إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد
المؤلف: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182هـ)
عدد الأجزاء: 1   
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
 
مُقَدّمَة الْمُؤلف
الْحَمد لله الَّذِي ذلل صعاب عُلُوم الِاجْتِهَاد لعلماء الْأمة وحفظها بأساطين الْحفاظ وجهابذة الْأَئِمَّة فتتبعوها من الأفواه والصدور وخلدوها للمتأخرين من الْأمة فِي الأوراق والسطور واستنبطوا من الْقَوَاعِد مَا لَا يَزُول بمرور الدهور واطلعوا من انوار علم الْكتاب وَالسّنة على أنوار البصائر نورا على نور وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله المتكفل بِحِفْظ عُلُوم الدّين وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الَّذِي يحمل علمه من كل خلف عدوله ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله قرناء الْقُرْآن صَلَاة وَسلَامًا يدومان مَا دارت الأفلاك وَاخْتلف الملوان وَبعد فَإِن السَّيِّد قَاسم بن مُحَمَّد الكبسي رَحمَه الله سَأَلَ عَن الْمسَائِل العلمية والأبحاث العملية نزلت علينا نزُول الْغَيْث على الرياض بل الْعَافِيَة على الْأَجْسَام المراض
سُؤال وخلاصة مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ أَنه هَل يكون الْعَمَل من
(1/73)
 
 
الْمُتَأَخِّرين بتصحيح الْأَئِمَّة من أهل الحَدِيث للْحَدِيث أَو تُحسنهُ أَو تَضْعِيفه تقليدا لأولئك الْحفاظ من الْأَئِمَّة والأعيان من الْأمة فِيمَا وصفوا بِهِ الحَدِيث من تِلْكَ الصِّفَات وَيكون الْقَائِل لذَلِك وَالْعَامِل بِهِ مُقَلدًا أَو يكون فِيمَا قبله من كَلَامهم فِي ذَلِك وَعمل بِهِ مُجْتَهدا فَإِنَّهُ قَالَ السَّيِّد الإِمَام مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فِي الرَّوْض الباسم إِن قَول الثِّقَة الْعَارِف الَّذِي لَيْسَ لَهُ قَاعِدَة فِي التَّصْحِيح مَعْلُومَة الْفساد إِن الحَدِيث صَحِيح يجب قبُول قَوْله بالأدلة الْعَقْلِيَّة والسمعية الدَّالَّة على قبُول خبر الْوَاحِد وَلَيْسَ ذَلِك بتقليد بل هُوَ عمل بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من قبُول خبر الثِّقَات هَذَا كَلَامه وَلكنه خَالف كَلَام القَاضِي الْعَلامَة الْحُسَيْن بن مُحَمَّد المغربي فِي شرح بُلُوغ المرام فَإِنَّهُ قَالَ
(1/74)
 
 
من لم يكن أَهلا للنقد والتصحيح فَلهُ أَن يُقَلّد فِي ذَلِك من صحّح أَو حسن مِمَّن هُوَ أَهله فَإِن لم يكن أحد من الْأَئِمَّة تكلم بذلك على الحَدِيث وَلَيْسَ هُوَ بِأَهْل للنقد لم يجز لَهُ الِاحْتِجَاج بِالْحَدِيثِ إِذْ لَا يَأْمَن من أَن يحْتَج بِمَا لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ قَالَ وَلِهَذَا أحَال جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين الِاجْتِهَاد الْمُطلق لتعسر التَّصْحِيح والتقليد فِي التَّصْحِيح يُخرجهُ عَن الْقَصْد وَهُوَ الإجتهاد قَالَ وَلم يَتَيَسَّر فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة إِلَّا تَرْجِيح لبَعض الْمذَاهب على بعض بِالنّظرِ إِلَى قُوَّة الدّلَالَة أَو إِلَى كَثْرَة من صحّح أَو جلالته وَالْوَاجِب الرُّجُوع إِلَى الظَّن القوى بِحَسب الْإِمْكَان رَأَيْت السَّائِل دَامَت إفادته جنح إِلَى تَرْجِيح كَلَام القَاضِي قَائِلا إِنَّه قد يفرق بَين التَّصْحِيح والتضعيف وَبَين الرِّوَايَة فَإِن تَصْحِيح الحَدِيث وتضعيفه مَسْأَلَة اجتهادية ونظرية قد يخْتَلف الإمامان العظيمان فِي الحَدِيث الْوَاحِد فأحدهما يذهب إِلَى صِحَّته أَو حسنه وَالْآخر إِلَى ضعفه أَو وَضعه بِاعْتِبَار مَا حصل لَهما من الْبَحْث وَالنَّظَر وَلَيْسَ حَال الرِّوَايَة كَذَلِك فَإِن مدارها على الضَّبْط وَالْعَدَالَة ومدار التَّصْحِيح والتحسين وَنَحْوهمَا على قُوَّة الْيَد فِي
(1/75)
 
 
معرفَة الرِّجَال والعلل الْمُتَعَلّقَة بِالْأَسَانِيدِ والمتون وَمَعْرِفَة الشواهد والمتابعات وَالْقَاضِي قد جزم بِأَن قَول الْحَافِظ فِي التَّصْحِيح تَقْلِيد وَإِذا نظرتم إِلَى تصرف الْعَلامَة الْحسن بن أَحْمد الْجلَال فِي ضوء النَّهَار لم يجد الْإِنْسَان فِي يَده غير مَا أَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي من التَّرْجِيح بِقُوَّة الدّلَالَة أَو كَثْرَة من صحّح أَو جلالته وَلم يكن مِمَّن يعرف الْأَسَانِيد والعلل مثل الْمُنْذِرِيّ وَابْن حجر وَالنَّوَوِيّ وَمن فِي طبقتهما من الْمُتَأَخِّرين دع عَنْك الْأَئِمَّة الْكِبَار مثل الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ مَعَ تصريحه فِي غير مَوضِع من كتبه بِالِاجْتِهَادِ الْمُطلق وَكَذَا الْعَلامَة المقبلي سلك هَذَا المسلك وَلم يزل هَذَا السُّؤَال يخْطر بالبال فأفضلوا بِالْجَوَابِ انْتهى
الْجَواب مَا حرر السَّائِل لَا زَالَ مُفِيدا وَلَا برح فِي أنظاره العلمية سديدا وَأَقُول الْجَواب يظْهر إِن شَاءَ الله تَعَالَى بِذكر فُصُول تشْتَمل على إِيضَاح الْمَسْأَلَة بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وهدايته
(1/76)
 
 
فصل فِي تَعْرِيف الحَدِيث الصَّحِيح
رسم الْحَافِظ ابْن حجر رَحمَه الله فِي كِتَابه نخبة الْفِكر الحَدِيث الصَّحِيح بِأَنَّهُ مَا نَقله عدل تَامّ الضَّبْط مُتَّصِل السَّنَد غير مُعَلل وَلَا شَاذ وَقَالَ وَهُوَ الصَّحِيح لذاته وَقَرِيب مِنْهُ رسم ابْن الصّلاح وزين الدّين بِأَنَّهُ مَا اتَّصل إِسْنَاده بِنَقْل عدل ضَابِط عَن مثله من غير شذوذ وَلَا عِلّة قادحة
(1/77)
 
 
إِذا عرفت هَذَا فَهَذِهِ خَمْسَة قيود ثَلَاثَة وجودية وَاثْنَانِ عدميان وَكلهَا إِخْبَار كَأَنَّهُ قَالَ الثِّقَة حِين قَالَ حَدِيث صَحِيح هَذَا الحَدِيث رُوَاته عدُول مأمونوا الضَّبْط مُتَّصِل إسنادهم لم يُخَالف فِيهِ الثِّقَة مَا رَوَاهُ النَّاس وَلَيْسَ فِيهِ أَسبَاب خُفْيَة طرأت عَلَيْهِ تقدح فِي صِحَّته وَحِينَئِذٍ قَول الثِّقَة صَحِيح يتَضَمَّن الْإِخْبَار بِهَذِهِ الْجمل الْخمس وَقد تقرر بالبرهان الصَّحِيح أَن الْوَاجِب أَو الرَّاجِح الْعَمَل بِخَبَر الْعدْل وَالْقَبُول لَهُ وتقرر أَن قبُوله لَيْسَ من التَّقْلِيد لقِيَام الدَّلِيل على قبُول خَبره فالتصحيح مثلا وَالرِّوَايَة للْخَبَر قد اتفقَا أَنَّهُمَا إِخْبَار إِمَّا بِالدّلَالَةِ المطابقية أَو التضمينية أَو الإلزامية أما قبُول خَبره الدَّال بالمطابقة فَلَا كَلَام فِيهِ كَقَوْلِه زيد قَائِم أما قبُول خَبره الدَّال بالتضمن أَو الإلتزام فَيدل على قبُوله أَنهم جعلُوا من طرق التَّعْدِيل حكم مشترط الْعَدَالَة بِالشَّهَادَةِ وَعمل الْعَالم الْمُشْتَرط لَهَا رِوَايَة من
(1/78)
 
 
لَا يروي إِلَّا عَن عدل فَإِنَّهُم صَرَّحُوا فِي الْأُصُول وعلوم الحَدِيث أَن هَذِه طرق التَّعْدِيل وَمَعْلُوم أَن دلَالَة هَذِه الصُّورَة على عَدَالَة الرَّاوِي وَالشَّاهِد التزامية فَقَوْل الثِّقَة حَدِيث صَحِيح يتَضَمَّن الْإِخْبَار بالقيود الْخَمْسَة وَالرِّوَايَة لَهَا وَلَا يُقَال إِن إخْبَاره بِأَنَّهُ صَحِيح إِخْبَار على ظَنّه بِحُصُول شَرَائِط الصِّحَّة عِنْد ظَنّه كَمَا يدل لَهُ أَنه صرح زين الدّين وَغَيره بِأَن قَول الْمُحدثين هَذَا حَدِيث صَحِيح فمرادهم فِيمَا ظهر لنا عملا بِظَاهِر الْإِسْنَاد لَا أَنه مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ فِي نفس الْأَمر لأَنا نقُول إِخْبَار الثِّقَة بِأَن زيدا عدل إِخْبَار عَن ظَنّه بِأَنَّهُ آتٍ بالواجبات مجتنب للمقبحات بِحَسب مَا رَآهُ من ذَلِك وَأخْبر مَعَ جَوَاز أَنه فِي نفس الْأَمر غير مُسلم لَكِن هَذِه التجويزات لَا يُخَاطب بهَا الْمُكَلف
 
من شُرُوط الصَّحِيح السَّلامَة من الشذوذ وَالْعلَّة
فَإِن قلت من شُرُوط الصَّحِيح السَّلامَة من الشذوذ وَالْعلَّة وَلَيْسَ مدرك هذَيْن الْأَمريْنِ الْإِخْبَار بل تتبع الطّرق والأسانيد والمتون كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّائِل قلت أما أَولا فالشذوذ وَالْعلَّة نادران وَالْحكم للْغَالِب لَا للنادر أَلا
(1/79)
 
 
ترى أَن الرَّاجِح الْعَمَل بِالنَّصِّ وَإِن جوز أَنه مَنْسُوخ عملا بالأغلب وَهُوَ عدم النّسخ وبرهان ندورهما يعرف من تتبع كَلَام أَئِمَّة الحَدِيث على طرق الْأَحَادِيث من مثل الْبَدْر الْمُنِير وتلخيصه فَإِنَّهُم يَتَكَلَّمُونَ على مَا قيل فِي الحَدِيث فتجد الْقدح بالشذوذ والإعلال نَادرا جدا بل قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فِي التَّنْقِيح ظَاهر الحَدِيث المعل السَّلامَة من الْعلَّة حَتَّى تثبت بطرِيق مَقْبُولَة أما ثَانِيًا فَقَوْل الثِّقَة هَذَا صَحِيح أَي غير شَاذ وَلَا مُعَلل إِخْبَار بِأَنَّهُ لم يَقع فِي رُوَاته راو ثِقَة خَالف النَّاس فِيهِ وَلَا وجدت فِيهِ عِلّة تقدح فِي صِحَّته
(1/80)
 
 
وَهَذَا إِخْبَار عَن حَال الرواي بِصفة زَائِدَة على مُجَرّد عَدَالَته وَحفظه أَو حَال الْمَتْن بِأَن أَلْفَاظه مصونة عَن ذَلِك وَلَيْسَ هَذَا خَبرا عَن اجْتِهَاد بل عَن صِفَات الروَاة والمتون فَإِنَّهُ إِخْبَار بِأَنَّهُ تتبع أَحْوَال الروَاة حَتَّى علم من أَحْوَالهم صِفَات زَائِدَة على مُجَرّد الْعَدَالَة وَفِي التَّحْقِيق هَذَا عَائِدَة إِلَى تَمام الضَّبْط وتتبع مروياتهم حَتَّى أحَاط بألفاظها فَالْكل عَائِد إِلَى الْإِخْبَار عَن الْغَيْر لَا عَن الِاجْتِهَاد الْحَاصِل عَن دَلِيل ينقدح لَهُ مِنْهُ رَأْي
 
تَصْحِيح الْأَئِمَّة وتضعيفهم للأحاديث اجْتِهَاد أم تَقْلِيد
وَأَنت إِذا نظرت إِلَى الْأَئِمَّة النقاد من الْحفاظ كالحاكم أبي عبد الله وَأبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَنَحْوهم كالمنذري وتصحيحهم لأحاديث وتضعيفهم لأحاديث واحتجاجهم على الْأَمريْنِ مُسْتَندا إِلَى كَلَام من تقدمهم كيحيى بن معِين وَأحمد بن حَنْبَل وَأبي عبد الله البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهم من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن وَأَنه ثَبت لَهُ عَنْهُم أَو عَن أحدهم أَنه قَالَ فلَان حجَّة أَو ثَبت أَو عدل أَو نَحْوهَا من عِبَارَات التَّعْدِيل وَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي غَيره إِنَّه ضَعِيف أَو كَذَّاب أَو لَا شَيْء أَو نَحْوهَا ثمَّ فرعوا على هَذِه الرِّوَايَات صِحَة الحَدِيث أَو ضعفه بِاعْتِبَار مَا قَالَه من قبلهم فَإِنَّهُ تجنب ابْن إِسْحَاق من تجنبه من أهل الصِّحَاح بقول مَالك فِيهِ مَعَ أَن ابْن إِسْحَاق إِمَام أهل الْمَغَازِي
(1/81)
 
 
وقدحوا أَيْضا فِي الْحَارِث الْأَعْوَر بِكَلَام الشّعبِيّ فِيهِ وَلم يلْقوا ابْن إِسْحَاق وَلَا الْحَارِث بل قبلوا كَلَام من تقدم فيهم من الْأَئِمَّة وَإِذا حققت علمت أَن تَصْحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا مَبْنِيّ على ذَلِك وَكَذَلِكَ تضعيفهما فَإِنَّهُمَا لم يلقيا إِلَّا شيوخهما من الروَاة وَبينهمْ وَبَين الصَّحَابَة وسائط كَثِيرُونَ اعتمدوا فِي ثقتهم وَعدمهَا على الروَاة من الْأَئِمَّة قبلهم فَلم يعرفوا عدالتهم وضبطهم إِلَّا من أَخْبَار أُولَئِكَ الْأَئِمَّة فَإِذا كَانَ الْوَاقِع من مثل البُخَارِيّ فِي التَّصْحِيح تقليدا لِأَنَّهُ بناه على إِخْبَار غَيره عَن أَحْوَال من صحّح أَحَادِيثهم كَانَ كل قَابل لخَبر من تقدمه من الثِّقَات مُقَلدًا
(1/82)
 
 
وَإِن كَانَ الْوَاقِع من البُخَارِيّ من التَّصْحِيح اجْتِهَادًا مَعَ ابتنائه على خبر الثِّقَات فَلْيَكُن قَوْلنَا بِالصِّحَّةِ لخَبر البُخَارِيّ المتفرع عَن إِخْبَار الثِّقَات اجْتِهَادًا فَإِنَّهُ لَا فرق بَين الْإِخْبَار بِأَن هَؤُلَاءِ الروَاة ثِقَات حفاظ وَبَين الْإِخْبَار بِأَن الحَدِيث صَحِيح إِلَّا بالإجمال وَالتَّفْصِيل وَكَأَنَّهُم عدلوا عَن التَّفْصِيل إِلَى الْإِجْمَال اختصارا وتقريبا لأَنهم لَو أعقبوا كل حَدِيث بقَوْلهمْ رُوَاته عدُول حافظون رَوَاهُ مُتَّصِلا وَلَا شذوذ فِيهِ وَلَا عِلّة لطالت مَسَافَة الْكَلَام وضاق نطاق الْكتاب الَّذِي يؤلفونه عَن اسْتِيفَاء أَحَادِيث الْأَحْكَام فضلا عَمَّا سواهَا من الْأَخْبَار على أَن هَذَا التَّفْصِيل لَا يَخْلُو عَن الْإِجْمَال إِذْ لم يذكر فِيهِ كل راو على انْفِرَاده بصفاته بل فِي التَّحْقِيق أَن قَوْلهم عدل معدول بِهِ عَن آتٍ بالواجبات مجتنب للمقبحات محافظ على خِصَال الْمُرُوءَة متباعد عَن أَفعَال الخسة فعدلوا عَن هَذِه الإطالة إِلَى قَوْلهم عدل فَقَوْلهم عدل خبر انطوت تَحْتَهُ غُدَّة أَخْبَار كَمَا انطوت تَحت قَوْلهم صَحِيح وَإِذا عرفت هَذَا تبين لَك صِحَة قَول صَاحب الرَّوْض الباسم وَأَنه الصَّوَاب فِيمَا نَقله السَّائِل عَنهُ وَمثله قَوْله فِي التَّنْقِيح إِنَّه إِن نَص على صِحَة الحَدِيث أحد الْحفاظ المرضيين المأمونين فَيقبل ذَلِك مِنْهُ للْإِجْمَاع وَغَيره من الْأَدِلَّة الدَّالَّة على قبُول خبر الْآحَاد كَمَا ذَلِك مُبين فِي مَوْضِعه وَلَا يجوز ترك ذَلِك مَتى تعلق الحَدِيث بِحكم شَرْعِي
(1/83)
 
 
فصل فِي جَوَاز تَصْحِيح الحَدِيث وتضعيفه فِي هَذِه الْأَعْصَار
إِذا عرفت مَا قَرَّرْنَاهُ فَاعْلَم أَنه لَا مَانع لمن وجد فِي هَذِه الْأَعْصَار حَدِيثا لم يسْبق عَلَيْهِ كَلَام إِمَام من الْأَئِمَّة بتصحيح وَلَا غَيره فتتبع كَلَام ائمة الرِّجَال فِي أَحْوَال رُوَاته حَتَّى حصل لَهُ من كَلَامهم ثِقَة رِوَايَته أَو عدمهَا فَجزم بِأَيِّهِمَا على الحَدِيث كَمَا جزم من قبله من أَئِمَّة التَّصْحِيح والتضعيف من مثل البُخَارِيّ وَغَيره ومستنده فِي ذَلِك مُسْتَند من قبله كَمَا أوضحناه غَايَة الْفرق أَنه كثر الوسائط فِي حَقه لتأخر عصره فَكَانُوا أَكثر من الوسائط فِي حق من تقدمه لقرب عصرهم وَهَذَا مُوجب لمَشَقَّة الْبَحْث عَلَيْهِ لِكَثْرَة الروَاة الَّذين يبْحَث عَن أَحْوَالهم وَلَكِن رُبمَا كَانَ ثوابهم أَكثر لزِيَادَة مشقة الْبَحْث
(1/84)
 
 
هَذَا إِن كَانَت طَرِيق الْمُتَأَخر هِيَ الرِّوَايَة وَأَرَادَ معرفَة أَحْوَال شُيُوخه وتحقيقها حَتَّى يبلغ إِلَى مؤلف الْكتاب الَّذِي قَرَأَهُ أما إِذا كَانَت طَريقَة الإيجازة أَو الوجادة فَإِنَّهُ لَا كَثْرَة للوسائط
(1/85)
 
 
أصلا بل هُوَ كالقدماء فِي ذَلِك وَحِينَئِذٍ فَيكون مُجْتَهدا فِيمَا حكم بِصِحَّتِهِ مثلا فَإِنَّهُ كَمَا أَنه لَا محيص عَن القَوْل بِأَن تَصْحِيح الْأَئِمَّة الْأَوَّلين اجْتِهَاد فَإِنَّهُ إِنَّمَا بِنوح على مَا بلغ إِلَيْهِم من أَحْوَال الروَاة ففرعوا عَلَيْهِ التَّصْحِيح وجعلوه عبارَة عَن ثِقَة الروَاة وضبطهم كَذَلِك لَا محيص عَن القَوْل بِأَن مَا صَححهُ من بعدهمْ إِلَى يَوْمنَا هَذَا أَو ضَعَّفُوهُ أَو حسنوه حكمه حكم مَا قَالَه الْأَولونَ من الْأَئِمَّة إِذْ الأَصْل فِي الْكل وَاحِد وَهُوَ قبُول إِخْبَار من سلف عَن أَحْوَال الروَاة وصفاتهم وَإِلَّا كَانَ القَوْل بِخِلَاف هَذَا تحكما لَا يَقُول بِهِ عَالم وَإِذا عرفت هَذَا عرفت ضعف مَا قَالَه ابْن الصّلاح بل بُطْلَانه من أَنه لَيْسَ لنا الْجَزْم بالتصحيح فِي هَذِه الْأَعْصَار وَقد خَالفه النَّوَوِيّ وَرجح زين الدّين كَلَام النَّوَوِيّ وَهُوَ الْحق
(1/86)
 
 
وَلَعَلَّ القَاضِي شرف الدّين أغتر بِكَلَام ابْن الصّلاح فِي هَذَا الطّرف وَأما قَول القَاضِي إِن القَوْل بتصحيح الْأَئِمَّة الماضيين وَالْعَمَل عَلَيْهِ تَقْلِيد لَهُم فَلَا أعلم فِيهِ سلفا بل الْحق مَا قَدرنَا لَك من قَول الإِمَام صَاحب العواصم رَحمَه الله
(1/87)
 
 
فصل فِي مناقشة القَوْل بإستحالة الإجتهاد
أما قَول القَاضِي رَحمَه الله إِنَّه أحَال جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين الإجتهاد الْمُطلق لتعسر التَّصْحِيح والأهلية لذَلِك فَكَلَام لَا يَلِيق صدوره عَن مثله فَإِنَّهُ علل الإحالة بالتعسر وَغير خَافَ على نَاظر أَنه لَو سلم التعسر لبَعض طرق لَا يصير محالا غَايَته أَنه يصير متعسرا لَا محالا
(1/88)
 
 
وَلَكِن قد أطبقت عَامَّة أهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فِي هَذِه الْأَعْصَار وَمَا قبلهَا على مَا قَالَه القَاضِي شرف الدّين وَاشْتَدَّ مِنْهُم النكير على مدعي الِاجْتِهَاد من عُلَمَائهمْ قائلين إِنَّه قد تعذر ذَلِك من بعد الْأَئِمَّة وضاق مجَال الِاجْتِهَاد وَلم يبْق فِيهِ لمن بعدهمْ سَعَة وأطالوا ذَلِك بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ
(1/89)
 
 
فَإِنَّهُ غير خَافَ على من لَهُ نباهة أَن هَذَا مِنْهُم تهويل لَيْسَ عَلَيْهِ تعويل وَمُجَرَّد استبعاد لَا يهول قعاقع الأذكياء النقاد وَكَأن أُولَئِكَ المستبعدين لما رَأَوْا كَثْرَة اتِّبَاع الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين وعظمتم لما وهب الله لَهُم من الْعلم وَالدّين فِي صُدُور الْأَعْيَان من الْمُتَأَخِّرين ظنُّوا أَنهم غير مخلوقين من سلالة من طين وَلَو نظرُوا بِعَين الْإِنْصَاف وتتبعوا أَحْوَال الأسلاف والأخلاف لعلموا يَقِينا إِن فِي الْمُتَأَخِّرين عَن أُولَئِكَ الْأَئِمَّة من هُوَ أطول مِنْهُم فِي المعارف باعا وَأكْثر فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد اتساعا قد قيضهم الله لحفظ عُلُوم الِاجْتِهَاد من كل ذِي همة صَادِقَة وَنِيَّة صَالِحَة من الْعباد قد قربوا للمتأخرين مِنْهَا كل بعيد ومهدوها لَهُم كل تمهيد
(1/90)
 
 
فَمنهمْ من قيضه الله لتتبع علم اللُّغَة من أَفْوَاه الرِّجَال وَمن أَلْسِنَة النِّسَاء وَالصبيان فِي بطُون الأودية ورؤوس الْجبَال فَرَحل إِلَى بواديهم وَنزل مَعَهم فِي موارد مِيَاههمْ ومراعي مَوَاشِيهمْ وتتبعهم فِي الْبَوَادِي والقفار وواصلهم تَحت الْأَشْجَار والأحجار ولازمهم فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وصاحبهم فِي الأوطان ورافقهم فِي الْأَسْفَار وَقَامَ بإقامتهم فِي الْمضَارب والخيام وبيوت الشّعْر والتلول والآكام
(1/91)
 
 
يعرف ذَلِك من رحْلَة الْأَصْمَعِي والأزهري وَغَيرهمَا من كل ذِي همة سري حَتَّى جمعُوا فنونها وأناطوا مَعَانِيهَا وأجروا عيونها وأظهروا مخزونها حَتَّى أَصبَحت بحارا ذاخرة ورياضا ناضرة وأنواعا متكاثرة ومؤلفات فاخرة قد
(1/92)
 
 
فاق من عرفهَا من لَاقَى قس بن سَاعِدَة وسحبان وَصَارَ دونه من اخْتَلَط بالعرب العرباء فِي كل مَكَان وَعلم اللُّغَة بأنواعه هُوَ عُمْدَة عُلُوم الِاجْتِهَاد وبالتبحر فِيهِ وَعَدَمه تَتَفَاوَت النقاد وَألقى الله فِي قولب أَقوام محبَّة السّنة النَّبَوِيَّة والْآثَار السلفية ورزقهم همما تناطح السماك وتطاول الأطلس من الأفلاك فارتحلوا لطلبها من الأقطار وفارقوا الأوطان والأوطار وطووا فِي حبها الفيافي والقفار وقنعوا من الدُّنْيَا بالكفاف وَتركُوا لغَيرهم اللَّذَّات والأتراف وَاتَّخذُوا الزّهْد شعارا والقناعة دثار فسهر الأجفان ألذ إِلَيْهِم وَأطيب من الْمَنَام والجوع أشهى من الامتلاء من
(1/93)
 
 
نَفِيس الطَّعَام يرتحلون لسَمَاع الحَدِيث الْوَاحِد من الأقطار الشاسعة وَيطْلبُونَ من الأقاليم المتباعدة الواسعة فَفِي مثلهم يُقَال
طورا تراهم فِي الصَّعِيد
وَتارَة فِي أَرض آمد ... فيبتغون من الْعُلُوم
بِكُل أَرض كل شارد ... يدعونَ أَصْحَاب الحَدِيث
بهم تجملت الْمشَاهد
فَهَذَا أَبُو عبد الله البُخَارِيّ رَحل بعد إحاطته بِحَدِيث شُيُوخ بلدته إِلَى الشَّام والكوفة وَالْبَصْرَة وبلخ وعسقلان وحمص ودمشق وَكتب عَن ألف شيخ وَثَمَانِينَ شَيخا وَجمع للْمُسلمين هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تتبعها من الْآفَاق وَصَحب فِي تطلبها الرفاق بعد الرفاق فِي كِتَابه الْجَامِع الصَّحِيح يقرأه الْمُحدث قِرَاءَة تَحْقِيق واتقان فِي شهر من أشهر الزَّمَان وَغَيره من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن لَهُم أكمل منَّة على أهل الْإِيمَان فَإِنَّهُ تعبوا فِي جمع الْأَحَادِيث للمتأخرين ووزعوا أوقاتهم فِي تَحْصِيل مَا فِيهِ نفع الْمُسلمين حَتَّى لم يبْق لَهُم وَقت لغير نسخ الحَدِيث أَو السماع
(1/94)
 
 
فَفِي سير أَعْلَام النبلاء فِي تَرْجَمَة الإِمَام الْحَافِظ عبد الرحمن بن أبي حَاتِم صَاحب التَّفْسِير وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل والمسند الَّذِي أَلفه فِي ألف جُزْء قَالَ كُنَّا فِي مصر سَبْعَة أشهر لم نَأْكُل فِيهَا مرقة كل نهارنا مقسم لمجالس الشُّيُوخ وبالليل النّسخ والمقابلة قَالَ فأتينا يَوْمًا أَنا ورفيق لي شَيخا فَقَالُوا هُوَ عليل فَرَأَيْنَا فِي طريقنا سَمَكَة أعجبتنا فاشتريناها فَلَمَّا صرنا إِلَى الْبَيْت حضر وَقت مجْلِس فَلم يمكنا إِصْلَاحه ومضينا إِلَى الْمجْلس وَلم نزل حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام وَكَاد أَن يتَغَيَّر فأكلناه نيئا لم يكن لنا فرَاغ أَن نُعْطِيه من يشويه ثمَّ قَالَ لَا يُسْتَطَاع الْعلم براحة الْجِسْم
(1/95)
 
 
وقِي مثلهم يُقَال ... إِن علم الحَدِيث علم رجال ... تركُوا الابتداع لِلِاتِّبَاعِ ...
(1/96)
 
 
.. فَإِذا جن ليلهم كتبوه ... وَإِذا أَصْبحُوا غدوا للسماع ... فأئمة الحَدِيث جعل الله غذاءهم ولذتهم قِرَاءَة الحَدِيث وكتابته ودراسته وَرِوَايَته ورزقهم حفظا يبهر الْعُقُول ويكاد أَن لَا يصدقهُ من يسمع مَا حكى عَنْهُم فِي ذَلِك من الْمَنْقُول
(1/97)
 
 
حفظ الله تَعَالَى بهم السّنة وبهم يتم على عباده كل منَّة قد حفظوا أَلْفَاظ الْأَحَادِيث كحفظ الْقُرْآن وأحرزوا كل لفظ مِنْهُ بتحقيق وإتقان وألفوا فِيهَا الْجَوَامِع النافعة وَالْمَسَانِيد الواسعة ثمَّ تعبوا فِي أَحْوَال الروَاة وصفاتهم ورحلتهم ومواليدهم وبلدانهم ووفاتهم حَتَّى صَار من عرف تراجمهم وأحوالهم كَأَنَّهُ شاهدهم وزاحمهم بل صَار أعرف بأحوالهم من الْمشَاهد لَهُم والمعاصر لِأَنَّهُ قد يخفى على من عاصرهم بعض أَحْوَال من عَارضه وَشَاهده وَأما من طالع تراجمهم وتلقى عَن الثِّقَات أخبارهم فَإِنَّهُ يراهم قد جمعُوا من أَحْوَالهم وصنفوا من تعْيين آثَارهم ورحلهم ويقظتهم ومنامهم وتتبعوا أَحْوَالهم من كل عَارِف مُوَافق ومخالف حَتَّى اجْتمع لمن قَرَأَ أخبارهم مَا لم يجْتَمع لمن شاهدهم من الْأَوْصَاف وَهَذَا أَمر لَا يُنكره إِلَّا من حرم الأنصاف
(1/98)
 
 
أَلا ترى أَن من عرف تراجم الْأَئِمَّة السِّتَّة أهل الْأُمَّهَات من كتب أَئِمَّة التأريخ عرف أَحْوَالهم وأوصفاهم كَأَنَّهُ لاقاهم ورآهم لِقَاء خبْرَة ورؤية مخاللة وَحصل لَهُ من الاطمئنان بأقوالهم ويقر فِي قلبه من إمامتهم فِي الدّين وَعظم نصحهمْ للْمُسلمين مَا لَا يحوم حوله قدح قَادِح وَلَا جرح جارح حَتَّى لَو جَاءَهُ من ينازعه فِي حفظ البُخَارِيّ وتقواه لما فت ذَلِك فِي عضد يقينه بحفظه وهداه وَكَذَلِكَ غَيره من الْأَئِمَّة وَمثلهمْ الروَاة فَإِن الله يسر أَقْوَامًا جعل هممهم الْعَالِيَة وأفكارهم الصافية مصروفة إِلَى تتبع أَحْوَال رجال الحَدِيث وَرُوَاته فِي الْقَدِيم والْحَدِيث ثمَّ ألفوا فِي الرِّجَال مَا يطلع النَّاظر على كل مَا يُقَال من جرح وتعديل قَالَ وَقيل ذللوا للمتأخرين مَا كَانَ صعبا وصيروا بهمتهم مَا كَانَ ضيقا وَاسِعًا رحبا وجمعوا مَا كَانَ مُتَفَرقًا ولفقوا مَا كَانَ ممزقا قد قربوا الْعُلُوم الحديثية أتم تقريب بإكمال وتقريب وتهذيب فَاجْتمع للمتأخرين من أَحْوَال الْمُتَقَدِّمين اجتماعا لم يتم للأولين فَإِنَّهَا اجْتمعت لَهُم معارف العارفين وأقوال المتخالفين وكل من الْأَئِمَّة مَا زَالَ حَرِيصًا على تقريب المعارف للْمُسلمين حَتَّى ألفوا الْكتب على حُرُوف المعجم فِي الرِّجَال والمتون وَأتوا بِمَا لم يَأْتِ بِهِ الْأَولونَ فَلم
(1/99)
 
 
يبْق للمتأخرين إِلَّا الاقتطاف لثمرات المعارف والارتشاف بكؤوس قد أترعها لَهُم كل إِمَام عَارِف إبْقَاء ءلحجة الله على الْعباد وحفظا لعلوم الدّين إِلَى يَوْم الْمعَاد
(1/100)
 
 
فصل فِي تقريب الْفَهم إِلَى تيسير الِاجْتِهَاد بالأمثلة
إِذا عرفت هَذَا فَكيف يُحَال فِي حق الْمُتَأَخِّرين الِاجْتِهَاد الْمُطلق لتعسر بعد هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي سَاقهَا الله إِلَى أَئِمَّة الإجتهاد على أَيدي أهل الْحِفْظ والورع والانتقاد أَلا ترى أَنَّك لَو وجدت حَدِيثا فِي مُسْند ابْن أبي شيبَة أَو عبد الرزاق أَو غَيرهمَا وَلم تَجِد فِيهِ كلَاما لأحد أَئِمَّة الحَدِيث بِإِحْدَى الصِّفَات الثَّلَاث وَرَأَيْت من روياة الْحجَّاج بن أَرْطَأَة مثلا فَإنَّك تحكم بضعفه لكَلَام الْأَئِمَّة فِي الْحجَّاج كَمَا يحكم بذلك الدَّارَقُطْنِيّ وَالْمُنْذِرِي مثلا وَمَا لاقاه الدَّارَقُطْنِيّ وَلَا رَآهُ بل وقف على مَا وقفت عَلَيْهِ من كَلَام أَئِمَّة الْجرْح غَايَة الْفرق أَنَّهَا قد تكون طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ فِي ذَلِك السماع وطريقك
(1/101)
 
 
الوجادة وَهَذَا لَا يخْرجك عَن جَوَاز التَّكَلُّم بِمَا تكلم بِهِ أَو وجدت حَدِيثا كَذَلِك ثمَّ نظرت كَلَام أَئِمَّة التَّعْدِيل فِي رِجَاله فوجدتهم مُوثقِينَ فَأَي مَانع لَك عَن تَصْحِيحه مثلا كَمَا يَفْعَله الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ وَابْن حجر فَإِنَّهُمَا يتكلمان على عدَّة من الْأَحَادِيث تَصْحِيحا وتحسينا وتضعيفا وطريقهما فِي ذَلِك تتبع أَقْوَال أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل فِي رِجَاله كَمَا أَنَّهَا طَريقَة النَّاظر فِي هَذِه الْأَعْصَار وهما لم يلقيا إِلَّا شيوخهما كَمَا أَنَّك لم تلق إِلَّا من رويت عَنهُ أَو قَرَأت عَلَيْهِ إِن كَانَت طريقك الْقِرَاءَة لَا الوجادة أَو الْإِجَازَة
(1/102)
 
 
فصل فِي الحكم بسهولة الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار
قد علمت مِمَّا سقناه أَن الله وَله الْحَمد والْمنَّة قد قيض للمتأخرين أَئِمَّة من الْمُتَقَدِّمين جمعُوا لَهُم الْعُلُوم اللُّغَوِيَّة والحديثية من الأفواه والصدور وحفظوها لَهُم فِي الأوراق والسطور وذللوا لَهُم صعاب المعارف وقادوها إِلَى كل ذكي عَارِف ودونوا الْأُصُول واللغة بأنواعها مَعَ انتشارها واتساعها وأدخلوا عُلُوم الِاجْتِهَاد لأَهْلهَا من كل بَاب تَارَة بإيجاز وَتارَة بإسهاب وإطناب وَهَذَا شَيْء لَا شكّ فِيهِ وَلَا ارتياب وَلَا يجهله إِلَّا من لَيْسَ من أولي الْأَلْبَاب الَّذين نحوهم يساق هَذَا الْخطاب وَبعد هَذَا فَالْحق الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غُبَار الحكم بسهولة الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَأَنه أسهل مِنْهُ فِي الْأَعْصَار الخالية لمن لَهُ فِي الدّين همة عالية ورزقه الله فهما صافيا وفكرا صَحِيحا ونباهة فِي علمي السّنة وَالْكتاب
(1/103)
 
 
فَإِن الْأَحَادِيث فِي الْأَعْصَار الخالية كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي صُدُور الرِّجَال وعلوم اللُّغَة فِي أَفْوَاه سكان الْبَوَادِي ورؤوس الْجبَال حَتَّى جمعت متفرقاتها ونفقت ممزقاتها حَتَّى لَا يحْتَاج طَالب الْعلم فِي هَذِه الْأَعْصَار إِلَى الْخُرُوج من الوطن وَإِلَى شدّ الرحل والظعن فيا عجباه حِين تفضل الله بجمعها من الأغوار والأنجاد وَسَهل سياقها للعباد حَتَّى أينعت رياضها وأترعت حياضها وأجريت عيونها وتهدلت بثمراتها غصونها وفاض فِي ساحات تحقيقها معينها وَاشْتَدَّ عضدها وَجل ساعدها وَكثر معينها تَقول تعذر الِاجْتِهَاد مَا هَذَا وَالله إِلَّا كفران النِّعْمَة وجحودها والإخلاد إِلَى ضعف الهمة وركودها إِلَّا أَنه لَا بُد مَعَ ذَلِك أَولا من غسل فكرته عَن أدران العصبية وَقطع مَادَّة الوساوس المذهبية وسؤال لِلْفَتْحِ من الفتاح الْعَلِيم وَتعرض لفضل الله {وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} الْحَدِيد 29 فالعجب كل الْعجب مِمَّن يَقُول بتعذر الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَأَنه محَال مَا هَذَا إِلَّا منع لما بَسطه الله من فَضله لفحول الرِّجَال واستبعاد لما خرج من يَدَيْهِ واستصعاب لما لم يكن لَدَيْهِ وَكم للأئمة الْمُتَأَخِّرين من استنباطات رائقة واستدلالات صَادِقَة مَا حام حولهَا الْأَولونَ وَلَا عرفهَا مِنْهُم الناظرون وَلَا دارت فِي بصائر المستبصرين وَلَا جالت فِي أفكار المفكرين
(1/104)
 
 
فصل فِي بَيَان أَنه لَا فرق بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين إِلَّا بِكَثْرَة الوسائط وقلتها
وَمن هَذَا تعرف انه لَا فرق بَين اجْتِهَاد من ذكره السَّائِل من العلامه الْجلَال والمقبلي واجتهاد من تقدمها من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الَّذين اتّفقت الْأمة على اجتهادهم وَأَن مرجعهما فِي تَصْحِيح الْأَحَادِيث لَيْسَ بتقليد لأئمة التَّصْحِيح بل قبُول رِوَايَة هَذَا الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ اتّفقت الْأمة على اجْتِهَاده ومرجعه فِي صِحَة الحَدِيث وَعدمهَا إِلَى أَئِمَّة الحَدِيث فَإِنَّهُ يَقُول فِي مَوَاضِع إِذا لم يعْمل بِالْحَدِيثِ إِنَّه لم يرتض رِوَايَة هَذَا الحَدِيث وَنَحْو هَذِه الْعبارَة فِي محلات من تَلْخِيص ابْن حجر وتيسير الْبَيَان وَغَيرهمَا من الْكتب الْمَجْمُوعَة لسرد الْأَدِلَّة والتفتيش عَن أَحْوَال رجالها كَقَوْلِه فِي حَدِيث بهز بن حَكِيم فِي الزَّكَاة وَهَذَا الحَدِيث لَا يُثبتهُ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَلَو ثَبت لقلنا بِهِ هَذَا
(1/105)
 
 
هُوَ بِعَيْنِه مَا يَقُوله الْجلَال والمقبلي وكل من تقدمها وَقدمنَا لَك أَن البُخَارِيّ نَفسه إِنَّمَا يعْتَمد وَيُصَرح فِي التَّصْحِيح وَغَيره على أَقْوَال من تقدمه من الرِّجَال وَإنَّهُ لم يلق إِلَّا شُيُوخه وَالَّذين روى عَنْهُم وَصحح لَهُم أَضْعَاف أَضْعَاف شُيُوخه وَحِينَئِذٍ يعرف النَّاظر أَنه لَا فرق بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين إِلَّا بِكَثْرَة الوسائط وقلتها وسيلان الأذهان وجمودها وحركات الهمم وركودها وَالْفضل بيد الله لَا مَانع لما أعْطى وَلَا معطي لما منع أما قَول القَاضِي رَحمَه الله إِنَّه لم يَتَيَسَّر فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة إِلَّا تَرْجِيح بعض الْمذَاهب على بعض بِاعْتِبَار قُوَّة الدّلَالَة أَو كَثْرَة من صحّح أَو جلالته فَجَوَابه أَن هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ تَرْجِيحا هُوَ الإجتهاد الْمُطلق إِنَّمَا ذَنْب الْمُتَأَخر أَنه تَأَخّر زَمَنه عَن زمَان من قَالَ بالْقَوْل الرَّاجِح والمرجوح فَنظر كنظر من قبله من الْمُجْتَهدين وَجزم بِأحد الْقَوْلَيْنِ نظرا إِلَى الدَّلِيل فسميتموه تَرْجِيحا لقَوْل غَيره وَلَيْسَ كَذَلِك فافرضوا أَنه لم يتقدمه أحد فَإِنَّهُ لَو كَانَ زَمَانه سَابِقًا ورأيتم مَا أدعاه وَمَا أَقَامَهُ من الْبَرَاهِين على دَعْوَاهُ لقلتم أَنه مُجْتَهد مُطلق
(1/106)
 
 
وَلَا يخفى أَن تقدم الزَّمَان وتأخره لَا أثر لَهُ فِي جمع الْأَدِلَّة والاستنباط مِنْهَا قطعا بل قد أوضحنا لَك أَن الله قد جمع شَمل الْأَدِلَّة للمتأخرين وَلَكِنَّكُمْ نظرتم إِلَى تَأَخّر زَمَانه وَإنَّهُ قد قَالَ بِمَا جنح إِلَيْهِ قَائِل قبله فقلتم إِن هَذَا للمجتهد الآخر رجح مَا قَالَه من قبله بِقُوَّة الدّلَالَة أَو نَحْوهَا قُلْنَا هُوَ عين الِاجْتِهَاد وَلَا يضرنا تسميتكم لَهُ تَرْجِيحا
(1/107)
 
 
فصل فِي سَبَب اخْتِلَاف الْأَقْوَال فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل
أما مَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّائِل دَامَت إفادته من أَنه قد يخْتَلف كَلَام إمامين من أَئِمَّة الحَدِيث فيضعف هَذَا حَدِيثا وَهَذَا يُصَحِّحهُ وَيَرْمِي هَذَا رجلا من الروَاة بِالْجرْحِ وَآخر يعدله فَهَذَا مِمَّا يشْعر بِأَن التَّصْحِيح وَنَحْوه من مسَائِل الِاجْتِهَاد الَّذِي اخْتلفت فِيهِ الآراء فَجَوَابه أَن الْأَمر كَذَلِك أَي أَنه قد تخْتَلف أَقْوَالهم فَإِنَّهُ قَالَ مَالك فِي ابْن إِسْحَاق إِنَّه دجال من الدجاجلة وَقَالَ فِيهِ شُعْبَة إِنَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث
(1/108)
 
 
وَشعْبَة إِمَام لَا كَلَام فِي ذَلِك وإمامة مَالك فِي الدّين مَعْلُومَة لَا تحْتَاج إِلَى برهَان فهذان إمامان كبيران اخْتلفَا فِي رجل وَاحِد من رُوَاة الْأَحَادِيث وَيتَفَرَّع على هَذَا الِاخْتِلَاف فِي صِحَة حَدِيث من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق وَفِي
(1/109)
 
 
ضعفه فَإِنَّهُ قد يجد الْعَالم الْمُتَأَخر عَن زمَان هذَيْن الْإِمَامَيْنِ كَلَام شُعْبَة وتوثيقه لِابْنِ إِسْحَاق فيصحح حَدِيثا يكون من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق قَائِلا قد ثبتَتْ الرِّوَايَة عَن إِمَام من أَئِمَّة الدّين وَهُوَ شُعْبَة بِأَن ابْن إِسْحَاق حجَّة فِي رِوَايَته وَهَذَا خبر من شُعْبَة يجب قبُوله وَقد يجد الْعَالم الآخر كَلَام مَالك وقدحه فِي ابْن اسحاق الْقدح الَّذِي لَيْسَ وَرَاءه ورواء وَيرى حَدِيثا من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فيضعف الحَدِيث لذَلِك قَائِلا قد روى لي إِمَام وَهُوَ مَالك بِأَن ابْن إِسْحَاق غير مرضِي الرِّوَايَة وَلَا يُسَاوِي فلسًا فَيجب رد خبر فِيهِ ابْن إِسْحَاق فبسبب هَذَا الِاخْتِلَاف حصل اخْتِلَاف الْأَئِمَّة فِي التَّصْحِيح والتضعيف المتفرعين عَن اخْتِلَاف مَا بَلغهُمْ من حَال بعض الروَاة وكل ذَلِك رَاجع إِلَى
(1/110)
 
 
الرِّوَايَة لَا إِلَى الدِّرَايَة فَهُوَ ناشىء عَن اخْتِلَاف الْأَخْبَار فَمن صحّح أَو ضعف فَلَيْسَ عَن رَأْي وَلَا استنباط كَمَا لَا يخفى بل عمل بالرواية وكل من الْمُصَحح والمضعف مُجْتَهد عَامل بِرِوَايَة عدل فَعرفت أَن الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك لَيْسَ مَدَاره على الرَّأْي وَلَا هُوَ من أَدِلَّة أَن مَسْأَلَة التَّصْحِيح وضده اجْتِهَاد نعم وَقد يَأْتِي من لَهُ فحولة ونقادة ودراية بحقائق الْأُمُور وَحسن وسعة اطلَاع على كَلَام الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ يرجع إِلَى التَّرْجِيح بَين التَّعْدِيل وَالتَّجْرِيح فَينْظر فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى كَلَام الْجَارِح ومخرجه فيجده كلَاما خرج مخرج الْغَضَب الَّذِي لَا يَخْلُو عَنهُ الْبشر وَلَا يحفظ لِسَانه حَال حُصُوله إِلَّا من عصمه الله
(1/111)
 
 
فَإِنَّهُ لما قَالَ ابْن إِسْحَاق اعرضوا عَليّ علم مَالك فَأَنا بيطاره فَبلغ مَالِكًا فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَة الجافية الَّتِي لَوْلَا جلالة من قَالَهَا وَمَا نرجوه من عَفْو الله من فلتات اللِّسَان عِنْد الْغَضَب لَكَانَ الْقدح بهَا فِيمَن قَالَهَا أقرب إِلَى الْقدح فِيمَن قيلت فِيهِ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُ خرج مخرج الْغَضَب لم نره قادحا فِي ابْن إِسْحَاق فَإِنَّهُ خرج مخرد جَزَاء السَّيئَة بِالسَّيِّئَةِ على أَن ابْن إِسْحَاق لم يقْدَح فِي مَالك وَلَا فِي علمه غَايَة مَا أَفَادَ كَلَامه أَنه أعلم من مَالك وَأَنه بيطار علومه وَلَيْسَ فِي ذَلِك قدح على مَالك ونظرنا كَلَام شُعْبَة فِي ابْن إِسْحَاق فقدمنا قَوْله لِأَنَّهُ خرج مخرج النصح للْمُسلمين لَيْسَ لَهُ حَامِل عَلَيْهِ إِلَّا ذَلِك وَأما الجامد فِي ذهنه الأبله فِي نظره فَإِنَّهُ يَقُول قد تعَارض هُنَا الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَيقدم الْجرْح لِأَن الْجَارِح أولى وَإِن كثر المعدلون وَهَذِه الْقَاعِدَة لَو أخذت كُلية لم يبْق لنا عدل إِلَّا الرُّسُل فَإِنَّهُ مَا
(1/112)
 
 
سلم فَاضل من طَاعن من ذَلِك لَا من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلَا أحد من أَئِمَّة الدّين كَمَا قيل ... فَمَا سلم صديق من رافض ... وَلَا نجا من ناصبي عَليّ ...
(1/113)
 
 
.. مَا سلم الله من بريته ... وَلَا نَبِي الْهَدْي فَكيف أَنا ... الْقَاعِدَة ظاهرية يعْمل بهَا فِيمَا تعَارض فِيهِ الْجرْح وَالتَّعْدِيل من المجاهيل على أَنه لَك أَن تَقول كَلَام مَالك لَيْسَ بقادح فِي ابْن إِسْحَاق لما علمت أَنه خرج مخرج الْغَضَب لَا مخرج النصح للْمُسلمين فَلم يُعَارض فِي ابْن إِسْحَاق جرح وَاعْلَم أَن ذكرنَا لِابْنِ إِسْحَاق وَالْكَلَام فِيهِ مِثَال وَطَرِيق يسْلك مِنْهُ إِلَى نَظَائِره وَإِذا عرفت هَذَا فَهُوَ التَّرْجِيح لايخرج مَا ذَكرْنَاهُ عَن كَونه من بَاب قبُول أَخْبَار الْعُدُول بل هُوَ مِنْهُ إِنَّمَا لما تعَارض الخبران عندنَا فِي حَال هَذَا الرَّاوِي تتبعنا حقائق الْخَبَرَيْنِ وَمحل صدورهما والباعث على التَّكَلُّم بهما فَظهر الِاعْتِمَاد على أَحدهمَا دون الآخر فَهُوَ من بَاب قبُول الْأَخْبَار فَهَكَذَا يلْزم النَّاظر الْبَحْث عَن حقائق الْأَحْوَال وَعَن الْبَاعِث عَن صدورها من أَفْوَاه الرِّجَال فَإِنَّهُ يكون كَلَامه بعد ذَلِك أقوم قيلا وَأحسن دَلِيلا وأوفق نظرا وَأجل قدرا فَمن عمل بِرِوَايَة التَّعْدِيل والتزكية وَمن عمل بِرِوَايَة الْقدح وَالتَّجْرِيح وَإِن
(1/114)
 
 
كَانَ الْكل قابلين لأخبار الْعُدُول عاملين بِمَا يجب عَلَيْهِم من قبُول خبر الْمَنْقُول فَالْكل مجتهدون وَلَكِن تخالفت الْآثَار وتفاوتت الأنظار وَمن هُنَا نَحوه وَقع اخْتِلَاف الْمُجْتَهدين فِي عدَّة مسَائِل من أُمَّهَات الدّين وَالْكل مأجورون بِالنَّصِّ الثَّابِت مِنْهُم من لَهُ أجر وَمِنْهُم من لَهُ أَجْرَانِ وَمن هُنَا علمت أَن اخْتِلَاف الْأَئِمَّة فِي تَصْحِيح خبر من إِمَام وتضعيفه من إِمَام آخر ناشىء عَمَّا تلقوهُ من أَخْبَار الْعُدُول عَن الروَاة فَهَذَا لإِمَام لم يبلغهُ عَن الروَاة هَذَا الْخَبَر الَّذِي حكم بِصِحَّتِهِ إِلَّا الْعَدَالَة والضبط فصحح أخبارهم وَلِهَذَا تَجِد من يتعقب بعض الْأَحَادِيث الَّتِي صححها إِمَام بقوله كَيفَ تَصْحِيحه وَفِيه فلَان كَذَّاب وَنَحْو هَذَا وَمَعْلُوم أَن من صحّح هَذَا الحَدِيث لم يبلغهُ أَن فِي رِجَاله كذابا وَهَذَا لإِمَام بلغه من أَحْوَال رُوَاة ذَلِك الْخَبَر أَو بَعضهم عدم الْعَدَالَة وَسُوء الْحِفْظ أَو انْقِطَاع الْخَبَر أَو شذوذه حكم عَلَيْهِ بِعَدَمِ الصِّحَّة وَهَذَا مَعْرُوف من جبلة الْعباد وطبائعهم فَمن النَّاس من يغلب عَلَيْهِ حسن الظَّن فِي النَّاس وتلقي أَقْوَالهم بِالصّدقِ وَمن النَّاس من لَهُ نباهة وفطنة وَطول خبْرَة لأحوال النَّاس فَلَا يَكْتَفِي بِالظَّاهِرِ بل يفتش عَن الْحَقَائِق فَيَقَع على الْحق وَالصَّوَاب وَلذَا أطبق النقاد أَن مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ مقدم على مَا صَححهُ غَيرهمَا فِي غير مَا انتقد عَلَيْهِمَا كَمَا يَأْتِي عِنْد التَّعَارُض ثمَّ مَا انْفَرد البُخَارِيّ بِتَصْحِيحِهِ مقدم على مَا انْفَرد بِهِ مُسلم وَمَا ذَاك إِلَّا لحذاقة البُخَارِيّ ونقادته ومعرفته بأحوال الروَاة وَغَيره مِمَّن صحّح يقبلُونَ
(1/115)
 
 
تَصْحِيحه ويجعلونه فِي رُتْبَة أَعلَى من رُتْبَة مَا لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ فَهَذَا التَّفَاضُل نَشأ من زِيَادَة الإتقان لأحوال المخبرين أَلا ترى أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مَعَ إِمَامَته يرْوى عَن ابْن أبي يحيى ويعبر عَنهُ بالثقة وَغَيره يقدحون فِيهِ ويتجنبونه فِي الصِّحَاح
(1/116)
 
 
وَذَلِكَ من الِاخْتِلَاف فِي أَخْبَار المخبرين عَنهُ فالشافعي رَضِي الله عَنهُ ثَبت لَهُ عَدَالَته وَضَبطه وَيَأْتِي فِيهِ مَا أسلفناه من أَنه لَو عمل بِرِوَايَة أحد الراويين لترجيح قوي عِنْده عضد مَا يعرفهُ من حَال الرَّاوِي جَازَ ذَلِك فوثقه وَغَيره ثَبت لَهُ غير ذَلِك فتجنبوه وَالْكل عَائِد إِلَى اخْتِلَاف المخبرين
(1/117)
 
 
فصل فِي التفطن لأحوال المخبرين عَن الروَاة
وَإِذا تقرر لَك مَا حققناه من أَن المصححين والمحسنين والمضعفين رُوَاة أَحْوَال رجال الْإِسْنَاد يعبرون عَن ثقتهم وضبطهم واتصال مَا رَوَوْهُ وسلامته من الشذوذ وَالْعلَّة بقَوْلهمْ صَحِيح وَعَن خِلَافه بضعيف وَعَما بَين الْأَمريْنِ بِحسن كَمَا عرف ذَلِك بِعلم أصُول الحَدِيث فهم رُوَاة مخبرون عَن أَحْوَال الروَاة للْحَدِيث فَلَا بُد حِينَئِذٍ من معرفَة أَحْوَالهم كمعرفة أَحْوَال رجال الْمَتْن وَقد اخْتلفُوا فِيمَا يَرْوُونَهُ كاختلاف رُوَاة الْمُتُون فَمنهمْ من يصحح الحَدِيث فَيَأْتِي من يتتبع رجال ذَلِك الحَدِيث فيجد فِي رِجَاله من لَيْسَ بِصفة رِوَايَة الصَّحِيح وَلذَا ترى النقاد من ائمة هَذَا الشَّأْن يَقُولُونَ فِي الِاعْتِرَاض على بعض المصححين كَيفَ يجْزم بِصِحَّتِهِ وَفِي رُوَاته فلَان كَذَّاب وَكَذَا وَكَذَا من الَّتِي لَا يَصح مَعهَا تَصْحِيح رِوَايَته وَهَذَا كثير جدا فِيمَا يُصَحِّحهُ الْحَاكِم وَيُوجد قَلِيلا فِيمَا يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ وَحِينَئِذٍ لَا بُد من التفطن لأحوال المخبرين بِالصِّحَّةِ وَأَنه لَا بُد فيهم من
(1/118)
 
 
النباهة وَعدم التغفيل وَصدق الدّيانَة والنصحية للْمُسلمين فَإِن كَانَ الْمخبر بِالصِّحَّةِ مثل أبي عبد الله البُخَارِيّ وَمُسلم وَمن فِي طبقتهما وَمن خرج على كِتَابَيْهِمَا فخبره بِالصِّحَّةِ مَقْبُول قد تتبع أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن وفرسان هَذَا الميدان مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ فوجدوه مَبْنِيا على أساس صَحِيح وخبرة بالرواية وَمَعْرِفَة وإتقان وَإِن وجد الشَّيْء الْيَسِير فِي رجالهما مِمَّن انتقد الْحفاظ من بعدهمَا كانتقاد الْحَافِظ أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ على الشَّيْخَيْنِ فَإِن مَجْمُوع مَا انتقده عَلَيْهِمَا من الْأَحَادِيث مائَة حَدِيث وَعشرَة انْفَرد البُخَارِيّ مِنْهَا بِثَلَاثَة وَسبعين حَدِيثا واشترك هُوَ وَمُسلم فِي اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ حَدِيثا وَقد أجَاب عَنهُ غَيره من الْحفاظ بأجوبة فِيهَا الغث والسمين وَجُمْلَة من قدح فِيهِ من رجال البُخَارِيّ ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِية وَتسْعُونَ وَقد دفع الْحَافِظ ابْن حجر مَا قدح بِهِ فيهم بعض فِيهِ تكلّف وَبَعضه وَاضح لَكِن إِذا عرفت عدَّة مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الكتابان من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة
(1/119)
 
 
وَالرِّجَال الموثقين علمت أَن صِحَة مَا فِيهَا الْأَغْلَب هِيَ فَالْحكم لَهُ فَيعْمل بِمَا فِيهَا مَا لم يظنّ أَو يعلم أَنه من المغلوب وَذَلِكَ لِأَن الْعَمَل بِالظَّنِّ وَالظَّن يحصل بِإِخْبَار من غَالب أخباره الصدْق وَلَا يفت فِيهِ تَجْوِيز أَنه غير صَادِق فِيمَا أخبر بِهِ من الصِّحَّة مثلا وَقد صرح أَئِمَّة أصُول الحَدِيث بِأَنَّهُ لَا يتْرك إِلَّا من كثر خطأه وَمَعْلُوم أَن خطأ صَاحِبي الصَّحِيحَيْنِ فِي الْإِخْبَار بِالصِّحَّةِ قَلِيل جدا ومحصور كَمَا ذَكرْنَاهُ فَأَما أهل أصُول الْفِقْه فَإِنَّهُم قَائِلُونَ إِنَّه لَا يتْرك إِلَّا من كَانَ خطأه أَكثر من صَوَابه كَمَا عرف وَبِهَذَا التَّحْقِيق علمت مزية الصَّحِيحَيْنِ لَا بِمَا ادَّعَاهُ ابْن الصّلاح من تلقي الْأمة لَهما بِالْقبُولِ فَإِنَّهُ قَول غير مَقْبُول قد حققنا فِي ثَمَرَات النّظر فِي علم الْأَثر بُطْلَانه بِمَا لَا مزِيد فِيهِ وَمثله فِي الْبطلَان قَول الْعَلامَة الْجلَال فِي ديباجة ضوء النَّهَار إِنَّه يجب الْعَمَل بِمَا حسنوه أَو صححوه كَمَا يجب الْعَمَل بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَلَام بَاطِل قد بَينا وَجه بُطْلَانه فِي منحة الْغفار حَاشِيَة ضوء النَّهَار مَعَ أَن دَعْوَاهُ أَعم من دَعْوَى ابْن الصّلاح
(1/120)
 
 
نعم وَإِن كَانَ الْمخبر بِالصِّحَّةِ مثل أبي عبد الله الْحَاكِم فقد تكلم النَّاس فِيمَا أخبر بِهِ من الصِّحَّة وَاخْتلفُوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا وَلَهُم فِي الْأَحَادِيث الَّتِي صححها فِي مُسْتَدْركه ثَلَاثَة أَقْوَال إفراط وتفريط وتوسط فأفرط أَبُو سعد الْمَالِينِي وَقَالَ لَيْسَ فِيهِ حَدِيث على شَرط الصَّحِيح وفرط الْحَافِظ السُّيُوطِيّ فَجعله مثل الصَّحِيح وضمه إِلَيْهِمَا فِي كتاب الْجَامِع الْكَبِير وَجعل الْعزو إِلَيْهِ معلما بِالصِّحَّةِ كالعزو إِلَى الصَّحِيحَيْنِ وَتوسع الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فَقَالَ فِيهِ نَحْو الثُّلُث صَحِيح وَنَحْو الرّبع حسن وَبَقِيَّة مَا فِيهِ مَنَاكِير وعجائب وَإِذا عرفت هَذَا عرفت أَن الْأَحْوَط الْوَقْف فِي قبُول خبر الْحَاكِم بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهُ صَار كِتَابَة غير غالبة عَلَيْهِ الصِّحَّة بل الصَّحِيح فِيهِ مغلوب
(1/121)
 
 
وَإِن كَانَ الْمخبر بِالصِّحَّةِ مثل أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ فقد أثنى عَلَيْهِ الْأَئِمَّة وَقَالُوا فِي كِتَابه ربع مَقْطُوع بِهِ وَربع على شَرط أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَفِيه غَيرهمَا قد بَين علته فِي كِتَابه وَهَذَا ذَكرْنَاهُ لَك معيارا ومقياسا وتمثيلا لأحوال رُوَاة الصِّحَّة وَأَنَّهُمْ كرواة الْمُتُون فِيهِ الْحجَّة الإِمَام وَفِيهِمْ من فِيهِ لين ومسارعة إِلَى الْإِخْبَار بالضعف والوضع كَابْن الْجَوْزِيّ فَإِنَّهُ يُسَارع إِلَى الحكم بِالْوَضْعِ فِي أَحَادِيث عالية الرُّتْبَة عَن صفة الْوَضع وانتقده الْأَئِمَّة فَابْن الْجَوْزِيّ وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي طرفِي نقيض هَذَا يُسَارع إِلَى الْإِخْبَار بِالصِّحَّةِ وَهَذَا يُسَارع إِلَى الْإِخْبَار بِالْوَضْعِ
(1/122)
 
 
فَمن هُنَا يتَعَيَّن على النَّاظر ذِي الهمة الدِّينِيَّة الْبَحْث عَن أَحْوَال الْأَئِمَّة كالبحث عَن أَحْوَال رُوَاة الْمُتُون ويطيل مُرَاجعَة التَّارِيخ فَإِنَّهُ بذلك يطلع على حقائق أَحْوَال أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن وَيرى مَا يُوجب التَّوَقُّف تَارَة والمضي أُخْرَى وَالرَّدّ حينا مَا
(1/123)
 
 
فصل فِي معرفَة الْحق من أَقْوَال أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل
قد يصعب على من يُرِيد دَرك الْحَقَائِق وتجنب المهاوي والمزالق معرفَة الْحق من أَقْوَال أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل بعد اتِّبَاع هَذِه الْمذَاهب الَّتِي طَال فِيهَا القال والقيل وَفرقت كلمة الْمُسلمين وأنشأت بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الدّين وقدح بَعضهم فِي بعض وانْتهى الْأَمر إِلَى الطامة الْكُبْرَى من التفسيق والتكفير وشب على ذَلِك من أهل الْمذَاهب الصَّغِير وشاب عَلَيْهِ الْكَبِير كل هَذَا من آثَار هَذِه الاعتقادات المبتدعة فِي الْإِسْلَام والمجانبة لما جَاءَ بِهِ سيد الْأَنَام عَلَيْهِ وعَلى آله أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فترى إِمَامًا من الْعلمَاء العاملين يقْدَح فِي راو من حفاظ عُلُوم الدّين بِأَنَّهُ كَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن وتجد إِمَامًا آخر يقْدَح فِي راو آخر بِأَنَّهُ كَانَ يَقُول بقدم الْقُرْآن وَكَذَلِكَ يقدحون بِأُمُور لَيست عُمْدَة فِي الدّين وَلَا يخرج المتصف بهَا عَن زمرة الْمُتَّقِينَ ويقدحون بالْقَوْل بِالْقدرِ والإرجاء وَالنّصب والتشيع ثمَّ تراهم يصححون أَحَادِيث جمَاعَة من الروَاة قد رموهم بِتِلْكَ القوادح أَلا ترى أَن البُخَارِيّ أخرج لجَماعَة رموهم بِالْقدرِ كهشام بن
(1/124)
 
 
أبي عبد الله الدستوَائي أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَقد قَالَ فِيهِ مُحَمَّد بن سعد كَانَ حجَّة إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر وَأخرج مَالك لجَماعَة يرَوْنَ الْقدر كَمَا قَالَه ابْن البرقي أَنه سُئِلَ مَالك كَيفَ رويت عَن دَاوُد بن الْحصين وثور بن زيد
(1/125)
 
 
وَذكر لَهُ جمَاعَة كَيفَ رويت لَهُم وَلَقَد كَانُوا يرَوْنَ الْقدر قَالَ كَانُوا لِأَن يخروا من السَّمَاء على الأَرْض أسهل من أَن يكذبوا وَكم فِي الصَّحِيحَيْنِ من جمَاعَة صححوا أَحَادِيثهم وهم قدرية وخوارج ومرجئة إِذا عرفت هَذَا فَهُوَ من صَنِيع أَئِمَّة الدّين قد يعده الْوَاقِف عَلَيْهِ تناقضا وَيَرَاهُ لما قَرَّرَهُ مُعَارضا ويفت عِنْده من عضد أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن ويظن التَّصْحِيح صادرا عَن مجازفة من غير إتقان وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ إِذا حقق صَنِيع الْقَوْم وتتبع طرائقهم وقواعدهم نفى عَنْهُم اللوم وَعلم أَنهم أجل من ذَلِك قدرا وأدق نظرا وأنصح لأهل الدّين من جمَاعَة الثغور الْمُجَاهدين وَأَنَّهُمْ لَا يعتمدون بعد إِيمَان الرَّاوِي إِلَّا على صدق لهجته وَضبط رِوَايَته وَقد أَقَمْنَا برهَان هَذِه الدَّعْوَى فِي رِسَالَة ثَمَرَات النّظر فِي علم الْأَثر برهانا لَا يَدْفَعهُ إِلَّا من لَيْسَ من الأذكياء ذَوي النباهة والخطر
(1/126)
 
 
فصل فِي أَن القوادح المذهبية لَا يتلفت إِلَيْهَا
إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن هَذِه القوادح المذهبية والابتداعات الاعتقادية يَنْبَغِي للنَّاظِر أَن لَا يلْتَفت إِلَيْهَا وَلَا يعرج فِي الْقدح عَلَيْهَا فَإِن القَوْل بقدم الْقُرْآن مثلا بِدعَة كَمَا أَن القَوْل بخلقه بِدعَة وَقد اخْتَار الْحَافِظ ابْن حجر رَحمَه الله لنَفسِهِ وَحَكَاهُ عَن الجماهير غَيره أَن الابتداع بمفسق لَا يقْدَح بِهِ فِي الرَّاوِي إِلَّا أَن يكون دَاعِيَة
(1/127)
 
 
وَهَذِه مَسْأَلَة قبُول فساق التَّأْوِيل وكفار التَّأْوِيل وَقد نقل فِي العواصم إِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول فساق التَّأْوِيل من عشر طرق وَمثله فِي كفار التَّأْوِيل من أَربع طرق وَإِذا عرفت وَرَأَيْت أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل يَقُولُونَ فلَان ثِقَة حجَّة إِلَّا أَنه قدري أَو يرى الإرجاء أَو يَقُول بِخلق الْقُرْآن أَو نَحْو ذَلِك أخذت بقَوْلهمْ ثِقَة وعملت بِهِ وأطرحت قَوْلهم قدري وَلَا يقْدَح بِهِ فِي الرِّوَايَة غَايَة ذَلِك أَنه مُبْتَدع وَلَا يضر الثِّقَة بدعته من قبُول رِوَايَته لما عرفت من كَلَام ابْن حجر وَمن كَلَام مَالك
(1/128)
 
 
فَإِن قَوْلهم ثِقَة قد أَفَادَ الْإِخْبَار بِأَنَّهُ صَدُوق وَقَوْلهمْ يَقُول بِخلق الْقُرْآن مثلا إِخْبَار بِأَنَّهُ مُبْتَدع وَلَا تضرنا بدعته فِي قبُول خَبره وَمن هُنَا يَتَّضِح لَك اختلال رسم الْعَدَالَة الَّذِي اتّفق عَلَيْهِ الأصوليون والفروعيون وأئمة الحَدِيث بِأَنَّهَا ملكة تحمل على مُلَازمَة التَّقْوَى والمروءة وفسروا التَّقْوَى باجتناب الْأَعْمَال السَّيئَة من شرك أَو فسق أَو بِدعَة وَقد أوضحنا اختلاله فِي ثَمَرَات النّظر وَفِي الْمسَائِل المهمة وَفِي منحة الْغفار بِمَا يعرف بِهِ أَنه رسم دارس وَقَول لَا يعول عَلَيْهِ من هُوَ لدقائق الْعُلُوم ممارس وَإِن أطبق عَلَيْهِ الأكابر فكم ترك الأول وَالْآخر وَقد ناقضوه مناقضة ظَاهِرَة بِقبُول فساق التَّأْوِيل وكفاره والخوارج وَغَيرهم من أهل الْبدع المتكاثرة
 
عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار أقرب تناولا مِنْهَا فِيمَا سلف
وَبعد هَذَا فقد تقرر لَك بِمَا سقناه واتضح لَك بِمَا حققناه أَن للنَّاظِر فِي هَذِه الْأَعْصَار أَن يصحح ويضعف وَيحسن كَمَا فعله من قبله من الْأَئِمَّة الْكِبَار فَإِن
(1/129)
 
 
عَطاء رَبك لم يكن مَحْظُورًا وإفضاله الْمَمْدُود لَيْسَ على السَّابِق محصورا وَأَن عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار أقرب تناولا مِنْهَا فِيمَا سلف من أزمنة الْأَئِمَّة النظار إِلَّا أَنه لايخفى أَن الِاجْتِهَاد موهبة من الله يَهبهُ لمن يَشَاء من الْعباد فَمَا كل من أحرز الْفُنُون أجْرى من قواعدها الْعُيُون وَلَا كل من عرف الْقَوَاعِد استحضرها عِنْد وُرُود الْحَادِثَة الَّتِي يفْتَقر إِلَى تطبيقها على الْأَدِلَّة والشواهد ... وَمَا كل من قاد الْجِيَاد يسوسها ... وَلَا كل من أجْرى يُقَال لَهُ مجْرى ... لَكِن على العَبْد طلب المعارف والتماسه من كل عَارِف وسهر الجفون فِي إِحْرَاز دقائق الْفُنُون وإخلاص النِّيَّة وَطلب الْفَتْح من بارىء الْبَريَّة فالخير كُله بِيَدِهِ وَلَا يلْتَمس إِلَّا من عِنْده وَكم قد رَأينَا وَسَمعنَا من زكى عَارِف إِمَام يضيق عطن بَحثه عِنْد وُرُود حَادِثَة من الْأَحْكَام فَيتبع أَقْوَال الرِّجَال تقليدا وَيعود عِنْدهَا مُقَلدًا مبلدا كَأَنَّهُ مَا غرف من بحار الْفُنُون وَلَا عرف شَيْئا من تِلْكَ الشئون نسْأَل الله أَن يعلمنَا مَا جهلناه ويذكرنا مَا نسيناه ويرزقنا الْعَمَل بِمَا علمنَا ويلهمنا إِلَى الْعلم بِمَا جهلنا أَنه ولي كل خير وَإِلَيْهِ تَعَالَى بِالْعلمِ وَالْعَمَل الْقَصْد وَالسير وَهُوَ الْمَقْصُود فِي النِّهَايَة والابتداء وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى وَمِنْه نستمد الْهِدَايَة والتوفيق فِي كل بداية وَنِهَايَة وَقد طَال الْمقَال وَخرج عَن مُطَابقَة مُقْتَضى السُّؤَال وَإِن لم نخرج عَن مُطَابقَة مُقْتَضى الْحَال فالمقام جدير بالإطالة والإسهاب حقيق بِالزِّيَادَةِ على هَذَا الإطناب إِذْ الْكَلَام فِي قَوَاعِد دينية ومباحث حَدِيثِيَّةٌ وخوض فِيمَا هُوَ من
(1/130)
 
 
أساس الدّين وَعَلِيهِ دوران فلك الِاجْتِهَاد الْمُجْتَهدين وكما قَالَ ... وَقد أَطَالَ ثنائي طول لِابْنِهِ ... إِن الْبناء على التنبال تنبال ...
(1/131)
 
 
بَيَان أَن الْفضل للْمُتَقَدِّمين وَمن خالفهم فِي الْمسَائِل لم يدع الترفع عَلَيْهِم
إِذا عرفت مَا قَرَّرْنَاهُ فالعلم أَن الَّذِي سهل الِاجْتِهَاد وألان مِنْهُ الصعاب والشداد هُوَ مَا قدمنَا لَك من سعي أَئِمَّة الدّين فِي جَمِيع عُلُوم الْأَوَّلين وَجَمعهَا بعد الشتات فِي نفائس المصنفات فلنكثر لَهُم الدُّعَاء ولنحسن عَلَيْهِم الثَّنَاء وَلَا نَكُنْ من كفار النعم وَأَشْبَاه النعم وَإِنَّمَا يعرف الْفضل لأولي الْفضل من هُوَ مِنْهُم وَإِلَيْهِ أَشَارَ من قَالَ
إِذا أفادك إِنْسَان بفائدة
من الْعُلُوم فَأكْثر شكره أبدا ... وَقل فلَان جزاه الله صَالِحَة
أفادنيها وخل اللؤم والحسدا
وَبِهَذَا يبطل تشيع الْجُهَّال بِأَن من خَالف الْأَوَائِل فِي بعض الْمسَائِل قد ادّعى الترفع عَلَيْهِم وَقَالَ إِنَّه أعلم مِنْهُم وَهَذَا خيال بَاطِل وَسُوء ظن حَاصِل وَإِلَّا لزم أَن التَّابِعين قد ادعوا الْفضل على السَّابِقين الْأَوَّلين من الْأَنْصَار والمهاجرين وَأَن الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين قد ادعوا أَن لَهُم الْفضل على الْمُتَقَدِّمين وهيهات مَا زَالَ الْفضل للمتقدم مَعْرُوفا وَمَا برح السَّابِق بالتفضيل مَوْصُوفا
وَلَو قبل مبكاها بَكَيْت صبَابَة
بسعدي شفيت النَّفس بعد التندم
(1/132)
 
 
.. وَلَكِن بَكت قبلي فيهج لي البكا ... بكاها فَقلت الْفضل للمتقدم ...
 
شَرَائِط الِاجْتِهَاد وَكَيْفِيَّة تَحْصِيله لأهل الذكاء من الْعباد
ثمَّ اعْلَم أَن هُنَا زِيَادَة إِفَادَة لطَالب الرشاد ألحقناها بإرشاد النقاد وَهُوَ أَنه قد ظهر لَك بِمَا قَررنَا سهولة الِاجْتِهَاد وتيسره لأهل الهمة والأمجاد فلنذكر شَرَائِطه وَكَيْفِيَّة تَحْصِيله لأهل الذكاء من الْعباد فَنَقُول قَالَ الإِمَام الْكَبِير مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْوَزير صَاحب كتاب العواصم والقواصم فِي الذب عَن سنة أبي الْقَاسِم فِي كِتَابه الْقَوَاعِد مَا لَفظه اعْلَم أَنه قد كثر استعظام النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان الِاجْتِهَاد واستبعادهم لَهُ حَتَّى صَار كالمستحيل فِيمَا بَينهم وَمَا كَانَ السّلف يشددون هَذَا التَّشْدِيد الْعَظِيم وَلَيْسَ هُوَ بالهين وَلكنه قريب مَعَ الِاجْتِهَاد أَي فِي تَحْصِيله وَصِحَّة الذَّوْق والسلامة من آفَة البلادة ثمَّ ذكر خَمْسَة شُرُوط بعد أَن أبطل شَرْطِيَّة مَعْرفَته علم الْكَلَام وَأَنه علم مُبْتَدع لم يعْهَد فِي عصر النُّبُوَّة وَلَا عهد الصَّحَابَة ثمَّ عد خَمْسَة وَلم يرتبها كَمَا نسوقه الأول معرفَة علم الْعَرَبيَّة قَالَ وَيَكْفِي فِيهِ قِرَاءَة كتاب مثل مُقَدّمَة الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب قِرَاءَة فهم وإتقان وَهَذَا على الِاحْتِيَاط لَا على الْإِيجَاب وَذَلِكَ لِأَن فِي الْعَرَبيَّة مَا لَا بُد من مَعْرفَته وفيهَا مَا لَا يحْتَاج إِلَى
(1/133)
 
 
مَعْرفَته مِثَال مَا لَا يحْتَاج إِلَى مَعْرفَته كَلَامهم فِي عَالم الْمُسْتَثْنى مَا هُوَ وَلم ارْتَفع الْفَاعِل وانتصب الْمَفْعُول وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لم يعرفهُ الْعَرَب بل قد نقل عَن أبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ لَيْسَ الشَّرْط بعد معرفَة الْكتاب وَالسّنة إِلَّا أصُول الْفِقْه وَإِن أهل أصُول الْفِقْه قد نقلوا عَن الْعَرَبيَّة والمعاني وَالْبَيَان مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُجْتَهد انْتهى كَلَام أبي الْحُسَيْن الشَّرْط الثَّانِي معرفَة أصُول الْفِقْه وَهُوَ رَأسهَا وعمودها بل أَصْلهَا وأساسها بل سَمِعت عَن أبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ صَاحب كتاب الْمُعْتَمد فِي أصُول الْفِقْه أَنه لَا يشْتَرط سواهُ بعد معرفَة الْكتاب وَالسّنة الشَّرْط الثَّالِث معرفَة علم الْمعَانِي وَالْبَيَان وَقد اخْتلف فِيهِ هَل هُوَ شَرط أم لَا قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد وَالْحق أَن فِيهِ مَا هُوَ شَرط فِي بعض الْمسَائِل كالعربية وَفِيه مَا لَيْسَ بِشَرْط الْبَتَّةَ وَقد نقل أهل الْأُصُول أَكثر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَقد تخْتَلف عبارتهم وَالْمعْنَى وَاحِد الشَّرْط الرَّابِع معرفَة الْآيَات القرآنية الشَّرْعِيَّة وَقد قيل إِنَّهَا
(1/134)
 
 
خمس مائَة آيَة مَا صَحَّ ذَلِك وَإِنَّمَا هِيَ مِائَتَا آيَة أَو قريب من ذَلِك وَلَا أعرف أحدا من الْعلمَاء أوجب حفظهَا غيبا بل شرطُوا أَن يعرف موَاضعهَا حَتَّى يتَمَكَّن عِنْد الْحَاجة من الرُّجُوع إِلَيْهَا فَمن نقلهَا إِلَى كراسته وأفردها كَفاهُ ذَلِك الشَّرْط الْخَامِس معرفَة جملَة من الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة ويكفى فِيهَا معرفَة كتاب جَامع مثل التِّرْمِذِيّ وَسنَن أبي دَاوُد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وفيهَا مَا لَا يجب مَعْرفَته على مُجْتَهد لِأَنَّهَا جَامِعَة لأخبار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومغازيه وبعوثه وَلما ورد من تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم من كَلَامه وَلذكر الرَّقَائِق وَالْجنَّة وَالنَّار وأحوال الْقِيَامَة والفتن والآداب والفضائل وقصص الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُجْتَهد وَالَّذِي يدل على أَن جملَة من الْأَخْبَار تكفيه وَلَا يجب الْإِحَاطَة بهَا أَن
(1/135)
 
 
الصَّحَابَة قد صَحَّ اجتهادهم فِي أحكامهم وَلم يحيطوا بهَا علما وَكَذَلِكَ التابعون وأئمة الْإِسْلَام وَلم يعلم أَن أحدا أحَاط بهَا وَلذَا قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ علمَان لَا يُحِيط بهما أحد الحَدِيث واللغة وَهَذَا صَحِيح وَهُوَ قَول الجماهير وَالْخلاف فِيهِ شَاذ قَالَ وَالْأولَى من مُرِيد الِاجْتِهَاد أَن يعرف كتابا من كتب الْأَحْكَام الَّتِي اقْتصر أَهلهَا على ذكر أَحَادِيث التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وجمعوا جَمِيع مَا فِي الْكتب الصِّحَاح من ذَلِك وبينوا الصَّحِيح من السقيم وعد كتبا من ذَلِك ثمَّ قَالَ وأنفعها كتاب تَلْخِيص الْمُخْتَصر لِلْحَافِظِ ابْن حجر فَلَا شكّ فِي كِفَايَته للمجتهد وَزِيَادَة الْكِفَايَة انْتهى كَلَامه رَحمَه الله
(1/136)
 
 
فصل فِي تَعْظِيم السّنَن والانقياد إِلَيْهَا وَترك الإعتراض عَلَيْهَا
ويأتيك قَرِيبا من أَقْوَال الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم مَا يُنَادي على أَنهم لم يحيطوا بالأحاديث النَّبَوِيَّة وَأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَن قَوْلهم إِذا خَالف الحَدِيث رددنا قَوْلهم وعملنا بِالْحَدِيثِ قلت وَقد منع أَئِمَّة الدّين مُعَارضَة سنة سيد الْمُرْسلين بأقوال غَيره من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين
 
تَعْظِيم الصَّحَابَة للسنن
أَوَّلهمْ حبر الْأمة وبحر علم الْكتاب وَالسّنة عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ روى الْأَعْمَش عَن فُضَيْل بن عَمْرو عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ تمتّع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عُرْوَة نهى أَبُو بكر وَعمر عَن الْمُتْعَة قَالَ ابْن عَبَّاس أَرَاهُم سيهلكون أَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُولُونَ قَالَ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا
(1/137)
 
 
وَقَالَ عبد الرزاق حَدثنَا معمر عَن أَيُّوب قَالَ عُرْوَة لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَلا تتق الله ترخص فِي الْمُتْعَة فَقَالَ ابْن عَبَّاس سل أمك يَا عُرْوَة فَقَالَ عُرْوَة أما أَبُو بكر وَعمر فَلم يفعلا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ مَا وَالله أَرَاكُم منتهين حَتَّى يعذبكم الله أحدثكُم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتحدثونا عَن أبي بكر وَعمر وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن أبي مليكَة أَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ لرجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر النَّاس بِالْعُمْرَةِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَشْهر وَلَيْسَ فِيهَا عمْرَة فَقَالَ أَلا تسْأَل أمك عَن ذَلِك فَقَالَ عُرْوَة إِن أَبَا بكر وَعمر لم يفعلا ذَلِك قَالَ الرجل من هَهُنَا هلكتم مَا أرى الله إِلَّا يعذبكم أحدثكُم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتخبروني بِأبي بكر وَعمر وَمُرَاد ابْن عَبَّاس أَن عُرْوَة بن الزبير يسْأَل أمه أَسمَاء بنت أبي بكر فَإِنَّهَا شهِدت حجَّة الْوَدَاع وَولدت فِي سفرها وَمحل الِاسْتِدْلَال قَول ابْن عَبَّاس لَا نقدم على سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلَام أحد من النَّاس كَائِنا من كَانَ وناهيك بالشيخين رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّهُ لَو جَازَ تقدم كَلَام أحد على سنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ أَحَق النَّاس بذلك كَلَام صَاحِبيهِ رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَيْسَ كلامنا فِي الْمُتْعَة إِثْبَاتًا وَلَا نفيا فَالْكَلَام على ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع إِنَّمَا مرادنا مَا ذكرنَا
(1/138)
 
 
وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سَأَلَهُ سَائل عَن مُتْعَة الْحَج فَقَالَ ابْن عمر هِيَ حَلَال فَقَالَ لَهُ الرجل إِن أَبَاك قد نهى عَنْهَا فَقَالَ أَرَأَيْت إِن كَانَ أبي نهى عَنْهَا وصنعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أأمر أبي أتبع أم أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ الرجل بل أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لقد صنعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي صَحِيح مُسلم إِن ابْن عمر لما حدث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرنَا بِالْإِذْنِ للنِّسَاء فِي الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد قَالَ بعض أَوْلَاده وَالله لَا نَأْذَن لَهُنَّ وَعلل كَلَامه بِمَا يخْشَى من النِّسَاء إِذا خرجن فأقسم ابْن عمر أَن لَا يكلمهُ وَلما روى أَبُو هُرَيْرَة حَدِيث أَنه لَا يدْخل أحدكُم يَده فِي الْإِنَاء إِذا اسْتَيْقَظَ حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا قَالَ لَهُ قَائِل فَكيف تصنع بالمهراس فَقَالَ لَا تضربوا بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَمْثَال وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ أَبُو السَّائِب كُنَّا عِنْد وَكِيع فَقَالَ رجل
(1/139)
 
 
قدري وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَن الْإِشْعَار مثلَة قَالَ فَرَأَيْت وكيعا غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ أَقُول لَك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول قَالَ إِبْرَاهِيم مَا أحقك بِأَن تحبس ثمَّ لَا تخرج حَتَّى تنْزع عَن قَوْلك هَذَا وَلَو تتبعنا أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لطال الْمقَال واتسع نطاق الْأَقْوَال على أَنه مَعْلُوم من آرائهم أَنهم لَا يقدمُونَ على سنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول أحد من الرِّجَال كَيفَ وَهَذَا عمر رَضِي الله عَنهُ لما أَرَادَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قتال مانعي الزَّكَاة لم يساعده أَولا على ذَلِك وَاسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فاستدل عَلَيْهِ أَبُو بكر بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بِحَقِّهَا يُرِيد وَالزَّكَاة من حَقّهَا فانشرح صدر عمر لما أَمر بِهِ أَبُو بكر من قتال مانعي الزَّكَاة
(1/140)
 
 
فَلم يقبل عمر قَول أبي بكر حَتَّى أَقَامَ الدَّلِيل على السّنة
 
تَعْظِيم الْأَئِمَّة للسنن
وَأما الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فَإِن كلا مِنْهُم مُصَرح بِأَنَّهُ لايقدم قَوْله على قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ قَالَ الشَّيْخ الْعَلامَة مُحَمَّد حَيَاة السندي نزيل طيبَة رَحمَه الله فِي رسَالَته الْمُسَمَّاة تحفة الْأَنَام فِي الْعَمَل بِحَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا لَفظه فِي رَوْضَة الْعلمَاء فِي فضل الصَّحَابَة سُئِلَ أَبُو حنيفَة إِذا قلت قولا
(1/141)
 
 
وَكتاب الله يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لكتاب الله فَقيل إِذا كَانَ خبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخالطه قَالَ اتْرُكُوا قولي لخَبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيل لَهُ إِذا كَانَ قَول الصَّحَابَة يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لقَوْل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ إِنَّه روى لَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول إِذا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلى الرَّأْس وَالْعين وَإِذا جَاءَ عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَخْتَار من قَوْلهم وَإِذا جَاءَ عَن التَّابِعين زاحمناهم انْتهى أما الشَّافِعِي رَحمَه الله فَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن حَيَاة روى الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن عِنْد الْكَلَام على الْقِرَاءَة بِسَنَدِهِ قَالَ الشَّافِعِي إِذا قلت قولا وَكَانَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خِلَافه فَمَا يَصح من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى فَلَا تقلدوني وَنقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي نهايته عَن الشَّافِعِي
(1/142)
 
 
إِذا صَحَّ خبر يُخَالف مذهبي فَاتَّبعُوهُ وَاعْلَمُوا أَنه مذهبي وَقَالَ مثل الَّذِي يطْلب الْعلم بِلَا حجَّة كَمثل حَاطِب ليل يحمل حزمة حطب وَفِيه أَفْعَى تلدغه وَهُوَ لَا يدْرِي ذكره الْبَيْهَقِيّ أَيْضا وَأما أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله فَقَالَ أَبُو دَاوُد قلت لِأَحْمَد الْأَوْزَاعِيّ هُوَ أتبع أم مَالك كَأَنَّهُ يُرِيد أَكثر اتبَاعا من مَالك فَقَالَ لَا تقلد فِي دينك أحدا من هَؤُلَاءِ مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فَخذ بِهِ ثمَّ التَّابِعين بعد الرجل فِيهِ مُخَيّر وَقَالَ أَحْمد أَيْضا لَا تقلدني وَلَا تقلد مَالِكًا ولاالثوري وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَقَالَ من قلَّة فقه الرجل أَن يُقَلّد دينه الرِّجَال وَقَالَ الشَّافِعِي أجمع النَّاس على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحدا
(1/143)
 
 
وَقَالَ إِذا صَحَّ الحَدِيث على خلاف قولي فاضربوا قولي بِالْحَائِطِ وَاعْمَلُوا بِحَدِيث الضَّابِط نقل هَذَا الشَّيْخ مُحَمَّد بن حَيَاة السندي فِي رسَالَته الَّتِي تقدم ذكرهَا وعندما صَحَّ لنا هَذَا عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة جزاهم الله أفضل الْجَزَاء من الْأمة قُلْنَا فِي أَبْيَات
علام جعلتم أَيهَا النَّاس ديننَا
لأربعة لَا شكّ فِي فَضلهمْ عِنْدِي ... هم عُلَمَاء الدّين شرقا ومغربا
وَنور عُيُون الْفضل وَالْحق والزهد ... وَلَكنهُمْ كالناس لَيْسَ كَلَامهم
دَلِيلا ولاتقليدهم فِي غَد يجدي ... وَلَا زَعَمُوا حاشاهم أَن قَوْلهم
دَلِيل فيستهدي بِهِ كل من يهدي ... بل صَرَّحُوا أَنا نقابل قَوْلهم
إِذا خَالَفت الْمَنْصُوص بالقدح وَالرَّدّ
وَهَذِه نصوصهم رَضِي الله عَنْهُم كَمَا سَمِعت وأقوال أَئِمَّة الْعلم فِي هَذِه كَثِيرَة جدا على أَنه مَعْلُوم من صِفَات الْعَالم أَنه لَا يرتضي أَن يقدم على قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد صِحَّته أَو حسنه قَول نَفسه وَلَا قَول غَيره وَإِلَّا لم يكن عَالما مُتبعا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت وَإِذا عرفت تَصْرِيح الْأَئِمَّة بِأَنَّهُ إِذا صَحَّ الحَدِيث بِخِلَاف مَا
(1/144)
 
 
قَالُوهُ فَإِنَّهُ لَا يقلدهم أحد فِي قَوْلهم الْمُخَالف للْحَدِيث عرفت بِأَن الآخر بقَوْلهمْ مَعَ مُخَالفَة الحَدِيث غير مقلد لَهُم لِأَن التَّقْلِيد حَقِيقَة هُوَ الْأَخْذ بقول الْغَيْر من غير حجَّة وَهَذَا القَوْل الَّذِي خَالف الحَدِيث لَيْسَ قولا لَهُم لأَنهم صَرَّحُوا بِأَنَّهُم لَا يتبعُون فِيمَا خَالف الحَدِيث وَأَن قَوْلهم هُوَ الحَدِيث وَلَقَد كثرت جنايات المقلدين على أئمتهم فِي تعصبهم لَهُ فَمن تبين لَهُ شَيْء من ذَلِك أَي من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فَلَا يعْذر فِي التَّقْلِيد فَإِن أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف قَالَا لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا مَا لم يعلم من أَيْن أخذناه وَإِن كَانَ الرجل مُتبعا لَاحَدَّ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَرَأى فِي بعض الْمسَائِل أَن قَول غَيره أقوى مِنْهُ فَاتبعهُ كَانَ قد أحسن فِي ذَلِك وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي عَدَالَته وَلَا دينه بِلَا نزاع بل هَذَا أولى بِالْحَقِّ وَأحب إِلَى الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن تعصب لوَاحِد معِين غير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيرى أَن قَوْله هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يجب اتِّبَاعه دون الْأَئِمَّة الآخرين فَهُوَ ضال جَاهِل بل قد يكون كَافِرًا يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل فَإِنَّهُ مَتى اعْتقد أَنه يجب على النَّاس اتِّبَاع وَاحِد معِين من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة رَضِي الله عَنْهُم دون الآخرين فقد جعله بِمَنْزِلَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ كفر انْتهى نَقله الشَّيْخ مُحَمَّد حَيَاة رَحمَه الله
(1/145)
 
 
قلت وَقَوله من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة بَيَان للْوَاقِع إِذْ هم فِي نظره المتبعون وَإِلَّا قَالَ بِالْإِطْلَاقِ من غير تَقْيِيد بالأربعة ثمَّ من هُنَا يعرف بطلَان قَوْلهم وَبعد الإلتزام يحرم الإنتقال إِلَّا إِلَى تَرْجِيح نَفسه فَإنَّا نقُول بل يحرم الإلتزام إِذْ مَعْنَاهُ تَقْلِيد معِين من الْعلمَاء وَعدم الرُّجُوع إِلَى تَقْلِيد غَيره فَإنَّا نقُول هَذَا الإلتزام للمعين هَل كَانَ إِيثَار الْتِزَام الْمُقَلّد لمَذْهَب من بَين مَذَاهِب الْعلمَاء عَن نظر واجتهاد قضى لَهُ أرجحية مذْهبه إِلَى غَيره التزاما أَو كَانَ عَن غير نظر بل تقليدا فِي تعْيين الْتِزَام مذْهبه إِن كَانَ الأول فَدلَّ على أَنه مُجْتَهد عَارِف بِالنّظرِ فِي الْأَدِلَّة راجحها ومرجوحها وَهَذَا لَا يحل لَهُ التَّقْلِيد فضلا عَن الإلتزام وَإِن كَانَ الثَّانِي وَإِن تبعه سَهوا وَخطأ فَلَا اعْتِبَار بالتزامه فَإِن شَهْوَته لَيْسَ بِدَلِيل وَمَا أحسن قَول ابْن الْجَوْزِيّ فِي تلبيس إِبْلِيس اعْلَم أَن الْمُقَلّد على غير ثِقَة فِيمَا قلد فِيهِ وَفِي التَّقْلِيد إبِْطَال مَنْفَعَة الْعقل لِأَنَّهُ إِنَّمَا خلق للتأمل والتدبر وقبيح بِمن أعْطى شمعة يستضيء بهَا أَن يطفئها وَيَمْشي فِي الظلمَة انْتهى
 
الْأَدِلَّة معيار الْحق من الْبَاطِل
فَإِن قلت الْقَائِلُونَ بِجَوَاز التَّقْلِيد طَائِفَة من الْعلمَاء وَلَهُم أَدِلَّة على جَوَازه قلت الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِهِ طَائِفَة أَيْضا من الْأمة وَلَهُم أَدِلَّة على ذَلِك وَلَا يهولنك الْقَائِلُونَ وكثرتهم من الْفَرِيقَيْنِ بل ارْجع إِلَى الْأَدِلَّة فَهِيَ معيار الْحق من الْبَاطِل وَبهَا تبين الْحَال جيده من العاطل
(1/146)
 
 
فصل فِي التَّوَقُّف فِي تَصْدِيق الْمخبر حَتَّى تقوم الْبَيِّنَة
وأقدم لَك مُقَدّمَة نافعة قبل سرد الْأَدِلَّة من الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ أَن لَا شكّ أَن لنا أصلا مُتَّفقا عَلَيْهِ وَهُوَ أَنه لَا يثبت حكم من الْأَحْكَام إِلَّا بِدَلِيل يُثمر علما أَو أَمارَة تثمر ظنا وَهَذَا أَمر مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء قاطبة بل بَين كَافَّة الْعُقَلَاء من أهل الْإِيمَان وَمن أهل سَائِر الْملَل والأديان وَإِن هَذَا عَام لأحكام الدُّنْيَا وَالدّين شَامِل للموحدين والملحدين فَإِنَّهُ مغروز فِي الْعُقُول أَنه لَا يقدم أحد على فعل من الْأَفْعَال أَو ترك من التروك إِلَّا بعد اعْتِقَاده عَن علم أَو ظن أَن هَذَا الْفِعْل ترك أَو فعل لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَائِدَة دينية أَو دنيوية من جلب نفع أَو دفع ضَرَر وَهَذَا الإعتقاد ملزوم بِعلم أَو ظن عَن دَلِيل وأمارة وَقَالَ ملا على الْقَارِي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ وَإِن اشْتهر بَين الْحَنَفِيَّة أَن الْحَنَفِيّ إِذا انْتقل إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي يُعَزّر وَإِذا كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ يخلع عَلَيْهِ فَهُوَ قَول مُبْتَدع ومخترع وَقَالَ ملا عَليّ الْقَارِي فِي رسَالَته فِي إِشَارَة المسبحة وَقد أغرب الكيداني حَيْثُ قَالَ الْعَاشِر من الْمُحرمَات الْإِشَارَة بالسبابة كَأَهل الحَدِيث أَي مثل جمَاعَة يجمعهُمْ الْعلم بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/147)
 
 
فَهَذَا مِنْهُ خطأ عَظِيم وجرم جسين منشأه الْجَهْل بقواعد الْأُصُول ومراتب الْفُرُوع من الْمَنْقُول وَلَوْلَا حسن الظَّن بِهِ وَتَأْويل كَلَامه حِينَئِذٍ لَكَانَ كفره صَرِيحًا وارتداده صَحِيحا فَهَل لمُؤْمِن أَن يحرم مَا ثَبت فعله عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا كَاد نَقله أَن يكون متواترا وَيمْنَع جَوَاز مَا عَلَيْهِ عَامَّة الْعلمَاء كَابِرًا عَن كَابر مكابرا وَالْحَال أَن الإِمَام الْأَعْظَم والهمام الأقدم قَالَ لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا مَا لم يعلم مأخذه من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَالْقِيَاس الْجَلِيّ فِي الْمَسْأَلَة فَإِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَنه لَو لم يكن نَص الإِمَام على المرام لَكَانَ من الْمُتَعَيّن على أَتْبَاعه من الْعلمَاء الْكِرَام أَن يعملوا بِمَا صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ وعَلى آله الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَذَا لَو صَحَّ عَن الإِمَام فرضا نفي الْإِشَارَة وَصَحَّ إِثْبَاتهَا عَن صَاحب الْبشَارَة فَلَا شكّ فِي تَرْجِيح الْمُثبت الْمسند إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ وَقد وجد نَقله الصَّرِيح بِمَا ثَبت بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح فَمن أنصف وَلم يتعسف عرف أَن هَذَا سَبِيل أهل التدين من السّلف وَالْخلف وَمن عدل عَن ذَلِك فَهُوَ هَالك يُوصف بِالْجَهْلِ المعاند المكابر وَلَو كَانَ عِنْد النَّاس من الأكابر انْتهى فَكل عَاقل لَا يقدم على فعل أَو يحجم عَنهُ إِلَّا لاعْتِقَاده نفعا أَو دفعا والاعتقاد لَا يكون إِلَّا عَن علم أَو ظن وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن دَلِيل وَالظَّن لَا يكون إِلَّا عَن أَمارَة ثمَّ إِن الْعُقُول مجبولة على أَن لَا تقبل قولا من الْأَقْوَال إِلَّا لظن صدقه أَو الْعلم بِهِ وَلَا ترده إِلَّا لظن كذبه أَو الْعلم بكذبه وظنهما صدق القَوْل أَو كذبه أَو
(1/148)
 
 
علمهما بهما يتوقفان على الدَّلِيل والأمارة وَإِذا تقرر هَذَا فالعقلاء قاطبة وَأهل الْملَل والنحل الْمُخْتَلفَة متفقون على أَنه لَا يجب تَصْدِيق أحد وَاتِّبَاع قَوْله حَتَّى يَأْتِي ببرهان على مَا قَالَه من دَعْوَاهُ أَو إخْبَاره عَن أَي أَمر أَلا ترى أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ لفرعون {إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين} إِلَى قَوْله {قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة} إِلَى قَوْله قَالَ فِرْعَوْن {فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين} الْأَعْرَاف 104 106 وَفِي سِيَاق قصصه فِي الْقُرْآن كلهَا نَحْو هَذَا وَقَالَ صَالح {قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} الْأَعْرَاف 73 بعد قَوْلهم {فأت بِآيَة إِن كنت من الصَّادِقين} الشُّعَرَاء 154 وَسَائِر قصَص الْأَنْبِيَاء كَذَلِك وَأما قوم هود {مَا جئتنا بِبَيِّنَة وَمَا نَحن بتاركي آلِهَتنَا عَن قَوْلك} هود 53 فَمن تعنتهم فِي كفرهم وجعلهم الْبَيِّنَة غير الْبَيِّنَة
 
بَيَان أَن على الْمُدَّعِي إِقَامَة الْبَيِّنَة
وَإِذا عرفت هَذَا عرفت أَن كل عَاقل لَا يقبل قَول قَائِل مُدعيًا ومخبرا وَلَا
(1/149)
 
 
يصدقهُ حَتَّى يُقيم الْبَيِّنَة على مَا قَالَه فَإِن هَذَا فِرْعَوْن مَعَ غلوه فِي كفره وكبريائه طلب من مُوسَى الْبَيِّنَة على دَعْوَاهُ أَنه رَسُول من رب الْعَالمين وَلم يُقَابله بِالرَّدِّ لدعواه بصد وإعراض عَن مَا قَالَه وادعاه وَلم يقل لَهُ صدقت وَلَا كذبت بل طلب مِنْهُ الْبُرْهَان كقوم صَالح وكل أهل مِلَّة من الْملَل الكفرية تطالب رسولها بِالْبَيِّنَةِ على دَعْوَاهُ النُّبُوَّة بل مِنْهُم من يعرف دَعْوَاهُ بِأَن عِنْده الْبُرْهَان عَلَيْهَا قبل أَن يطالبوه بِهِ أَلا ترى أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لفرعون فِي بعض محاورته {حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم} الْآيَة الْأَعْرَاف 105 وَإِذا أَقَامَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْبَيِّنَة على دَعْوَى النُّبُوَّة فَمن قومه من يصدقهُ وينقاد لَهُ كَمَا كَانَ من سحرة فِرْعَوْن فَإِنَّهُم لما شاهدوا تلقف عَصَاهُ لما أَتَوا بِهِ من سحر عَظِيم كَمَا وَصفه الله خروا سجدا {قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين رب مُوسَى وَهَارُون} الْأَعْرَاف 121 122 وَتَمَادَى فِرْعَوْن وَمن تبعه على كفرهم وتكذيبهم بعد علمه وَعلم من بَقِي مَعَه على كفره بِصدق مُوسَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فيهم {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} النَّمْل 14 فَأخْبر الصَّادِق فِي أخباره المطلع على إِضْمَار الْقلب وإسراره بِأَنَّهُم جَحَدُوا بآياته المبصرة وأنفسهم بهَا متيقنة وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لفرعون {لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض بصائر} الْإِسْرَاء 102 وَاعْلَم أَن سر هَذِه الْأَخْبَار مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُم جَحَدُوا بهَا عَن يَقِين أَن الله تَعَالَى كَمَا جبل الْعُقُول على أَن لَا تقبل دَعْوَى وَلَا تصدق خَبرا إِلَّا عَن بَيِّنَة تُقَام عَلَيْهَا
(1/150)
 
 
كَذَلِك جبلها على قبُولهَا وانقيادها وَإِذ عانها لقبُول القَوْل إِذا أُقِيمَت الْبَيِّنَة عَلَيْهِ والبرهان وتصديقها للدعوى وَالْخَبَر فِي أَي شَأْن كَمَا جعل الشِّبَع عِنْد الْأكل فَإِن لم يقبل بعد إِقَامَته فَلَيْسَ إِلَّا مُكَابَرَة وظلما وعلوا وعدوانا وَلَو بسطنا الِاسْتِدْلَال لطال الْمقَال إِلَّا أَن الْمَسْأَلَة مَعْلُومَة بِالضَّرُورَةِ عِنْد الْعُقَلَاء مبسوطة فِي دواوين الْإِسْلَام فَلَا حَاجَة إِلَى الإطالة وَيدل لذَلِك قَوْله {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} الْإِسْرَاء 15 وَقَوله {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} النِّسَاء 165 وَقَوله {أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير فقد جَاءَكُم بشير ونذير} الْمَائِدَة 19
(1/151)
 
 
فصل فِي أَن مُكَابَرَة المكابرين سَبَب لهلاكهم
وَمَعْلُوم أَنه تَعَالَى لم يبْعَث الرُّسُل إِلَّا لتقوم الْحجَّة على الْعباد وَلَا تقوم إِلَّا ببرهان ينقاد إِلَيْهِ عقول من أرسل إِلَيْهِم وَإِلَّا لم يكن ذَلِك برهانا فِي حَقهم والمفروض أَنه برهَان فَمن أنكرهُ وَجحد بِهِ فَلَا يجْحَد بِهِ إِلَّا عنادا وجهلا ومكابرة وَلذَلِك أَنه تَعَالَى بعد إرْسَاله رسله وإنبائهم للأمم بالبراهين على صدقهم وَهِي المعجزات يهْلك من لم يتبعهُم وَيُرْسل عَلَيْهِم المصائب السماوية والأرضية كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض وَمِنْهُم من أغرقنا وَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} العنكبوت 40 فَصرحَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لم يظلمهم بإهلاكهم بأنواع الْعُقُوبَات لِأَنَّهُ قد أَقَامَ عَلَيْهِم براهين خُفْيَة وَرُسُله علمُوا صدقهم وَلَكنهُمْ عاندوا وجحدوا بآياته وَرُسُله وَقد كَانَت قُرَيْش تعلم صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أَتَى بِهِ من الْبَينَات وَلَكنهُمْ جَحَدُوا بآياته وتعنتوا فِي طلب معجزات اقترحوها بأهوائهم كَقَوْلِهِم {لن نؤمن لَك حَتَّى تفجر لنا من الأَرْض ينبوعا أَو تكون لَك جنَّة من نخيل وعنب فتفجر الْأَنْهَار خلالها تفجيرا أَو تسْقط السَّمَاء كَمَا زعمت علينا كسفا أَو تَأتي بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قبيلا أَو يكون لَك بَيت من زخرف أَو ترقى فِي السَّمَاء وَلنْ نؤمن لرقيك حَتَّى تنزل علينا كتابا نقرؤه} الْإِسْرَاء 90 93 فَهَذَا تعنت وتشدد فِي الْكفْر مَعَ أَن لَو جَاءَهُم بِكِتَاب من السَّمَاء لزادوا طغيانا كَمَا قَالَ تَعَالَى
(1/152)
 
 
{وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} الْأَنْعَام 7 فاقترحوا مَا ترَاهُ من أهوائهم وعنادهم وجهلهم وَلَا يجب على الرُّسُل إِلَّا الْبُرْهَان الدَّال على صدقهم من المعجزات الَّتِي يعجز عَنْهَا قدرهم وقواهم لَا أَنه يجب عَلَيْهِم أَن يَأْتُوا بمعجزة يقترحونها بتعنتهم وَلَو أَتَوا بهَا لتعنتوا ثَانِيَة وثالثة بل لَو أدخلُوا النَّار وردوا لعادوا لما نهو عَنهُ وَلذَا قَالَ تَعَالَى {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} الْمُؤْمِنُونَ 71 بل حكى الله عَن عنادهم فَقَالَ {وَلَو فتحنا عَلَيْهِم بَابا من السَّمَاء فظلوا فِيهِ يعرجون لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا بل نَحن قوم مسحورون} الْحجر 14 15 فَلَيْسَ على رسل الله بعد دَعوَاهُم الرسَالَة إِلَّا إِقَامَة الْبُرْهَان على صدقهم كَمَا حكى الله تَعَالَى فِي كِتَابه عَن كل نَبِي مَعَ أمته وَرَسُول مَعَ قومه وَلَو تَأمل