كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي
المؤلف : عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري (المتوفى : 730هـ)
 
ذلك وإن لم يتصل به التمكن من العمل عندنا على ما مر, ويستوي في ذلك أن يكون في عصرين أو عصر واحد أعني به في جواز النسخ, والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
حكم ثبت بالإجماع ويظهر ذلك بتوفيق الله تعالى أهل الاجتهاد على إجماعهم على خلاف الإجماع الأول كما إذا ورد نص بخلاف النص الأول ظهر به أن مدة ذلك الحكم قد انتهت ولا يقال زمان الوحي قد انقطع بوفاة النبي عليه السلام فلا يجوز بعده نسخ شيء; لأنا نقول: زمان نسخ ما ثبت بالوحي قد انقطع بوفاته; لأنه متوقف على نزول الوحي وذلك غير متصور بعد فأما زمان نسخ ما ثبت بالإجماع فغير منقطع لبقاء زمان انعقاد الإجماع وحدوثه, وهذا مختار الشيخ فأما جمهور الأصوليين فقد أنكروا جواز كون الإجماع ناسخا ومنسوخا على ما مر بيانه في باب تقسيم الناسخ, والله أعلم.
(3/387)
 
 
باب بيان سببه
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: وهو نوعان الداعي والناقل أما الداعي فيصلح أن يكون من أخبار الآحاد أو القياس, وقال بعضهم: لا بد من جامع آخر مما لا يحتمل الغلط وهذا باطل عندنا; لأن إيجاب الحكم به قطعا لم يثبت من قبل
ـــــــ
"باب بيان سببه"
أي سبب الإجماع, وهو نوعان: الداعي: أي السبب الذي يدعوهم إلى الإجماع ويحملهم عليه.
"والناقل" أي السبب الناقل ويجوز أن يكون المراد منه الخبر أي الخبر الذي ينقل الإجماع إلينا ويكون الإسناد مجازيا, ويجوز أن يكون المراد منه النقل ومن الناقل المعرف أي النقل الذي يعرفنا الإجماع, ولهذا سماه سببا; لأن الإجماع يثبت في حقنا بواسطته كالكتاب والسنة فيكون النقل طريقا إليه واعلم أن عند عامة الفقهاء والمتكلمين لا ينعقد إجماع إلا عن مأخذ ومستند; لأن اختلاف الآراء والهمم يمنع عادة من الاتفاق على شيء إلا عن سبب يوجبه ولأن القول في الدين بغير دليل خطأ إذ الدليل هو الموصل إلى الحق فإذا فقد لا يتحقق الوصول إليه فلو اتفقوا على شيء من غير دليل لكانوا مجمعين على الخطأ وذلك قادح في الإجماع. وأجاز قوم انعقاد الإجماع لا عن دليل بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب ويلهمهم إلى الرشد بأن يخلق فيهم علما ضروريا بذلك مستدلين بأن خلق الله تعالى فيهم العلم بطريق الضرورة ليس بممتنع بل هو من الجائزات فيجوز أن يصدر الإجماع عنه كما يجوز أن يصدر عن دليل وبأن الإجماع حجة في نفسه فلو لم ينعقد إلا عن دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة ولم يبق في كون الإجماع حجة فائدة, وبأن الإجماع لا عن دليل قد وقع كإجماعهم على بيع المراضاة أي التعاطي وأجرة الحمام وكل ذلك فاسد; لأن حال الأمة لا يكون أعلى من حال الرسول عليه السلام, ومعلوم أنه لا يقول إلا عن وحي ظاهر أو خفي أو عن استنباط من النصوص عليه فالأمة أولى أن لا يقولوا إلا عن دليل ولأن الإجماع لا يصدر إلا عن العلماء, وأهل الديانة لا يتصور منهم الاجتماع على حكم من أحكام الله جزافا بل بناء على حديث سمعوه ومعنى من النصوص رأوه مؤثرا في الحكم فأما الحكم جزافا أو بالهوى والطبيعة فهو عمل
(3/388)
 
 
دليله بل من قبل عينه كرامة للأمة وإدامة للحجة وصيانة وتقريرا لهم على المحجة ولو جمعهم دليل موجب يوجب علم اليقين لصار الإجماع لغوا فثبت أن ما قاله هذا القائل حشو من الكلام. وأما السبب الناقل إلينا فعلى مثال نقل
ـــــــ
أهل البدعة والإلحاد, وقولهم لو انعقد عن دليل لم يبق في الإجماع فائدة باطل; لأنه يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن دليل واحد لا نقول به, إذ الخلاف في أن الدليل ليس بشرط لا أن عدم الدليل شرط. على أن فيه فوائد وهي سقوط البحث عن ذلك الدليل وكيفية دلالته على الحكم وحرمة المخالفة بعد انعقاد الإجماع الجائزة قبله بالاتفاق. وأما ما ذكروا من بيع المراضاة وأجرة الحمام فالإجماع فيهما ما وقع إلا عن دليل إلا أنه لم ينقل إلينا استغناء بالإجماع عنه.
وإذا ثبت أنه لا بد للإجماع من مستند فذلك المستند يصلح أن يكون دليلا ظنيا كخبر الواحد والقياس عند جمهور العلماء كما صلح أن يكون دليلا قطعيا مثل نص الكتاب والخبر المتواتر وذهب داود الظاهري وأتباعه والشيعة ومحمد بن جرير والقاشاني من المعتزلة إلى أن مستند الإجماع لا يكون إلا دليلا قطعيا ولا ينعقد الإجماع بخبر الواحد والقياس; لأن الإجماع حجة قطعية وخبر الواحد والقياس لا يوجبان العلم قطعا فلا يجوز أن يصدر عنهما ما يوجب العلم قطعا إذ الفرع لا يكون أقوى من الأصل, كذا ذكر الاختلاف في الميزان وأصول شمس الأئمة وعليه يدل كلام الشيخ أيضا, ولكن المذكور في عامة الكتب أنهم وافقونا في انعقاد الإجماع عن خبر الواحد واختلفوا في انعقاده عن القياس. ووجهه أن الناس خلقوا على همم متفاوتة وآراء مختلفة فلا يتصور إجماعهم على شيء إلا لجامع جمعهم عليه وكلام من التزموا طاعته وانقادوا لحكمه يصلح جامعا, فأما الاجتهاد بالرأي مع اختلاف الدواعي فلا يصلح جامعا ولأن الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فيما اجتهد فلو انعقد الإجماع عن اجتهاد لحرمت المخالفة الجائزة بالاتفاق ولأن الإجماع لا يكون إلا باتفاق أهل العصر ولا عصر إلا, وفيه جماعة من نفاة القياس فذلك يمنع من انعقاد الإجماع مسندا إلى القياس حجة الجمهور أن انعقاد الإجماع عن خبر الواحد والقياس أمر لا يستحيله العقل كانعقاده عن غيرهما والنصوص التي توجب كون الإجماع حجة لا تفصل وبينهما إذا كان مستنده دليلا قطعيا أو ظنيا فوجب القول به ولا يجوز اشتراط الدليل القطعي; لأنه يكون تقييدا لها من غير دليل, وهو فاسد. كيف وقد وقع الإجماع عن خبر الواحد والقياس مثل إجماعهم في وجوب الغسل مسندا إلى حديث عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين وإجماعهم على حرمة بيع الطعام قبل القبض مسندا إلى ما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما فلا يبيعه
(3/389)
 
 
السنة فقد ثبت نقل السنة بدليل قاطع لا شبهة فيه, وقد ثبت بطريق فيه شبهة, فكذا هذا إذا انتقل إلينا إجماع السلف بإجماع كل عصر على نقله كان في معنى
ـــــــ
حتى يستوفيه1" ومثل إجماعهم على إمامة أبي بكر مسندا إلى الاجتهاد, وهو الاعتبار بالإمامة في الصلاة حتى قال بعضهم رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا وإجماعهم في زمن عمر على حد شارب الخمر ثمانين استدلالا بحد القذف حيث قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون, وقال علي إذا سكر هذى, وإذا هذى افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين. ثم أجاب الشيخ عن كلامهم فقال: وهذا أي اشتراط جامع لا يحتمل الغلط باطل; لأن إيجاب الحكم بالإجماع بطريق القطع وكونه حجة لم يثبت من قبل دليله أي مستنده ليشترط قطعية بل ثبت من قبل ذاته لأجل تكريم هذه الأمة ولاستدامة حجة الله تعالى في الأحكام إلى آخر الدهر ولأجل تقرير هذه الأمة على المحجة أي جادة الطريق المستقيم على ما مر تقريره, وهذه المعاني لا تفصل بين أن يكون مستنده قطعيا أو غير قطعي.
وقوله "ولو جمعهم دليل يوجب علم اليقين" لصار الإجماع لغوا يوهم بظاهره أن الإجماع عند الشيخ لا ينعقد عن دليل قطعي كما ذهب إليه البعض على ما نص عليه في الميزان; لأن الجامع لو كان قطعيا لم يبق في انعقاد الإجماع فائدة; لأن الحكم والقطع بصحته يثبتان بذلك الدليل فلم يبق للإجماع تأثير في إثبات شيء فيكون لغوا بخلاف ما إذا كان الجامع دليلا ظنيا; لأن أصل الحكم إن ثبت به لم يثبت القطع بصحته إلا بالإجماع فكان فيه فائدة وصار بمنزلة دليل ظني تأيد بآية من الكتاب أو بالعرض على الرسول عليه السلام والتقرير منه على موجبه ولأن الإجماع إنما جعل حجة للحاجة; فإنه متى وقعت حادثة لا يكون فيها دليل قاطع اضطروا إلى العمل بدليل محتمل للخطأ وحينئذ يجوز خروج الحق عن جميعهم, وقد بينا فساده, والحاجة إنما يثبت فيما إذا كان دليله ظنيا دون ما كان دليله قطعيا فلا ينعقد فيما لا حاجة فيه; لأن الشرع لا يرد بما لا فائدة فيه ولكن مذهب الشيخ كمذهب العامة في صحة انعقاد الإجماع عن أي دليل كان ظني أو قطعي; لأنه لما انعقد على مستند ظني فعن مستند قطعي أولى أن ينعقد; لأنه أدعى إلى الاتفاق الذي هو ركنه وبعدما انعقد به كان مؤكدا لموجبه بمنزلة ما لو وجد في حكم نصان قطعيان من الكتاب أو نص من الكتاب وخبر متواتر, فكان معنى قوله ولو جمعهم دليل
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في البيوع، ومسلم حديث رقم 1525. وأ[و داود حديث رقم 3492. وابن ماجة حديث رقم 2226.
(3/390)
 
 
نقل الحديث المتواتر. وإذا انتقل إلينا بالأفراد مثل قول عبيدة السلماني: ما اجتمع أصحاب النبي عليه السلام على شيء كاجتماعهم على محافظة الأربع قبل الظهر وعلى إسفار الصبح وعلى تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت. وسئل عبد الله بن مسعود عن تكبيرة الجنازة فقال: كل ذلك قد كان إلا أني رأيت
ـــــــ
موجب علم اليقين لو شرط أن يكون الجامع دليلا قطعيا بحيث لا يجوز غيره كان الإجماع لغوا لعدم إفادته أمرا مقصودا في صورة, إذ التأكيد ليس بمقصود أصلي بخلاف ما إذا لم يشترط ذلك; لأنه يفيد القطع إن صدر عن ظني والتأكيد إن صدر عن قطعي قال شمس الأئمة رحمه الله: فمن يقول بأنه لا يكون صادرا إلا عن دليل موجب للعلم; فإنه يجعل الإجماع لغوا وإنما يثبت العلم بذلك الدليل فهو ومن ينكر كون الإجماع حجة أصلا سواء. وقولهم الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد مسلم إذا لم يوافقه مجتهدو عصره أما إذا وافقوه فلا. وقولهم وجود نفاة القياس مانع من انعقاد الإجماع فاسد; لأن الخلاف في القياس لم يكن في العصر الأول بل هو حادث فإذن لا يمنع عن انعقاد الإجماع عن القياس مطلقا بل بعد وقوع الخلاف فيه, وهو مسلم. قال شمس الأئمة: كان في الصدر الأول اتفاق على استعمال القياس وكونه حجة وإنما أظهر الخلاف بعض أهل الكلام ممن لا بصر له في الفقه وبعض المتأخرين ممن لا علم بحقيقة الأحكام وأولئك لا يقتدى بهم ولا يؤنس بوفاقهم ومما يتعلق بهذه المسألة أن الإجماع إذا انعقد بدليل يكون منعقدا على الدليل الموجب للحكم عند بعض الأشعرية, وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين يكون منعقدا على الحكم المستخرج من الدليل; لأن الحكم هو المطلوب ولأجله انعقد الإجماع فيكون منعقدا عليه ويبتنى عليه أن الإجماع المنعقد على موجب خبر من الأخبار يدل على صحة الخبر عند الفريق الأول إذا علم أنهم أجمعوا لأجله وعند الجمهور لا يكون دليلا على صحته وإنما يدل على صحة الحكم فقط; لأن لصحة الخبر طريقا مخصوصا في الشرع, وهو النقل فيطلب صحته وعدم صحته من ذلك الطريق.
قوله "وإذا انتقل" أي الإجماع إلينا بالأفراد أي بنقل الآحاد وجواب إذا قوله كان هذا أي انتقاله بالأفراد كنقل السنة بالآحاد ووقع في بعض النسخ فكان بالغا وليس بصحيح. واختلف في الإجماع المنقول بلسان الآحاد بعدما اتفقوا أنه لا يوجب العلم أنه هل يوجب العمل أم لا فذهب أكثر العلماء إلى أنه يوجب العمل; لأن الإجماع حجة قطعية كقول الرسول صلى الله عليه وسلم, ثم إذا نقلت السنة إلينا بطريق الآحاد كانت موجبة للعمل مقدمة على القياس, فكذا الإجماع المنقول بالآحاد. وذكر الضمائر الراجعة إلى السنة في قوله: وهو يقين
(3/391)
 
 
أصحاب محمد صلي الله عليه ومسلم يكبرون أربعا وكما روي في توكيد المهر بالخلوة وكان هذا كنقل السنة بالآحاد, وهو يقين بأصله لكنه لما انتقل إلينا بالآحاد أوجب العمل دون علم اليقين وكان مقدما على القياس فهذا مثله, ومن الفقهاء من
ـــــــ
إلى آخره على تأويل الحديث أو قول الرسول عليه السلام فهذا أي الإجماع أو انتقال الإجماع مثله أي مثل الحديث أو مثل انتقال الحديث, وقال بعض أصحاب الشافعي منهم الغزالي: إنه لا يوجب العمل وهكذا نقل عن بعض أصحابنا; لأن الإجماع قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة ونقل الواحد ليس بقطعي فكيف يثبت به قاطع. والجواب أنا لا نثبت بنقل الواحد إجماعا قاطعا موجبا للعلم ليمتنع ثبوته به بل نثبت به إجماعا ظنيا موجبا للعمل وثبوت مثله بنقل الواحد غير ممتنع كخبر الواحد ولكنهم يقولون: وجوب العمل بخبر الواحد ثبت بدلائل قاطعة وهي إجماع الصحابة ودلالات النصوص ولم يوجد هاهنا إجماع ولا نص يدل على وجوب العمل به فلو ثبت لكان بالقياس على خبر الواحد ولا مدخل للقياس في إثبات أصول الشريعة; لأنه نصيب شرع بالرأي ولا مدفع لهذا إلا بأن يجعل وجوب العمل به ثابتا بطريق الدلالة بأن يقال: نقل الواحد للدليل الظني موجب للعمل قطعا كالخبر الذي تخللت واسطة بين ناقله والرسول فنقل الواحد للدليل القطعي, وهو الإجماع الذي لم يتخلل بينه وبين ناقله واسطة أولى بأن يوجب العمل قطعا; لأن احتمال الضرر في مخالفة المقطوع به أكثر من احتماله في مخالفة المظنون به, وإذا ثبت وجوب العمل به في هذه الصورة يثبت فيما إذا تخلل في نقله واسطة أو وسائط لعدم القائل بالفصل.
قوله "مثل قول عبيدة السلماني" بفتح العين وكسر الباء وفتح السين وسكون اللام هو أبو مسلم عبيدة بن قيس بن سلم أو عمرو منسوب إلى سلمان حي من مراد وأصحاب الحديث يفتحون اللام, وهو من أصحاب علي وابن مسعود أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره وسمع عمر وابن الزبير ونزل الكوفة فروى عنه الشعبي والنخعي وابن سيرين وغيرهم ومات سنة اثنين أو ثلاث وسبعين من الهجرة وسئل ابن مسعود عن تكبير الجنازة يعني وسئل عنه أن تكبيرات الجنازة أربع أو خمس أو سبع أو تسع كما جاءت به الآثار فقال: كل ذلك قد كان إلى آخره, ثم رجع إلى أصل الكلام, وهو أن الإجماع حجة فقال من أنكر الإجماع أي أنكر كونه حجة فقد أبطل دينه; لأن مدار أصول الدين على الإجماع إذ المعرفة بالقرآن وأعداد الصلوات والركعات وأوقات العبادات ومقادير الزكوات وغيرها حصلت لنا بإجماع المسلمين على نقلها فكان إنكار الإجماع مؤديا إلى إبطالها إلا أن لهم أن يقولوا: لم يثبت
(3/392)
 
 
أبى النقل بالآحاد في هذا الباب, وهو قول لا وجه له ومن أنكر الإجماع فقد أبطل دينه كله; لأن مدار أصول الدين كلها ومرجعها إلى إجماع المسلمين وصلى الله على نبيه محمد وآله أجمعين.
ـــــــ
أصول الدين بالإجماع بل بالنقل المتواتر, والفرق ثابت بين النقل المتواتر والإجماع; فإن النقل يوصل إلينا ما كان ثابتا والإجماع يثبت ما لم يكن ثابتا فلا يلزم من إنكاره إبطال أصول الدين بل يلزم منه عدم ثبوتها به وذلك لا يمنع من ثبوتها بدليل آخر, والله أعلم. وإذ قد فرغنا بتوفيق الله وإنعامه وتأييده وإكرامه عن بيان الأصول الثلاثة وتحقيق معانيها وتأسيس قواعدها وتمهيد مبانيها وتوضيح مسائلها المشكلة وتنقيح دلائلها المعضلة, فلنشرع في شرح الأصل الرابع الذي هو ميزان عقول أولي النهى وميدان الفحول ذوي الحجا به نعرف قدر الحذاقة والفطانة ويسبر غور الفقاهة والرزانة, وفيه تحار العقول والأفهام ويفرط الإغلاق والأوهام كاشفين النقاب عن الله وحقائقه رافعين الحجاب عن أسرار لطائفه ودقائقه حامدين لله تعالى على أفضاله ومصلين على سيدنا محمد وآله.
(3/393)
 
 
باب القياس
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه الكلام في هذا الباب ينقسم إلى أقسام: أولها الكلام في تفسير القياس والثاني في شرطه والثالث في ركنه والرابع في حكمه والخامس في دفعه ولا بد من معرفة هذه الجملة; لأن الكلام لا يصح إلا بمعناه ولا يوجد إلا عند شرطه ولا يقوم إلا بركنه ولم يشرع إلا لحكمه ثم لا يبقى إلا الدفع
ـــــــ
"باب القياس"
قوله: "لأن الكلام" لا يصح إلا بمعناه إثبات الشيء لا يمكن إلا بعد معرفة معناه فإذا لم يكن للفظ معنى لا يكون مفيدا, وإذا لم يكن مفيدا كان مهملا وصار كألحان الطيور ولا يوجد أي على وجه يعتبر إلا عند شرطه لأن شرط الشيء ما يتوقف وجوده عليه فلا يتصور وجود المشروط إلا بعد وجود الشرط, ألا ترى أن الصلاة لا تصح إلا بعد تحصيل الطهارة والنكاح لا يصح إلا بعد إحضار الشهود فلهذا قدم ذكر الشرط على الركن ولا يقوم إلا بركنه; لأن ركن الشيء نفس ذلك الشيء أو بعض ما هو داخل في ماهيته فلم يكن بد من معرفته ولم يشرع إلا لحكمة إذ الشيء إنما يخرج من حد السفه والعبث إلى حد الحكمة بكونه مفيدا وذلك إنما يكون بحكمة, ثم لا يبقى إلا الدفع أي لم يبق بعد تحقق هذه الأربعة إلا الدفع فكانت معرفته مؤخرة عن معرفة الجميع.
(3/394)
 
 
باب تفسير القياس
للقياس تفسير هو المراد بظاهر صيغته, ومعنى هو المراد بدلالة صيغته ومثاله الضرب هو اسم لفعل يعرف بظاهره ولمعنى يعقل بدلالته على ما قلنا, أما الثابت بظاهر صيغته فالتقدير يقال قس النعل بالنعل أي أحذه به وقدره به وذلك أن يلحق الشيء بغيره فيجعل مثله ونظيره, وقد يسمى ما يجري بين اثنين من المناظرة قياسا, وهو مأخوذ من قايسته قياسا, وقد يسمى هذا القياس نظرا
ـــــــ
قوله: "للقياس تفسير هو المراد بظاهر صيغته" أي له معنى لغوي يدل ظاهر صيغته عليه بالوضع ومعنى هو المراد بدلالة صيغته أي معنى يدل صيغته عليه باعتبار معناها لا بظاهرها, ومثاله أي مثال القياس على التفصيل الذي قلنا الضرب; فإن له تفسيرا هو المراد بظاهره, وهو إيقاع الخشبة على جسم حي ومعنى يعقل بدلالته, وهو الإيلام فيتناول العض والخنق ومد الشعر في قول الرجل: والله لا أضرب فلانا بمعناه لا بظاهره وصورته كما يتناول التأفيف الضرب والشتم بمعناه, وهو الإيذاء لا بصورته. ومثال آخر قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]; فإن ترك البيع يفهم من ظاهره وترك ما يشغله عن السعي يفهم من معناه حتى يحرم عليه الاشتغال بالشراء وسائر الأعمال التي تمنعه عن السعي.
قوله "أما الثابت بظاهر صيغته فالتقدير" يقال قست الأرض بالقصبة إذا قدرتها بها, ويقال قاس الطبيب الجرح إذا سبره بالمسبار ليعرف مقدار غوره, ثم التقدير لما استدعى أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة استعمل بمعنى المساواة أيضا فقيل قس النعل بالنعل أي أحدهما أي سواها بصاحبتها, ومنه يقال يقاس فلان بفلان ولا يقاس بفلان أي يساويه ولا يساويه ومنه قول الشاعر:
خف بإلحاق كريم على عرض يدنسه ... مقال كل سفيه لا يقاس لكا
وإليه أشار الشيخ بقوله: "وذلك" أي التقدير أن يلحق الشيء بغيره فيجعل مثله ونظيره وكان غرضه من هذا الكلام أن التقدير في المعاني والأحكام بإلحاق الشيء بغيره ليجعل الشيء الملحق نظير الملحق به في الحكم الذي وقعت الحاجة إلى إثباته واسم النعل مؤنث سماعي إلا أن الشيخ ذكر ضميرها نظرا إلى ظاهر اللفظ وصلة القياس في
(3/395)
 
 
مجازا; لأنه من طريق النظر يدرك, وقد يسمى اجتهادا; لأن ذلك طريقه فسمي به مجازا. وأما المعنى الثابت بدلالة صيغته فهو أنه مدرك في أحكام الشرع ومفصل من مفاصله وهذه جملة لا تعقل إلا بالبسط والبيان. وبيان ذلك أن الله
ـــــــ
اللغة هي الباء إلا أن في الشرع جعلت كلمة على فقيل قاس عليه بتضمين معنى البناء ليدل على أن القياس الشرعي للبناء لا للإثبات ابتداء.
قوله: "وقد يسمى ما يجري بين اثنين من المناظرة قياسا"; لأن كل واحد يقيس على أصله ويسعى في أن يجعل جوابه في الحادثة مثلا لما اتفقا على كونه أصلا بينهما كالحنفي في مناظرة الشافعي يسعى في إلحاق الفصد والحجامة بالسبيلين وصاحبه يسعى في إلحاقهما بالقيء القليل, وهو أي هذا القياس الذي أطلق على المناظرة مصدر قايسته قياسا لا مصدر قاس يقيس, وقد يسمى هذا القياس أي القياس الشرعي الذي يجري في المناظرة نظرا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب; فإنه يصاب بنظر القلب عن إنصاف فيكون قوله هذا احترازا عن القياس اللغوي أو العقلي, وقد يسمى أي القياس اجتهادا مجازا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أيضا; لأن باجتهاد القلب أي ببذله مجهوده يحصل هذا المقصود.
وذكر في القواطع أنه اختلف في الاجتهاد فقال علي بن أبي هريرة: الاجتهاد والقياس واحد ونسبه إلى الشافعي رحمه الله, وقال أشار إليه في كتاب الرسالة. وأما الذي عليه جمهور الفقهاء فهو أن الاجتهاد أعم من القياس; لأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد, وهو من مقدماته وليس الاجتهاد بمفتقر إلى القياس وحده هو بذل المجهود في طلب الحق بقياس وغيره, وقيل: هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه والقياس هو الجمع بين الأصل والفرع قال: ولهذا دخل في باب الاجتهاد حمل المطلق على المقيد وترتيب العام على الخاص وأمثال ذلك وليس شيء من هذا بقياس.
قوله: "وأما المعنى الثابت بدلالة صيغته فهو أنه مدرك في أحكام الشرع" وذلك لأن معناه اللغوي لما كان جعل الشيء مثلا لآخر ومساويا له لزم أن يعرف به حكم الشرع; لأن ما لا نص فيه إذا صار مساويا للمنصوص عليه في المعنى الذي ترتب الحكم عليه يثبت ذلك الحكم فيه لا محالة فكان مدركا من مدارك أحكام الشرع أي موضع درك والدرك هو العلم أو في تسميته مدركا إشارة إلى أنه دليل يوقف به على الحكم لا أنه مثبت له كالدخان يوقف به على وجود النار لا أن يثبت وجودها به ومفصل من مفاصله أي موضع فصل; فإنه يفصل به الخصومة بين المتنازعين أي يقطع كما يفصل بغيرها بين الحجج أو يفصل به بين الحلال والحرام والجواز والفساد كما يفصل بسائر أدلة الشرع.
(3/396)
 
 
تعالى كلفنا العمل بالقياس بطريق وضعه على مثال العمل بالبينات فجعل الأصول شهودا فهي شهود الله ومعنى النصوص هو شهادتها, وهو العلة الجامعة بين الفرع والأصل ولا بد من صلاحية الأصول, وهو كونها صالحة للتعليل
ـــــــ
ولم يذكر الشيخ رحمه الله تحديد القياس واختلفت عبارات الأصوليين في ذلك فقيل هو رد الحكم المسكوت عنه إلى المنطوق به, وهو فاسد لكونه غير مانع لدخول دلالة النص فيه وهي ليست بقياس وغير جامع لخروج القياس العقلي عنه وقيل: هو تعدية حكم الأصل بعلته إلى فرع هو نظيره, وهو فاسد أيضا لعدم اشتماله على قياس المعدوم على المعدوم; فإن الأصل والفرع أمران وجوديان إذ الأصل اسم لما يبتنى عليه غيره والفرع اسم لما يبتنى على غيره والمعدوم ليس بشيء ولأن حكم الأصل وعلته من أوصافه والانتقال على الأوصاف لا يجوز بل الثابت مثل حكم الأصل بمثل علته في الفرع. والمنقول عن الشيخ أبي منصور رحمه الله أنه إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر, واختار لفظ الإبانة دون الإثبات; لأن القياس مظهر وليس بمثبت بل المثبت هو الله تعالى وذكر مثل الحكم ومثل العلة احتراز عن لزوم القول بانتقال الأوصاف; فإنه لو لم يذكر لفظ المثل يلزم ذلك وذكر لفظ المذكورين ليشتمل القياس بين الموجودين وبين المعدومين كقياس عديم العقل بسبب الجنون على عديم العقل بسبب الصغر في سقوط الخطاب عنه بالعجز عن فهم الخطاب, وأداء الواجب ومختار القاضي الباقلاني والغزالي وعامة أصحاب الشافعي إنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما قال الغزالي وإنما قيل: حمل معلوم على معلوم ليشمل القياس بين المعدومين ولو قيل: حمل شيء على شيء لتناول الموجود دون المعدوم إذ المعدوم ليس بشيء وكذا لو قيل: حمل فرع على الأصل; لأن هذا اللفظ لا ينبئ عن المعدوم وإن كان لا يبعد إطلاقه عليه بتأويل ما والحكم قد يكون إثباتا ونفيا وكذا الجامع قد يكون حكما وصفة وكل واحد منهما قد يكون نفيا وإثباتا والاعتراضات الواردة على هذا الحد مع أجوبتها مذكورة في كتبهم قلت فلتطلب فيها.
قوله: "وهذه جملة" أي ما ذكرنا أنه مدرك في أحكام الشرع ومفصل أمر مبهم لا يعقل إلا بالبسط وعبارة شمس الأئمة وإنما يتبين هذا أي كونه مدركا ببسط الكلام. وبيان ذلك أي بيان كونه مدركا ومفصلا أن الله تعالى كلفنا العمل بالقياس كما نطقت به النصوص بطريق وضعه يعني للقياس على مثال العمل بالبينات في خصومات العباد وتعلق على بقوله كلفنا العمل أو بقوله وضعه فجعل الأصول وهي النصوص شهودا; فإنها شهود الله تعالى على حقوقه وأحكامه بمنزلة الشهود في حقوق العباد. ومعنى النصوص
(3/397)
 
 
كصلاحية الشهود بالحرية والعقل والبلوغ ولا بد من صلاح الشهادة كصلاح شهادة الشاهد بلفظة الشهادة خاصة وعدالته واستقامته للحكم المطلوب فكذلك هذه الشهادة, ولا بد من طالب للحكم على مثال المدعي, وهو القائس ولا بد من مطلوب, وهو الحكم الشرعي ولا بد من مقتضى عليه, وهو القلب بالعقد ضرورة والبدن بالعمل أصلا أو الخصم في مجلس النظر والحاجة ولا بد
ـــــــ
هو شهادتنا أي معناها الذي تعلق الحكم به لا المعنى اللغوي وفسر بقوله: وهو العلة الجامعة دفعا لتوهم المعنى اللغوي, "ولا بد من صلاحية الأصول" أي للشهادة, وهو أي الصلاحية على تأويل الصلاح كونها أي الأصول صالحة للتعليل بأن لا يكون النص الذي هو أصل معدولا به عن القياس أو مخصوصا بحكمه بنص آخر كما سيأتي بيانه ولا بد من صلاحية الشهادة أي شهادة النص بأن يكون المعنى الدال على الحكم ملائما أي موافقا لتعليل السلف غير خارج عن نهجهم كما لا بد من صلاحية شهادة الشاهد بأن يشهد بلفظ خاص فيقول: أشهد حتى لو قال أعلم أو أتيقن أو أحلف لا يكون شهادة وعدالته أي عدالة لفظ الشهادة وهي كونه صدقا. واستقامته أي مطابقته للحكم المطلوب من الشهادة وهي أن يكون موافقا لدعوى المدعي حتى لو ادعى ألف دينار وشهد بألف درهم لا يصح وإن كان صدقا لعدم المطابقة, فكذلك هذه الشهادة أي فمثل شهادة الشاهد هذه الشهادة التي نحن بصددها فكما لا بد من الصلاحية والعدالة والاستقامة هناك لا بد منها هاهنا أيضا فصلاحية هذه الشهادة بالملاءمة كما قلنا وعدالتها بالتأثير واستقامتها بمطابقتها الحكم المطلوب وخلوها عن فساد الوضع ونحوه, ولا بد من مقتضى عليه, وهو القلب بالعقد ضرورة والبدن بالعمل أصلا; لأن المقصود من القياس هو العمل بالبدن دون العلم; لأنه لا يوجب العلم فكان البدن أصلا في إيجاب العمل عليه إلا أن صحة العمل لما كانت مبنية على الاعتقاد وجب على القلب العقد ضرورة وهذا إذا حاج نفسه فإن حاج غيره فالمقتضى عليه ذلك الغير; فإنه يلزم الانقياد والتسليم له ولا بد من حكم هو بمعنى القاضي, وهو القلب يحكم بعد فهمه تأثير وصف في حكم بثبوت ذلك الحكم بناء عليه كالقاضي في الخصومات يقضي بعد فهم الشهادة بثبوت المشهود به بناء على الشهادة.
"فإن قيل" قد صار القلب محكوما عليه فيما إذا حاج نفسه فكيف يصلح حاكما بعد وبينهما تباين. "قلنا" قد ذكرنا أن المحكوم عليه هو البدن حقيقة وقصدا والقلب صار مقتضيا عليه بطريق الضمن والضرورة وذلك غير مانع من كونه حاكما كالقاضي إذا قضى بثبوت الملك للمدعي بعد ظهور الحجة صار المدعى عليه مقضيا عليه قصدا وصار هو
(3/398)
 
 
من حكم هو بمعنى القاضي, وهو القلب. وإذا ثبت ذلك بقي للمشهود عليه ولاية الدفع كما في سائر الشهادات هذا مذهب عامة أصحاب النبي عليه السلام, وهو مذهب عامة التابعين والصالحين وعلماء الدين رضي الله عنهم أجمعين; فإنهم اتفقوا على أن القياس بالرأي على الأصول الشرعية لتعدية أحكامها إلى ما لا نص فيه مدرك من مدارك أحكام الشرع لا حجة لإثباتها ابتداء, وقال أصحاب الظواهر من أهل الحديث وغيرهم: إن القياس ليس بحجة والعمل به باطل, وهو
ـــــــ
بنفسه مقضيا عليه ضمنا حتى لا يتمكن من دعواه لنفسه بعدما حكم به للمدعي وكما لو قضى بثبوت الرمضانية تصير العامة مقضيا عليهم قصدا ونفسه مقتضيا عليها ضمنا حتى وجب عليه الصوم أيضا; لأنه مثل العامة في وجوب التكليف, وإذا ثبت ذلك أي القياس بشرائطه بقي للمشهود عليه ولاية الدفع كما في سائر الشهادات; لأن تمام الإلزام يتبين بالعجز عن الدفع وذكر الإمام العلامة مولانا شمس الدين الكردري رحمه الله مثالا لهذه الجملة فقال: الخارج من غير السبيلين ناقض للطهارة والشاهد قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وصلاحيته للشهادة كونه غير مخصوص بنص آخر وشهادته دلالة وصفي النجاسة والخروج على الانتقاض وعدالة الوصفين ظهور أثرهما في غير موضع النص بالاتفاق كوجوب غسل موضع النجاسة إذا تعدت عن المخرج وانتقاض الطهارة بالخارج من السرة والطالب هو القائس والمطلوب انتقاض الطهارة والحكم القلب والمحكوم عليه البدن أو أصحاب الشافعي فلم يبق بعد هذه الجملة إلا أن يعارضه نفسه أو الخصم بأن هذا وإن دل على الانتقاض إلا أن دليلا آخر يمنع عنه, وهو أن النبي عليه السلام قاء فلم يتوضأ أو احتجم فلم يتوضأ وأمثاله.
قوله: "هذا" أي ما ذكرنا أن القياس مدرك في أحكام الشرع مذهب عامة أصحاب النبي عليه السلام أي جميعهم لتعدية أحكامها إلى ما لا نص فيه أي لإثبات مثل حكم النص فيما لا نص فيه والمراد من التعدية الإظهار.
واعلم أن القياس نوعان عقلي وشرعي فالعقلي ما استعمل في أصول الديانات. وقيل في حده: هو رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه, وهو حجة وطريق لمعرفة العقليات عند أهل القبلة سوى طائفة من أهل الحديث والإمامية من الروافض والحنابلة المشبهة والخوارج إلا النجدات منهم وهؤلاء أنكروا القياس الشرعي أيضا سوى الحنابلة; فإنهم جعلوه حجة في الفروع لحاجة الناس إليه باعتبار حدوث الحوادث التي لا يوجد حكمها في الكتاب بخلاف العقليات; فإنه لا حاجة إليه فيها لوجودها في الكتاب.
(3/399)
 
 
قول داود الأصبهاني وغيره واختلف هؤلاء فقال بعضهم: لا دليل من قبل العقل أصلا والقياس قسم منه, وقال بعضهم لا عمل لدليل العقل إلا في الأمور العقلية
ـــــــ
وأما الشرعي فهو القياس المستعمل في أحكام الحوادث على ما ذكرنا تفسيره والخلاف فيه في موضعين: في جواز التعدية عقلا وفي وقوعه شرعا, فعند جميع أصحابه والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين هو جائز عقلا وواقع سمعا, وقالت الشيعة كلها والخوارج سوى النجدات منهم وإبراهيم النظام وجماعة من معتزلة بغداد ورود التعبد به ممتنع عقلا وهم المراد من قوله: وغيرهم وغيره, وقال داود بن علي الأصبهاني وابنه محمد وجميع أصحاب الظواهر والقاشاني والنهرواني1: إنه ليس بممتنع عقلا; فإن الشارع لو قال مثلا تعبدتكم بالقياس فمهما غلب على ظنونكم أن الحكم تعلق بعلة في صورة وإنها متحققة في صورة أخرى فقيسوها عليها لا يلزم منه استحالة ولكن الشرع لم يرد بالتعبد به بل منع من العمل بالقياس فكان باطلا واتفق القائلون بورود التعبد به سمعا على أن الدليل السمعي بتعبد به قطعي سوى أبي الحسين البصري; فإنه قال: هو ظني, ولهذا عدل عن الأدلة السمعية إلى دليل العقل, وقال العقل يوجب التعبد بالأقيسة الشرعية; لأن النصوص لا تفي بجميع الأحكام لتناهيها وعدم تناهي الأحكام فقضى العقل بوجوب التعبد بالقياس تحرزا عن خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية وإلى وجوب التعبد بالعقل ذهب القفال من أصحاب الشافعي أيضا كذا ذكر في عامة نسخ أصول الفقه, ثم قوله في الكتاب: فقال بعضهم لا دليل من قبل العقل أصلا إشارة إلى قول من أنكر القياس العقلي في أصول الدين. وأنكر جواز التعبد بالقياس الشرعي في فروعه عقلا, وهم الإمامية والخوارج.
وقوله القياس قسم منه أي من دليل العقل والقول الثاني إشارة إلى قول من أثبت القياس العقلي ونفى القياس الشرعي عقلا, وهم بقية الشيعة والنظام ومتابعوه, والقول الثالث يجوز أن يكون إشارة إلى قول من أنكر وقوعه سمعا كداود ومتابعيه; فإن القياس لما كان دليلا ضروريا عند هذا البعض لم يكن ممتنعا لكنه لما لم يرد نص يدل على اعتباره مع وجود الاستصحاب وترجحه عليه لم يكن معمولا به بل يكون ساقطا بالاستصحاب ويجوز أن يكون إشارة إلى قول طائفة من القائلين بامتناع التعبد بالقياس عقلا; فإنهم بعد اتفاقهم على امتناعه عقلا اختلفوا في مأخذ الامتناع العقلي على ما عرف فعند فريق منهم
ـــــــ
1 المعافي بن زكريا بن يحي النهرواني الجرري المعروف بابن طمرار، المتوفي سنة 390هـ. أنظر وفيات الأعيان 5/221.
(3/400)
 
 
دون الشرعية, وقال بعضهم: هو دليل ضروري ولا ضرورة بنا إليه لإمكان العمل باستصحاب الحال.
واحتج من أبطل القياس بالكتاب والسنة والمعقول, أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 59] وقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] ومن جعل القياس حجة لم يجعل الكتاب كافيا. وأما السنة فقول النبي عليه السلام: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى كثرت فيهم أولاد السبايا فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا" وأما المعقول فلمعنى في الدليل ولمعنى في
ـــــــ
الامتناع بناء على أن العمل بالدليل الأضعف الضروري على مخالفة الدليل الأقوى الأصلي مما يرده العقل, وقد أمكن العمل بالدليل الأقوى في محل القياس, وهو الأصل الذي كان ثابتا بيقين فلا يجوز العمل بالقياس الذي هو ظني على خلافه كما لو وجد هناك نص بخلافه.
قوله: "واحتج من أبطل القياس" إلى آخره تمسك نفاة القياس بآيات من الكتاب مثل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] أي ما تركنا من شيء إلا وقد بينا لكم مما بكم إليه حاجة, وقوله تعالى: {رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ذكر الرطب واليابس للتعميم كما يقال ما ترك فلان من رطب ولا يابس إلا جمعه وقوله عز ذكره {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} من أمور الشرع إذ ليس فيه بيان كل الأشياء ففي هذه الآيات أن بيان الأحكام كلها في الكتاب إما في نصه أو إشارته أو دلالته أو اقتضائه فإن لم يوجد في شيء هاهنا فالإبقاء على الأصل الثابت من وجود أو عدم; فإن ذلك في الكتاب قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية فقد أمره بالاحتجاج بعدم نزول التحريم في كتاب الله تعالى لبقاء الإباحة الأصلية فيصير على هذا بيان كل الأحكام من رطب ويابس موجودا في الكتاب كما قيل.
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
فيكون القياس مستغنى عنه, فمن جعله حجة لم يجعل الكتاب كافيا في الإبانة والتبيان وتعلقوا بالأخبار أيضا مثل حديث واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم أولاد السبايا فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا1" وفي
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في المقدمة حديث رقم 56.
(3/401)
 
 
المدلول أما الدليل فشبهة في الأصل; لأن النص لم ينطق بشيء من الأوصاف علة للحكم والحكم المطلوب حق الله تعالى فلا يصح إثباته بما هو شبهة في الأصل مع كمال قدرة صاحب الحق, وأما الذي في المدلول فلأن المدلول طاعة
ـــــــ
رواية أبي هريرة رضي الله عنه "فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا" السبايا جمع سبية بمعنى مسبية وأراد بها الجواري أي اتخذوا الجواري سريات فولدن لهم أولادا ليسوا بنجباء إذ النجابة من قبيل الأمهات فصدر منهم ما يفضي إلى الضلال والإضلال, وهو القياس ومثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا" ومثل ما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أضرها على أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال" ومثل ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا1" والفتوى بالرأي فتوى بغير علم. وروي عن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي; فإنهم أعداء الدين أعيتهم السنة أي لم يحفظوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا وعن ابن مسعود رضي الله عنه إياكم وأرأيت وأرأيت; فإنما هلك من كان قبلكم في أرأيت وأرأيت وعنه أنه قال: إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما أحل الله وعن ابن سيرين أنه قال: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس, وقال الشعبي: ما حدثوك عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فحدثه وما أخبروا عن رأيهم فألقه في الحش, وعن مسروق أنه قال: لا أقيس شيئا إني أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها وفي مثل هذه الأخبار والآثار كثيرة.
قوله: "وأما المعقول فكذا" وتمسكوا بوجوه من المعقول منها ما ذكر في الكتاب, وهو أن العمل بالقياس لا يجوز لمعنى في الدليل, وهو القياس ولمعنى في المدلول, وهو ما ثبت به من الحكم الشرعي, أما الدليل أي المعنى الذي في الدليل فشبهة في الأصل أي أصل القياس واحترز به عن خبر الواحد كما سنقرره; لأن النص لم ينطق بشيء من الأوصاف علة للحكم يعني أن الوصف الذي تعلق به الحكم غير منصوص عليه صريحا ولا إشارة ولا دلالة ولا اقتضاء بل امتاز من بين سائر الأوصاف بالرأي الذي لا ينفك عن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في العلم حديث رقم 2673، ورواه الترمذي في العلم حديث رقم 2652، وابن ماجة برقم 52، والإمام أحمد في المسند 2/162.
(3/402)
 
 
الله تعالى ولا يطاع الله تعالى بالعقول والآراء, ألا ترى أن من الشرائع ما لا يدرك بالعقول مثل المقدرات ومنها ما يخالف المعقول ولا يلزم أمر الحروب
ـــــــ
احتمال الغلط والخطأ, ولهذا ترى الفقهاء يختلفون في علة نص واحد مثل اختلافهم في علة الربا والحكم المطلوب بالقياس من الجواز والفساد والحل والحرمة محض حق الله تعالى فلا يجوز إثباته بمثل هذا الدليل الذي في أصله شبهة; لأن من له الحق موصوف بكمال القدرة يتعالى عن أن ينسب إليه العجز والحاجة إلى إثبات حقه بما فيه شبهة بخلاف أخبار الآحاد; فإن أصلها قول الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو حجة موجبة للعلم قطعا, وإنما تمكنت الشبهة في طريق الانتقال إلينا فيؤثر تمكن هذه الشبهة في انتفاء اليقين ولا يخرج الخبر بها من أن يكون حجة موجبة للعمل كالنص المؤول لا يخرج عن كونه حجة بالشبهة المتمكنة فيه بتأويلنا وبخلاف حقوق العباد; فإنها تثبت بدليل في أصله شبهة لعجزهم عن إثباتها بدليل قطعي. أما الذي في المدلول فهو أن المدلول طاعة الله تعالى; لأنه من أحكام الدين وقبول الدين بجميع أحكامه من باب الطاعة والانقياد للعبودية قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ولا يطاع الله تعالى بالعقول والآراء; لأنه لا يمكن أداء الطاعة إلا بكمية وكيفية ولا مدخل للرأي في معرفة كمية الطاعة وكيفيتها ولا للعقل وقوف على حسن المشروع وقبحه على وجه التفصيل, وإن كان يمكنه الوقوف على ذلك إجمالا لا كحسن شكر المنعم وقبح الكفر به بل طريق الطاعة هو الابتلاء, ألا ترى أن من الشرائع ما لا يدرك ألبتة بالعقول مثل المقدرات كأعداد الركعات ومقادير الزكوات والعقوبات وأروش الجنايات ومنه أي من المشروع أو من المذكور وهو الشرائع ما يخالف المعقول أي القياس الظاهر والدليل الظاهر الذي عرف أصلا في الشرع ولم يرد أنه يخالف دليل العقل على معنى أن العقل يقتضي خلاف ذلك; لأن الشرع والعقل من حجج الله سبحانه فلا يجوز أن يتناقضا بوجه وذلك مثل بقاء الصوم مع الأكل والشرب ناسيا وبقاء الصلاة مع السلام في القعدة ساهيا وبقاء الطهارة مع سلس البول وأشباهها, وإذا كان كذلك لا يمكن معرفته بالرأي فيكون العمل فيه بالرأي عملا بالجهالة لا بالعلم فلا يمكن إعمال الرأي فيه وبمثل هذه الشبهة تعلق النظام فقال: مدار الشرع على الفرق بين المتماثلات في الأحكام كإيجاب الغسل بالمني دون البول الذي هو مثله بل أنجس منه وكإيجاب القطع على سارق القليل دون غاصب الكثير. وكإيجاب الجلد بالنسبة إلى الزنا دون النسبة إلى الكفر والشرك الذي هو أغلظ منه وكإيجاب القتل بشاهدين دون إيجاب حد الزنا بهما مع أن الزنا دون القتل وكإثبات الإحصان بالحرة الشيخة الشوهاء وعدم إثباته بمائة من الجواري الحسان وكتحريم النظر إلى شعر الشيخة
(3/403)
 
 
ودرك الكعبة وتقويم المتلفات أما على الأول فلأنها من حقوق العباد أما غير القبلة فلا يشكل, وأما القبلة فأصله معرفة أقاليم الأرض وذلك حق العباد فبني على وسعهم, وأما على الثاني فلأن هذه الأمور إنما تعقل بوجوه محسوسة, ألا
ـــــــ
الشوهاء وإباحته إلى شعر الأمة الحسناء, وكإباحة النظر إلى وجه الحرة الحسناء وتحريمه إلى شعرها مع اتفاقهما في تهييج الشهوة بل ربما يكون تهيجها عند النظر إلى الوجه أكثر منه عند النظر إلى الشعر. وعلى الجمع بين المختلفات كالجمع بين الردة والزنا في إيجاب القتل وكالجمع بين قتل الصيد عمدا وخطأ في إيجاب الضمان والجمع بين القاتل والمظاهر والمفطر عمدا في إيجاب الرقبة, وإذا كان كذلك استحلل ورود التعبد بالقياس من الشارع لكونه واردا على خلاف موضوع الشرع; فإن قضية العقل والقياس التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها.
قوله: "ولا يلزم أمر الحروب" جواب عما يرد نقضا على الوجهين; فإن الرأي مع احتماله للخطأ والغلط قد يستعمل في الحروب بالاتفاق وهي من أمور الدين وأركانه. وكذا يستعمل في درك الكعبة عند البعد عنها وعند اشتباه القبلة وهو من أمور الدين, وكذا قيم المتلفات تعرف بالرأي عند إيجاب ضمانها, وهو من أحكام الشرع فعرفنا أن حق الله تعالى قد يثبت بما فيه شبهة فينتقض به الوجه الأول وأن الله تعالى قد يطاع بالرأي فيفسد به الوجه الثاني فقالوا: ما ذكرتم ليس بلازم علينا. أما على الوجه الأول فلأن المدعى استحالة إثبات حقوق الله تعالى بالرأي دون حقوق العباد; فإنه يليق بحالهم العجز والاشتباه فيما يعود إلى مصالحهم العاجلة فيعتبر فيه الوسع ليتيسر عليهم الوصول إلى مقاصدهم وهذه الأشياء من حقوق العباد فيجوز أن يثبت بالرأي, أما غير القبلة فلا يشكل لأن يقع تقويم المتلفات راجع إليهم في العاجلة; فإنه من باب الانتصاف الذي تقوم به مصالح العباد في الدنيا. وكذا أمر الحروب فإنهم يدفعون به ضرا عن أنفسهم أو يجرون نفعا إليها فيكون من أمور الدنيا ومصالح العباد, وأما القبلة أي دركها فأصله بمعرفة أقاليم الأرض; فإن جهة القبلة تختلف باختلاف الأماكن والأقاليم, وذلك أي عرفان أقاليم الأرض من حقوق العباد لاحتياجهم إلى معرفتها في أسفارهم للتجارات وغيرها من المصالح فبني عرفانها على وسعهم لحاجتهم فلذلك صح استعمال الرأي في درك القبلة لاضطرارهم وعجزهم بخلاف حق صاحب الشرع; فإنه موصوف بكمال القدرة فلا يجوز إثباته بما في أصله شبهة وأجيب عنه أيضا بأن التنصيص إنما يشترط فيما لا امتناع في التنصيص عليه كأحكام
(3/404)
 
 
ترى أن قيم المتلفات ومهور النساء وأمور الحرب تعقل بالأسباب الحسية وكذلك القبلة وكان يقينا بأصله على مثال الكتاب والسنة وحصل بما قلنا المحافظة على النصوص بمعانيها ولأن العمل بالأصل مواضع القياس ممكن وذلك دليل دعينا إلى العمل به قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
ـــــــ
القواعد الكلية دون ما يمتنع فيه التنصيص وهذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات فالتنصيص عليها كالتنصيص على ما لا نهاية له, وهو محال فاعتبر فيها الرأي, وأما الثاني أي على الوجه الثاني, وهو أن طاعة الله تعالى لا تدرك بالعقول فلا يلزم ما ذكرتم أيضا لأن هذه الأمور إنما تعقل بوجوه محسوسة; فإن قيمة المتلف تعرف بالنظر إلى مثله في الصفات وكذا مهر المرأة يعرف بالنظر إلى مثلها في الأوصاف التي يمكن اعتبارها, وكذا المقصود من الحرب صيانة النفس عن التلف أو قهر الخصم وأصل ذلك محسوس مثل التوقي عن السم وعن الوقوع على السيف والسكين لعلمه بأن ذلك متلف. وكذا جهة الكعبة محسوسة في حق من عاينها وبعد البعد منها قد يصير كالمحسوسة بالنظر في دلائلها فكان إعمال الرأي في هذه الأشياء في معنى العمل بما لا شبهة في أصله بمنزلة العمل بالكتاب والسنة, ولقائل أن يقول: هذا الجواب لا يطابق ورود السؤال المذكور على الوجه الثاني; لأن غايته أن الرأي في هذه الأشياء مستند إلى الحس كخبر الواحد مستند إلى قول الرسول عليه السلام ولكن لا يخرج به من كونه رأيا مستعملا في طاعة الله تعالى, وقد ذكرتم أن الله تعالى لا يطاع بالرأي, وإنما يطابق وروده على الوجه الأول; فإنه لما استند إلى الحس لم يبق شبهة في أصله فيجوز أن يثبت به حق الله تعالى ولهم أن يجيبوا وإن كان لا يخلو عن ضعف بأن أصلها لما استند إلى الحس صار ملحقا بالكتاب والسنة فكان الثابت به بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة فلم يكن طاعة بالرأي بل بالنص تقديرا, وكأن الشيخ أراد بقوله على مثال الكتاب والسنة ما قلنا والأولى أن يتمسكوا بالجواب الأول فيقولوا: لا نسلم أن هذه الأشياء من قبل الطاعة بل هي من حقوق العباد كما قررنا فيجوز أن يستعمل فيها الرأي. وحصل بما قلنا أي بالمنع من القياس المحافظة على النصوص بمعانيها أي مع معانيها; لأنه لا منع عن القياس احتاج عن التأمل في معاني النصوص لاستخراج الأحكام قال القاضي الإمام في التقويم قالوا: وفي الحجر عن القياس أمران أن بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين; فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معاني اللسان, وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت, وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب فتموت البدع بظهور القالب; فإن عند ظهوره يتبين الزيغ الذي هو بدعة عن الحق ويسقط الهوى بحياة القالب
(3/405)
 
 
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [النعام: 145] الآية وليس كذلك ما ذكرنا من أمور الحرب وغيرها; لأن العمل بالأصل غير ممكن وكذلك أمر القبلة فعملنا بالاجتهاد للضرورة ولا يلزم عليه الاعتبار بمن مضى من القرون في المثلات والكرامات; لأن ذلك أمر يعقل بالحس والعيان وعلى ذلك يحمل ما ورد في الكتاب من الأمر بالاعتبار على أمر الحرب يحمل مشاورة النبي عليه السلام ولعامة العلماء وأئمة الهدى الكتاب والسنة والدليل المعقول وهذا أكثر من أن
ـــــــ
لأن القالب لا يحيى إلا باستعمال الرأي في معاني النصوص ومعانيها غائرة جمة لن تنزف بالرأي, وإن فنيت الأعمار فيها فلا يفضل الرأي للهوى فيتم أمر الدين بموت البدع ويستقيم العمل بسقوط الهوى وفيها الفوز والنجاة للناس, ثم ذكر الشيخ جوابا آخر لهم عن ورود السؤال المذكور على الوجه الأول فقال: ولأن العمل بالأصل الذي كان ثابتا بيقين ممكن في مواضع القياس وذلك أي الأصل دليل دعينا إلى العمل به شرعا في قوله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية فمع إمكان العمل به لا يجوز المصير إلى ما دونه لعدم الضرورة وليس كذلك أي لموضع القياس ما ذكرنا من أمر الحروب وغيرها من قيم المتلفات ومهور النساء; لأن العمل بالأصل فيها غير ممكن إذ لا يمكن أن يقال الضمان أو المهر لم يكن واجبا فلا يجب لأن سبب الوجوب قد ثبت قطعا, وكذا ليس في الحرب والقتل أصل نستصحبه ونعمل به فإذا لم نجد طريقا آخر نعمل به جوزنا العمل بالاجتهاد فيها للضرورة., ثم أجاب عن سؤال آخر يرد عليهم, وهو أن الاعتبار عمن مضى من القرون وإعمال الرأي بالتفكر في أحوالهم وما لحقهم من المثلات أي العقوبات والكرامات واجب وذلك من باب الدين فعرفنا أن الرأي معتبر في الدين وأن القياس حجة في الشرع, فقالوا: لا يلزم عليه أي على ما قلنا أن القياس ليس بحجة. ذلك لأن ذلك أي لحوق المثلاث والكرامات أمر يعقل أي يعلم بالحس والمشاهدة; لأنه قد عرف هلاك مثله بمثل ذنبه بالسماع أو بحس العين فكان الاحتراز عن مثله بسببه من مصالح الدنيا بمنزلة الاحتراز عن تناول ما يتلفه مما وقف على تلف مثله بتناوله قال شمس الأئمة رحمه الله المقصود من إعمال الرأي في أحوالهم الامتناع مما كان مهلكا لمن قبلهم حتى لا يهلكوا ومباشرة ما كان سببا لاستحقاق الكرامة لمن قبلهم حتى ينالوا مثل ذلك, وهو في الأصل من حقوق العباد بمنزلة الأكل الذي يكتسب به المرء سبب إبقاء نفسه وإتيان الإناث في محل الحرث بطريقه ليكتسب به سبب إبقاء النسل, ثم طريق ذلك الاعتبار بالتأمل في معاني اللسان; فإن أصله الخبر وذلك مما يعلم بحاسة السمع, ثم بالتأمل فيه يدرك المقصود وليس ذلك من حكم الشريعة في شيء فقد كان الوقوف على معاني
(3/406)
 
 
يحصى وأوضح من أن يخفى وإنما نذكر طرفا منه تبركا واقتداء بالسلف قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والاعتبار رد الشيء إلى نظيره والعبرة البيان قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أي تبينون والقياس مثله سواء فإن قيل: إنما يصح الاعتبار بأمر ثابت بالنص دون الرأي, وهو أن يذكر سبب هلاك قوم أو نجاتهم وكذلك عندي ههنا
ـــــــ
اللغة في الجاهلية, وهو باق اليوم بين الكفرة الذين لا يعلمون حكم الشريعة وعلى ذلك يحمل أي على ما يدرك بالحس والعيان مثل المثلات والكرامات يحمل ما ورد من الأمر بالاعتبار في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وعلى أمر الحروب يحمل مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم يعني يحمل ما ورد من الأمر بالمشاورة للرسول عليه السلام بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ومشاورته أصحابه على أمر الحروب بدليل أن المروي أنه يشاورهم في ذلك, ولم يعقل أنه شاورهم قط في حقيقة ما هم عليه ولا في ما أمرهم به من أحكام الشرع وإلى هذا المعنى أشار بقوله عليه السلام "إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فاعملوا به, وإذا أتيتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بدنياكم1" .
قوله: قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمرنا بالاعتبار, وهو برد الشيء إلى نظيره كذا حكي عن ثعلب ومنه يسمى الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة ويقال: اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب أي سويته به في التقدير وهذا هو القياس; فإنه حذو الشيء بنظيره فكان مأمورا به بهذا النص, وقيل: الاعتبار التبيين ومنه قوله تعالى إخبارا {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} تبينون والتبيين الذي يكون مضافا إلينا هو إعمال الرأي في معنى المنصوص ليتبين به الحكم في نظيره, كذا ذكر شمس الأئمة فكان الضمير في قوله والقياس مثله راجعا إلى الاعتبار أو إلى كل واحد منهما أو لأي المعنيين بتأويل المذكور أي القياس مثل رد الشيء إلى نظيره فيكون داخلا تحت الأمر أو القياس مثل المعنيين; لأنه رد الشيء إلى نظيره وبيان لحكمه أيضا بالرد إلى النظير فكان الأمر متناولا. وذكر بعض الأصوليين أن الاعتبار هو الانتقال والمجاوزة عن الشيء إلى غيره مشتق من العبور يقال عبرت النهر أي جاوزته والموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة أو القنطرة التي يعبر بها والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا وعبرها جاوزها إلى ما يلازمها فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في الانتقال والمجاوزة إلى الغير وذلك متحقق في القياس; فإنه عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت الأمر. فإن قيل: لا نسلم أن حقيقة
ـــــــ
1 أخرجه نحوه مسلم في الفضائل حديث رقم 2362.
(3/407)
 
 
إذا ذكرت العلة نصا مثل قول النبي في الهرة "إنها من الطوافات" والجواب ما نبين إن شاء الله. وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] {ويَعْقِلُونَ} [الروم: 28] ونحو ذلك وقال جل
ـــــــ
الاعتبار هي الانتقال والمجاوزة بل حقيقة الاعتبار الاتعاظ لتبادره إلى الفهم من إطلاق اللفظ ولصحة نفي الاعتبار عن القائس الذي لا يتفكر في أمر الآخرة ولا يتعظ بأن يقال هو غير معتبر ولترتبه في هذا النص على قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } [الحشر: 2]; فإنه إنما يحسن ترتبه عليه لو كان المراد الاتعاظ دون القياس لركاكة قول القائل يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر, ولئن سلمنا دلالته على القياس فنحمله على القياس في الأمور العقلية دون الشرعية أو على ما كانت عنه منصوصا عليها لعدم إمكان حمله على العموم; فإن التسوية بين الفرع والأصل في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من النص كما أن حكم الأصل كذلك نوع من الاعتبار كما أن التسوية بينهما في إثبات الحكم كذلك وهما متنافيان فإجراء اللفظ على عمومه يؤدي إلى الأمر بالمتنافيين, وهو محال ولئن سلمنا إمكان حمله على العموم فقد خص منه ما لا يجوز القياس فيه كالمنصوص عليه وما لم ينصب عليه أمارة على الحكم والأقيسة المتعارضة فلم يبق حجة أو صار ظنيا ومسألة القياس قطعية فلا يجوز بناؤها عليه قلنا: حقيقة الاعتبار هي المجاوزة والانتقال إلى الغير كما ذكرنا لا الاتعاظ; فإنه يقال: اعتبر فلان فاتعظ فيجعل الاتعاظ معلول الاعتبار, ولو كان معناه الاتعاظ لما صح هذا الكلام إذ ترتب الشيء على نفسه ممتنع ولأن معنى المجاوزة والانتقال في الاتعاظ متحقق وأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه. فأما تبادر الفهم إلى الاتعاظ دون غيره فممنوع بل يفهم منه غيره كما يفهم الاتعاظ فيجعل حقيقة في المعنى المشترك في الكل, وهو الانتقال نفيا للاشتراك والمجاز فأما صحة نفيه عن القائس الذي ليس بمتعظ فبالنظر إلى إخلاله بأعظم المقاصد إذ المقصود الأصل من الاعتبار الآخرة فإذا أخل به قيل: هو غير معتبر مجازا كما قيل لمن لا يتدبر في الآيات أعمى وأصم لا بالنظر إلى كونه قائسا; فإنه لا يصح. وأما ركاكة ما لو قيل يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر فمسلمة; لأنه لا مناسبة بين خصوص هذا القياس وبين تخريب البيوت ولكن المأمور به في الآية مطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته وذلك ليس بركيك. مثاله لو سئل واحد عن مسألة فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة كان باطلا لكن لو أجاب بما يتناولها وغيرها كان حسنا كما لو سئل عمن أكل أو شرب في صوم رمضان أيجب عليه الكفارة لا يحسن أن يجيب بأن من
(3/408)
 
 
ذكره {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [اللابقرة: 179] وهو إفناء وإماتة في الظاهر لكنه حياة من طريق المعنى بشرعه واستيفائه أما الأول; فإن من تأمل في شرع القصاص صده ذلك عن مباشرة سببه فيبقى حيا ويسلم المقصود بالقتل عنه
ـــــــ
جامع فعليه الكفارة, ولكن يحسن أن يقول: من أفطر فعليه الكفارة وقولهم لا يمكن إجراؤه على العموم للزوم التناقض فاسد; لأن إلحاق الفرع بالأصل في المنع من الحكم لا يسمى اعتبارا ولا يفهم ذلك منه بوجه ولم يقل أحد بأنه محتمل الآية ولو كان ذلك محتملها لصار معناها يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فلا تحكموا بهذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير وبطلانه ظاهر. ألا ترى أن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب, ثم قال الآخر اعتبر به فهم منه التسوية في الحكم لا المنع منه. وقولهم قد خص منه كذا فلا يتمسك به في المسألة القطعية ضعيف أيضا; فإنه قد قيل: إن تلك الصور لم تدخل تحت هذا النص ليثبت التخصيص; فإن الأمر بالاعتبار لا يتناول ما لم يوجد فيه أمارة على الحكم لعدم إمكان الاعتبار بدونها لا ما وجد فيه نص; لأن المقصود من رد الشيء إلى نظيره إثبات حكم النظير له فإذا كان له حكم لم يكن فائدة في رده إلى النظير ولا الأقيسة المتعارضة لعدم إمكان العمل بها لتساقطها بالتعارض, وإذا لم تدخل تحته لم يصح تخصيصها منه فبقي النص على عمومه موجبا لليقين كما كان, على أنا إن سلمنا أنه صار ظنيا فهو حجة عليكم; لأنه يوجب العمل بالقياس بطريق الظن وأنتم أنكرتموه أصلا والجواب ما نبين أراد به قوله وبيان ذلك في الأصل إلى آخره.
قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فالقصاص إفناء وتفويت للحياة, وقد جعل مكانا وظرفا للحياة في هذا النص وذلك من طريق المعنى بشرعه واستيفائه كما ذكر في الكتاب. أما الأول, وهو كونه حياة باعتبار شرعه فلأن القاصد للقتل لما تأمل في شرع القصاص وعلم أنه لو قتل يقتص منه, وصده أي منعه ذلك التأمل عن مباشرة سبب القصاص, وهو القتل فسلم هو من القود وسلم صاحبه من القتل فيصير أي شرع القصاص يعني مشروعيته حياة لهما أي القاصد القتل والمقصود قتله بقاء عليها أي بقاءهما على الحياة وفي بعض النسخ عليهما أي بقاء حياتهما عليهما, ولو قيل إبقاء لكان أحسن وإبقاء الحياة بدفع سبب الهلاك عنه يسمى إحياء قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]. وعلى هذا الوجه يكون الخطاب لكافة الناس, وأما في استيفائه أي كونه حياة باعتبار استيفائه فلأن القاتل يصير حربا على أولياء القتيل خوفا على نفسه منهم فيقصد قتلهم مستعينا في ذلك بأمثاله من السفهاء إزالة للخوف عن نفسه فإذا استوفى الولي القصاص عنه اندفع شره عنه وعن عشيرته فصار أي الاستيفاء
(3/409)
 
 
فيبقى حيا فيصير حياة لهما أي بقاء عليهما. وأما في استيفائه فلأن من قتل رجلا صار حربا على أوليائه وصاروا كذلك عليه فلا يسلم لهم حياة إلا أن يقتل القاتل فيسلم به حياة أولياء القتيل الأول والعشائر فصاروا أحياء معنى وهذا لا يعقل إلا بالتأمل وأما السنة فأكثر من أن يحصى من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
إحياء لهم معنى وعلى هذا يكون الخطاب للأولياء ولأن القاتل إذا قتل محي أثر القتل في دار الآخرة عنه فيبقى غير معذب به فيكون إحياء له بدفع سبب العذاب عنه. وعلى هذا يكون الخطاب للقتلة وتنكير لفظ الحياة إما للتعظيم; فإنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة وبالمقتول غير قاتله فتفور الفتنة ويقع التقاتل بينهم فبشرع القصاص انقطعت الفتنة وانقطع التقاتل فكانت فيه حياة عظيمة أو لأن الحاصل به نوع من الحياة; فإن بارتداع القاطع عن القتل تحصل حياة للمقصود قتله في المستقبل دون الماضي فوجب التنكير وامتنع التعريف; لأن التعريف يقتضي أن الحياة كانت من الأصل بالقصاص وليس الأمر كذلك ومثله تنكير الحياة في قوله عز ذكره: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]; فإن الحرص لما يكن متعلقا بالحياة على الإطلاق بل بها في بعض الأحوال وهي الحياة في المستقبل إذ الحرص لا يكون على الحياة الماضية والراهبة حسن التنكير. ولأن الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لا يكون في حق الكل; فإن كثيرا من الناس قد لا يكون لهم عدو يقصد قتلهم حتى يمنعه خوف القصاص عنه فيحصل لهم الحياة بالارتداع بل يكون في حق البعض ولما دخل الخصوص في هذه القضية وجب تنكير لفظ الحياة كما وجب تنكير لفظ الشفاء في قوله عز وجل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] حيث لم يكن شفاء للجميع ليصح التعريف وهذا لا يعقل إلا بالتأمل أي كون القصاص حياة لا يدرك إلا بالتأمل واستعمال الرأي فعرفنا أن استعمال الرأي لاستخراج معان النصوص أمر سائغ في الشرع والقياس ليس إلا استعمال الرأي لاستخراج معنى النص فيكون مشروعا. قال القاضي الإمام في التقويم والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وفيه هلاك حسا وإنما الحياة في الاعتبار عن قتل فقتل لينزجر عن القتل ابتداء فلا يقتل جزاء وهذا ضرب من الرأي فإن قال الخصم: أنا لا أنكر استعمال الرأي لمثل هذا المعنى إذ لا بد من فهم معنى الكلام لغة واستعاراته وإشاراته وذلك لا يتأتى إلا به إنما الكلام في استعماله لإثبات الحكم الشرعي في محل غير منصوص عليه ولا دلالة للآية على جوازه فيه, فالجواب عنه هو الجواب عن السؤال المذكور في الكتاب كما سيجيء بيانه.
قوله: "وأما السنة فأكثر من أن يحصى" واحتج مثبتو القياس أيضا بما ثبت بالتواتر
(3/410)
 
 
حين بعث معاذا إلى اليمن قال: "بم تقضي؟" قال: بما في كتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: أقضي بما قضى به رسول الله. قال: "فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله؟" قال: أجتهد برأيي. قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله"
ـــــــ
المعنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإليه أشير بقوله فأكثر من أن تحصى ما يدل على شرعية القياس ووجوب العمل به مثل حديث معاذ1 رضي الله عنه; فإنه لما قال: أجتهد برأيي; ضرب على صدره. وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله" فلم ينكر عليه في قوله: أجتهد برأيي, بل مدحه وحمد الله على ذلك فدل على جواز العمل بالقياس عند عدم النص وأمر به أبا موسى رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمن فقال: اقض بكتاب الله فإن لم تجد فبسنة رسول الله فإن لم تجد فاجتهد رأيك, وقال لعمرو بن العاص اقض ما بين هذين فقال على ماذا أقضي فقال: على أنك إن اجتهدت فأصبت لك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة وقوله وهذا نص صحيح إشارة إلى الجواب عما قيل لا يصح التمسك بخبر معاذ; فإنه خبر مرسل فلا يكون حجة عند أصحاب الشافعي وخبر غريب فيما يعم به البلوى فلا يكون حجة عند أصحاب أبي حنيفة فكان الإجماع من الفريقين منعقدا على سقوط الاحتجاج, فقال هذا نص صحيح ليس بمرسل ولا غريب; فإن أئمة الحديث أسندوه في كتبهم وتلقوه بالقبول فيصح الاحتجاج به. قال الغزالي رحمه الله: هذا حديث تلقته الأمة بالقبول ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا وما كان كذلك لا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده, وهو كقوله عليه السلام "لا وصية لوارث" "ولا تنكح المرأة على عمتها" "ولا يتوارث أهل ملتين شتى" وغير ذلك مما عملت به الأمة كافة وذكر غيره أن مثبتي القياس أبدا كانوا يتمسكون به في إثبات القياس ونفاته كانوا يشتغلون بتأويله فكان ذلك اتفاقا منهم على قوله. فإن قيل: إن سلمنا صحته لا نسلم كونه دالا على أن القياس حجة إذ الاجتهاد ليس نفس القياس لا غير بل هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب فيحمله على طلب الحكم من النصوص الخفية أو على التمسك بالبراءة أو على القياس الذي علته منصوص عليها أو مومأ إليها أو يحمله على أنه كان ذلك قبل إكمال الدين واستقرار الشرع لوقوع الحاجة إليه إذ ذاك فأما بعد إكمال الدين واستقراره فلا لارتفاع الحاجة بما هو أقوى منه, إذ الإكمال لا يكون إلا بعد اشتمال الكتاب والسنة على جميع ما لا بد من معرفته فلا يجوز العمل بالقياس قلنا لا يجوز حمل الاجتهاد على الاستدلال بالنصوص الخفية هاهنا; لأن قوله فإن لم تجد يقتضي انتفاء النص على سبيل العموم جليا كان أو خفيا فتخصيصه بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع. وكذا لا يجوز حمله على البراءة الأصلية لأنها معلومة لكل أحد فلا حاجة في
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/230، وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3592.
(3/411)
 
 
وهذا نص صحيح وقد روينا ما هو قياس بنفسه من النبي عليه السلام
ـــــــ
معرفتها إلى الاجتهاد ولا على ما كانت علته منصوصا عليها; لأن الشارع إنما سكت عند قوله: أجتهد, لعلمه بأن الاجتهاد واف بجميع الأحكام فلو حمل على القياس المنصوص على علته لم يكن ذلك وافيا بمعرفة عشر عشير الأحكام فكان يجب أن لا يسكت عليه كما لم يسكت عند قوله أقضي بالكتاب والسنة ولا يصح حمله أيضا على أنه كان قبل الإكمال; فإن الإكمال لا يقتضي عدم جواز العمل بالقياس; فإنه إنما يتحقق ببيان جميع الأحكام وذلك قد يكون بلا واسطة وبواسطة والقياس من الوسائط, ثم أتم الاستدلال بالسنة بقوله, وقد روينا يعني حديث معاذ وغيره يدل على أنه عليه السلام أجاز قياس غيره. وقد روينا في باب تقسيم السنة في حقه ما هو قياس بنفسه مثل الخثعمية وحديث القبلة للصائم وغيرهما فيدل قوله وفعله جميعا على جواز القياس وكلمة من يجوز أن تكون متعلقة بروايتنا وأن تكون متعلقة بقياس وفي أمثال هذه الأخبار كثرة كقوله عليه السلام: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها1" حكم بتحريم ثمنها قياسا على تحريم أكلها "وقوله عليه السلام لأم سلمة رضي الله عنها, وقد سألت عن قبلة الصائم "هلا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم" 2 تنبيها على قياس غيره عليه. وقوله عليه السلام حين سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر "أينقص إذا جف فقيل نعم فقال "فلا إذن " "وقوله عليه السلام في محرم وقصت به ناقته "لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا; فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا3" "وقوله عليه السلام في شهداء أحد "زملوهم بكلومهم ودمائهم; فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما4" . "وقوله عليه السلام "الهرة ليست بنجسة; فإنها من الطوافين والطوافات عليكم5" "وقوله عليه السلام في حديث المستيقظ "فإنه لا يدري أين باتت يده6" "وقوله عليه السلام في الصيد "فإن وقع في الماء فلا يؤكل لعل الماء أعان على قتله7" إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها فنزل جملتها منزلة المتواتر وإن كانت آحادها آحادا. فإن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساعاة حديث رقم 1582، وابن ماجة برقم 3383.
2 أخرجه مسلم بنحوه برقم 1109.
3 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1206، وأبو داود برقم 32138، والترمذي برقم 951.
4 أخرجه الإمام أحمد في الطهارة حديث رقم 75.
5 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 75.
6 أخرجه مسلم في الطهارة حديث رقم 278، وأبو داود برقم 103، والترمذي برقم 24، وابن ماجة برقم 393.
7 أخرجه مسلم فلي الصيد والذبائح حديث رقم 1929.
(3/412)
 
 
وعمل أصحاب النبي عليه السلام في هذا الباب ومناظرتهم ومشاورتهم
ـــــــ
قيل: لا تمسك لكم في هذه الأخبار; فإن فيها بيان تعليل بعض الأحكام لا بيان جواز القياس ولا يلزم من التنصيص على العلة جواز إلحاق غير المنصوص به كما لو قال الرجل أعتقت غانما لسواده لم يعتق جميع عبيده السود. وكذا لو تملك بمؤثر بأن قال: أعتقت غانما لحسن خلقه لم يلزم عتق غيره وإن كان غيره أحسن خلقا منه.
قلنا بل التمسك صحيح; فإن فائدة التعليل بيان كون العلة باعثة على الحكم ومؤثرة فيه فلو لم يجز إلحاق غير المنصوص بالمنصوص عند اشتراكها في العلة لأدى إلى تخلف الأثر عن المؤثر من غير مانع, وهو غير جائز ولخلا ذكره عن الفائدة بخلاف قوله أعتقت غانما لسواده أو لحسن خلقه; لأنه لا أثر لذلك التعليل في العتق فيكون ذكره كعدمه وذلك لأن الشرع علق أحكام الأملاك حصولا وزوالا بالألفاظ دون الإرادات المجردة حتى لو قال أعتقت أو طلقت غير قاصد للعتق والطلاق يثبت العتق والطلاق, ولو نوى عتقا أو طلاقا من غير لفظ يدل عليه لا يثبت به شيء فأما أحكام الشرع فتثبت بكل ما دل على رضا الشارع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا. يوضحه أن أحدا لو باع مال التاجر بمحضر منه بضعف ثمنه وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بالإجازة ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت دل سكوته على رضاه ويثبت الحكم به.
قوله "وعمل أصحاب النبي في هذا الباب" إشارة إلى متمسك آخر عول عليه أكثر الأصوليين, وهو الإجماع; فإنه قد ثبت بالتواتر أن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بالقياس وشاع وذاع ذلك فيما بينهم من غير رد وإنكار مثل ما اشتهر من مناظرتهم في مسألة الجد والإخوة ومسألة العول والمشتركة وميراث ذوي الأرحام وغيرها بالرأي واحتجاجهم فيها بالقياس ومثل مشاورتهم في أمر الخلافة; فإن كل واحد تكلم فيه برأيه إلى أن استقر الأمر على ما قاله عمر رضي الله عنه بطريق المقايسة والرأي حيث قال: ألا ترضون لأمر دنياكم بمن رضي به رسول الله لأمر دينكم فاتفقوا على رأيه وأمر الخلافة من أهم ما يترتب عليه أحكام الشرع, وقد اتفقوا على جواز العمل فيه بطريق القياس. وكذلك عمر رضي الله عنه جعل أمر الخلافة شورى بين ستة نفر فاتفقوا بالرأي على أن يجعلوا الأمر في التعيين إلى عبد الرحمن بعدما أخرج نفسه منها فعرض على علي رضي الله عنه على أن يعمل برأي أبي بكر وعمر فقال: أعمل بكتاب الله وسنة رسوله, ثم أجتهد رأيي, وعرض على عثمان رضي الله عنه هذا الشرط فرضي به فقلده وإنما كان ذلك منه عملا بالرأي لأنه علم أن الناس قد استحسنوا سيرة العمرين وشاوروا في حد شارب الخمر فقال علي رضي الله عنه: إذا شرب سكر, وإذا سكر هذى, وإذا هذى افترى فحده حد المفترين قاس حد
(3/413)
 
 
في هذا الباب أشهر من أن يخفى على عاقل مميز. فإن طعن طاعن فيهم
ـــــــ
الشارب على حد القاذف فأخذوا برأيه واتفقوا عليه ولما ورث أبو بكر رضي الله عنه أم الأم دون أم الأب قال له عبد الرحمن بن سهل رجل من الأنصار, وقد شهد بدرا لقد ورثت امرأة لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورثها فرجع أبو بكر إلى التشريك بينهما في السدس وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة: أقول فيها برأيي. وعن عمر رضي الله عنه أقضي في الجد برأيي. ولما سمع في الجنين الحديث قال: كدنا أن نقضي فيه برأينا وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي وعن علي رضي الله عنه اجتمع رأيي ورأي عمر على حرمة بيع أمهات الأولاد, وقد رأيت الآن أن أرقهن, وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قصة بروع أقول فيها برأيي وكتب عمر إلى أبي موسى في رسالته المشهورة اعرف الأشباه والنظائر, ثم قس الأمور برأيك وراجع الحق إذا علمته; فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل وأمثال هذه الآثار بحيث لا تحصى كثرة فلما ثبت عن هؤلاء العمل بالرأي ولم يظهر عن غيرهم إنكار عرفنا أنهم كانوا مجمعين على ذلك فيما لا نص فيه وكفى بإجماعهم حجة.
فإن قيل: لا نسلم عدم الإنكار; فإنه روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لما سئل عن الكلالة أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي. وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي إلى آخر ما ذكرنا وعن عثمان وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إن الله تعالى قال لنبيه {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يقل بما رأيت ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسوله إلى غير ذلك من الآثار, وقد مر بيان بعضها.
قلنا: قد اشتهر من هؤلاء الذين نقل الإنكار عنهم القول بالرأي والقياس بحيث لا وجه لإنكاره فيحمل ما نقل عنهم من الإنكار إن ثبت على ما كان من ذلك صادرا عمن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفا للنص أو للقواعد الشرعية أو لم يكن له أصل يشهد له بالاعتبار أو مستعملا فيما تعبدنا الله تعالى فيه بالعلم دون الظن جمعا بين النقلين بقدر الإمكان وذكر الغزالي رحمه الله في جواب هذا السؤال أنه قد ثبت بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة كميراث الجد والإخوة وتعين الإمام بالبيعة وجمع المصحف وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع روايات صحيحة ولم ينكرها أحد من الأمة فأورث ذلك علما ضروريا بقولهم بالرأي كما عرف سخاوة حاتم وشجاعة علي بمثل هذا
(3/414)
 
 
فقد ضل سواء السبيل ونابذ الإسلام. ومن ادعى خصوصهم فقد ادعى
ـــــــ
الدليل وما نقلوه بخلافه فأكثرها مقاطيع مروية من غير ثبت, وهي بأعيانها معارضة بروايات صحيحة عن صاحبها بنقيضها فكيف يترك المعلوم ضرورة بمثلها. ولو تساوت في الصحة لوجب طرح جميعها والرجوع إلى ما تواتر من مشاورات الصحابة واجتهاداتهم, ولو صحت هذه الروايات لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص إلى آخر ما ذكرنا. فإن قيل سلمنا عدم الإنكار لكن الإجماع السكوتي ليس بقاطع والمسألة قطعية فلا يصح التمسك بمثله فيها قلنا: هو إجماع قاطع عند كثير من الأصوليين منهم شمس الأئمة وآثر المظفر السمعاني صاحب القواطع وغيرهما على أنا لا نسلم أنه إجماع سكوتي; فإن جميع أهل الاجتهاد والفقه من الصحابة شرعوا في القياس والعمل بالرأي عند عدم النص فكان ذلك إجماعا فعليا منهم والذين سكتوا لم يكونوا من أهل الاجتهاد فلا يقدح سكوتهم في قطعية الإجماع.
قوله "فإن طعن طاعن فيهم فقد ضل عن سواء السبيل" حكى الجاحظ عن النظام أنه قال: لم يخض من الصحابة في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم كالخلفاء الأربعة وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير لكن لما كان منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهؤلاء سلاطين ومعهم الرغبة والرهبة انقادت لهم العوام وجاز للنافين السكوت على التقية; لأنهم قد علموا أن إنكارهم غير مقبول., وقال: ولو أن الصحابة لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا عن القول فيه من أعمال الرأي والقياس لارتفع بينهم الخلاف والتهارج ولم يسفكوا الدماء لكن لما عدلوا عما كلفوا وتحبروا وتأمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا للخلاف طريقا وتورطوا فيما بينهم من القتل والقتال وبمثله طعنت الرافضة فيهم أيضا فزعموا أن الصحابة تأمروا وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم العالم بجميع النصوص المحيطة بالأحكام إلى يوم القيامة فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف, فقال الشيخ رحمه الله من طعن فيهم فقد ضل على سواء السبيل; لأن ثناء الله تعالى عليهم في آيات من القرآن ومدح رسوله إياهم في أخبار كثيرة يدلان على علو منصبهم وارتفاع قدرهم عند الله ورسوله فكيف يعتقد العاقل القدح فيهم بقول مبتدع, مثل النظام وبقول الرافضة الذين هم أعداء الدين, ونابذ الإسلام أي أظهر عداوته ومحاربته لأن الدين وصل إلينا من قبلهم فمتى طعن فيهم لم يثبت بنقلهم شيء فكان الطعن فيهم عائدا إلى الإسلام في التحقيق.
قوله "ومن ادعى خصوصهم" إلى آخره زعم من عجز من نفاة القياس عن إنكار استعمال الصحابة الرأي في الأحكام وتحرز عن الطعن فيهم فرارا من الشنعة أن الصحابة
(3/415)
 
 
أمرا لا دليل عليه بل الناس سواء في تكليف الاعتبار وأما المعقول فهو أن
ـــــــ
كانوا مخصوصين بجواز العمل بالرأي إما بمشاهدتهم الرسول وأحوال نزول الوحي ومعرفتهم بقرائن الأحوال أن المراد من الحكم المختص بصورة معينة رعاية الحكمة العامة وعدم ذلك في حق غيرهم أو بطريق الكرامة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصا بأن قوله موجب للعلم قطعا تكريما له, والدليل عليه أنهم عملوا بالرأي فيما فيه نص بخلاف النص وذلك لم يجز لغيرهم كما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لصلح بين الأنصار فأذن بلال وأقام وتقدم أبو بكر رضي الله عنه فجاء رسول الله عليه السلام, وهو في الصلاة فأشار إلى أبي بكر أن امكث مكانك فرفع أبو بكر رضي الله عنه يده وحمد الله تعالى, ثم استأخر وتقدم رسول الله1", وقد كانت سنة الإمامة لرسول الله عليه السلام معلومة بالنص, ثم تقدم أبو بكر بالرأي, وقد أمره أن يثبت مكانه, ثم استأخر بالرأي. "وكتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية هذا ما صالح رسول الله فقال سهيل بن عمر: لو عرفناك رسولا ما حاربناك اكتب محمد بن عبد الله فأمر رسول الله عليه السلام عليا رضي الله عنه أن يمحو لفظ رسول الله فأبى حتى محاه الرسول عليه السلام بنفسه" وما كان هذا الإباء عملا بالرأي في مقابلة النص واشتغل معاذ حين سبق بنقض الصلاة بمتابعة الإمام بالرأي, وقد كان الحكم للمسبوق أن يبدأ بقضاء ما سبق به, ثم يتابع الإمام وكان هذا عملا بالرأي في موضع النص وفي نظائرها كثرة وكذلك عملوا بالرأي فيما لا يعرف بالرأي من المقادير نحو حد الشرب كما قال علي رضي الله عنه ثبت بآرائنا فيثبت أنهم كانوا مخصوصين بالعمل بالرأي فقال الشيخ رحمه الله من ادعى خصوصهم أي تفردهم بجواز العمل بالرأي فقد ادعى أمرا لا دليل عليه لأن النص الموجب للاعتبار يعم الجميع ولا دليل على أن المراد منه الصحابة خاصة دون غيرهم فكان ادعاء كونهم مخصوصين بالعمل به دعوى بلا دليل قال شمس الأئمة رحمه الله: ومن لا يرى إثبات شيء بالقياس مع أنه حجة كيف يرى إثبات أمر بمجرد الدعوى من غير دليل, وأما دعوى الخصوص بناء على مشاهدة أحوال الوحي ومعرفة المراد بقرائن الأحوال ففاسدة; لأنها تخالف الإجماع; فإن أحدا لم يفرق بين الصحابة وغيرهم. وكذا دعواهم ذلك بطريق الكرامة أن الكرامة إنما تثبت بطاعة الله ورسوله وتعظيم النص بترك الرأي في مقابلته لا بإظهار المخالفة لأمر الله ورسوله بالرأي وإنما عملوا بخلاف النص في بعض الحوادث لفهمهم بقرائن الأحوال أو غيرها أن ذلك ترخص, وأن التمسك بالعزيمة أولى, ففي حديث الإمامة على الصديق رضي الله عنه أن إشارة النبي عليه السلام بأن
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 421. وأبو داود حديث رقم 940.
(3/416)
 
 
الاعتبار واجب بنص القرآن, وهو النظر والتأمل فيما أصاب من قبلنا من المثلات
ـــــــ
يثبت مكانه كانت على سبيل الترخص والإكرام له فحمد الله تعالى على ذلك, ثم تأخر تمسكا بالعزيمة الثابتة بقوله جل جلاله {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وإليه أشار بقوله ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله, وكذلك التمسك بالعزيمة كان في التقدم للإمامة قبل حضور رسول الله عليه السلام مراعاة لحق الله تعالى في أداء الصلاة في الوقت المعهود والتأخر إلى الحضور كان رخصة. وكذلك علم علي رضي الله عنه أن الأمر بالمحو لم يكن للإلزام فلم يقصد به إلا تتميم الصلح فرأى إظهار الصلابة في الدين بمحضر من المشركين عزيمة, ثم الرغبة في الصلح مندوب إليه للإمام بشرط أن يكون منه منفعة للمسلمين وتمام هذه المنفعة في أن يظهر الإمام المسامحة والمساهلة فيما يطلبون ويظهر المسلمون القوة والشدة في ذلك ليعلم العدو أنهم لا يرغبون في الصلح لضعفهم فلهذا أبى علي رضي الله عنه عن ذلك. وكذلك عرف معاذ رضي الله عنه أن في البداية بالفائت للمسبوق معنى الرخصة ليكون الأداء عليه أيسر وإن العزيمة متابعة رسول الله عليه السلام واغتنام ما أدركه معه فاشتغل بإحراز ذلك أولا تمسكا بالعزيمة لا مخالفة للنص, وأما حد الشرب فثابت بالإجماع وإن كان مستنده الاستدلال بحد القذف والحكم الثابت بالإجماع لا يكون محالا به على الرأي كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وأما المعقول", فكذا استدل أولا بعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} على أن العمل بالقياس واجب وإنه داخل في عمومه فاعترض عليه أن النص إنما يتناول الاعتبار بأمر ثابت بالنص كالاعتبار بالمثلات دون الرأي فقال إن سلمنا أن النص ورد فيما ذكرتم فالقياس في معناه فيلحق به. والحاصل أن الأول استدلال بعبارة النص وهذا استدلال بدلالته لأنه ثابت بمعناه اللغوي إلا أنه سماه دليلا معقولا لأن الوقوف عليه يحصل بالتأمل والتفكر لا بظاهر النص وصيغته وهذا التقدير إلى آخره هو الجواب الموعود عن السؤال المذكور, وهو الكفر أي السبب المنقول عنهم الكفر ليكف عنها أي يمتنع عن تلك الأسباب للتحرز عن مثل ما أصاب من قبلنا من الجزاء يعني وجوب النظر والتأمل فيما أصابهم بتلك الأسباب ليس هو المقصود بعينه بل لنعتبر أحوالنا بأحوالهم فكيف عما أسبق جوابه ما لحقهم من العذاب; فإن المقصود من الاعتبار الاتعاظ بالغير. وإذا كان كذلك لم يكن فرق بين حكم هو هلاك في محل باعتبار معنى هو كفر وبين حكم هو تحليل أو تحريم في محل باعتبار معنى هو قدر وجنس فالتنصيص على الأمر بالاعتبار في أحد الموضعين يكون تنصيصا على الأمر به في الموضع الآخر دلالة. واللام في ليكف متعلقة بالنظر
(3/417)
 
 
بأسباب نقلت عنهم لنكف عنها احترازا عن مثله من الجزاء, وكذلك التأمل في حقائق اللغة لاستعارة غيرها لها سائغ والقياس نظيره بعينه لأن الشرع شرع أحكاما بمعاني أشار إليها كما أنزل مثلات بأسباب قصها ودعانا إلى التأمل ثم الاعتبار وبيان ذلك في الأصل في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] فالإخراج من
ـــــــ
والتأمل وكذلك التأمل أي كما أن التأمل في أحوال من قبلنا واجب لنعتبر أحوالنا بأحوالهم.
"التأمل في حقائق اللغة" أي في معاني الألفاظ لاستعارة غيرها أي غير ألفاظها الدالة عليها بالوضع لها أي لتلك الحقائق والمعاني سائغ أي جائز كالتأمل في معنى الشجاع, وهو الإنسان الموصوف بالشجاعة لاستعارة غير لفظه, وهو الأسد الدال على الهيكل المعلوم لذلك الإنسان باعتبار أن الشجاعة من الأوصاف المشهورة لذلك الهيكل سائغ بلا خلاف, فكذا التأمل في الأصل والفرع لتعرف المعنى الذي هو مناط الحكم وتعدية حكم الأصل إلى الفرع يكون جائزا أيضا ولو قيل: وكذلك التأمل في حقائق اللغة لاستعارتها لغير موضوعاتها سائغ لكان موافقا لما ذكر شمس الأئمة وغيره, وهو أن التأمل في معنى الثابت بإشارة صاحب الشرع بمنزلة التأمل في معنى اللسان الثابت بوضع واضع اللغة, ثم التأمل في ذلك للوقوف على طريق الاستعارة حتى نجعل ذلك اللفظ مستعارا في محل آخر بطريقه جائز مستقيم من عمل الراسخين في العلم فكذلك التأمل في معاني النص لإثبات حكم النص في كل موضع علم أنه مثل المنصوص عليه; لأنا لا نعرف المؤثر إلا بالسماع من صاحب الشرع كما لا يعرف طريق الاستعارة إلا من العرب فكان البابان واحدا غير أن المصير إلى أحدهما بالسماع من صاحب الشرع وفي الآخر من العرب. وقال القاضي الإمام أيضا إنا أحيينا بالق