كشف الأسرار شرح أصول البزدوي 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي
المؤلف: عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري الحنفي (المتوفى: 730هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ إلَّا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَسَقَطَ بِهَا الْخُصُوصُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
مَا شِئْت. كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت وَيُوجِبُ إبَاحَةَ الْكُلِّ فَهَذَا كَذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْعُمُومِ وَالتَّبْعِيضِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِمَا إذْ الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ لَكِنَّ الْعُمُومَ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ وَذَلِكَ أَنْ تَنْقُصَ عَنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ لِيَصِيرَ عَامًّا بِتَنَاوُلِهِ الْأَكْثَرَ وَيَثْبُتُ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّ التِّسْعَةَ مِنْ الْعَشَرَةِ بَعْضُهَا وَقَدْ أُدْخِلَتْ كَلِمَةُ التَّبْعِيضِ فِي الْعَبِيدِ دُونَ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَعْمَلَ فِي التَّبْعِيضِ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ.
فَصَارَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّبْعِيضِ. وَإِنَّمَا حُمِلَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَّدَ الْعُمُومَ بِإِضَافَةِ الْمَشِيئَةِ إلَى عَامٍّ صَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ التَّبْعِيضَ فَحُمِلَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَهَهُنَا أُضِيفَتْ إلَى خَاصٍّ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْعُمُومِ فَلَا يُتْرَكُ التَّبْعِيضُ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] . قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْعُمُومِ وَهُوَ أَنَّ الرِّجْسَ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ عَقْلًا فَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى التَّبْعِيضِ. وَقَدْ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] . دَلِيلُ الْعُمُومِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور: 62] . وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ. {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] . وَكَذَلِكَ تَرْكُ التَّبْعِيضِ فِي قَوْلِهِ خُذْ مِنْ مَالِي مَا شِئْت وَكُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَادَ بِطَعَامِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يُظَنَّ بِهِ أَنْ يَضِنَّ بِاللُّقْمَةِ أَوْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَتَاقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَحُ بِبَعْضِهِ وَيَضِنُّ بِبَعْضِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْأَمْرَيْنِ كَذَا فِي جَامِعَيْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ (يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ) أَيْ كَلِمَةُ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ أَيْضًا لِدُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ فِي الْعَبِيدِ كَمَا فِي الْمُتَنَازِعِ إلَّا أَنَّ الْبَعْضَ الدَّاخِلَ تَحْتَ الشَّرْطِ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا دَخَلَتْ تَحْتَ الشَّرْطِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ؛ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مَعْنَى الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْمَوْصُولِ فِي حُكْمِ اسْمٍ مَوْصُوفٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» . الشَّخْصُ الدَّاخِلُ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ آمِنٌ فَتَعُمُّ ضَرُورَةَ عُمُومِ الصِّفَةِ. وَسَقَطَ بِهَا أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْخُصُوصُ أَيْ التَّبْعِيضُ فَأَمَّا الْبَعْضُ فِي الْمُتَنَازِعِ فَلَمْ يُوصَفْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ إذْ الْمَشِيئَةُ فِيهِ أُسْنِدَتْ إلَى الْمُخَاطَبِ فَيَبْقَى مَعْنَى الْخُصُوصِ مُعْتَبَرًا فِيهِ مَعَ صِفَةِ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ بَعْضًا عَامًّا. وَنَظِيرُهُ لَوْ قِيلَ مَنْ سَرَقَ مِنْ النَّاسِ فَأَقْطَعُهُ يُفْهِمُ وُجُوبَ الْقَطْعِ لِلسُّرَّاقِ كُلِّهِمْ وَلَوْ قِيلَ اقْطَعْ مِنْ السُّرَّاقِ مَنْ شِئْت لَمْ يُوجِبْ اللَّفْظُ اسْتِيعَابَ الْجَمِيعِ بِالْقَطْعِ. وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَفْعُولِيَّةَ صِفَةٌ كَالْفَاعِلِيَّةِ، وَلِهَذَا يُوصَفُ بِهَا فَيُقَالُ عَمْرٌو مَضْرُوبٌ كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ ضَارِبٌ وَشَيْءٌ مَعْلُومٌ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَالِمٌ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ صَارَتْ مَوْصُوفَةً بِالْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ بِالْمَشِيئِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُولَى صَارَتْ مَوْصُوفَةً بِالْفَاعِلِيَّةِ فَلِتَتَعَمَّمَ بِعُمُومِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا.
لِأَنَّا نَقُولُ حَقِيقَةُ الصِّفَةِ مَعْنًى يَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي تُسَمِّيهِ وَصْفًا إنَّمَا تَقُومُ بِالْفَاعِلِ إلَّا بِالْمَفْعُولِ إذْ الضَّرْبُ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ وَالْعِلْمُ قَائِمٌ بِالْعَالِمِ لَا بِالْمَضْرُوبِ وَالْمَعْلُومِ وَإِنَّمَا لِلْمَفْعُولِ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ التَّأَثُّرِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْعُمُومِ. قَالَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ فِي جَوَابِ هَذَا
(2/7)
 
 
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ مُبْهَمَةً فِي ذَوَاتِ مَنْ يَعْقِلُ مِثَالُهُ مَا قَالَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا فَدَخَلَ وَاحِدٌ فَلَهُ النَّفَلُ وَإِنْ دَخَلَ اثْنَانِ مَعًا فَصَاعِدًا بَطَلَ النَّفَلُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِلْفَرْدِ السَّابِقِ فَلَمَّا قَرَنَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ فَتَعَيَّنَ بِهِ احْتِمَالُ الْخُصُوصِ وَسَقَطَ الْعُمُومُ فَلَمْ يَجِبْ النَّفَلُ إلَّا لِوَاحِدٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَمْ يُوجَدْ.
 
وَقِسْمٌ آخَرُ وَهِيَ كَلِمَةُ كُلٍّ وَهِيَ لِلْإِحَاطَةِ عَلَى سَبِيلِ الْأَفْرَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وَمَعْنَى الْأَفْرَادِ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ مُسَمًّى مُنْفَرِدًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَعْنًى ثَبَتَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لُغَةً فِيمَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ كَأَنَّهَا صِلَةٌ حَتَّى لَمْ تُسْتَعْمَلْ مُفْرَدَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
السُّؤَالِ أَنَّ الْوَصْفَ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَذْكُورِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ لَيْسَتْ بِمَذْكُورٍ وَلَوْ صَارَ مَذْكُورًا إنَّمَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْمِيمُ. عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وُصِفَتْ بِالْمَفْعُولِيَّةِ بَلْ الْمَوْصُوفُ بِهَا الْعِتْقُ فِي قَوْلِهِ عِتْقَهُ فَلَا يَرِدُ هَذَا السُّؤَالُ.
قَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ) لَمَّا بَيَّنَ عُمُومَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ احْتِمَالِ خُصُوصِهَا فَقَالَ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَيْ كَلِمَةُ مَنْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ مُبْهَمَةً فِي ذَوَاتِ مَنْ يَعْقِلُ فَيَقَعُ لِإِبْهَامِهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ كَمَا أَنَّ النَّكِرَةَ تَصْلُحُ لِإِبْهَامِهَا أَنْ تَقَعَ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. مَعْنَى الْإِبْهَامِ فِيهَا أَنَّهَا تُذْكَرُ مَرَّةً لِلْعُمُومِ وَأُخْرَى لِلْخُصُوصِ وَلَيْسَتْ لِلْعُمُومِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ كَرِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَلَا لِلْخُصُوصِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَصَارَتْ مُبْهَمَةً كَذَا ذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. بَلْ مَعْنَى الْإِبْهَامِ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا أَنَّهَا تَقَعُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ وَشَيْءٍ لَا عَلَى مُعَيَّنٍ وَأَنَّهَا لَا تُفْهَمُ بِذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا تُفْهَمُ بِصِلَاتِهَا الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا فَيَصِيرُ مَعَ صِلَتِهَا كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَهِيَ وُضِعَتْ لِذَوَاتِ مَنْ يَعْقِلُ لَا غَيْرُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ حَتَّى لَوْ قِيلَ مَنْ فِي الدَّارِ فَجَوَابُهُ زَيْدٌ أَبُو بَكْرٍ أَوْ خَالِدٌ وَلَوْ قِيلَ فَرَسٌ أَوْ شَاةٌ كَانَ مُخْطِئًا فِي الْجَوَابِ. مِثَالُهُ احْتِمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْخُصُوصَ. الْأَوَّلُ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَكَلِمَةُ مَنْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا الْعُمُومَ فَلَمَّا جَمَعَهَا فِي كَلَامِهِ حُمِلَ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الصَّرِيحِ فَسَقَطَ الْعُمُومُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ إلَّا وَاحِدٌ دَخَلَ سَابِقًا عَلَى الْجَمَاعَةِ فَإِذَا دَخَلَهُ اثْنَانِ سَقَطَ النَّفَلُ لِفَوَاتِ الْوَحْدَةِ وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَعْدَهُ وَاحِدٌ لِفَوَاتِ السَّبَقِ.
 
[كَلِمَةُ كُلٍّ]
قَوْلُهُ (وَقِسْمٌ آخَرُ) أَيْ مِنْ أَقْسَامِ الْعَامِّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ كَلِمَةُ كُلٍّ. وَكَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْإِكْلِيلِ الَّذِي هُوَ مُحِيطٌ بِجَوَانِب الرَّأْسِ فَلِذَلِكَ يُوجِبُ الْإِحَاطَةَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَإِذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ لَكُمَا عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَلْفُ لَهُمَا وَلَوْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَلْزَمُ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ. وَهِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ الْإِضَافَةِ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ إلَّا عَلَى الْأَسْمَاءِ إذْ الْإِضَافَةُ مَنْ خَصَائِصِ الِاسْمِ فَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ تُوجِبُ إحَاطَةَ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى نَكِرَةٍ تُوجِبُ إحَاطَةَ الْإِفْرَادِ فَيَصِحُّ قَوْلُ الرَّجُلِ كُلُّ التُّفَّاحِ حَامِضٌ أَيْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ كَذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ كُلُّ تُفَّاحٍ حَامِضٌ لِحَلَاوَةِ بَعْضٍ مِنْهُ.
وَإِذَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ يُؤْتَى بِفِعْلٍ بَعْدَ الِاسْمِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كُلُّ صِفَةٍ لَهُ لِيَصْلُحَ لِلشَّرْطِيَّةِ إذْ الِاسْمُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلشَّرْطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَرَدِّدًا وَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَسْمَاءِ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا مَعْنًى) أَيْ الْإِحَاطَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ مَعْنًى ثَبَتَ بِكَلِمَةِ كُلٍّ فِيمَا أُضِيفَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ إلَيْهِ. يَعْنِي أَثَرَ عُمُومِهِ يَظْهَرُ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِيهَا بِإِحَاطَةِ أَجْزَائِهَا لَا فِي غَيْرِهَا وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى نَكِرَةٍ تُوجِبُ الْعُمُومَ فِيهَا بِإِحَاطَةِ إفْرَادِهَا لَا فِي غَيْرِهَا فَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ يَثْبُتُ الْعُمُومُ فِي الْعَبِيدِ دُونَ الْإِمَاءِ وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْطِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ دِرْهَمًا يُوجِبُ الْعُمُومَ فِيهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَذَا لَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْمَرْأَةِ لَا فِي التَّزَوُّجِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ لَا تَطْلُقُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.
(2/8)
 
 
وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْضًا وَهِيَ مِثْلُ كَلِمَةِ وَمَنْ إلَّا أَنَّهَا عِنْدَ الْعُمُومِ تُخَالِفُهَا فِي إيجَابِ الْأَفْرَادِ فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّكِرَةِ أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا تَصْحَبُ الْأَفْعَالَ إلَّا بِصِلَةٍ فَإِذَا وُصِلَتْ أَوْجَبَتْ عُمُومَ الْأَفْعَالِ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّمَا {نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] .
وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا وَبَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ كَلِمَةِ كُلِّ وَمَنْ فِيمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا فَدَخَلَ جَمَاعَةٌ بَطَلَ النَّفَلُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ إلَّا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَ عَشَرَةٌ مَعًا وَجَبَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ النَّفَلَ كَامِلًا عَلَى حِيَالِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ يُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الْأَفْرَادِ فَاعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِيَالِهِ وَهُوَ أَوَّلٌ فِي حَقِّ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ النَّاسِ وَفِي كَلِمَةِ مَنْ وَجَبَ اعْتِبَارُ جَمَاعَتِهِمْ وَذَلِكَ يُنَافِي الْأَوَّلِيَّةَ وَلَوْ دَخَلَ الْعَشَرَةُ فُرَادَى فِي مَسْأَلَةٍ كُلٍّ كَانَ النَّفَلُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهِيَ تَحْتَمِلُ (كَشْفَ) الْخُصُوصِ فَسَقَطَ عَنْهَا الْإِحَاطَةُ وَصَارَتْ (ثَانِي) لِلْخُصُوصِ.
 
وَقِسْمٌ آخَرُ كَلِمَةُ الْجَمِيعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
ثُمَّ ثَبَتَ الْعُمُومُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْعُمُومِ فِي ذَاتِهِ كَمَا فِي قَوْلِك رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَقَوْمٌ وَرَهْطٌ كَانَ مُشَابِهًا لِلْحَرْفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَلَّ عَلَى مَعْنَى فِي غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْفَكَّ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَنْ الْإِضَافَةِ كَمَا أَنَّ الْحَرْفَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ يَصْحَبُهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَنَّهَا صِلَةٌ أَيْ حَرْفٌ حَيْثُ لَمْ تُسْتَعْمَلْ مُفْرَدَةً أَيْ بِدُونِ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ بَدَلٌ فَلَا يُقَالُ كُلٌّ جَاءُوا وَإِنَّمَا يُقَالُ كُلُّ الْقَوْمِ جَاءُوا أَوْ كُلٌّ جَاءُوا.
قَوْلُهُ (وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ) مِثْلُ كَلِمَةِ مَنْ حَتَّى لَوْ قِيلَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى الْوَلَاءِ كَانَ النَّفَلُ لِلْأَوَّلِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَلَا تَصْحَبُ الْأَفْعَالَ أَيْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا إلَّا بِصِلَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةُ الْإِضَافَةِ وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَسْمَاءِ فَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَفْعَالِ. فَإِذَا وُصِلَتْ أَيْ دَخَلَتْهَا الصِّلَةُ وَهِيَ كَلِمَةُ مَا. أَوْجَبَتْ عُمُومَ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ عُمُومَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ. وَكَلِمَةُ مَا هَذِهِ لِلْجَزَاءِ ضُمَّتْ إلَى كُلٍّ فَصَارَتْ أَدَاةً لِتَكْرَارِ الْفِعْلِ وَنُصِبَ كُلٌّ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ الْجَوَابُ كَذَا فِي عَيْنِ الْمَعَانِي وَغَيْرِهِ. وَرَأَيْت فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ حُرُوفِ الْمَعَانِي أَنَّ مَا مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ كُلٍّ وَكُلُّ مُضَافٍ إلَى ذَلِكَ الِاسْمِ فِي التَّقْدِيرِ فَإِذَا قُلْت كُلَّمَا تَأْتِنِي أُكْرِمُك مَعْنَاهُ كُلُّ إتْيَانٍ يَحْصُلُ مِنْك لِي أُكْرِمُك وَالْمَصْدَرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ يُرَادُ بِهِ وَقْتُ وُقُوعِ الْفِعْلِ تَقُولُ أَقُومُ هَهُنَا مَا دَامَ زَيْدٌ جَالِسًا أَيْ دَوَامُ زَيْدٍ جَالِسًا وَتُرِيدُ بِالدَّوَامِ وَقْتَ الدَّوَامِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ مَعْنَاهُ وَقْتَ تَدْخُلِينَ فِيهَا فَكُلُّ مُضَافٍ إلَى وَقْتِ الدُّخُولِ وَالْوَقْتُ ظَرْفٌ فَكَانَ كُلُّ ظَرْفًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ أَبَدًا وَالْعَامِلُ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ وَهُوَ أُكْرِمُك فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ مِثْلُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فِي الْمِثَالِ الْآخَرِ.
قَوْلُهُ (وقَوْله تَعَالَى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] قَالَ الْعَلَّامَةُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ بُحْبُوحَةَ جِنَانِهِ، التَّبْدِيلُ تَغْيِيرُ الصِّفَةِ كَمَا يُقَالُ بَدَّلْت الْقَمِيصَ قَبَاءً وَقَالَ تَعَالَى. {تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم: 48] . أَيْ تُسَوَّى غِيطَانُهَا بِآكَامِهَا فَلَا يَلْزَمُ تَعْذِيبُ غَيْرِ الْمُجْرِمِ وَالنَّضِيجُ إذَا أُعِيدَ نِيًّا لَا يَكُونُ غَيْرَهُ فَكَانَتْ الْغَيْرِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةً إلَى الصِّفَةِ لَا إلَى الذَّاتِ. وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا أَيْ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي النَّكِرَاتِ وَكُلَّمَا تُوجِبُهُ فِي الْأَفْعَالِ بُنِيَتْ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فَإِذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَهِيَ تَعُمُّ الْأَعْيَانَ دُونَ الْأَفْعَالِ فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ لَا يَحْنَثُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَكَذَا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ يَحْنَثُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.
وَكَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ وَكُلَّمَا اشْتَرَيْت عَبْدًا فَعَلَيَّ كَذَا فَاشْتَرِي عَبْدًا وَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَحْنَثُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ. وَفِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثْرَةٌ.
قَوْلُهُ (وَبَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ الْفَرْقِ إلَى آخِرِهِ) ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ رَأْسٌ فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تَجْمَعُ الْأَسْمَاءَ عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ فَعِنْدَ ذِكْرِهِ يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ كَأَنَّ اللَّفْظَ تَنَاوَلَهُ خَاصَّةً وَكَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ. وَلَوْ دَخَلُوا
(2/9)
 
 
وَهِيَ عَامَّةٌ مِثْلُ كُلٍّ إلَّا أَنَّهَا تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ دُونَ الِانْفِرَادِ فَصَارَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفَةً لِلْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِ وَلِذَلِكَ صَارَتْ مُؤَكِّدَةً لِكَلِمَةِ كُلٍّ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُمْ نَفْلًا وَاحِدًا بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِالشِّرْكَةِ وَيَصِيرُ النَّفَلُ وَاجِبًا لِأَوَّلِ جَمَاعَةٍ يَدْخُلُ فَإِنْ دَخَلُوا فُرَادَى كَانَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُسْتَعَارَ بِمَعْنَى الْكُلِّ.
 
وَقِسْمٌ آخَرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
مُتَوَاتِرَيْنِ كَانَ لِلْأَوَّلِ النَّفَلُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ كُلَّ الدَّاخِلِ أَوَّلًا هُوَ فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ بَعْدَهُ لَيْسَ بِأَوَّلٍ حِينَ سَبَقَهُ غَيْرُهُ بِالدُّخُولِ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْبِقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَهُ بِالدُّخُولِ وَعَلَى اعْتِبَارِ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا هُوَ مُوجِبُ كَلِمَةِ كُلٍّ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوَّلَ دَاخِلٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا دَخَلَ الْخَمْسَةُ مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ تُوجِبُ عُمُومَ الْجِنْسِ وَلَا تُوجِبُ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ الدَّاخِلِينَ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَعَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُمُومِ لَيْسَ فِيهِمْ أَوَّلُ فَأَمَّا كَلِمَةُ كُلٍّ فَتُوجِبُ تَنَاوُلَ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ كَلِمَةُ كُلٍّ قَدْ تُوجِبُ الْعُمُومَ أَيْضًا وَلَكِنْ لَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لَمْ تَبْقَ لَهَا فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهَا زِيَادَةُ فَائِدَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا مَا قُلْنَا وَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ فِي كُلِّ دَاخِلٍ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ.
وَالْحِيَالُ الْحِذَاءُ يُقَالُ قَعَدَ حِيَالَهُ وَبِحِيَالِهِ أَيْ بِإِزَائِهِ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَجَبَ لِكُلِّ رَجُلٍ النَّفَلُ كَامِلًا عَلَى حِيَالِهِ وَجَبَ النَّفَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُقَابَلَتِهِ وَقَوْلُهُ فَاعْتُبِرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى حِيَالِهِ أَيْ بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَعَدَ بِإِزَاءِ آخَرَ مُتَفَرِّدٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ تَابِعٍ لَهُ فَاسْتُعِيرَ لِلِانْفِرَادِ.
 
[كَلِمَةُ الْجَمِيعِ]
قَوْلُهُ (وَهِيَ عَامَّةٌ مِثْلُ) كَلِمَةِ كُلٍّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ كَهِيَ إلَّا أَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ وَتِلْكَ تُوجِبُهَا عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ. فَصَارَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ مُخَالِفَةً لِلْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَعْنِي كَلِمَةَ مَنْ وَكَلِمَةَ كُلٍّ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ كَمَا بَيَّنَّا وَكَلِمَةُ مَنْ تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ وَالْعُمُومَ وَلَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ قَصْدًا وَكَلِمَةُ الْجَمِيعِ تُخَالِفُهُمَا؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ قَصْدًا. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلْإِحَاطَةِ مِثْلُ كَلِمَةِ كُلٍّ صَارَتْ مُؤَكِّدَةً لِكَلِمَةِ كُلٍّ فَيُقَالُ جَاءَنِي الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ أَنَّهَا تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ مَا إذَا قَالَ الْإِمَامُ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ رَأْسٌ فَدَخَلَهُ عَشَرَةٌ مَعًا فَالنَّفَلُ الْوَاحِدُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا لَحِقَ بِكَلِمَةِ مَنْ هَهُنَا يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ دُونَ الْإِفْرَادِ فَيَصِيرُ بِاعْتِبَارِهِ جَمِيعُ الدَّاخِلِينَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي أَنَّهُمْ أَوَّلُ فَلَهُمْ رَأْسٌ وَاحِدٌ وَكَلِمَةُ كُلٍّ تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ فَيُجْعَلُ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ تَنَاوَلَهُ الْإِيجَابُ خَاصَّةً كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ.
قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَعَارَ بِمَعْنَى الْكُلِّ) مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْإِحَاطَةَ وَالْعُمُومَ فَيُعْمَلُ بِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ كَالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ لِلتَّشْجِيعِ وَإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلًا فَلَمَّا اسْتَحَقَّهُ الْجَمَاعَةُ بِالدُّخُولِ أَوَّلًا فَالْوَاحِدُ الدَّاخِلُ أَوَّلًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجُرْأَةَ وَالْجَلَادَةَ فِيهِ أَقْوَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَسْتُ أَطْمَعُ فِي أَنْ تَدْخُلَ أَوَّلًا لَكِنْ إنْ دَخَلْت ثَانِيًا فَلَكَ كَذَا فَدَخَلَ أَوَّلًا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ صَنَعَ مَا طَلَبَ الْإِمَامُ مِنْهُ زِيَادَةً فِي إظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَادَةِ فَإِنَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ لَسْت أَطْمَعُ فِي أَنْ تَدْخُلَ أَوَّلًا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادَهُ أَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ ثَانِيًا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ التَّحْرِيضُ عَلَى إظْهَارِ الْجِدِّ فِي الْقِتَالِ وَقَدْ أَتَى بِهِ عَلَى أَقْوَى الْوُجُوهِ فَكَذَلِكَ
(2/10)
 
 
كَلِمَةُ مَا وَهِيَ عَامَّةٌ فِي ذَوَاتِ مَا لَا يَعْقِلُ وَصِفَاتُ مَنْ يَعْقِلُ تَقُولُ مَا فِي الدَّارِ جَوَابُهُ شَاةٌ أَوْ فَرَسٌ وَتَقُولُ مَا زَيْدٌ وَجَوَابُهُ عَاقِلٌ أَوْ عَالِمٌ وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا فِي الْبَطْنِ غُلَامًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 284] .
 
وَكَذَلِكَ كَلِمَةُ الَّذِي فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
هَهُنَا (فَإِنْ قِيلَ) فَهَلَّا جَعَلْت كَلِمَةَ مَنْ بِمَعْنَى كَلِمَةِ كُلٍّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ فِيمَا إذَا دَخَلَهُ جَمَاعَةٌ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْلٌ كَمَا فِي كَلِمَةِ كُلٍّ.
أَوْ بِمَعْنَى كَلِمَةِ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ لِلْكُلِّ نَفْلٌ وَاحِدٌ كَمَا فِي كَلِمَةِ الْجَمِيعِ (قُلْنَا) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِحَاطَةِ وَلَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ قَصْدًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْعُمُومُ فِيهَا ضَرُورَةَ إبْهَامِهَا كَعُمُومِ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ اشْتِرَاكٌ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الْمَوْضُوعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحَاطَةُ بِصِفَةِ الِانْفِرَادِ وَالْإِحَاطَةُ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِعَارَةُ (فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إذْ لَوْ دَخَلَ فِيهِ جَمْعٌ اسْتَحَقُّوا نَفْلًا وَاحِدًا عَمَلًا بِحَقِيقَتِهِ وَلَوْ دَخَلَ وَاحِدٌ يَسْتَحِقُّهُ أَيْضًا عَمَلًا بِمَجَازِهِ (قُلْنَا) لَيْسَ الْمُرَادُ كِلَيْهِمَا بَلْ الْمُرَادُ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ الدُّخُولُ أَوَّلًا لَا يُوجَدُ إلَّا فِي وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَإِنْ وُجِدَ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ يُعْمَلُ بِحَقِيقَتِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي وَاحِدٍ يُعْمَلُ بِمَجَازِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إنْ لَوْ تَصَوَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا بِأَنْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ أَوَّلًا وَاسْتَحَقُّوا النَّفَلَ وَدَخَلَ وَاحِدٌ أَوَّلًا أَيْضًا وَاسْتَحَقَّ النَّفَلَ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يَكُونُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا كَذَا قِيلَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَدَمُ جَوَازِ الْجَمْعِ بِالنَّظَرِ إلَى الْإِرَادَةِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى الْوُقُوعِ وَفِي الْإِرَادَةِ الْجَمْعُ مُتَصَوَّرٌ بَلْ مُتَحَقِّقٌ فَلَا يَجُوزُ فَإِنَّ كَلِمَةَ مَنْ يَتَنَاوَلُ كَلِمَةً مَا عَامَّةً وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ فِي ذَوَاتِ مَا لَا يَعْقِلُ وَفِي صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ فَإِذَا قِيلَ مَا فِي الدَّارِ يَسْتَقِيمُ فِي الْجَوَابِ فَرَسٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ ثَوْبٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ فِي الْجَوَابِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ كَذَا ذَكَرَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ.
 
[كَلِمَةُ مَا]
وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُقَلَاءِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَلِمَةِ مَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ يَصْلُحُ لِمَا يَعْقِلُ وَلِمَا لَا يَعْقِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَا لَا يَعْقِلُ كَاخْتِصَاصِ مَنْ بِمَنْ يَعْقِلُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِيهِ أَنَّ مَا لِلسُّؤَالِ عَنْ الْجِنْسِ تَقُولُ مَا عِنْدَك بِمَعْنَى أَيُّ أَجْنَاسِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَك وَجَوَابُهُ إنْسَانٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ كِتَابٌ أَوْ طَعَامٌ. أَوْ عَنْ الْوَصْفِ تَقُولُ مَا زَيْدٌ وَمَا عَمْرٌو وَجَوَابُهُ الْكَرِيمُ أَوْ الْفَاضِلُ.
قَالَ وَلِكَوْنِ مَا لِلسُّؤَالِ عَنْ الْجِنْسِ وَلِلسُّؤَالِ عَنْ الْوَصْفِ وَقَعَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ مُوسَى مَا وَقَعَ؛ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا كَانَ جَاهِلًا بِاَللَّهِ مُعْتَقِدًا أَنْ لَا مَوْجُودَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ سِوَى الْأَجْسَامِ اعْتِقَادُ كُلِّ جَاهِلٍ لَا نَظِيرَ لَهُ ثُمَّ سَمِعَ مُوسَى قَالَ {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] سَأَلَ بِمَا عَنْ الْجِنْسِ سُؤَالَ مِثْلِهِ فَقَالَ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] كَأَنَّهُ قَالَ أَيُّ أَجْنَاسِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ وَلَمَّا كَانَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِاَللَّهِ أَجَابَ عَنْ الْوَصْفِ تَنْبِيهًا عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْمُمْكِنَاتِ فَلَمَّا لَمْ يَتَطَابَقْ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ الْجَاهِلِ عَجِبَ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْجَهَلَةِ فَقَالَ لَهُمْ {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] ثُمَّ اسْتَهْزَأَ بِمُوسَى وَجُنْدِهِ فَقَالَ {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] وَحِينَ لَمْ يَرَهُمْ مُوسَى يَفْطِنُونَ لِمَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ فِي الْكَرَّتَيْنِ مِنْ فَسَادِ مَسْأَلَتِهِمْ الْحَمْقَاءِ وَاسْتِمَاعِ جَوَابِهِ الْحَكِيمِ عَلَيْهِمْ غَلَّظَ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] .
 
[كَلِمَةُ الَّذِي]
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ كَلِمَةُ الَّذِي) أَيْ وَمِثْلُ كَلِمَةِ مَا كَلِمَةُ الَّذِي فِي الْعُمُومِ. فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ وَمَا وَنَظِيرُهَا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ كَلِمَةُ الَّذِي فَإِنَّهَا مُبْهَمَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا يَعْقِلُ وَفِيمَا لَا يَعْقِلُ وَفِيهَا مَعْنَى
(2/11)
 
 
وَهَذِهِ فِي احْتِمَالِ الْخُصُوصِ مِثْلُ مَنْ كَلِمَةٌ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ الثَّلَاثِ مَا شِئْت أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحِدَةً أَوْ اثْنَيْنِ لِمَا قُلْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ كَلِمَةُ مَا بِمَعْنَى مَنْ وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ غَيْرُ مَعْلُولَةٍ.
 
وَقِسْمٌ آخَرُ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُهُ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي كَلِمَةِ كُلٍّ وَدَلَائِلُ عُمُومِهَا ضُرُوبٌ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي النَّفْيِ تَعُمُّ وَفِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ دَلِيلُ الْعُمُومِ وَذَلِكَ ضَرُورِيٌّ لَا لِمَعْنًى فِي صِيغَةِ الِاسْمِ وَذَلِكَ أَنَّك إذَا قُلْت مَا جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَدْ نَفَيْت مَجِيءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ نَكِرَةٍ وَمِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِهِ نَفْيُ الْجُمْلَةِ لِيَصِحَّ عَدَمُهُ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ مَجِيءَ غَيْرِهِ ضَرُورَةً فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
الْعُمُومِ عَلَى نَحْوِ مَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ حَتَّى إذَا قَالَ إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِك غُلَامًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك غُلَامًا وَكَذَا حُكْمُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ بِمَعْنَى الَّذِي حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ الضَّارِبُ مِنْكُمْ زَيْدًا حُرٌّ أَوْ قَالَ لِنِسْوَتِهِ الضَّارِبَةُ مِنْكُنَّ زَيْدًا طَالِقٌ فَاَلَّذِي ضَرَبَ مِنْهُمْ يَعْتِقُ وَكَذَا الَّتِي ضَرَبَتْ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِي وَاَلَّتِي مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي.
قَوْلُهُ (وَهَذِهِ) أَيْ كَلِمَةُ مَا فِي احْتِمَالِ الْخُصُوصِ مِثْلُ كَلِمَةِ مَنْ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ مُبْهَمَةً كَهِيَ فَلِإِبْهَامِهَا تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا أَيْ وَعَلَى احْتِمَالِ الْخُصُوصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ عِنْدَهُمَا تَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ.
فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَجْرِي هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى عُمُومِهَا وَتُجْعَلُ كَلِمَةُ مَنْ لِتَمْيِيزِ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ الْأَعْدَادِ أَيْ أَوْقِعِي مِنْ هَذَا الْعَدَدِ مَا شِئْت لَا مِنْ الْأَعْدَادِ الَّتِي فَوْقَهُ وَيَصِحُّ هَذَا التَّمْيِيزُ وَإِنْ كَانَ مَا فَوْقَهُ مِنْ الْأَعْدَادِ فِي الطَّلَاقِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَلَا تَعْتَمِدُ عَلَى وُجُودِهِ شَرْعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ يَقَعُ وَاحِدَةً وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ كَذَا هُنَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْعَلُ حَرْفُ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أُعْتِقُ مِنْ عَبِيدِي مَنْ شِئْت وَكَلِمَةُ مَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَقَدْ عَارَضَهَا حَرْفُ التَّبْعِيضِ فَتُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ التَّبْعِيضُ ثُمَّ يُعْمَلُ بِالْعُمُومِ فِيهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِيَحْصُلَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلِمَتَيْنِ كَمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.
قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ كَلِمَةُ مَا بِمَعْنَى مَنْ) يَعْنِي مَا بَيَّنَّا مِنْ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ بَيَانُ الْحَقِيقَةِ فَأَمَّا كَلِمَةُ مَا فَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى كَلِمَةِ مَنْ مَجَازًا كَقَوْلِهِمْ سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَسُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. وقَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] . أَيْ وَمَنْ بَنَاهَا فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أُوثِرَتْ كَلِمَةُ مَا عَلَى مَنْ لِإِرَادَةِ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَالْقَادِرُ الْعَظِيمُ الَّذِي بَنَاهَا. وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ كَلِمَةُ مَنْ بِمَعْنَى مَا أَيْضًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] .
وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17] . إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ خَصَّ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ كَلِمَةِ مَا وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ أَكْثَرُ. وَقَدْ قِيلَ اُخْتِيرَ لَفْظُ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ. {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور: 45] . دَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُهُمْ فَحَسُنَ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَكَذَا الْخَلْقُ فِعْلُ مَنْ يَعْقِلُ فَنَاسَبَ كَلِمَةَ مَنْ أَوْ مَعْنَاهُ وَمَنْ يَخْلُقُ لَيْسَ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ. أَوْ الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْكُفَّارِ فَلِذَلِكَ قِيلَ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دُونَ مَا.
قَوْلُهُ (وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ غَيْرُ مَعْلُولَةٍ) الْعَامُّ مَعْنًى لَا صِيغَةً قِسْمَانِ قِسْمٌ ثَبَتَ عُمُومُهُ بِالْوَضْعِ وَقِسْمٌ ثَبَتَ عُمُومُهُ بِعَارِضٍ يَلْحَقُ بِهِ فَقَوْلُهُ وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ كَقَوْمٍ وَرَهْطٍ وَمَنْ وَمَا وَكُلٍّ وَجَمِيعٍ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
 
[الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً]
[النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ]
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي فَقَالَ وَقِسْمٌ آخَرُ أَيْ مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ كَمَا قُلْنَا فِي كَلِمَةِ كُلٍّ فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّكِرَةِ أَوْجَبَتْ عُمُومَهَا وَإِنْ كَانَتْ النَّكِرَةُ فِي ذَاتِهَا خَاصَّةً إذْ هِيَ اسْمٌ وُضِعَ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجُمْلَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ عُمُومِهَا عِنْدَ اتِّصَالِ دَلِيلِ الْعُمُومِ بِهَا أَنَّهَا فِي النَّفْيِ تَعُمُّ سَوَاءٌ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى نَفْسِهَا كَقَوْلِك
(2/12)
 
 
وَضَرْبٌ آخَرُ إذَا دَخَلَ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ أَوْ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا كَقَوْلِك مَا رَأَيْت رَجُلًا وَفِي الْوَجْهَيْنِ يَثْبُتُ الْعُمُومُ فِيهَا ضَرُورَةً وَاقْتِضَاءً لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ إذْ هِيَ لَا يَتَنَاوَلُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إلَّا وَاحِدًا. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى رُؤْيَةَ رَجُلٍ مُنَكَّرٍ فَقَدْ نَفَى رُؤْيَةَ جَمِيعِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى رُؤْيَةَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ رَأَى رَجُلًا وَاحِدًا لَا يَنْتَفِي رُؤْيَةُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تَضْرِبْ الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عُدَّ مُخَالِفًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ أَجْمَعَ بِضَرْبِ وَاحِدٍ وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا أَكَلْت الْيَوْمَ شَيْئًا فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ بَلْ أَكَلْت شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يُفِدْ الْأَوَّلُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ هَذَا التَّكْذِيبَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ لَا يُنَاقِضُ السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَالَتْ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ. {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] .
وَلَمْ يُفِدْ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ هَذَا رَدًّا لَهُ. وَلِأَنَّ النُّصُوصَ وَالْإِجْمَاعَ تَدُلُّ عَلَى كَلِمَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةِ تَوْحِيدٍ وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ نَفْيُ النَّكِرَةِ مُوجِبًا لِلْعُمُومِ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ يَصِحُّ الْإِضْرَابُ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا رَأَيْت رَجُلًا بَلْ رَأَيْت رَجُلَيْنِ أَوْ رِجَالًا كَذَا نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ كَمَا لَوْ قِيلَ مَا رَأَيْت رَجُلًا بَلْ رَأَيْت رِجَالًا (قُلْنَا) نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ ذَلِكَ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ بِقَرِينَةِ الْإِضْرَابِ يُفْهِمُ الْمُرَادُ نَفْيَ صِفَةِ الْوَحْدَةِ لَا نَفْيَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ كَمَا لَوْ قَالَ مَا رَأَيْت رَجُلًا كُوفِيًّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْصُوفَةِ لَا مُطْلَقِ الْحَقِيقَةِ كَذَا هَذَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّكِرَةَ تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ كَمَا تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ يُقَالُ مَنْ يَأْتِنِي بِمَالٍ أُجَازِهِ لَا يَخْتَصُّ هَذَا بِمَالٍ دُونَ مَالٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا عَمَّتْ فِي النَّفْيِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمُعَيَّنٍ فِي قَوْلِك رَأَيْت رَجُلًا وَالنَّفْيُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ الْإِثْبَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ النَّفْيُ إلَى التَّنْكِيرِ اقْتَضَى اجْتِمَاعُهُمَا الْعُمُومَ فَكَذَا الشَّرْطُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بَلْ مُقْتَضَاهُ الْعُمُومُ فَالنَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَوْضِعِهِ تَعُمُّ أَيْضًا وَلَمَّا كَانَتْ الْمَعْرِفَةُ خِلَافَ النَّكِرَةِ كَانَ الْفَرْقُ فِي عُمُومِهَا لِلْأَجْزَاءِ وَعَدَمُهُ فِي حَالَتَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى عَكْسِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّكِرَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَاشْتَرَاهُ إلَّا جُزْءًا مِنْهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْتَرِيَن هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَاشْتَرَاهُ إلَّا جُزْءًا مِنْهُ يَحْنَثُ.
ثُمَّ قِيلَ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّمَا تَخُصُّ إذَا كَانَتْ اسْمًا غَيْرَ مَصْدَرٍ فَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا فَهِيَ تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ. {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] . وَصَفَ الثُّبُورَ بِالْكَثْرَةِ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَنَوَى الثَّلَاثَ يَصِحُّ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي الْإِثْبَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ رَأَيْت رَجُلًا كَثِيرًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ.
 
[لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ]
قَوْلُهُ (وَضَرْبٌ آخَرُ) أَيْ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ لَامُ التَّعْرِيفِ. اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي اسْمِ الْجِنْسِ إذَا دَخَلَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ لَا لِلْعَهْدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُرَادٌ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَلْ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ اللَّامُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفَرْدِ أَوْ الْجَمْعِ يَصِيرُ لِلْجِنْسِ إلَّا أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْأَدْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَيْضًا
(2/13)
 
 
وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] أَيْ هَذَا الْجِنْسُ وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى وَهُوَ الْوَاحِدُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا قَالُوا هَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ بِحَقِيقَةِ الْأَدْنَى كَمَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَكُلُّ فَرْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كُلًّا كَمَا بَيَّنَّا فَلَمَّا سَاوَى الْبَعْضُ الْكُلَّ فِي الدُّخُولِ تَرَجَّحَ الْبَعْضُ بِالتَّيَقُّنِ وَانْصَرَفَ مُطْلَقُ اللَّفْظِ إلَيْهِ وَاحْتَمَلَ الْكُلَّ بِدَلِيلِهِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَلَا أَشْتَرِي الْعَبِيدَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ تَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى وَلَا تَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ إلَّا بِالنِّيَّةِ. قَالُوا وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ صَرْفِهَا إلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ إذْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ الطَّلَاق تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَقَدْ أَمْكَنَ صَرْفُهُ إلَى الْكُلِّ وَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ بِدُونِ النِّيَّةِ أَيْضًا فَعُلِمَ أَنَّ مُوجِبَهُ تَنَاوَلَ الْأَدْنَى عَلَى احْتِمَالِ الْأَعْلَى. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ إلَى أَنَّ مُوجِبَهُ الْعُمُومُ وَالِاسْتِغْرَاقُ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى إجْرَاءِ قَوْله تَعَالَى. {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] . عَلَى الْعُمُومِ وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِغْرَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَكَذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِالْجُمُوعِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالًا شَائِعًا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ.
وَكَذَا أُرِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى. {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] . {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] . {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] . {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] . كُلُّ الْجِنْسِ لَا فَرْدٌ مَخْصُوصٌ. وَنَصَّ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي قَوْله تَعَالَى. {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ النَّاسُ. وَكَذَا يُقَالُ الْفَرَسُ أَعْدَى مِنْ الْحِمَارِ وَالْأَسَدُ أَقْوَى مِنْ الذِّئْبِ وَيُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ إلَّا الْفَرْدَ. وَقَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَهُمْ سَمَّاهَا لَامَ التَّجْنِيسِ وَبَعْضَهُمْ سَمَّاهَا لَامَ الِاسْتِغْرَاقِ حَتَّى قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَجْمَعِهِمْ إنَّ اللَّامَ فِي قَوْله تَعَالَى. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] . لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ فَقَالُوا مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى وَلَا يَنْصَرِفُ الْأَعْلَى إلَّا بِدَلِيلٍ مُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ لُغَةً وَالتَّعْرِيفُ يُحَصِّلُ تَمْيِيزَ الْمُسَمَّى عَنْ أَغْيَارِهِ وَهُوَ تَارَةً يَكُونُ تَمْيِيزَ الشَّخْصِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْخَاصِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ النَّوْعِ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا التَّعْرِيفُ إلَّا بَعْدَ سَبْقِ عَهْدٍ بِهَذَا الشَّخْصِ ذِكْرًا أَوْ مُشَاهَدَةً.
وَتَارَةً يَكُونُ تَمْيِيزَ النَّوْعِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ الْمُسَاوِيَةِ لَهُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْجِنْسِ كَمَا يُقَالُ مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ غَيْرُ مَخُوفٍ فَهَذَا الْأَسَدُ مَخُوفًا فَإِنَّ اسْمَ الْأَسَدِ وَاقِعٌ عَلَى كَمَالِ نَوْعِهِ لَا عَلَى شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِهِ لِانْعِدَامِ سَبْقِ الْعَهْدِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَبْلَغُ مِنْ التَّعْرِيفِ لِلشَّخْصِ لِبَقَاءِ الِاشْتِرَاكِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ فِي التَّسْمِيَةِ فِي تَعْرِيفِ الشَّخْصِ وَانْقِطَاعِ ذَلِكَ فِي النَّوْعِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالِاسْمِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ. وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ بِأَجْمَعِهِمْ أَوْ الْمُبْرِزُونَ مِنْهُمْ إنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ الْمُمْكِنِ صَرْفُهُ إلَى الْجِنْسِ وَالْمَعْهُودِ إلَى الْجِنْسِ أَوْلَى وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ السَّرَّاجِ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ؛ لِأَنَّ جَعْلَ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَامَةً لِمَا كَمُلَ تَعْرِيفُهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ عَلَامَةً لِمَا ضَعُفَ فِي بَابِهِ وَوَهِيَ فِي نَفْسِهِ. نُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ صَرْفُ اللَّامِ إلَى الْجِنْسِ لِيَحْصُلَ التَّعْرِيفُ وَلَنْ يَحْصُلَ التَّعْرِيفُ إلَّا بِالِاسْتِغْرَاقِ وَجَبَ الصَّرْفُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ جَاءَنِي حَصَلَ الْعِلْمُ لِلسَّامِعِ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا ذَكَرًا جَاوَزَ حَدَّ الصِّغَرِ وَكَذَا إذَا قِيلَ جَاءَنِي
(2/14)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
رِجَالٌ عُرِفَ جِنْسُهُمْ وَنَوْعُهُمْ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَجِيءِ وَبَقِيَتْ الذَّوَاتُ مَجْهُولَةً فَإِذَا دَخَلَتْ فِيهِ اللَّامُ لَا يَحْصُلُ تَعْرِيفُ الذَّاتِ إلَّا وَأَنْ يُصْرَفَ إلَى كُلِّ الْجِنْسِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهَذَا اللَّفْظِ فَأَمَّا مَتَى صُرِفَ إلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ فَلَمْ تَصِرْ الذَّوَاتُ مَعْلُومَةً وَمَا وَرَاءَهَا مَعْلُومٌ بِدُونِ اللَّامِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إلْغَاءً لِفَائِدَةِ اللَّامِ وَصَارَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا وَذَلِكَ إبْطَالُ وَضْعِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَهْدَ إذَا انْعَدَمَ لَا بُدَّ مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْجَمِيعِ لِيَحْصُلَ التَّعْرِيفُ. وَقَوْلُهُمْ الْوَاحِدُ كُلُّ الْجِنْسِ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يُزَاحِمُهُ فَعِنْدَ وُجُودِهِ هُوَ الْبَعْضُ حَقِيقَةً فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ كُلًّا لِلْجِنْسِ الَّذِي هُوَ بَعْضٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا جَازَ أَنْ يَكُونَ كُلًّا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ فَنَقُولُ إنَّمَا عَدَلْنَا عَنْ الْكُلِّ بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ إنْسَانًا إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ بِالْيَمِينِ عَمَّا يَدْعُوهُ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَيُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَتَزَوَّجَ نِسَاءَ الْعَالَمِ وَشِرَاءُ عَبِيدِ الدُّنْيَا وَشُرْبُ مِيَاهِهَا جَمِيعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْبَعْضَ هُوَ الْمُرَادُ فَصَرْفَنَا الْيَمِينَ إلَى الْوَاحِدِ لِلتَّيَقُّنِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أَشْرَبُ قَطْرَةً مِنْ الْمَاءِ وَلَا أَتَزَوَّجُ وَاحِدَةً مِنْ النِّسَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت بَنِي آدَمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَكَلَّمَ رَجُلًا وَاحِدًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ أَنَّمَا يَقَعُ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَلِّمَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَإِنَّمَا يَقَعُ يَمِينُهُ عَلَى مَنْ كَلَّمَ مِنْهُمْ فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْكُلِّ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إيقَاعَ جَمِيعِ جِنْسِ الطَّلَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ فَلَا يُمْكِنُهُ إيقَاعُ جَمِيعِ هَذَا الْجِنْسِ فَصَارَ قَائِلًا أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضًا مِنْ الطَّلَاقِ أَيْ بَعْضًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْفِعْلِ الْمُمْتَازِ عَنْ الْأَفْعَالِ الْأُخَرِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَالْوَاحِدُ مُتَيَقَّنٌ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ كَذَا فِي طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِهِمَا (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَ الِاسْمُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ اللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَصَحَّ نَعْتُهُ بِاسْمِ الْجَمْعِ فَيُقَالُ جَاءَنِي الرَّجُلُ الطِّوَالُ كَمَا يُقَالُ جَاءَنِي الرِّجَالُ الطِّوَالُ (قُلْنَا) يَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقَالُ أَهْلَكَ النَّاسُ الدِّينَارَ الصُّفْرَ وَالدِّرْهَمَ الْبِيضَ كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ إلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يُنْعَتَ بِاللَّفْظِ الْفَرْدِ مُرَاعَاةً لِلصُّورَةِ وَمُحَافَظَةً عَلَى التَّشَاكُلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ إنْ كَانَ عَامًّا عِنْدَ الشَّيْخِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَتْنًا وَلَا لِلْكُلِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُحْتَمِلًا لِمَا دُونَهُ إلَى الْأَدْنَى كَمَا هُوَ مُوجِبُ سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَإِنَّهَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَحْمِلُ عَلَى الْأَدْنَى التَّعَذُّرُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَدُّ لَامِ التَّعْرِيفِ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا وَلَكِنْ مُوجِبُ الْعَامِّ عِنْدَهُ تَنَاوُلُهُ لِلْأَدْنَى عَلَى احْتِمَالِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ الْعَامِّ عِنْدَهُ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَدَلَالَةُ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ أَيْضًا لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنَّ الْعَامَّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ مَعَ كَوْنِهِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لِلْعُمُومِ وَالْجِنْسُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى لِوُجُودِ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْجِنْسِ فِيهِ مَعَ رِعَايَةِ الْفَرْدِيَّةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كَمَا قَرَعَ سَمْعَك غَيْرَ مَرَّةٍ. وَفِي الْجُمْلَةِ
(2/15)
 
 
وَمِثَالُهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ لَامَ الْمَعْرِفَةِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا ثُمَّ تُعَاوِدَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْهُودًا قَالَ اللَّهُ {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَمِثَالُهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا فِيمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُقَيَّدًا بِصِلَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ كَذَلِكَ أَنَّ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَكِرَةً كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنْ يَتَّحِدَ الْمَجْلِسُ فَيَصِيرُ دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى الْعَهْدِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لِدَلَالَةِ الْعَادَةِ عَلَى مَعْنَى الْعَهْدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
لَمْ يَتَّضِحْ لِي حَقِيقَةُ مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا غَرْوَ إذْ هُوَ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ. مُتَغَلْغِلًا فِي مَضَايِقِ مَسَالِكِ التَّدْقِيقِ. فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ الْعُثُورِ عَلَى مَقْصُودِهِ وَمَرَامِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقَائِقِ نُكَتِهِ وَأَسْرَارِ كَلَامِهِ. فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا قَوْلَ الْجُمْهُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (قَوْلُ عُلَمَائِنَا) أَيْ مِثَالُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّكِرَةَ تَصِيرُ لِلْجِنْسِ بِدُخُولِ اللَّامِ قَوْلُ عُلَمَائِنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ وَقَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَهُ أَنَّهَا تَطْلُقُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ كَمَا تَرَى. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ عُلَمَائِنَا عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا تَطْلُقُ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّامَ فِي قخوله الْمَرْأَةُ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى وَهِيَ الْوَاحِدَةُ ثُمَّ هِيَ مَجْهُولَةٌ مُنَكَّرَةٌ إذْ اللَّامُ لَيْسَتْ لِتَعْرِيفِهَا وَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى مَجْهُولَةٍ إلَّا أَنَّهَا قَدْ تَتَعَيَّنُ وَيَتَعَرَّفُ بِالْوَصْفِ وَقَدْ وَصَفَ بِالتَّزَوُّجِ فَيَتَعَيَّنُ بِهَذَا الْوَصْفِ فَكَانَ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعَيُّنُ الَّذِي لَا بُدَّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِتَوَقُّفِ صَيْرُورَتِهَا مَعْلُومَةً عَلَيْهِ وَهُوَ يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى التَّزَوُّجِ وَهُوَ وَصْفٌ عَامٌّ فَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا حَيْثُ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ عَرَّفَهَا بِأَبْلَغِ جِهَاتِ التَّعْرِيفِ فَلَا يَحْصُلُ بِالْوَصْفِ تَعْرِيفٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ بَلْ يَكُونُ مُجَرَّدُ وَصْفٍ فَبَقِيَ إيقَاعُهَا لِلْحَالِ فَبَطَلَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ الْعَبْدُ الَّذِي أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَعْتِقُ وَلَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَعْتِقُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تَطْلُقُ وَلَا تَطْلُقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ طَالِقٌ طَلُقَتْ لِلْحَالِ دَخَلَتْ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّكِرَةَ بِدُخُولِ اللَّامِ تَصِيرُ لِلْجِنْسِ. وَمِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا ثُمَّ تُعَاوِدَهُ. إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُقَيَّدٍ بِصَكٍّ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ كَذَلِكَ أَيْ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ الصَّكِّ بِأَنْ أَدَارَ صَكًّا عَلَى الشُّهُودِ وَأَقَرَّ بِمَا فِيهِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْأَلْفُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ نَكِرَةً أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِصَكٍّ بِأَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُطْلَقًا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُطْلَقًا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ وَالْمَجْلِسُ وَاحِدٌ كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ مُخْتَلِفًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ حَتَّى يَلْزَمَهُ أَلْفَانِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ فِي تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ لِتَأْكِيدِ الْحَقِّ بِالزِّيَادَةِ فِي الشُّهُودِ فَيَكُونُ الثَّانِي تَكْرَارًا لِلْأَوَّلِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَالُ بِالشَّكِّ وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ ثَانِيًا بِأَلْفٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَ وَاحِدًا ثُمَّ بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَ آخَرَ وَكَرَّرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَكْرَارٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُنَكَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَالنَّكِرَةُ إذَا كُرِّرَتْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَتَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ صَكًّا عَلَى حِدَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَى كُلِّ صَكٍّ شَاهِدَيْنِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَصِيرُ الْمَالُ مُسْتَحْكَمًا فَفَائِدَةُ إعَادَتِهِ اسْتِحْكَامُ الْمَالِ بِإِتْمَامِ الْحُجَّةِ. وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِعَادَةِ إسْقَاطُ مُؤْنَةِ الْإِثْبَاتِ
(2/16)
 
 
وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنَ؛ لِأَنَّ الْعُسْرَ أُعِيدَ مَعْرِفَةً وَالْيُسْرُ أُعِيدَ نَكِرَةً إنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى ذَلِكَ الْأَلْفَ فَإِعَادَتُهُ تَحْصُلُ مُعَرَّفًا. وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ الصَّكَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُنَاكَ صَارَ مُعَرَّفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ وَالْمُنَكَّرِ أَوْ الْمُعَرَّفِ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارَانِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ مَالَانِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرٌ فِي جَمْعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَجَعْلِهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ فَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الثَّانِي مُعَرَّفًا مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَقَارِيرَ بِالزِّنَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جُعِلَ فِي حُكْمِ إقْرَارٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ فِي مَجْلِسٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَوْ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ بِأَلْفٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا كُرِّرَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ.
هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. وَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ خَرَجَ إلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا وَهُوَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْعُسْرُ فِي جُحْرٍ لَطَلَبَهُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُسْرَ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَكَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْيُسْرَ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً أَوْ نَكِرَةً أَوْ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُسْتَغْرِقَةٌ لِلْجِنْسِ وَالنَّكِرَةَ مُتَنَاوِلَةٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمًا كَانَ أَوْ مُؤَخَّرًا وَالنَّكِرَةُ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَنَاوِلَةٌ لِلْبَعْضِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَوْ انْصَرَفَتْ إلَى الْأُولَى لَتَعَيَّنَتْ ضَرْبَ تَعَيُّنٍ بِأَنْ لَا يُشَارِكَهَا غَيْرُهَا فِيهِ فَلَا يَبْقَى نَكِرَةً وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ الْعُسْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهَلٍ وَقُلْنَا الْقَوْمُ أَخَوَانِ ... عَسَى الْأَيَّامُ أَنْ يُرْجِعْنَ يَوْمًا كَاَلَّذِي كَانُوا
وَمِثَالُ الثَّالِثِ قَوْله تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] . وَمِثَالُ الرُّجُوعِ الْيُسْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ وَسُدُسَ تَطْلِيقَةٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كُلَّ جُزْءٍ إلَى تَطْلِيقَةٍ نَكِرَةٍ فَكَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى وَسُدُسَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَسُدُسَهَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً فَكَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ وَسُدُسَ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ جَاءَنِي الْيَوْمَ نِسَاءٌ حِسَانٌ أَوْ رَأَيْت الْيَوْمَ نِسَاءً حِسَانًا أَوْ عَبِيدًا حِسَانًا ثُمَّ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت نِسَاءً فَكَذَا أَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا فَكَذَا فَتَزَوَّجَ ثُلُثًا مِنْ غَيْرِهِنَّ أَوْ اشْتَرَى ثُلُثَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ يَحْنَثُ. وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت النِّسَاءَ أَوْ اشْتَرَيْت
(2/17)
 
 
وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدَنَا بَلْ هَذَا تَكْرِيرٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى - ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34 - 35]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
الْعَبِيدَ فَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ أَوْ اشْتَرَطَ غَيْرَهُمْ لَا يَحْنَثُ كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ تَحْقِيقِ حُرُوفِ الْمَعَانِي ثُمَّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] إنَّمَا أُدْخِلَتْ الْفَاءُ فِي الْأَوَّلِ جَوَابًا لِتَعْيِيرِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ بِالْفَقْرِ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ وَعْدٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُومِنِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ.
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأُولَى عِدَةً بِأَنَّ الْعُسْرَ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مَرْدُودٌ بِيُسْرٍ لَا مَحَالَةَ وَالثَّانِيَةُ عِدَةٌ بِأَنَّ الْعُسْرَ مَتْبُوعٌ بِيُسْرٍ فَهُمَا يُسْرَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ وَإِنَّمَا كَانَ الْعُسْرُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ الْعُسْرُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فَهُوَ هُوَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ زَيْدٍ فِي قَوْلِك إنَّ مَعَ زَيْدٍ مَالًا إنَّ مَعَ زَيْدٍ مَالًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ الَّذِي يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ فَهُوَ هُوَ أَيْضًا وَإِمَّا الْيُسْرُ فَمُنَكَّرٌ مُتَنَاوِلٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ الثَّانِي مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُكَرَّرٍ فَقَدْ تَنَاوَلَ بَعْضًا غَيْرَ الْبَعْضِ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْيُسْرَيْنِ مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنْ الْفُتُوحِ فِي أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ فِي أَيَّامِ الْخُلَفَاءِ. وَأَنْ يُرَادَ يُسْرُ الدُّنْيَا وَيُسْرُ الْآخِرَةِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي " يُسْرًا " لِلتَّفْخِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا عَظِيمًا وَأَيُّ يُسْرٍ. وَعَنْ الْعُتْبِيِّ أَوْ الْقُتَبِيِّ قَالَ كُنْت يَوْمًا مَغْمُومًا بِالْبَادِيَةِ فَأُلْقِيَ فِي رَوْعِي قَوْلُ مَنْ قَالَ:
أَرَى الْمَوْتَ لِمَنْ أَصْبَحَ مَغْمُومًا لَهُ رُوحٌ
فَسَمِعْت بِاللَّيْلِ هَاتِفًا مِنْ السَّمَاءِ يَقُولُ:
أَلَا يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ الَّذِي الْهَمُّ بِهِ بَرَّحْ ... وَقَدْ أَنْشَدْت بَيْتًا لَمْ تَزَلْ فِي فِكْرِهِ تَسْبَحْ
إذَا اشْتَدَّتْ بِك الْعُسْرَى فَفَكِّرْ فِي أَلَمْ نَشْرَحْ ... فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ إذَا فُكِّرْتَهَا فَافْرَحْ
قَالَ فَحَفِظْت الْأَبْيَاتَ وَفَرَّجَ اللَّهُ غَمِّي
وَقَالَ آخَرُ:
تَوَقَّعْ إذَا مَا عَرَتْكَ الْهُمُومُ ... سُرُورًا يُشَرِّدُهَا عَنْكَ قَسْرَا
تَرَى اللَّهَ يُخْلِفُ مِيعَادَهُ ... وَقَدْ قَالَ إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَا
قَوْلُهُ (وَفِيهِ نَظَرٌ) ذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى وَالنَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى نَظَرًا فَإِنَّهُ قَدْ يَنْعَكِسُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] . الْكِتَابُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِنْ ذُكِرَا مُعَرَّفَيْنِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] . الضَّعْفُ الثَّانِي عَيْنُ الْأَوَّلِ وَإِنْ ذُكِرَا مُنَكَّرَيْنِ وَكَذَا الْقُوَّةُ الثَّانِيَةُ عَيْنُ الْأُولَى وَإِنْ ذُكِرَتَا مُنَكَّرَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ كَذَا ذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ يَعْنِي وَثَبَتَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ وَيَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ " ح " مَذْكُورَةً عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَنَّهَا مَذْكُورَةٌ عَلَى وَجْهِ التَّكْرِيرِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى لِتَقْرِيرِ مَعْنَاهَا فِي النُّفُوسِ وَيُمْكِنُهَا فِي الْقُلُوبِ كَمَا كَرَّرَ قَوْله تَعَالَى. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] . {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى - ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34 - 35] .
وَكَمَا يُكَرَّرُ الْمُفْرَدُ فِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ زَيْدٌ وَعَلِيٌّ هَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى النَّظَرِ. ثُمَّ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ قَدْ يُتْرَكُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِ كَمَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّعَذُّرُ هَهُنَا فِيمَا ذُكِرَ فَإِنَّ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ لَمَّا وُصِفَ بِقَوْلِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ الْكِتَابَ الثَّانِي بَيَانًا. لِمَا لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ قُوَّةِ الشَّبَابِ قُوَّةٌ أُخْرَى
(2/18)
 
 
وَإِذَا تَعَذَّرَ مَعْنَى الْعَهْدِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ لِيَكُونَ تَعْرِيفًا لَهُ مِثْلُ قَوْلِك فُلَانٌ يُحِبُّ الدِّينَارَ أَيْ هَذَا الْجِنْسَ إذْ لَيْسَ فِيهِ عَيْنٌ مَعْهُودَةٌ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ.
 
وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا رَجُلًا كُوفِيًّا وَلَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً إلَّا امْرَأَةً كُوفِيَّةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
لَا يُمْكِنُ صَرْفُ الْقُوَّةِ الثَّانِيَةِ إلَى غَيْرِ الْأُولَى فَتَرْكُ هَذَا الْأَصْلِ لِلتَّعَذُّرِ. فَأَمَّا الضَّعْفُ الثَّانِي فَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِإِمْكَانِ صَرْفِ كُلِّ وَاحِدٍ إلَى ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الضَّعْفُ الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ وَالضَّعْفُ الثَّانِي ضَعْفُ الطُّفُولَةِ وَمَعْنَاهُ خَلَقَكُمْ مِنْ مَاءٍ ذِي ضَعْفٍ وَعَنَى بِضَعْفِهِ قِلَّتَهُ أَوْ حَقَارَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] . ثُمَّ جَعَلَ وَمِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ أَيْ ضَعْفِ الطُّفُولَةِ قُوَّةً أَيْ قُوَّةَ الشَّبَابِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِهِ قُوَّةَ الشَّبَابِ ضَعْفًا وَشَيْبَةً أَيْ عِنْدَ الْكِبَرِ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا تَعَذَّرَ) مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ كَلَامٍ يَعْنِي لَامَ الْمَعْرِفَةِ لِلْعَهْدِ وَإِذَا تَعَذَّرَ مَعْنَى الْعَهْدِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ مَجَازًا وَفِي الْجِنْسِ مَعْنَى الْعُمُومِ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ اللَّامُ فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ إذْ لَيْسَ يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى مَعْهُودِ فَيَثْبُتُ فِيهِ مَعْنَى الْعُمُومِ حَتَّى إذَا نَوَى الثَّلَاثَ يَقَعُ وَلَكِنَّهُ بِدُونِ النِّيَّةِ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجِنْسِ وَهِيَ الْمُتَيَقَّنُ بِهَا.
 
[النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ]
قَوْلُهُ وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ وَصْفٌ عَامٌّ. وَالْمُرَادُ بِعُمُومَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ نَوْعِ الْمَوْصُوفِ وَلَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ كَقَوْلِهِ رَجُلٌ كُوفِيٌّ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ كُلُّ رِجَالِ الْكُوفَةِ فَإِذَا وُصِفَتْ النَّكِرَةُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ تَتَعَمَّمُ ضَرُورَةَ عُمُومِ الْوَصْفِ وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا خَاصَّةً كَمَا تَتَعَمَّمُ بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَبِكَلِمَةِ كُلٍّ. فَإِذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا رَجُلًا أَوْ لَا أَتَزَوَّجُ أَحَدًا إلَّا امْرَأَةً كَانَ الْمُسْتَثْنَى رَجُلًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ كَلَّمَ رَجُلَيْنِ أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ. وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا أَوْ رَجُلًا كُوفِيًّا كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَ كُلَّ عَالِمٍ أَوْ كُلَّ كُوفِيٍّ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ لِعُمُومِ الْوَصْفِ وَالنَّكِرَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَصِيرَ عَامَّةً بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا كَمَا بَيَّنَّا فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَمَّمَ بِاتِّصَافِهَا بِالْوَصْفِ الْعَامِّ إذْ الْوَصْفُ الْمَوْصُوفُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى. {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] .
حَيْثُ صَارَ كُلُّ دَمٍ مَسْفُوحٍ مُسْتَثْنًى وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَوْصُوفَةً الِاسْتِثْنَاءُ بِاسْمِ الشَّخْصِ فَيَتَنَاوَلُ شَخْصًا وَاحِدًا وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً فَالِاسْتِثْنَاءُ بِصِفَةِ النَّوْعِ فَتَخُصُّ ذَلِكَ النَّوْعَ لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَثْنًى كَذَا فِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا فَإِنَّ قَوْلَك رَأَيْت رَجُلًا عَالِمًا أَخَصُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِك رَأَيْت رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَنَاوَلَ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ شَائِعٌ فِي كُلِّ الْجِنْسِ يَصْلُحُ لِتَنَاوُلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ إفْرَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَقَوْلُك رَأَيْت رَجُلًا عَالِمًا شَائِعٌ فِي بَعْضِ الْجِنْسِ وَهُمْ الْعَالِمُونَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا فِي كُلِّهِ. وَكَذَا قَوْلُك مَا رَأَيْت رَجُلًا عَمَّ النَّفْيُ جَمِيعَ الْجِنْسِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَقَوْلُك مَا رَأَيْت رَجُلًا عَامًّا عَمَّ النَّفْيُ بَعْضَ الْجِنْسِ وَهُمْ الْعَالِمُونَ لَا كُلُّهُ حَتَّى لَوْ رَأَى رَجُلًا غَيْرَ عَالِمٍ لَا يَكُونُ كَاذِبًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأُكَلِّمَنَّ الْيَوْمَ رَجُلًا عَالِمًا أَوْ رَجُلًا كُوفِيًّا أَوْ قَالَ لَأَتَزَوَّجَنَّ امْرَأَةً كُوفِيَّةً يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ بِكَلَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَبِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا غَيْرُ وَكُلَّمَا ازْدَادَ وَصْفٌ فِي الْكَلَامِ ازْدَادَ تَخْصِيصٌ هَذَا هُوَ مُوجِبُ اللُّغَةِ وَمَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ.
وَقَدْ كُنْت فِي مَجْلِسِ شَيْخِنَا
(2/19)
 
 
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[كشف الأسرار]
الْعَلَّامَةِ وَأُسْتَاذِ الْأَئِمَّةِ مَوْلَانَا حَافِظِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ بُحْبُوحَةَ جَنَّاتِهِ وَكَانَ الْمَجْلِسُ غَاصًّا بِالْعُلَمَاءِ النَّحَارِيرِ وَالْفُضَلَاءِ الْحُذَّاقِ الْمُهْرَةِ إذْ جَرَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْكِبَارِ تَعْمِيمُ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ مُخْتَصٌّ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ وَبِكَلِمَةٍ أَيْ دُونَ مَا عَدَاهُمَا وَتَمَسَّكَ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَالنَّظَائِرِ فَلَمْ يُقَابِلْ بِرَدِّ مَسْمُوعٍ وَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ جَوَابًا شَافِيًا وَرَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَى حَاشِيَةِ تَقْوِيمِ مَقْرُوءٍ عَلَى شَيْخِنَا هَذَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ وَفِي مَوْضِعِ التَّحْرِيضِ يَتَعَمَّمُ فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ الْجَزَاءِ وَالْخَبَرِ فَلَا يَتَعَمَّمُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَكَقَوْلِك جَاءَنِي رَجُلٌ عَالِمٌ.
ثُمَّ النَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ أَنَّمَا يَتَعَمَّمُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ إثْبَاتٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ دَاخِلَةً فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ أَخْرَجَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ تَقْدِيرًا وَالِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ بِنَفْسِهِ فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ صَدْرِ