كشف الأسرار شرح أصول البزدوي 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي
المؤلف: عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري الحنفي (المتوفى: 730هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
فَوَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشْهُورٌ وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي اجْتِهَادِهِمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَانُوا لَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ إنْ أَخْطَأْت فَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
الصَّحَابِيِّ قَطْعِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ فِي حَقِّنَا لِسَمَاعِهِ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِي حَقِّ التَّابِعِيِّ وَمَنْ دُونَهُ ظَنِّيٌّ لِتَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِتَخَلُّلِهَا أَثَرًا فِي الضَّعْفِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْوَى فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ قَدْ وُجِدَ مِمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ نَصٍّ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ إنَّمَا أَفْتَوْا بِنَصٍّ ظَهَرَ لَهُمْ أَيْ بِرَأْيٍ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ نَصٍّ وَلَوْ ثَبَتَ عَنْهُمْ قَوْلٌ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ لَقُلْنَا: إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نَقْلٍ وَلَجَعَلْنَاهُ حُجَّةً أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.
، فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتُمْ فِي الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ فِيهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدَّرَ مُدَّةَ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ بِثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ مُدَّةَ وُجُوبِ مَنْعِ الْمَالِ مِنْ السَّفِيهِ الَّذِي لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مُدَّةَ تَمَكُّنِ الرَّجُلِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا مَا يَطْهُرُ بِهِ الْبِئْرُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دَلْوًا فَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ، وَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ جِهَةُ السَّمَاعِ فِي ذَلِكَ إذَا قَالَهُ صَحَابِيٌّ قُلْنَا: إنَّمَا أَرَدْنَا بِمَا قُلْنَا الْمَقَادِيرَ الَّتِي تَثْبُتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً دُونَ مِقْدَارٍ يَكُونُ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَإِنَّ الْمَقَادِيرَ فِي الْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتِ نَحْوُ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ مِمَّا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِمَّا أَشَرْنَا إلَيْهِ فَأَمَّا مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يَكُونُ بَالِغًا وَأَنَّ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً يَكُونُ بَالِغًا ثُمَّ التَّرَدُّدُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي إزَالَةِ التَّرَدُّدِ وَهُوَ نَظِيرُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ وَمَعْرِفَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالتَّقْدِيرِ فِي النَّفَقَةِ، فَإِنَّ لِلرَّأْيِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا
وَكَذَلِكَ حُكْمُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السَّفِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
وَقَالَ {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْكِبَرِ عَلَى وَجْهٍ يُتَيَقَّنُ مَعَهُ بِنَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا فَقَدْ تَنَاهَى فِي الْأَصْلِيَّةِ نَتَيَقَّنُ لَهُ بِصِفَةِ الْكِبَرِ وَنَعْلَمُ إينَاسَ رُشْدٍ مَا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَلَغَ أَشُدَّهُ، فَإِنَّهُ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنَّهُ هَذِهِ الْمُدَّةُ وَكَذَلِكَ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِسَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيمَا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الْمُدَّةِ فَاعْتُبِرَ الرَّأْيُ فِيهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ فَأَمَّا حُكْمُ طَهَارَةِ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ، فَإِنَّمَا عَرَفْنَا بِآثَارِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ فَتْوَى عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنْ النَّزْحِ وَالْكَثِيرِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلرَّأْيِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَتِهِ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ) فَوَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ كَذَا تَمَسَّكَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِيهِمْ الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ ظُهُورًا لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ، وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي اجْتِهَادِهِمْ ثَابِتٌ لِكَوْنِهِمْ غَيْرَ مَعْصُومِينَ عَنْ الْخَطَأِ كَسَائِرِ
(3/220)
 
 
بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ مِثْلَ مَا عَمِلُوا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» الْخَبَرَ.
 
وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَدُوا بِاَلَّذِينً مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
الْمُجْتَهِدِينَ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ كَقَوْلِ غَيْرِهِمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرْجِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ فَتْوَاهُ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ وَكَانُوا لَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمَا جَازَ لَهُمْ الْمُخَالَفَةُ بِآرَائِهِمْ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِمْ دُعَاءُ النَّاسِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَمُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ حَرَامٌ وَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ وَاجِبَةٌ كَالدَّعْوَةِ إلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ، فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ فَثَبَتَ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِيهِ ثَابِتٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمْ يَجُزْ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ أَيْ تَقْلِيدُ مِثْلِ الصَّحَابِيِّ وَتَرْكُ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ عَنْ اجْتِهَادٍ أَوْ حَدِيثٍ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ الْأَصْلُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فَرْعُ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَتْبَعُونَهُ لَا فَرْعُ أَصْلٍ آخَرَ فَيُخَالِفُونَهُ.
وَإِنْ كَانَ عَنْ حَدِيثٍ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَأَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الْحَدِيثِ وَبِدُونِ الْبَاقِي يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَحُكْمُهُ فَلَا يَتْرُكُ الْحُجَّةَ بِالِاحْتِمَالِ وَلِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ لِكَوْنِهِمْ أَعْلَمَ وَأَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِمُشَاهَدَتِهِمْ التَّنْزِيلَ وَسَمَاعِهِمْ التَّأْوِيلَ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ صَحَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ إذْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ (بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ) جَوَابٌ عَمَّا تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ» فَقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْجَرْيِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ أَخْذِهِمْ الْحُكْمَ مِنْ الْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ لَا تَقْلِيدُهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَبَّهَهُمْ بِالنُّجُومِ، وَإِنَّمَا يُهْتَدَى بِالنُّجُومِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّجْمِ يُوجِبُ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ هَذَا النَّصُّ عَمَّ الصَّحَابَةَ وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَأَعْرَابٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَهْلَ الْبَصَرِ وَأَهْلُ الْبَصَرِ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ بَعْدَ الْكِتَابِ فِي السُّنَّةِ فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ.
 
قَوْلُهُ (وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ) أَيْ وَمَنْ قَالَ بِتَقْلِيدِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ أَيْ اخْتِصَاصِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ بِفَضَائِلَ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ. وَكَلِمَةُ " مِنْ " فِي " مِمَّا " بَيَانٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَفِي مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ بَيَانٌ بِمَا رُوِيَ يَعْنِي لِلتَّمَسُّكِ وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِالْفَضَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَرَضِيت لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ»
(3/221)
 
 
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِرَأْيِهِمْ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
«وَلِكُلِّ شَيْءٍ فَارِسٌ وَفَارِسُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ» «وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» لَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُوجِبُ نَفْسَ الْفَضِيلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ بِلَالٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّ الْجَنَّةَ إلَى سَلْمَانَ أَشْوَقُ مِنْ سَلْمَانَ إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى زُهْدِ عِيسَى فَلْيَنْظُرْ إلَى زُهْدِ أَبِي ذَرٍّ» وَأَمْثَالُهَا.
قَوْلُهُ (وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ) احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] مَدَحَ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ التَّابِعُونَ لَهُمْ هَذَا الْمَدْحَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ إلَى رَأْيِهِمْ دُونَ الرُّجُوعِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي قَوْلٍ وُجِدَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ، فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يَكُونُ مَوْضِعَ اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ بِاتِّبَاعِ الْبَعْضِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْبَعْضِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَكَانَ النَّصُّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] اتَّبَعُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ وَقِيلَ: يَقْتَدُونَ بِأَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ وَلَا يَقْتَدُونَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَقِيلَ يَذْكُرُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَيَذْكُرُونَ مَحَاسِنَهُمْ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ احْتِمَالَ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثَابِتٌ بَلْ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِالْخَبَرِ، وَإِنَّمَا يُفْتِي بِالرَّأْيِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَيُشَاوِرُ مَعَ الْقُرَنَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ اشْتَغَلَ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ السَّمَاعُ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَاحِبُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَصْلًا فِيهِمْ فَلَا يَجْعَلُ فَتْوَاهُمْ مُنْقَطِعَةً عَنْ السَّمَاعِ إلَّا بِدَلِيلٍ
قَوْلُهُ (وَكَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ مُبِينًا عَلَى السَّمَاعِ لَأَسْنَدَهُ إلَى النَّبِيِّ وَقَالَ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ التَّبْلِيغُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ كِتْمَانُ مَا بُلِّغَ إلَيْهِمْ وَلَمَّا لَمْ يُسْنِدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَقَالَ: قَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْفَتْوَى إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ يُوَافِقُ فَتْوَاهُمْ كَمَا كَانُوا يُسْنِدُونَهُ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكِتْمَانِ إذْ الْوَاجِبُ بَيَانُ الْحُكْمِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَا غَيْرُ إلَّا إذَا سُئِلَ عَنْ مُسْتَنَدِ الْحُكْمِ فح يَجِبُ الْإِسْنَادُ، وَإِذَا ثَبَتَ احْتِمَالُ السَّمَاعِ فِي قَوْلِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّأْيِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يُوَافِقُهُ وَيُقِرُّهُ فَكَانَ تَقْدِيمُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الرَّأْيِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَالثَّانِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ كَانَ صَادِرًا عَنْ الرَّأْيِ فَرَأْيُ الصَّحَابَةِ أَقْوَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا طَرِيقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَشَاهَدُوا الْأَحْوَالَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا النُّصُوصُ وَالْمَحَالَّ
(3/222)
 
 
وَقَدْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ هُوَ النِّهَايَةَ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ السُّنَّةُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا وَشِبْهِهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ حُجَّةً وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ بِأَثَرِهِ الثَّابِتِ شَرْعًا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ عَامَّةً وُجُوهَ السُّنَنِ ثُمَّ مَالَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشَّبَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ إلَّا كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَجَعَلَ الِاحْتِيَاطَ مَدْرَجَةً إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِاعْتِبَارِهَا الْأَحْكَامُ وَلِأَنَّ لَهُمْ زِيَادَةَ جِدٍّ وَحِرْصٍ فِي بَذْلِ مَجْهُودِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِمَا هُوَ تَثْبِيتُ قِوَامِ الدِّينِ وَزِيَادَةَ احْتِيَاطٍ فِي حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَضَبْطِهَا وَطَلَبِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُمْ غَايَةَ التَّأَمُّلِ وَفَضْلَ دَرَجَةٍ لَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ» .
وَقَوْلِهِ «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي وَأَصْحَابِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي إصَابَةِ الرَّأْيِ وَكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنْ الْخَطَأِ فَبِهَذِهِ الْمَعَانِي تَرَجَّحَ رَأْيُهُمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِمْ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الرَّأْيَيْنِ إذَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا نَوْعُ تَرْجِيحٍ وَجَبَ الْأَخْذُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ رَأْيِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ وَرَأْيِ الْوَاحِدِ مِنَّا يَجِبُ تَقْدِيمُ رَأْيِهِ عَلَى رَأْيِنَا لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي رَأْيِهِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ جِهَةَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ لَظَهَرَ لِاتِّحَادِ مَكَانِهِمْ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَمُشَاوَرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ قُرَنَائَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ، وَلَوْ ظَهَرَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَوَصَلَ إلَيْنَا مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لِنَصْبِ أَنْفُسِهِمْ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِجْمَاعُ يَجِبُ الْعَمَلُ قَطْعًا، فَإِذَا تَرَجَّحَ جِهَةُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقِيَاسٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِمَا ذَكَرْنَا خُرِّجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَتْ الدَّلَائِلُ الْمُحْتَمَلَةُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَعَ احْتِمَالِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا وَقَعَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يَظْهَرْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خِلَافُ غَيْرِهِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ.
، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي مَرَّتْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الرَّأْيِ أَعْلَمُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ عَرَفَ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعَامِّيَّ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ الْمَعْنِيِّ الْمُجْتَهِدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَدَعُ الْمُجْتَهِدُ فِي زَمَانِنَا رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ وَفِي مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ مِنَّا وَالْمُجْتَهِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَةِ لَا يَخْفَى فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا أَحْوَالَ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَسَمِعُوا مِنْهُ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.
، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ تَأْوِيلَ الصَّحَابِيِّ لِلنَّصِّ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى تَأْوِيلِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ قُلْنَا: إنَّ التَّأْوِيلَ يَكُونُ بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُوهِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ وَلَا مِزْيَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ مِنْ مَعَانِي اللِّسَانِ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّأَمُّلُ فِي النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَلِأَجْلِهِ يَظْهَرُ لَهُمْ الْمِزْيَةُ
(3/223)
 
 
فَصَارَ الطَّرِيقُ الْمُتَنَاهِي فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا عَلَى الْكَمَالِ هُوَ طَرِيقَ أَصْحَابِنَا بِحَمْدِ اللَّهِ إلَيْهِمْ انْتَهَى الدِّينُ بِكَمَالِهِ وَبِفَتْوَاهُمْ قَامَ الشَّرْعُ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ بِخِصَالِهِ لَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَانِحٍ وَالشُّرُوطُ كَثِيرَةٌ لَا يَجْمَعُهَا كُلُّ طَالِبٍ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ بَلَغَ غَيْرَ قَائِلِهِ فَسَكَتَ مُسَلِّمًا لَهُ، فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي أَقْوَالِهِمْ لَا يَعْدُوهُمْ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَسْقُطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ بِالتَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ سَقَطَ احْتِمَالُ التَّوْقِيفِ وَتَعَيَّنَ وَجْهُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ تَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ كَتَعَارُضِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِأَيِّهَا شَاءَ الْمُجْتَهِدُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا غَيْرُ ثُمَّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ
 
وَأَمَّا التَّابِعِيُّ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْفَتْوَى فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُزَاحِمْهُمْ فِي الرَّأْيِ كَانَ أُسْوَةَ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ السَّلَفِ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
بِمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الْخِطَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ وَلَا يُقَالُ هَذِهِ أُمُورٌ بَاطِنَةٌ، وَإِنَّمَا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ مُسْتَقِيمٌ عِنْدَنَا وَلَكِنْ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْبَاطِنِ فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُمَا جَمِيعًا فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ اعْتِبَارَهُمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَفِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ اعْتِبَارُهُمَا وَفِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى كَذَا قَرَّرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قَوْلُهُ (فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ) أَيْ إيجَابُ مُتَابَعَةِ الصَّحَابِيِّ وَتَقْلِيدِهِمْ أَوْ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي بَابِ السُّنَّةِ مِنْ قَبُولِ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ رِوَايَةً وَالْمَعْرُوفِ وَالْمَجْهُولِ وَإِيجَابِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ لِلسُّنَّةِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْآحَادِ وَالْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ وَغَيْرِهَا وَشَبَهِهَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ أَيْ ثُمَّ يَكُونُ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ وَهِيَ الْإِحَالَةُ وَالسُّنَّةُ وَالطَّرْدُ وَالْقِيَاسُ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ حُجَّةً بَعْدَ جَمِيعِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ وَشَبَهِهَا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَامَّةَ وُجُوهِ السُّنَنِ، فَإِنَّهُ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ مِنْ الْقُرُونِ الْأُولَى مَعَ شَهَادَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ وَفِيهِ تَعْطِيلُ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ يَرَ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ إعْرَاضٌ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةُ السَّمَاعِ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ أَيْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ أَيْ لَمْ يُجَوِّزْ الْعَمَلَ بِهِ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِثْلُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ الظَّاهِرِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ فَجَعَلَ أَيْ الشَّافِعِيُّ الِاحْتِيَاطَ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَرَاسِيلَ وَرِوَايَةَ الْمَجْهُولِ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ احْتِيَاطًا مَدْرَجَةً أَيْ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إلَى الْوُقُوعِ فِي الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ قِيَاسُ الشَّبَهِ وَفِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ أَيْ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ شُبْهَةٌ فَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ أَوْلَى أَوْ جَعْلِهِ وَسِيلَةً إلَى الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ نَفْسُ الْقِيَاسِ، وَإِنَّهُ مُظْهِرٌ وَلَيْسَ بِمُثْبِتٍ وَفِي أَصْلِهِ شَبَهٌ أَنَّهُ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ إنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِهَا قَامَ الشَّرْعُ بِخِصَالِهِ أَيْ مُلْتَبِسًا بِخِصَالِهِ وَهِيَ مَحَاسِنُهُ وَأَحْكَامُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّكُمْ قَدَّمْتُمْ شُبْهَةَ السَّمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبْتُمْ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ قَدَّمْتُمْ الْقِيَاسَ عَلَى حَقِيقَةِ السَّمَاعِ فِي حَدِيثِ الْمُصِرَّاتِ وَأَمْثَالِهِ مَعَ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْعَدَالَةِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَجَلِّ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا الْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ كُلِّ صَحَابِيٍّ وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو الْحَسَنِ مَعَ جَمَاعَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَلَكِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَفِي شَرْحِ الْبُيُوعِ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطٌ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَنَا وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: «أَصْحَابِي
(3/224)
 
 
وَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِتَسْلِيمِهِمْ مُزَاحَمَتَهُ إيَّاهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ وَهُوَ دُونَهُمْ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّوْقِيفِ فِيهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ شُرَيْحًا خَالَفَ عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ لَهُ فِي الْمَشُورَةِ قُلْ أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَبْظَرُ وَخَالَفَ مَسْرُوقٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي النَّذْرِ بِنَحْرِ الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى فَتْوَاهُ وَلِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهِمْ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
كَالنُّجُومِ» أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْهُمْ أَيْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَهُمْ الْفُقَهَاءُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ فُقَهَاؤُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ انْدَفَعَ التَّنَاقُضُ فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَى احْتِمَالِ السَّمَاعِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا إذَا رُوِيَ خَبَرٌ أَوْ عَلَى احْتِمَالِ عَدَمِهِ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا تَنَاقُضَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا كَانَ مُقَدَّمًا فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ فَقِيهٍ إذَا انْسَدَّ بَابُ الرَّأْيِ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَهَاهُنَا لَمْ يَنْسَدَّ بِقَوْلِهِ بَابُ الرَّأْيِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنَّهُ قَالَهُ عَنْ رَأْيٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ لَزِمَ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الرَّأْيِ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا إلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُنَا الْعَلَامَةُ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَقَالَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَيْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي كَذَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابِيِّ قَوْلٌ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تَحْتَمِلْ الِاشْتِهَارَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَقَعُ بِهَا الْبَلْوَى وَالْحَاجَةُ لِلْكُلِّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ مَا اُشْتُهِرَ عَادَةً ثُمَّ ظَهَرَ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي حَادِثَةٍ مِنْ حَقِّهَا الِاشْتِهَارُ لَا مَحَالَةَ وَلَا تَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ بِأَنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ وَالْبَلْوَى يَعُمُّ الْعَامَّةَ وَاشْتُهِرَ مِثْلُهَا فِيمَا بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ فَهَذَا إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي الْإِجْمَاعِ
وَكَذَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مِنْ صَحَابِيٍّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ وَلَا إنْكَارٌ وَرَدٌّ إذْ لَوْ كَانَ وُرُودُهُ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَانَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ كَانَ إجْمَاعًا فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ رَدٌّ، وَإِنْكَارٌ كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ أَوْ الْعَمَلَ عِنْدَ تَعَذُّرِ التَّرْجِيحِ بِأَيِّهَا شَاءَ وَعَدَمُ جَوَازِ إحْدَاثِ قَوْلٍ آخَرَ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ أَيْ بِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ فَوَجَبَ نَقْضُ الْأَوَّلِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ كَانَ أُسْوَةً أَيْ مِثْلُ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ يُقَالُ: هُمْ أُسْوَةٌ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَيْ مُتَسَاوُونَ وَذُكِرَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الْأُسْوَةَ بِمَعْنَى التَّبَعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.
 
[تَقْلِيد التَّابِعِينَ]
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ) كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَلْقَمَةَ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ مِثْلَ الصَّحَابَةِ فِي وُجُوبِ التَّقْلِيدِ عَنْ الْبَعْضِ.
ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ فِي تَقْلِيدِ التَّابِعِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ نَجْتَهِدُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَالثَّانِيَةُ مَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَأَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فَأَنَا أُقَلِّدُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى صَارَ مِثْلَهُمْ بِتَسْلِيمِهِمْ مُزَاحَمَتَهُ إيَّاهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا تَحَاكَمَ إلَى شُرَيْحٍ وَكَانَ عُمَرُ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ فَخَالَفَ عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ لَهُ لِلْقَرَابَةِ وَكَانَ مِنْ رَأْيِ
(3/225)
 
 
(بَابُ الْإِجْمَاعِ)
الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي رُكْنِهِ وَأَهْلِيَّةِ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ وَشَرْطِهِ وَحُكْمِهِ وَسَبَبِهِ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَنَوْعَانِ عَزِيمَةٌ وَرُخْصَةٌ أَمَّا الْعَزِيمَةُ فَالتَّكَلُّمُ مِنْهَا بِمَا يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ أَوْ شُرُوعَهُمْ فِي الْفِعْلِ فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَوَازُ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ وَخَالَفَ مَسْرُوقٌ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَوْجَبَ مَسْرُوقٌ فِيهِ شَاةً بَعْدَمَا أَوْجَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُسَوِّغُونَ الِاجْتِهَادَ لِلتَّابِعِينَ وَيَرْجِعُونَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَيَعُدُّونَهُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَقْلِيدُهُمْ كَتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَلِفَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي الرَّأْيِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَانِكَ مَفْقُودَانِ فِي حَقِّ التَّابِعِيِّ.
وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَمْثِلَةِ؛ لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَزَاحَمُوهُمْ فِيهَا وَأَنَّ الصَّحَابَةَ سَلَّمُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ وَلَكِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّقْلِيدِ مِنْ احْتِمَالِ السَّمَاعِ وَمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ التَّنْزِيلِ وَبَرَكَةِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ بِحَالٍ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى وَجْهٍ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا جَاءَنَا عَنْ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُ يَعْنِي فِي الْفَتْوَى فَنُفْتِي بِخِلَافِ رَأْيِهِمْ بِاجْتِهَادِنَا إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى لَا يَتِمَّ إجْمَاعُهُمْ مَعَ خِلَافِهِ فَعِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَعْتَبِرْ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ وَالشَّيْخُ اعْتَبَرَهَا وَأَثْبَتَ الْخِلَافَ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْوَالَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ قُلْنَا: إنَّمَا ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُخْتَرِعًا بَلْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ وَافَقَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا لِبَيَانِ أَنَّهُ يُقَلِّدُهُمْ وَالْأَبْظَرُ هُوَ الَّذِي فِي شَفَتَيْهِ بُظَارَةٌ وَهِيَ هِنَّةٌ نَابِتَةٌ فِي وَسَطِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا وَلَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقِيلَ الْأَبْظَرُ الصِّحَارُ الطَّوِيلُ اللِّسَانِ وَجَعَلَهُ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ سَبْيُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[بَابُ الْإِجْمَاعِ]
[أَرْكَان الْإِجْمَاع]
(بَابُ الْإِجْمَاعِ) الْإِجْمَاعُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعَزْمُ يُقَالُ: أَجْمَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أَيْ اعْزِمُوا عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لَمَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» أَيْ لَمْ يَعْزِمْ، وَالِاتِّفَاقُ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا أَيْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مُتَصَوَّرٌ مِنْ وَاحِدٍ وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا وَفِي الشَّرِيعَةِ قِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جُمْلَةُ مَنْ اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحَدٍ وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ خَلَا عَصْرٌ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَاتَّفَقُوا
(3/226)
 
 
لِأَنَّ رُكْنَ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَقُومُ بِهِ أَصْلُهُ وَالْأَصْلُ فِي نَوْعَيْ الْإِجْمَاعِ مَا قُلْنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا شَرْعِيًّا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ انْطِبَاقِ هَذَا الْحَدِّ عَلَيْهِ وَغَيْرَ مُنْعَكِسٍ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ وَالْمُجْتَهِدِينَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ كَانَ إجْمَاعًا مَعَ خُرُوجِهِمَا عَنْ هَذَا الْحَدِّ لِكَوْنِهِمَا غَيْرَ دِينِيَّيْنِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْجُودُونَ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ كَوْنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ إجْمَاعًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ وَقِيلَ هُوَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ آرَاءِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ.
وَقِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ: إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّفَاقِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَأُرِيدَ بِالِاتِّفَاقِ الِاشْتِرَاكُ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ. وَإِذَا أَطْبَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الدَّالَيْنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَاحْتَرَزَ بِلَفْظِ الْمُجْتَهِدِينَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقِ بِالْجَمِيعِ عَنْ اتِّفَاقِ غَيْرِهِمْ كَالْعَامَّةِ وَاتِّفَاقِ بَعْضِهِمْ وَبِقَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَبِقَوْلِهِ فِي عَصْرٍ عَنْ إيهَامِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِاتِّفَاقِ مُجْتَهِدِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لِتَنَاوُلِ لَفْظِ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعَهُمْ، وَإِنَّمَا قِيلَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لِيَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مُتَصَوَّرٌ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ وَالنَّظَّامُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تَصَوُّرَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ انْتِشَارَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْحُكْمِ إلَيْهِمْ عَادَةً، فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ الِاتِّفَاقُ الَّذِي هُوَ فَرْعُ تَسَاوِيهِمْ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ إلَيْهِمْ وَبِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَاطِعٍ أَوْ ظَنٍّ إذْ لَا ثَالِثَ وَلَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ مُسْتَنَدٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ قَاطِعٍ فَالْعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ وَتَوَاطُؤِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى إخْفَائِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ ظَنٍّ فَالِاتِّفَاقُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ عَادَةً أَيْضًا لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كَانَ مُتَصَوَّرًا فِي الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ يَكُونُ مُتَصَوَّرًا فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُوجَدُ سَبَبٌ يَدْعُو إلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ لَوُجِدَ أَيْضًا سَبَبٌ يَدْعُو إلَى إجْمَاعِهِمْ بِاعْتِقَادِ الْأَحْكَامِ، وَالِانْتِشَارُ إنَّمَا يَمْنَعُ عَنْ النَّقْلِ عَادَةً إذَا لَمْ يَكُونُوا مُجِدِّينَ وَبَاحِثِينَ فَأَمَّا إذَا كَانُوا كَذَلِكَ فَلَا وَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ أَيْضًا عَدَمَ نَقْلِ الْقَاطِعِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ نَقْلِهِ بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ عَلَى حُكْمِهِ كَالْإِجْمَاعِ فِي مِثَالِنَا، فَإِنَّهُ أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ.
وَكَذَا اخْتِلَافُ الْقَرَائِحِ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ الِاتِّفَاقِ فِيمَا هُوَ خَفِيٌّ مِنْ الظَّنِّ لَا فِيمَا هُوَ جَلِيٌّ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بَلْ يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْكُلِّ بِالنَّظَرِ فِيهِ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ وَيَبْطُلُ جَمِيعُ مَا ذَكَرُوا بِالْوُقُوعِ، وَإِنَّا نَعْلَمُ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِ النَّصِّ الْقَاطِعِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَبِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ إخْفَاءِ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَزِيَادَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ بَلْ وَاقِعٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ رُكْنِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَأَهْلِيَّةُ مَنْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِ أَيْ بِرَأْيِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ إذْ لَا بُدَّ لِكَوْنِ الشَّيْءِ مُعْتَبَرًا مِنْ صُدُورِ رُكْنِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ
(3/227)
 
 
وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَأَنْ يَتَكَلَّمَ الْبَعْضُ وَيَسْكُتَ سَائِرُهُمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي الْحَادِثَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْفِعْلِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا بُدَّ مِنْ النَّصِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ بَعْدَ صُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَحُكْمُهُ أَيْ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِهِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَى الْإِجْمَاعِ الْجَامِعِ لِلْآرَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِمُسْتَنِدِ الْإِجْمَاعِ، عَزِيمَةٌ وَهِيَ مَا كَانَ أَصْلًا فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إذْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيُّ وَرُخْصَةٌ وَهِيَ مَا جُعِلَ إجْمَاعًا لِضَرُورَةٍ إذْ مَبْنَى الرُّخْصَةِ عَلَى الضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا الْعَزِيمَةُ فَالتَّكَلُّمُ بِمَا يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ أَوْ شُرُوعُهُمْ فِي الْفِعْلِ فِيمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِيمَا يَسْتَوِي الْكُلُّ فِي الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى الْعَامِّ فِيهِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا أَوْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ الْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِعَدَمِ الْبَلْوَى الْعَامِّ لَهُمْ فِيهِ كَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَفَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ مِمَّا يَجِبُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَفْعَالِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَخْرَجَ الشَّرْعِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الشَّرْعُ.
وَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْأَفْعَالِ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ فَيَصِحُّ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ إذَا وُجِدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ مَا فَعَلُوا وَكَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مَا لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا فَرْضٍ.
 
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الرُّخْصَةُ) فَكَذَا سُمِّيَ هَذَا الْقِسْمُ رُخْصَةً؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ إجْمَاعًا ضَرُورَةً لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نِسْبَتِهِمْ إلَى الْفِسْقِ وَالتَّقْصِيرِ فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي عَصْرٍ إلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ عَصْرِهِ وَمَضَى مُدَّةُ التَّأَمُّلِ فِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَعْنِي إذَا فَعَلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِعْلًا وَعَلِمَ بِهِ أَهْلُ زَمَانِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ يَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَيُسَمَّى هَذَا إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا كَانَ تَرْكُ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ فِي غَيْرِ حَالَةِ التَّقِيَّةِ وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الرِّضَاءِ وَتَرْكَ النَّكِيرِ فِي حَالَةِ التَّقِيَّةِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَلْ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ رُخْصَةً فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الرِّضَا وَكَذَا السُّكُوتُ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الرَّدِّ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ حَلَالٌ شَرْعًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَاءِ فَلِهَذَا شَرَطْنَا مَعَ السُّكُوتِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ زَوَالَ التَّقِيَّةِ وَمُضِيَّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ ثُمَّ قَالَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَتِهَا تَكْلِيفٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَتِهَا تَكْلِيفٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَفْضَلُ أَمْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَتَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفٌ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ النَّظَرُ فِيهِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْإِنْكَارُ إذْ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ عِنْدَ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ خَطَأً.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَنْ يَبْعُدَ أَنْ يَتْرُكُوا الْإِنْكَارَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ خَطَأً فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفٌ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ يَكُونُ سُكُوتُهُمْ تَصْوِيبًا وَرِضَاءً بِذَلِكَ الْحُكْمِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مِنْهُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مِنْ
(3/228)
 
 
وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ حَتَّى قَالَ لَهُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَرَوَى لَهُ حَدِيثًا فِي قِسْمَةِ الْفَضْلِ فَلَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا وَشَاوَرَهُمْ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَرَأَوْا بِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ فَلَمَّا سَأَلَهُ قَالَ أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةَ وَلِأَنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَكُونُ مَهَابَةً كَمَا قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا مَنَعَك أَنْ تُخْبِرَ عُمَرَ بِقَوْلِك فِي الْعَوْلِ فَقَالَ دِرَّتُهُ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّأَمُّلِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُحَالِ وَهُوَ الْخَلْفُ فِي إخْبَار اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَشَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ فَاسِدٌ.
1 -
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً بِأَنْ كَانَتْ مِنْ الْفُرُوعِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ فَالْجَوَابُ فِيهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ سَوَاءٌ يَعْنِي يَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَصَاحِبِ الْقَوَاطِعِ وَمَنْ تَابَعَهُ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَقِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُخَالَفْ فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ نَسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلًا فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَذْهَبُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَيُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنْ ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالسَّاكِتُونَ نَفَرٌ يَسِيرٌ يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ، وَإِنْ انْتَشَرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ وَالسَّاكِتُونَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَنُقِلَ عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إنْ كَانَ ذَلِكَ فَتْوَى وَانْتَشَرَ وَلَمْ يُعْرَفْ مُخَالِفٌ يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنْ كَانَ حُكْمًا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فَتْوَى لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَقَوْلُهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّصِّ أَيْ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ الْكُلِّ لِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ قَوْلِيًّا وَمِنْ شُرُوعِهِمْ جَمِيعًا فِي الْفِعْلِ إنْ كَانَ فِعْلِيًّا وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ أَيْ لَا يَثْبُتُ التَّنْصِيصُ بِالسُّكُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْسَبُ قَوْلٌ إلَى سَاكِتٍ أَوْ وَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِالسُّكُوتِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا بِالْآثَارِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْآثَارُ فَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ «ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُهُ ذُو الْيَدَيْنِ» وَلَوْ كَانَ تَرْكُ النَّكِيرِ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ لَاكْتَفَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمَا اسْتَنْطَقَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا شَاوَرَ الصَّحَابِيَّ فِي مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ مِنْ الْغَنَائِمِ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ وَالْإِمْسَاكِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَوْمِ سَاكِتٌ فَقَالَ لَهُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَالَ لَمْ نَجْعَلْ يَقِينَك شَكًّا وَعِلْمَك جَهْلًا أَرَى أَنْ تُقَسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا فَعُمَرُ لَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا وَدَلِيلًا عَلَى الْمُوَافَقَةِ حَتَّى سَأَلَهُ وَاسْتَجَازَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السُّكُوتَ مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ عِنْدَهُ فِي خِلَافِهِمْ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَبَلَغَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا تُجَالِسُ الرِّجَالَ وَتُحَدِّثُهُمْ فَأَشْخَصَ إلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَمْصَلَتْ مِنْ هَيْبَتِهِ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا لَا غُرْمَ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ وَمَا أَرَدْت إلَّا الْخَيْرَ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَاكِتٌ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَقَالَ إنْ كَانَ هَذَا جَهْدُ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ قَارَبُوك أَيْ طَلَبُوا قُرْبَتَك
(3/229)
 
 
وَلَنَا شَرْطُ النُّطْقِ مِنْهُمْ جَمِيعًا مُتَعَذِّرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ بَلْ الْمُعْتَادُ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَتَوَلَّى الْكِبَارُ الْفَتْوَى وَيُسَلِّمُ سَائِرُهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
فَقَدْ غَشُّوك أَيْ خَانُوك أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةُ فَقَالَ: أَنْتَ صَدَقْتَنِي فَقَدْ اسْتَجَازَ عَلِيٌّ السُّكُوتَ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ وَلَمْ يَجْعَلْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سُكُوتَهُ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ حَتَّى اسْتَنْطَقَهُ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ كَمَا يَكُونُ لِلْمُوَافَقَةِ يَكُونُ لِلْمَهَابَةِ وَالتَّقِيَّةِ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ كَمَا قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَظْهَرَ قَوْلَهُ فِي الْعَوْلِ وَقَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ هَلَّا قُلْت هَذَا فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْعَوْلِ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَنَعَنِي عَنْ ذَلِكَ دِرَّتُهُ وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ أَيْ لَمْ يَجْتَهِدُوا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ أَوْ سِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ أَوْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ فَتَوَقَّفُوا.
وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَمْ يَرَوْا الْإِنْكَارَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ مَعْنًى لِكَوْنِ هَذَا الْقَوْلِ صَوَابًا فِي حَقِّ قَائِلِهِ عِنْدَهُمْ كَالْقَاضِي إذَا قَضَى فِي مَسْأَلَةٍ مُجْتَهِدًا فِيهَا بِرَأْيِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَكَتَ الْمُخَالِفُونَ لَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ الرِّضَاءِ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الْعَامِلِ أَكْبَرَ سِنًّا وَأَعْظَمَ حُرْمَةً وَأَقْوَى فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا يَزُولُ التَّدَارُكُ وَالْإِنْكَارُ مَصْلَحَةً احْتِرَامًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَكُونُ حُجَّةً خُصُوصًا فِيمَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا أَلَا تَرَى أَنَّ السُّكُوتَ فِيمَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا فَكَذَا فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خِلَافٌ.
1 -
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ بِأَنَّ سُكُوتَهُمْ مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَقَدْ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِالْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ فِي الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوهُ حُجَّةً إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَكْثَرَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ، فَإِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ سُكُوتًا يَجْعَلُ ذَلِكَ كَسُكُوتِ الْكُلِّ، وَإِذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ الْأَكْثَرِ يَجْعَلُ ذَلِكَ كَظُهُورٍ مِنْ الْكُلِّ.
وَأَمَّا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِأَنَّ الْمَوْجُودَ إذَا كَانَ حُكْمًا مِنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَى الرِّضَاءِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ؛ لِأَنَّ فِي الْإِنْكَارِ اقْتِيَاتًا عَلَيْهِ قَالَ وَنَحْنُ نَحْضُرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا وَلَا نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضَاءً مِنَّا بِذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتِي، فَإِنَّ فَتْوَاهُ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلَا مَانِعَةٍ مِنْ الِاعْتِرَاضِ وَوَافَقَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَالَ: إنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ الْحَاكِمِ يَكُونُ عَنْ مَشُورَةٍ وَالصَّادِرَ عَنْ فَتْوَى يَكُونُ عَنْ اسْتِبْدَادٍ، فَإِذَا صَدَرَ الْقَوْلُ عَنْ مُشَاوَرَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا صَدَرَ عَنْ اسْتِبْدَادِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَقَالَ: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ يُضْعِفُ احْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ ظَنِّيَّةٍ لَكِنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى السُّكُوتِ فِي الزَّمَنِ الْمُتَطَوِّرِ يَبْعُدُ وَيُخَالِفُ الْعَادَةَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَكَرَّرُ تَذَاكِيرُ الْوَاقِعَةِ وَالْخَوْضُ فِيهَا لَمْ يُتَصَوَّرْ دَوَامُ السُّكُوتِ مِنْ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى تَكَرُّرِ الْوَاقِعَةِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ وَلِهَذَا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلَافًا فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ مِنْ بَعْدُ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لِصَيْرُورَتِهِ إجْمَاعًا.
 
قَوْلُهُ: (إنَّ شَرْطَ النُّطْقِ مِنْهُمْ جَمِيعًا مُتَعَذِّرٌ) إلَى آخِرِهِ وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ التَّنْصِيصُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَإِظْهَارُ الْمُوَافَقَةِ مَعَ الْأَخْرَسِ قَوْلًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ كُلِّهِمْ عَلَى قَوْلٍ يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَّا
(3/230)
 
 
وَلِأَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ السُّكُوتَ تَسْلِيمًا بَعْدَ الْعَرْضِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ وُجُوبِ الْفَتْوَى وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ مُخَالِفًا، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ تَسْلِيمًا كَانَ فِسْقًا أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ وَالْإِشْهَارُ يُنَافِي الْخَفَاءَ فَكَانَ كَالْعَرْضِ وَذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ وَذَلِكَ يُنَافِي الشُّبْهَةَ فَتَعَيَّنَ وَجْهُ التَّسْلِيمِ.
وَأَمَّا سُكُوتُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِمْسَاكِ الْمَالِ وَبِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ كَانَ حَسَنًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
وَفِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِانْتِشَارِ الْفَتْوَى مِنْ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ وَفِي اتِّفَاقِنَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَطَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَعَذِّرَ كَالْمُمْتَنِعِ ثُمَّ تَعْلِيقُ الشَّيْءِ بِشَرْطٍ هُوَ مُمْتَنِعٌ يَكُونُ نَفْيًا فَكَذَا تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ هُوَ مُتَعَذِّرٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنَّا الْحَرَجَ كَمَا لَمْ يُكَلِّفْنَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا وَلَيْسَ فِي وُسْعِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ السَّمَاعُ مِنْ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ بِقُرُونٍ فَكَانَ ذَلِكَ سَاقِطًا عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ يَتَعَذَّرُ السَّمَاعُ مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ الْبَيِّنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ اشْتِهَارُ الْفَتْوَى مِنْ الْبَعْضِ وَالسُّكُوتُ مِنْ الْبَاقِينَ كَافِيًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ) دَلِيلٌ آخَرُ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَ الْخَصْمُ مِنْ تَحَقُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ سُكُوتَ الْبَاقِينَ تَسْلِيمًا لِقَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ بَعْدَ عَرْضِ الْحَادِثَةِ وَجَوَابِ هَذَا الْقَائِلِ فِيهَا عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَيْ الْعَرْضُ مَوْضِعُ وُجُوبِ الْفَتْوَى وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ السَّاكِتُ مُخَالِفًا إذْ السَّاكِتُ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ السُّكُوتُ تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ كَانَ فِسْقًا؛ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ وَتَرْكٌ لِلْوَاجِبِ احْتِشَامًا لِلْغَيْرِ، وَالْعَدَالَةُ مَانِعَةٌ عَنْهُ فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ خُصُوصًا بِالصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْ صِغَارِهِمْ الرَّدُّ عَلَى الْكِبَارِ وَقَبُولُ الْكِبَارِ ذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا وَقَوْلُهُ أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ الْعَرْضِ أَيْ يُجْعَلُ السُّكُوتُ تَسْلِيمًا بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ إذْ الِاشْتِهَارُ يُنَافِي الْخَطَأَ فَكَانَ كَالْعَرْضِ، وَذَلِكَ أَيْضًا أَيْ جَعْلُ السُّكُوتِ تَسْلِيمًا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ الِاشْتِهَارِ فَيَنْدَفِعُ بِإِسْقَاطِهِمَا احْتِمَالُ السُّكُوتِ لِلْخَفَاءِ وَالتَّأَمُّلِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْ مُضِيُّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ الِاشْتِهَارِ بِاشْتِرَاطِهِمَا يُنَافِي الشُّبْهَةَ أَيْ شُبْهَةَ عَدَمِ التَّسْلِيم فِي السُّكُوتِ فَتَعَيَّنَ وَجْهُ التَّسْلِيمِ فِيهِ يُبَيِّنُهُ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ مَعْصُومُونَ عَنْ الْخَطَأِ وَالْعِصْمَةُ وَاجِبَةٌ لَهُمْ كَمَا لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِذَا رَأَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُكَلَّفًا يَقُولُ قَوْلًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَسَكَتَ كَانَ سُكُوتُهُ تَقْرِيرًا مِنْهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَنَزَلَ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالتَّصْدِيقِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ سُكُوتُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالْمُوَافَقَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ مَعَ السُّكُوتِ مِنْ الْبَاقِينَ إجْمَاعًا صَحِيحًا فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الِاعْتِقَادِ كَانَ إجْمَاعًا فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا لِمَعْنًى جَامِعٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ.
فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ عِنْدَهُمْ خَطَأً لَا يَحِلُّ لَهُمْ السُّكُوتُ وَتَرْكُ الرَّدِّ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَكَذَا فِي الْفُرُوعِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِيمَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ لَا يَرْضَى بِقَوْلِ صَاحِبِهِ قَوْلًا لِنَفْسِهِ بَلْ يَعْتَقِدُ فِيهِ خِلَافَهُ وَيَدْعُو النَّاسَ إلَى مُعْتَقَدِهِ وَيُنَاظِرُ مَعَ خَصْمِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ مُعْتَقَدَ الْبَاقِينَ لَظَهَرَ وَانْتَشَرَ إلَّا عَنْ خَوْفٍ وَتَقِيَّةٍ وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ سَبَبُ التَّقِيَّةِ لَا مَحَالَةَ فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ التَّقِيَّةِ وَلَا الْخِلَافُ مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ دَلَّ أَنَّهُمْ رَضُوا بِذَلِكَ قَوْلًا؛ لِأَنْفُسِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْعُلَمَاءَ الْحَنَفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ سَائِلٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَأَجَابَ بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ وَسَكَتَ الْحَاضِرُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَنْ الرَّدِّ لَا يُحْمَلُ سُكُوتُهُمْ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ بِقَوْلِهِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
قُلْنَا قَدْ احْتَرَزْنَا عَنْهُ بِقَوْلِنَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ فِي بَيَانِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا
(3/231)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
لَا يَدُلُّ سُكُوتُهُمْ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى الرِّضَاءِ؛ لِأَنَّ مَذَاهِبَ الْكُلِّ قَدْ تَقَرَّرَتْ وَصَارَتْ مَعْلُومَةً فَلَا يَدُلُّ السُّكُوتُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي حَادِثَةٍ تَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا قَوْلٌ فَيَذْكُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَوْلًا فِيهِ وَيَنْتَشِرُ فِي الْبَاقِينَ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ إنْكَارٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً وَالْإِنْكَارُ مِنْ الْبَاقِينَ لِذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ سُكُوتُهُمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَبْلُ لَا عَلَى إظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ أَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ السُّكُوتِ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ قَبْلُ خِلَافٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَلَى مِثْلِ هَذَا بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ فَدَلَّ أَنَّ سُكُوتَهُمْ كَانَ مَحْضَ الْمُوَافَقَةِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ إثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَعَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، فَإِذَا ظَهَرَ قَوْلٌ مِنْ وَاحِدٍ فَسُكُوتُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَهِدُوا أَوْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ أَوْ أَدَّى إلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوْ صِحَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَهَدُوا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تُخَالِفُهُ، فَإِنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْجَمِّ الْغَفِيرِ فِي حَادِثَةٍ نَزَلَتْ خِلَافَ الْعَادَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى إهْمَالِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَدَثَ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مُجْتَهِدِينَ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ ارْتِكَابِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُتَدَيِّنِ وَمُؤَدٍّ إلَى خُرُوجِ الْحَقِّ عَنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ حَقًّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى خَفَاءِ الْحَقِّ مَعَ ظُهُورِ طُرُقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا اجْتَهَدُوا فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمْ إلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّهُمْ كَتَمُوا؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَقِّ وَاجِبٌ لَا سِيَّمَا مَعَ ظُهُورِ قَوْلٍ هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ وَالتَّعْلِيقُ بِالْهَيْبَةِ وَالتَّقِيَّةِ تَعْلِيقٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْحَقَّ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا، وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَوْجُهُ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا لِرِضَاهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْقَوْلِ فَصَارَ كَالنُّطْقِ، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ مُبَاحَثَتِهِ وَطَلَبِ الْكَشْفِ عَنْ مَأْخَذِهِ لَا بِطَرِيقِ الْإِنْكَارِ كَالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِمُنَاظَرَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ كَمُنَاظَرَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْعَوْلِ وَدِيَةِ الْجَنِينِ عَلَى أَنَّ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ شُبْهَةٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْخُصُومُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مُسْتَدَلًّا عَلَيْهِ وَيَكُونُ دُونَ الْقَوَاطِعِ مِنْ وُجُوهِ الْإِجْمَاعِ لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ
قُلْت فَعَلَى هَذَا لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ وَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ فَيَظْهَرُ الْفَرْقُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْفَرْقُ ثَابِتٌ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ أَرَادَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ دُونَ الْإِجْمَاعِ قَوْلًا كَالنَّصِّ. وَالْمُفَسَّرُ دُونَ الْمُحْكَمِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَطْعِيًّا وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ أَرَادَ أَنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا يَلْزَمُ أَنْ يَكْفُرَ جَاحِدُهُ أَوْ يُضَلَّلَ كَجَاحِدِ سَائِرِ الْحُجَجِ الْقَطْعِيَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا لَمْ يَكْفُرْ لِكَوْنِهِ
(3/232)
 
 
إلَّا أَنَّ تَعْجِيلَ الْإِمْضَاءِ فِي الصَّدَقَةِ وَالْتِزَامَ الْغُرْمِ مِنْ عُمَرَ صِيَانَةٌ عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالَ وَرِعَايَةٌ لِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَبَسْطِ الْعَدْلِ كَانَ أَحْسَنَ فَحَلَّ السُّكُوتُ عَنْ مِثْلِهِ، وَبَعُدَ فَإِنَّ السُّكُوتَ بِشَرْطِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْفَوْتِ جَائِزٌ تَعْظِيمًا لِلْفُتْيَا وَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَكَلَامُنَا فِي السُّكُوتِ الْمُطْلَقِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الدِّرَّةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَيْنَهُمْ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَلْيَنَ لِلْحَقِّ وَأَشَدَّ انْقِيَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ إيلَاءُ الْعُذْرِ فِي الْكَفِّ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ بَعْدَ ثَبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
مُتَمَسِّكًا بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ شُبْهَةً.
أَلَا تَرَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَامِّ قَطْعِيٌّ عِنْدَنَا ثُمَّ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا يَصْلُحُ شُبْهَةً ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ الْآثَارِ فَقَالَ سُكُوتُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَالْإِمْلَاصِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ لَا مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ، فَإِنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِمْسَاكِ الْمَالِ فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَبِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى عُمَرَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ كَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَالِ الْفَاضِلِ لِيُصْرَفَ إلَى نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا حَسَنٌ وَكَذَا الْحُكْمُ بِعَدَمِ لُزُومِ الْغُرَّةِ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ خِيَانَةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ إلَّا أَنَّ أَيْ لَكِنَّ تَعْجِيلَ الْإِمْضَاءِ فِي الصَّدَقَةِ أَيْ تَعْجِيلَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَسَمَّاهَا صَدَقَةً مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَجِبُ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ وَيَتَوَلَّى الْإِمَامُ قِسْمَتَهَا كَالصَّدَقَاتِ وَأَكْثَرُ مَصَارِفِهَا مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ.
وَالْتِزَامُ الْغُرْمِ أَيْ غُرْمِ الْغُرَّةِ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صِيَانَةً عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ أَيْ لِأَجْلِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ أَلْسُنِ النَّاسِ فَيَقُولُوا: إنَّهُ أَمْسَكَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنَعَهَا عَنْ مُسْتَحَقِّهَا لِمَوْهُومٍ عَسَى لَا يَقَعُ وَخَوْفُ