كشف الأسرار شرح أصول البزدوي 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي
المؤلف: عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري الحنفي (المتوفى: 730هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
وَمَسْحُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَانْتِقَالِهِ إلَيْهِ بِضَرْبٍ مِنْ الْحَرَجِ فَثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُشْتَرَطُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ النِّيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ الشَّرْطُ عِنْدَ الْخَصْمِ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ لَا إثْبَاتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِالْمَاءِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ هُوَ عَامِلٌ بِطَبْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ فَكَانَ أَيْ غَسْلُ هَذَا الْمَحَلِّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ الْحَدَثُ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مِثْلَ غَسْلِ النَّجَسِ فِي عَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ.
بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ مُلَوَّثٌ بِطَبْعِهِ فَكَانَ إثْبَاتُ التَّطْهِيرِ بِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ لِيَظْهَرَ فِعْلُهُ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ وَيَصِيرَ مُطَهَّرًا أَوْ بَعْدَمَا صَارَ مُطَهَّرًا بِالنِّيَّةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ اسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ كَمَا اسْتَغْنَى الْمَاءُ عَنْهَا وَتَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا الْمُفَارَقَةُ فِي صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ لِلْآلَةِ وَأَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لِلْخَصْمِ فِي مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ بَلْ هُوَ دَلِيلٌ لَنَا قَوْلُهُ (وَمَسْحُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ فِي الْوُضُوءِ مُطَهِّرًا أَوْ هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِي التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي تَكْثِيرِ النَّجَاسَةِ لَا فِي إزَالَتِهَا فَكَانَ مِثْلَ التُّرَابِ فِي أَنَّهُ مُلَوِّثٌ لَا مُطَهِّرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَطَ فِيهِ النِّيَّةُ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ فَقَالَ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْغُسْلُ لِسِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَيْهِ كَسِرَايَتِهِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ انْتَقَلَ مِنْ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ بِسَبَبِ ضَرْبٍ مِنْ الْحَرَجِ فَإِنَّ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ خُصُوصًا فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ لِمَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ كَثِيرٌ حَرَجًا عَظِيمًا وَفِيهِ إفْسَادُ الثِّيَابِ وَالْعَمَائِمِ وَالْقَلَانِسِ فَشُرِعَ فِيهِ الْمَسْحُ ابْتِدَاءً تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا وَلَمَّا قَامَ الْمَسْحُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَقَامَ الْغَسْلِ أَخَذَ حُكْمَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ كَالْغَسْلِ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ غُسْلٌ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ فِيهِ بِالْكُلِّ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِفِعْلِنَا إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ سَيَّالًا ضَعُفَ عَنْ التَّطْهِيرِ لِلنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَهَا بِإِزَالَةِ عَيْنِهَا وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النَّجَاسَةُ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّهَا حُكْمِيَّةٌ دُونَ الْعَيْنِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْإِزَالَةِ لِإِفَادَةِ الطُّهْرِ فَصَارَ الْبَلَلُ كَالسَّائِلِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْإِزَالَةِ فِي إفَادَةِ الطُّهْرِ قَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُشْتَرَطَ) أَيْ النِّيَّةُ لِيَصِيرَ الْوُضُوءُ قُرْبَةً جَوَابٌ عَنْ طَرِيقَةٍ أُخْرَى سَلَكَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤْتَى بِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ وَحُكْمُهُ الثَّوَابُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوُضُوءِ وَقَالَ النَّبِيُّ «الطَّهَارَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِبَادَةً لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ بِشَرْطِ الْإِخْلَاصِ وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ بِالنِّيَّةِ بِجِهَةِ الْأَمْر إلَّا أَنَّ هَذِهِ الطَّهَارَةَ تَتَأَدَّى بِالتُّرَابِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ بَلْ الْمَطْلُوبُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ فَقَالَ: إنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ لِيَصِيرَ الْوُضُوءُ قُرْبَةً شَرْطٌ وَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ.
، لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَيْ الْوُضُوءَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا قُرْبَةً بَلْ الْوُضُوءُ الْمَشْرُوعُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ شُرِعَ بِطَرِيقِ الْقُرْبَةِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ وَنَوْعٌ شُرِعَ تَطْهِيرًا مُجَرَّدًا وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ النِّيَّةِ كَغَسْلِ الثَّوْبِ يَعْنِي إذَا نَوَى غَسْلَ الثَّوْبِ لِلصَّلَاةِ وَقَعَ عِبَادَةً مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ وَقَعَ مُعْتَبَرًا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً حَتَّى جَازَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّهَارَةُ دُونَ الْقُرْبَةِ وَالصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا يَسْتَغْنِي عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اشْتِرَاطَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ
(4/128)
 
 
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِتَصِيرَ قُرْبَةً؛ لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ لِتَصِيرَ قُرْبَةً شَرْطٌ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا قُرْبَةٌ بَلْ شُرِعَ بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ وَبِوَصْفِ التَّطْهِيرِ أَيْضًا كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَالصَّلَاةُ تَسْتَغْنِي فِي ذَلِكَ عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى وَصْفِ التَّطْهِيرِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِلنَّفْلِ صَلَّى بِهِ الْفَرَائِضَ وَمَنْ تَوَضَّأَ لِلْفَرْضِ صَلَّى بِهِ غَيْرَهُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ إنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْبَكَارَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيَضْطَرُّهُ إلَى الْفِقْهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَكَانَ حُجَّةً فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَمَا يُبْتَذَلُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَيَظْهَرُ بِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَرُورِيَّةٌ بَلْ هِيَ أَصْلِيَّةٌ إلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبَ شُبْهَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
وَلِأَنَّهَا لَا نِهَايَةَ فِي الْعِبَادَاتِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى قُرْبَةٍ أُخْرَى لِيَصِيرَ عِبَادَةً كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِيهِ أَيْ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْطِهَا إلَى وَصْفِ التَّطْهِيرِ لِيَصِيرَ الْعَبْدُ بِهِ أَهْلًا لِلْقِيَامِ فِي مَقَامِ الْمُنَاجَاةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] .
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ» وَكَذَا فِي تَسْمِيَتِهِ وُضُوءًا وَطَهَارَةً دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهَذَا الْوَصْفُ يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِكَذَا صَلَّى بِهِ غَيْرَهُ لِبَقَاءِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ إذْ لَوْ احْتَاجَتْ الصَّلَاةُ إلَى وَصْفِ الْقُرْبَةِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقُرْبَةِ قَدْ انْتَهَى بِفَرَاغِهِ عَنْ الصَّلَاةِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي حَالَةِ الْوُضُوءِ وَإِنَّمَا النَّافِي وَصْفُ الطَّهَارَةِ لَا غَيْرُ وَلَمَّا جَازَتْ بِالْإِجْمَاعِ عَرَفْنَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفِ التَّطْهِيرِ لَا بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْوُضُوءِ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ عِبَادَةٌ وَالْوُضُوءُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَلَكِنَّ الْعِبَادَةَ مَتَى لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً سَقَطَتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّمَكُّنُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا طَهُرَتْ الْأَعْضَاءُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَأَنْ سَقَطَ الْأَمْرُ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْقُطُ بِسَعْيٍ لَا لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْجُمُعَةِ بِالْحُصُولِ فِي الْمَسْجِدِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ سَقَطَ الْأَمْرُ قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِالْحُدُودِ.
وَهُوَ أَيْ هَذَا التَّعْلِيلُ بَعْدَ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا بِالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ أَيْ مُنْتَقِضٌ بِالْبَكَارَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ الْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي فِي مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُنَّ فِيهَا مَقْبُولَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فَيُضْطَرُّ وُرُودُ هَذَا النَّقْضِ الْمُعَلَّلِ الطَّارِدِ إلَى الْفِقْهِ أَيْ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ الَّذِي بَنَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَةً أَوْ مُنْضَمَّةً إلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ عِنْدَ الْخَصْمِ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَ الْأَمْرَ إلَى النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] كَمَا نَقَلَ أَمْرَ الطَّهَارَةِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ وَإِنَّمَا صِيرَ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ وَكَذَا نُقْصَانُ عَقْلِهِنَّ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَقِلَّةُ ضَبْطِهِنَّ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَاخْتِلَالُ وِلَايَتِهِنَّ فِي الْإِمَارَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُخِلَّةٌ بِمَا هُوَ الرُّكْنُ فِي الشَّهَادَةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمَ الْقَبُولِ فَكَانَتْ حُجَّةً بِانْفِرَادِهَا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ مِثْلَ الْبَكَارَةِ وَمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَمُنْضَمَّةً إلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يُبْتَذَلُ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ أَمْوَالٌ؛ لِأَنَّهَا لِلْبِذْلَةِ وَالتِّجَارَةُ دَائِمَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَأَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِي بَابِهَا وَكَذَا الْمُبَايَعَاتُ تَقَعُ بَغْتَةً وَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ إحْضَارُ الذُّكُورِ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُنَّ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَضَاقَ الْأَمْرُ فَقُبِلَتْ تَوْسِعَةً وَدَفْعًا لِلضَّرُورَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ كَوْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَالًا أُقِيمَ هَذَا السَّبَبُ مُقَامَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ عِنْدَ الْعَدَمِ فَقُبِلَتْ وَإِنْ فُقِدَتْ الْحَاجَةُ بِوُجُودِ الرِّجَالِ تَوْسِعَةً كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ.
بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْأَبْضَاعِ وَلَمْ يَجُزْ الِابْتِذَالُ وَالْإِبَاحَةُ فِيهَا فَكَانَتْ أَعْظَمَ خَطَرًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ النِّكَاحُ بِشَرْطِ الشَّهَادَةِ وَالْوَلِيِّ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الضَّرُورَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بَغْتَةً وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ تَدَبُّرٍ وَتَشَاوُرٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَاعْتِبَارُ شَهَادَتِهِنَّ فِيمَا فِيهِ
(4/129)
 
 
وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلِيَّةٌ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ حُقُوقِ الْبَشَرِ نَظِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي احْتِمَالِ الشُّبْهَةِ وَالنِّكَاحُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَانَ فَوْقَ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الْهَزْلِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ أَوْلَى.
 
وَإِذَا ثَبَتَ دَفْعُ الْعِلَلِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِهِ كَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يُلْجِئَ إلَى الِانْتِقَالِ (وَهَذَا بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) :
وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:.
الْأَوَّلُ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِي الِانْتِقَالُ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ آخَر بِالْعِلَّةِ الْأُولَى وَالثَّالِثُ الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ آخَرَ وَعِلَّةٍ أُخْرَى هَذِهِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَالرَّابِعُ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَحْسَنَ هَذَا أَيْضًا أَمَّا الْوُجُوهُ الْأُولَى فَإِنَّمَا صَحَّتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
ضَرُورَةٌ وَيُبْتَذَلُ عَادَةً لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِيمَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلَهُ خَطَرٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَيَظْهَرُ بِهِ أَيْ بِسَبَبِ بَيَانِهِ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ إلَى آخِرِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ احْتَجْنَا إلَى الْمَنْعِ وَإِلَى بَيَانِ مُسْتَنَدِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيَانِ الْمَعْنَى فَيَظْهَرُ الْفِقْهُ مِنْ جَانِبِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا وَهُوَ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ أَصْلِيَّةٌ كَشَهَادَةِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَصِيرُ شَاهِدًا بِالْوِلَايَةِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالنِّسَاءُ فِيهِمَا مِثْلُ الرِّجَالِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ نُقْصَانِ الْعَقْلِ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُنَّ اُعْتُبِرَ كَامِلًا فِي التَّكَالِيفِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْقَبُولُ يُبْتَنَى عَلَى الْعَدَالَةِ وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَلَهُنَّ عَدَالَةٌ مِثْلُ الرِّجَالِ وَلِهَذَا قُبِلَتْ مِنْهُنَّ رِوَايَةُ الْأَخْبَارِ وَالضَّلَالُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مَجْبُورٌ بِضَمِّ امْرَأَةٍ أُخْرَى إلَيْهَا فَلَئِنْ نُفِيَ نَوْعُ شُبْهَةٍ بَعْدَ الْخَبَرِ وَهِيَ شُبْهَةُ ظَاهِرِ الْبَدَلِيَّةِ لَا حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُنَّ حُجَّةٌ مَعَ وُجُودِ الرِّجَالِ بِالْإِجْمَاعِ تُعْتَبَرُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا فَأَمَّا فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَلَا وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُنَّ مُنْفَرِدَةً عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
فَعِنْدَ الْخَصْمِ قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْقَبُولِ فَيَتَبَيَّنُ حَقِيقَةً ذَلِكَ بِالتَّحَاكُمِ إلَى الْأُصُولِ فَمَتَى ثَبَتَ لِلْخَصْمِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ رُكْنُ الشَّهَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبُولَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَمَتَى قَامَ الدَّلِيلُ لَنَا أَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ كَامِلٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبُولَ أَصْلٌ وَعَدَمَ الْقَبُولِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَقَدْ قَامَ كَمَا بَيَّنَّا قَوْلُهُ (وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ حُقُوقِ الْبَشَرِ أَيْ حُجَجُ عَامَّةِ حُقُوقِهِمْ يَعْنِي الْحُجَجَ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا أَكْثَرُ الْحُقُوقِ نَظِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي احْتِمَالِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَهِيَ لَا تَخْلُو عَنْ احْتِمَالِ كَذِبٍ وَسَهْوٍ وَغَلَطٍ وَإِنْ تَرَجَّحَ فِيهَا جَانِبُ الصِّدْقِ، ثُمَّ إنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ بِاحْتِمَالِ الشُّبْهَةِ عَنْ كَوْنِهِ أَصْلِيَّةً وَلَمْ تَصِرْ ضَرُورِيَّةً فَكَذَا هَذِهِ وَالنِّكَاحُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ أَيْ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ الْمُقَارِنَةِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الْهَزْلِ وَالْكُرْهِ وَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ الطَّارِئَةِ فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ الْغَيْرِ وَدَخَلَ بِهَا وَيَثْبُتُ لَهُ شُبْهَةُ النِّكَاحِ حَتَّى سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ الثَّابِتُ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الطَّارِئَةِ فَكَانَ أَيْ النِّكَاحُ فِي الثُّبُوتِ فَوْقَ مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَثْبُتُ مَعَهَا أَيْضًا وَهُوَ الْمَالُ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ بِهِ أَيْ بِمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ بِهِ بِوَجْهٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ فِي قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَكَانَ فَوْقَ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ أَيْ النِّكَاحُ الَّذِي يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ الَّذِي يَسْقُطُ بِهَا فِي الثُّيُوبِ فَبَطَلَ قِيَاسُ النِّكَاحِ بِالْحَدِّ فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِثُبُوتِهِ أَلَا تَرَى تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ النِّكَاحُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ]
(بَابُ الِانْتِقَالِ) الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِانْتِقَالِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُمَانَعَةِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا مَنَعَ وَصْفَ الْمُجِيبِ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً لَمْ يَجِدْ مِنْ إثْبَاتِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْهُ فِي الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ الْحُكْمَ الَّذِي رَتَّبَهُ
(4/130)
 
 
لِأَنَّهُ لَمْ يَدَعْ إلَّا الْحُكْمَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ فَمَا دَامَ يَسْعَى فِي إثْبَاتِ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ عَلَّلَ بِوَصْفٍ مَمْنُوعٍ فَقَالَ فِي الصَّبِيِّ الْمُودَعِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ فَلَمَّا أَنْكَرَهُ الْخَصْمُ احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِهِ وَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى حُكْمًا بِوَصْفٍ فَسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ إثْبَاتُ مَا ادَّعَاهُ وَالتَّسْلِيمُ يُحَقِّقُهُ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ فَإِذَا أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِذَلِكَ الْوَصْفِ كَانَ ذَلِكَ آيَةَ كَمَالِ الْفِقْهِ وَصِحَّةِ الْوَصْفِ مِثْلُ قَوْلِنَا إنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
الْمُجِيبُ عَلَى الْعِلَّةِ وَادَّعَى النِّزَاعَ فِي حُكْمٍ آخَرَ لَمْ يَتِمَّ مَرَامُ الْمُجِيبِ فَيَنْتَقِلُ إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ أَوْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ وَالرَّابِعُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَالْمُنَاقَضَةِ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُمَا بِبَيَانِ الْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدَّعَ أَيْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ أَيْ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِانْتِفَالِ مِثْلُ مَنْ عَلَّلَ بِوَصْفٍ مَمْنُوعٍ أَيْ غَيْرِ مُسَلَّمٍ عِنْدَ السَّائِلِ فَقَالَ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عَنْ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ فَلَمَّا أَنْكَرَ الْخَصْمُ كَوْنَهُ اسْتِهْلَاكًا احْتَاجَ الْمُجِيبُ إلَى إثْبَاتِهِ وَهَذَا أَيْ إثْبَاتُ مَا ادَّعَاهُ حُجَّةً بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إعْرَاضٍ عَنْ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَاشْتِغَالٍ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ بَابِ الْفِقْهِ فَيَكُونُ حَسَنًا مُسْتَقِيمًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى هَذَا اشْتَغَلَ بِإِثْبَاتِ الْأَصْلِ الثَّانِي تَفَرَّعَ مِنْهُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْخِلَافُ بِإِثْبَاتِ الْأَصْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ صَحِيحٌ نَحْوُ مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِذَا قَالَ الْمُعَلِّلُ: هَذَا يَبْتَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْأَصْلِ حَتَّى يُثْبِتَ الْفَرْعَ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ يَكُونُ مُسْتَقِيمًا.
وَكَذَا إذَا عُلِّلَ بِقِيَاسٍ فَقَالَ خَصْمُهُ: الْقِيَاسُ عِنْدِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَاشْتَغَلَ لِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ فَيَقُولُ خَصْمُهُ: قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ عِنْدِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَاشْتَغَلَ بِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَقُولُ خَصْمُهُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَيُحْتَجُّ بِالْكِتَابِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا وَيَكُونُ هَذَا كُلُّهُ سَعْيًا فِي إثْبَاتِ مَا رَامَ إثْبَاتَهُ فِي الِابْتِدَاءِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْقِسْمُ الثَّانِي فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِانْقِطَاعٍ كَانَ ذَلِكَ آيَةَ كَمَالِ الْفِقْهِ أَيْ فِي الْمُجِيبِ حَيْثُ عَلَّلَ عَلَى وَجْهٍ أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَصِحَّةُ الْوَصْفِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ إجْرَاؤُهُ فِي الْفُرُوعِ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي جَوَازِ إعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ عِنْدَ التَّرَاضِي وَعِنْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْفَسْخَ لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ الْمُدَبَّرِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ فَلَا يَمْنَعُ صَرْفَ الرَّقَبَةِ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالْإِجَازَةِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ أَجَّرَ الْعَبْدَ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَار لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ لَا يُخْرِجُ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِلصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ لِاحْتِمَالِهِ الْفَسْخَ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي عَنْ الْكَفَّارَةِ أَوْ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بِإِقَالَةٍ أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ شِرَاءٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: أَنَا أَقُولُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَعِنْدِي لَا يَمْنَعُ هَذَا الْعَقْدَ عَنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّ الْمَانِعَ نُقْصَانُ تَمَكُّنٍ فِي الرِّقِّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُسْتَحَقٌّ لِلْعَبْدِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ كَعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ.
قِيلَ لَهُ: وَجَبَ هَذِهِ الْعِلَّةُ أَنْ لَا يُوجِبَ هَذَا الْعَقْدَ نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ مَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الرِّقِّ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يَحْتَمِلُهُ ثُبُوتُهَا مِنْ وَجْهٍ فَهَذَا إثْبَاتُ الْحُكْمِ الثَّانِي بِالْعِلَّةِ الْأُولَى أَيْضًا قَوْلُهُ (أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ مَا يَمْنَعُ) الْخَصْمَ يَقُولُ: عَقْدُ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ لِلْعِتْقِ فَوْقَ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَلِهَذَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفَاتُ فِيهِ، ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ تَمَكَّنَ بِهَذَا السَّبَبِ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ أَوْ يُقَالُ صَارَ هُوَ كَالزَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ.
(4/131)
 
 
فَإِنْ قَالَ: عِنْدِي لَا يَمْنَعُ هَذَا الْعَقْدَ قِيلَ لَهُ: وَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ فِي الرِّقِّ نَقْصًا مَانِعًا مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ مَا يَمْنَعُ وَإِذَا عَلَّلَ بِوَصْفٍ آخَرَ لِحُكْمٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ صَارَ مُسَلَّمًا فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ غَفْلَةٍ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَحْسَنَهُ وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ فِي مُحَاجَّةِ اللَّعِينِ فَإِنَّهُ انْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ كَمَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ النَّظَرَ شُرِعَ لِبَيَانِ الْحَقِّ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَنَاهِيًا لَمْ يَقَعْ بِهِ الْإِبَانَةُ كَمَا إذَا لَزِمَهُ النَّقْضُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ بِوَصْفٍ زَائِدٍ فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ التَّعْلِيلُ الْمُبْتَدَأُ أَوْلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
وَهَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ وَلَوْ أَتْلَفَهُ تَضَمَّنَ قِيمَتَهُ وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ تَضَمَّنَ الْعُقْرَ وَثُبُوتُ حُكْمِ الزَّوَالِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ كَافٍ لِلْمَنْعِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِهِ أَوْ يُقَالُ هُوَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَفَائِتِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالرَّقَبَةِ الْعَمْيَاءِ كَذَا فِي ظِهَارِ الْمَبْسُوطِ فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَجَبَ أَنْ لَا تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ رَدَّ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَبِقَوْلِهِ أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ مَا يَمْنَعُ رَدَّ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَعْنِي لَوْ قَالَ: إنَّا نُسَلِّمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ، وَلَكِنَّهُ تَضَمَّنَ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّرْفَ وَهُوَ صَيْرُورِيَّةُ كَالزَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ كَفَائِتِ الْمَنْفَعَةِ نَقُولُ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ مَعْنًى يَمْنَعُهُ مِنْ صَرْفِهِ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ زَوَالًا عَنْ مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الزَّوَالِ وَهَذَا لَوْ مَاتَ مِنْ الْخِيَارِ لَزِمَ الْبَيْعُ وَبِالْإِجَارَةِ فَاتَتْ الْمَنَافِعُ عَنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ إنَّهُمَا لَا يُمْنَعَانِ عَنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ وَكَذَا الْكِتَابَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَضَمَّنَ هَذَا الْعَقْدَ مَا يَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْخَصْمِ تَضَمُّنَهُ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِهِ الْفَسْخَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ لَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي رِقِّ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَصِيرُ الْعِتْقُ مُسْتَحَقًّا لَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ فِي الْكِتَابَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَكَذَلِكَ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يَمْنَعُ الْفَسْخَ وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَمْنَعُ بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ حَتَّى لَا تَعُودَ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى بِحَالٍ وَبِخِلَافِ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَبَّرِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّدْبِيرُ الْفَسْخَ وَإِذَا عُلِّلَ بِوَصْفٍ آخَرَ لِحُكْمٍ آخَرَ يَعْنِي إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَانْتَقَلَ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّ خَصْمَهُ يُنَازِعُهُ فِيهِ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ صَارَ مُسْلِمًا فَإِذَا احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَا يُعَدَّ ذَلِكَ انْقِطَاعًا.
وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ نَقُولَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ الْخَصْمُ إنَّ هَذَا الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ هَذِهِ رَقَبَةٌ مَمْلُوكَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ صَرْفُهَا إلَى الْكَفَّارَةِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَحُكْمٍ آخَرَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ غَفْلَةٍ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ الْمُعَلِّلُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي ابْتِدَاءِ تَعْلِيلِهِ.
قَوْلُهُ (أَمَّا الرَّابِعُ) وَهُوَ الِانْتِقَالُ عَنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه حِينَ حَاجَّ اللَّعِينَ وَهُوَ نُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ وَكَانَ يَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ بِقَوْلِهِ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وَعَارَضَهُ اللَّعِينُ بِقَوْلِهِ {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] انْتَقَلَ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] وَكَانَ هَذَا مِنْهُ انْتِقَالًا إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي رَامَ بِالْحُجَّةِ الْأُولَى هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ لَهُ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي إذَا أَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَعُورِضَ بِجُرْحٍ فِيهِمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ شَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْتِقَالِ يُعَدُّ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ شُرِعَتْ لِإِبَانَةِ الْحَقِّ فَإِنَّ تَفْسِيرَ الْمُنَاظَرَةِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
(4/132)
 
 
عَلَيْهِ فَلَيْسَ مَا فِي قِصَّةِ الْحُجَّةِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى كَانَتْ لَازِمَةً أَلَا يُرَى أَنَّهُ عَارِضٌ بِأَمْرٍ بَاطِلٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّعِينُ مُنْقَطِعًا إلَّا أَنَّ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه لَمَّا خَافَ الِاشْتِبَاهَ وَالتَّلْبِيسَ عَلَى الْقَوْمِ انْتَقَلَ إلَى دَفْعٍ آخَرَ دَفْعًا لِلِاشْتِبَاهِ إلَى مَا هُوَ حَالٌ عَمَّا يُوجِبُ لَبْسًا وَذَلِكَ حَسَنٌ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَخَوْفِ الِاشْتِبَاهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
أَيْ النَّظَرُ أَوْ الدَّلِيلُ مُتَنَاهِيًا لَمْ يَقَعْ بِهِ إبَانَةُ الْحَقِّ يَعْنِي لِوُجُودِ الِانْتِقَالِ وَلَمْ يُجْعَلْ انْقِطَاعًا لَطَالَ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إبَانَةُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ كُلَّمَا رُدَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَتَعَلَّقُ بِآخَرَ فَلَا يَنْتَهِي الْمُنَاظَرَةُ وَلَا يَحْصُلُ الْمَرَامُ وَهَذَا نَظِيرُ نَقْضٍ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ انْقِطَاعًا وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمُعَلِّلِ إدْرَاجُ وَصْفٍ زَائِدٍ يَحْصُلُ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّقْضِ مَعَ أَنَّهُ سَاعٍ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَإِنَّ الْوَصْفَ الزَّائِدَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ بِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يُعَدَّ انْقِطَاعًا مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ مُسْتَبِدٌّ تَامٌّ بِنَفْسِهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى غَيْرُ صَالِحَةٍ أَصْلًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِهَا كَانَ أَوْلَى فَأَمَّا قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْ مِنْ قَبِيلِ الِانْتِقَالِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا كَانَتْ لَازِمَةً عَلَى اللَّعِينِ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ بِقَوْلِهِ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] حَقِيقَةَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَعَارَضَهُ اللَّعِينُ بِأَمْرٍ بَاطِلٍ وَهُوَ إطْلَاقُ أَحَدِ الْمَسْجُونَيْنِ وَقَتْلِ الْآخَرِ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِي شَيْءٍ إلَّا بِطَرِيقِ الشُّبْهَةِ وَالْمَجَازِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى لَازِمَةٌ وَأَنَّ الْمُعَارَضَةَ بَاطِلَةٌ كَانَ اللَّعِينُ مُنْقَطِعًا أَيْ مَحْجُوجًا بِتِلْكَ الْحُجَّةِ وَكَانَ يُمْكِنُ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه أَنْ يَقُولَ: إنِّي أَرَدْتُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ حَقِيقَتَهُمَا لَا مَا أَرَيْتُ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْقَتْلِ بَلْ أَنَا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلْتَ وَلَكِنْ أَنْ قَدَرْت عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ فَأَمِتْ هَذَا الَّذِي أَطْلَقْتَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ آلَةٍ وَسَبَبٍ وَأَحْيِ هَذَا الَّذِي قَتَلْتَهُ فَيَظْهَرُ بِهِ بُهْتُ اللَّعِينِ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا أَصْحَابَ الظَّوَاهِرِ وَكَانُو لَا يَتَأَمَّلُونَ فِي حَقَائِقِ الْمَعَانِي خَافَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الِاشْتِبَاهَ وَالِالْتِبَاسَ عَلَيْهِمْ فَضَمَّ إلَى الْحُجَّةِ الْأُولَى حُجَّةً ظَاهِرَةً لَا يَكَادُ يَقَعُ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.
وَذَلِكَ أَيْ الِانْتِقَالُ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى حَسَنٌ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الْأُولَى وَخَوْفِ الِاشْتِبَاهِ فَإِنَّ الْمُجِيبَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ دَقِيقٍ يَخْفَى عَلَى الْقَوْمِ وَالْخَصْمُ يُلْبِسُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى ظَاهِرٍ يُدْرِكُهُ الْقَوْمُ وَالْمُعَلِّلُ إذَا ثَبَتَ عِلَّتُهُ قَدْ يَقُومُ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْت فَيَأْتِي بِكَلَامٍ أَوْضَحَ مِنْ الْأَوَّلِ فِي إثْبَات مَا رَامَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حِجَجَ الشَّرْعِ أَنْوَارٌ فَضَمَّ حُجَّةً إلَى حُجَّةٍ كَضَمِّ سِرَاجِ إلَى سِرَاجٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ أَحَدِهِمَا أَوْ بُطْلَانِ أَثَرِهِ فَكَذَلِكَ ضَمُّ حُجَّةٍ إلَى حُجَّةٍ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا هَذَا انْقِطَاعًا فِي وَضْعٍ يَكُونُ الِانْتِقَالُ لِلْعَجْزِ عَنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ وَأَمَّا الِانْتِقَالُ إلَى بَيِّنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْجَرْحِ فِي الَّتِي أَقَامَهَا فَإِنَّمَا يَجُوزُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ إذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ ضَاعَ حُقُوقُ النَّاسِ بِلَا تَدَارُكٍ وَذَكَرَ فِي عَيْنِ الْمَعَانِي أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجَّحَ حُجَّتَهُ بِمَا يُشَاكِلُهَا دَفْعًا لِلتَّلْبِيسِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إمَاتَةٌ، ثُمَّ إحْيَاءٌ وَالثَّانِي إزَالَةٌ، ثُمَّ إنْشَاءٌ فَالنَّفْسُ مُشْرِقَةٌ بِرُوحِهَا، ثُمَّ زَائِلُهُ عِنْدَ زُهُوقِهَا وَالشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ بِنُورِهَا، ثُمَّ هِيَ بَاطِلَةٌ عِنْدَ غُرُوبِهَا فَكَانَتْ تَأْكِيدًا لَا انْتِقَالًا وَلَمْ يَقُلْ اللَّعِينُ فَلْيَأْتِ رَبُّك؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَانِدًا خَافَ الْفَضِيحَةَ أَوْ صَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِانْقِطَاعَ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ جَانِبِ الْمُعَلِّلِ يَتَحَقَّقُ مِنْ جَانِبِ السَّائِلِ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ عَجْزُ الْمُنَاظِرِ وَقُصُورُهُ عَنْ بُلُوغِ مَا هَمَّ فِي أَوَّلِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ وَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمُعَلِّلِ بِالْعَجْزِ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنَ مِنْ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي أَبْرَزَهَا وَأَرَى تَصْدِيقَ قَوْلِهِ بِهَا وَفِي جَانِبِ السَّائِلِ بِالْعَجْزِ عَنْ الْمَنْعِ أَوْ عَنْ تَصْحِيحِ مَنْعِهِ بِإِسْنَادِهِ إلَى مُسْتَنَدٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا شَرَعَ
(4/133)
 
 
بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةِ مَا يَثْبُتُ بِالْحُجَجِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا سَابِقًا عَلَى بَابِ الْقِيَاسِ شَيْئَانِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ لِلْقِيَاسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِهَذَا الْبَابِ لِيَكُونَ وَسِيلَةً بَعْدَ أَحْكَامِ طُرُقِ التَّعْلِيلِ أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَنْوَاعٌ حُقُوقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: خَالِصَةً وَحُقُوقُ الْعِبَادِ خَالِصَةً وَالثَّالِثُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ وَالرَّابِعُ مَا اجْتَمَعَا وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ.
 
وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ.
عِبَادَاتٌ خَالِصَةٌ، وَعُقُوبَاتٌ خَالِصَةٌ، وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةٌ وَحُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَعِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا شُبْهَةُ الْعُقُوبَةِ وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ.
 
وَالْعِبَادَاتُ نَوْعَانِ الْإِيمَانُ وَفُرُوعُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
فِي التَّعْلِيلِ أَوْ الْمَنْعِ فَقَدْ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَصْحِيحَهُ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ فَقَدْ انْقَطَعَ وَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَحَدُهُمَا وَهُوَ أَظْهَرُهَا السُّكُوتُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ اللَّعِينِ عِنْدَ إظْهَارِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّتَهُ بِقَوْلِهِ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] .
وَالثَّانِي جَحْدُ مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً أَوْ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ جَحْدُ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا عَجْزُهُ عَنْ دَفْعِ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ فَكَانَ انْقِطَاعًا.
وَالثَّالِثُ الْمَنْعُ بَعْدَ تَسْلِيمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَتَنَاقُضِ الْكَلَامِ إلَّا عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ خَصْمُهُ وَلَا يُقَالُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ عَنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ وَجْهُ الدَّفْعِ بِطَرِيقِ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ يَبْتَنِي عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكُ مَا سَهَا فِيهِ فَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَنْعِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الدَّفْعِ بِطَرِيقِ التَّسْلِيمِ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْعَجْزِ.
وَالرَّابِعُ عَجْزُ الْمُعَلِّلِ عَنْ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الَّتِي قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ انْقِطَاعٌ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنْ إظْهَارِ مُرَادِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَجْزِ ابْتِدَاءً عَنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي ادَّعَاهُ، ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِانْتِقَالِ إنَّمَا يَكُونُ انْقِطَاعًا فِي حَقِّ الْمُعَلِّلِ دُونَ السَّائِلِ فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ لَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِكَلَامِ الْمُجِيبِ فَمَا دَامَ فِي الْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا بِخِلَافِ الْمُجِيبِ إلَيْهِ أُشِيرُ فِي الْمِيزَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ]
(بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْإِثْبَاتِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ)
لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَحْكَامَ فِي تَلْقِيبِ الْبَابِ كَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَحْكَامَ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ عَرْضَهُ مِنْ عَقْدِ الْبَابِ بَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ دُونَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ بِالْحُجَجِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا سَابِقًا أَيْ مَرَّ ذِكْرُهَا قَبْلَ بَابِ الْقِيَاسِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَوْ هُوَ سِيقَ مِنْ السَّوْقِ لَا مِنْ السَّبْقِ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ سَابِقًا عَلَى بَابِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِنْدَ الشَّيْخِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ لِلْقِيَاسِ أَيْ لِأَجْلِ الْقِيَاسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ الْأَحْكَامُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ بِوَصْفٍ مَعْلُومٍ عَلَى مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ بَابِ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَأَلْحَقْنَاهَا أَيْ تِلْكَ الْجُمْلَةَ يَعْنِي بَيَانَهَا بِهَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الْقِيَاسِ لِيَكُونَ مَعْرِفَتُهَا وَسِيلَةً إلَيْهِ أَيْ إلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ أَحْكَامِ طَرَفِ التَّعْلِيلِ وَالْوَسِيلَةُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى الْغَيْرِ وَالْجَمْعُ الْوُسُلُ وَالْوَسَائِلُ.
وَلَا يُقَالُ لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَسِيلَةً إلَى الْقِيَاسِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَبْلَ الْقِيَاسِ إذْ الْوَسَائِلُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَوْنُ الْقِيَاسِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَحُجَّةً مِنْ حُجَجِهِ أَوْجَبَ وَصْلَهُ بِالْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَتَرْتِيبَهُ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ لَزِمَ تَأْخِيرُ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَى الْفَرَاغِ وَإِلْحَاقُهُ بِهِ قَوْلُهُ (حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْحَقُّ الْمَوْجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فِي وُجُودِهِ وَمِنْهُ السِّحْرُ حَقٌّ وَالْعَيْنُ حَقٌّ أَيْ مَوْجُودٌ بِأَثَرِهِ وَهَذَا الدَّيْنُ حَقٌّ أَيْ مَوْجُودٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِفُلَانِ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ أَيْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَالَ: وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ وَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا أَوْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ
(4/134)
 
 
وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَصْلٌ وَمُلْحَقٌ بِهِ وَزَوَائِدُ أَمَّا الْأَصْلُ فَالتَّصْدِيقُ فِي الْإِيمَانِ أَصْلٌ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ وَلَا يَبْقَى مَعَ التَّبْدِيلِ بِحَالٍ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ رُكْنٌ فِي الْإِيمَانِ مُلْحَقٌ بِالتَّصْدِيقِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ فَانْقَلَبَ رُكْنًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا حَتَّى إذَا أُكْرِهَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِيمَانِ فَآمَنَ صَحَّ إيمَانُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِي الرِّدَّةِ دَلِيلٌ مَحْضٌ لَا رُكْنٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
مِنْ الْجَبَابِرَةِ لِحُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ بِاتِّحَادِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ وَمَثَابَةً لِاعْتِذَارِ أَجْرَامِهِمْ وَكَحُرْمَةِ الزِّنَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْإِنْسَانِ وَصِيَانَةِ الْفُرُشِ وَارْتِفَاعِ السَّيْفِ بَيْنَ الْعَشَائِرِ بِسَبَبِ التَّنَازُعِ بَيْنَ الزُّنَاةِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعْظِيمًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بَلْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ وَقَوِيَ نَفْعُهُ وَشَاعَ فَضْلُهُ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً وَحَقُّ الْعَبْدِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ لِيَتَعَلَّقَ صِيَانَةُ مَالِهِ بِهَا فَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ الْمِلْكِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَتِهَا وَلِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا.
 
وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةُ الْمُرَادِ بِالْوَاحِدَةِ إذْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إلَّا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَعُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ وَكَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُنْتَخَبِ أَيْضًا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ يَعْنِي هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي مَجْمُوعِ النَّوْعَيْنِ لَا أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مُنْقَسِمٌ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ لَا يُحْتَمَلُ السُّقُوطُ بِحَالٍ كَمَا يَحْتَمِلُهُ الْإِقْرَارُ بِعُذْرِ الْكُرْهِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ مِثْلُ إنْ صَارَ مُثْقَلَ اللِّسَانِ.
 
وَلَا يَبْقَى أَيْ الْإِيمَانُ مَعَ تَبْدِيلِ التَّصْدِيقِ بَعْدَهُ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارُ مُلْحَقٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالزَّوَائِدُ فِي الْإِيمَانِ تَكْرَارُ الشَّهَادَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَذَا قِيلَ وَهُوَ أَيْ الْإِقْرَارُ فِي الْأُصُولِ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ مُعَبِّرٌ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَانْقَلَبَ أَيْ الْإِقْرَارُ مُنْضَمًّا إلَى التَّصْدِيقِ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْحُكْمِ وَلَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِقْرَارُ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ وَرُكْنُ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا غَيْرُ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ بَيَانِ حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا يَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ وَإِنْ كَانَا رُكْنَيْنِ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فِي بَابِ الرِّبَا، لَكِنَّ الْإِقْرَارَ صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْدِيقِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ كَمَا جُعِلَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا عِلَّةَ الْحُرْمَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِالْإِيمَانِ بِوُجُودِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ فَاتَ التَّصْدِيقُ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ أَوْ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنْ صَحَّ إيمَانُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ كَمَا حَكَمْنَا بِبَقَاءِ الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ التَّصْدِيقِ مَعَ فَوَاتِ الْإِقْرَارِ بِالْإِكْرَاهِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَالضَّمِيرُ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَبُنِيَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَجُعِلَ هُوَ أَصْلًا فِيهِ وَفِي اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ إعْلَاءُ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْمِيلٌ لِلْكَافِرِ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا مُنِعَ عَنْ إظْهَارِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ رُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ بِطَرِيقِ الْإِخْلَاصِ كَمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ وُضِعَتْ عَلَيْهِ لِتَحْمِلَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا عَايَنَ عِزَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَذَلَّةَ الْكُفْرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ يَثْبُتُ الْإِيمَانُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَحْيِ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَالْخَبَرُ ثُمَّ كَانَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُجَرَّدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِلِسَانِهِ لَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ أَيْ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ فِي الرِّدَّةِ دَلِيلٌ مَحْضٌ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ
(4/135)
 
 
وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ هِيَ الصَّلَاةُ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ أَصْلًا بِوَاسِطَةِ الْكَعْبَةِ كَانَتْ دُونَ الْإِيمَانِ الَّذِي صَارَ قُرْبَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، ثُمَّ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ وَهِيَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ وَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ وَالْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً هِيَ بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ وَهَذِهِ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
مِنْ الِاعْتِقَادِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّكَلُّمِ لَا رُكْنٌ فَإِنَّ الرُّكْنَ فِي الرِّدَّةِ تَبْدِيلُ الِاعْتِقَادِ لَا غَيْرُ وَهَذَا لَوْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ يَكْفُرُ وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَوْ جَعَلْنَا الْإِقْرَارَ فِي الرِّدَّةِ رُكْنًا لَكَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنَّا فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا كَانَ جَعْلُ الْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَانِ رُكْنًا سَعْيًا فِي إعْلَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ كَانَ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلًا مُعَارِضًا لَهُ فَلَمْ يُثْبِتْ الرِّدَّةَ.
 
قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ) الَّتِي هِيَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ وَهَذَا لَمْ تَخْلُ عَنْهَا شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ كَمَا وَقَعَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ مَنْ أَقَامَهَا فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ هَدَمَ الدِّينَ» شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ أَنْ يَعْرِفَ النِّعْمَةَ، ثُمَّ لَا يَسْتَعْمِلَهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ فِي عِصْيَانِ النِّعَمِ، ثُمَّ يُظْهِرَهَا بِمَقَالِهِ وَأَفْعَالِهِ لِكَوْنِ كِتْمَانِهَا كُفْرَانًا لَهَا.
، ثُمَّ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالنِّعْمَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِكَوْنِ الشُّكْرِ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ وَنِعْمَةُ الْبَدَنِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نِعَمٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ التَّقَلُّبِ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِانْحِنَاءِ وَعَلَى نِعَمٍ بَاطِنَةٍ مِنْ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْمَعَانِي فَشُرِعَتْ الصَّلَاةُ شُكْرًا لِنِعَمِ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَبَاطِنِهِ فَأَرْكَانُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الصُّورَةِ لَهَا تَعَلُّقٌ بِظَاهِرِ الْبَدَنِ وَجُعِلَ أَفْضَلَ أَرْكَانِهَا طُولُ الْقُنُوتِ لِيُعْرَفَ مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ قَدْرُ الرَّاحَةِ الَّتِي يَنَالُهَا بِالتَّقَلُّبِ عَلَى حَسَبِ الْإِرَادَةِ وَمُوَافَقَةِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَالنِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ الَّتِي هِيَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الشُّكْرِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» أَخْبَرَ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهَا أَيْ، لَكِنَّهَا كَذَا وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ الَّذِي عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأُمِرْنَا بِتَعْظِيمِهِ لِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] الْآيَةَ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى هَذِهِ الْقُرْبَةُ إلَّا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الْإِمْكَانِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] لِيَعْلَمَ بِهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَجْهُ اللَّهِ لَا جِهَةَ لَهُ فَجَعَلَ الشَّرْعُ اسْتِقْبَالَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّمَا مَقَامُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فِيهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَفِي الصَّلَاةِ تَقَرُّبٌ بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ فَكَانَتْ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ الزَّكَاةُ) أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَشْرُوعَةٌ لِإِظْهَارِ شُكْرِ النِّعْمَةِ بِهَا فِي الدِّينَا وَنَيْلِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَمَا أَنَّ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ بِعِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ الصَّلَاةُ فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ بِعِبَادَةٍ مُؤَدَّاةٍ بِجِنْسِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِيَعْرِفَ بِزَوَالِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَالِ الْمَرْغُوبِ فِي اقْتِنَائِهِ إلَى مَنْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْهُ نَفْعٌ وَبِمَا يَلْحَقُ طَبِيعَةٌ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْأَجْوَادِ إنَّا نَجِدُ فِي بَذْلِ الْمَالِ مَا يَجِدُهُ الْبُخَلَاءُ، وَلَكِنَّا نَتَصَبَّرُ وَلِهَذَا كَانَ الْجُودُ قَرِينَ الشُّجَاعَةِ وَقَلَّمَا يَفْتَرِقَانِ لِتَوَلُّدِهِمَا مِنْ قُوَّةِ الْقَلْبِ قَدْرَ مَا أَزَالَ إلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ وَأَتَى مِنْ الْبَسِيطَةِ فِي فَنُونِهَا إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ دُونَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ.
(4/136)
 
 
ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِنِعْمَةِ الْبَدَنِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَصْلِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ حَتَّى صَارَتْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
وَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وِقَايَةُ النَّفْسِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهَا وَيُنْتَفَعُ بِالنَّفْسِ بِدُونِ الْمَالِ فَكَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ أَعْلَى رُتْبَةً مِمَّا تَعَلَّقَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ وَقَوْلُهُ وَالْأَوْلَى صَارَتْ قُرْبَةً دَلِيلٌ آخَرُ أَيْ وَلِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي التَّوَجُّهِ إلَيْهَا بِوَجْهٍ وَقَدْ يَسْقُطُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا عِنْدَ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالسَّبُعِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ.
وَهَذِهِ أَيْ الزَّكَاةُ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِ فَإِنَّ الْمُؤَدِّيَ يَجْعَلُ الْمَالَ الْمُؤَدَّى خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ضِمْنِ صَرْفِهِ إلَى الْمُحْتَاجِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَتْ الزَّكَاةُ دُونَ الصَّلَاةِ بِدَرَجَةٍ؛ لِأَنَّ الْخُلُوصَ فِي الْأُولَى أَزْيَدُ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ فَكَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا بِهِ صَارَتْ عِبَادَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَفِي قَوْلِهِ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْفَقِيرِ حَقِيقَةَ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ حَتَّى صَارَ الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْفَقِيرِ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ إذَا ظَفِرَ بِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لَهُ حَقِيقَةً وَلَكِنْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِ وَيَسْتَحِقَّ هَذَا الْقَدْرَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْأَدَاءَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْفَقِيرِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ وَلَا يُقَالُ لِمَا وَجَبَ الصَّرْفُ إلَيْهِ لِفَقْرِهِ كَانَ الْمَالُ حَقَّهُ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا يَجِبُ لِفَقْرِهِ يَجِبُ رِزْقًا لَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الضَّامِنُ لِلرِّزْقِ دُونَ الْعَبِيدِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ هَذَا الْوَاجِبِ إلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ الْمَالُ حَقَّهُ قَبْلَ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَلَا يَخْرُجُ الزَّكَاةُ بِهِ عَنْ كَوْنِهَا عِبَادَةً خَالِصَةً قَوْلُهُ (ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ) يَعْنِي بَعْدَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدَنِيٌّ خَالِصٌ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ لِلرُّكُوبِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَلَا يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى أَفْعَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بَلْ يَتَأَدَّى بِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ فَكَانَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْكَانٍ تَتَأَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ.
وَدُونَ الزَّكَاةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَعْنِي فِي الْمَنْزِلَةِ لَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً فَإِنَّ الْبَيْتَ مُعَظَّمٌ بِتَعْظِيمِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَالْفَقِيرُ مُسْتَحِقٌّ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ بِفَقْرِهِ وَلَا قُبْحَ فِي صِفَةِ الْفَقْرِ، لَكِنَّ النَّفْسَ تَسْتَحِقُّ الْقَهْرَ لِمَيْلِهَا إلَى الشَّهَوَاتِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَكَوْنِهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَهَذِهِ صِفَةُ قُبْحٍ فَيَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَتْ أَقْوَى فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً وَأَقْرَبَ إلَى كَوْنِهَا مَقْصُودَةً وَلِهَذَا صَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الْبَاطِنِ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك» .
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَك وَهَوَاك» وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ أَنَّهَا دُونَهُمَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا ذَاتُ الْفَاعِلِ وَفِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُهُمَا وَخَارِجَةٌ عَنْ ذَاتِهِمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ذَاتُهُ وَاسِطَةً؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِيمَانِ أَيْضًا إذْ الْإِيمَانُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الذَّاتِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةُ مِثْلُ الْإِيمَانِ، لَكِنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَّا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ لَهَا فَكَانَ دُونَهَا وَكَذَا الزَّكَاةُ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ بِتَبَعٍ.
(4/137)
 
 
ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَسَفَرٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ بِبِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ فَكَانَتْ دُونَ الصَّوْمِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ، ثُمَّ الْجِهَادُ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَا هُنَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَصَارَتْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاسِطَةَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ مَقْصُودَةٌ بِالرَّدِّ وَالْمَحْوِ وَالِاعْتِكَافُ شُرِعَ لِإِدَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ مِنْ التَّوَابِعِ وَلِذَلِكَ اُخْتُصَّ بِالْمَسَاجِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
لِشَيْءٍ فَكَانَتْ فَوْقَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْجَهُ وَأَوْفَقُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ قَوْلُهُ (ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ) أَيْ عَنْ الْأَوْلَادِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَقْرَانِ وَالْإِخْوَانِ وَسَفَرٌ إلَى زِيَارَةِ بَيْتِ الرَّحْمَنِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ أَيْ تَخْتَصُّ بِبِقَاعٍ أَوْ تَقَعُ فِي بِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ وَأَوْقَاتٍ شَرِيفَةٍ مِنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهَا فَكَانَ الْحَجُّ دُونَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ كَأَنَّهَا أَيْ كَأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا هَجَرَ الْأَوْطَانَ وَجَانَبَ الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ وَانْقَطَعَ عَنْهُ مَوَادُّ الشَّهَوَاتِ فِي الْبَوَادِي وَانْسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهَا فِي الْفَيَافِي ضَعَّفَ نَفْسَهُ وَزَالَ عَنْهَا الْجَمُوحَةَ وَقَدَرَ عَلَى قَهْرِهَا بِالصَّوْمِ فَكَانَ الْحَجُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَسِيلَةِ إلَى الصَّوْمِ فَكَانَ دُونَهُ (فَإِنْ قِيلَ) الْوَسَائِطُ فِي الْحَجُّ جَمَادَاتٌ لَيْسَتْ لَهَا صَلَاحِيَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَاسِطَةُ فِي الصَّوْمِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْقَهْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فَوْقَ الصَّوْمِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: الْوَسَائِطُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، لَكِنَّ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِتِلْكَ الْبِقَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ لِلْكَعْبَةِ إذْ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ لِتَعْظِيمِهَا وَكَذَا مَعْنَى قَهْرِ النَّفْسِ الَّذِي فِي الصَّوْمِ مَوْجُودٌ فِي الْحَجِّ مَعَ هَذِهِ الْوَسَائِطِ فَلِذَلِكَ كَانَ دُونَ الصَّوْمِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ أَيْ قُرْبَةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِهَا تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ كَسُنَنِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهَا مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْوَسِيلَةِ لَا يُوجِبُ عَدَدًا مِنْ الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ، ثُمَّ الْجِهَادُ يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ فِي الرُّتْبَةِ الْجِهَادُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.
فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلُهُ فَرْضٌ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ إعْلَاءَ الدِّينِ فَرْضٌ عَلَى الْكُلِّ، لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا وَهِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالرَّدِّ وَالْإِعْدَامِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ لِإِزَالَةِ الْكُفْرِ وَإِعْدَامِهِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَحْصُلْ كَمَا فِي التَّغَيُّرِ الْعَامِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَذَلِكَ أَيْ الْكُفْرُ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ ثَابِتَةٌ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ أَمْرًا عَارِضًا فِيهِ فَالْجِهَادُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً أَصْلِيَّةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْوَسَائِطَ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا فَكَانَتْ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ أَصْلِيَّةً وَالِاعْتِكَافُ أَخَّرَ الِاعْتِكَافَ عَنْ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ الْفُرُوضِ وَالِاعْتِكَافُ مِنْ السُّنَنِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ إذْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِتَوَاتُرِ النِّعَمِ عَلَى الْعَبْدِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَرَضِيَ بِأَدَائِهَا فِي أَزْمِنَةٍ قَلِيلَةٍ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ فَكَانَ الِاعْتِكَافُ أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إدَامَةُ الصَّلَاةِ إمَّا بِالِاشْتِغَالِ بِحَقِيقَةِ الْأَدَاءِ وَبِالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ صَحَّ النَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسهِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِالصَّلَاةِ مَعْنًى وَالتَّابِعُ لِلشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إدَامَةُ الصَّلَاةِ اُخْتُصَّ الِاعْتِكَافُ بِالْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ أَمْكِنَةُ الصَّلَاةِ وَالْمُعَدَّةُ لَهَا.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ زَائِدَةٌ يَعْنِي عَلَى الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ الْمَكَانِ الْمُعَظَّمِ بِالْمُقَامِ فِيهِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ
(4/138)
 
 
وَالْعِبَادَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَلَمْ تَكُنْ خَالِصَةً حَتَّى لَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ.
 
وَالْمُؤْنَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ هِيَ الْعُشْرُ حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ عَلَى الْكَافِرِ وَأَجَازَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَقَاءَهُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الِاشْتِغَالُ بِالزِّرَاعَةِ وَهِيَ الذُّلُّ فِي الشَّرِيعَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ مُؤْنَةً لِحِفْظِ الْأَرْضِ وَإِنْزَالِهَا وَلِذَلِكَ لَا يُبْتَدَأُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَجَازَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لِمَا تَرَدَّدَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
وَلِمَا فِي شَرْطِهَا مِنْ مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالْمَقْصُودُ بِهَا تَكْثِيرُ الصَّلَوَاتِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فِي مَكَانِهَا عَلَى صِفَةِ الِاسْتِعْدَادِ بِالطَّهَارَةِ.
 
قَوْلُهُ (وَالْعِبَادَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ) الْمَئُونَةُ الثِّقَلُ فَعُولَةٌ مِنْ مَأَنْت الْقَوْمَ أَمْأَنُهُمْ إذَا احْتَمَلْت مَئُونَتَهُمْ وَقِيلَ: الْعُدَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَانِي فُلَانٌ وَمَا مَأَنْتُ لَهُ مَأْنًا إذَا لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ وَقِيلَ: إنَّهَا مِنْ مِنْت الرَّجُلَ أَمُونُهُ وَالْهَمْزَةُ فِيهَا كَهِيَ فِي أَدْؤُرٍ وَقِيلَ: هِيَ مُفْعَلَةٌ مِنْ الْأَوْنِ وَهُوَ الْخَرْجُ وَالْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ ثِقَلٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أَوْ مِنْ الْأَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ.
وَهَذَا الْوَاجِبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْمَئُونَةِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ فِي الشَّرْعِ صَدَقَةٌ وَكَوْنُهُ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَاعْتِبَارُ صِفَةِ الْغِنَاءِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهِ حَتَّى لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ بِحَالٍ وَعَدَمُ صِحَّةِ أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ زَكَّى مَالَهُ وَتَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْوَقْتِ وَوُجُوبُ صَرْفِهِ إلَى مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً.
وَوُجُوبُهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ رَأْسِ الْغَيْرِ وَكَوْنُ الرَّأْسِ فِيهِ سَبَبًا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ كَالنَّفَقَةِ وَإِلَى مَعْنَى الْمَئُونَةِ أَشَارَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونِ» إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَمَّا كَانَ رَاجِحًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي قُلْنَا هَذَا الْوَاجِبُ عِبَادَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ وَلَمَّا قَصَرَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً خَالِصَةً لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا شُرِطَ لِلْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْغَنِيَّيْنِ فِي مَالِهِمَا كَنَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنْفُسِهِمَا وَرَقِيقُهُمَا يَتَوَلَّى أَدَاءَ ذَلِكَ عَنْ مَالِهِمَا الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ الْجَدُّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌ وَلَا وَصِيُّ أَبٍ أَوْ وَصِيُّ الْجَدِّ بَعْدَ الْجَدِّ أَوْ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي لَهُمَا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي مَالِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَنِيًّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَدَّاهَا مِنْ مَالِهِمَا ضَمِنَ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْأَبِ بِسَبَبِ رَأْسِ الْوَلَدِ كَمَا يَجِبُ بِسَبَبِ رَأْسِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ضَمِنَ كَمَا إذَا أَدَّى صَدَقَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ عِنْدَهُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِ يُبْنَى الْوُجُوبُ وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَا: فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الْمَئُونَةِ كَمَا بَيَّنَّا فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَمْ تَجِبْ مَعَ الْفَقْرِ كَالزَّكَاةِ وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ صَحَّ الْإِيجَابُ عَلَى الصَّغِيرِ كَالْعُشْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ وَكَلَامُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَوْضَحُ.
 
قَوْلُهُ (وَالْمَئُونَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ هِيَ الْعُشْرُ) .
لِأَنَّ سَبَبَهُ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَبِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْأَرْضِ هُوَ مَئُونَةٌ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ الشَّيْءِ سَبَبُ بَقَائِهِ وَالْعُشْرُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرْضِ وَبِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالنَّمَاءِ وَهُوَ الْخَارِجُ كَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَصْرِفَهُ الْفُقَرَاءُ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَأَخَذَ شَبَهًا بِالزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّمَاءُ وَصْفٌ تَابِعٌ وَكَذَا الْمَحَلُّ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَابِعٌ فَكَانَ مَعْنَى الْمَئُونَةِ فِيهِ أَصْلًا وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَبَعًا حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا، لَكِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْقُرْبَةِ بِوَجْهٍ وَأَجَازَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَقَاءَهُ عَلَى الْكَافِرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَالْخَرَاجُ
(4/139)
 
 
وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْعُشْرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْقَلِبُ خَرَاجِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ تَضْعِيفُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي صِفَةَ الْقُرْبَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَبْقَى الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا يَبْقَى الْخَرَاجُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ فِي صَرْفِ الْعُشْرِ الْبَاقِي عَلَى الْكَافِرِ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ خَرَاجِيًّا فِي رِوَايَةٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا بِشَرْطِ التَّضْعِيفِ لَكِنَّ التَّضْعِيفَ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَرَاجُ فَصَارَ الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
مَئُونَةٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرْضِ كَالْعُشْرِ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَيْ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهِ فِي الْأَصْلِ أَوْ سَبَبُ وَضْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَرْضُ عَلَى مَا مَرَّ الِاشْتِغَالُ بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً وَأَقَرَّ أَهْلَهَا فَلَمْ يُسَلِّمُوا وَاشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَضَعَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أُرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ فَكَانَ سَبَبُ وَضْعِهِ الِاشْتِغَالَ بِالزِّرَاعَةِ وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ رَأَى آلَةَ الزِّرَاعَةِ فِي دَارِ قَوْمٍ مَا دَخَلَ هَذَا دَارَ قَوْمٍ إلَّا ذُلُّوا» وَذَلِكَ لِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَ