إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول الجزء الثاني جدول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول – الجزء الثاني
تأليف:
الإمام العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني
  
الباب الخامس: في المطلق والمقيد
وفيه مباحث أربعة:
الفصل الأول: في حدهما
أما المطلق: فقيل في حده: ما دل على شائع في جنسه. ومعنى هذا: أن يكون حصة محتملة لحصص كثيرة مما "يندرج"* تحت أمر. فيخرج من قيد الدلالة المهملات، ويخرج من قيد الشيوع العارف كلها، لما فيها من التعيين، إما شخصا، نحو: زيد وهذا، أو حقيقة، نحو: الرجل وأسامة، أو حصة، نحو: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}1، أو استغراقا نحو: الرجال، وكذا كل عام ولو نكرة، نحو: كل رجل ولا رجل.
وقيل في حده: هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي.
"قال في "المحصول" في حده: هو ما دل على الماهية من حيث هي هي"** من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده، والمراد بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود.
وقد اعترض عليه بأنه جعل المطلق والنكرة سواء، وبأنه يرد عليه أعلام الأجناس، كأسامة وثعالة، فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي هي.
وأجاب عن ذلك الأصفهاني في "شرحة المحصول": بأنه لم يجعل المطلق والنكرة سواء، بل غاير بينهما، فإن المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي، والنكرة الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة.
 قال: وإما إلزامه بعلم الجنس فمردود، بأنه وضع للماهية الذهنية بقيد التشخص الذهني، بخلاف اسم الجنس، وإنما يرد الاعتراض بالنكرة على الحد الذي أورده الآمدي للمطلق، فإنه
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": يدرج.
** ما بين قوسين ساقط من "أ"
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 16 من سورة المزمل.
 ج / 2 ص -5-
 
  
قال: هو الدال على الماهية بقيد الوحدة. وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب، فإنه قال في حده: هو ما دل على شائع في جنسه. وقيل: المطلق هو ما دل على الذات دون الصفات.
 وقال الصفي الهندي: المطلق الحقيقي: ما دل على الماهية فقط، والإضافي مختلف، نحو: رجل،ب ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم، ورقبة مؤمنة، ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي؛ لأنه يدل على واحد شائع، وهما قيدان زائدان على الماهية.
وأما المقيد: فهو ما يقابل المطلق، على اختلاف هذه الحدود المذكورة في المطلق، فيقال فيه: هو ما دل لا على شائع في جنسه، فتدخل فيه المعارف والعمومات كلها، أو يقال في حده: هو ما دل على الماهية بقيد من قيودها، أو ما كان له دلالة على شيء من القيود.
الفصل الثاني: حمل المطلق على المقيد
 اعلم: أن الخطاب إذا ورد مطلقًا لا "مقيد له"* حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدًا حمل على تقييده، وإن ورد مطلقًا في موضع، مقيدًا في موضع آخر، فذلك على أقسام:
الأول:
أن يختلفا في السبب والحكم، فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق، كما حكاه القاضي أبوبكر الباقلاني: وإمام الحرمين الجويني، وإلكيا الهراس، وابن برهان، والآمدي وغيرهم.
القسم الثاني:
أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر، كما لو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة؛ وقال في موضوع آخر: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة. وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب، وابن فورك وإلكيا الطبري وغيرهم.
 وقال ابن برهان في "الأوسط" اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجمل، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل، ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في "تفسيره"1: أن أبا حنيفة يقول بالحمل في هذه الصورة، وحكي "الطرطوسي2" الخلاف فيه
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لا مقيدًا.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه: "تأويلات الماتريدي" للشيخ محمد بن محمد الماتريدي أبي منصور، ويعرف أيضًا باسم "تأويلات القرآن" ا. هـ. كشف الظنون 1/ 457.
2 هو نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد الطرسوسي، قاض، مصنف، من كتبه: "الإرشادات في ضبط المشكلات" و"الإعلام في مصطلح الشهود والحكام" و"أنفع الوسائل" يعرف بالفتاوى الطرطوسية، وغيرها انظر ترجمته ومصادرها في الإعلام "1/ 51".
 ج / 2 ص -6-
 
  
عن المالكية، وبعض الحنابلة، وفيه نظر، فإن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب، وهو من المالكية.
ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين، فرجح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق، أي: دال على أن المراد بالمطلق هو المقيد، وقيل: إنه يكون نسخًا، أي: دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق، والأول أولى. وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدمًا أو متأخرًا، أو جهل السابق، فإنه يتعين الحمل، كما حكاه الزركشي.
القسم الثالث:
أن يختلفا في السبب دون الحكم، كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار1،وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل2، فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل، مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين، فهذا القسم هو موضع الخلاف.
فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية.
وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد.
 وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد، ولا يُدعى وجوب هذا القياس، بل يدعى أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا.
قال الرازي في "المحصول": وهو القول المعتدل، قال: واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين، أما الأول -يعني مذهب جمهور الشافعية- فضعيف جدًّا؛ لأن الشارع لو قال: أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر، فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظا.
وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة، وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة، وأطلقت في سائر الصور، حملنا المطلق على المقيد فكذا ههنا.
والجواب عن الأول: بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض لا في كل شيء، وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد.
وعن الثاني: أنَّا إنما قيدناه بالإجماع.
وأما القول الثاني -يعني مذهب الحنفية- فضعيف؛ لأن دليل القياس، وهو أن العمل به دفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الواردة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا...} الآية، المجادلة 3.
2 وهي الواردة في قوله تعالى: {...وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...} الآية، النساء 92.
 ج / 2 ص -7-
 
  
للضرر المظنون عام في كل الصور. انتهى.
قال إمام الحرمين الجويني -في دفع ما قاله من أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد-: إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان، فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة، لبعضها حكم التعلق والاختصاص، ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع. فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد، مع العلم بأن كتاب الله فيه النفي والإثبات، والأمر والزجر، والأحكام المتغايرة؛ فقد ادعى أمرا عظيما. انتهى.
 ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضى حصول التناسب بينهما بجهة الحمل، ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد. فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل.
وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية، وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل، فإن قام الدليل على تقييده قيد، وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص، فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة.
قال الزركشي: وهذا أفسد المذاهب؛ لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها، ولا يعدل إلى غيره.
وفي المسألة مذهب خامس: وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في "المطلق و"* المقيد، فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد.
ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل؛ لأن التغليظ إلزام، وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال.
قال الماوردي: وهذا أولى المذاهب. قلت: بل هو أبعدها من الصواب.
القسم الرابع:
أن يختلفا في الحكم، نحو: اكس يتيما، أطعم يتيما عالما، فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه، سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين، اتحد سببهما أو اختلف. "وقد" ** حكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
 ج / 2 ص -8-
 
  
الفصل الثالث: شروط حمل المطلق على المقيد
اشترط القائلون بالحمل شروطًا سبعة:
الأول:
أن يكون المقيد من باب الصفات، مع ثبوت الذوات في الموضعين، فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فلا يحمل أحدهما على الآخر، وهذا كإيجاب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء، مع الاقتصار على عضوين في التيمم، فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء، حتى يلزم التيمم في الأربعة الأعضاء، لما فيه من إثبات حكم لم يذكر، وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات كما ذكرنا.
 وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والماوردي، والروياني، ونقله الماوردي عن الأبهري من المالكية، ونقل الماوردي أيضًا عن ابن خيران من الشافعية: أن المطلق يحمل على المقيد في الذات، وهو قول باطل.
الشرط الثاني:
أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد، كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية، وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها، فهي شرط في الجميع، وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}1، وإطلاق الميراث فيما أطلق فيه، فيكون ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين، فأما إذا كان المطلق دائرًا بين قيدين متضادين نظر، فإن كان السبب مختلفا لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل، فيحمل على ما كان القياس عليه أولى، أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى.
وممن ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع" والماوردي، وحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق على اشتراطه. قال الزركشي: وليس كذلك، فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافا لأصحابنا، ولم يرجح شيئًا.
الشرط الثالث:
أن يكون في باب الأوامر والإثبات. أما في جانب النفي والنهي فلا؛ فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي، وهو غير سائغ.
وممن ذكر هذا الشرط الآمدي، وابن الحاجب، وقالا: لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما؛ لعدم التعذر، فإذا قال: لا تعتق مكاتبا، لا تعتق مكاتبا كافرا "لم يعتق مكاتبا كافرًا"* ولا مسلمًا؛ إذ لو أ عتق واحدًا منهما لم يعمل بهما. وأما صاحب "المحصول" فسوى
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 12 من سورة النساء.
 ج / 2 ص -9-
 
  
بين الأمر والنهي، ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي وابن الحاجب. وأما الأصفهاني فتبع صاحب "المحصول"، وقال: حمل المطلق على المقيد لا يختص بالأمر والنهي، بل يجري في جميع أقسام الكلام.
قال الزركشي: وقد يقال: لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي، وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل إفراد بعض مدلول العام، وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور، فلا وجه لذكره ههنا. انتهى.
والحق: عدم الحمل في النفي والنهي، وممن اعتبر هذا الشرط ابن دقيق العيد، وجعله أيضًا شرطًا في بناء العام على الخاص.
الشرط الرابع:
أن لا يكون في جانب الإباحة. قال ابن دقيق العيد: إن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة؛ إذ لا تعارض بينهما، وفي المطلق زيادة.
قال الزركشي: وفيه نظر:
الشرط الخامس:
أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل، فإن أمكن بغير أعمالهما فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما، ذكره ابن الرفعة1 في "المطلب"2.
الشرط السادس:
أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد، فلا يحمل المطلق على المقيد ههنا قطعًا.
الشرط السابع:
أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل على ذلك فلا تقييد.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، أبو العباس، نجم الدين، فقيه شافعي، من فضلاء مصر، معروف بابن الرفعة، ولد سنة خمس وأربعين وستمائة هـ، وتوفي سنة عشر وسبعمائة، من آثاره: "الإيضاح والتبين في معرفة المكيال والميزان" "كفاية النبيه في شرح التنبيه" وغيرها.ا. هـ شذرات الذهب 6/ 22 كشف الظنون 2/ 2008 الأعلام 1/ 222.
2 وهو شرح "للوسيط" في الفروع للغزالي ألفة ابن الرفعة في ستين مجلدا ولم يكمله ا. هـ كشف الظنون 2/ 2008.
الفصل الرابع: جريان ما ذكر في تخصيص العام في تقييد المطلق
اعلم: أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جارٍ في تقييد المطلق، فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص، فذلك يغنيك عن تكثير المباحث في هذا الباب.
فائدة: قال في "المحصول": إذا أطلق الحكم في موضع، وقيد مثله في موضعين بقيدين
 ج / 2 ص -10-
 
  
متضادين، كيف يكون حكمه؟!
مثاله: قضاء رمضان الوارد مطلقًا في قوله سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}1، وصوم التمتع الوارد مقيدًا بالتفريق في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}2، وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدًا بالتتابع في قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}3. قال: فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظًا ترك المطلق ههنا على إطلاقه؛ لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر، ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله ههنا على ما كان القياس عليه أولى. انتهى.
وقد نقدم في الشرط الثاني -من المبحث الذي قبل هذا المبحث4- الكلام في المطلق الدائر بين قيدين متضادين، وإنما ذكرنا هذه الفائدة لزيادة الإيضاح.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 184من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 196من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 4 من سورة المجادلة.
4 انظر 2/ 9.
 ج / 2 ص -11-
 
  
الباب السادس: في المجمل والمبين
وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: في حدهما
تعريف المجمل:
فالمجمل في اللغة: المبهم، من أجمل الأمر: إذا أبهم. وقيل: هو المجموع، من أجمل الحساب: إذا جُمِع وجُعِل جملة واحدة.
وقيل: هو المتحصل من أجمل الشيء إذا حصله.
 وفي الاصطلاح: ما له دلالة على أحد معنيين، لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه، كذا قال الآمدي.
وفي "المحصول": هو ما أفاد شيئًا من جملة أشياء، وهو متعين في نفسه، واللفظ لا يعينه.
قال: ولا يلزم عليه قولك: اضرب رجلا؛ لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وليس بمتعين في نفسه، فأي رجل ضربته جاز، وليس كذلك اسم القرء؛ لأنه يفيد إما الطهر وحده، وإما الحيض وحده، واللفظ لا يعينه، وقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة}1 يفيد وجوب فعل معين في نفسه، غير متعين بحسب اللفظ.
وقال ابن الحاجب: هو في الاصطلاح: ما لم تتضح دلالته "وأورد عليه المهمل. وأجيب: بأن المراد بما لم تتضح دلالته: ما كان له دلالة في الأصل ولم تتضح، فلا يرد المهمل"*
وقيل: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ما لم تتضح دلالته، والمراد ما كان له دلالة في الأصل ولم تتضح فلا يرد المهمل.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 43 من سورة البقرة.
 ج / 2 ص -12-
 
  
واعترض عليه: بأنه لا يطرد ولا ينعكس.
أما عدم اطراده فلأن المهمل كذلك وليس بمجمل، وأيضا المستحيل كذلك؛ لأن المفهوم منه ليس بشيء اتفاقًا، وليس بمجمل لوضوح مفهومه.
وأما عدم الانعكاس: فلأنه يجوز أن يفهم من المجمل أحد محامله لا بعينه، كما في المشترك فلا يصدق الحد عليه.
وقال القفال الشاشي، وابن فورك: ما لا يستقل بنفسه في المراد منه حتى يأتي تفسيره. والأولى أن يقال: هو ما دل دلالة لا يتعين المراد بها إلا بمعين، سواء كان عدم التعيين بوضع اللغة، أو بعرف الشرع، أو بالاستعمال.
تعريف المبين:
وأما المبين: فهو في اللغة المظهر، من بان إذا ظهر، يقال: بين فلان كذا إذا أظهره، وأوضح معناه.
وفي الاصطلاح: هو ما افتقر إلى البيان.
والبيان هو مشتق من البين، وهو الفراق؛ لأنه يوضح الشيء ويزل إشكاله، كذا قال ابن فورك، وفخر الدين الرازي في "المحصول".
قال أبو بكر الرازي: سمي بيانا لانفصاله عما يلتبس من المعاني.
وأما في الاصطلاح: فهو الدال على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد.
كذا قال في "المحصول". ويطلق ويراد به الدليل على المراد، ويطلق على فعل المبين.
ولأجل إطلاقه على المعاني الثلاثة اختلفوا في تفسيره بالنظر إليها، فالصيرفي لاحظ فعل المبين، فقال: البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.
 وقال القاضي في "مختصر التقريب": وهذا ما ارتضاه من خاض في الأصول من أصحاب الشافعي.
واعترضه ابن السمعاني بأن لفظ البيان أظهر من لفظ إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.
ولاحظ القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، والفخر الرازي، وأكثر المعتزلة الدليل، فقالوا: هو الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب. ولاحظ أبو عبد الله البصري "نفس العلم"* فحده بحد العلم، وحكى أبو الحسين عنه: أنه العلم الحادث؛
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": نفسه.
 ج / 2 ص -13-
 
  
لأن البيان هو ما به يتبين الشيء، والذي يتبين به الشيء هو العلم الحادث، قال: ولهذا لا يوصف الله سبحانه بأنه مبين؛ لأن علمه لذاته لا بعلم حادث.
قال العبدري بعد حكاية المذاهب: الصواب أن البيان هو مجموع هذه الأمور.
وقال شمس الأئمة السرخسي الحنفي: اختلف أصحابنا في معنى البيان، فقال أكثرهم: هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب، وقال بعضهم: هو ظهور المراد للمخاطب، والعلم بالأمر الذي حصل له عند الخطاب.
 قال: وهو اختيار أصحاب الشافعي؛ لأن الرجل يقول: بان هذا المعنى، أي ظهر، والأول أصح، أي الإظهار. انتهى.
وقال الأستاذ أبو "إسحاق"* الإسفراييني: قال أصحابنا: إنه الإفهام بأي لفظ كان.
وقال أبو بكر الدقاق: إنه العلم الذي يتبين به المعلوم.
وقال الشافعي في "الرسالة": إن البيان اسم جامع لأمور مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أبو بكر.
الفصل الثاني: وقوع الإجمال في الكتاب والسنة
اعلم: أن الإجمال واقع في الكتاب والسنة، قال أبو بكر الصيرفي: ولا أعلم أحدًا أبى هذا غير داود الطاهري.
وقيل: إنه لم يبق مجمل في كتاب الله تعالى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال إمام الحرمين: إن "المختار أن"* ما يثبت التكليف به لا إجمال فيه؛ لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال، وما لا يتعلق به تكليف؛ فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
قال الماوردي والروياني: يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، وقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله"1 الحديث.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": إن مختار.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، من حديث ابن عباس 19 واللفظ له. وأخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله 7372 وأبو داوود، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة 1584. والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة 625. والنسائي، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة 5/ 2 وابن ماجه، كتاب الزكاة باب فرض الزكاة "1783" وابن حبان في صحيحه "156"، وأحمد في مسنده "1/ 233".
 ج / 2 ص -14-
 
  
"وتعهدهم"* بالتزام الزكاة قبل بيانها، قالا: وإنما جاز الخطاب بالمجمل، وإن كانوا لا يفهمونه لأحد أمرين:
الأول:
أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يتعقبه من البيان، فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة "وبينها"** لجاز أن تنفر النفوس منها ولا تنفر من إجمالها.
والثاني:
أن الله تعالى جعل من الأحكام جليًّا، وجعل منها خفيًّا، ليتفاضل الناس في "العلم"*** بها، ويثابوا على الاستنباط لها، فلذلك جعل منها مفسرا جليا، وجعل منها مجملًا خفيا.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي: وحكم المجمل: التوقف فيه إلى أن يفسر، ولا يصح الاحتجاج بظاهره في شيء يقع فيه النزاع.
قال الماوردي: إن كان الإجمال من جهة الاشتراك، واقترن به تبينه أخذ به، فإن تجرد عن ذلك واقترن به عرف يعمل به، فإن تجرد عنهما وجب الاجتهاد في المراد منه، وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط، فصار داخلا في المجمل، لخفائه وخارجا منه، لإمكان "استنباطه"****.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تعبدهم.
** في "أ": بها.
*** في "أ": في العمل.
**** في "أ": الاستنباط.
الفصل الثالث: وجوه الإجمال
الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب، والأول إما أن يكون بتصريفه، نحو: قال من القول، والقيلولة، ونحو مختار فإنه صالح للفاعل، والمفعول.
قال العسكري1: ويفترقان، تقول في الفاعل: مختار لكذا، وفي المفعول: مختار من
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى، أبو هلال، عالم بالأدب لغوي، شاعر، مفسر، توفي بعد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "الفرق بين المعاني" "الفروق" في اللغة، "الأوائل" "كتاب الصناعتين في النظم والنثر" ا.هـ معجم المؤلفين 3/ 240 كشف الظنون 167 الأعلام 2/ 196 معجم الأدباء 8/ 258.
 ج / 2 ص -15-
 
  
كذا، ومنه قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}1 {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد}2.
وإما أن يكون بأصل وضعه، فإما أن تكون معانيه متضادة كالقرء للطهو والحيض، والناهل للعطشان والريان، أو متشابهة غير متضادة، فإما أن يتناول معاني كثيرة، بحسب خصوصياتها، فهو المشترك، وأما بحسب معنى تشترك فيه فهو المتواطئ.
الإجمال كما يكون في الأسماء على ما قدمنا، يكون في الأفعال كـ عسعس بمعنى أقبل، وأدبر، ويكون في الحروف كتردد الواو بين العطف والابتداء. وكما يكون في المفردات يكون في المركبات، نحو قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح}3 لتردده بين الزوج، والولي، ويكون أيضًا في مرجع الضمير إذا تقدمه أمران، أو أمور يصلح لكل واحد منها، ويكون في الصفة نحو: طبيب ماهر لترددها بين أن تكون للمهارة مطلقًا، أو للمهارة في الطب. ويكون في تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على الحقيقة، فإن اللفظ يصير مجملًا بالنسبة إلى تلك المجازات؛ إذ ليس الحمل على بعضها أولى من الحمل على البعض الآخر، كذا قال الآمدي؛ والصفي الهندي، وابن الحاجب.
وقد يكون في فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا يحتمل وجهين احتمالا واحدا.
وقد يكون فيما ورد من الأوامر بصيغة الخبر، كقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص}4، وقوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِن}5. فذهب الجمهور إلى أنها تفيد الإيجاب، وقال آخرون: يتوقف فيها حتى يرد دليل يبين المراد بها.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 233 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 282 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 237 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 45 من سورة المائدة.
5 جزء من الآية 228 من سورة البقرة.
الفصل الرابع: فيما لا إجمال فيه
وهو أمور قد يحصل فيها الاشتباه على البعض، فيجعلها داخلة في قسم المجمل وليست منه.
الأول: في الألفاظ التي علق التحريم فيها على الأعيان كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة}{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم}2.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 23 من سورة النساء.
 ج / 2 ص -16-
 
  
فذهب الجمهور: إلى أنه لا إجمال في ذلك.
وقال الكرخي، والبصري: إنها مجملة.
احتج الجمهور: بأن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل: هذا طعام حرام، هو تحريم أكله، ومن قول القائل: هذه المرأة حرام هو تحريم وطئها.
وتبادر الفهم دليل الحقيقة، فالمفهوم من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} هو تحريم الأكل؛ لأن ذلك هو المطلوب من تلك الأعيان، وكذا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} فإن المفهوم منه هو تحريم الوطء.
واحتج الكرخي، والبصري: بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة، فكيف إذا كانت موجودة؟ فإذًا لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره، بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان، وذلك الفعل غير مذكور، وليس بعضها أولى من بعض، فإما أن يضمر الكل، وهو محال؛ لأنه إضمار من غير حاجة، وهو غير جائز، أو يتوقف في الكل، وهو المطلوب.
وأيضًا "فإنها"* لو دلت على تحريم فعل معين. لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع، وليس كذلك.
وأجيب: بأنه لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان، لكن قوله: ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع، فإن العرف يقتضى إضافة التحريم إلى الفعل المطلوب منه، وهو تحريم الاستمتاع، وتحريم الأكل، فهذا البعض متضح متعين بالعرف.
الثاني: لا إجمال في مثل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}1 وإلى ذلك ذهب الجمهور.
وذهب الحنفية إلى أنه مجمل، لتردده بين الكل والبعض، والسنة بينت البعض، وحكاه في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري.
ثم اختلف القائلون بأنه لا إجمال، فقالت المالكية: إنه يقتضي مسح الجميع؛ لأن الرأس حقيقة في جميعه، والباء إنما دخلت للإلصاق.
وقال الشريف المرتضى فيما حكاه عنه صاحب "المصادر": إنه يقتضي التبعيض.
قال: لأن المسح فعل متعدٍ بنفسه، غير محتاج إلى حرف التعدية، بدليل قوله: مسحته
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من أ.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 6 من سورة المائدة.
 ج / 2 ص -17-
 
  
كله، فينبغي أن يفيد دخول الباء فائدة جديدة، فلو لم يفد البعض لبقي اللفظ عاريا عن الفائدة.
وقالت طائفة: إنه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم، وهو القدر المشترك بين مسح الكل والبعض، فيصدق بمسح البعض، ونسبه في "المحصول" إلى الشافعي.
قال البيضاوي: وهو الحق.
ونقل ابن الحاجب عن الشافعي، وأبي الحسين، وعبد الجبار: ثبوت البعض بالعرف.
والذي في "المعتمد" لأبي الحسين عن عبد الجبار: أنها تفيد في اللغة تعميم مسح الجميع؛ لأنه متعلق بما سمي رأسًا، وهو اسم لجملة الرأس، لا للبعض، ولكن العرف يقتضي إلصاق المسح بالرأس، إما بجميعه، وإما ببعضه "فيحمل"* الاسم عليه.
وعبارة الشافعي في كتاب "أحكام القرآن"1: أن من مسح من رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا. قال: فدلت السنة أنه ليس على المرء مسح رأسه كله، وإذا دلت السنة على ذلك، فمعنى الآية: أن من مسح شيئًا من رأسه أجزأه. انتهى.
فلم يثبت التبعيض بالعرف كما زعم ابن الحاجب.
ولا يخفاك أن الأفعال المنسوبة إلى الذوات تصدق بالبعض حقيقة لغوية، فمن قال: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، صدق بذلك بوقوع الفعل على جزء من الرأس، فهكذا مسحت رأس زيد، ومسحت برأسه.
وعلى كل حال، فقد جاء في السنة المطهرة مسح كل الرأس2، ومسح بعضه3 فكان
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لصدق الاسم عليه.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو للإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي وهو أول من صنف فيه ا. هـ كشف الظنون 1/ 20.
2 أخرجه البخاري عن عبد الله بن زيد بلفظ: "فمسح برأسه فأقبل وأدبر"، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين إلى الكعبيين برقم 186. ومسلم، كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم 235. والترمذي، كتاب الطهارة، باب فيمن يتوضأ بعض وضوئه مرتين وبعضه ثلاثا 47. والنسائي، كتاب الطهارة، باب عدد مسح الرأس 1/ 72. وابن أبي شيبة 1/ 8. وأحمد في مسنده 4/ 40. وابن حبان في صحيحه 1077. والبيهقي في السنن 1/ 63.
3 أخرجه مسلم من حديث المغيرة بلفظ: "توضأ فمسح بناصيته"، كتاب الصلاة باب المسح على الخفين ومقدم الرأس 274. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين 150. والنسائي في السنن، كتاب الطهارة، باب المسح على العمامة مع الناصية 107. وابن حبان في صحيحة 1346. والبيهقي في السنن، كتاب الطهارة، باب مسح بعض الرأس 1/ 58. والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على العمامة 100. وقال: وفي الباب عن عمرو بن أمية، وسلمان، وثوبان عن أبي أمامة، وقال: حديث المغيرة حسن صحيح.
 ج / 2 ص -18-
 
  
ذلك دليلا مستقلا على أنه يجزئ مسح البعض، سواء كانت الآية من قبيل المجمل أم لا.
الثالث: لا إجمال في مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}1 عند الجمهور.
وقال بعض الحنفية: إنها مجملة؛ إذ اليد العضو من المنكب، والمرفق، والكوع، لاستعمالها فيها، والقطع للإبانة، والشق، لاستعماله فيهما.
وأجاب الجمهور: بأن اليد تستعمل مطلقة ومقيدة، فالمطلقة تنصرف إلى الكوع بدليل آية التيمم2، وآية السرقة3، وآية المحاربة4.
وأجاب بعضهم: بأن اليد حقيقة في العضو إلى المنكب، ولما دونه مجاز، فلا إجمال في الآية، وهذا هو الصواب.
وقد جاءت السنة بأن القطع من الكوع5، فكان ذلك مقتضيا للمصير إلى المعنى المجازي في الآية.
ويجاب عما ذكر في القطع: بأن الإجمال إنما يكون مع عدم الظهور في أحد المعنيين، وهو ظاهر في القطع، لا في الشق الذي هو مجرد قطع بدون إبانة.
الرابع: لا إجمال في نحو: "لا صلاة إلا بطهور""لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب""لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل""لا نكاح إلا بولي"9، "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"10.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
2 جزء من آيتين الأولى في المائدة 6 والثانية في النساء 43. وفيها قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}.
3 جزء من الآية 38 من سورة المائدة. وفيها قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
4 جزء من الآية 33 من سورة المائدة. وفيها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.
5 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 105.
6 تقدم في الصفحة 1/ 370.
7 أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، كتاب الآذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر 756. ومسلم، كتاب الصلاة، باب قراءة الفاتحة في كل ركعة 394. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته 822. والنسائي، كتاب الافتتاح، باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة 909، 2/ 137. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب القراءة خلف الإمام 837. وابن حبان في صحيحه 1782. والحميدي 386.
8 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 193 بلفظ "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل".
9 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 370.
10 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة 1/ 245. والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة باب ما جاء في التشديد في ترك الجماعة من غير عذر 3/ 57. والدارقطني في الصلاة باب الحث لجار المسجد للصلاة فيه 1/ 420، وهو من حديث أبي هريرة. وقال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة 467 رقم 1309 أخرجه الطبراني فيما أملاه من طريق الديلمي عن أبي هريرة. ونقل عن أبي حزم أنه ضعيف. وفي التلخيص الحبير 2/ 31: مشهور بين الناس وهو ضعيف ليس له إسناد ثابت. وأخرجه الدارقطني عن جابر وأبي هريرة، وفي الباب عن علي. وهو ضعيف.
 ج / 2 ص -19-
 
  
وإلى ذلك ذهب الجمهور، قالوا: لأنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه لا صلاة صحيحة، ولا صيام صحيح، ولا نكاح صحيح، فلا إجمال.
وإن لم يثبت عرف شرعي، فإن ثبت فيه عرف لغوي، وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى، نحو: لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد، فيتعين ذلك فلا إجمال.
وإن قدر انتفاؤهما فالأولى حمله على نفي الصحة دون الكمال؛ لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى، بخلاف ما لا يكمل فكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة، فلا إجمال، وهذا بناء منهم على أن الحقيقة متعذرة "لوجود"* الذات في الخارج.
ويمكن أن يقال: إن المنفي هو الذات الشرعية، والتي وجدت ليست بذات شرعية، فيبقى حمل الكلام على حقيقته، وهي نفي الذات الشرعية، فإن دل دليل على أنه لا يتوجه النفي إليها كان توجهه إلى الصحة أولى؛ لأنها اقرب المجازين؛ إذ توجيهه إلى نفي الصحة يستلزم نفي الذات حقيقة بخلاف توجيهه إلى الكمال، فإنه لا يستلزم نفي الذات، فكان توجيهه إلى الصحة أقرب المجازين إليها فلا إجمال، وليس هذا من باب إثبات اللغة بالترجيح، بل من باب ترجيح أحد المجازين على الآخر بدليل.
وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار، وأبو علي الجبائي، وابنه أبو هاشم، وأبو عبد الله البصري إلى أنه مجمل، ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي.
واختلف هؤلاء في تقرير الإجمال على ثلاثة وجوه.
الأول: أنه ظاهر في نفي الوجود، وهو لا يمكن؛ لأنه واقع قطعا، فاقتضى ذلك الإجمال.
الثاني: أنه ظاهر في نفي الوجود، ونفي الحكم، فصار مجملا.
الثالث: أنه متردد بين نفي الجواز، ونفي الوجوب، فصار مجملا، قال بعض هؤلاء في تقرير الإجمال: "إنه"** إما أن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة، ولأنه قد يفضي أيضًا إلى التناقض؛ لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معا كان نفي الصحة يقتضي
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": لوجوب.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
 ج / 2 ص -20-
 
  
نفيها، ونفيها يستلزم نفي الذات، وكان نفي الكمال يقتضي ثبوت الصحة، فكان مجملًا من هذه الحيثية، وهذا كله مدفوع بما تقدم.
الخامس:
لا إجمال في نحو قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"1 مما ينفي فيه صفة، والمراد نفي لازم من لوازمه، وإلى ذلك ذهب الجمهور؛ لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع نفي المؤاخذة، ورفع العقوبة، فإن السيد إذا قال لعبده، رفعت عنك الخطأ، كان المفهوم منه، أني لا أؤاخذك به، ولا أعاقبك عليه، فلا إجمال.
قال الغزالي: قضية اللفظ رفع نفس الخطأ والنسيان، وهو غير معقول، فالمراد به رفع حكمه، لا على الإطلاق، بل الحكم الذي علم بعرف الاستعمال قبل الشرع، وهو رفع الإثم فليس بعام في جميع أحكامه، من الضمان ولزوم القضاء وغيرهما.
وقال أبو الحسين، وأبو عبد الله البصري: إنه مجمل؛ لأن ظاهره رفع نفس الخطأ والنسيان، وقد وقعا.
وقد حكى شارح "المحصول" في هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنه مجمل.
والثاني: الحمل على رفع العقاب آجلا، والإثم عاجلا، قال: وهو مذهب الغزالي.
والثالث: رفع جميع الأحكام الشرعية، واختاره الرازي في "المحصول".
وممن حكى هذه الثلاثة المذاهب القاضي عبد الوهاب في "الملخص"، ونسب الثالث إلى أكثر الفقهاء من الشافعية، والمالكية، واختار هو الثاني.
والحق: ما ذهب إليه الجمهور للوجه الذي قدمنا ذكره.
السادس:
إذا دار لفظ الشارع بين مدلولين: إن حمل على أحدهما أفاد معنى واحدا، وإن حمل على الآخر أفاد معنيين ولا ظهور له في أحد المعنيين اللذين دار بينهما.
قال الصفي الهندي: ذهب الأكثرون إلى أنه ليس بمجمل، بل هو ظاهر في إفادة المعنيين اللذين هما أحد مدلوليه.
وذهب الأقلون إلى أنه مجمل، وبه قال الغزالي، واختاره ابن الحاجب.
واختار الأول الآمدي، لتكثير الفائدة.
قال الآمدي، والهندي: محل الخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن حقيقة في المعنيين، فإنه
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 327.
 ج / 2 ص -21-
 
  
يكون مجملًا أو حقيقة في أحدهما، فالحقيقة مرجحة "قطعًا"* وظاهره جعل الخلاف فيما إذا كانا مجازين؛ لأنهما إذا لم يكونا حقيقتين، ولا أحدهما حقيقة والآخر مجازا؛ فما بقى إلا أن يكونا مجازين.
قال الزركشي: والحق أن صورة المسالة أعم من ذلك، وهو اللفظ المحتمل لمتساويين، سواء كانا حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة مرجوحة، والآخر مجازا راجحا عند القائل بتساويهما، ويكون ذلك باعتبار الظهور والخفاء. انتهى.
والحق: أنه مع عدم الظهور في أحد مدلوليه يكون مجملا، ولا يصح جعل تكثير الفائدة مرجحا، ولا رافعا للإجمال، فإن أكثر الألفاظ ليس لها إلا معنى واحد، فليس الحمل على كثرة الفائدة بأولى من الحمل على المعنى الواحد لهذه الكثرة التي لا خلاف فيها.
السابع:
لا إجمال فيما كان له مسمى لغوي، ومسمى شرعي، كالصوم والصلاة عند الجمهور، بل يجب الحمل على المعنى الشرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات، لا لبيان معاني الألفاظ اللغوية، والشرع طارئ على اللغة، وناسخ لها، فالحمل على الناسخ المتأخر أولى.
وذهب جماعة إلى أنه مجمل، ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحاب الشافعي.
وذهب جماعة إلى التفصيل بين أن يرد على طريقة الإثبات، فيحمل على المعنى الشرعي، وبين أن يرد على طريقة النفي فمجمل لتردده.
فالأول:
كقوله صلى الله عليه وسلم: "إني صائم"1 فيستفاد منه صحة نية النهار.
والثاني:
كالنهي عن صوم أيام التشريق2، فلا يستفاد منه صحة صومها، واختار هذا.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث عائشة، كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال 1154. أبو داود، كتاب الصوم باب الرخصة في ذلك 2455. والترمذي، كتاب الصوم، باب صيام المتطوع بغير تبييت 733. والنسائي، كتاب الصيام، باب النية في الصيام 4/ 195. وابن حبان في صحيحة 3628. وأحمد في مسنده 6/ 207. وابن خزيمة في صحيحة 2143.
2 أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث أنس بن مالك قال: "نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد أيام النحر" 1356، وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاش، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 460 وقال: رواه أبو يعلى وهو ضعيف من طرقه كلها. وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية 1/ 298 برقم 1022 من طرق عدة، وهو ضعيف، ولكن يشهد له حديث نبيشة الهذلي عند مسلم في الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق 1141. وحديث عمرو بن العاص عند الإمام مالك في كتاب الحج، باب ما جاء في صيام أيام منى 137. وعند أبي داود في الصوم باب صيام أيام التشريق 2418. وعند الإمام أحمد في مسنده 4/ 197.
 ج / 2 ص -22-
 
  
التفصيل الغزالي وليس بشيء.
وثَمَّ مذهب رابع، وهو أنه لا إجمال في الإثبات الشرعي، والنهي اللغوي، واختاره الآمدي، ولا وجه له أيضًا.
والحق: ما ذهب إليه الأولون لما تقدم.
وهكذا إذا كان للفظ محمل شرعي، ومحمل لغوي، فإنه يحمل على المحمل الشرعي لما تقدم.
وهكذا إذا كان له مسمى شرعي ومسمى لغوي، فإنه يحمل على الشرعي لما تقدم أيضًا.
وهكذا إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي والمسمى اللغوي، فإنه يقدم العرفي على اللغوي؛ "لأنه المتبادر عند المخاطبين"*.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
الفصل الخامس: في مراتب البيان للأحكام
وهي خمسة بعضها أوضح من بعض
الأول:
بيان التأكيد، وهو النص الجلي الذي لا يتطرق إليه تأويل، كقوله تعالى في صوم التمتع: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}1.
وسماه بعضهم بيان التقرير:
وحاصله: أنه في الحقيقة التي تحتمل المجاز والعام المخصوص، فيكون البيان قاطعا للاحتمال، مقررا للحكم على ما اقتضاه الظاهر.
الثاني:
النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء، كالواو وإلى في آية الوضوء2. فإن هذين الحرفين مقتضيان لمعانٍ معلومة عند أهل اللسان.
الثالث:
نصوص السنة الواردة بيانا لمشكل في القرآن، كالنص على ما يخرج عند الحصاد مع قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}3 ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 196 من سورة البقرة.
2 وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ...}الآية، سورة المائدة 6.
3 جزء من الآية 141 من سورة الأنعام.
 ج / 2 ص -23-
 
  
الرابع:
نصوص السنة المبتدأة، مما ليس في القرآن نص عليها "لا"* بالإجمال، ولا بالتبيين، ودليل كون هذا القسم من بيان الكتاب قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}1.
الخامس:
بيان الإشارة، وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة، مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني، وقيس عليها غيرها؛ لأن الأصل إذا استنبط منه معنى، وألحق به غيره، لا يقال لم يتناوله النص، بل تناوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه بالتنبيه، كإلحاق المطعومات في باب الربويات بالأربعة المنصوص عليها2؛ لأن حقيقة القياس: بيان المراد بالنص، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل التكليف بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد.
ذكر هذه المراتب الخمس للبيان الشافعي في أول "الرسالة".
وقد اعترض عليه قوم، وقالوا: قد أهمل قسمين، وهما الإجمال، وقول المجتهد إذا انقرض عصره، وانتشر من غير نكير.
قال الزركشي في "البحر": إنما أهملهما الشافعي؛ لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي؛ لأن الإجماع لا يصدر إلا عن دليل، فإن كان نصًّا فهو من الأقسام الأول، وإن كان استنباطا فهو الخامس.
قال ابن السمعاني: يقع بيان المجمل بستة أوجه:
أحدها:
بالقول، وهو الأكثر.
والثاني:
بالفعل.
والثالث:
بالكتاب، كبيان أسنان الديات، وديات الأعضاء، ومقادير الزكاة، فإنه صلى الله عليه وسلم بينها بكتبه المشهورة.
والرابع:
بالإشارة، كقوله: "الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا"3 يعني ثلاثين يوما، ثم أعاد
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ولا.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.
2 أخرجه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: "الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح يدا بيد وزنا بوزن، فمن زاد أو أزداد فقد أربى إلا ما اختلف ألوانه" كتاب المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا 1588. والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الدرهم بالدرهم 7/ 278. وأحمد في مسنده 2/ 262. وأبو يعلى في مسنده 6107. والشافعي في الرسالة فقرة 759. وابن حبان في صحيحة عن أبي الأشعث 5015. وأبو داود أيضًا عن أبي الأشعث، كتاب البيوع، باب في الصرف 3349.
3 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 188.
 ج / 2 ص -24-
 
  
الإشارة بأصابعه ثلاث مرات، وحبس إبهامه في الثالثة، إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين.
الخامس:
بالتنبيه، وهو المعاني والعلل التي نبه بها على بيان الأحكام، كقوله في بيع الرطب بالتمر: "أينقص الرطب إذا جف"1، وقوله في قبلة الصائم: "أرأيت لو "تمضمضت*"2.
السادس:
ما خص العلماء بيانه عن اجتهاد، وهو ما فيه الوجوه الخمسة، إذا كان الاجتهاد موصلا إليه من أحد وجهين، إما من أصل يعتبر هذا الفرع به، وإما من طريق أمارة تدل عليه. وزاد شارح "اللمع" وجها سابعا، وهو البيان بالترك، كما روي "أن أخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار"3.
قال الأستاذ أبو منصور: قد رتب بعض أصحابنا ذلك، فقال: أعلاها رتبة ما وقع من الدلالة بالخطاب، ثم بالفعل، ثم بالإشارة، ثم بالكتابة، ثم بالتنبيه على العلة.
قال: ويقع بيان من الله سبحانه وتعالى بها كلها خلا الإشارة. انتهى.
قال الزركشي: لا خلاف أن البيان يجوز بالقول، واختلفوا في وقوعه بالفعل، والجمهور على أنه يقع بيانا، خلافا لأبي إسحاق المروزي منا، والكرخي من الحنفية، حكاه الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة". انتهى.
ولا وجه لهذا الخلاف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ الصلاة والحج بأفعاله، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"4. "حجوا كما رأيتموني أحج"5. "وخذوا عني مناسككم"6 ولم يكن لمن منع من ذلك متمسك، لا من شرع ولا من عقل، بل مجرد مجادلات ليست من الأدلة في شيء.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تمضمض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 155.
2 أخرجه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب، كتاب الصوم، باب القبلة للصائم 2385. والنسائي في الكبرى 8/ 17.والبيهقي في السنن 4/ 218. وأحمد في مسنده 1/ 21. وابن حبان في صحيحة 3544. وابن أبي شيبة 3/ 60. والحاكم في المستدرك 1/ 431. والدارمي 2/ 13.
3 أخرجه مسلم من حديث أبي رافع بلفظ: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة، فشوي له بطنها، فأكل منها، ثم قام يصلي ولم يتوضأ"، كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار 357. وابن أبي شيبة 481. والبيهقي 1/ 154. والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 66. وابن حبان في صحيحة 1149.
4 تقدم في الصفحة 1/ 105.
5 لم أجده بهذا اللفظ.
6 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 105.
 ج / 2 ص -25-
 
  
وإذا ورد بعد المجمل قول وفعل، وكل واحد منهما صالح لبيانه، فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو البيان، قولا كان أو فعلا، والتالي تأكيد له.
وقيل: إن المتأخر إن كان الفعل لم يحمل على التأكيد؛ لأن الأضعف لا يؤكد الأقوى، وإن جهل المتقدم منهما فلا يقضى على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقضي البيان بحصول البيان بواحد منهما لم نطلع عليه، وهو الأول في نفس الأمر.
وقيل: يكونان بمجموعهما بيانا، قيل: هذا إذا تساويا في القوة، فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم ورودا، وإلا لزم التأكيد بالأضعف، هذا إذا اتفق القول والفعل.
أما إذا اختلفا، فذهب الجمهور أن المبين هو القول، ورجح هذا فخر الدين الرازي، وابن الحاجب، سواء كان متقدما أو متأخرا، ويحمل الفعل على الندب؛ لأن دلالة القول على البيان بنفسه، بخلاف الفعل، فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه، والدال بنفسه أولى.
وقال أبو الحسين البصري: المتقدم منهما هو البيان، كما في صورة إتفاقهما.
الفصل السادس: في تأخير البيان عن وقت الحاجة
اعلم: أن كل ما يحتاج إلى البيان، من مجمل، وعام، ومجاز، ومشترك، وفعل متردد، ومطلق، إذا تأخر بيانه فذلك على وجهين:
الأول:
أن يتأخر عن وقت الحاجة، وهو الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب، وذلك في الواجبات الفورية لم يجز؛ لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا يطاق.
وأما من جوز التكليف بما لا يطاق، فهو يقول بجوازه فقط، لا بوقوعه، فكان عدم الوقوع متفقا عليه بين الطائفتين، ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه.
قال ابن السمعاني: لا خلاف في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل، ولا خلاف في جوازة إلى وقت الفعل؛ لأن المكلف قد يؤخر النظر، وقد يخطئ إذا نظر، "فهذا الضربان"* لا خلاف فيهما. انتهى.
الوجه الثاني:
تأخيره عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل، وذلك في الواجبات التي ليست بفورية، حيث يكون الخطاب لا ظاهر له، كالأسماء المتواطئة، والمشتركة،
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": فهذانك القربان. وقال في هامش "أ": كذا بالأصل ولعله الصواب: فهذانك القدران.
 ج / 2 ص -26-
 
  
أو له ظاهر، وقد استعمل في خلافة، كتأخر التخصيص، والنسخ، ونحو ذلك.
وفي ذلك مذاهب:
الأول:
الجواز مطلقًا. قال ابن برهان: وعليه عامة علمائنا، من الفقهاء، والمتكلمين، ونقله ابن فورك، والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، عن ابن سريج، والإصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران، والقفال، وابن القطان، والطبري، والشيخ أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن الشافعي، واختاره الرازي في "المحصول"، وابن الحاجب، وقال الباجي: عليه أكثر أصحابنا، وحكاه القاضي عن مالك.
واستدلوا بقوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}1، وثم للتعقيب مع التراخي، وقوله تعالى في قصة نوح: {وأهلك}2 وعمومه تناول ابنه، وبقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}3، ثم لما سال ابن الزبعرى4 عن عيسى والملائكة نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}5، الآية، وبقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه}6 لم يبين بعد ذلك أن السلب للقاتل7، وبقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}8. ثم وقع بيانها بعد ذلك بصلاة جبريل، وبصلاة النبي صلى الله عليه وسلم9، وبقوله تعالى:
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآيتان 18، 19من سورة القيامة.
2 جزء من الآية 40 من سورة هود عليه السلام.
3 جزء من الآية 98 من سورة الأنبياء.
4 هو عبد الله بن الزبعرى، أبو سعد، كان شاعر قريش في الجاهلية، وكان شديدا على المسلمين، هرب إلى نجران عند فتح مكة، ثم أسلم واعتذر إلى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحه بقصيدة فأمر له بحلة، توفي سنة خمس عشرة هـ. ا. هـ الإصابة 2/ 300 الأعلام 4/ 87.
5 جزء من الأية 101 من سورة الأنبياء.
6 جزء من الأية 41 من سورة الأنفال.
7 أخرجه البخاري عن أبي قتادة بلفظ: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب...3142 وكتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْن...} رقم 4321 و4322 كتاب الأحكام، باب الشهادة تكون عند الحاكم 7170. مسلم كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 1751 وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطي القاتل 2717. والترمذي مختصرا، كتاب السير، باب ما جاء فيمن قتل قتيلا فله سلبه 1562. والبيهقي في السنن كتاب جماع أبواب القتال، باب السلب للقاتل 6/ 306. وابن حبان في صحيحه 4805. والإمام أحمد مختصرا 5/ 295
8 جزء من الآية 110 من سورة البقرة.
9 أخرجه البخاري من حديث أبي مسعود بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نزل جبريل فصلى فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، فحسب بأصابعه خمس صلوات" كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 3221. مسلم، كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس 610. النسائي، كتاب المواقيت 1/ 245. ابن ماجه، كتاب الصلاة، أبواب مواقيت الصلاة 668.الطبراني 17/ 715. احمد في مسنده 4/ 120. ابن حبان في صحيحة 1448. عبد الرزاق في مصنفه 2044.
 ج / 2 ص -27-
 
  
{وَآتَوُا الزَّكَاةَ}1، وبقوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}2، وبقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}3، ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة، ونحو هذا كثيًرا جدًّا.
المذهب الثاني:
المنع مطلقًا، ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي، وابن السمعاني، عن أبي إسحاق المروزي، وأبي بكر الصيرفي، وأبي حامد المروزي، ونقله الأستاذ أبو إسحاق، عن أبي بكر الدقاق.
قال القاضي: وهو قول المعتزلة، وكثير من الحنيفية، وابن داود الظاهري، ونقله ابن القشيري عن داود الظاهري، ونقله المازري والباجي عن الأبهري.
قال القاضي عبد الوهاب: قالت المعتزلة والحنفية: لا بد أن يكون الخطاب متصلا بالبيان، أو في حكم المتصل؛ احترازا من انقطاعه بعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض.
قال ووافقهم بعض المالكية والشافعية.
واستدل هؤلاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع، فقالوا: لو جاز ذلك، فإما أن يكون إلى مدة معينة، أو إلى الأبد، وكلاهما باطل. أما إلى مدة معينة، فلكونه تحكما، ولكونه لم يقل به أحد، وأما إلى الأبد، فلكونه يلزم المحذور، وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم.
وأجيب عنهم: باختيار جوازه إلى مد معينة عند الله، وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه، فلا تحكم.
هذا أنهض ما استدلوا به على ضعفه، وقد استدلوا بما هو دونه في الضعف، فلا حاجة لنا إلى تطويل البحث بما لا طائل تحته.
المذهب الثالث:
أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره، حكاه القاضي أبو الطيب، والقاضي عبد الوهاب، وابن الصباغ عن الصيرفي، وأبي حامد المروزى.
قال أبو الحسين ابن القطان: لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة}4، وكذا لا يختلفون أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والفعل يتأخر عن القول؛ لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 110 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 97 من سورة آل عمران.
4 جزء من آيتين في سورتين البقرة 110 والنساء 77.
 ج / 2 ص -28-
 
  
وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}1، فقد اختلفوا فيه، فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه، كما هو مذهب أبي بكر الصيرفي، وكذا حكى اتفاق أصحاب الشافعي على جواز تأخير بيان المجمل ابن فورك، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ولم يأتوا بما يدل على عدم جواز التأخير فيما عدا ذلك إلا ما لا يعتد به ولا يلتفت إليه.
المذهب الرابع:
أنه يجوز تأخير بيان العموم؛ لأنه قبل البيان مفهوم، ولا يجوز تأخير بيان المجمل؛ لأنه قبل البيان غير مفهوم، حكاه الماوردي والروياني وجها لأصحاب الشافعي، ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن عبد الجبار، ولا وجه له.
المذهب الخامس:
أنه لا يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي، ولا يجوز تأخير بيان الأخبار، كالوعد والوعيد، حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة، ولا وجه له أيضًا.
المذهب السادس:
عكسه، حكاه الشيخ أبو إسحاق مذهبا، ولم ينسبه إلى أحد، ولا وجه له أيضًا ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله مذهبا، قال: لأن موضوع المسألة الخطاب التكليفي، فلا تذكر فيها الأخبار.
قال الزركشي: وفيه نظر.
المذهب السابع:
أنه يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره، ذكر هذا المذهب أبو الحسين في "المعتمد"، وأبو علي، وأبو هاشم، وعبد الجبار، ولا وجه له أيضًا لعدم الدليل الدال على عدم جواز التأخير فيما عدا النسخ، وقد عرفت قيام الأدلة المتكثرة على الجواز مطلقًا، فالاقتصار على بعض ما دلت عليه دون بعض بلا مخصص باطل.
المذهب الثامن:
التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك، دون ما له ظاهر كالعام، والمطلق، والمنسوخ، ونحو ذلك، فإنه لا يجوز التأخير في الأول، ويجوز في الثاني، نقله فخر الدين الرازي. عن أبي الحسين البصري، والدقاق، والقفال، وأبي إسحاق، وقد سبق النقل عن هؤلاء بأنهم يذهبون إلى خلاف ما حكاه عنهم، ولا وجه لهذا التفصيل.
المذهب التاسع:
أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا ولا تغييرا، جاز مقارنا وطارئا، وإن كان تغييرا جاز مقارنا، ولا يجوز طارئا "بحال"* نقله ابن السمعاني، عن أبي زيد من الحنفية ولا وجه له أيضًا.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": بالحال.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
 ج / 2 ص -29-
 
  
فهذه جملة المذاهب المروية في هذه المسألة، وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة، وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهرا واضحا، لا ينكره من له أدني خبرة بها، وممارسة لها، وليس على هذه المذاهب المخالفة لما قاله المجوزون أثارة من علم.
وقد اختلف القائلون بجواز التأخير في جواز "تأخير"* البيان على التدريج، بأن يبين بيانا أولا، ثم يبين بيانا ثانيا، كالتخصيص بعد التخصيص.
والحق: الجواز، لعدم المانع من ذلك لا من شرع، ولا عقل، فالكل بيان.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": تأثير. وهو تحريف.
 ج / 2 ص -30-
 
  
الباب السابع: في الظاهر والمؤول
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في حدهما
فالظاهر في اللغة هو الواضح. قال الأستاذ، والقاضي أبو بكر: لفظه يغني عن تفسيره.
وقال الغزالي: هو المتردد بين أمرين، وهو في أحدهما أظهر. وقيل: هو ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة مرجوحة، فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح.
ويطلق على اللفظ الذي يفيد معنى، سواء أفاد معه إفادة مرجوحة أو لو يفد، ولهذا يخرج النص، فإن إفادته ظاهرة بنفسه.
ونقل إمام الحرمين أن الشافعي كان يسمي الظاهر نصًّا.
 وقيل: هو في الاصطلاح: ما دل دلالة ظنية، إما بالوضع، كالأسد للسبع المفترس، وبالعرف، كالغائط للخارج المستقذر؛ إذ غلب فيه بعد أن كان في الأصل للمكان المطمئن من الأرض.
والتأويل مشتق من آل يؤول، إذا رجع، تقول: آل الأمر إلى كذا، أي: رجع إليه، ومآل الأمر مرجعه.
وقال النضر بن شميل1: إنه مأخوذ من الإيالة، وهي السياسة، يقال لفلان: علينا إيالة، وفلان آيل علينا، أي: سائس، فكأن المؤول بالتأويل كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ابن خرشة، العلامة، الإمام الحافظ، أبو الحسن، المازني البصري النحوي، نزيل مرو وعالمها، أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة، ولد سنة اثنتين وعشرين ومائة هـ، وتوفي سنة أربع ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 9/ 328 معجم الأدباء 19/ 238 الأعلام 8/ 33.
 ج / 2 ص -31-
 
  
وقال ابن فارس في "فقه العربية" التأويل: آخر الأمر وعاقبته، يقال: مآل هذا الأمر مصيره، واشتقاق الكلمة من الأول وهو العاقبة والمصير. واصطلاحا: صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله.
وفي الاصطلاح: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح. وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد، فإن أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد: بدليل يصيره راجحا؛ لأنه بلا دليل، أو مع دليل مرجوح، أو مساوٍ فاسد.
قال ابن برهان: وهذا الباب أنفع كتب الأصول وأجلها، ولم يزل الزال إلا بالتأويل الفاسد.
وأما ابن السمعاني فأنكر على إمام الحرمين إدخاله لهذا الباب في أصول الفقه، وقال: ليس هذا من "أصول"* الفقه في شيء، إنما هو كلام يورد في الخلافيات.
واعلم: أن الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه، ولعمل به، بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ.
 وإذا عرفت معنى الظاهر فاعلم: أن النص ينقسم إلى قسمين:
أحدهما:
يقبل التأويل، وهو قسم من النص مرادف للظاهر.
والقسم الثاني:
لا يقبله، وهو النص الصريح، وسيأتي1 الكلام على هذا في الباب الذي بعد هذا الباب.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": أصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صفحة: 2/ 36
الفصل الثاني: فيما يدخله التأويل
وهو قسمان: أحدهما: أغلب الفروع، ولا خلاف في ذلك.
والثاني: الأصول: كالعقائد، وأصول الديانات، وصفات الباري عز وجل.
 وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب:
الأول:
أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل يجري على ظاهرها، ولا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة1.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهم مشبهة الحشوية الذين شبهوا الخالق بالمخلوق وأجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة حد الإخلاص المحض والاتحاد المحض، وهم أتباع كهمس وأحمد الهجيمي أ. هـ الملل والنحل "1/ 103".
 ج / 2 ص -32-
 
  
والثاني:
أن لها تأويلا، ولكنا نمسك عنه، مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل، لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}1 قال ابن برهان: وهذا قول السلف.
قلت: وهذا هو الطريقة الواضحة، والمنهج المصحوب بالسلامة عن الوقوع في مهاوي التأويل، لما لا يعلم تأويله إلا الله، وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الاقتداء، وأسوة لمن أحب التأسي على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك، فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة.
والمذهب الثالث:
أنها مؤولة. قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل، والآخران منقولان عن الصحابة. ونقل هذا المذهب الثالث عن علي، وابن عباس، وابن مسعود، وأم سلمة.
قال أبو عمرو ابن الصلاح: الناس في هذه الأشياء الموهمة للجهة ونحوها فرق ثلاث:
ففرقة تؤول، وفرقة تشبه، وثالثة ترى أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وأطلاقه سائغ وحسن قبولها مطلقة، كما قال مع التصريح بالتقديس والتنزيه، والتبري من التحديد والتشبيه. قال: وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها، "وإياها"* اختارها أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين يصدف عنها ويأباها، وأفصح الغزالي في غير موضع "بتهجير"** ما سواها، حتى ألجم آخرًا في إلجامه كل عالم وعامي عما عداها. قال: "وهو"*** كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" وهو آخر تصانيف الغزالي مطلقًا، حث فيه على مذهب السلف ومن تبعهم.
قال الذهبي في "النبلاء"2 في ترجمة فخر الدين الرازي ما لفظه: وقد اعترف في آخر عمره، حيث يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروى غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}4، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": بهجر.
*** في "أ": وهذا.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 7 من سورة آل عمران.
2 أي سير أعلام النبلاء.
3 الآية 5 من سورة طه.
4 جزء من الآية 10 من سورة فاطر.
5 جزء من الأية11 من سورة الشورى.
 ج / 2 ص -33-
 
  
ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. انتهى.
وذكر الذهبي في "النبلاء" في ترجمة إمام الحرمين الجويني، أنه قال: ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة.
 هكذا نقل عنه صاحب "النبلاء" في ترجمته، وقال في موضع آخر في ترجمته في "النبلاء" إنه قال ما لفظه: اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السلف. انتهى.
وهؤلاء الثلاثة أعني: الجويني، والغزالي، الرازي. هم الذين وسعوا دائرة التأويل، وطولوا ذيوله، وقد رجعوا آخرًا إلى مذهب السلف كما عرفت، فلله الحمد كما هو له أهل.
وقال ابن دقيق العيد: "ونقول"* في الألفاظ المشكلة إنها حق وصدق، وعلى الوجه الذي أراده الله، ومن أول شيئًا منها، فإن كان تأويله قريبا على ما يقتضيه لسان العرب، وتفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه، ولم نبدعه، وإن كان تأويله بعيدا توقفنا عنه، واستبعدناه، ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه، مع التنزيه. وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام1 كما حكاه عنهما الزركشي في "البحر"، والكلام في هذا يطول لما فيه من كثرة النقول عن الأئمة الفحول.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": ونقوله.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد العزيز بن عبد السلام، عز الدين الملقب بسلطان العلماء، فقيه شافعي، بلغ رتبة الاجتهاد، ولد في دمشق سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وتوفي سنة ستين وستمائة هـ بالقاهرة من آثاره "قواعد الشريعة" "الفوائد" "الإلمام في أدلة القرآن" "مقاصد الرعاية" ا. هـ شذرات الذهب 5/ 301 هدية العارفين 1/ 580 الاعلام 4/ 21 معجم المؤلفين 5/ 249.
الفصل الثالث: في شروط التأويل
الأول:
أن يكون موافقا لوضع اللغة، أو عرف الاستعمال، "أو"* عادة صاحب الشرع، وكل تأويل خرج عن هذا فليس بصحيح.
الثاني:
أن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه إذا كان لا يستعمل كثيرا فيه.
الثالث:
إذا كان التأويل بالقياس فلا بد أن يكون جليا، لا خفيا.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": وإعادة.
 ج / 2 ص -34-
 
  
وقيل: أن يكون مما يجوز التخصيص به على ما تقدم.
وقيل: لا يجوز التأويل بالقياس أصلا.
والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قد يكون قريبا، فيترجح بأدنى مرجح، وقد يكون بعيدا، فلا يترجح إلا بمرجح قوي، ولا يترجح بما ليس بقوي، وقد يكون متعذرا، لا يحتمله اللفظ، فيكون مردودا لا مقبولا.
 وإذا عرفت هذا تبين لك ما هو مقبول من التأويل مما هو مردود، ولم يحتج إلى تكثير الأمثلة، كما وقع في كثير من كتب الأصول.
 ج / 2 ص -35-
 
  
الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: في حدهما
فالمنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: يكون حكمًا للمذكور، وحالا من أحواله.
والمفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، أي: يكون حكمًا لغير المذكور، وحالا من أحواله.
والحاصل: أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفاد منها، فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحا، وتارة من جهته تلويحا، فالأول: المنطوق، والثاني: المفهوم.
أقسام المنطوق
والمنطوق ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما لا يحتمل التأويل، وهو النص.
والثاني: ما يحتمله، وهو الظاهر.
والأول أيضًا ينقسم إلى قسمين: صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة1، أو التضمن2.
وغير صريح إن دل عليه بالالتزام3.
وغير الصريح ينقسم إلى دلالة: اقتضاء، وإيماء وإشارة.
فدلالة الاقتضاء: هي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه، مع كون ذلك مقصودا للمتكلم.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له، كدلالة الإنسان على مجموع الحيوان الناطق ا. هـ شرح السلم المنورق 19.
2 هي دلالة اللفظ على جزء المعنى في ضمنه، كدلالته على الحيوان أو الناطق في ضمن الحيوان الناطق.
3 هي دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعنى لازم له، كدلالته على قبول العلم وصنعة الكتابة على ما فيه ا. هـ شرح السلم المنورق 20.
 ج / 2 ص -36-
 
  
ودلالة الإيماء: أن يقترب اللفظ بحكم، لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا؛ وسيأتي بيان هذا في القياس.
ودلالة الإشارة حيث لا يكون مقصودا للمتكلم.
أقسام المفهوم:
والمفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.
فمفهوم الموافقة: حيث يكون المسكوت عنه موافقا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب، وإن كان مساويا فيسمى لحن الخطاب.
وحكى الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب، ولحن الخطاب وجهين:
أحدهما: أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في "أثناء"* اللفظ.
وثانيهما: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دل على مثله.
وقال القفال: إن فحوى الخطاب ما دل المظهر على المسقط، واللحن ما يكون محالا على غير المراد، والأولى ما ذكرناه أولا.
وقد شرط بعضهم في مفهوم الموافقة أن يكون أولى من المذكور، وقد نقله إمام الحرمين الجويني في "البرهان" عن الشافعي، وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ونقله الهندي عن الأكثرين.
وأما الغزالي، وفخر الدين الرازي، وأتباعهما، فقد جعلوه قسمين: تارة يكون أولى، وتارة يكون مساويا، وهو الصواب، فجعلوا شرطه أن لا يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة للحكم من المعنى المنطوق به.
قال الزركشي: وهو ظاهر كلام الجمهور من أصحابنا وغيرهم.
وقد اختلفوا في دلالة النص على مفهوم الموافقة، هل هي لفظية أو قياسية على قولين، حكاهما الشافعي في الأمر، وظاهر كلامه ترجيح أنه قياس، ونقله الهندي في "النهاية" عن الأكثرين.
قال الصيرفي: ذهبت طائفة جلة سيدهم الشافعي إلى أن هذا هو القياس الجلي.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "شرح اللمع": إنه الصحيح، وجرى عليه القفال الشاشي، فذكره في أنواع القياس.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
 ج / 2 ص -37-
 
  
قال سليم الرازي: الشافعي يومئ إلى أنه قياس جلي، لا يجوز ورود الشرع بخلافه، قال: وذهب المتكلمون بأسرهم -الأشعرية والمعتزلة- إلى أنه مستفاد من النطق، وليس بقياس.
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: الصحيح من المذاهب أنه جارٍ مجرى النطق، لا مجرى "القياس، وسماه الحنفية دلالة النص، وقال آخرون: ليس بقياس ولا يسمى"* دلالة النص، لكن دلالته لفظية.
ثم اختلفوا، فقيل: إن المنع من التأفيف1 منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى.
وقيل: إنه فهم السياق والقرائن، وعليه المحققون من أهل هذا القول، كالغزالي، وابن القشيري، والآمدي، وابن الحاجب، والدلالة عندهم مجازية، من باب إطلاق الأخص وإرادة الأعم.
قال الماوردي: والجمهور على أن دلالته من جهة اللغة لا من القياس.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه.
قال ابن رشد: لا ينبغي للظاهرية أن يخالفوا في مفهوم الموافقة؛ لأنه من باب السمع، والذي رد ذلك يرد نوعا من الخطاب.
قال الزركشي: وقد خالف فيه ابن حزم.
قال ابن تيمية: وهو مكابرة.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تحريم التأفيف للوالدين كما في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ....} سورة الإسراء 23.
المسألة الثانية: مفهوم المخالفة
وهو حيث يكون المسكت عنه مخالفا للمذكور في الحكم، إثباتا ونفيا، فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به، ويسمى دليل الخطاب؛ لأن دليله من جنس الخطاب، أو لأن الخطاب دال عليه.
قال القرافي: وهل المخالفة بين المنطوق والمسكوت بضد الحكم المنطوق به، أو نقيضه؟
الحق: الثاني.
 ج / 2 ص -38-
 
  
ومن تأمل المفهومات وجدها كذلك.
وجميع مفاهيم المخالفة حجة عند الجمهور، إلا مفهوم اللقب.
وأنكر أبو حنيفة الجميع، وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "شرح اللمع" عن القفال الشاشي، وأبي حامد المروزي.
وأما الأشعري، فقال القاضي: إن النقلة نقلوا عنه القول بالمفهوم، كما نقلوا عنه نفي صيغ العموم، وقد أضيف إليه خلاف ذلك وأنه قال بمفهوم الخطاب.
وذكر شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتاب "السير"1: أنه ليس بحجة في خطابات الشرع، قال: وأما في مصطلح الناس وعرفهم فهو حجة، وعكس ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، فقال: هو حجة في كلام الله ورسوله، وليس بحجة في كلام المصنفين وغيرهم، كذا حكاه الزركشي.
واختلف المثبتون للمفهوم في مواضع.
أحدها:
هل هو حجة من حيث اللغة، أو الشرع؟
وفي ذلك وجهان للشافعية، حكاهما "المازري"* والروياني.
قال ابن السمعاني: والصحيح أنه حجة من حيث اللغة.
وقال الفخر الرازي: لا يدل على النفي بحسب اللغة، لكنه يدل عليه بحسب العرف العام.
وذكر في "المحصول" في باب العموم: أنه يدل عليه العقل.
الموضع الثاني:
اختلفوا أيضًا في تحقيق مقتضاه، أنه هل يدل على نفي الحكم عما عدا المنطوق به مطلقًا، سواء كان من جنس المثبت، أو لم يكن، أو تختص دلالته بما إذا كان من جنسه، فإذا قال: "في الغنم السائمة الزكاة"2 فهل نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقًا، سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم، أو هو مختص بالمعلوفة من الغنم؟
وفي ذلك وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي، وابن السمعاني، والفخر الرازي.
قال الشيخ أبو حامد: والصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فقط.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "أ": الماوردي.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسمه "السير الكبير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، شرحه شمس الأئمة السرخسي، وهو في جزأين ضخمين، أملاه محبوسا وأنهاه في آخر المحنة في مرغينان ا. هـ كشف الظنون "2/ 1014".
2 تقدم تخريجه في 1/ 393.
 ج / 2 ص -39-
 
  
قلت: هو الصواب.
الموضع الثالث:
هل المفهوم المذكور يرتقي إلى أن يكون دليلا قاطعا، أو لا يرتقي إلى ذلك؟ قال إمام الحرمين الجويني: إنه "قد"* يكون قطعيا، وقيل: لا.
الموضع الرابع:
إذا دل "دليل"** على إخراج صور من صور المفهوم، فهل يسقط المفهوم بالكلية، أو يتمسك به في البقية؟ وهذا يتمشى على الخلاف في حجية العموم إذا خص، وقد تقدم الكلام في ذلك.
الموضع الخامس:
هل يجب العمل به قبل البحث عما يوافقه، أو يخالفه من منطوق أو مفهوم آخر؟ فقيل: حكمه حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وحكى القفال الشاشي في ذلك وجهين.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
**  في "أ": الدليل.
المسألة الثالثة: شروط القول بمفهوم المخالفة
الأول:
أن لا يعارضه ما هو أرجح منه، من منطوق أو مفهوم موافقة، أما إذا عراضه قياس، فلم يجوز القاضي أبو بكر الباقلاني ترك المفهوم به، مع تجويزه ترك العموم بالقياس، كذا قال.
ولا شك أن القياس المعمول به يخصص عموم المفهوم، كما يخصص عموم المنطوق، وإذا تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما، وكان كل واحد منهما معمولا به، فالمجتهد لا يخفى عليه الراجح منهما من المرجوح، وذلك يختلف باختلاف المقامات، وبما يصاحب كل واحد منهما من القرائن المقوية له.
قال شارح "اللمع": دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، كالنص والتنبيه، فإن عارضه أحدهما سقط، وإن عارضه عموم صح التعلق بعموم دليل الخطاب على الأصح، وإن عارضه قياس جلي، قدم القياس، وأما الخفي، فإن جعلناه حجة كالنطق قدم دليل الخطاب، وإن جعلناه كالقياس فقد رأيت بعض أصحابنا يقدمون كثيرا القياس في كتب الخلاف.
والذي يقتضيه المذهب أنهما يتعارضان.
الشرط الثاني:
أن لا يكون المذكور قصد به الامتنان، كقوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}1
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1جزء من الآية 14 من سورة النحل.
 ج / 2 ص -40-
 
  
فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطري.
الشرط الثالث:
أن لا يكون المنطوق خرج جوابا عن سؤال متعلق بحكم خاص، ولا حادثة خاصة بالمذكور، هكذا قيل، ولا وجه لذلك، فإنه لا اعتبار بخصوص السبب، ولا بخصوص السؤال.
وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك احتمالين. قال الزركشي: ولعل الفرق -يعني بين عموم اللفظ، وعموم المفهوم- أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة بخلاف اللفظ العام.
قلت: وهذا فرق قوي، لكنه إنما يتم في المفاهيم التي دلالتها ضعيفة، أما المفاهيم التي دلالتها قوية قوة تلحقها بالدلالات اللفظية فلا.
قال: ومن أمثلته قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}1 فلا مفهوم للأضعاف؛ لأنه جاء على النهي عما كانوا يتعاطونه بسبب الآجال، كان الواحد منهم إذا حل دينه يقول: إما أن تعطي، وإما أن تربي، فيتضاعف بذلك أصل دينه مرارا كثيرة، فنزلت الآية على ذلك.
الشرط الرابع:
أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم، وتأكيد الحال، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد"2 الحديث، فإن التقييد "بالإيمان" لا مفهوم له، وإنما ذكر لتفخيم الأمر.
الشرط الخامس:
أن يذكر مستقلا، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر، فلا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}3 فإن قوله تعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ} فلا مفهوم له؛ لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقًا.
الشرط السادس:
أن لا يظهر من السياق قصد التعميم، فإن ظهر فلا مفهوم له، كقوله
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 130 من سورة آل عمران.
2 أخرجه البخاري من حديث زينب بنت أبي سلمة، كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا 5334-5335-5336. ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 1486-1487-1489. وأبو داود، كتاب الطلاق، باب إحداد المتوفى عنها زوجها 2299. والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها 1195-1196-1197. والنسائي، كتاب الطلاق، باب ترك الزينة للحادة المسلمة دون اليهودية والنصرانية 6/ 102.ومالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الإحداد 2/ 596. وعبد الرزاق في المصنف12130. ابن حبان في صحيحه 4304. أبو يعلى في مسنده 1160.
3 جزء من الآية 187 من سورة البقرة.
 ج / 2 ص -41-
 
  
تعالي: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}1، للعلم بأن الله سبحانه قادر على المعدوم، والممكن. وليس بشيء، فإن المقصود بقوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} التعميم.
الشرط السابع:
أن لا يعود على أصله الذي هو المنطوق بالإبطال، أما لو كان كذلك فلا يعمل به.
الشرط الثامن:
أن لا يكون قد خرج مخرج الأغلب، كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}2. فإن الغالب كون الربائب في الحجور، فقيد به لذلك، لا لأن حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه، ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من الآية 284 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 23 من سورة النساء.
المسألة الرابعة: في أنواع مفهوم المخالفة
النوع الأول: مفهوم الصفة
وهي تعلق الحكم على الذات بأحد الأوصاف، نحو: "في سائمة الغنم زكاة"1.
والمراد بالصفة عند الأصوليين: تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر، يختص ببعض معانيه، ليس بشرط، ولا غاية، ولا يريدون به النعت فقط، وهكذا عند أهل البيان، فإن المراد بالصفة عندهم: هي المعنوية، لا النعت، وإنما يخص الصفة بالنعت أهل النحو فقط.
وبمفهوم الصفة أخذ الجمهور، وهو الحق، لما هو معلوم من لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان، فوصف بأحدهما دون الآخر، كان المراد به ما فيه تلك الصفة دون الآخر.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وبعض الشافعية، والمالكية: إنه لا يؤخذ به، ولا يعمل عليه، ووافقهم من أئمة اللغة الأخفش2، وابن فارس، وابن جني.
وقال الماوردي من الشافعية بالتفصيل بين أن يقع ذلك جواب "سؤال"* فلا يعمل به، وبين أن يقع ابتداء فيعمل به؛ لأنه لا بد لتخصيصه بالذكر من موجب.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*  في "أ": سائل.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 393.
2 هو سعيد بن مسعدة البلخي، أبو الحسن، المعروف بالأخفش الأوسط إمام النحو، أخذ عن الخليل، ولزم سيبويه، وأخذ عنه المازني، وأبو حاتم، وسلمة، وطائفة، وله كتب كثيرة في النحو والعروض ومعاني القرآن، توفي سنة مائتين وعشرة ونيف ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 206"، شذرات الذهب "2/ 36"، معجم الأدباء "11/ 224".
 ج / 2 ص -42-
 
  
وفي جعل هذا التفصيل مذهبا مستقلا نظر، فإنه قد تقدم أن من شرط الأخذ بالمفهوم عند القائلين به أن لا يقع جوابا لسؤال.
وقال أبو عبد الله البصري: إنه حجة في ثلاث صور:
أن يرد مورد البيان، كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، أو مورد التعليم، كقوله صلى الله عليه وسلم في خبر التخالف والسلعة قائمة1، أو يكون ما عدا الصفة داخلا تحت الصفة، كالحكم بالشاهدين، فإنه يدل على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد؛ لأنه داخل تحت الشاهدين، ولا يدل على نفي الحكم فيما سوى ذلك.
وقال إمام الحرمين الجويني بالتفصيل بين الوصف المناسب وغيره، فقال بمفهوم الأول دون الثاني، وعليه يحمل نقل الرازي عنه للمنع، ونقل ابن الحاجب عنه الجواز.
وقد طول أهل الأصول الكلام على استدلال هؤلاء المختلفين لما قالوا به، وليس في ذلك حجة واضحة؛ لأن المبحث لغوي، واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة، وعملهم به معلوم لكل من له علم بذلك.
النوع الثاني: مفهوم العلة
وهو تعليق الحكم بالعلة، نحو: حرمت الخمر لإسكارها، والفرق بين هذا النوع والنوع