نهاية السول شرح منهاج الوصول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: نهاية السول شرح منهاج الوصول
المؤلف: عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 772هـ)
عدد الأجزاء: 1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب:
الحمد لله الذي مهد أصول شريعته بكتابه القديم الأزلي، وأيد قواعدها بسنة نبيه العربي، وشيد أركانها بالإجماع المعصوم من الشيطان القوي، وأعلى منارها بالاقتباس من القياس الخفي والجلي وأوضح طرائقها بالاجتهاد في الاعتماد على السبب القوي، وشرع للقاصر على مرتبتها استفتاء من هو بها قائم ملي وصلواته وسلامه على سيدنا محمد المبعوث إلى القريب والبعيد والشريف والدني وعلى آله وأصحابه أولي كل فضل سني وقدر علي.
"وبعد" فإن أصول الفقه علم عظيم قدره. وبين شرفه وفخره. إذ هو قاعدة الأحكام الشرعية. وأساس الفتاوى الفرعية. التي بها صلاح المكلفين معاشا ومعادا ثم إن أكثر المشتغلين به في هذا الزمان قد اقتصروا من كتبه على المنهاج للإمام العلامة قاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي رضي الله عنه لكونه صغير الحجم كثير العلم مستعذب اللفظ، وكنت أيضا ممن لازمه درسا وتدريسا فاستخرت الله تعالى في وضع شرح عليه موضح لمعانيه، مفصح عن مبانيه، محرر لأدلته مقرر لأصوله، كاشف عن أستاره، باحث عن أسراره، منبها فيه على أمور أخرى مهمة. "أحدها" ذكر ما يرد عليه من الأسئلة التي لا جواب عنها أو عنها جواب ضعيف. "الثاني" التنبيه على ما وقع فيه من غلط في النقل. "الثالث" تبيين مذهب الشافعي بخصوصه ليعرف الشافعي مذهب إمامه في الأصول، فإن ظفرت بالمسألة فيما وقع لي من كتب الشافعي كالأم1 والأمالي2 والإملاء3 ومختصر المزني4
__________
1 الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي وهذا الكتاب يمثل جماع مذهب الإمام الشافعي وأحكامه النهائية، وصفه الشافعي في مصر إملاء.
2 الأمالي وهو أمالي الإمام الشافعي في الفقه، والأمالي هو جمع إملاء وهو أن يقعد عالم حوله تلامذته بالمحابر والقراطيس فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم ويكتب تلامذته فيصير كتابا، ويسمونه الإملاء والأمالي، كذا كان السلف من الفقهاء والمحدثين وأهل العربية "كشف الظنون: 161".
3 الإملاء هو للإمام الشافعي، وهو في نحو أماليه حجما وقد يتوهم أن الإملاء هو الأمالي وليس كذلك. "كشف الظنون: 169".
4 مختصر المزني في فروع الشافعية وهو أحد الكتب الخمس المشهورة بين الشافعية التي يتدوالونها أكثر تداول وهي سائرة في كل الأمصار، كما ذكره النووي في التهذيب، وهي للشيخ الإمام إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي"264هـ" وهو أول من صنف في مذهب الشافعي "كشف الظنون: 1635".
(1/5)
 
 
ومختصر البويطي1 نقلتها منه بلفظها غالبا مبينا الكتاب الذي هي فيه، ثم الباب، وإن لم أظفر بها في كلامه عزوتها إلى ناقلها عنه. "الرابع" ذكر فائدة القاعدة من فروع مذهبنا في المسائل المحتاجة إلى ذلك. "الخامس" التنبيه على المواضع التي خالف المصنف فيها كلام الإمام أو كلام الآمدي2 أو كلام ابن الحاجب3 فإن كل واحد من هؤلاء قد صار عمدة التصحيح يأخذ به آخذون، فإن اضطراب كلام أحد هؤلاء نبهت عليه أيضا. "السادس" ما ذكره الإمام وابن الحاجب من الفروع الأصولية وأهمله المصنف فأذكره مجردا عن الدليل غالبا. "السابع" التنبيه على كثير مما وقع فيه الشارحون من التقريرات التي ليست مطابقة وقد كنت قصدت التصريح بكل ما ذكروه منها، فرأيت الاشتغال به يطول لكثرته حتى رأيت في بعض شروحه المشهورة ثلاثة مواضع يلي بعضها بعضا؛ فلذلك أضربت على كثير منها فلم أذكره البتة اكتفاء بتقرير الصواب وأشرت إلى كثير منها إشارة لطيفة وصرحت بمواضع كثيرة منها. "الثامن" التنبيه على فوائد أخرى مستحسنة كنقول غريبة وأبحاث نافعة وقواعد مهمة إلى غير ذلك فيما ستراه إن شاء الله تعالى.
واعلم أن المصنف رحمه الله أخذ كتابه من الحاصل4 للفاضل تاج الدين الأرموي، والحاصل أخذه مصنفه من المحصولات للإمام فخر الدين، والمحصول5 استمداده من كتابين لا يكاد يخرج عنهما غالبا أحدهما
__________
1- البويطي: أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، من بويطة وهي قرية من صعيد مصر الأدنى، كان خليفة الشافعي في حلقته بعده "طبقات الشافعية: 1/ 22".
2 الآمدي هو الإمام سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر الآمدي المذكور في الأبكار، المتوفى سنة 316هـ "كشف الظنون: 1857" وله كتب في علم الأصول وغيره من العلوم، منها: منتهى السول في الأصول، وغيره.
3 ابن الحاجب هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين بن الحاجب، فقيه مالكي، من كبار علماء العربية، كردي الأصل ولد في إسنا "من صعيد مصر" ونشأ في القاهرة وسكن دمشق، ومات بالإسكندرية وكان أبوه حاجبا فعرف به، من تصانيفه "الكافية في النحو، والشافعية في الصرف، مختصر الفقه، ومنتهى السول والأمل في الأصول، وغيرها من الكتب، توفي سنة "146هـ". "الأعلام: 2/ 211".
4 الحاصل في مختصر المحصول في الأصول، وهو للقاضي تاج الدين محمد بن حسين الأرموني، المتوفى سنة 656هـ، كما ذكره الإسنوي والسيوطي، "كشف الظنون: 1615".
5 المحصول في أصول الفقه، لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، وهو الإمام المفسر، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل، ولد في الري ونسبته إليها، رحل إلى خوارزم وتوفي في هراة سنة "606هـ" من تصانيفه مفاتيح الغيب في التفسير، والمطالب العالية، ونهاية العقول في دراية الأصول، وكتب أخرى في مختلف العلوم، "كشف الظنون: 1615، والأعلام: 6/ 313".
(1/6)
 
 
المستصفى1 لحجة الإسلام الغزالي، والثاني المعتمد لأبي الحسين البصري2، حتى رأيته ينقل منهما الصفة أو قريبا منها بلفظها وسببه على ما قيل أنه كان يحفظهما، فاعتمدت في شرحي لهذا الكتاب مراجعة هذه الأصول طلبا لإدراك وجه الصواب في المنقول منه والمعقول، وحرصا على إيراد ما فيه على وفق مراد قائله، فإنه ربما خفي المقصود أو تبادر غيره فيتضح بمراجعة أصل من هذه الأصول المذكورة، ولم أترك جهدا في تنقيحه وتحريره، فإنني بحمد الله شعرت فيه خليا من المواقع والعوائق منقطعا عن القواطع والعلائق، فصار هذا الشرح عمدة في الفن عموما، وعمدة في معرفة مذهب الشافعي فيه خصوصا، وعمدة في شرح هذا الكتاب وسعيت سعيي في إيضاح معانيه، وبذلت وسعي في تسهيله لمطالعيه بحيث لا يتعذر فهمه على المبتدئ، ولا يبطئ إدراكه على المنتهي, وسميته: "نهاية السول في شرح منهاج الأصول" وأسأل الله أن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه والناظر فيه وجميع المسلمين بمنه وكرمه آمين.
__________
1 المستصفى في أصول الفقه للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة "505هـ" يقول عن هذا الكتاب: فاقترح علي طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفا في الأصول أطلق العنان فيه بين الترتيب والتحقيق على وجه يقع في الحجم دون تهذيب الأصول، وفوق كتاب المنخول، ورتبناه على مقدمة، وأربعة أقطاب". "كشف الظنون: 1673".
2 المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي الشافعي المتوفى سنة "463هـ"، وهو كتاب كبير ومنه أخذ الفخر الرازي كتاب المحصول "كشف الظنون: 1732".
(1/7)
 
 
تعريفات:
قال: "أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد" أقول: اعلم أنه لا يمكن الخوض في علم من العلوم إلا بعد تصور ذلك العلم، والتصور مستفاد من التعريفات، فلذلك قدم المصنف تعريف أصول الفقه على الكلام في مباحثه، ولا شك أن أصول الفقه لفظ مركب من مضاف ومضاف إليه، فنقل عن معناه الإضافي وهو الأدلة المنسوبة إلى الفقه وجعل لقبا أي علما على الفن الخاص. والفرق بين اللقبي والإضافي من وجهين: "أحدهما" أن اللقبي هو العلم كما سيأتي والإضافي موصل إلى العلم، "الثاني" أن اللقبي لا بد فيه من ثلاثة أشياء: معرفة الدلائل وكيفية الاستفادة وحال المستفيد، وأما الإضافي فهو الدلائل خاصة، ولفظ أصول الفقه مركب على المعنى الإضافي دون اللقبي؛ لأن جزأه لا يدل على جزء معناه، فإذا تقرر ما قلناه، وعلمت أن أصول الفقه في الأصل مركب، فاعلم أن معرفة المركب متوقفة على معرفة مفرداته، فكان ينبغي له أن يذكر تعريف الأصل وتعريف الفقه قبل تعريف أصول الفقه، وكما فعل الإمام في المحصول1 والآمدي في الأحكام وغيرهما مستدلين بما ذكرته من توقف معرفة المركب على معرفة المفردات، فلنذكر
__________
1 انظر المحصول، ص5، جـ1.
(1/7)
 
 
أول تعريفهما ثم نعود إلى شرح كلامه فنقول: الأصل له معنيان: معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح، فأما معناه اللغوي فاختلفوا فيه على عبارات: "إحداها" ما يبنى عليه غيره، قاله أبو الحسين البصري في شرح العمدة، "ثانيتها" المحتاج إليه قاله الإمام في المحصول والمنتخب وتبعه صاحب التحصيل، "ثالثتها" ما يستند تحقق الشيء له، قاله الآمدي في الأحكام ومنتهى السول، "رابعتها" ما منه الشيء, قاله صاحب الحاصل، "خامستها" منشأ الشيء، قال بعضهم: وأقرب هذه الحدود هو الأول والأخير، وأما في الاصطلاح فله أربعة معانٍ: "أحدها" الدليل كقولهم: أصل هذه المسألة الكتاب والسنة أي: دليلهما، ومنه أيضا أصول الفقه، أي: أدلته، "الثاني" الرجحان، كقولهم الأصل في الكلام الحقيقة، أي الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز، "الثالث" القاعدة المستمرة كقولهم إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل، "الرابع" الصورة المقيس عليها على اختلاف مذكور في القياس في تفسير الأصل، وأما الفقه فله أيضا معنيان: لغوي واصطلاحي، فالاصطلاحي سيأتي في كلام المصنف. وأما اللغوي فقال الإمام في المحصول والمنتخب1: هو فهم غرض المتكلم من كلامه، وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع: هو فهم الأشياء الدقيقة، فلا يقال فقهت أن السماء فوقنا. وقال الآمدي: هو الفهم وهذا هو الصواب فقد قال الجوهري2: الفقه الفهم تقول فقهت كلامك بكسر القاف أفقه بفتحها في المضارع أي فهمت أفهم. قال الله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] . وقال تعالى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] وقال تعالى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] إذا علمت ذلك فلنرجع إلى شرح كلام المصنف، فنقول قول معركة كالجنس دخل فيه أصول الفقه وغيره، والفرق بينه وبين العلم من وجهين: "أحدهما" أن العلم يتعلق بالنسب أي وضع لنسبة شيء آخر، ولهذا تعدى إلى مفعولين، بخلاف عرف فإنها وضعت للمفردات، تقول: عرفت زيدا، "الثاني" أن العلم يستدعي سبق جهل بخلاف المعرفة، ولهذا لا يقال لله تعالى عارف ويقال له عالم، وقد نص جماعة من الأصوليين أيضا ومنهم الآمدي في أبكار الأفكار على نحو، فقالوا: إن المعرفة لا تطلق على العلم القديم. وقوله: "دلائل الفقه" هو جمع مضاف، وهو يفيد العموم فيعم الأدلة كمعرفة الفقه ونحوه، "الثاني" معرفة أدلة غير الفقه كأدلة النحو والكلام. "الثالث" معرفة بعض أدلة الفقه كالباب الواحد من أصول
__________
1 منتخب المحصول في الأصول لفخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي الفقيه: "الإيضاح المكنون: 2/ 596".
2 الجوهري هو إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر أول من حاول الطيران، ومات في سبيله، لغوي من الأئمة أشهر كتبه الصحاح له كتاب في العروض، وأصله من فاراب ودخل العراق صغيرا، وسافر إلى الحجاز، فطاف في البادية، وعاد إلى خراسان، ثم أقام في نيسابور، توفي وهو يحاول الطيران عام "393هـ". "الأعلام للزركلي" 1/ 313".
(1/8)
 
 
الفقه فإنه جزء من أصول الفقه ولا يكون أصول الفقه، ولا يسمى العارف به أصوليا لأن بعض الشيء لا يكون نفس الشيء. والمراد بمعرفة الأدلة أن يعرف أن الكتاب والسنة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها, وأن الأمر مثل للوجوب، وليس المراد حفظ الأدلة ولا غيره من المعاني فافهمه. واعلم أن التعبير بالأدلة مخرج لكثير من أصول الفقه كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك، فإن الأصوليين وإن سلموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له، فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع له، ولهذا قال في المحصول أصول الفقه مجموع طرق الفقه، ثم قال: وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات.
قوله "إجمالا" أشار به إلى أن المعتبر في حق الأصولي إنما هو معرفة الأدلة من حيث الإجمالي ككون الإجماع حجة وكون الأمر للوجوب كما بيناه، وفي الحاصل أنه احتراز عن علم الفقه وعلم الخلاف، لأن الفقيه يبحث عن الدلائل من جهة دلالتها على المسألة المعينة، والمناظر أن ينصب كل منهما الدليل على مسألة معينة وفيما قاله نظر، ولم يصرح في المحصول بالمحترز عنه، فإن قيل: إن إجمالا في كلام المصنف لا يجوز أن يكون مفعولا لأنه عرف لا يتعدى إلا إلى واحد وقد جر بالإضافة، ولا تمييزا منقولا من المضاف، ويكون أصله معرفة إجمالا أدلة الفقه لفساد المعنى ولا حالا من المعرفة أو من الدلائل لأنهما مؤنثان، وإجمال مذكر، لا نعتا لمصدر محذوف، أي معرفة إجمالية. لتذكيره أيضا: فالجواب أنه يجوز أن يكون في الأصل مجرورا بالإضافة إلى معرفة تقديره معرفة دلائل الفقه: معرفة إجمالية. أي لا معرفة تفصيل فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية ويجوز أن يكون نعتا لمصدر مذكر محذوف تقديره عرفانا إجماليا، قال الجوهري تقول عرفت معرفة وعرفانا، فهو على هذين الإعرابين يكون الإجمال راجعا إلى المعرفة، وأما عوده إلى الدلائل فهو وإن كان صحيحا من جهة المعنى لكن هذا الإعراب لا يساعده، ويجوز أن يكون حالا، واغتفر فيه التذكير لكنه مصدر، وفي بعض الشروح أن إجمالا منصوب على المصدر أو على التمييز وهو خطأ لما قلناه قوله: "وكيفية الاستفادة منها" هو مجرور بالعطف على دلائل، أي معرفة دلائل الفقه، ومعرفة كيفية استفادة الفقه من تلك الدلائل أي استنباط الأحكام الشرعية منها، وذلك يرجع إلى معرفة شرائط الاستدلال كتقديم النص على الظاهرة والمتواتر على الآحاد ونحوه، كما سيأتي في كتاب التعادل والترجيح، فلا بد من معرفة تعارض الأدلة ومعرفة الأسباب التي يترجح بها بعض الأدلة على بعض، وإنما جعل ذلك من أصول الفقه لأن المقصود من معرفة أدلة الفقه في استنباط الأحكام منها، ولا يمكن الاستنباط منها إلا بعد معرفة التعارض والترجيح لأن دلائل الفقه مفيدة للظن غالبا والمظنونات قابلة للتعارض محتاجة إلى الترجيح فصار من
(1/9)
 
 
معرفة ذلك من أصول الفقه وقوله: "وحال المستفيد" هو مجرور أيضا بالعطف على دلائل أي ومعرفة حال المستفيد وهو طلب حكم الله تعالى فيدخل فيه المقلد والمجتهد كما قال في الحاصل لأن المجتهد يستفيد الأحكام من الأدلة، والمقلد يستفيدها من المجتهد، وإنما كان معرفة تلك الشروط من أصول الفقه، لأنا بينا أن الأدلة قد تكون ظنية وليس من الظن ومدلوله ارتباط عقلي لجواز عدم دلالته عليه، فاحتاج إلى رابط وهو الاجتهاد، فتلخص أن معرفة كل واحد مما ذكر أصل من أصول الفقه، ومجموعها ثلاث فلذلك أتى بلفظ الجمع فقال أصول الفقه معرفة كذا وكذا ولم يقل: أصل الفقه وهذا الحد ذكره صاحب الحاصل فقلده فيه المصنف، وفيه نظر من وجوه: "أحدها" كيف يصح أن يكون أصول الفقه هو معرفة الأدلة مع أن أصول الفقه شيء ثابت سواء وجد العارف به أم لا ولو كان هو المعرفة بالأدلة لكان يلزم من فقدان العارف بأصول الفقه وليس كذلك، ولهذا قال الإمام في المحصول: أصول الفقه مجموع طرق الفقه، ولم يقل معرفة مجموع طرق الفقه، وذكر نحوه في المنتخب أيضا وكذلك صاحب الأحكام وصاحب التحصيل وخالف ابن الحاجب فجعله العلم أيضا، وحاصله أن طائفة جعلوا الأصول هو العلم لا المعلوم. "ثانيها" أن العلم بأصول الفقه ثابت لله تعالى لأنه تعالى عالم بكل شيء، ومن ذلك هذا العلم الخاص، ولا بد من إدخاله في الحد وإلا لزم وجود المحدود بدون الحد لكنه لا يمكن دخوله فيه لأنه حده بقوله: معرفة دلائل الفقه والمعرفة لا تطلق على الله تعالى لأنها لا تستدعي سبق الجهل كما تقدم. "ثالثها" أنه جمع دليلا على دلائل هنا وفي أوائل القياس حيث قال لعموم الدلائل وفي أول الكتاب الخامس حيث قال في دلائل اختلف فيها، وإنما صوابه أدلة قال ابن مالك في شرح الكافية والشافية لم يأت فعائل جمعا لاسم جنس على وزن فعيل فيما أعلم لكنه بمقتضى القياس جائز في العلم المؤنث كسعائد جمع سعيد اسم امرأة، وقد ذكر النحاة لفظين وردا من ذلك ونصبوا على أنهما في غاية القلة أنه لا يقاس عليهما. "رابعها" وهو مبني على مقدمة من أن كل علم له موضوع ومسائل، فموضوعه هو ما يبحث في ذلك العلم عن الأحوال العارضة له، ومسائله هي معرفة تلك الأحوال، فموضوع علم الطب مثلا هو بدون الإنسان لأنه لا يبحث فيه عن الأمراض اللاحقة له، ومسائله هي معرفة تلك الأمراض، والعلم بالموضوع ليس داخلا في حقيقة ذلك العلم كما أوضحناه في بدن الإنسان، وموضوع علم الأصول هو أدلة الفقه لأنه يبحث فيها عن العوارض اللاحقة لها من كونها عامة وخاصة وأمرا ونهيا وهذه الأشياء هي المسائل، وإذا كانت الأدلة هي موضوع هذا العلم فلا تكون من ماهيته، فإن قيل موضوع هذا العلم هو الأدلة الكلية من حيث دلالتها على الأحكام، وأما مسائله فيه معرفة الأدلة باعتبار ما يعرض لها كونها عامة وخاصة وغير ذلك وهذا هو الواقع في الحد، قلنا لا
(1/10)
 
 
نسلم بل الأول أيضا مذكور فإنه المراد بقوله دلائل الفقه كما تقدم. "خامسها" أن هذا الحد ليس بمانع، لأن تصور دلائل الفقه إلخ يصدق عليه أنه معرفة بها أي علم لأن العلم ينقسم إلى تصور وتصديق، ومع ذلك ليس من علم الأصول، فإن الأصول هو العلم التصديقي لا التصويري.
وقال: "والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية" أقول لما كان لفظ الفقه جزءا من تعريف أصول الفقه ولا يمكن معرفة شيء إلا بعد معرفة أجزائه احتاج إلى تعريفه، فقوله العلم جنس دخل فيه سائر العلوم، ولقائل أن يقول: لم قال في حد الأصول معرفة وفي حد الفقه علم، وقد استعمل ابن الحاجب لفظ العلم فيهما وابن برهان في الوجيز لفظ المعرفة هنا، وقوله بالأحكام احترز به عن العلم بالذوات والصفات والأفعال، قاله من الحاصل، ووجه ما قاله أن العلم لا بد له من معلوم، وذلك المعلوم إن لم يكن محتاجا إلى محل يقوم به فهو الجوهر كالجسم، وإن احتاج فإن كان سببا للتأثير في غيره فهو الفعل كالضرب والشتم، وإن لم يكن سببا فإن كان نسبة بين الأفعال والذوات فهو الحكم، وإن لم يكن فهو الصفة كالحمرة والسواد، فلما قيد العلم بالحكم كان مخرجا للثلاثة، لكن في إطلاق خروج الصفات إشكال، وذلك أن الحكم الشرعي خطاب الله تعالى، وخطابه تعالى كلامه، وكلامه صفة من جملة الصفات القائمة بذاته، فيلزم من إخراج الصفات إخراج الفقه وهو المقصود بالحد والباء في قوله بالأحكام، يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف أي العلم المتعلق بالأحكام، والمراد بتعلق العلم بها التصديق بكيفية تعلقها بأفعال المكلفين، كقولنا المساقاة جائزة لا العلم بتصورها، فإنه من مبادئ أصول الفقه فإن الأصولي لا بد أن يتصور الأحكام كما سيأتي، ولا التصديق بثبوتها في أنفسها، ولا التصديق بتعلقها فإنهما من علم الكلام، فإن قيل: الألف واللام في الأحكام لا جائز أن تكون للعهد لأنه ليس لنا شيء معهود يشار إليه، ولا الجنس لأن أقل جمع الجنس ثلاثة، فيلزم منه أن العامي يسمى فقيها إذا عرف ثلاث مسائل بأدلتها لصدق اسم الفقه عليها وليس كذلك، ولا للعموم لأنه يلزم خروج أكثر المجتهدين لأن مالكا من أكابرهم وقد ثبت أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب في أربع، وقال في ست وثلاثين لا أدري، فالجواب التزام كونها للجنس لأن الحد إنما وضع لحقيقة الفقه، ولا يلزم من إطلاق الفقه على ثلاثة أحكام أن يصدق على العارف بها أنه فقه بكسر القاف أي فهم ولا من فقه بفتحها أي سبق غيره إلى الفهم لما تقرر في علم العربية أن قياسه فاقه وظهر أن الفقيه يدل على الفقه وزيادة كونه سجيه، وهذا أخص من مطلق الفقه ولا يلزم من نفي الأعم، فلا يلزم نفي الفقه عند نفي المشتق الذي هو فقه، وهذا من أحسن الأجوبة، وقد احترز الآمدي عن هذا السؤال فقال الفقه العلم بالجملة غالبة من الأحكام وهو احتراز حسن وقوله الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية
(1/11)
 
 
كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وبأن الكل أعظم من الجزء وشبه ذلك كالطب والهندسة وعن العلم بالأحكام اللغوية وهو نسبة أمر إلى الآخر بالإيجاب أن السلب كعلمنا بقيام زيد أو بعدم قيامه، والشرعي هو ما تتوقف معرفته على الشرع، وقوله العملية احترز به عن العلم بالأحكام الشرعية على العملية، وهو أصول الدين كالعلم بكون الإله واحدا سميعا بصيرا، وكذلك أصول الفقه على ما قاله الإمام في المحصول واقتصر عليه، قال لأن العلم يكون الإجماع حجة مثلا ليس علما بكيفية عمل، وتبعه على ذلك صاحب الحاصل وصاحب التحصيل1، وفيه نظر لأن حكم الشرع يكون الإجماع حجة مثلا، معناه أنه إذا وجد فقد وجب عليه العمل بمقتضاه والإفتاء بموجبه، ولا معنى للعمل إلا هذا لأنه نظير العلم، بأن الشخص متى زنى وجب على الإمام حده، وهو من الفقه، لقوله المكتسب احترز به عن علم الله تعالى وعلم ملائكته بالأحكام الشرعية العلمية، وكذلك علم رسوله صلى الله عليه وسلم الحاصل من غير اجتهاد بل بالوحي، وكذلك علمنا بالأمور التي علم بالضرورة كونها من الدين، كوجوب الصلوات الخمس وشبهها، فجميع هذه الأشياء ليس بفقه لأنها غير مكتسبة، هكذا ذكره كثير من الشراح، وما قالوه في غير الله تعالى فيه نظر متوقف على تفسير المراد بالمكتسب، ولا ذكر لهذا القيد في المحصول بأنه للاحتراز عن نحو الخمس كما تقدم ذكره وفيه نظر أيضا فإن أكثر علم الصحابة إنما حصل بسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ضررويا، وحينئذ فيلزم أن يسمى علم الصحابة فقها وأن لا يسموا فقهاء وهو باطل، والأولى أن يقال احترز بالمكتسب عن علم الله تعالى، وبقوله من أدلتها عن علم الملائكة والرسول الحاصل بالوحي، والمكتسب في كلام المصنف مرفوع على الصفة للعلم ولا يصلح جره على الصفة للأحكام، لأن الأحكام مؤنثة والمكتسب مذكر، ولأن علم الله تعالى وعلم المقلد يردان على الحد على هذا التقدير ولا يخرجان بما قالوه، وذلك لأن المعلوم للمقلد مثلا في نفسه مكتسب من أدلة تفصيلية، فإن المصنف لم يشترط ذلك بالنسبة إلى العالم به بل عبر عنه بقول مكتسب، وهو مبني للمفعول فإذا علم المجتهد أن الأخت لها النصف للآية الكريمة أخر به المقلد صدق أن المقلد علم شيئا اكتسبه غيره من دليل تفصيلي، وإذا صدق ذلك صدق بناؤه للمفعول، فيقال علم شيئا مكتسبا من دليل تفصيلي، وهكذا يفعل في علم الله تعالى فإن الباري سبحانه وتعالى عالم بحكم ذلك الحكم، موصوف بأنه مكتسب يعني أن شخصا قد اكتسبه.
وقوله من أدلتها التفصيلية احترز به عن العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية، فإن المقلد إذا علم أن هذا الحكم أفتى به المفتي وعلم أن ما أفتى به المفتي
__________
1 التحصيل في أصول الفقه للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الفقيه الشافعي المتوفى سنة "429هـ"، "كشف الظنون: 359".
(1/12)
 
 
فهو حكم الله تعالى في حقه، علم بالضرورة أن ذلك حكم الله تعالى في حقه، فهذا وأمثاله علم بأحكام شرعية عملية مكتسب لكن لا من أدلة تفصيلية بل من دليل إجمالي، فإن المقلد لم يستدل على كل مسألة بدليل مفصل يخصها بل بدليل واحد يعم جميع المسائل هكذا قاله الإمام في المحصول وغيره وتابعه عليه صاحب الحاصل وصاحب التحصيل، وفي الحد نظر من وجوه: أحدها: أن تعريف الفقه بأنه العلم يقتضي أن يكون أصول الفقه هو أدلة العلم بالأحكام لا أدلة الأحكام نفسها، وهو باطل لأنه قد تقدم أن الأصول معرفة دلائل الفقه لا معرفة دلائل العلم بالفقه ولأن مدلول الدليل هو الحكم لا العلم بالحكم. والثاني أنه لا يخلوا إما أن يريد بالعملية عمل الجوارح أو ما هو أعم منها ومن عمل القلوب. فإن أراد الأول ورد عليه إيجاب النية وتحريم الرياء والحسد وغيرهما فإنها من الفقه بالقلب، ولو قال الفرعية كما قاله الآمدي وابن الحاجب لكان يخلص من الاعتراض. "الثالث أن العام يطلق ويراد به الاعتقاد الجازم المطابق لدليل كما ستقف عليه وهذا هو المصطلح عليه، ويطلق ويراد به ما هو أعم من هذا وهو الشعور فإن أراد الأول لم يحسن الاحتراز عن المقلد بقوله من أدلتها التفصيلية لعدم دخوله في الحد لأن ما عند المقلد يسمى تقليدا لا علما، وإن أراد الثاني لم يرد سؤال القاضي المذكور عقب هذا في قوله: "قيل الفقه من باب الظنون"، الرابع: أن هذا الحديث ليس بمانع لأن تصور الأحكام الشرعية إلخ يصدق عليه أنه علم بها إذ العلم منقسم إلى تصور وتصديق ومع ذلك فليس بفقه بل الفقه العلم التصديقي لا العلم التصوري قال: "قيل الفقه من باب الظنون".
قلنا: "المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى، والعمل به الدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به والظن في طريقه" أقول هذا اعتراف على حد الفقه وأورده القاضي أبو بكر الباقلاني وتقريره موقوف على مقدمة، وهو أن الحكم بأمر على أمر إن كان جازما مطابقا لدليل فهو العلم، كعلمنا بأن الإله واحد، وإن كان جازما مطابقا لغير دليل فهو التقليد كاعتقاد العامي أن الضحى سنة، وإن كان جازمًا غير مطابق فهو الجهل كاعتقاد الكفار ما كفرناهم به، وإن لم يكن جازما نظر إن لم يترجح أحد الطرفين فهو الشك، وإن ترجح فالطرف الراجح ظن المرجوح، وهم، إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تقرير السؤال فنقول الفقه مستفاد من الأدلة السمعية فيكون مظنونا، وذلك لأن الأدلة السمعية إن كان مختلفا فيها كالاستصحاب فهي لا تفيد إلا الظن عند القائل بها، والمتفق عليها بين الأئمة هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فأما القياس فواضح كونه لا يفيد إلا الظن، وأما الإجماع فإن وصل إلينا بالآحاد فكذلك، ووصوله بالتواتر قليل جدا، وبتقديره فقد صحح الإمام في المحصول والآمدي في الأحكام ومنتهى السول أنه ظني، وأما السنة فالآحاد منها لا تفيد إلا الظن، وأما المتواتر فهو كالقرآن متنه قطعي ودلالته ظنية لتوقفه على نفي الاحتمالات
(1/13)
 
 
العشرة، ونفيها ما ثبت إلا بالأصل، والأصل يفيد الظن فقط، وبتقدير أن يكون فيه شيء مقطوع الدلالة فيكون من ضروريات الدين وهو ليس بفقه على ما تقدم في الحدّ، فالفقه إذًا مظنون؛ لكونه مستفادا من الأدلة الظنية, وإذا كان ظنيا فلا يصح أن يقال: الفقه: العلم بالأحكام بل الظن بالأحكام, وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن الفقه ظني, بل هو قطعي لأن المجتهد إذا غلب على ظنه مثلا الانتقاض بالمس، حصل له مقدمة قطعية وهي قولنا: انتقاض الوضوء مظنون، وإلى هذه المقدمة أشار المصنف بقوله: إذا ظن الحكم ولنا مقدمة أخرى قطعية وهي قولنا: كل مظنون يجب العمل به، وأشار إليها بقوله: وجب عليه الفتوى والعمل به, فينتج انتقاض الوضوء يجب العمل به، وهذه النتيجة قطعية؛ لأن المقدمتين قطعيتان: أما الأولى فلأنها وجدانية أي: يقطع بوجود الظن به كما يقطع بجوعه وعطشه، وأما الثانية وهي قولنا: كل مظنون يجب العمل به فهي أيضا قطعية لما قاله المصنف، وهو قوله: الدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، ولم يبين الإمام ولا مختصرو كلامه ما أرادوه بالدليل القاطع، وقد اختلف الشارحون فيه فقال بعضهم: هو الإجماع, فإن الأئمة قد أجمعوا على أن كل مجتهد يجب عليه العمل والإفتاء بما ظنه وفيه نظر، فإن الإجماع ظن كما تقدم، وقال بعضهم: هو الدليل العقلي، وذلك أن الظن هو الظرف الراجح من الاحتمالات كما قررناه، فيكون الطرف المقابل له مرجوحا، وحينئذ فإما أن يعمل بكل واحد من الطرفين فيلزم اجتماع النقيضين، أو يترك العمل بكل منها فيلزم ارتفاع النقيضين، أو يعمل بالطرف المرجوح وحده وهو خلاف صريح العقل, فتعين العمل بالطرف الراجح وفيه نظر أيضا, فإنه إنما يجب العمل به أو بنقيضه إذا ثبت بدليل قاطع أن كل فعل يجب أن يتعلق به حكم شرعي، وليس كذلك، فيجوز أن يكون عدم وجوبه بسبب عدم الحكم الشرعي فيبقى الفعل على البراءة الأصلية كحاله قبل الاجتهاد, وكحاله عند الشك.
قوله: "والظن في طريقه" أشار بذلك إلى الظن الواقع في المقدمتين, حيث قلنا: هذا مظنون, وكل مظنون يجب العمل به، فإنه قد وقع التصريح بالظن في محمول الصغرى وموضوع الكبرى, فكيف تكون المقدمتان قطعيتين مع التصريح بالظن؟ فأجاب عن ذلك بأن المعتبر في كون المقدمة قطعية أو ظنية إنما هو بالنسبة الحاصلة فيها، فإن كانت قطعية كانت المقدمة قطعية، وإن كانت ظنية كانت المقدمة ظنية، سواء كان الطرفان قطعيين أو ظنيين، أو كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، ولا شك أن النسبة الحاصلة من الأول هو وجود الظن, وبالنسبة الحاصلة من الثانية هو وجوب العمل به، وكلاهما قطعي كما بيناه، فلا يضر مع ذلك وقوع الظن فيها؛ لأنه واقع في الطريق الموصل إلى النسبة التي توصل إلى الحكم, فإن مقدمتي القياس وجميع أجزائها طريق موصل إلى الحكم، فتخلص حينئذ أن الفقه كله مقطوع به بهذا العمل، وبهذا قال أكثر الأصوليين، كما قاله القرافي في شرح المحصول، وفي التقرير المذكور
(1/14)
 
 
لكونه مقطوعًا به, نظر من وجوه: "أحدها" أن المقدمات لا بد من بقاء مدلولها حال الإنتاج ضرورة ومدلول الصغرى أنه غالب على ظن المجتهد فيسجل أن يكون ذلك الحكم في ذلك الوقت معلوما أيضا لاستحالة اجتماع النقيضين. "الثاني" أنه أقام الدليل على القطع بوجوب العمل بما غلب على ظن المجتهد, وهو غير المطلوب؛ لأنه لا يلزم من القطع بوجوب العملي بما غلب على الظن حصول القطع بالحكم الغالب على الظن والنزاع فيه لا في الأول، فإن قيل: المراد وجوب العمل، قلنا: لا يستقيم؛ لأنه يؤدي إلى فساد الحد؛ لأنه قوله في الحد وهو العلم بالأحكام, لا يدل على العلم بوجوب العمل بالأحكام, لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، ولأن العلم بوجوب العمل بالأحكام مستفاد من الأدلة الإجمالية، والفقه مستفاد من الأدلة التفصيلية، ولأن تفسير الفقه بالعلم بوجوب العمل يقتضي انحصار الفقه في الوجوب, وليس كذلك. "الثالث" أن ما ذكره وإن دل على أن الحكم مقطوع به, لكن لا يدل على أنه معلوم؛ لأن القطع أعم من العلم، إذ المقلد قطع وليس بعالم، وكل عالم قاطع ولا ينعكس، والمدعي هو الثاني وهو كون الفقه معلوما, وما أقام الدلالة عليه بل على القاطع.
قال: "ودليله المتفق عليه بين الأئمة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا بد للأصولي من تصور الأحكام الشرعية ليتمكن من إثباتها, ونفيها لا جرم رتبناه على مقدمة, وسبعة كتب".
أما المقدمة, ففي الأحكام ومتعلقاتها "وفيها بابان" أقول: أدلة الفقه تنقسم إلى متفق عليها بين الأئمة والأربعة وإلى مختلف فيها، فالمتفق عليها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما عدا ذلك كالاستصحاب والمصالح المرسلة والاستحسان وقياس العكس والأخذ بالأقل وغيرها مما سيأتي فمختلف فيه بينهم، ثم لما كان المقصود من هذه الأدلة هو استنباط الأحكام بالإثبات تارة وبالنفي أخرى كحكمه على الأمر بأنه للوجوب لا للندب, وعلى النهي بأن للتحريم لا للكراهة، والحكم على الشيء بالنفي والإثبات فرع عن تصوره, احتاج الأصولي إلى تصور الأحكام الخمسة، وهي: الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، وتصورها بأن يعرفها بالحد أو بالرسم كما سيأتي، ثم إن المصنف رتب هذا الكتاب على مقدمة وسبعة كتب, فأشار بقوله: "لا جرم رتبناه" إلى وجه ذلك وتقريره: أن أصول الفقه -كما تقدم- عبارة عن المعارف الثلاث: معرفة دلائل الفقه الإجمالية ومعرفة كيفية الاستفادة منها ومعرفة حال المستفيد؛ فأما دلائل الفقه فعقد لها خمسة كتب منها أربعة للأربعة المتفق عليها بين الأئمة, والخامس للمختلف فيها، وأما كيفية الاستفادة وهي الاستنباط فعقد لها الكتاب السادس في التعادل والترجيح، وأما حال المستفيد فعقد له للكتاب السابع في الاجتهاد، هذا بيان الاحتياج إلى الكتب السبعة، وقدم الكتب الستة التي في الدلالة والترجيح على كتاب الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد يتوقف على الأدلة وترجيح بعضها على
(1/15)
 
 
بعض، وقدم الكتب الخمسة المعقودة للأدلة على كتاب الترجيح؛ لأن الترجيح من صفات الأدلة فهو متأخر عنها قطعا، وقدم الكتب الأربعة التي هي في الأدلة المتفق عليها على الكتاب المعقود للأدلة المختلف فيها لقوة المتفق عليه، وقدم الكتاب والسنة والإجماع على القياس؛ لأن القياس فرع عنها، وقدم الكتاب والسنة على الإجماع لأنه فرع عنهما، وقدم الكتاب على السنة لأن الكتاب أصلها، وأما وجه الاحتياج إلى المقدمة فهو ما تقدم من أن الحكم بالإثبات والنفي موقوف على التصور، فلأجل ذلك احتاج قبل الخوض في أصول الفقه إلى مقدمة معقودة للأحكام ولمتعلقات الأحكام وهي أفعال المكلفين، فإن الحكم متعلق بفعل المكلف، وجعل المقدمة مشتملة على بابين: الأول في الحكم، والثاني فيما لا بد للحكم منه, وذكر في الباب الأول ثلاثة فصول: الأول في تعريف الحكم, والثاني في أقسامه, والثالث في أحكامه، وذكر في الباب الثاني ثلاثة فصول: الأول في الحاكم، والثاني في المحكوم عليه، والثالث في المحكوم به. واعلم أن حصر الكتاب فيما ذكره يلزم منه أن يكون تعريف الأصول والفقه، وما ذكر بعدهما من السؤال والجواب ليس من هذا الكتاب؛ لأنه لم يدخل في المقدمة ولا في الكتب، إلا أن يقال: الضمير في قوله: رتبناه, عائد إلى العلم لا الكتاب وفيه بعد وقوله: "المتفق عليه بين الأئمة" أشار به إلى أن المخالفين في هذه الأربعة ليسوا بأئمة يعتبر كلامهم، فلا عبرة بمخالفة الروافض في الإجماع، ولا بمخالفة النظام في القياس, ولا بمخالفة الدهرية في الكتاب والسنة على ما نقله عنهم ابن برهان في أول الوجيز وغيره، وقوله: "لا جرم رتبناه" أي: لأجل أن الأصول عبارة عن المعارف الثلاث كما تقدم بسطه، ولأجل أن التصور لا بد منه رتبناه على كذا وكذا، وهذا الترتيب فاسد، وصوابه: أنا رتبناه بزيادة أن كما وقع في القرآن, وذلك أن جرم فعل قال سيبويه: بمعنى حقا، والفراء وغيره بمعنى: ثبت، والذي بعدها هو فاعلها، ورتبناه لا تصلح للفاعلية؛ لأنه فعل ليس معه حرف مصدري. وقوله: "على مقدمة" المراد بالمقدمة ما تتوقف عليها المباحث الآتية، قال الجوهري في الصحاح: مقدمة الجيش -بكسر الدال: أوله، ثم قال: وفي مؤخرة الرجل وقادمته لغات، منها: مقدمة بفتح الدال شددة فيجوز هنا الوجهان؛ نظرا إلى هذين المعنيين.
(1/16)
 
 
الباب الأول في الحكم:
الفصل الأول: تعريفه
الحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء, أو التخيير.
قال: "الباب الأول في الحكم وفيه فصول, الأول وفي تعريفه: الحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء, أو التخيير" أقول: يقال: خاطب زيد عمرًا يخاطبه خطابا ومخاطبة أي: وجه اللفظ المفيد إليه، وهو بحيث يسمعه فالخطاب هو التوجيه, وخطاب الله تعالى توجيه ما أفاد إلى المستمع أو من في حكمه, لكن مرادهم هنا بخطاب الله تعالى هو ما أفاد وهو الكلام النفساني؛ لأنه الحكم الشرعي لا توجيه ما أفاد؛ لأن التوجيه ليس بحكم، فأطلق المصدر وأريد ما خوطب به على سبيل المجاز، من باب إطلاق المصدر على سم المفعول، فالخطاب جنس، وبإضافته إلى
(1/16)
 
 
الله تعالى خرج عنه الملائكة والجن والإنس، وهذا التقييد لا ذكر له في المحصول ولا في المنتخب ولا في التحصيل، نعم ذكره صاحب الحاصل فتبعه عليه المصنف وهو الصواب؛ لأن قول القائل لغيره: أفعل ليس بحكم شرعي مع أن الحد صادق عليه، قيل: إن هذا الحد صحيح من هذا الوجه, لكن يرد عليه أحكام كثيرة ثابتة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وبفعله وبالإجماع وبالقياس، وقد أخرجها بقوله: خطاب الله تعالى، فالجواب: أن الحكم هو خطاب الله تعالى مطلقا وهذه الأربع المعرفات له لا مثبتات، واختلفوا: هل يصدق اسم الخطاب على الكلام في الأزل؟ على مذهبين حكاهما ابن الحاجب من غير ترجيح. قال الآمدي في مسألة أمر المعدوم الحق: إنه لا يسمى بذلك, ووجهه أن الخطاب والمخاطبة في اللغة لا يكون إلا من مخاطِب ومخاطَب بخلاف الكلام، فإنه قد يقوم بذاته طلب التعلم من ابن سيولد كما ستعرفه، وعلى هذا فلا يسمى خطابا إلا إذا عبر عنه بالأصوات بحيث يقع خطابا لموجود قابل للفهم، وكلام المصنف يوافق القائل بالإطلاق؛ لأنه فسر الحكم بالخطاب والحكم قديم فلو كان الخطاب حادثا للزم تفسير القديم بالحادث وهو محال. وقوله: "المتعلق بأفعال المكلفين" احترز به عن المتعلق بذاته الكريمة كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] المتعلق بالجماعات كقوله تعالى: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 10] فإنه خطاب من الله تعالى ومع ذلك ليس بحكم لعدم الأحكام في الأزل أنها متعلقة مجازا؛ لأنها تئول إلى التعلق وقد قال الغزالي في مقدمة المستصفى: إنه يجوز دخول المجاز والمشترك في الحد إذا كان السياق مرشدا إلى المراد، فإن قيل: تقييده المتعلق بالفعل يخرج المتعلق بالاعتقاد كأصول الدين وبالأقوال كتحريم الغيبة والنميمة، ويخرج أيضا وجوب النية وشبهها مع أن الجميع أحكام شرعية، قلنا: يمكن حمل الفعل على ما يصدر من المكلف وهو أعم، وأجاب بعضهم عن أصول الدين بأن المحدود هو الحكم الشرعي الذي هو فقه لا مطلق الحكم الشرعي، فإن أصول الفقه لا يتكلم فيها إلا الحكم الشرعي الذي هو فقه. وقوله: "بالاقتضاء أو التخيير" الاقتضاء هو الطلب، وهو ينقسم إلى: طلب فعل وطلب ترك، وأما التخيير فهو الإباحة، فدخلت الأحكام الخمسة في هذين اللفظين واحترز بذلك عن الخبر إن كان جازما فهو الإيجاب وإلا فهو الندب، وطلب الترك إن كان جازما فهو التحريم، وإلا فهو الكراهة, كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] فإن القيود وجدت فيه مع أنه ليس بحكم شرعي لعدم الطلب والتخيير، وهذا التعريف رسم لأحد. قال الأصفهاني في شرح المحصول: لأن أو مذكورة فيه وليست للشك، بل المراد أن ما وقع على أحد هذه الوجوه, فإنه يكون حكما كما سيأتي، والنوع الواحد يستحيل أن يكون له فصلان على البدل بخلاف الخاصتين على البدل كما تقرر
(1/17)
 
 
في علم المنطق؛ ولهذا المعنى عبر المنصف بقوله الأول في تعريفه ولم يقل في حده؛ لأن التعريف يصدق على الرسم فافهمه، وفي التعريف المذكور نظر من وجوه: أحدها: ما أورده الأصفهاني في شرح المحصول وهو أن الكلام صفة حقيقية من صفات الله تعالى والحكم الشرعي ليس من الصفات الحقيقية, بل من الصفات الإضافية كما هو مقرر في علم الكلام, فامتنع أن يكون الحكم عبارة عن الكلام القديم، فبطل قولهم: الحكم خطاب الله تعالى، الثاني: أن الحكم غير الخطاب الموصوف بل هو دليله؛ لأن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78] ليس نفس وجوب الصلاة بل هو دال عليه. ألا ترى أنهم يقولون: الأمر المطلق يدل على الجوب، والدال غير المدلول، الثالث من الأحكام الشرعية: ما هو متعلق بفعل مكلف واحد كخصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- والحكم بشهادة خزيمة وحده، وإجزاء الأضحية بالعتاق في حق أبي بردة وحده، وذلك كله خارج عن الحد لتقييده بالمكلفين, فإنه جمع محلى بالألف واللام وأقله ثلاثة إن قلنا: لا يعم فلو عبر بالمكلف لصح حمله على الجنس، وقد يجاب بأن الأفعال والمكلفين متعددان، ومقابلة المتعدد بالمتعدد قد تكون باعتبار الجمع بالجمع، أو الآحاد بالآحاد كقولنا: ركب القوم دوابهم، الرابع: أنه يخرج من هذا الحد كثير من الأحكام الشرعية كالصلاة الصبي وصومه وحجه, فإنها صحيحة ويثاب عليها، والصحة حكم شرعي، ومع ذلك فإنها متعلقة بفعل غير مكلف، الخامس: أورده القشواني في التلخيص فقال: إن هذا الحد يلزم منه الدور, فإن المكلف من تعلق به حكم الشرع ولا يعرف الحكم الشرعي إلا بعد معرفة المكلف؛ لأنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلف، ولا يعرف المكلف إلا بعد معرفة الحكم الشرعي؛ لأنه من يطالب بحكم الشرع، وأجاب الأصفهاني في شرح المحصول بأن المراد بالمكلف البالغ العاقل وهما لا يتوقفان على الخطاب فلا دور, وفيه نظر لأنه عناية بالحد، ولأن المكلف من قام بالتكليف وهو الإلزام، ولأنه قد يبلغ ويعقل ولا يكلف لعدم وصول الحكم إليه. قال:
"قالت المعتزلة: خطاب الله تعالى قديم عندكم، والحكم حادث لأنه يوصف به, ويكون صفة العهد, ومعللا به كقولنا: حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق، وأيضا فموجبية الدلوك ومانعية النجاسة وصحة البيع وفساده خارجة عنه، وأيضا فيه الترديد وهو ينافي التحديد" قوله: أوردت المعتزلة على هذا الحد الذي لأصحابنا ثلاثة أسئلة: "أحدها": أن خطاب الله تعالى قديم والحكم حادث وإذا كان أحدهما قديما والآخر حادثا فكيف يصح أن تقولوا: الحكم خطاب الله تعالى؟ فأما قدم الخطاب فلا حاجة إلى دليل عليه؛ لأنكم قائلون به، وذلك لأن خطاب الله تعالى هو كلامه، ومذهبكم أن الكلام قديم، وإلى هذا أشار بقوله: عندكم، وأما حدوث الحكم فالدليل عليه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يوصف بالحدوث كقولنا: حلت المرأة بعدما لم تكن حلالا, فالحل من الأحكام الشرعية وقد وصف بأنه لم يكن وكان, وكل ما لم يكن وكان فهو حادث، وإليه أشار
(1/18)
 
 
بقوله: لأنه يوصف به أي: لأن الحكم يوصف بالحدوث, الثاني: أن الحكم يكون صفة فعل العبد كقولنا: هذا وطء حلال, فالحل حكم شرعي وجعلناه صفة للوطء الذي هو فعل العبد وفعل العبد حادث، وصفه الحادث أولى بالحدوث لأنها إما مقارنة للموصوف أو متأخرة عنه، وإليه أشار بقوله: ويكون صفة لفعل العبد, الثالث: أن الحكم الشرعي يكون معللا بفعل العبد كقولنا: حلت المرأة بالنكاح وحرمت بالطلاق, فالنكاح علة للإباحة الطلاق علة للتحريم، والنكاح والطلاق حادثان؛ لأن النكاح هو الإيجاب والقبول والطلاق قول الزوج: طلقت، وإذا كانا حادثين كان المعلول حادثا بطريق الأول؛ لأن المعلول إما مقارن لعلته أو متأخر عنها، وإليه أشار بقوله: ومعللا به أي: ويكون الحكم معللا به أي: بفعل العبد. "السؤال الثاني": أن هذا الحد غير جامع لأفراد المحدود كلها؛ لأن خطاب الوضع وهو جعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا, خارج عنه؛ لأنه لا طلب فيه ولا تخيير، فمن ذلك موجبية الدلوك وهو كون دلوك الشمس موجبا للصلاة فإنه حكم شرعي؛ لأنا لم نستفدها إلا من الشارع، وكونه موجبا لا طلب فيه ولا تخيير، ودلوك الشمس: زوالها وقيل: غروبها، قاله الجوهري. وقال الآمدي في القياس: إنه طلوعها، ومنها مانعية النجاسة للصلاة والبيع أي: كونها مانعة من الصحة, فإنها حكم شرعي لأنا استنفدنا ذلك من الشارع، وكونها مانعة لا طلب فيه ولا تخيير، ومنها الصحة والفساد أيضا لما قلناه. "السؤال الثالث" وقد أسقطه صاحب التحصيل: أن الحد فيه أو وهي موضوعة للتردد أي: للشك، والمقصود من الحد إنما هو التعريف فيكون الترديد منافيا للتحديد. قال: "قلنا: الحادث التعلق والحكم يتعلق بفعل العبد لا صفته كالقول المتعلق بالمعلومات، والنكاح والطلاق ونحوهما معرفات له كالعالم للصانع والموجبية والمانعية أعلام الحكم لا هو, وإن سألتم فالمعنى بهما اقتضاء الفعل والترك وبالصحة إباحة الانتفاع وبالبطلان حرمته والترديد في أقسام المحدود لا في الحد" أقول: أجاب المصنف عن الاعتراض الأول وهو قولهم: كيف تقولون: إن الحكم هو الخطاب مع أن الخطاب قديم والحكم حادث؟ فقال: لا نسلم أن الحكم حادث بل هو قديم أيضا كالخطاب، وحينئذ فيصح قولنا: الحكم خطاب الله تعالى، أما قولهم في الدليل الأول على حدثه: إن الحكم يوصف بالحدوث، كقولنا: حلت المرأة بعد أن لم تكن فليس كذلك؛ لأن معنى قولنا: الحكم قديم كما قال في المحصول، هو أن الله تعالى قال في الأزل: أذنت لفلان أن يطأ فلانة مثلا, إذا جرى بينهما نكاح وإذا كان هذا معناه, فيكون الحل قديما لكنه لا يتعلق به إلا بوجود القبول والإيجاب، وحينئذ فقولنا: حلت المرأة بعد أن لم تكن معناه تعلق الحل بعد أن لم يكن, فالموصوف بالحدوث إنما هو التعلق وإلى هذا أشار بقوله: قلنا: الحادث التعلق، وأما قولهم في الدليل الثاني على حدوثه: إن الحكم يكون صفة لفعل العبد كقولنا: هذا وطء حلال, فلا نسلم أن هذا صفة. قال في المحصول: لأنه لا معنى لكون الفعل
(1/19)
 
 
حلالا إلا قول الله تعالى: رفعت الحرج عن فاعله، فحكم الله تعالى هو هذا القول وهو متعلق بفعل العبد, ولا يلزم من كون القول متعلقا بشيء أن يكون صفة لذلك الشيء، فإنا إذا قلنا: شريك البارئ معدوم كان هذا القول الوجودي متعلقا بشريك الإله وهو معدوم فلو كان صفة له لكان شريك الإله متصفا بصفة وجودية وهو محال؛ لأن ثبوت الصفة فرع عن ثبوت الموصوف، وإلى هذا أشار بقوله: والحكم متعلق ... إلخ. وأما قولهم في الدليل الثالث: إن الحكم الشرعي يكون معللا بفعل العبد كقولنا: حلت بالنكاح ويلزم من حدوث العلة حدوث المعلول، فلا نسلم أن النكاح والطلاق والبيع والإجارة وغير ذلك من أفعال العباد علل للأحكام الشرعية بل معرفات لها, إذ المراد من العلة في الشرعيات إنما هو المعرف للحكم، ويجوز أن يكون الحادث معرفا للقديم كما أن العالم المعروف للصانع سبحانه وتعالى؛ لأنا نستدل على وجوده به، وللعالم بفتح اللام وهو الخلق والجمع: العوالم قاله الجوهري, وإلى هذا أشار بقوله: النكاح والطلاق.
قوله: "والموجبية والمانعية أعلام" جواب عن الاعتراض الثاني وهو قولهم: إن هذا الحد غير جامع؛ لأنه قد خرج منه هذه الأحكام التي لا اقتضاء فيها ولا تخيير، فقال: لا نسلم أن الموجبية والمانعية من الأحكام بل من العلامات على الأحكام؛ لأن الله تعالى جعل زوال الشمس علامة على وجوب الظهر ووجود النجاسة علامة على بطلان الصلاة وإن سلمنا أنهما من الأحكام فليسا خارجين من الحد؛ لأنه لا معنى لكون الزوال موجبا إلا طلب فعل الصلاة، ولا معنى لكون النجاسة مانعة إلا طلب الترك، ولا نسلم أيضا أن الصحة والبطلان خارجان عن الحد، فإن المعنى بالصحة إباحة الانتفاع، والمعنى بالبطلان حرمته، فاندرجا في قولنا: بالاقتضاء أو التخيير، وإنما عبر في السؤال بالفساد، وفي الجواب بالبطلان إعلاما بالترادف. واعلم أن في موجبية الدلوك ثلاثة أمور, أحدها: وجوب الظهر ولا إشكال في أنه من الأحكام، والثاني: نفس الدلوك وهو زوال الشمس وليس حكما بلا نزاع بل علامة عليه، والثالث: كون الزوال موجبا الشرع وأنه لا معنى للشرعي إلا ذلك، وإذا كان كذلك فكيف يحسن الجواب بأنه علامة على الحكم؟ إنما العلامة هو نفس الزوال وكذلك القول في المانعية، وأما دعواه أن المعنى بهما اقتضاء الفعل والترك فممنوع أيضا؛ لأن الموجبية غير الوجوب والمانعية غير المنع قطعا كما بيناه، وأما دعواه أن الصحة هي الإباحة فينتقض بالمبيع إذا كان الخيار فيه للبائع فإنه صحيح ولا يباح للمشتري الانتفاع به، وأيضا يقال له: صحة العبادات داخلة في أي الأحكام الخمسة، فالصواب ما سلكه ابن الحاجب وهو زيادة قيد آخر في الحد وهو الوضع فيقال: بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. قوله: "والترديد في أقسام المحدود لا في الحد" جواب عن الاعتراض الثالث وهو قولهم: إن في الحد صيغة أو وهي للشك، فقال: لا نسلم وقوع الشك في الحد
(1/20)
 
 
لأن أو ههنا ليست للشك بل هي لأقسام المحدود وهو الحكم، كما تقول: الكلمة: اسم أو فعل أو حرف يدل عليه تعبيركم بالترديد ولا بالتردد, فإن قولنا: تردد في الشيء ترددا يستدعي الشك فيه بخلاف ردد بين الشيئين ترديدا, فإنه لا يستلزمه لصحة استعماله في التقسيم, وفي تعبير المصنف نظر لأنه إن عنى بالترديد ما قلناه فهو واقع في أجزاء الحد ضرورة فكيف يقول: لا في الحد، وإن عنى به الشك فهو منتفٍ عن أقسامه قطعا، ولو اقتصر على قوله: والتردد في أقسام المحدود لاستقام، وقد يجاب عن هذا بأن يقال: المراد بالتردد التقسيم كمما قلناه ولا نسلم أنه واقع في الحد وذلك لأن الترديد إنما هو في أحدهما معين وأحدهما معين أخص من أحدهما مطلقا, فيكون غيره وأحدهما مطلقا هو المعتبر في الحد, ولم يقع فيه ترديد فلا ترديد في الحد, إنما الترديد في الاقتضاء والتخيير اللذين هما من أقسام المحدود الذي هو الحكم, وإلى هذا أشار في المحصول فإنه أجاب عن أصل السؤال بقولنا: قلنا: مرادنا أن كل ما وقع على أحد الوجوه كان حكما.
(1/21)
 
 
الفصل الثاني: تقسيماته
التقسيم الأول:
قال: "الفصل الثاني في تقسيماته، فالأول: الخطاب إن اقتضى الوجود ومنع النقيض فوجوب, وإن لم يمنع لندب وإن اقتضى الترك بمنع النقيض فحرمة وإلا فكراهة, وإن خير فإباحة" أقول: لما فرغ من تعريف الحكم شرع في تقسيماته وهو ينقسم باعتبارات مختلفة إلى تقسيمات ستة، الأول: باعتبار الفصول التي صيرت أقسامه أنواعا خمسة، فقول في تقسيمه أي: في تقسيم الحكم ثم إنه لما قدم أن الحكم هو خطاب الله تعالى ... إلخ صح التقسيم في الخطاب وأن كلامه في تقسيم الحكم وقرن الخطاب بالألف واللام لإفادة المعهود السابق وهو خطاب الله تعالى, وحاصله: أن خطاب الله تعالى قد يكون فيه اقتضاء، وقد يكون فيه تخيير كما تقدم، فإن اقتضى شيئا نظر إن اقتضى وجوب الفعل ومنع من نقيضه وهو الترك، فإنه الوجوب وإن اقتضى الوجود ولم يمنع من الترك فهو الندب، وإن اقتضى الفعل ومنع من نقيضه وهو الإتيان به فهو الحرمة, وإن اقتضى الترك لكن لم يمنع من الإتيان به الكراهة، وإن كان الخطاب لا يقتضي شيئا بل خيرنا بين الإتيان والترك فهو الإباحة، وهذا التقسيم يعلم منه الحدود, فالإيجاب مثلا طلب الفعل مع المنع من الترك، وأمثلة الباقي لا تخفى وهو تقسيم محدد لا إيراد عليه لكن تعبير المصنف بالوجوب والحرمة لا يستقيم بل الصواب الإيجاب والتحريم؛ لأن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى كما تقدم, والخطاب إنما يصدق على الإيجاب والتحريم لا على الوجوب والحرمة؛ لأنهما مصدر وجب وحرم, والإيجاب والتحريم مصدران لأوجب وحرم بتشديد الراء, فمدلول خاطبنا الله تعالى بالصلاة مثلا هو أوجبها علينا وليس مدلوله وجبت، نعم إذا أوجبها فقد وجبت وجوبا قال: "ويرسم الواجب بأنه الذي يذم شرعا تاركه قصدا مطلقا, ويرادفه الفرض وقالت الحنفية: الفرض ما ثبت بقطعي والواجب بظني".
(1/21)
 
 
أقول: المعرفات للماهية خمسة: الحد التام, والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ أشهر منه، فالحد التام هو التعريف بالجنس، والفصل، كقولنا في الإنسان: إنه الحيوان الناطق، والحد الناقص كالتعريف بالفصل وحده كقولنا: الناطق, والرسم التام هو التعريف بالجنس والخاصة كقولنا: الإنسان حيوان ضاحك، أو كاتب فالضحك معنى خاص بالإنسان والتبديل باللفظ الأشهر كقولنا: البر هو القمح، إذا علمت ذلك فالأحكام الخمسة لها حدود ورسوم فالتقسيم السابق، ذكره المصنف لمعرفة حدودها كما تقدمت الإشارة إليه، ثم شرع الآن في التعريف بالخواص فلذلك قال: ويرسم ولكنه لم يرسم نفس الأحكام، بل رسم الأفعال التي تعلقت بها هذه الأحكام، فإن الفعل الذي تعلق به الوجوب هو الواجب، والذي تعلق به الندب هو المندوب، والذي تعلق به التحريم هو الحرام، والذي تعلقت به الكراهة هو المكروه، والذي تعلقت به الإباحة هو المباح، وهذا الرسم نقله في المحصول عن اختيار القاضي أبي بكر، ولم يصرح باختياره, نعم صرح بذلك في المنتخب فقال: إنه الصحيح من الرسوم لكن فيه تغيير ستعرفه، فقوله: الذي يذم أي: الفعل الذي يذم فالفعل جنس للخمسة، وقوله: يذم احترز عن المندوب والمكروه والمباح لأنه لا ذم فيها، قال في المحصول تبعا للغزالي في المستصفى: وهو خير من قولنا: يعاقب تاركه لجواز العفو ومن قولنا: يتوعد بالعقاب على تركه؛ لأن الحلف في خبره محال فيلزم أن لا يوجد العفو ومن قولنا: لا يخالف العقاب على تركه؛ لأن المشكوك في وجوبه غير واجب مع وجوب الخوف والمراد بقولنا: يذم تاركه أن يرد في كتاب الله تعالى، أو في سنة رسوله، أو إجماع الأمة ما يدل على أنه بحالة لو تركه لكان مستنقصا وملوما بحيث ينتهي الاستنقاص واللوم إلى حد يصلح لترتب العقاب، وقوله: شرعا قال في المحصول: هو إشارة إلى أن الذم عندنا لا يثبت إلا بالشرع على خلاف ما قاله المعتزلة، وقوله: تاركه احتراز عن الحرام فإنه يذم شرعا فاعله لا قوله قصدا، فيه تقريران موقوفان على مقدمة وهي أن هذا التعريف إنما هو بالحيثية أي: هو الذي بحيث لو ترك للذم تاركه إذ لو لم يكن قيد الحيثية لاقتضى أن كل واجب لا بد من حصول الذم على تركه وحصول الذم على تركه موقوف على تركه, فيلزم من ذلك أن الترك لا بد منه وهو باطل. إذا عرفت ذلك فأحد التقريرين أنه إنما أتى بالقصد؛ لأنه شرط لصدق هذه الحيثية إذ التارك لا على سبيل القصد لا يذم, والثاني أنه احترز به عما إذا مضى من الوقت مقدار يتمكن فيه من إيقاع الصلاة ثم تركها بنوم أو نسيان أو موت, فإن هذه الصلاة واجبة لأن الصلاة تجب عندنا بأول الوقت وجوبا موسعا بشرط الإمكان كما سيأتي في الواجب للوسع, وقد تمكن ومع ذلك لم يذم شرعا تاركها؛ لأنه ما تركها قصدا فأتى بهذا القيد لإدخال هذا الواجب في الحد ويصير به جامعا، ولا ذكر له في المحصول والمنتخب ولا في التحصيل
(1/22)
 
 
والحاصل، وقوله: مطلقا فيه أيضا تقريران موقوفان أيضا على مقدمة, وهي أن الإيجاب باعتبار الفاعل قد يكون على الكفاية كالجنازة, وقد يكون على العين كالصلوات الخمس, وباعتبار المفعول قد يكون مخيرا كخصال الكفارة, وقد يكون محتما كالصلاة أيضا، وباعتبار الوقت المفعول فيه قد يكون موسعا كالصلاة، وقد يكون مضيقا كالصوم، فإذا ترك الصلاة في أول وقتها صدق أنه ترك واجبا إذ الصلاة تجب بأول الوقت، ومع ذلك لا يذم عليها إذ أتى بها في أثناء الوقت ويذم إذا أخرجها عن جميع الوقت إذا ترك إحدى خصال الكفارة, فقد ترك ما يصدق عليه أنه واجب، مع أنه لا ذم فيه إذا أتى بغيره، وإذا ترك صلاة الجنازة فقد ترك ما هو واجب عليه؛ لأن فرض الكفاية يتعلق بالجميع ولا يذم عليه إذا فعله غيره، بخلاف تارك إحدى الصلوات الخمس فإنه مذموم سواء وافقه غيره أم لا إذا عرف بذلك, فنعود إلى ذكر التقريرين أحدهما: أن قوله: مطلقا عائد إلى الذم وذلك لأنه قد تلخص أن الذم على الواجب الموسع، والواجب المخير، والواجب على الكفاية من وجه دون وجه، والذم على الواجب المضيق والمحتم، والواجب على العين من كل وجه؛ فلذلك قال: مطلقا أي: سواء كان الذم من بعض الوجوه أو من كلها, فلو لم يذكر ذلك لقيل له: من ترك صلاة الجنازة مثلا لإتيان غيره بها, فقد ترك واجبا عليه مع أنه لا يذم أو يقال له: الآتي بها آت بالواجب مع أنه لو تركه لم يذم وأنت قد قلت: إن الواجب ما يذم تاركه, فلما ذكر هذا القيد اندفع الاعتراض لأنه وإن كان لا يذم عليه من هذا الوجه فيذم عليه من وجه آخر، وهو ما إذا تركه هو وغيره وبه صار الحد جامعا للواجب الموسع، والواجب المخير، والواجب على الكفاية، وعبر عنه الإمام في المحصول والمنتخب بقوله: على بعض الوجوه، وتبعه صاحب التحصيل، لكن صاحب الحاصل أبدله بقوله: مطلقا فتبعه المصنف وهو أحسن من عبارة الإمام؛ لأن القيود لا بد أن تخرج أضدادها فالتقييد بالبعض يخرج ما يذم تاركه من كل وجه, فيلزم أن يخرج من الحد أكثر الواجبات وهي المضيقة والمحتمة وفروض الأعيان, لا جرم أن في بعض مقطوعا كان أو مظنونا, فالتخصيص تحكم، قال الفنري: وفيه نظر, إذ المظنون لما لم يعلم تقديره علينا، كيف يقال: إنه فرض أي: مقدر علينا؟ والمقطوع لما كان معلوم التقدير كيف يقال: إنه ساقط؟ أقول: الحكم بأنه مقدر علينا لا يتوقف على القطع بل يكتفي فيه الظن، وكون الشيء معلوم التقدير لا ينافي السقوط علينا بمعنى النسخ، ولو على بعض الوجوه بزيادة: ولو. الثاني: أن مطلقا عائد إلى الترك والتقدير: تركا مطلقا ليدخل المخير والموسع وفرض الكفاية, فإنه إذا ترك فرض الكفاية لا يأثم وإن صدق أنه ترك واجبا وكذلك الآتي به آتٍ بالواجب مع أنه لو تركه لم يأثم وإنما يأثم إذا حصل الترك المطلق أي: منه ومن غيره، وهكذا في الواجب المخير والموسع، ودخل فيه أيضا الواجب المحتم، والمضيق, وفروض العين؛ لأن كل ما ذم الشخص عليه إذا تركه وحده ذم
(1/23)
 
 
عليه أيضا إذا تركه هو وغيره.
قوله: "ويرادفه الفرض" أي: الفرض والواجب عندنا مترادفان, وقالت الحنفية: إن ثبت التكليف بدليل قطعي مثل الكتاب والسنة المتواترة فهو الفرض كالصلوات الخمس، وإن ثبت بدليل ظني كخبر الواحد والقياس فهو الواجب, ومثلوه بالتواتر على قاعدتهم، فإن ادعوا أن التفرقة شرعية أو لغوية فليس في اللغة ولا في الشرع ما يقتضيه وإن كانت اصطلاحية فلا مشاحة في الاصطلاح, قال في الحاصل: والنزاع لفظي. قال: "والمندوب ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه, ويسمى سنة ونافلة".
أقول: المندوب في اللغة هو المدعو إليه، قال الجوهري: يقال: ندبه لأمر فانتدب له أي: دعاه له فأجاب قال الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... للنائبات على ما قال براهانا
فسمي النفل بذلك لدعاء الشرع إليه، وأصله المندوب إليه، ثم توسع فيه بحذف حرف الجر فاستكن الضمير، وفي الاصطلاح ما قاله المصنف قوله: "ما يحمد فاعله" أي: الفعل الذي يمدح فاعله, فالفعل جنس وقوله: يمدح خرج به المباح فإنه لا مدح فيه "هو ولا ذم" وقوله: فاعله خرج به الحرام والمكروه فإنه يمدح تاركهما والمارد بالفعل هنا هو الصادر من الشخص ليعم الفعل المعروف، والقول نفسانيا كان أو لسانيا فتدخل الأذكار القلبية اللسانية وغيرها من المندوبات وإلا يكون الحد غير جامع، وقوله: ولا يذم تاركه, خرج به الواجب فإن تاركه يذم, فإن قيل: فرض الكفاية يمدح فاعله ولا يذم تاركه مع أنه فرض, ولهذا احتجنا إلى إدخاله في حد الواجب كما تقدم, وكان ينبغي أن يقول مطلقا، وكذلك أيضا خصال الكفارة والواجب الموسع. قلنا: قوله: ولا يذم كافٍ؛ لأنه للعموم لكونه نكرة في سياق النفي, إذ الأفعال كلها نكرات تعم يدخل في الحد فعل الله تعالى مع أنه ليس مندوبا إلا أن يقال: يحمل الفعل على فعل المكلف وهو عناية في الحد ويسمى المندوب سنة ونافلة, قال في المحصول: ويسمى أيضا مستحبا وتطوعا ومرغبا فيه وإحسانا ومنهم من يبدل هذا بقوله: حسنا قال: "والحرام: ما يذم شرعا فاعله، والمكروه: ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله, والمباح: ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم". أقول: المراد بقوله: ما يذم أي: الفعل الذي يذم فالفعل جنس للأحكام الخمسة وقوله: يذم احترز به عن المكروه والمندوب والمباح, فإنه لا ذم فيها وقوله: شرعا إشارة إلى أن الذم لا يكون إلا بالشرع على خلاف ما قاله المعتزلة. وقوله: فاعله احترز به عن الواجب فإنه يذم تاركه والمراد بالفعل هو الشيء الصادر من الشخص, والفاعل هو المصدر له ليعم الغيبة والنميمة وغيرهما من الأقوال المحرمة، وكذلك الحقد والحسد وغيرهما من الأعمال القلبية ولك أن تقول: هذا الحد يرد عليه الحرام المخير عند من يقول به, وهم الأشاعرة كما نقله عنهم الآمدي وغيره فينبغي أن يقول: مطلقا كما قاله في حد الواجب, قال في المحصول: ويسمى
(1/24)
 
 
الحرام أيضا معصية وذنبا وقبيحا ومزجورا عنه ومتوعدا عليه من الشرع. قوله: "والمكروه: ما يمدح تاركه" أي: فعل يمدح تاركه، فالفعل جنس للأحكام الخمسة قوله: "يمدح" خرج به المباح فإنه لا مدح فيه قوله: "تاركه" خرج به الواجب والمندوب قوله: "ولا يذم فاعله" خرج به الحرام، أما المباح فهو في اللغة عبارة عن الموسع فيه، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف بقوله: ما أي فعل وهو جنس للخمسة وقوله: لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم خرج به الأربعة, فإن كلا منها تعلق بفعله أو تركه مدح أو ذم، فإن الواجب تعلق بفعله المدح، وبتركه الذم, والحرام عكسه والندب تعلق بفعله المدح ولم يتعلق بتركه الذم، والمكروه عكسه أي: تعلق بتركه المدح ولم يتعلق بفعله الذم، وهذه الألفاظ الأربعة التي ذكرها المصنف وهي: الفعل والترك والمدح والذم، بد من كل واحد منها إلا الذم؛ لأنه لو قال: ما لا يتعلق بفعله مدح ولا ذم لكان يرد عليه المكروه, فإن فعله لا مدح فيه ولا ذم، ولو قال: ما يتعلق بتركه مدح ولا ذم لكان يرد عليه المندوب ولو أتى بهما أيضا ولكنه حذف المدح فقال له: ما لا يتعلق بفعله وتركه ذم لكان يرد عليه المكروه والمندوب، وأما الذم فإنه لو حذفه فقال: ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح لما كان يرد عليه شيء، فهي إذًا زيادة في الحد والحدود تصان عن الحشو والتطويل، وأيضا فقد تقدم أن هذه رسوم للأفعال التي تعلقت بها الأحكام الشرعية وتقدم أن تلك الأفعال هي أفعال المكلفين، فيكون المباح قسما من أفعال المكلفين، وعلى هذا فأفعال غير المكلفين كالنائم والساهي، ليست من المباح مع أن الحد صادق عليها فالحد إذًا غير مانع، وأيضا فقد تعرض المصنف بقوله: شرعا في رسمي الواجب والحرام دون رسم المندوب والمكروه والمباح, مع أن المدح على الفعل في المندوب وعلى الترك في المكروه لا يثبت عندنا إلا بالشرع، وكذلك نفي المدح والذم عن المباح، فالصواب ذكرها في الجميع كما فعله صاحب الحاصل والتحصيل، نعم في المحصول كما في المنهاج إلا أنه أشار إليه في المندوب أيضا وقد وقعت هنا أغلاط في عدة من الشروح المشهورة فاجتنبها، قال في المحصول: ويسمى المباح أيضا طلاقا وحلالا.
(1/25)
 
 
التقسيم الثاني:
قال: "الثاني: ما نهي عنه شرعا فقبيح وإلا فحسن, كالواجب والمندوب والمباح وفعل غير المكلف، والمعتزلة قالوا: ما ليس للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله وما له أن يفعله, وربما قالوا: الواقع على صفة توجب الذم أو المدح، فالحسن بتفسيرهم الأخير أخص" أقول: هذا القسم ليس داخلا في المقسم أو لأن المقسم في قوله: الفصل الثاني في تقسيمه إنما هو الحكم، والقبيح والحسن من الأفعال لا من الأحكام, وهو رد التقسيم لا بد أن يكون مشتركا بين أقسامه وأعم منها، وإن شئت قلت: لا بد أن يكون صادقا عليها ومغايرا لها، لا جرم أن صاحب الحاصل قال: الفصل الثاني في تقسيم الأحكام ومتعلقاتها, لكن في المحصول والتحصيل كما في المنهاج، ولعل العذر في
(1/25)
 
 
ذلك أن تقسيم الفعل الذي تعلق به الحكم يستلزم تقسيم الحكم إلى نهي وغيره، وحاصل ما قاله المصنف: أن الفعل إن نهى الشارع عنه فهو القبيح كالمحرم والمكروه, وإن لم ينه عنه فهو الحسن ويندرج فيه أفعال المكلفين كالواجب والمندوب والمباح، وأفعال غيرهم كالساهي والصبي والنائم والبهائم، وكذلك أفعال الله تعالى كما قال في المحصول ومختصراته، وليس في هذه الكتب تصريح بأن المكروه من القبيح أو من الحسن, لكن إطلاقهم النهي يقتضي إلحاقه بالقبيح، ويؤيده أنهم لما عدوا الأشياء التي تضمنها الحسن لم يعدوه منها، وفي كلام المصنف نظر من وجهين، أحدهما: أنه قد تقرر أن هذا التقسيم إنما هو في متعلقات الحكم الشرعي، ومتعلقاته هي أفعال الملكفين, كما علم في حد الحكم وحينئذ فيكون قد قسم أفعال المكلفين إلى الحسن والقبيح، ثم قسم الحسن إلى أشياء منها أفعال غير المكلفين, فيلزم أن تكون أفعال المكلفين تنقسم إلى أفعال غير المكلفين وهو معلوم البطلان، الثاني: أن فعل غير المكلف لا يخلو إما أن يكون عنده من قسم المباح أم لا، فإن كان فلا حاجة إلى قوله والمباح وفعل غير المكلف، وإن لم يكن عنده من المباح وهو الذي صرح به غيره فيكون الحد المتقدم للمباح فاسدا، فإنه قد حده بما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم، وفعل غير المكلف يصدق عليه بذلك، والإشكالان كلاهما واردان هنا على الإمام وأتباعه. "قوله: والمعتزلة قالوا" يعني أن المعتزلة خالفوا فقالوا: القبيح هو الفعل الذي ليس للقادر عليه أن يفعله إذا كان عالما بصفته من المفسدة الداعية إلى تركه كالكذب الضار, أو المصلحة الداعية إلى فعله كالصدق النافع, وأما الحسن فهو الفعل الذي للقادر عليه العالم بصفته أن يفعله, وإلى هذا أشار بقوله: "وما له" أي: وما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله فهو الحسن ولكنه اختصر لدلالة ما تقدم عليه، فدخل في حد القبيح الحرام فقط، وفي حد الحسن الواجب والمندوب والمكروه والمباح وفعل الله تعالى، وقد علم من هذا أنه إذا لم يكن الفعل مقدورا عليه كالعاجز عن الشيء والملجأ إليه فإنه لا يوصف عندهم بحسن ولا قبح، وكذلك ما لم يعلم حاله كفعل الساهي والنائم والبهائم. قوله: "وربما قالوا" أي وربما ذكرت المعتزلة عبارة أخرى في حد القبيح والحسن, فقالوا: القبيح هو الفعل الواقع على صفة توجب الذم، والحسن هو الفعل الواقع على صفة توجب المدح، فدخل في حد القبيح الحرام فقط، وفي حد الحسن الواجب والمندوب دون المكروه والمباح, إذ لا مدح في فعلهما مع أنهما قد دخلا في حدهم الأول للحسن؛ لأن القادر عليهما له أن يفعلهما فتلخص أن الحسن بتفسير المعتزلة ثانيا أخص منه بتفسيرهم أولا, وذلك لأن كل ما كان واقعا على صفة توجب المدح فللقادر عليه العالم بحاله أن يفعله, ولا ينعكس بدليل المكروه والمباح، وأما القبيح فحدهم الأول مساوٍ لحدهم الثاني، وهذا التقرير اعتمده فإن طائفة من الشارحين قد قررته على غير الصواب.
(1/26)
 
 
التقسيم الثالث:
قال: "الثالث قبل الحكم إما سبب أو مسبب, كجعل الزنا سببا لإيجاب الجلد على الزاني, فإن أريد بالسببية الإعلام فحق وتسميتها حكما بحث لفظي, وإن أريد التأثير فباطل لأن الحادث لا يؤثر في القديم، ولأنه مبني على أن للفعل جهات توجب الحسن والقبح وهو باطل". أقول: هذا تقسيم ثالث للحكم باعتباره صفة عارضة هو كونه علة ومعلولا، واختلف الناس في القائل بهذا التقسيم فنقله الأصفهاني في شرح المحصول عن الأشاعرة، وهو مقتضى كلام صاحب الحاصل، فإن عبارته: قال الأصحاب, ولعل القائل به منهم هو الغزالي وغيره ممن يرى أن الأسباب الشرعية مؤثرات بجعل الشارع، وقال الأيجي شارح الكتاب: إن هذا التقسيم للمعتزلة ولعله الأقرب, فإنه قد تقدم نقله عنهم في الاعتراضات على حد الحكم، ولعل المصنف استشعر هذا الاختلاف فبناه للمفعول فقال قبل الحكم، وعبارة المحصول والتحصيل قالوا: الحكم، وحاصله أن طائفة قالوا: إن الحكم كما يرد بالاقتضاء أو التخيير قد يرد بجعل الشيء سببا وشرطا ومانعا، ومثلوه بالزاني فقالوا: لله تعالى في الزاني حكمان, أحدهما: جعل الزنا سببا لإيجاب الحد وهذا حكم شرعي لأنه مستفاد من الشرع من حيث إن الزنا لا يوجب الحد لعينه, بل يجعل للشرع فهو حكم سببي، والثاني: إيجاب الحد عليه وهو الحكم المسبب، إذا تقرر هذا فاعلم أن تقسيم المصنف لا يستقيم فإنه قسم الحكم إلى سبب ومسبب، والسبب هو نفس الزنا، وقد صرح به هو حيث قال: كجعل الزنا سببا، فإن ذلك تصريح بشيئين أحدهما: أن الزنا سبب، والثاني: أن جاعله كذلك هو الله تعالى، وإذا كان السبب هو الزنا فلا يمكن جعله من الأحكام بل الذي يمكن جعله منها وهو الذي ذكره صاحب هذا التقسيم إنما هو الجعل نفسه وصوابه أن يقول: إما سببي أو مسبب، وقد صرح به صاحب الحاصل فقال: السببية من أحكام الشرع.
قوله: "فإن أريد بالسببية" أي: يجعل الشرع الزنا سببا لإيجاب الحد هو كونه إعلاما ومعرفا له فهو حق لا نزاع فيه، فإنه يجوز أن يقول الشارع: متى رأيت إنسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد، لكن تسمية السببية بالحكم من باب الاصطلاح وهو بحث لفظي؛ لأنه مبني على تفسير الحكم، فمن زاد فيه الوضع فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع فقد جعله حكما شرعيا، ومن حذفه فليس حكما شرعيا عنده، وقد تقدم إيضاحه في حد الحكم. قوله: "وإن أريد التأثير" أي: وإن أريد بالسببية التأثير بمعنى: أن الله تعالى جعل الزنا مؤثرا في إيجاب الحد, فهو باطل من وجهين, أحدهما: أن الزنا حادث وإيجاب الحد قديم والحادث لا يؤثر في القديم؛ لأن تأثيره فيه يستدعي تأخر وجوده عنه أو مقارنته له، الثاني: أن القول بالتأثير مبني على أن الأفعال مشتملة على صفات تكون هي المؤثرة في الحكم وإلا كان تأثير الفعل في القبح دون الحسن ترجيحا بلا مرجح، وهذا هو قول المعتزلة في الحسن والقبح وهو باطل، وفي الأول نظر من وجهين: أحدهما: أن الاحتجاج بقدم الحكم لا يفيد إن كان هذا التقسيم للمعتزلة؛ لأنهم قائلون بحدوث الأحكام، الثاني: ما ذكره في التحصيل وهو أنهم قد يريدون التأثير ولكن يجعلون تأثير الزنا إنما هو في تعلق الحكم لا في نفس الحكم، وهذا كما أجبنا عن قولهم: حلت المرأة بعد أن لم تكن، بأن المراد حدث تعلق الحل والتعلق حادث, فأثر الحادث في أمر حادث.
(1/27)
 
 
التقسيم الرابع:
قال "الرابع": "الصحة: استتباع الغاية وبإزائها البطلان والفساد, وغاية العبادة موافقة الأمر عند المتكلمين وسقوط القضاء عند الفقهاء, فصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة على الأول لا على الثاني، وأبو حنيفة سمى ما لم يشرع بأصله ووصفه كبيع الملاقيح باطلا، وما شرع بأصله دون وصفه كالربا فاسدا".
أقول: هذا تقسيم آخر للحكم باعتبار اجتماع الشروط المعتبرة في الفعل وعدم اجتماعها فيه سواء كان عبادة أو معاملة، فنقول: غاية الشيء هو الأثر المقصود منه كحمل الانتفاع بالمبيع مثلا، فإن ترتيب الغاية على الفعل وتبعته في الوجود كان صحيحا، فاستتباع الغاية هو طلب الفعل لتبعية غايته وترتيب وجودها على وجوده؛ لأن السين للطلب كاستعطى وكأنه جعل الفعل الصحيح طالبا أو مقتضيا لترتب أثره عليه مجازا، ولقائل أن يقول: المبيع قبل القبض صحيح مع أنه لم يترتب عليه حل الانتفاع، وأيضا فالخلع الفاسد والكتابة الفاسدة يترتب عليهما أثرهما, وأيضا فالخلع الفاسد والكتابة الفاسدة يترتب عليهما أثرهما من البينونة والعتق مع أنهما غير صحيحين. قوله: "وبإزائها البطلان والفساد" يعني: أن الفساد والبطلان لفظان مترادفان معناهما كون الشيء لم يستتبع غايته فعلى هذا يكون بإزاء الصحة أي: مقابلان لها يقال: جلس فلان بإزاء فلان وبحذائه أي: مقابله, أشار إلى ذلك الجوهري في الصحاح، واعلم أن دعوى الترادف مطلقا ممنوعة فإن ذلك خاص ببعض أبواب الفقه كالصلاة والبيع، وأما الحج فقد فرقنا فيه بين الفاسد والباطل، وكذلك العارية والكتابة والخلع وغيرها، وقد ذكرت تصوير هذه المسائل، وفائدة الفرق بين الصيغتين مبسوطا في باب الكتابة من التنقيح فيراجع هناك قوله: "وغاية العبادة ... إلخ" لما ذكر أن الصحة استتباع الغاية أراد أن يفسر الغاية, وهي في المعاملات عبارة عن ترتب آثارها عليها. قاله في المحصول، ولم يذكره المصنف هنا اكتفاء بما أشار إليه في أول الكتاب حيث قال: والمعنى بالصحة إباحة الانتفاع وبالبطلان حرمته، وأما الغاية في العبادات يعني صحتها، فقال المتكلمون: موافقة الأمر، وقال الفقهاء: سقوط القضاء، وفائدة الخلاف تظهر فيمن صلى على ظن الطهارة أي: وتبين له أنه محدث فإن صلاته صحيحة على رأي المتكلمين لموافقة الأمر إذ إن الشخص مأمور بأن يصلي بطهارة سواء كانت معلومة أو مظنونة، وفاسدة عند الفقهاء لعدم سقوط القضاء، فإن قيل: إن لم يتبين أنه محدث فواضح أنه لا قضاء عليه، وليس كلامكم فيه، وإن تبين وجب القضاء عند الفقهاء، وعند المتكلمين القائلين بالصحة أيضا كما
(1/28)
 
 
قاله في المحصول فما وجه الخلاف؟ قلنا: الخلاف في إطلاق الاسم، وممن نبه عليه القرافي ويتخرج على الخلاف صلاة فاقد الطهورين, إذ صلى الله عليه وسلم أمرنا بها، وفي تسميتها صحيحة أو باطلة خلاف لأصحاب الشافعي, حكاه الإمام في النهاية قولين والمتولي في كتاب الإيمان من التتمة وجهين، وبنى عليهما لو حلف لا يصلي, لكن تفسير الفقهاء منتقض بصلاته المتيمم في الحضر لعدم الماء والتيمم لشدة البرد وواضع الجبائر على غير طهر وغير ذلك, فإنها صحيحة مع وجوب القضاء. وأيضا فالجمعة توصف بالصحة والإجزاء ولا قضاء لها. وقوله: "وأبو حنيفة سمى ... إلخ" يعني أن الحنفية فرقوا بين الفاسد والباطل فقالوا: إن الباطل هو ما لم يشرع بأصله ولا وصفه كبيع الملاقيح وهو ما في بطون الأمهات, فإن بيع الحمل وحده غير مشروع البتة وليس امتناعه لأمر عارض، والفاسد ما كان أصله مشروعا ولكن امتنع لوصف عارض كبيع الدرهم بالدرهمين فإن الدراهم قابلة للبيع وإنما امتنع لاشتماله أحد الجانبين على الزيادة، وفائدة هذا التفصيل عندهم أن المشتري يملك المبيع في الشراء والفاسد دون الباطل.
"فائدة" قال الجوهري: الملاقيح: ما في بطون الأمهات الواحدة ملقوحة من قولهم: لقحت بضم اللام كالمجنون من جن.
قال: "والإجزاء هو الأداء الكافي لسقوط التعبد به وقيل: سقوط القضاء ورد بأن القضاء حينئذ لم يجب لعدم الموجب فكيف سقط, وبأنكم تعللون سقوط القضاء به والعلة غير المعلول, وإنما يوصف به وبعدمه ما يحتمل الوجهين كالصلاة لا المعرفة بالله تعالى ورد الوديعة". أقول: معنى الإجزاء وعدمه قريب من معنى الصحة والبطلان كما قال في المحصول؛ فلذلك استغنى المصنف عن إفرادهما بتقسيمهما وذكرهما عقب التقسيم المذكور للصحة والبطلان، وبين الإجزاء والصحة فرق وهو أن الصحة أعم لأنها تكون صفة للعبادات والمعاملات وأما الإجزاء فلا يوصف به إلا العبادات, فقوله: الأداء أي: الإتيان من قولهم: أديت الدين أو آتيته, ومنه قوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فيدخل فيه الأداء المصطلح عليه والقضاء والإعادة فرضا كان أو نفلا، وادعى بعض الشارحين أن القضاء والإعادة لا يوصفان بالإجزاء لاعتقاده أن المراد بالأداء هو الأداء المصطلح عليه وهو غلط وقد صرح في المحصول بلفظ الإتيان عوضا عن لفظ الأداء فدل على ما قلناه، لكن المصنف تبع في هذه العبارة صاحب الحاصل وقوله: "الكافي لسقوط التعبد به" أي: لسقوط طلبه وذلك بأن تجتمع فيه الشرائط وتنتفي عنه الموانع, واحترز به عما ليس كذلك، وقال في التحصيل إجزاء للفعل: هو أن يكفي الإتيان به في سقوط التعبد به فجعل الإجزاء هو الاكتفاء بالمأتي لا الإتيان بما يكفي, وهو الصواب لأن الاكتفاء هو مدلول الأجزاء. قال الجوهري في الصحاح: وأجزأني الشيء: كفاني. قوله: "وقيل: سقوط القضاء" يعني أن الفقهاء قالوا
(1/29)
 
 
الإجزاء هو سقوط القضاء وقد سبق نقله في الصحة عنهم، والصواب على هذا القول التعبير بالإسقاط لا بالسقوط, وهي عبارة الحاصل وابن الحاجب، ثم شرع المصنف في إبطاله بوجهين مستغنيا بذلك عن إبطاله في الكلام على حد الصحة, أحدهما وهو الذي أشار إليه بقوله، ورد بأن للقضاء حينئذ له يجب، وتقريره من وجهين: الأول وعليه اقتصر في المحصول والحاصل والتحصيل وغيرها أن القضاء إنما يجب بأمر جديد، فإذا أمر الشارع بعبادة ولم يأمر بقضائها فأتى بها فإنها توصف بالإجزاء مع أن القضاء حينئذ لم يجب لعدم الموجب له وهو الأمر الجديد، وإذا لم يجب لا يقال: سقط لأن السقوط فرع عن الثبوت، التقرير الثاني أن الموجب للقضاء هو خروج الوقت من غير الإتيان بالفعل فإذا أتى بالفعل في الوقت على وجهه, فقد وجد الإجزاء ولم يوجب وجوب القضاء لعدم الموجب له وهو خروج الوقت، وإذا لم يصدق وجوب القضاء لا يقال: سقط؛ لأن سقوط الشيء فرع عن ثبوته. قوله: "وبأنكم تعللون سقوط القضاء به" هذا هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين أبطل بهما تفسير الإجزاء بسقوط القضاء، وتقريره أنكم أيها الفقهاء تعللون سقوط القضاء بالإجزاء فتقولون: هذا سقط قضاؤه؛ لأنه أجزأ والعلة غير المعلول فيكون الإجزاء غير السقوط، فكيف تقولون: إنه هو، ولقائل أن يقول: لا يلزم من كونه علة أن لا يصح التعريف به؛ لأن هذا التعريف رسمي، والرسم يكون باللازم للماهية, واللازم غير الملزوم, واعلم أن الإمام في المحصول والمنتخب استدل بهذا الدليل على العكس مما قاله المصنف فقال: ولأنا نعلل وجوب القضاء بعدم الإجزاء والعلة غير المعلول فيكون وجوب القضاء مغايرا لعدم الإجزاء، وتبعه على ذلك في التحصيل، وما قاله المصنف أولى لأن دعوى الفقهاء اتحاد الإجزاء وسقوط القضاء وهو إنما يثبت المغايرة بين القضاء وعدم الإجزاء, فأثبت المغايرة في غير موضع دعوى الاتحاد لكن المقصود أيضا يحصل؛ لأن دعوى اتحاد الإجزاء وعدم القضاء يلزمها اتحاد عدم الإجزاء والقضاء، وقد أبطل اللازم بإثبات المغايرة بين عدم الإجزاء والقضاء، فيبطل الملزم الذي هو المدعى وهو اتحاد الإجزاء وعدم القضاء، وفإن قلت: لم عدل المصنف عن قول الإمام: لأنا نعلل, إلى قوله: لأنكم تعللون؟ قلنا: لمعنى لطيف وهو أنه لو قال: لأنا نعلل سقوط القضاء بإجزاء لكان يرد عليه ما أورده هو عليهم، وهو أن سقوط القضاء يستدعي ثبوته مع أنه غير ثابت فأسنده إلى الفقهاء لالتزامهم إطلاق هذه العبارة، وهذا لا يرد على عبارة الإمام لأنه علل وجوب القضاء بعدم الإجزاء ولا شك في أنه متى انتفى الإجزاء وجب القضاء, وهذا هو السبب في ارتكاب الإمام التكليف في إبطال الدعوى باللازم، وقد وقع صاحب الحاصل في هذا الاعتراض فقال: لأنا نعلل سقوط القضاء بالإجزاء، وكأنه استشعر أنه على غير محل النزاع فأتى به مطابقا, فوقع في اعتراض آخر، والمصنف سلم من الاعتراضين فإنه أبطل الدعوى بالمطابقة لا باللازم، كما
(1/30)
 
 
صنع الإمام وأسنده إلى الفقهاء فخلص من السؤال الوارد على صاحب الحاصل، وهذا من محاسن الكتاب التي غفل عن مثلها الشارحون, وهو كثير جدا وستراه إن شاء الله تعالى. قوله: "وإنما يوصف به وبعدمه" يعني: أن الذي يوصف بإلإجزاء وعدم الإجزاء هو الفعل الذي يحتمل أن يقع على وجهين, أحدهما متعدّ به شرعا لكونه مستجمعا الشرائط المعتبرة فيوصف بالإجزاء, والآخر غير متعد به لانتفاء شرط من شروطه فيوصف بعدم الإجزاء, كالصلاة والصوم والحج، فأما الذي لا يقع إلا على جهة واحدة فلا يوصف بالإجزاء وعدمه كمعرفة الله تعالى, فإنه إن عرفه بطريق ما فلا كلام وإن لم يعرفه فلا يقال: عرفه معرفة غير مجزئة؛ لأن الفرض أنه ما عرف، وكذلك أيضا رد الوديعة؛ لأنه إما أن يردها إلى المودع أو لا، فإن ردها فلا كلام وإلا فلا رد البتة. هكذا قال الإمام في المحصول وتبعه عليه صاحب التحصيل ثم المصنف وفي المعرفة صحيح، وأما في رد الوديعة فلا لأن المودع إذا حجز عليه لسفه أو جنون فلا يجزئ عليه بخلاف ما إذا لم يحجز عليه، فتخلص أن رد الوديعة يحتمل وقوعه على وجهين فالصواب حذفه كما حذفه صاحب الحاصل.
(1/31)
 
 
التقسيم الخامس:
قال: "الخامس: العبادة إن وقعت في وقتها المعين ولم تسبق بأداء مختل فأداء وإلا فإعادة, وإن وقعت بعده ووجد فيه سبب وجوبها فقضاء وجب أداؤه كالظهر المتروكة قصدا, أو لم يجب وأمكن كصوم المسافر والمريض, أو امتنع عقلا كصلاة النائم, أو شرعا كصوم الحائض "فرع": ولو ظن المكلف أنه لا يعيش إلى آخر الوقت تضيق عليه, فإن عاش وفعل في آخره فقضاء عند القاضي أبي بكر أداء عند الحجة, إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه". أقول: هذا تقسيم آخر للحكم باعتبار الوقت المضروب للعبادة وحاصله: أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أي: مضبوط بنفسه محدود الطرفين أم لا فإن لم يكن لها وقت معين فلا توصف بالأداء ولا بالقضاء سواء كان لها سبب كالتحية وسجود التلاوة وإنكار المنكر وامتثال الأمر. إذا قلنا: إنه على الفور أو لم يكن كالصلاة المطلقة والأذكار وقد توصف بالإعادة كمن أتى بذات السبب على نوع من الخلل فتداركها، ولم يتعرض المصنف ولا الإمام لهذا القسم وإن كان لها وقت معين فا يخلو إما أن تقع في وقتها أو قبله أو بعده فإن وقعت قبل وقتها حيث جوزه الشارع فيسمى تعجيلا كإخراج زكاة الفطر ولم يتعرض المصنف أيضا ولا الإمام لهذا القسم, وإن وقعت في وقتها فإن لم تسبق بأداء مختلّ أي بإتيان مشتمل على نوع من الخلل فهو الأداء, فأراد المصنف بالأداء المذكور أولا العناء واللغو, وبالأداء الثاني معناه الاصطلاحي, ويرد على المصنف قضاء الصوم, فإن الشارع جعل له وقتا معينا لا يجوز تأخيره عنه وهو من حين الفوات إلى رمضان السنة الثانية، فإذا فعله فيه كان قضاء مع أن حد الأداء منطبق عليه فينبغي أن يزيد أو لا فيقول في وقتها المعين أولا, وحينئذ فلا يرد لأن هذا الوقت المعين وقت ثان لا أول, وأيضا فإنه إذا وقع ركعة في الوقت كانت أداء مع أنه صلاته
(1/31)
 
 
لم تقع فيها بل الواقع هو البعض، فإن قيل: إذا أفسد الحج بإجماع فتداركه, فإنه يكون قضاء كما قاله الفقهاء مع أنه وقع في وقته, وهو العمر فالجواب: أنه إنما يكون العمر كله وقتا إذا لم يحرم به إحراما صحيحا, فأما إذا أحرم به فإنه يتضيق عليه ولا يجوز الخروج منه وتأخيره من عام إلى آخر يلزم من ذلك فوات وقت الإحرام به, فإذا اقتضى الحال فعله بعد ذلك فيكون قضاء للفوات بخلاف من أتى به غير منعقد, وقد سلكوا هذا المسلك بعينه في الصلاة، فقالوا: إنه إذا أحرم بالصلاة وأفسدها ثم أتى بها في الوقت فإنه يكون قضاء يترتب على جميع أحكام القضاء لفوات وقت الإحرام بها، ما قررناه من امتناع الخروج نص على ذلك القاضي الحسين في تعليقه، والمتولي في التتمة، والروياني في البحر، كلهم في باب صفة الصلاة في الكلام على النية وقد ذكرته مبسوطا في التناقض الكبير المسمى بالمهمات وهو الكتاب الذي لا يستغنى