كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي
المؤلف : عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري (المتوفى : 730هـ)
 
والأصل في الغاية إذا كان قائما بنفسه لم يدخل في الحكم مثل قول الرجل من هذا البستان إلى هذا البستان وقول الله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة فيكون الغاية
ـــــــ
وبخلاف اليمين الموقتة إلى شهر لأن اليمين ثابتة للحال وتقبل التوقيت فتتوقت كالإجارة فأما انعقاد اليمين فلا يقبل التأجيل فلم ينصرف إليه وانعقد للحال كذا في الأسرار. وبيان ما ذكر في الكتاب أن التأجيل لتأخير ما يدخل فيه كتأجيل الدين وهاهنا دخل على أصل الطلاق لأن قوله إلى شهر دخل في قوله أنت طالق كما دخل قوله بعتك بألف إلى شهر في الألف إلا أن ثبوت نفس الدين لا يقبل التأجيل فانصرف إلى المطالبة وثبوت الطلاق يقبله فانصرف التأجيل إليه فأوجب تأخيره
قوله "والأصل في الغاية" إلى آخره لما كان بعض الغايات الثابتة بهذه الكلمة غير داخلة في حكم المغيا كالليل في الصيام وبعضها داخلة فيه كالمرفق في غسل اليد لا بد من ضابط لذلك. فقال الأصل فيها أنها إذا كانت قائمة بنفسها بأن تكون موجودة قبل التكلم ولا تكون مفتقرة في وجودها إلى المغيا لم تدخل تحت الحكم الثابت له لأنها إذا كانت قائمة بنفسها لا يمكن أن يستتبعها المغيا مثل قوله بعت من هذا البستان إلى هذا البستان. وقوله لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط فإن الغايتين لا تدخلان في البيع والإقرار. ولا يلزم على هذا قوله سبحانه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} "الإسراء: 1". حيث دخل المسجد الأقصى تحت الإسراء فقد ثبت أن النبي عليه السلام دخل المسجد الأقصى. لأنا نقول ثبت ذلك بالأحاديث المشهورة لا بموجب هذا الكلام.
إلا أن يكون استثناء من قوله لم يدخل في الحكم أي لا تدخل الغاية تحت حكم المغيا إذا كانت قائمة بنفسها إلا إذا كان صدر الكلام واقعا على الجملة أي المغيا والغاية جميعا فحينئذ تدخل لأن صدر الكلام لما كان واقعا على الجملة قبل ذكر الغاية وبعد ذكرها لا يتناول إلا البعض منها كان المقصود من ذكر الغاية إسقاط ما وراءها ضرورة والاسم يتناول موضع الغاية فبقي داخلا تحت صدر الكلام لتناول الاسم إياه. مثل ما قلنا في المرافق أنها داخلة تحت الغسل وهو مذهب عامة العلماء لأن المقصود من ذكر المرافق إسقاط ما ورائها إذ لولا ذكرها لاستوعبت الوظيفة كل اليد فلا تدخل تحت الإسقاط بل بقيت داخلة تحت الوجوب بمطلق اسم اليد ولهذا فهمت الصحابة من إطلاق الأيدي في التيمم الأيدي إلى الإباط كذا في بيوع المبسوط.
(2/266)
 
 
لإخراج ما وراءها فيبقى داخلا بمطلق الاسم مثل ما قلنا في المرافق ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الغاية في الخيار أنه يدخل وكذلك في الآجال
ـــــــ
فإن قيل لا بد للجار والمجرور من متعلق وهو قوله {فَاغْسِلُوا} "المائدة: 6" في هذه الآية فكيف يمكن جعله غاية للإسقاط وأنه ليس بمذكور ولا مضمر.
قلنا تعلق الجار والمجرور بالغسل ظاهرا ولكن المقصود هو الإسقاط دون مد الحكم كما قال زفر رحمه الله فالمرفق غاية للغسل لفظا وظاهرا وغاية للإسقاط معنى ومقصودا والعبرة للمعاني دون الظواهر. وذكر صاحب الكشاف فيه في تفسير هذه الآية أن كلمة إلى تفيد معنى الغاية مطلقا فأما دخولها في الحكم وخروجها منه فأمر يدور مع الدليل. فما فيه دليل على الخروج قوله تعالى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} "البقرة: 280". لأن الإعسار علة الإنظار وبوجود الميسرة تزول العلة ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسرا أو موسرا فتبطل الغاية. وكذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . إذ لو دخل لوجب الوصال.
ومما يدل على الدخول قولك قرأت القرآن من أوله إلى آخره لأن الكلام سيق لحفظ القرآن كله فقوله إلى المرافق وإلى الكعبين لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ عامة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. ولهذا أي ولما ذكرنا أن الصدر إذا كان متناولا للجملة تدخل الغاية قال أبو حنيفة رحمه الله إذا باع بشرط الخيار إلى الغد أو إلى الليل أو إلى الظهر تدخل الغاية في مدة الخيار لأن الغاية هاهنا حد الإسقاط فإنه لو شرط الخيار مطلقا يثبت الخيار مؤبدا ولهذا فسد العقد ألا ترى أنه لو أسقط الخيار في الثلاث عنده وبعد أي مدة كانت عندهما ينقلب جائزا فعرفنا أنه منعقد بصفة الفساد وإذا كان كذلك كان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها فتبقى داخلة تحت الجملة كالمرافق في الوضوء. بخلاف الأجل في الدين لأن الغاية فيه لمد الحكم إلى موضع الغاية لأن الأجل للترفية فمطلق الاسم يتناول أدنى ما يحصل به الترفية. وبخلاف الإجارة فإن الغاية فيها لا تدخل في مدة الإجارة أيضا لأنها عقد تمليك المنفعة بعوض فمطلقها لا يوجب إلا أدنى ما يتناوله الاسم وذلك مجهول ولأجل الجهالة يفسد العقد فكان ذكر الغاية لبيان مقدار المعقود عليه وذلك بمد الحكم إلى موضع الغاية. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا تدخل الغاية في مدة الخيار لأن الغد جعل غاية والأصل أن الغاية لا تدخل في الصدر إلا بدليل ولهذا سميت غاية لأن الحكم ينتهي إليها دل عليه الصوم إلى الليل والأكل إلى الفجر ولهذا لو آجر داره إلى رمضان أو باع بأجل إلى رمضان أو حلف لا يكلمه إلى رمضان لم يدخل رمضان تحت الجملة لأنه غاية. ولا يلزم علينا
(2/267)
 
 
في الأيمان في رواية حسن بن زياد عنه وقال في قوله لفلان علي من درهم إلى
ـــــــ
المرافق فإنها دخلت تحت الجملة لأن ذلك ثبت بالسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين علم الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به غسل المرافق هكذا حكى الحاكي الوضوء كذا في المبسوط والأسرار. وذكر القاضي الإمام في آخر هذه المسألة أن مذهبهما أوضح لأن قوله إلى غد قرن بالخيار فصار مدا للخيار إليه وكذلك المرفق قرن بالغسل والكلام إذا قرن به غاية أو استثناء أو شرط لا يعتبر بالمفصول عن القيد ثم التعبير بالقيد عن حال الإطلاق بل يعتبر مع القيد جملة واحدة لما عرف في مسألة تعليق الطلاق للشرط ومتى جعل كلاما واحدا للإيجاب إلى غد لا الإيجاب والإسقاط لأنهما ضدان فلا يثبتان إلا بنصين والنص مع الغاية نص واحد. ولأن مسألة اليمين لازمة على طريق أبي حنيفة والاعتماد على رواية الأصل دون رواية الحسن
قوله "وكذلك في الآجال في الأيمان" أي وكما تدخل الغاية في الجملة في مسألة الخيار عنده لما ذكرنا من المعنى تدخل الآجال المذكورة في الأيمان أيضا بأن حلف لا يكلم فلانا إلى رجب أو إلى رمضان أو إلى الغد في الجملة عنده أيضا في رواية الحسن عنه لذلك المعنى فإن مطلق كلامه يقتضي التأبيد فيكون ذكر الغاية لإخراج ما ورائها. ولا تدخل في ظاهر الرواية عنه وهو قولهما لأن في حرمة الكلام ووجوب الكفارة بالكلام في موضع الغاية شكا كذا قال شمس الأئمة رحمه الله ولأن الكلام في أصل الوضع لا يقتضي العموم والتأبيد بل مطلقه يتناول أدنى ما ينطلق عليه الاسم كاسم الصيام يتناول أدنى الإمساك واقتضاؤه للتأبيد في قوله لا أكلم بالعارض وهو وقوعه في موضع النفي لا بأصل الوضع فكان عندنا في حكم الغاية لأن كون الغاية للمد أو للإسقاط بالنظر إلى أصل الوضع لا باعتبار العوارض فكان ذكر الغاية لمد الحكم بالنظر إلى أصل الوضع لا للإسقاط فلا تدخل الغاية تحت الجملة كما لو قال والله لأكلمن فلانا إلى الليل أو إلى الغد بخلاف اسم اليد فإنه يتناول جميع العضو المعلوم بأصل الوضع فيكون ذكر الغاية للإسقاط. ووقع في بعض النسخ وكذلك في الآجال والأيمان وفي بعضها في الآجال وفي الأيمان وفي بعضها وفي الأثمان بالثاء المثلثة وكل ذلك سهو لأن قوله في رواية الحسن إن اتصل بالجميع يقتضي أن يكون في الآجال روايتان وإن اتصل بالأخير يقتضي أن يكون الآجال داخلة في الجملة عند رواية واحدة وكل ذلك فاسد لأن الأجل في الدين والبيع المؤجل والإجارة لا يدخل في الجملة بالاتفاق.
قال شمس الأئمة وفي الآجال والإجارات لا يدخل الغاية لأن المطلق لا يقتضي
(2/268)
 
 
عشرة لم يدخل العاشر لأن مطلق الاسم لا يتناوله وقالا يدخل لأنه ليس بقائم بنفسه وكذلك هذا في الطلاق وإنما دخلت الغاية الأولى للضرورة.وأما "في"
ـــــــ
التأبيد وفي تأخير المطالبة وتمليك المنفعة في موضع الغاية شك فثبت أن الصحيح من النسخ ما ذكرناه أولا
قوله "وقال" أي أبو حنيفة رحمه الله في قوله لفلان علي من درهم إلى عشرة لم يدخل الدرهم العاشر في الوجوب فيلزمه تسعة لأن مطلق اسم الدرهم لا يتناول العاشر فيكون ذكره لمد الوجوب إليه فلا يدخل. وقالا تدخل الغاية الأخيرة كالأولى. لأنه أي العاشر ليس بقائم بنفسه إذ لا تحقق للعاشر إلا بوجود تسعة أخرى قبله كما لا تحقق للأول إلا بوجود ثان بعده فلا يكون كل واحد منهما غاية ما لم يكن ثابتا وذلك بالوجوب. وكذلك هذا في الطلاق يعني ما ذكرنا من دخول الغاية الأولى دون الأخيرة عنده ودخول الغايتين عندهما ثابت في قوله أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لما ذكرنا من الدليل من الجانبين.
وذكر الشيخ في بعض نسخة في هذه المسألة هما يقولان أنه جعل المشروع غاية فلا بد من وجوده ليصلح غاية ووجوده بوقوعه وثبوته. وتحقيق ذلك أنه أوقع طلاقا موصوفا بوصف أنه بين الأولى والثالثة فلا يقع حتى يوجد إذ وجودهما بوقوعهما فإذا وقعا لم يرتفعا بعد ذلك فلهذا اقتضى دخولهما في المغيا وإنما دخلت الأولى أي الغاية الأولى عند أبي حنيفة للضرورة وهي أنه إنما أوقع ما بين الأولى والثالثة بنصه فيكون ثانية والثانية على حقيقتها لا يتصور إلا بالأولى فاقتضى ذلك دخول الأولى لتصير هي ثانية ولم يقتض دخول الثالثة لأن الثابتة ثانية بلا ثالثة فعملنا بالغاية الأولى على مجازها عملا بحقيقة الثانية لأنها هي الواقعة والحكم المطلوب بهذا الإيجاب فكان طلب حقيقته أولى من طلب حقيقة الغاية بخلاف ما إذا قال أنت طالق ثانية فإنها تقع واحدة لأن الثانية تلغو ولم يمكن إثباتها بالواحدة قبلها لأنه لم يجر لها ذكر يحتمل الثبوت والطلاق لا يثبت إلا بلفظ وقد جرى في مسألة الغاية ما يحتمل الثبوت لأن الغاية قد تدخل في الجملة إذا قام دليله ألا ترى أن رجلا لو قال لآخر كل من هذا الطعام إلى عشر لقمات كان له أن يأكل اللقمة العاشرة ولو قال اشتر لي عبدا إلى ألف درهم دخل الألف وكذلك الكفالة عن رجل إلى ألف لأن دلالة الحال دلت عليه فإن الإنسان لا يكفل إلى ألف درهم إلا وهو راض بتمامها وكذا الشراء وكذا إباحة الطعام فإنه قل ما يجري الضمن بلقمة واحدة فأما الطلاق فدلالة الحال تمنع الدخول لأن الرجل يحترز عن الثالثة أشد الاحتراز. وكذا الإقرار لأنه إخبار فينتهي صحته على ثبوت المخبر عنه وثبوت تسعة لا يدل على ثبوت العاشر ليدخل تحته بدلالة الحال فبقي الأمر على ظاهره كذا في الأسرار.
(2/269)
 
 
فللظرف وعلى ذلك مسائل أصحابنا رحمهم الله ولكنهم اختلفوا في حذفه وإثباته في ظروف الزمان وهو أن تقول أنت طالق غدا أو في غد وقالاهما سواء وفرق أبو حنيفة بينهما فيما إذا نوى آخر النهار على ما ذكرنا في موضعه
ـــــــ
قوله "وأما في فللظرف" هذه الكلمة تجعل ما تدخل هي عليه ظرفا لما قبلها ووعاء له فإذا قلت الخروج في يوم الجمعة فقد أخبرت أن اليوم قد اشتمل على الخروج وصار وعاء له وكذلك قولك الركض في الميدان وزيد في الدار هذا أصل هذه الكلمة ثم قيل زيد ينظر في العلم وأنا في حاجتك مجازا على معنى أن العلم جعل وعاء لنظره وتأمله وعلى معنى أنه لما صرف العناية إلى حاجته صارت كأنها قد اشتملت عليه لغلبتها على قلبه وهمه وعلى ذلك مسائل أصحابنا أي على أنها للظرف بنيت مسائل أصحابنا فإذا قال غصبتك ثوبا في منديل أو تمرا في قوصرة يلزمه كلاهما لأنه أقر بغصب مظروف في ظرف ولا يتحقق ذلك إلا بغصبه إياهما. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هما سواء أي قوله أنت طالق غدا وأنت طالق في غد سواء في الحكم حتى لو نوى آخر النهار في قوله في غد لا يصدق قضاء لأن حذف حرف في وإثباته في الكلام سواء إذ لا فرق بين قوله خرجت يوم الجمعة وقوله خرجت في يوم الجمعة وسكنت الدار وسكنت في الدار وقد أجمعنا أنه لو قال غدا ونوى آخر النهار يصدق ديانة لا قضاء فكذا إذا قال في غد ألا ترى أن قوله غدا معناه في غد إلا أنه حذف عنه حرف الظرف اختصارا فكان كالمصرح به في الحكم.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين المسألتين فيما إذا نوى آخر النهار فقال في قوله في غد يصدق ديانة وقضاء وفي قوله غدا يصدق ديانة لا قضاء. على ما ذكرنا في موضعه أي من شرح الجامع الصغير والمبسوط أن الظرف إذا اتصل به الفعل بغير واسطة اقتضى استيعابه إن أمكن لأنه حينئذ شابه المفعول به من حيث إنه صار معمولا للفعل ومنصوبا به ألا ترى أنه إذا اتسع في مثل هذا الظرف ولم يقدر فيه حرف في أخذ حكم المفعول به حتى إذا أخبرت عنه بالذي عملت به ما عملت بالمفعول به فقلت في مثل قولك متسعا سرت يوم الجمعة الذي سرته يوم الجمعة كما تقول الذي ضربته زيد ولم يقل الذي سرت فيه يوم الجمعة. وإذا اتصل به الفعل بواسطة حرف الظرف اقتضى وقوعه في جزء منه إذ ليس من ضرورة الظرفية الاستيعاب. وإذا ثبت ذلك قلنا إذا قال غدا ونوى آخر النهار لم يصدق قضاء لأن الطلاق اتصل بالغد بلا واسطة فاقتضى استيعاب الغد أعني كونها موصوفة بالطلاق في جميع الغد فلا بد من أن يكون واقعا في أوله ليحصل الاستيعاب فإذا نوى آخر النهار فقد غير موجب كلامه إلى ما هو تخفيف عليه فلا يصدق
(2/270)
 
 
أن حرف الظرف إذا سقط اتصل الطلاق بالغد بلا واسطة فيقع في كله فيتعين وله فلا يصدق في التأخير وإذا لم يسقط حرف الظرف صار مضافا إلى جزء منه مبهم فيكون نيته بيانا لما أبهمه فيصدقه القاضي وذلك مثل قول الرجل إن صمت الدهر فعلي كذا أنه يقع على الأبد وإن صمت في الدهر يقع على ساعة
ـــــــ
قضاء ولكنه يصدق ديانة لأنه نوى محتمل كلامه. وأما إذا قال في غد فموجب كلامه الوقوع في جزء من الغد مبهم وإليه ولاية التعيين كما لو طلق إحدى نسائه فإذا نوى آخر النهار كانت نيته تعيينا لما أبهمه لا تغييرا للحقيقة فيصدق قضاء كما يصدق ديانة وإذا لم ينو شيئا كان الجزء الأول أولى لعدم المزاحم والسبق فلذلك يقع فيه. ثم استوضح ما ذكر من الفرق فقال وذلك أي الفرق الذي ذكرنا مثل الفرق بين هاتين المسألتين فإنه إذا قال: إن صمت الدهر فكذا. كان شرط الحنث صوم جميع العمر ولو قال: إن صمت في الدهر كان شرط الحنث صوم ساعة معناه أن ينوي الصوم إلى الليل في وقته ثم يفطر بعد ذلك.
قوله "وإذا أضيف" أي قوله أنت طالق إلى المكان بأن قيل أنت طالق في الدار أو في الظل أو في الشمس طلقت في الحال حيثما كانت لأن المكان لا يصلح ظرفا للطلاق إذ الظرف للشيء بمنزلة الوصف له وما كان وصفا للشيء لا بد من أن يكون صالحا للتخصيص والمكان لا يصلح مخصصا للطلاق بحال لأنه إذا وقع في مكان كان واقعا في الأمكنة كلها وكذا المرأة إذا اتصفت به في مكان توصف به في جميع الأمكنة وإذا لم يصلح مخصصا لا يمكن أن تجعل بمعنى الشرط. ألا ترى أنه لو جعل بمعنى الشرط وهو موجود كان تنجيزا أيضا لأن التعليق بأمر كائن تنجيز. بخلاف إضافته إلى الزمان لأن الزمان يصلح مخصصا له إذ الطلاق يكون واقعا في زمان دون زمان فإذا أضافه إلى زمان معدوم في الحال يمكن أن يجعل بمعنى المعلق به فلا يقع في الحال. ألا أن يراد به أو بقوله في الدار مثلا إضمار الفعل بأن أريد به في دخولك الدار فحينئذ لا تطلق في الحال لأنه ذكر المحل وإرادته الفعل الحال فيه. أو ذكر المسبب وأراد به السبب إذ الدخول في الدار سبب كينونتها فيها وكل ذلك من أنواع المجاز فكان ما نوى محتمل كلامه فيصح إرادته وصار الدخول مضمرا في الكلام وإذا صار مضمرا كان في معنى الشرط لما سنذكره. إذا قال أنت طالق في دخولك الدار لم تطلق قبل الدخول لأن الفعل لا يصلح ظرفا للطلاق على معنى أن يكون شاغلا له لأنه عرض لا يبقى فتعذر العمل بحقيقة في فيجعل مستعارا لمعنى المقارنة لأن في الظرف معنى المقارنة إذ من قضيته الاحتواء على المظروف فيقارنه بجوانبه الأربعة فصار بمعنى مع فيتعلق وجود الطلاق بوجود الدخول لأن قران الشيء بالشيء يقتضي وجوده ضرورة فكان من ضرورته تعلقه بوجود الدخول إلا أنه لا يكون شرطا
(2/271)
 
 
وإذا أضيف إلى المكان فقيل أنت طالق في مكان كذا وقع للحال إلا أن يراد به إضمار الفعل فيصير بمعنى الشرط وقد يستعار هذا الحرف للمقارنة إذا نسب إلى الفعل فقيل أنت طالق في دخول الدار لأنه لا يصلح ظرفا وفي الظرف معنى المقارنة فجعل مستعارا بمعناه فصار بمعنى الشرط وعلى هذا مسائل
ـــــــ
محضا لأنه يقع الطلاق مع الدخول لا بعده فلهذا قال بمعنى الشرط. وقال بعضهم يجعل مستعارا لمعنى الشرط لمناسبة بينهما من حيث إن كل واحد من الظرف والشرط ليس بمؤثر فيتعلق الجزاء به فعلى هذا يقع الطلاق متأخرا عن الدخول كما لو قال إن دخلت الدار ولكن الأول أصح فإنه لو قال لأجنبية أنت طالق في نكاحك فتزوجها لا تطلق كما لو قال مع نكاحك ولو جعل مستعارا للشرط لطلقت كما لو قال أنت طالق إن تزوجتك إليه أشار القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله.
والضمير في قوله بمعناه راجع إلى ما يرجع إليه ضمير جعل وهو حرف في والباء للسببية أي جعل حرف في مستعارا لمعنى المقارنة باعتبار معناه. أو الضمير راجع إلى المقارنة بتأويل القرآن والباء بمعنى اللام أي جعل حرف في مستعارا لمعنى المقارنة. "وعلى هذا" أي على أن في تصير بمعنى الشرط بنيت مسائل في الزيادات. قال شيخ الإسلام صاحب الهداية في شرح الزيادات إذا قال أنت طالق في مشيئة الله أو في إرادته أو في رضاه أو في محبته أو في أمره وفي إذنه أو في حكمه أو في قدرته لا يقع الطلاق أصلا إلا في علم الله فإنه يقع الطلاق فيه في الحال لأن كلمة في للظرفية حقيقة إلا إذا تعذر حملها على الظرفية بأن صحبت الأفعال فيحمل على التعليق لمناسبة بينهما من حيث الاتصال والمقارنة غير أنه إنما يصح حملها على التعليق إذا كان الفعل مما يصح وصفه بالوجود وبضده ليصير في معنى الشرط فيكون تعليقا والمشيئة والإرادة والرضاء والمحبة مما يصح وصف الله تعالى به, وبضده فإنه يصح شاء الله كذا ولم يشأ كذا وأراد ولم يرد وأحب ولم يحب وكذا الأمر والرضاء والحكم والإذن فكان إضافة الطلاق إليها تعليقا والتعليق بها بحقيقة الشرط إبطال للإيجاب فكذا هذا, أما العلم فلا يصح وصف الله تعالى بضده لأن علمه محيط بجميع الأشياء {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} فكان التعليق به تحقيقا وتنجيزا فيقع الطلاق في الحال. ويشكل على ما ذكرنا القدرة فإنه لا يصح وصفه تعالى بضدها ومع ذلك لم يقع الطلاق لكن الجواب عنه أن القدرة هاهنا بمعنى التقدير وقرئ قوله تعالى. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} "المرسلات: 23". بالتخفيف والتشديد وكذا قوله تعالى {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} "النمل: 57"
(2/272)
 
 
الزيادات أنت طالق في مشيئة الله وإرادته وأخواتهما فإن الطلاق لا يقع كأنه قال إن شاء الله إلا في علم الله لأنه يستعمل في المعلوم ولا يصلح شرطا بل يستحيل وإذا قال أنت طالق في الدار وأضمر الدخول صدق فيما بينه وبين الله تعالى فيصير بمعنى ما قلنا وعلى هذا قال لفلان علي عشرة دراهم يلزمه عشرة
ـــــــ
والتقدير مما يصح وصف الله تعالى به وبضده لأنه لا يصح أن يقال قدر الله كذا ولا يقدر كذا فيكون بمنزلة المشيئة والإرادة فلا يقع الطلاق بإضافته إليها.
قوله "إلا في علم الله" استثناء من قوله لا يقع. "لأنه" أي العلم يستعمل في المعلوم استعمالا شائعا يقال اغفر اللهم علمك فينا أي معلومك ويقال علم أبي حنيفة ويراد معلومه ولهذا لو حلف بعلم الله لا يكون يمينا وإذا كان مستعملا بمعنى المعلوم يستحيل أن يجعل بمعنى الشرط لأن الشرط ما يكون على خطر الوجود ومعلوم الله تعالى متحقق لا محالة وإذا كان كذلك كان واقعا في الحال لأنه جعل معلوم الله تعالى ظرفا للطلاق وإنما يكون الطلاق في معلومه أن لو كان واقعا في الحال لأنه لو لم يكن واقعا لكان عدمه في معلومه. قال شمس الأئمة في أصول الفقه. فإن قيل لو قال في قدرة الله لم يطلق وقد يستعمل القدرة بمعنى المقدور فقد يقول من يستعظم شيئا هذا قدرة الله. قلنا معنى هذا استعمال أنه أثر قدرة الله إلا أنه قد يقام المضاف إليه مقام المضاف ففهم المقدور من المضاف المحذوف لا من المضاف إليه ومثله لا يتحقق في العلم إذ القدرة من المؤثرات بخلاف العلم ألا ترى أنه يجوز أن يقال الله تعالى معلوم لنا ولا يجوز أن يقال الله مقدورنا.
قوله "وعلى هذا" أي على أن هذا الحرف يستعار للمقارنة حمل على مع في هذه المسألة عند النية فإذا قال لفلان علي عشرة دراهم في عشرة دراهم يلزمه عشرة دراهم عندنا إلا أن يعني معنى مع فيلزمه عشرون. وقال زفر رحمه الله يلزمه عشرون بكل حال. وقال الحسن يلزمه مائة ; لأن العشرة في العشرة في متعارف الحساب مائة فيحمل عليها. إلا أنا نقول أثر الضرب في تكثير الأجزاء إلا في زيادة المال وعشرة دراهم وزنا وإن تكثر أجزاؤها لا تصير أكثر من عشرة. وزفر رحمه الله يقول لما تعذر العمل بحقيقة هذا الحرف لأن العدد لا يكون ظرفا لمثله بلا شبهة حمل على مع أو واو العطف لما ذكرنا أن في الظرف معنى المقارنة والجمع قال الله تعالى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} "الفجر: 29" أي معهم. وإنا نقول جهة المجاز هاهنا متعددة فإن في قد يكون بمعنى على وبمعنى من كما يكون بمعنى مع قال تعالى إخبارا {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} "طه: 71". أي عليها وقال
(2/273)
 
 
دراهم لأنه لا يصلح للظرف فلغو إلا أن ينوي به معنى مع أو واو العطف فيصدق لما قلنا إن في الظرف معنى المقارنة فيصير من ذلك الوجه مناسبا لمع وللعطف فيلزمه عشرون وكذلك قوله أنت طالق واحدة في واحدة فهي واحدة وإن نوى معنى مع وقعا قبل الدخول وإن نوى الواو وقعت واحدة.
ـــــــ
عز اسمه {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} "النساء: 5". أي منها وليس أحد الوجوه أولى من الباقي فيعتبر أول كلامه فيلزمه عشرة ويلغو آخره. إلا أن يقول عنيت هذه وهذه فحينئذ يعمل بيانه لأنه بين أنه استعمله بمعنى مع أو بمعنى الواو وفيه تشديد عليه فيصدق. ولا يقال معنى على أو من لا يستقيم هاهنا إذ لا يقال علي عشرة علي عشرة ولا علي عشرة من عشرة فكان معنى المقارنة متعينا فوجب الحمل عليه من غير نية كما قال زفر. لأنا نقول المال لا يجب بالشك لأن البراءة أصل وقد أمكن حمل كلامه على تكثير الأجزاء فلا وجه للمصير إلى المجاز وإيجاب الزيادة من غير قصد.
قوله "وكذلك" أي ومثل قوله لفلان علي عشرة في عشرة قوله أنت طالق واحدة في واحدة في أنه يعتبر المذكور الأول عند عدم النية فيقع واحدة سواء كانت المرأة مدخولا بها أو لم تكن ويصح إرادة مع أو الواو إلا أنه إذا أراد مع لا يفترق الحال بين المدخول بها وغير المدخول بها فتقعان جميعا وإن أراد الواو يقع ثنتان في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها كما لو صرح بالواو فقال أنت طالق واحدة وواحدة.
(2/274)
 
 
"حروف القسم"
ومن ذلك حروف القسم وهي الباء والواو والتاء وما وضع لذلك وهو ايم الله تعالى وما يؤدي معناه وهو لعمر الله فأما الباء فهي للإلصاق وهي دالة على فعل محذوف معناه أقسم له أو أحلف بالله وكذلك في سائر الأسماء والصفات وكذلك في الكنايات تقول بك لأفعلن كذا وبه لأفعلن كذا فلم يكن لها اختصاص القسم.
وأما الواو فإنها استعيرت بمعنى الباء لأنها تناسب صورة ومعنى أما الصورة فإن صورتها وجودها من مخرجها بضم الشفتين مثل الباء وأما المعنى فإن عطف الشيء على غيره نظير إلصاقه به فاستعير له إلا أنه لا يحسن إظهار
ـــــــ
"حروف القسم"
قوله "ومن ذلك" أي ومن باب حروف الجر ومن باب حروف المعاني حروف القسم. والقسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة أخرى ولهذا لم يجز السكوت عليه فلا تقول أحلف بالله وتسكت بل يجب أن تأتي بالمقسم عليه فتقول أحلف بالله لأفعلن لأنك لم تقصد الإخبار بالحلف وإنما قصدت أن تخبر بأمر آخر نحو لأفعلن إلا أنك أكدته ونفيت عنه الشك بأن أقسمت عليه. وهي الباء والواو والتاء فإنها مستعملة في القسم وإن لم توضع له في أصل الوضع ألا ترى أنها تستعمل في غيره أيضا. وما وضع لذلك أي للقسم وهو ايم الله فإنه لم يوضع إلا للقسم ولهذا لم يستعمل في غيره. وما يؤدي معنى القسم كما سنبينه. وأما الباء فهي التي للإلصاق أي الباء التي في القسم ليست بحرف موضوع للقسم بل هي الباء التي للإلصاق فإنهم لما احتاجوا إلى إلصاق فعل الحلف بما يقسمون به استعملوها فيه استعمالهم إياها في قولهم كتبت بالقلم إلا أنهم حذفوا الفعل لكثرة القسم في كلامهم اكتفاء بدلالة الباء عليه كما حذفوا في بسم الله فقالوا بالله لأفعلن مريدين أحلف بالله أو أقسم به فكانت الباء دالة على فعل محذوف. وكذلك في سائر الأسماء أي كما تدل الباء على فعل محذوف في بالله لأفعلن تدل على فعل محذوف في الحلف بسائر الأسماء مثل قوله بالرحمن وبالرحيم بالقدوس لأفعلن. والصفات مثل قوله بعزة الله وبجلاله وبعظمته وبكبريائه. فلم يكن لها أي للباء اختصاص بالقسم يعني لما كان دخولها في القسم باعتبار معنى الإلصاق لا أنها موضوعة له لم تكن مختصة بالقسم لأن الإلصاق لا يختص به.
(2/275)
 
 
الفعل ها هنا تقول والله ولا تقول أحلف والله لأنه استعير للباء توسعة لصلات القسم فلو صح الإظهار لصار مستعارا بمعنى الإلصاق فتصير الاستعارة عامة في بابها وإنما الغرض بها الخصوص لباب القسم الذي يدعو إلى التوسعة ويشبه قسمين ولا يدخل في الكناية أعني الكاف ثم استعير التاء بمعنى الواو توسعة
ـــــــ
وأما الواو فإنها أستعيرت في القسم بدلا من الباء لمناسبة بينهما صورة ومعنى كما ذكر في الكتاب. وشرط إبدالها حذف الفعل ولهذا قيل إنها عوض عن الفعل ومن ثمة جاز أقسمت بالله وامتنع أقسمت والله كذا في بعض شروح المفصل فتبين أن معنى قوله لا يحسن إظهار الفعل لا يجوز. "لأنه" أي الواو "استعير للباء توسعة لصلات القسم" إذ الحاجة دعت إلى الاستعارة في باب القسم لكثرة دوره على الألسنة لا لمعنى الإلصاق فلو صح إظهار الفعل مع الواو لصار الواو مستعارا لمعنى الإلصاق إذ لا معنى له عند ظهور الفعل إلا الإلصاق كالباء. فتصير الاستعارة عامة في بابها في باب استعارة الواو للباء لأنه يلزم صحة استعماله مكان الباء في غير القسم أيضا فيقال مررت وزيد بالجر بمعنى بزيد وبعت هذا العبد وألف درهم بمعنى بألف درهم وفساده ظاهر إذ لم يسمع ذلك من أحد. ولأنه خروج عن الغرض إذ الغرض لها أي لاستعارة الواو للباء الخصوص لباب القسم إذ الداعي إليها وهو الحاجة إلى التوسعة مختص به.
قوله "ويشبه قسمين" يجوز أن يكون كلاما مستأنفا يعني لا يجوز إظهار الفعل مع الواو فلو أظهر مع ذلك كان في معنى قسمين لأن قوله أحلف بانفراده يمين. وكذا قوله والله فإذا جمع بينهما ولم يصلح الواو رابطة صار كأنه قال أحلف بالله ثم قال والله بخلاف الباء لأنها للإلصاق فيكون الكل كلاما واحدا فيكون يمينا واحدة. ويجوز أن يكون معطوفا على فيصير أي لو صح إظهار الفعل صارت الاستعارة عامة وأشبه كلامه قسمين لأنه لما قال أحلف والله بمعنى بالله كان بظاهره قسمان لما ذكرنا وغرضه قسم واحد فكان هذا الكلام بظاهره مخالفا لغرضه فلم يكن خاليا عن خلل فكان الاحتراز عنه أولى. وكأن الشيخ رحمه الله إنما قال لا يحسن إظهار الفعل فلم يقل لا يجوز إشارة منه إلى أن الكلام لا يلغو عند إظهار الفعل ولكنه يشبه قسمين وذلك مخالف للغرض. ولا تدخل أي واو القسم في الكناية أي في المضمر لا يقال وكلأفعلن ولما كان لفظ الكناية في اصطلاح الأصوليين متناولا للضمائر وغيرها احترز بقوله أعني الكاف عن غير الضمائر. ثم استعير التاء بمعنى الواو أي أبدل التاء عنها على طريقة الإبدال في نحو تراث, وتورية, وتجاه, وتخمة, وتهمة, إذ الأصل فيها وارث فعال من ورث وراثة, وووراة فوعلة من وري
(2/276)
 
 
لشدة الحاجة إلى القسم لما بين الواو والتاء من المناسبة فإنهما من حروف الزوائد في كلام العرب مثل التراث لغة في الوارث والتورية وما أشبه ذلك ولما صار ذلك دخيلا على ما ليس بأصل انحطت رتبته عن رتبة الأول والثاني فقيل لا تدخل إلا في اسم الله لأنه هو المقسم به غالبا فجاز تالله ولم يجز تالرحيم وقد يحذف حرف القسم تخفيفا فيقال الله لأفعلن كذا لكنه بالنصب عند
ـــــــ
الزند يري وريا, إذا أخرج ناره ووجاه من الوجه, ووخمة من وخم الرجل وخامة إذا لم يهنأ الطعام له, وهمة من الوهم لأنه أمر يقع في قلب الإنسان كالظن.
وذكر في شرح "القصيدة الشاطبية" أن الناس اختلفوا في التورية فذهب البصريون إلى أنها مشتقة من وري الزند وهو الضوء الذي يظهر منه عند القدح فكأنها ضياء ونور ووزنها فوعلة كدوحلة وحوقلة فأبدلت واوها تاء على حد تجاه وتخمة وقلبت ياؤها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الكوفيون وزنها تفعلة كتنفل في تنفل وضعف ذلك لقلة هذا البناء وشذوذه. وقال بعضهم هي تفعلة كتوصية ففتحت عينها وقلبت تاؤها ألفا وقد فعل ذلك في ناصية وجارية فقيل ناصاة وجاراة في لغة طيئ وضعف ذلك أيضا لعدم إطراده في توصية وتوقية. وقال صاحب الكشاف فيه التوراة والإنجيل اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ووزنهما بفوعلة وإفعيل إنما يصح بعد كونهما عربيتين. قال وقرأ الحسن والإنجيل بفتح الهمزة وهو دليل على العجمة على أفعيل بفتح الهمزة عديم أوزان العرب فتبين بهذا أن الاستشهاد في الكتاب إنما يصح على القول الأول فقط.
ثم الشيخ ذكر أن المعنى المجوز للمجاز كونهما من حروف الزوائد وذكر الجوهري في الصحاح وجها آخر فقال اتكلت على فلان في أمري إذا اعتمدته وأصله اوتكلت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ثم أبدلت منها التاء فأدغمت في تاء الافتعال ثم بنيت على هذا الإدغام أسماء من المثال وإن لم يكن فيها تلك العلة توهما أن التاء أصلية لأن هذا الإدغام لا يجوز إظهاره في حال فمن تلك الأسماء التكل والتكلان والتخمة والنجاة والتراث والتقوى وإذا صغرت قلت تكيلة وتخيمى ولا تعيد الواو لأن هذه حروف ألزمت البدل فتثبت في التصغير والجمع. وذكر الشيخ عبد القاهر أن الواو في اتعد قلبت تاء لأن الواو قريبة من التاء وقد وقع بعدها تاء الافتعال وهي تقلب تاء بغير سبب كثيرا نحو تخمة وتجاه وتراث فلما كان كذلك صار بمنزلة اجتماع متقاربين ينقلب أحدهما إلى صاحبه ليقع الإدغام. ولا يجوز تالرحمن وتالرحيم قد حكى أبو الحسن الأخفش ترب الكعبة ولكنه شاذ لا يؤخذ به.
(2/277)
 
 
أهل البصرة وهو مذهبنا وبالخفض عند أهل الكوفة وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل مثل قول الرجل والله الله والله الرحمن والرحيم على ما ذكرنا في الجامع. وأما أيم الله فأصله أيمن الله وهو جمع يمين وهذا مذهب أهل
ـــــــ
قوله "لكنه" أي المقسم به بالنصب عند أهل البصرة. حاصله أن الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض جائز عند أهل الكوفة وعند أهل البصرة لا يجوز إلا بعوض نحو همزة الاستفهام وهاء التنبيه في قولهم ءالله ما فعلت كذا وقولهم لا ها الله. احتج الكوفيون بما تقول العرب الله لتفعلن فيقول المجيب الله لأفعلن بهمزة واحدة مقصورة في الثانية فيخفض بتقدير حرف الخفض وإن كان محذوفا. وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف فقد حكى يونس بن حبيب1 أن من العرب من يقول مررت برجل صالح إلا صالح فطالح أي إلا أكن مررت برجل صالح فقد مررت بطالح.
وروي عن رؤبة العجاج أنه إذا قيل له كيف أصبحت كان يقول: خير. عافاك الله أي بخير وفي الشواهد على ذلك من الأشعار كثيرة. وأما البصريون فقالوا أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف وإنما تعمل مع الحذف في بعض الماضي إذا كان عنها عوض فبقيت فيما عداه على الأصل. ولا تمسك لهم فيما ذكروا لأن الجواز في قوله الله لأفعلن ثبت مخالفا للقياس لكثرة استعماله كما ثبت دخول حرف النداء عليه مع الألف واللام فلا يدل على الجواز في غيره لشذوذه وقلته. وكذا ما حكى يونس وما روي عن رؤبة وما نقل من الأشعار في ذلك كلها من الشواذ التي لا يعتد بها فلا يصح التمسك بها كذا في كتاب الإنصاف للأنباري2. وذكر الإمام عبد القاهر في المقتصد وأما حذف حرف الجر الذي هو الباء في بالله فعلى وجهين أحدهما أن يحذف ويوصل الفعل إلى الاسم فينصبه فيقال الله لأفعلن كأنه قال حلفت الله لأفعلن وعلى ذلك ثبت الكتاب:
ألا رب من قلبي له الله ناصح ... ومن قلبه لي في الظباء السوانح.
التقدير ألا رب من قلبي له ناصح بالله
والوجه الثاني أن تضمر ويبقى الجر فيقال الله لأفعلن والأكثر النصب لأن الجار لا
ـــــــ
1 هو يونس بن حبيب أبو عبدالرحمن النحوي توفي سنة 182ه أنظر وفيات الأعيان 7/244-249.
2 هو أبو البركات كمال الدين عبدالرحمن بن محمد بن عبيدالله الأنباري توفي سنة 577ه أنظر شذرات الذهب 4/259.
(2/278)
 
 
الكوفة وأما مذهب أهل البصرة وهو قولنا إن ذلك صلة وضعت للقسم لا
ـــــــ
يضمر إلا قليلا وإليه مال صاحب المفصل أيضا. فعلى هذا لا خلاف في المسألة إذ الخلاف في الأولوية لا في الجواز.
قوله "وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل" وهو أن حذف حرف القسم جائز فقيل إذا قال والله الله لا أكلمك فكلمه فعليه كفارة واحدة لأن اسم الله إن لم يكن مشتقا كما ذهب إليه الجمهور كان قوله الله بمنزلة البدل عن الأول لأن غير المشتق لا يصلح نعتا فصار كأنه سكت واستأنف الحلف بقوله الله لا أفعل كذا والقسم بغير حرف صحيح وإن اختلف في إعرابه كما ذكرنا وإن كان مشتقا كما ذهب إليه البعض كان نعتا للأول فصار كأنه قال والله المعبود الحق المقصود لا أكلمك فلا يلزمه على التقديرين إلا كفارة واحدة لأنه يمين واحدة.
ولو قال والله الرحمن لا أكلمك فكلمه فعليه كفارة واحدة أيضا لأنه جعل الرحمن خارجا مخرج النعت للأول فصار الاستشهاد واحدا في كلام المتكلم وتسميته فلا يتعدد الهتك. ولو قال والله والرحمن لا أكلمك فكلمه لزمته كفارتان وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله لزمته كفارة واحدة لاتحاد المقسم عليه فإن قوام اليمين فعمرك به فعمرك عليه واتحاد الأول مع تعدد الثاني يوجب كونه يمينا واحدة فكذا عكسه. وقلنا إن قوله والله عمرك به. وقوله والرحمن معطوف عليه فكان غيره في تسمية الحالف فتعدد الاستشهاد فتعدد الهتك فتعددت الكفارة لأنها جزاء الهتك وصار في حق المقسم به بمنزلة اليمينين وإن كان البر واحدا. إلا أن ينوي بالواو في والرحمن واو القسم فيكون يمينا واحدة لأنه إذا نوى واو القسم انقطع الكلام وصار كأنه سكت ثم استأنف فقال والرحمن لا أكلمك ولم يحمل عليه بغير نية لأن الواو للوصل في الأصل وعلى اعتبار الوصل يصير واو القسم مدرجا كما تقول مررت بزيد وعمرو أي وبعمرو. وبخلاف قوله والله والله لا أكلمك فكلمه حيث يحمل على واو القسم من غير نية حتى تلزمه كفارة واحدة في ظاهر الرواية لأن عطف الشيء على نفسه قبيح فيجعل الواو للقسم فكان رد الأول كأنه سكت عليه واستأنف الكلام فكان يمينا واحدة فلا يلزمه بالهتك إلا كفارة واحدة.
قوله "وأما ايم الله" إلى آخره. اعلم أن قولهم في القسم أيمن الله لأفعلن اسم مفرد عند البصريين وليس بجمع يمين وعند الكوفيين هو جمع يمين لأن وزن أفعل مختص بالجمع ولا يكون في المفرد. يدل عليه أن التقدير في قولهم أيمن الله علي أيمن الله أي أيمان الله أو أيمن الله يميني. وقد جاء جمع يمين على أيمن كقوله:
يأتي لها من أيمن وأشمل.
(2/279)
 
 
اشتقاق لها مثل صه ومه وبخ والهمزة للوصل ألا ترى أنها توصل إذا تقدمه حرف مثل سائر حروف الوصل ولو كان لبناء الجمع وصيغته لما ذهب عند الوصل والكلام فيه يطول وأما لعمر الله فإن اللام فيه للابتداء والعمر البقاء ومعناه لبقاء
ـــــــ
وكقول زهير:
فيجمع أيمن منا ومنكم ... بمقسمه تمور بها الدماء.
والأصل في همزتها أن تكون مقطوعة لأنها جمع إلا أنها وصلت لكثرة الاستعمال وبقيت فتحتها على ما كانت عليه في الأصل ولو كانت همزة وصل لكانت مكسورة. واحتج البصريون بأنه لو كان جمعا لوجب قطع الهمزة فيه ولما سقطت في بيد كما في أحرف وأكلب ولما سقطت علمنا أنه ليست بجمع. يؤيده أنهم قالوا في أيمن الله م الله ولو كان جمعا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفا واحدا إذ لا نظير له في كلامهم. ولا نسلم أن هذا الوزن مختص بالجمع فقد جاء في المفرد أيضا مثل آنك وآسد. ولا معنى لقولهم أن الأصل في الهمزة القطع ولكنها وصلت لكثرة الاستعمال لأنه لو كان كذلك لما جاز كسرها وقد جاز ذلك بالإجماع فدل أن الوصل في الهمزة أصل وأنه ليس بجمع كذا في الإنصاف. وذكر الإمام عبد القاهر في المقتصد أن الأصل في همزة أيمن القطع لأنها جمع يمين ولكنهم وصلوها لكثرة الاستعمال وكذا إذا قيل ايم الله لأن اللام محذوفة من أيمن وقد دعاهم الحرص على التخفيف بكثرة تصرف هذه الكلمة على ألسنتهم إلى أن احتجفوا بها فردوها إلى حرف واحد فقالوا م الله فمال إلى قول الكوفيين في هذه المسألة. وذكر في الإقليد أنها أي كلمة أيمن عند سيبويه اشتقت من اليمن, ساكنة الأول فاجتلبت الهمزة للابتداء كما اجتلبت في ابن وأشباهه. وحاصل هذه الأقوال أن الأصل في ايم الله أيمن الله بالاتفاق إلا أن الأيمن جمع يمين عند البعض واسم مفرد مشتق من اليمن عند آخرين فتبين أن ما ذكر الشيخ أن ذلك أي ايم الله. صلة وضعت للقسم أي كلمة بنفسها يوصل بها القسم بمنزلة الباء في بالله لا اشتقاق لها أي لا أصل لها ترجع إليه قول آخر خارج عن هذه الأقوال ظفر الشيخ به واختاره. قوله "وأما العمر" إذا قلت لعمرك لأفعلن فعمرك مبتدأ وخبره محذوف والتقدير لعمرك قسمي أو ما أقسم به فهذا يجري مجرى قولك أقسمت بعمرك وإذا قلت لعمر الله كان بمنزلة قوله والله الباقي. وإضمار هذا الخبر لازم كإضمار خبر المبتدأ بعد لولا فلا يقال لعمر الله قسمي كما لا يقال لولا زيد موجود لكان كذا فإن لم تأت باللام نصبته
(2/280)
 
 
الله هو الذي أقسم به فيصير تصريحا لمعنى القسم بمنزلة قول الرجل جعلت هذا العبد ملكا لك بألف درهم أنه تصريح لمعنى البيع فيجري مجراه فكذلك هذا
ـــــــ
نصب المصادر وهو القسم أيضا وقلت عمرك ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت كذا أي بتعميرك الله وإقرارك له بالبقاء. والعمر والعمر وإن كانا متفقين في المعنى وهو البقاء لم يستعمل في اليمين إلا الفتح لأن ذلك يجري مجرى المثل وفي الاختصاص ضرب من تغيير اللفظ لتغيير المعنى. وهو في الأصل مصدر عمر الرجل من حد علم أي بقي عمرا وعمرا على غير قياس لأن قياس مصدره التحريك.
(2/281)
 
 
"أسماء الظروف"
ومن هذا الجنس أسماء الظروف وهي مع وبعد وقبل وعند أما مع فللمقارنة
ـــــــ
"أسماء الظروف"
قوله "ومن هذا الجنس" أي من قسم حروف المعاني أسماء الظروف. ألحقها بحروف المعاني لمشابهتها بالحروف من حيث إنها لا تفيد معانيها إلا بإلحاقها بأسماء أخر كالحروف. أما مع فللمقارنة هذا معنى أصلي له لا ينفك عنه في أصل الوضع ألا ترى أن قولك جاء زيد مع عمرو يقتضي مجيئهما معا فلذلك وقعت تطليقتان في قوله أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة دخل بها أو لم يدخل. وكذا لو قال لفلان علي عشرة مع كل درهم من هذه الدراهم العشرة درهم يلزمه عشرون درهما. وذكر في الهادي للشادي أن مع إذا كانت ساكنة العين فهي حرف وإن كانت متحركة العين فهي اسم وكلاهما بمعنى المصاحبة. وذكر في الصحاح قال محمد بن السدي الذي يدل على أن مع اسم حركة آخره مع تحرك ما قبله وقد يسكن وينون نقول جاءوا معا. وأما كونه من الظروف فمذكور في بعض كتب النحو. ويجوز أن يكون كذلك كعند لأن انتصاب العين فيه ليس للبناء بدليل أنه يقال جاء فلان من معهم بخفض العين كما يقال جاء من عندهم فدل أن انتصابه على الظرف كانتصاب عند وكذا يمكن أن يقدر فيه معنى في فإن قولك زيد مع عمرو معناه في مصاحبة عمرو كما يمكن تقديره في عند في قولك زيد عند عمرو أي في حضرته. وقبل للتقديم والسبق فإذا وصف الطلاق بالقبلية المطلقة كان إيقاعا في الحال ولا يقتضي وجود ما بعده فإن صحة التكفير في قوله تعالى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} "المجادلة: 3". لا يتوقف على وجود المسيس بعده. وصحة الإيمان في قوله تعالى {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} "النساء: 47". لا يتوقف على وجود الطمس بعده بل يستفاد به الأمن عنه. فإذا قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار أو قبل قدوم فلان طلقت للحال دخلت الدار بعد أو لم تدخل قدم فلان أو لم يقدم. إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة قبل واحدة تقع
(2/282)
 
 
في قول الرجل أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة أنه يقع ثنتان معا قبل الدخول وقبل للتقديم حتى إن من قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار طلقت للحال ولو قال لامرأته قبل الدخول أنت طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان ولو قال قبل واحدة تقع واحدة وبعد للتأخير وحكمهما في الطلاق ضد
ـــــــ
واحدة. ولو قال أنت طالق واحدة قبلها واحدة وقعت ثنتان. ولو قال أنت طالق واحدة بعد واحدة تقع ثنتان. ولو قال بعدها واحدة تقع واحدة وهو معنى قوله وحكمها أي حكم كلمة بعد في الطلاق ضد كلمة قبل يعني في الصورتين.
والأصل في تخريج هذه المسائل شيئان. أحدهما أن الظرف إذا أدخل بين اسمين ولم يتصل به كناية كان صفة للمذكور أولا وإن اتصل به كناية كان صفة للمذكور آخرا فإذا قال جاءني زيد قبل عمرو كانت القبلية صفة لزيد وإذا قال قبله عمرو كانت القبلية صفة لعمرو والمراد بكون القبلية صفة لكذا كونها صفة من حيث المعنى أي التقدم الذي هو مدلول هذه الكلمة صفة معنوية لكذا فأما اللفظ فمنصوب على الظرف ولو كانت صفة لفظا لم يكن إلا للمذكور أولا.
والأصل الثاني من أقر بطلاق سابق يكون ذلك إيقاعا منه في الحال لأن من ضرورة الإسناد الوقوع في حال وهو مالك للإيقاع في الحال غير مالك للإسناد فيثبت الإيقاع في الحال تصحيحا لكلامه. فإذا قال أنت طالق واحدة قبل واحدة كانت القبلية صفة للواحدة الأولى ولو لم يقيدها بهذا الوصف لكن قال وواحدة لوقعت الأولى سابقة ولغت الثانية لعدم المحل فعند التأكيد به أولى وصار معناه قبل واحدة تقع عليك. وإذا قال واحدة قبلها واحدة كانت القبلية صفة للثانية وليس في وسعه تقديم الثانية وفي وسعه القران كما إذا قال معها واحدة فيثبت من قصده قدر ما كان في وسعه وصار كأنه قال قبلها واحدة وقعت عليك. وكذا إذا قال بعد واحدة وقعت ثنتان لأن البعدية تصير صفة للأولى فتقتضي تأخير الأولى وليس في وسعه ذلك بعدما أوجبها وفي وسعه الجمع فيثبت من قصده ذلك وصار معنى كلامه بعد واحدة تقع عليك. وإذا قال بعدها واحدة وقعت لأن البعدية صفة للثانية فلا تقع لأنه لو لم يؤكد الثانية بالبعدية لا تقع الثانية لما ذكر فعند التأكيد أولى وصار كأنه قال أنت طالق بعد الأولى التي وقعت عليك.
وعلى هذا الأصل لو قال له علي درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد لأن قبلا نعت للمذكور أولا فكأنه قال درهم قبل درهم آخر يجب علي. ولو قال قبله درهم فعليه درهمان لأنه نعت للمذكور آخرا أي قبله درهم قد وجب علي. ولو قال درهم بعد درهم
(2/283)
 
 
حكم قبل لما ذكرنا أن الظرف إذا قيد بالكناية كان صفة لما بعده وإذا لم يقيد كان صفة لما قبله هذا الحرف أصل هذه الجملة وعند للحضرة حتى إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان وديعة لأن الحضرة تدل على الحفظ دون اللزوم والوقوع عليه على هذا قلنا وإذا قال أنت طالق كل يوم طلقت واحدة ولو قال
ـــــــ
أو بعده درهم يلزمه درهمان لأن معناه بعد درهم قد وجب أو بعد درهم قد وجب لا يفهم من الكلام إلا هذا. وفي قوله بعده درهم الإقرار مخالف للطلاق قبل الدخول لأن الطلاق بعد الطلاق هناك لا يقع والدرهم بعد الدرهم يجب دينا كذا في المبسوط. فتبين بهذا أن التقييد بالطلاق في قوله وحكمها في الطلاق ضد حكم قبل احتراز عن الإقرار وقوله لما ذكرنا إشارة إلى المذكور في شرح الجامع الصغير والمبسوط. لأن الحضرة تدل على الحفظ كما إذا قال لآخر وضعت هذا الشيء عندك يفهم منه الاستحفاظ وكما لو قال لناشد الضالة لا تطلب ضالتك فإنها عندي يفهم منه الحفظ أي هي محفوظة عندي. وكما لو كان رجلان في مجلس فخرج أحدهما وترك متاعه وجب على الآخر الحفظ حتى لو تركه صار ضامنا بترك الحفظ فثبت أن الحضرة تدل على الحفظ.
وفي "المبسوط" إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان إقرارا الوديعة لأن هذه الكلمة عبارة عن القرب وهي تحتمل القرب من يده فيكون إقرارا بالأمانة ومن ذمته فيكون إقرارا بالدين فلا يثبت به إلا الأقل وهو الوديعة ولو قال عندي ألف درهم دين فهي دين لأن قوله عندي محتمل فسره بأحد المحتملين فكان تفسيره صحيحا. وعلى هذا قلنا أي على أن هذه الألفاظ تدل على الظرف على تفاوت معانيها قلنا إذا قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق كل يوم وليس له نية لم تطلق إلا واحدة عندنا وإذا ذكر الألفاظ المذكورة تطلق ثلاثا وقال زفر رحمه الله تطلق ثلاثا في ثلاثة أيام في المسألة الأولى أيضا لأن قوله أنت طالق إيقاع وكلمة كل تجمع الأسماء فقد جعل نفسه موقع الطلاق عليها في كل يوم وذلك بتجدد الوقوع إلى أن تطلق ثلاثا كما لو قال أنت طالق في كل يوم. ولكننا نقول صيغة كلامه وصف قد وصفها بالطلاق في كل يوم وهي بالتطليقة الواحدة يتصف به في الأيام كلها وإنما جعلنا كلامه إيقاعا لضرورة تحقيق الوصف وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة ألا ترى أنه لو قال أنت طالق أبدا لم تطلق إلا واحدة. بخلاف قوله في كل يوم لأن حرف في للظرف والزمان ظرف للطلاق من حيث الوقوع فيه فما يكون اليوم ظرفا له لا يصلح الغد ظرفا له فتجدد الإيقاع لتحقيق ما اقتضاه حرف في كذا في المبسوط وفي قوله كل يوم إن قال أردت أنها طالق كل يوم تطليقة أخرى فهو كما نوى وتطلق ثلاثا في ثلاثة أيام لأنه أضمر حرف في. وكذا قوله أنت علي كظهر أمي كل يوم ينبغي أن
(2/284)
 
 
عند كل يوم أو مع كل يوم طلقت ثلاثا وكذلك إذا قال أنت طالق في كل يوم ولو قال أنت علي كظهر أمي كل يوم فهو ظهار واحد ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم يجدد عند كل يوم ظهار وهذا لما قلنا أنه إذا حذف اسم الظرف كان الكل ظرفا واحدا فإذا أثبته صار كل فرد بانفراده ظرفا على نحو ما قلنا في مسألة الغد
ـــــــ
يكون على الخلاف فيتجدد في كل يوم ظهار عنده وعندنا وهو ظهار واحدة ويدخل فيه الليل والنهار كما لو قال أنت علي كظهر أمي أبدا. ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم تجدد عند كل يوم ظهار لكن لا يدخل الليل في الظهار حتى كان له أن يقربها بالليل لأن توقيت الظهار عندنا صحيح فصار كأنه قال في كل يوم أنت علي كظهر أمي هذا اليوم فلا يدخل فيه الليل.
"وهذا" أي التفرقة التي ذكرنا بين حذف الظرف وإثباته. "لما قلنا" في موضعه من المبسوط أنه إذا حذف لفظ الظرف "كان الكل" أي كل الأيام ظرفا واحدا للطلاق والظهار فلا يقع إلا تطليقة واحدة وظهار واحد. فإذا أثبته أي لفظ الظرف بأن قال عند كل يوم مثلا صار كل فرد أي كل يوم بانفراده ظرفا على حدة لأن الظرف حينئذ كلمة عند مضافة إلى كل يوم فيستدعي مظروفا على حدة فيتجدد الطلاق والظهار على نحو ما قلنا في مسألة الغد من التفرقة بين حذف في وإثباته على مذهب أبي حنيفة رحمه الله. وهذه المسألة تؤيد مذهبه في مسألة الغد. فإن قيل إن أبا يوسف ومحمدا لم يفرقا في مسألة الغد بين حذف في وإثباته وهاهنا فرقا بين حذف الظرف وإثباته فما وجه الفرق لهما بين الموضعين. قلنا وجهه أن الغد ظرف واحد بلا شبهة لا يتعدد بإثبات في وحذفه فاستوى فيه الحذف والإثبات فأما قوله كل يوم فيجوز أن يكون ظرفا واحدا نظرا إلى لفظ كل فإنه هو المنتصب بالظرفية وهو لفظ واحد. ويجوز أن يكون ظروفا متعددة نظرا إلى ما أضيف إليه كل فإنه متعدد وإنه أبدا يأخذ حكم المضاف إليه فإذا لم يذكر حرف في أو ظرف آخر ووقع عليه الفعل جعل ظرفا واحدا كالأبد وإذا ذكر حرف في أو ظرف آخر وانتقل عمل الفعل عنه إليه ثم أضيف ذلك الظرف إلى كل جعل ظروفا متعددة عملا بالشبهين.
(2/285)
 
 
حروف الإستثناء"
ومن هذا الباب حروف الاستثناء وأصل ذلك إلا ومسائل الاستثناء من جنس البيان فنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ومن ذلك غير وهو من الأسماء يستعمل صفة للنكرة ويستعمل استثناء تقول لفلان علي درهم غير دانق بالرفع
ـــــــ
حروف الإستثناء"
قوله "ومن هذا الباب" أي من باب حروف المعاني حروف الاستثناء. سماها حروفا لأن الأصل فيها كلمة إلا وهي حرف فيكون البواقي جارية مجرى التبع لها وهي عشرة: إلا , وغير , وسوى , وسواء , ولا يكون , وليس , وخلا , وعدا , وما خلا , وما عدا , وحاشا. وزاد أبو بكر بن السراج لا سيما , وضم بعضهم إليها بيد بمعنى غير. وزاد بعضهم بله بمعنى دع. وإنما يدخل ليس ولا يكون في هذا الباب إذا تقدمها كلام فيه عموم كما يكون فيما قبل إلا لما فيهما من معنى النفي على اختلافهما في الأصل فإن ليس ولا دخلتا على ما هو مثبت فصيرتاه نفيا. فإذا قال أعتقت عبيدي ليس سالما أو لا يكون سالما لا يعتق سالم لأن معناه إلا سالما والتقدير ليس بعضهم سالما أو لا يكون بعضهم سالما كذا ذكر في كتاب بيان حقائق الحروف.
"وأصل ذلك إلا" أي الأصل في الاستثناء والحقيقة فيه كلمة إلا لأنها لازمة للاستثناء في أصل الوضع وما عداها قد يكون استثناء وغير استثناء. ولأن الموضوع لنقل الكلام من معنى إلى معنى في سائر الأبواب هو الحروف لا الأسماء والأفعال كحروف الاستفهام وحروف النفي وحروف الشرط فكذا في هذا الباب.
"ومن ذلك" أي ومما يستثنى به غير. وهو من الأسماء للحوق علامات الاسم به من التنوين والألف واللام والإضافة. يستعمل صفة للنكرة لأنه نكرة بحيث لا تتعرف بالإضافة وإن أضيف إلى المعارف. وإنما وقع صفة للذين أنعمت عليهم في قوله عز اسمه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} "الفتحة: 7". على أحد التأويلين لأن الذين أنعمت عليهم في معنى النكرة إذ هو غير مقصور على معنيين ومثله بمنزلة النكرة كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. ويستعمل استثناء لمشابهة بينه وبين إلا من حيث إن بعد كل واحد منهما مغاير لما قبله. ولهذه المشابهة تقع إلا مقام غير أيضا قليلا وتستحق إعراب المتبوع مع امتناعها عنه فيعطي ما بعدها وعليه قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "الأنبياء: 22". وقوله عليه السلام: "الناس كلهم موتى إلا العالمون" . وقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان.
(2/286)
 
 
صفة للدرهم فيلزمه درهم تام ولو قال غير دانق بالنصب كان استثناء يلزمه درهم إلا دانقا وكذلك قال لفلان علي دينار غير عشرة بالرفع لزمه دينار ولو نصبه فكذلك عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله يلزمه دينار إلا
ـــــــ
أي غيرهما. ولهذا قالوا إذا قال له علي مائة إلا درهمان بالرفع يلزمه مائة لأن إلا هاهنا بمعنى غير فصار كأنه قال علي مائة هي غير درهمين. وعند من لا يعتبر الإعراب باعتبار أن العوام لا يميزون بين صحيح الإعراب وفاسده يلزمه ثمانية وتسعون كما لو قال إلا درهمين بالنصب. ولما استعمل استثناء ولا بد له من إعراب لأنه اسم جعل إعرابه كإعراب الاسم الواقع بعد إلا ليعلم أنه استثناء. والفرق بين كونه صفة واستثناء أنه لو قال جاءني رجل غير زيد لم يكن فيه دلالة أن زيدا جاء ولم يجئ بل كان خبرا أن غيره جاء ولو قال جاءني القوم غير زيد كان اللفظ دالا أن زيدا لم يجئ. والثاني أن استعماله صفة يختص بالنكرة على ما قلنا واستعماله استثناء لا يختص بالنكرة. وقد يقع بمعنى لا أيضا فينتصب على الحال كقوله تعالى. {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} "البقرة: و173"الأنعام: 145" و"النحل: 115". أي فمن اضطر جائعا لا باغيا ولا عاديا. وكذا {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} "الأحزاب: 53" {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} "المائدة: 1". لفلان علي درهم غير دانق أي درهم مغاير للدانق وقد كان في ذلك الزمان درهم على وزن دانق فأكد المقر أن الواجب علي ليس ذلك الدرهم وإنما هو درهم مطلق فيلزمه درهم تام وهو الذي وزنه وزن سبعة. والدانق بالفتح والكسر قيراطان والجمع دوانق ودوانيق.
"وما يقع من الفصل" إلى آخره يعني جعل محمد استثناء الدراهم من الدنانير من الاستثناء المنقطع وهو بطريق المعارضة كاستثناء الثوب منها. وجعل أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله ذلك من الاستثناء المتصل وذلك بطريق البيان وتبين الفرق بين المعارضة والبيان في ذلك الباب. والحاصل أن بيان هذا الفصل يأتي في باب البيان.
قوله "وسوى مثل غير" يعني في أنه يستثنى به. قال سيبويه كل موضع جاز فيه الاستثناء بإلا جاز بسوى ولذلك لا يكون استثناء إذا وقع بعد اسم مفرد نحو مررت برجل سواك لأنه لا يجوز فيه الاستثناء بإلا. والفرق بين غير وسوى أن غيرا لا يكون ظرفا وأصله أن يكون صفة بمنزلة مثل لأنه نقيضه تقول مررت برجل غيرك كما تقول برجل مثلك وسوى ظرف مكان منصوبا أبدا على الظرفية ولا يكون صفة تابعة لتضمنه معنى الظرف وإن كان فيه معنى غير.
وبيان ظرفيته أن العرب تجري الظروف المعنوية مجرى الظروف الحقيقة فيقولون
(2/287)
 
 
قدر قيمة عشرة دراهم منه وما يقع من الفصل بين البيان والمعارضة نذكره في باب البيان إن شاء الله وسوى مثل غير وذلك في الجامع إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة على ما ذكرنا.
ـــــــ
جلس فلان مكان فلان ولا يعنون إلا منزلة في الذهن مقدرة فينصبونه نصب الظرف الحقيقة ويستعملون سوى أيضا في هذا الموضع فيقولون مررت برجل سواك ويعنون مكانك وعوضا منك من حيث المعنى فلزم أن ينتصب انتصاب المكان للظرفية.
ومما يدل على ظرفيته وقوعه صلة نحو جاءني الذي سواك بخلاف غير. قال الإمام عبد القاهر ومما لا يستعمل إلا ظرفا سوى لا تقول في السعة هذا لسواك ولا على سواك وإنما تقول بمن سواك وبرجل سواك فتجريه مجرى قولك مررت برجل مكانك فيكون منصوبا في تقدير في مكانك قلت قام مقامك ونزل مكانك كما تقول أخذت هذا بدل ذلك. هذا الذي ذكرنا هو مذهب سيبويه ومن تابعه من البصريين. وذهب الكوفيون إلى أنه كما يستعمل ظرفا يستعمل اسما بمعنى غير فيعرب كغير متمسكين بالبيت الحماسي:
ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا.
بقول الآخر:
ولا ينطق المكروه من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائنا.
فلو لزم ظرفية سوى وسواء لما ارتفع الأول ولما انجر الثاني. والجواب أن إخراجه عن الظرفية لضرورة الشعر جائز عندنا والكلام في حالة الاختيار وأنهم لم يستعملوه في هذه الحالة إلا ظرفا. فعلى قول هؤلاء يجوز أن يقع سوى صفة مثل غير. قال الأخفش إذا كان سوى بمعنى غير ففيه ثلاث لغات كسر السين وضمها مع القصر وفتحها مع المد تقول مررت برجل سواك وسواك وسواءك أي غيرك كذا في الصحاح. وقد ذكرنا مسائل الجامع في فصل من فلا نعيدها.
(2/288)
 
 
"حروف الشرط"
ومن ذلك حروف الشرط وهي إن وإذا وإذا ما ومتى ومتى ما وكل وكلما ومن وما وإنما نذكر في هذا الكتاب من هذه الجمل ما يبتني عليه مسائل أصحابنا على الإشارة وأما حرف إن فهو الأصل في هذا الباب وضع للشرط وإنما يدخل على كل أمر معدوم على خطر ليس بكائن لا محالة تقول إن زرتني أكرمتك ولا يجوز إن جاء غد أكرمتك وأثره أن يمنع العلة عن الحكم أصلا حتى يبطل
ـــــــ
"حروف الشرط"
قوله "ومن ذلك" أي من باب حروف المعاني حروف الشرط أي كلمات الشرط أو ألفاظ الشرط وتسميتها حروفا باعتبار أن الأصل فيها كلمة , إن وهو حرف فهو الأصل في هذا الباب لأنه اختص بمعنى الشرط ليس له معنى آخر سواه بخلاف سائر ألفاظ الشرط فإنها تستعمل في معان أخر سوى الشرط. وضع للشرط أي هو موضوع للدلالة على كينونة ما بعده شرطا. قالوا معنى كلمة "إن" ربط أحد الجملتين بالأخرى على أن تكون الأولى شرطا والثانية جزاء يتعلق وقوعها بوقوع الأولى كقولك إن تأتني أكرمك يتعلق الإكرام بالإتيان. وإنما تدخل أي حرف إن على كل أمر أي شأن معدوم لأنه للمنع أو للحمل ومنع الموجود والحمل عليه لا يتحقق.
"على خطر" أي تردد بين أن يوجد وبين أن لا يوجد وهو احتراز عن المستحيل وعن الفعل المتحقق لا محالة كمجيء الغد بالنظر إلى العادة قال الإمام عبد القاهر ما كان متحقق الوجود لا يجوز فيه إن ولا الأسماء الجازمة لا يقال إن طلعت الشمس خرجت ومتى تطلع الشمس أخرج لأنها طالعة خرجت أو لم تخرج والجزاء بإن موضوع على أن أحد الأمرين مفتقر إلى صاحبه في وجوده , وانتفاء أحدهما يوجب انتفاء الآخر. وقوله ليس بكائن لا محال تأكيد. قال شمس الأئمة رحمه الله الشرط فعل منتظر في المستقبل هو على خطر الوجود بقصد نفيه أو إثباته ولا يتعقب الكلمة اسم لأن معنى الخطر في الأسماء لا يتحقق ودخول هذا الحرف في الاسم في نحو قوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} "النساء: 176" {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} "النساء: 128". من قبيل الإضمار على شرطية التفسير أو من باب التقديم والتأخير لأن أهل اللغة مجمعون على أن الذي يتعقب حرف الشرط هو الفعل دون الاسم. وأثره أي أثر حرف إن أن يمنع العلة عن الحكم أي يمنعها عن انعقادها علة للحكم. "حتى يبطل التعليق" أي إلى أن يبطل التعليق بوجود الشرط فحينئذ يصير ما ليس بعلة علة. وعند الشافعي أثره أن يمنع الحكم عن العلة ولا يمنع العلة عن الانعقاد وسيأتيك الكلام فيه مشروحا بعد إن شاء الله تعالى.
(2/289)
 
 
التعليق وهذا يكثر أمثلته وعلى هذا قلنا إذا قال الرجل لامرأته إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثا أنها لا تطلق حتى يموت الزوج فتطلق في آخر حياته لأن العدم لا يثبت إلا بقرب موته وكذلك إذا ماتت المرأة طلقت ثلاثا قبل موتها في أصح
ـــــــ
"وعلى هذا" أي على أن إن للشرط المحض قلنا إذا قال لامرأته إن لم أطلقك فأنت طالق ثلثا لم تطلق حتى يموت أحدهما قبل أن يطلقها لأن إن للشرط وأنه جعل عدم إيقاع الطلاق عليها شرطا ولا يتيقن بوجود هذا الشرط ما بقيا حيين فهو كقوله إن لم آت البصرة فأنت طالق. ثم إن مات الزوج وقع الطلاق عليها قبل موته بقليل وليس لذلك القليل حد معروف ولكن قبيل موته يتحقق عجزه عن إيقاع الطلاق عليها فيتحقق شرط الحنث. فإن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها وإن كان قد دخل بها فلها الميراث بحكم الفرار.
ولا يقال المعلق بالشرط كالملفوظ به لدى الشرط وقد تحقق العجز عن التكلم قبل الموت حين حكمنا بوجود الشرط فكيف يستقيم أن يجعل متكلما بالطلاق في هذه الحالة.
لأنا نقول هو أمر حكمي فلا يشترط فيه ما يشترط لحقيقة التطليق من القدرة وإنما يشترط ذلك عند التعليق ألا ترى العاقل إذا علق الطلاق أو العتق ثم وجد الشرط وهو مجنون فإنه ينزل الجزاء وإن لم يتصور منه حقيقة التطليق والإعتاق في هذه الحالة شرعا. وإن ماتت المرأة وقع الطلاق أيضا قبل موتها. وذكر في النوادر أنه لا يقع لأنها ما لم تمت ففعل التطليق فيتحقق من الزوج وإنما عجز بموتها فلو وقع الطلاق لوقع بعد الموت بخلاف جانب الزوج فإنه كما أشرف على الهلاك فقد وقع اليأس عن فعل التطليق.
وجه الظاهر أن الإيقاع من حكمه الوقوع وقد تحقق العجز عن الإيقاع قبيل موتها لأنه لا يعقبه الوقوع كما لو قال أنت طالق مع موتك فيقع الطلاق قبيل موتها بلا فصل. ولا ميراث للزوج لأن الفرقة وقعت بينهما قبل موتها بإيقاع الطلاق عليها كذا في "المبسوط".
واعلم أن "إذا" من الظروف اللازمة ظرفيتها وهو مضاف أبدا إلى جملة فعلية وفيه معنى المجازاة لأنه للاستقبال وفيه إبهام فناسب المجازاة إذ الشرط لا يكون إلا مستقبلا مجهول الشأن لتردده بين أن يكون وبين أن لا يكون ولهذا اختص إذا بالجملة الفعلية. وأنه
(2/290)
 
 
الروايتين وأما إذا فإن مذهب أهل اللغة والنحو من الكوفيين فيها إنها تصلح للوقت وللشرط على السواء فيجازى بها مرة ولا يجازى بها أخرى فإذا جوزي بها فإنما يجازى بها على سقوط الوقت عنها كأنها حرف شرط وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وأما البصريون من أهل اللغة والنحو فقد قالوا إنها للوقت وقد تستعمل
ـــــــ
قد يكون ظرفا غير متضمن للشرط كما في قوله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} "الليل: 1". وذكر الإمام عبد القاهر أن إذا لا يجازى بها إلا في ضرورة الشعر: كبيت الكتاب:
ترفع لي خندف والله يرفع لي ... نارا إذا خمدت نيرانهم تقد
قال والاختيار أن لا يجزم بها لأنهم وضعوها على ما يناسب التخصيص ويبعد من الإبهام الذي يقتضيه إن الأتراك تقول آتيك إذا احمر البسر بمنزلة قولك آتيك الوقت الذي يحمر فيه البسر ولو قلت آتيك إن احمر البسر لم يستقم لأن احمرار البسر ليس بعلة للإتيان وإذا قلت أخرج إذا خرجت كان بمنزلة قولك أخرج الوقت الذي تخرج فيه ولا تكون موضوعة على تعليق خروج هذا بخروج ذلك كما في قولك أخرج إن خرجت. قال ومن جازى بها فالحمل على ظاهر الحال وهو أن خروجك لما تعلق بوقت خروج الآخر صار كأن هذا سبب له فدخله معنى الجزاء. ونظير إذا في أن معنى المجازاة دخله ولا يجزم به الذي فإنك تقول الذي يفعل كذا فله درهم بمعنى أن يفعل إنسان فله درهم ثم لا تجزم به.
"قوله فيجازي بها" أي بكلمة إذا مرة ولا يجازي بها أخرى أي تستعمل مرة للشرط ويرتب عليها الجزاء وتستعمل للوقت مرة. والحاصل أن كلمة إذا مشتركة بين الوقت والشرط عند الكوفيين فإذا استعملت في الشرط لم يبق فيها معنى الوقت وصارت بمعنى إن كما في سائر الألفاظ المشتركة إذا استعملت في أحد المعاني لم يبق فيها دلالة على غيره وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله. وعند البصريين هي موضوعة للوقت وتستعمل في الشرط من غير سقوط معنى الوقت كمتى وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. والخلاف المذكور في قوله إذا لم أطلقك فأنت طالق فيما إذا لم ينو شيئا فأما إذا نوى الشرط أو الوقت فهو على ما نوى بالاتفاق. والمجازاة بها أي بكلمة متى لازمة في غير موضع الاستفهام. وموضع الاستفهام مثل قولك متى القتال أو متى خرج زيد وذلك لأن الجزاء في مقابلة الشرط والاستفهام ليس بشرط لأنه طلب الفهم عن وجود شيء. وحاصل
(2/291)
 
 
للشرط من غير سقوط الوقت عنها مثل متى فإنها للوقت لا يسقط عنها ذلك بحال والمجازة بها لازمة في غير موضع الاستفهام والمجازاة بإذا غير لازمة بل هي في حيز الجواز وإلى هذا الطريق ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بيانه فيمن قال لامرأته إذا لم أطلقك فأنت طالق في قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما مثل قوله إن لم أطلقك وقال أبو يوسف يقع كما فرغ من اليمين مثل متى لم أطلقك لأن إذا اسم للوقت بمنزلة سائر الظروف وهو للوقت المستقبل وقد استعملت للوقت خالصا فقيل كيف الرطب إذا اشتد الحر أي حينئذ. ولا يصلح إن هنا ويقال آتيك إذا اشتد الحر ولا يجوز إن اشتد الحر لأن الشرط يقتضي خطرا أو ترددا هو أصله وإذا تدخل للوقت على أمر كائن أو منتظر لا محالة كقوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} "النكوير: 1" وتستعمل للمفاجأة قال الله تعالى {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} "الروم: 36" وإذا كان
ـــــــ
المعنى أن استعمال إذا للشرط لا يوجب سقوط معنى الوقت عنه لأن المجازاة في متى ألزم منها في إذا لأنها في متى لازمة في غير موضع الاستفهام وفي إذا جائزة ثم لم يسقط معنى الوقت عن متى في المجازاة فأولى أن لا يسقط عن إذا فيها. وإذا تدخل للوقت أي لإفادة الوقت الخالص. على أمر كائن أي موجود في الحال كقوله:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب.
أو منتظر. لا محالة كقوله تعالى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . لأن ذلك سيوجد قطعا.
"وتستعمل للمفاجأة". إذا المفاجأة هي الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها وتلك الجملة مركبة من مبتدأ وخبر والعامل في إذا هذه معنى المفاجأة وهو عامل لا يظهر لاستغنائهم عن إظهاره بقوة ما فيه من الدلالة عليه. والذي يدل على ذلك قولك خرجت فإذا زيد بالباب إذ لو كان العامل خرجت يلزم الفصل بين العامل ومعموله بالفاء وهو باطل. وغرض الشيخ أنها استعملت للمفاجأة والمفاجأة لا يحتمل معنى الشرط بوجه. قال الإمام عبد القاهر ومما يجاب به الشرط إذا في قوله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} "الروم: 36". فهم مبتدأ ويقنطون خبره وإذا بمنزلة الفاء في تعليقه الجملة بالشرط وذلك أن إذا المفاجأة دالة على التعقيب الذي يدل عليه الفاء فإنك إذا قلت مررت به إذا هو عبد معناه مررت فبحضرتي هو عبد فإذا بمنزلة قولك فبحضرتي ومتضمن لمعنى التعقيب الذي هو
(2/292)
 
 
كذلك كان مفسرا من وجه ولم يكن مبهما فلم يكن شرطا إلا أنه قد يستعمل فيه مستعارا مع قيام معنى الوقت مثل متى الزم ومع هذا لم يسقط عنه حقيقته وهو الوقت فهذا أولى فصار الطلاق مضافا إلى زمان خال عن إيقاع الطلاق ألا ترى أن من قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس مثل متى بخلاف إن ولا يصح طريق أبي حنيفة رحمه الله عليه إلا أن يثبت أن إذا قد يكون حرفا بمعنى الشرط مثل إن وقد ادعى ذلك أهل الكوفة واحتج الفراء لذلك بقول الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
ـــــــ
في الفاء وإذا كان كذلك كان قوله عز وجل {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} . في موضع جزم لوقوعه موقع يقنطوا إذا قيل وإن تصبهم سيئة يقنطوا. وإذا كان كذلك أي وإذا كان إذا مستعملا فيما ذكرنا من المعاني كان مفسرا أي معلوما من وجه من حيث إن وجوده في المستقبل معلوم للمتكلم وإن لم يعلم وقت وجوده عينا فلا يصلح شرطا لأن الشرط ما هو متردد الوجود في المستقبل على ما مر.
"إلا أنه" أي لكنه قد يستعمل في الشرط. مستعارا أي مجازا لما ذكرنا من المناسبة مع قيام معنى الوقت. ولا يقال حينئذ يصير جمعا بين الحقيقة والمجاز. لأنا نقول لا تنافي بينهما في هذه الصورة لأن الوقت يصلح شرطا وعدم جواز الجمع باعتبار التنافي. وإذا ثبت ما ذكرنا كان الطلاق مضافا إلى زمان خال عن الإيقاع وكما سكت وجد ذلك الوقت فتطلق. ثم استدل بالحكم فقال ألا ترى أن من قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس كما لو قال متى فلو كان إذا للشرط لبطلت المشيئة إذا قامت عن المجلس كما لو قال أنت طالق إن شئت بطلت مشيئتها بالقيام عن المجلس فعلم أنه للوقت حقيقة.
"قد يكون حرفا بمعنى الشرط" لأن كونه اسما باعتبار دلالته على الوقت فإذا سقط عنه معنى الوقت عندهم بإرادة معنى الشرط كان حرفا كإن ويجوز أن يكون اللفظ الواحد اسما وحرفا كعن وعلى والكاف ونحوها واحتج الفراء وهو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء لذلك أي لكونه للشرط المحض بقول الشاعر والشعر لواحد من الفضلاء يوصى ابنه وأوله:
أجميل إني كنت كارم قومه ... فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل
أوصيك يا ابني إنني لك ناصح ... طبن بريب الدهر غير مغفل
(2/293)
 
 
وإنما معناه وإن تصبك خصاصة بلا شبهة وإذا ثبت هذان الوجهان في إذا على التعارض أعني معنى الشرط الخالص ومعنى الوقت وقع الشك في وقوع الطلاق فلم يقع بالشك ووقع الشك في انقطاع المشيئة بعد الثبوت فيما استشهد به فلا تبطل بالشك وكذلك إذ.
فأما متى فاسم للوقت المبهم
ـــــــ
الله فاتقه وأوف بنذره ... وإذا حلفت مماريا فتحلل
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
وإذا تجاسر عند عقلك مرة ... أمران فاعمد للأعسف الأجمل
وفي بعض الروايات. أبني إن أباك كارب يومه من كرب الشيء إذا دنا أوصيك إيصاء امرئ لك ناصح طبن بريب الدهر غير معقل من عقلت الإبل أي شددت عقالها والطبن الحاذق يقول إن أباك قريب يوم موته أو كريم قومه فاعمل بنصيحتي فإني بصروف الدهر عالم غير عاقل أو غير ممنوع عن العلم بها. فمن نصائحي أن تعد نفسك غنيا بالغنى وتظهر ذلك ما أغناك الله وإذا أصابتك مسكنة وفقر فتكلف بالصبر على الفعل الجميل أي اصبر صبرا جميلا من غير جزع وشكوى. أو معنى تجمل أظهر الغنى من نفسك بالتجمل والتزين كي لا يقف الناس على حالك. أو معناه كل الجميل وهو الشحم المذاب تعففا. إنما معناه إن تصبك خصاصة بلا شبهة لأن إصابة الخصاصة من الأمور المترددة وكلمة إذا إذا كانت بمعنى الوقت إنما تستعمل في الأمر الكائن أو المنتظر الذي لا ريب فيه عادة أو شرعا نحو مجيء الغد والقيام إلى الصلاة فلو لم تصر كلمة إذا هاهنا بمعنى الشرط وبقي معنى الوقت فيها لما جاز استعمالها في الأمر المتردد بخلاف متى لأنها لا تستعمل في الأمور الكائنة لا محالة فاستعمالها للشرط لا يدل على سقوط معنى الوقت عنها. فإن قيل ينبغي أن تحمل على متى حتى يبقى الوقت فيها معتبرا أو إن جوزي بها كما في متى. قلنا لو فعلنا ذلك يلزم منه ترك خاصيته وهي الدخول في الأمور الكائنة إذا كان بمعنى الوقت كما ذكرنا.
وذكر في بعض الحواشي أن الجزم به ودخول الفاء في جوابه دال على أنه بمعنى إن لكن للخصم أن يقول أنا أسلم أنه قد يجيء بمعنى الشرط إلا أن النزاع في سقوط معنى الوقت عنه وليس في البيت دليل على ذلك ألا ترى أنه لو قيل ومتى تصبك خصاصة فتجمل لاستقام اللفظ والمعنى أيضا من غير سقوط معنى الوقت.
قوله "وكذلك إذا ما" يعني لا يفترق الحال بين دخول ما على إذا وبين عدمه فيما ذكرنا من الأحكام. إلا أن دخول ما تحقق معنى المجازاة باتفاق بين البصريين والكوفيين.
(2/294)
 
 
بلا اختصاص فكان مشاركا لأن في الإبهام فلزم في باب المجازاة وجزم بها مثل إن لكن مع قيام الوقت لأن ذلك حقيقتها فوقع الطلاق بقوله أنت طالق متى لم أطلقك عقيب اليمين وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس وكذلك متى ما وقد سبق تفسير كلما وكذلك من وما يدخلان في هذا الباب لإبهامهما والمسائل فيهما كثيرة خصوصا في من وقد روي عن أبي يوسف ومحمد فيمن
ـــــــ
وما هذه تسمى المسلطة ومعنى المسلطة أن تجعل الكلمة التي لا تعمل فيما بعدها عاملة فيه تقول إذا ما تأتني أكرمك فما هي التي سلطت إذا على الجزم لأنه كان اسما يضاف إلى الجمل غير عامل فجعلته ما حرفا من حروف المجازاة عاملة بمنزلة متى وعند بعضهم ما في إذا صلة كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قوله "وأما متى" إلى آخره متى من الظروف أيضا وهو اسم للوقت المبهم وأنه يتضمن معنى الاستفهام والشرط وكأن المتكلم به في الاستفهام أراد أن يقول أكان ذلك يوم الجمعة أو يوم السبت أو يوم كذا وكذا إلى ما يطول ذكره فأتى بمتى للإيجاز فاشتمل على الأزمنة كلها وهو معنى قوله "هو اسم للوقت المبهم". ولهذا المعنى جعل نائبا عن إن في الشرط إذا كان اللازم في قولك متى تأتني أكرمك أن تقول إن تأتني يوم الجمعة أكرمك وإن تأتني يوم السبت أكرمك إلى حد يوجب الإطالة فجئت بمتى فحصل المقصود والفصل. بين إذا ومتى أن إذا للأمور الواجب وجودها ومتى لم يتوقع بين أن يكون وبين أن لا يكون تقول إذا طلعت الشمس خرجت وإذا أذن للصلاة قمت ولا يصلح في مثل هذا متى وتقول متى تخرج أخرج مع من لا يتيقن بخروجه فتبين بما قلنا إن معنى قوله بلا اختصاص أنه لا يختص وقتا دون وقت فلذلك كان مشاركا لأن في الإبهام لتردد ما دخل عليه متى بين أن يوجد وبين أن لا يوجد كما في كلمة إن. فلزم في باب المجازاة يعني فلهذه المشاركة لزم متى في باب المجازاة أي المجازاة به لازمة يعني في غير موضع الاستفهام مثل إن إلا أن التفاوت بينهما في قيام معنى الوقت وانتفائه. وأما في موضع الاستفهام فإنما لا يستعمل استعمال الشرط لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل فلا يستقيم إضمار حرف إن فوقع الطلاق عقيب اليمين بلا فصل لوجود شرط الحنث وهو الوقت الخالي عن الإيقاع. وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس لأنه باعتبار إبهامه يعم الأزمنة وكذلك متى ما يعني كما عرفت حكم متى في الشرط فكذلك حكم متى ما بل أولى لأنه إذا دخل ما عليه يصيره للجزاء المحض ولا يصلح للاستفهام. ومن وما يدخلان في هذا الباب أي باب الشرط لإبهامهما فإن كل واحد منهما لا يتناول عينا. وتحقيقه أن من وما لإبهامهما دخلا في باب العموم على ما مر فلما كان
(2/295)
 
 
قال أنت طالق لو دخلت الدار أنه بمنزلة قوله إن دخلت الدار لأن فيها معنى
ـــــــ
يؤديان هذا المعنى مع الإيجاز وحصول المقصود نابا مناب إن فقيل من تأتني أكرمه وما تصنع أصنع. والمسائل فيهما كثيرة مثل قوله من شاء من عبيدي عتقه فهو حر. من دخل هذا الحصن فله رأس. ومن دخل منكم الدار فهو حر.
وأما إذا كان للشرط فهو اسم بمعنى أي تقول ما تصنع اصنع وفي التنزيل {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "البقرة 106" {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} "فاطر: 2". ولا يتعلق به من مسائل الفقه شيء ولم يستعمله الفقهاء في الفقه كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قوله "وقد روي عن أبي يوسف" إلى آخره. اعلم أن لو فيه معنى الشرط لأن معناه تعليق إحدى الجملتين المتباينتين بالأخرى على أن يكون الثانية جوابا للأولى كان ولهذا يتعقبه الفعل تحقيقا أو تقديرا. إلا أن لو للماضي تقول جئتني لأكرمتك وهو معنى قولهم لو لامتناع الشيء لعدم غيره لأن الفعل الثاني لما تعلق وقوعه بوجود الأول وامتنع الأول لأن الفعل في الزمان الماضي إذا عدم استحال إيجاده فيه بعد كان الثاني أيضا ممتنعا ضرورة تعلقه به فعلى هذا لو قال لعبده لو دخلت الدار لعتقت ولم يدخل العبد الدار في الزمان الماضي ودخلها بعد كان ينبغي أن لا يعتق لأن معناه لو كنت دخلت الدار أمس لصرت حرا ولا تعلق لهذا الكلام بالمستقبل كما ترى إلا أن الفقهاء علقوا العتق بالدخول الذي يوجد في المستقبل لأن لو لمواخاتها كلمة إن في معنى الشرط يستعمل في الاستقبال كأن يقال لو استقبلت أمرك بالتوبة لكان خيرا لك أي إن استقبلت. وقال تعالى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} "البقرة: 221". أي وإن أعجبكم {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} "التوبة: 32" {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} "التبة: 32". كما أن إن استعمل بمعنى لو قال تعالى إخبارا {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} "اىلمائدة 116". وعليه يخرج ما ذكر في الكتاب أنت طالق لو دخلت الدار فإن الطلاق لا يقع حتى تدخل الدار رواه ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف قال ولو بمنزلة إن كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
وليس فيه ذكر محمد وكذا لم يذكره شمس الأئمة في أصول الفقه وليس في هذه المسألة نص عن أبي حنيفة رحمه الله. وإلى أن هذه المسألة من النوادر أشار الشيخ بقوله وقد روي. وقوله لأن فيها معنى الترقب أي الانتظار معناه إذا كان الفعل الذي بعده بمعنى المستقبل لأنه حينئذ يصير مترددا فيتصور فيه الترقب. ثم اللام تدخل في جواب
(2/296)
 
 
الترقب فعمل عمل الشرط وكذلك قول الرجل أنت طالق لولا صحبتك وما أشبه ذلك غير واقع لما فيه من معنى الشرط وذكر في السير الكبير بابا بناه
ـــــــ
لو لتأكيد ارتباط إحدى الجملتين بالأخرى قال الله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "الأنبياء: 22". ويجوز حذفها كقوله تعالى. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} "الواقعة: 70". ولا تدخل الفاء في جوابه لأن الفاء إنما تدخل في جملة لو كان مكانها الفعل المضارع انجزم وكلمة لولا تعمل في الجزم أصلا لأنها للماضي والجزم يختص بالمضارع على ما عرف ولهذا قال أبو الحسن الأهوازي1 إذا قال لامرأته لو دخلت الدار فأنت طالق يقع الطلاق في الحال كما لو قال إن دخلت الدار وأنت طالق لأن الفاء لا تدخل في جواب لو كما أن الواو لا تدخل في جواب إن قال صاحب كتاب بيان حقائق الحروف هو كما قال الأهوازي أن الفاء لا تدخل في جواب لو عند النجاة بلا خلاف فأما عند الفقهاء فليس كذلك لأني سألت القاضي الإمام أبا عاصم العامري2 عن هذه المسألة فقلت لو أن رجلا قال لامرأته لو دخلت الدار فأنت طالق فقال لا تطلق ما لم تدخل الدار وما سألته عن العلة والعلة فيه أن لو شرط صحيح كان وقد جاء كل واحد منهما بمعنى الآخر كما ذكرنا فيجوز أن يقع موقع أن في جواز دخول الفاء في جوابه. قال ولأن الفقهاء لا يعتبرون الإعراب لأن العامة تخطئ وتصيب فيه ألا ترى أن رجلا لو قال لرجل زنيت بكسر التاء أو لامرأته زنيت بفتح التاء يجب حد القذف في الصورتين لما ذكرنا.
قوله "وكذلك قول الرجل أنت طالق لو صحبتك". لولا لامتناع الشيء لوجود غيره زيدت على لو كلمة لا لتخرجه من امتناع الشيء لامتناع غيره. وتسمى لا هذه المغيرة لمعنى الحرف. ولا يقع بعدها إلا الاسم المتبدأ فإذا قلت لولا زيد كان مرفوعا بالابتداء أو خبره محذوف والتقدير لولا زيد موجود لكان كذا وحذف هذا الخبر حذفا لازما لطول الكلام بالجواب الذي هو قولك لكان كذا ولأن الحال يدل عليه. ويدخل في جوابها اللام للتأكيد أيضا فإذا قال أنت طالق لولا صحبتك أو لولا حسنك أو لولا حبك إياي لا يقع لما فيه من معنى الشرط وهو ربط إحدى الجملتين المتباينتين بالأخرى وامتناع الجزاء وأثر الشرط هو الربط والمنع إلا أن في الشرط الحقيقي يتوقع وقوع الجزاء بوجود الشرط وفي لولا لا توقع للجزاء أصلا لأنه لا يستعمل في المستقبل. ولهذا قالوا إنه بمنزلة الاستثناء نص عليه شمس الأئمة في أصول الفقه لأن الاستثناء وهو قوله إن شاء الله يخرج الكلام عن الإيجاب والاعتبار حتى لا يتعلق به حكم فكذلك هذه الكلمة ألا ترى أنه لو زال حسنها
ـــــــ
1 هو علي بن مهزيار الأهوازي الذورقي أبو الحسن فقيه شيعي أنظر معجم المؤلفين 7/247.
2 هو محمد بن أحمد القاضي أبو عاصم العامري. أنظر الفوائد البهية 160.
(2/297)
 
 
على معرفة الحروف التي ذكرنا آمنوني على عشرة من أهل الحصن قال ذلك رأس الحصن ففعلنا وقع عليه وعلى عشرة غيره والخيار إليه ولو قال آمنوني وعشرة فكذلك إلا أن الخيار إلى إمام المسلمين ولو قال بعشرة فمثل قوله
ـــــــ
أو مات زيد في قوله أنت طالق لولا حسنك أو لولا زيد لا تطلق. وقد روى إبراهيم بن رستم1 عن محمد رحمهما الله في قوله أنت طالق لولا أبوك أو أخوك أو لولا حسنك أنها لا تطلق وهو استثناء. وكذا ذكر أبو الحسن الكرخي في مختصره عن محمد في قوله أنت طالق لولا دخولك الدار أنها لا تطلق ويجعل هذه الكلمة بمنزلة الاستثناء.
قوله "وذكر" أي محمد. في "السير الكبير بابا". إلى آخره. قال شمس الأئمة رحمه الله في شرح السير الكبير إذا حاصر المسلمون حصنا فأشرف عليهم رأس الحصن فقال آمنوني على عشرة من أهل هذا الحصن على أن أفتحه لكم فقالوا لك ذلك ففتح الحصن فهو آمن وعشرة معه لأنه استأمن لنفسه نصا بقول آمنوني والنون والياء يكني بهما المتكلم عن نفسه وكلمة على للشرط في قوله على عشرة وقد شرط أمان عشرة منكرة مع أمان نفسه فعرفنا أن العشرة سواه.
ثم الخيار في تعيين العشرة إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم لأن على للاستعلاء وهو ليس بذي حظ باعتبار أنه داخل في أمانهم فقد استأمن لنفسه بلفظ على حدة وليس بذي حظ باعتبار أنه مباشر لأمانهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون معينا لمن تناوله الأمان منهم باعتبار أن التعيين في المجهول كالإيجاب المتبدأ من وجه.
ولو قال أمنوني وعشرة على أن أفتح لكم فالأمان له ولو عشرة سواه لأن حرف الواو للعطف وإنما يعطف الشيء على غيره لا على نفسه ففي كلامه تنصيص على أن العشرة سواه. فإن لم يكن في الحصن إلا ذلك العدد أو أقل فهم آمنون كلهم لأن الأمان بذكر العدد بمنزلة الأمان لهم بالإشارة إلى أعيانهم. وإن كان أهل الحصن كثيرا فالخيار في تعيين العشرة إلى الإمام لأن المتكلم ما جعل نفسه ذا حظ في أمان العشرة وإنما عطف أمانهم على أمان نفسه فكان الإمام هو الموجب لهم للأمان فإليه التعيين. وإن رأى أن يجعل العشرة من النساء والولدان فله ذلك لأنهم من أهل الحصن إلا أن يكون المتكلم اشترط ذلك من الرجال
ـــــــ
1 هو إبراهيم بن رستم أبو بكر المروزي من فقهاء الحنفية توفي سنة 211ه أنظر معجم المؤلفين 1/31.
(2/298)
 
 
وعشرة ولو قال في عشرة وقع على تسعة سواه والخيار إلى الإمام ولو قال آمنوا لي عشرة على عشرة لا غير ولرأس الحصن أن يدخل نفسه فيهم والخيار فيهم
ـــــــ
ولو قال أمنوني بعشرة من أهل الحصن كان هذا. وقوله وعشرة سواه لأن الباء للإلصاق فقد ألصق أمان العشرة بأمانه وإنما يتحقق ذلك إذا كانت العشرة سواه قال شمس الأئمة رحمه الله ولكن هذا غلط زل به قلم الكاتب والصحيح ما ذكر في بعض النسخ العتيقة أمنوني فعشرة لأن الفاء من حروف العطف وهو يقتضي الوصل والتعقيب فيستقيم عطفه على قوله أمنوني فعشرة فأما الباء فيصحب الأعواض فيكون قوله أمنوني بعشرة بمعنى عشرة أعطيكم من أهل الحصن عوضا عن أماني وهذا لا معنى له في هذا ال