الصلاة أعظم أجرا من أقربهم ممشى إليها، وكذلك جعل للمسافرين إلى الجهاد - بما يلقونه من الظمأ والنصب والمخمصة والنفقة الصغيرة والكبيرة وقطع الأودية وبما ينالونه من الأعداء وبالوطء الغائظ للكفار - أجر عمل صالح، فكذلك تحمل المشاق الناشئة عن العبادة أو عن وسائل العبادة، ويختلف أجر تحمل المشاق بشدة المشاق وخفتها.
فإن قيل قد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مسندا عن عائشة أنها قالت:
(1/31)
 
 
قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؟ قال: "انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ثم الحقينا عند كذا وكذا". قال أظنه قال: "غدا ولكنها على قدر نصبك أو قال نفقتك". قلت: هذا مشكوك فيه هل قال: "قدر نصبك أو قال قدر نفقتك" فإن كان الواقع قوله: على قدر نفقتك فلا شك أن ما ينفق في طاعة الله يفرق بين قليله وكثيره، وإن كان الواقع قوله: على قدر نصبك فيجب أن يكون التقدير على قدر تحمل نصبك لما ذكرناه، وقد قيل: إن في بعض كتب الله أنه قال: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي. وقد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المر البشع، فإنه ليس غرضه إلا الشفاء، ولو قال قائل كان غرض الطبيب أن يوجده مشقة ألم مرارة الدواء، لما حسن ذلك فيمن يقصد الإصلاح. وكذلك الوالد يقطع من ولده اليد المتآكلة حفظا لمهجته ليس غرضه إيجاده ألم القطع، وإنما غرضه حفظ مهجته مع أنه يفعل ذلك متوجعا متألما لقطع يده. وقد قال عليه السلام فيما حكاه عن ربه عز وجل أنه قال: "وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" ولا شك أن المشاق من حيث إنها مشاق تسوء المؤمن وغيره، وإنما يهون أمرها لما يبتنى على تحملها من الأجر والثواب، ويكون قليل العمل البدني أفضل من كثيره، وخفيفه أفضل من ثقيله، كتفضيل القصر على الإتمام، وكتفضيل صلاة الصبح مع نقص ركعاتها على سائر الصلوات عند من رآها الصلاة الوسطى، مع أنها أقصر من صلاة العصر على ما جاءت به السنة، والله تعالى يؤتي فضله من يشاء، ولو كان الثواب على قدر النصب مطلقا، لما كان الأمر كذلك، ولما فضلت ركعة الوتر على ركعتي الفجر، ولما فضلت ركعتا الفجر على مثلها من الرواتب. وأما الإبراد بالظهر
(1/32)
 
 
مع ما فيه من تفويت المبادرة إلى الصلاة فإنه من باب تقديم مصلحة راجحة على مصلحة مرجوحة، فإن المشي إلى الجماعات في شدة الحر يشوش الخشوع الذي هو أفضل أوصاف الصلاة، فقدم الخشوع الذي هو من أفضل أوصاف الصلاة على المبادرة التي لا تدانيه في الرتبة، ولهذا المعنى أمر بالمشي إلى الجماعة بالسكينة والوقار مع ما فيه من تفويت النداء وتكميل الاقتداء بالإمام، لأنه لو أسرع لانزعج وذهب خشوعه؛ فقدم الشرع رعاية الخشوع على المبادرة وعلى الاقتداء في جميع الصلوات، وكذلك تؤخر الصلاة بكل ما يشوش الخشوع كإفراط الظمأ والجوع، وكذلك يؤخرها الحاقن والحاقب، وينبغي أن يؤخر بكل مشوش يؤخر الحاكم الحكم بمثله. وكذلك تؤخر الصلاة إلى آخر الأوقات في حق من يتيقن وجود الماء في أواخر الأوقات؛ لأن فضيلة الصلاة بطهارة الماء أفضل من المبادرة إلى الجماعات، وإنما فضلت لأن اهتمام الشرع بشرائط العبادات أعظم من اهتمامه بالسنن المكملات، ويدل على ذلك أن القادر على الماء لا يتخير بينه وبين التيمم، والقادر على المبادرة إلى الجماعات مخير بين المبادرة والجماعة وبين التأخير والانفراد، ولو كانت مصلحة المبادرة كمصلحة استعمال الماء لتعينت عند القدرة عليها كما يتعين استعمال الماء، وإنما تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف، فقد فضله الشافعي على إزالة الخلوف بالسواك، مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولم يوافق الشافعي على ذلك إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله عليه السلام: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وكم من عبادة قد أثنى الشرع عليها وذكر فضيلتها مع أن غيرها أفضل منها، وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فإن السواك نوع من التطهر المشروع لإجلال الرب سبحانه وتعالى، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شرع السواك
(1/33)
 
 
وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه ؟، ويدل أن مصلحة السواك أعظم من مصلحة تحمل مشقة الخلوف قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، ولولا أن مصلحته أتم من مصلحة تحمل مشقة الخلوف لما أسقط إيجابه لمشقته، وهذا يدل على أن مصلحته انتهت إلى رتب الإيجاب. وقد نص على اعتباره بقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، والذي ذكره الشافعي رحمه الله تخصيص للعام لمجرد الاستدلال المذكور المعارض لما ذكرناه، ولا يصح قياسه على دم الشهيد؛ لأن المستاك مناج لربه، فشرع له تطهير فمه بالسواك، وجسد الميت قد صار جيفة غير مناجية، فلا يصح - مع ذلك - الإلحاق.
(1/34)
 
 
فصل: في تساوي العقوبات العاجلة مع تفاوت المفاسد
قد تتساوى العقوبات العاجلة مع تفاوت الزلات مع أن الأغلب تفاوت العقوبات بتفاوت المخالفات، فإن من شرب قطرة من الخمر مقتصرا عليها يحد كما يحد من شرب ما أسكره وخبل عقله مع تفاوت المفسدتين، ولم يجعل الوسائل إلى الزنا والسرقة والقتل، مثل الزنا والسرقة والقتل، والفرق بينهما وبين شرب القطرة من الخمر خفة حد السكر وثقل ما عداه من الحدود، مع أن التوسل إلى السرقة والقتل لا يحرك الداعية إليهما، ولا يحث عليهما، بخلاف وسائل الزنا من النظر واللمس وغيرهما، فإنها تؤكد الحث عليه، والدعاة إليه، والقتل في الزواجر. فإن قيل هل يكون وزر من سرق ربع دينار كوزر من سرق ألف دينار لاستوائهما في القطع؟ قلنا: لا، بل يتفاوت وزرهما في الدار الآخرة بتفاوت مفسدة سرقتيهما. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}, {إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. والقطع الواجب في الألف متعلق بربع دينار من الألف، ولا يلزم من الاستواء في
(1/34)
 
 
العقوبة العاجلة الاستواء في العقوبة الآجلة، ويجوز أن يجاب بمثل هذا في حدي القطرة والسكرة. لكن الحدود كفارة لأهلها، فقد استويا في الحدين وتكفير الذنبين. وفي السرقتين. استويا في المفسدتين، وهما أخذ ربع دينار، فيكفر الحدان ما يتعلق بربع الدينار من السرقتين، ويبقى الزائد إلى تمام الألف لا مقابل له ولا تكفير. وأما تفاوت حدي زنا البكر والمحصن، ففيه إشكال يسر الله حله.
فإن قيل لم فرق بين الأحرار والعبيد في الحدود مع تساويهم في الجرائم وتحقيق المفاسد؟ قلنا: تعذيب الأماثل على الإساءة أشد من تعذيب الأراذل؛ لأن صدور المعصية منهم مع الإنعام عليهم والإحسان إليهم أقبح من صدورها من الأراذل. ألا ترى إلى قوله، {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}، وإلى قوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}، وإلى قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ, لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ, ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.
وإنما كان كذلك لما يجب على المنعم عليه المفضل من شكر إحسان المنعم المتفضل، فإذا قابل إحسانه بعصيانه، كان ذلك أقبح من عصيان غيره. ولذلك قبحت معصية الوالدين وعقوقهما لما يجب من شكر إنعامهما بتربيتهما، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ولو سب الوزير الملك بمسبة سبه بها السائس لاستحق العذاب الأليم، ولم يسو بينه وبين السائس لأجل الإنعام عليه، والإحسان إليه.
فإن قيل قد سويتم بين الأحرار والعبيد في قطع السرقة وقتل المحاربة؟ قلنا: سوينا بينهما لتعذر تبعيض القطع والقتل.
فإن قيل هل يستوي إثم الذابح، وإثم من قطع أنملة إنسان فسرت إلى نفسه؟ فالجواب أنهما متساويان في الكفارة والدية والقصاص، ويتفاوتان في العقوبة الآجلة؛ لأن جرأة الذابح على انتهاك الحرمة في الذبح أشد من جرأة القاطع على
(1/35)
 
 
انتهاك الحرمة في القطع، وكذلك لو جرح أحد الجانيين جرحا واحدا وجرح الآخر مائة جراحة، أو قطع أحدهما أنملة واحدة وقطع الآخر جميع الأعضاء والأنامل، فمات المجني عليه بذلك، فإنهما يتفاوتان في عقوبة الآخرة لتفاوتهما في تعدد المعصية وعظم الجرأة، مع تساويهما في الدية والكفارة والقصاص. وكذلك لو ذبح الجاني رجلا أو قطع الجاني الآخر رجلا إربا إربا حتى مات، فإنهما يتساويان في العهدة العاجلة، ويتفاوتان في العقوبة الآجلة لعظم. الجرأة، وتعدد المعصية في أحدهما واتحادها في الآخر، وكذلك قتل المثلة أعظم وزرا من الذبح وقطع الرقبة.
فإن قيل هل يحرم الرب ما لا مفسدة فيه؟ قلنا: نعم، قد يحرم الرب ما لا مفسدة فيه عقوبة لمخالفته وحرمانا لهم أو تعبدا. أما تحريم الحرمات، فكما حرم على اليهود كل ذي ظفر، وكما حرم عليهم الثروب من البقر والغنم، عقوبة لهم لا لمفسدة في ذلك، ولو كان فيه مفسدة لما أحل ذلك لنا مع أنا أكرم عليه منهم. وقد نص على ذلك بقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} ، وبقوله: {بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}. وأما تحريم التعبد فكتحريم الصيد في الإحرام، والدهن والطيب واللباس، فإنها لم تحرم لصفة قائمة بها تقتضي تحريمها، بل لأمر خارج عن أوصافها، وصار ذلك بمثابة أكل مال الغير، فإنه لم يحرم لصفة قائمة به، وإنما حرم لأمر خارج.
(1/36)
 
 
فصل: في انقسام المصالح إلى العاجل و الآجل
...
فصل: في انقسام المصالح إلى العاجل والآجل
المصالح ثلاثة أقسام: أحدها واجب التحصيل، فإن عظمت المصلحة وجبت في كل شريعة. القسم الثاني: مندوبة التحصيل، الثالث مباحة التحصيل ثم المصالح ثلاثة أضرب: أحدهما: أخروية وهي متوقعة الحصول، إذ لا يعرف أحد بم يختم له؟ ولو عرف ذلك لم يقطع بالقبول، ولو قطع بالقبول لم يقطع بحصول ثوابها ومصالحها، لجواز ذهابها بالموازنة والمقاصة
(1/36)
 
 
الضرب الثاني: مصالح دنيوية وهي قسمان أحدهما ناجز الحصول كمصالح المآكل والمشارب والملابس، والمناكح والمساكن والمراكب، وكذلك مصالح المعاملات الناجزة الأعواض وحيازة المباح - كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب. القسم الثاني: متوقع الحصول كالاتجار لتحصيل الأرباح وكذلك الاتجار في أموال اليتامى لما يتوقع فيها من الأرباح. وكذلك تعليمهم الصنائع والعلوم لما يتوقع من مصالحها وفوائدها، وكذلك بناء الدار وزرع الحبوب وغرس الأشجار، وكل ذلك مصالحه متوقعة غير مقطوع بها، وكذلك ما يتوقع من مصالح الانزجار من الحدود والعقوبات الشرعية.
الضرب الثالث: ما يكون له مصلحتان إحداهما عاجلة والأخرى آجلة كالكفارات والعبادات الماليات، فإن مصالحها العاجلة لقابليها، والآجلة لباذليها، فمصالحها العاجلة ناجزة الحصول، والآجلة متوقعة الحصول.
(1/37)
 
 
فصل: في انقسام المفاسد إلى العاجل و الآجل
...
فصل: في انقسام المفاسد إلى العاجل والآجل
المفاسد ثلاثة أقسام - أحدها: ما يجب درؤه فإن عظمت مفسدته وجب درؤه في كل شريعة وذلك كالكفر والقتل والزنا والغصب وإفساد العقول. القسم الثاني: ما تختلف فيه الشرائع فيحظر في شرع ويباح في آخر تشديدا على من حرم عليه، وتخفيفا على من أبيح له، الثالث: ما تدرؤه الشرائع كراهية له. ثم المفاسد ثلاثة أضرب: أحدها أخروية وهي متوقعة الحصول لا يقطع بتحققها لأنها قد تسقط بالتوبة أو العفو أو الشفاعة أو الموازنة. الضرب الثاني: دنيوية وهي قسمان: أحدهما: ناجز الحصول كالكفر والجهل الواجب الإزالة، وكالجوع والظمأ والعري وضرر الصيال والقتال. القسم الثاني: متوقع الحصول كقتال من يقصدنا من الكفار والبغاة وأهل الصيال. الضرب الثالث: ما يكون له مفسدتان: إحداهما عاجلة والأخرى آجلة، كالكفر، فالعاجلة ناجزة الحصول والآجلة متوقعة الحصول. وأما ما يكون مفسدته عاجلة ومصلحته آجلة فكالصيال على الدماء
(1/37)
 
 
والأبضاع والأموال، فإن درء مفسدته عاجل حاصل لمن درئت عنه، ومصلحة درئه آجلة لمن درأه.
[فائدة] إذا عظمت المصلحة، أوجبها الرب في كل شريعة. وكذلك إذا عظمت المفسدة، حرمها في كل شريعة، وإن تفاوتت رتب المصالح والمفاسد فقد يقدم الشرع بعض المصالح في بعض الشرائع على غيرها، ويخالف ذلك في بعض الشرائع. وكذلك المفاسد، فالقصاص في شريعة موسى واجب حقا لله كما في حد السرقة والزنا، وهو عندنا حق للعبد مقترن بحق الرب، ورجح فيه حق العبد على حق الرب في شرعنا نظرا للجاني ولولي الدم.
وكذلك حرم في النكاح الزيادة على امرأة واحدة في شرع عيسى نظرا للنساء وكيلا يتضررن بكثرة الضرائر والإماء، وأجازه من غير حصر في شريعة موسى لمن قدر على القيام بالوطء ومؤن النكاح، وأجاز في شرعنا الزيادة على واحدة نظرا للرجال وحرم الزيادة على الأربع نظرا للنساء ورحمة بهن، ووطء الإماء من غير حصر نظرا للرجال.
(1/38)
 
 
فصل: في تفاوت الأعمال مع تساويها باختلاف الأماكن و الأزمان
...
فصل: في تفاوت الأعمال مع تساويها باختلاف الأماكن والأزمان
اعلم أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما، ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه فإن له أن يعاقب بغير كفر ولا عصيان، ويتفضل بغير طاعة وإيمان، وقد صح أنه ينشئ في الجنة أقواما وفي الجنة آخرين. وكذلك من خلقه في الجنان من الحور العين. وتفضيل الأماكن والأزمان ضربان: أحدهما دنيوي كتفضيل الربيع على غيره من الأزمان، وكتفضيل بعض البلدان على بعض بما فيها من الأنهار والثمار وطيب الهواء وموافقة الأهواء. الضرب الثاني: تفضل ديني راجع إلى أن الله يجود على عباده فيهما بتفضيل أجر العاملين كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشهور وكذلك يوم عاشوراء وعشر
(1/38)
 
 
ذي الحجة، ويوم الاثنين والخميس وشعبان وستة أيام من شوال، فضلهما راجع إلى جود الله وإحسانه إلى عباده فيها، وكذلك فضل الثلث الأخير من كل ليلة راجع إلى أن الله يعطي فيه من إجابة الدعوات والمغفرة وإعطاء السؤال ونيل المأمول ما لا يعطيه في الثلثين الأولين. وكذلك اختصاص عرفة بالوقوف فيها، ومنى بالرمي فيها، والصفا والمروة بالسعي فيهما، مع القطع بتساوي الأماكن والأزمان، وكذلك تفضيل مكة على سائر البلدان.
(1/39)
 
 
فصل: في تفضيل مكة على المدينة
إن قيل: قد ذهب مالك رحمه الله إلى تفضيل المدينة على مكة، فما الدليل على تفضيل مكة عليها؟ قلنا معنى ذلك أن الله يجود على عباده في مكة بما لا يجود بمثله في المدينة، وذلك من وجوه: أحدها: وجوب قصدها للحج والعمرة وهذان واجبان لا يقع مثلهما في المدينة، فالإثابة عليهما إثابة على واجب، ولا يجب قصد المدينة بل قصدها بعد موت الرسول عليه السلام بسبب زيارته سنة غير واجبة. الوجه الثاني: إن فضلت المدينة بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، كانت مكة أفضل منها؛ لأنه أقام بها بعد النبوة ثلاث عشرة سنة أو خمس عشرة سنة وأقام بالمدينة عشرا. الوجه الثالث: إن فضلت المدينة بكثرة الطارقين من عباد الله الصالحين، فمكة أفضل منها بكثرة من طرقها من الصالحين والأنبياء والمرسلين، وما من نبي إلا حجها آدم ومن دونه من الأنبياء والأولياء، ولو كان لملك داران فضليان فأوجب على عبيده أن يأتوا إحدى داريه، ووعدهم على ذلك بغفران سيئاتهم ورفع درجاتهم وإسكانهم في قربه وجواره في أفضل دوره، لم يرتب ذو لب أن اهتمامه بهذا المكان أتم من اهتمامه بغيره من بيوته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" . وقال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، وقال في المدينة، "من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة". الوجه الرابع: أن التقبيل والاستلام ضرب
(1/39)
 
 
من الاحترام وهما مختصان بالركنين اليمانيين ولم يوجد مثل ذلك في مسجد المدينة على ساكنها أفضل السلام. الوجه الخامس: أن الله أوجب علينا استقبالها في الصلاة حيثما كنا من البلاد والفلوات، فإن قيل إن دلت الصلاة إليها على فضلها فلتكن الصخرة أفضل منها لما وجبت الصلاة إليها؟ فالجواب إن صلاته وصلاة أمته إلى الكعبة أطول زمانا، فإنها قبلتهم إلى القيامة، ولولا أن مصلحتها أكبر لما اختارها لهم على الدوام، وكل فعل نسخ إيجابه إلى غيره كان كل واحد منهما في زمانه أفضل من الآخر أو مثله لقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وكونه أفضل في زمانه وجه، لا يدل على فضله على ما هو أفضل من وجوه شتى. الوجه السادس: أن الله حرم علينا استدبار الكعبة واستقبالها عند قضاء الحاجات. الوجه السابع: أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض، فلم تحل لأحد من الرسل والأنبياء إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنها أحلت له ساعة من نهار. الوجه الثامن: أن الله بوأها لإبراهيم الخليل عليه السلام، ولابنه إسماعيل عليه السلام، وجعلها مبوأ ومولدا لسيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. الوجه التاسع: أن الله جعلها حرما آمنا في الجاهلية والإسلام. الوجه العاشر: أن مكة لا تدخل إلا بحج أو عمرة، إما وجوبا أو ندبا، وليس في المدينة مثل ذلك ولا بدل منه. الوجه الحادي عشر: أن الله عز وجل قال في مكة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، عبر بالمسجد الحرام عن الحرم كله، وهذا من مجاز التعبير بالبعض عن الكل، كما يعبر بالوجه عن الجملة، وبالرأس عن الجملة. الوجه الثاني عشر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لدخول مكة، وهو مسنون ولم ينقل في المدينة مثل ذلك، وفي هذا نظر من جهة أن اغتساله لأجل الحج لا لأجل دخول البلد كما في غسل الإحرام، وقد أثنى الله على البيت في كتابه بما لم يثن على المدينة فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}، وكيف لا نعتقد أن مكانا أوجب الله إتيانه على كل مستطيع أفضل من مكان لا يجب
(1/40)
 
 
إتيانه، ومن شرف مكة أن الصلاة لا تكره فيها في الأوقات المكروهات لما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. وأما ما رواه من قوله عليه السلام: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك". فهذا حديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن صح فهو من المجاز الذي لا يعرفه كثير من الناس، وهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه، ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر كقوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} وصفها بالطيب الذي هو صفة لهوائها. وكذلك الأرض المقدسة وصفت بالقدس الذي هو وصف لمن حل بها من الأنبياء والأولياء المقدسين من الذنوب والخطايا، وكذلك الوادي المقدس وصف بقدس موسى عليه السلام وبقدس الملائكة الذين حلوا فيه. وكذلك قوله عليه السلام: "أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها"، أراد بمحبة المساجد محبة ما يقع فيها من ذكره وتلاوة كتابه والاعتكاف والصلوات، وأراد ببغض الأسواق ما يقع فيها من الغش والخيانة وسوء المعاملة، مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ولا يغضون الأبصار عن المحرمات وكذلك قولهم بلد خائف وآمن وصف بصفة من حل فيه من الخائفين والآمنين، فكذلك وصفه بكونه محبوبا هو وصف بما حصل فيه مما يحبه الله ورسوله، وهو إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاده أهله إلى ما بعث به، فكانت حينئذ واجبة عليه، ومعلوم أن ما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله، وكذلك لما هاجر إلى المدينة كانت إقامته بها وإرشاده أهلها أحب إلى الله وإليه صلى الله عليه وسلم من إقامته بغيرها، ومعلوم أن الطاعة التي هي أحب إلى الله من غيرها أحب إلى رسوله من جميع الطاعات، ولا يلزم من قوله أحب البقاع إليك ألا تكون أحب إلى رسوله. كما لا يلزم من قوله أحب البقاع إلى أن تكون أحب
(1/41)
 
 
البقاع إلى ربه. فالتعبير بالأحب في البلدين دال على أن كل واحد من البلدين أحب إلى الله وإلى رسوله، إذ لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف ربه في محبة ما أحبه. ويجوز أن يوصف كل واحد من البلدين بحسب ما وقع فيه: من إبلاغ الرسالة، والأمر بالطاعات، والنهي عن المعاصي، وكل ذلك أحب إلى الله ورسوله مما سواه من النوافل، وأحسن من هذا أن يكون المعنى: أخرجتني من أحب البقاع إلي في أمر معاشي فأسكني أحب البقاع إليك في أمر معادي وهذا متجه ظاهر، فإنه لم يزل في زيادة من دينه وتبليغ أمره إلى أن تكامل الوحي وبشره بإكمال دينه وإتمام إنعامه بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}. ومما يدل على أن الأماكن والأزمان يوصفان بصفة ما يقع فيهما قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} فوصفهما بصفة أهلهما. وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} وصفها بالتحريم الواقع فيها وهو تحريم صيدها، وعضد شجرها واختلاء خلائها، وتحريم التقاط لقطتها إلا لمنشد. وكذلك وصف سبحانه وتعالى الأشهر بالتحريم. في قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}. وفي قوله. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}. وقالت العرب. يوم بارد وليل نائم، ونهار صائم، ومنه قول جرير: ونمت وما ليل المطي بنائم
وفي الكتاب. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وكذلك يوم عصيب، وقمطرير، وثقيل. كل ذلك صفة لما يحصل في تلك الأزمان، وكذلك وصف ليلة القدر بكونها خيرا من ألف شهر، إنما هو وصف للعمل الواقع فيها. وأما فضل الثغور فعائد إلى فضيلة الرباط فيها على نية الجهاد - فيثاب حاضروها على نية الجهاد - وعلى التسبب إليه بالإقامة فيها، وكذلك حراستها ممن يقصدها من الكفار. وأما فضيلة المساجد فليست راجعة إلى أجرامها ولا إلى أعراض قامت بأجرامها، وإنما ترجع فضيلتها إلى مقصودها من إقامة الجماعات والجمعات فيها.
(1/42)
 
 
وكذلك الاعتكاف فيها، وكذلك منع من البيع والشراء فيها، وإيداع الأماكن والأزمان لهذه الفضائل كإيداع الأنبياء والرسل النبوة والرس