البرهان في أصول الفقه الجزء الأول جدول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

البرهان في أصول الفقه – الجزء الأول  
تأليف:
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني
478 هـ
  
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد واله
1- قال الشيخ الإمام1 أبو المعالي إمام الحرمين رضي الله عنه حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه وبالمواد التي منها يستمد [ذلك] الفن وبحقيقته [وفنه] وحده2 إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد وإن عسر فعليه أن يحاول الدرك بمسلك التقاسيم والغرض من ذلك أن يكون الإقدام على تعلمه مع حفظ من العلم الجملى بالعلم الذي يحاول الخوض فيه. فأصول الفقه مستمدة من الكلام والعربية والفقه.
2- والكلام نعني به معرفة العالم وأقسامه وحقائقه وحدثه والعلم بمحدثة وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه وما يجوز في حقه والعلم بالنبوات وتميزها بالمعجزات عن دعاوى المبطلين وأحكام النبوات والقول فيما يجوز ويمتنع من كليات الشرائع ولا يندرج المطلوب من الكلام تحت حد وهو يستمد من الإحاطة بالميز بين العلم وما عداه من الاعتقادات والعلم بالفرق بين البراهين والشبهات ودرك مسالك النظر.
3- ومن مواد أصول الفقه العربية فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ [ولن] يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة والعربية.
4- ومن مواد الأصول الفقه فإنه مدلول الأصول ولا يتصور درك3 الدليل دون درك المدلول ثم يكتفي الأصولي بأمثلة من الفقه [يتمثل بها] في كل.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإمام: المقتدى به في الأمور.
2 حدة: تعرفه.
3 درك: معرفة
 ج / 1 ص -7-
 
  
باب من أصول الفقه فإن قيل فما الفقه قلنا هو في اصطلاح علماء الشريعة العلم بأحكام التكليف فإن قيل معظم متضمن مسائل الشريعة ظنون قلنا ليست الظنون فقها وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون ولذلك قال المحققون أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملا لذواتها وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهي الأدلة القاطعة على وجوب العمل عند رواية أخبار الآحاد وإجراء الأقيسة.
5- فإن قيل فما أصول الفقه قلنا هي أدلته وأدلة الفقه هي الأدلة السمعية وأقسامها نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع ومستند.
جميعها قول الله تعالى:.
ومن هذه الجهة تستمد أصول الفقه من الكلام.
6- فإن قيل تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع قلنا حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به.
فصل.
7- قد ذكرنا أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية ونحن نذكر الآن معنى الأحكام ذكرا جمليا ثم نفصلها بعد ذلك.
8- فليس الحكم المضاف إلى متعلقه صفة فيه ثابتة فإذا قلنا شرب الخمر محرم لم يكن التحريم صفة ذاتية للشرب وإذا أوجبنا الشرب عند الضرورة فهو كالشرب المحرم عند الاختيار والمعنى بكونه محرما أنه متعلق النهى وبكونه واجبا متعلق الأمر وليس لما يتعلق به قول قائل على جهة صفة حقيقية من ذلك القول وهو كتسميتنا الشيء معلوما مع القطع بأنه ليس له من تعلق العلم به صفة حقيقية.
9-  ثم من أحكام الشرع التقبيح والتحسين وهما راجعان إلى الأمر والنهي فلا يقبح شيء في حكم الله تعالى لعينه كما لا يحسن شيء لعينه.
10- وقسمت [المعتزلة الأفعال] قسمين فقالوا يثبت حكم القبح والحسن في أحدهما مستدركا بالعقل غير متوقف على ورود الأمر والنهي ثم قسموا هذا القسم قسمين فزعموا أن أحدهما يدرك القبح والحسن فيه ضرورة ببديهة العقل.
 ج / 1 ص -8-
 
  
والثاني: يدرك الأمران فيه بالنظر العقلي الجامع بينه وبين الضروري ومثلوا ذلك في التقبيح بالكذب الذي لا فائدة فيه والكذب المفيد فقالوا ما لا يفيد من الكذب يدرك قبحه ببديهة العقل والمفيد ملحق بغير المفيد بمسلك [لهم] نظري سنذكره في شبههم وكذلك قولهم في الظلم الذي لا يفيد مع المفيد منه فهذا أحد القسمين.
والقسم الثاني: ما يقضي الشرع بالتقبيح فيه والتحسين والعقول لا تستدركها وزعموا أن معظم تفاصيل الشريعة في المأمورات والمنهيات تنحصر في هذا القسم ثم قالوا إنما يرسم الشارع عليه السلام منها ما يرسم لوقوعها في المعلوم ألطافا داعية إلى الخير والشارع إنما يأمر بما يعلم أن امتثال أمره فيه يدعو إلى المثابرة على المستحسنات العقلية وكذلك القول في نقيضها من النهي في التفصيل.
واضطرب1 النقلة عنهم في قولهم يقبح الشيء لعينه أو يحسن فنقل عنهم أن القبح والحسن في المعقولات من صفات أنفسها ونقل عنهم أن القبح صفة النفس وأن الحسن ليس كذلك ونقل ضد هذا عن الجبائي2 وكل ذلك جهل بمذهبهم فمعنى قولهم يقبح ويحسن الشيء لعينه أنه يدرك ذلك عقلا من غير إخبار مخبر.
11 - وقد سلك القاضي [أبو بكر3 - رحمه الله] في الرد عليهم مسلكين:.
أحدهما أنه قال ما ادعيتم الضرورة فيه فأنتم منازعون فيه ويتبين ذلك بمخالفة عددنا لهم وافترائهم في دعوى الضرورة فإن ما يدرك بمبادئ العقول لا يجوز في استمرار العرف مخالفة الجمع العظيم فيه وإنما ينشأ الخلاف في النظريات لانقسام الناس إلى الناظرين والمضربين ثم ينقسمون بعد افتتاح النظر لاختلاف القرائح4 والطبائع ولهذا لا يجوز اتفاق العقلاء في نظري عقلي كما لا يسوغ.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اضطرب: اختلف.
2 الجبائي: هو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمدان البصري. أخذ عن أبي يوسف يعقوب الشحام البصري وغيره أخذ عنه ابنه أبو هاشم والشيخ أبو الحسن الأشعري ثم اعرض الأشعري عن طريق الاعتزال وتاب منه. مات سنة "303" له ترجمة في: البداية والنهاية "11/125" والنجوم الزاهرة "3/189" ووفيات الأعيان "3/398"
3 القاضي أبو بكر هو: محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني رأس المتكلمين على مذهب الشافعي وهو من أكثر الناس كلاما وتصنيفا فيه له مصنفات كثيرة أهمها الرد على الباطنية الذي سماه "كشف الأسرار" مات سنة "403". له ترجمة في: البداية والناهية "11/350".
4 القرائح: جمع قريحة وهي الطبيعة التي جبل عليها الإنسان فالعطف هنا للتفسير "المعجم الوجيز" ص "496".
 ج / 1 ص -9-
 
  
اختلافهم في ضروري ثم إذا ظهر النزاع وبطل دعوى الضرورة في الأصل بطل النظر المستند إليه فإن قيل أنتم توافقوننا في تقبيح ما نقبحه وتحسين ما نحسنه ولكنكم تنسبون ذلك إلى السمع فيئول الخلاف إلى المأخذ وليس ذلك بدعا قلنا نحن نريكم من أصلنا تحسين ما تقبحونه ادعاء منكم وذلك أنا نقول إيلام البهائم والأطفال لا أعواض لها وليس مترتبا على استحقاق سابق حسن والإيلام على هذا الوجه قبيح بضرورة العقل عندكم.
والمسلك الثاني للقاضي: أنه قال: نرى كذبة تنجى أمما والكف عنها 1ذريعة إلى هلاكهم فما وجه قبحها؟ ومعتمدكم الرجوع إلى [تعاقل] العقلاء فلئن جاز لكم تحسين ألم لنفع يبر قدره عليه فما المانع من مثل ذلك في الكذب ؟وهذا لا جواب عنه حتى استجرأ بعض المتأخرين وشبب2 بتحسين الكذب في الصورة المفروضة فقيل له فجوز أن يخلق الله تعالى عن قول المبطلين كذبا نافعا يكون كاذبا به والكذب عندهم من صفات الفعل إذ هو من أقسام الكلام فتبلد ولم يحر جوابا.
12- والمسلك الحق عندي في ذلك الجامع لمحاسن المذاهب الناقض لمساويها أن نقول لسنا ننكر أن العقول تقتضي من أربابها اجتناب المهالك وابتدار المنافع الممكنة على تفاصيل فيها وجحد3 هذا خروج عن المعقول [ولكن ذلك في حق الآدميين]. [والكلام في مسألتنا مداره] على ما يقبح ويحسن في حكم الله تعالى وإن كان لا ينالنا منه ضرر ولا يفوتنا بسببه نفع لا يرخص العقل في تركه وما كان كذلك فمدرك قبحه وحسنه من عقاب الله تعالى إيانا وإحسان إلينا عند أفعالنا وذلك غيب والرب سبحانه وتعالى: لا يتأثر بضررنا ونفعنا فاستحال والأمر كذلك الحكم بقبح الشيء في حكم الله تعالى وحسنه ولم يمتنع إجراء هذين الوصفين فينا إذا تنجز ضرر أو أمكن نفع بشرط أن لا يعزى إلى الله ولا يوجب عليه أن يعاقب أو يثيب.
وتتمة القول فيه أنه لو فرض ورود الأمر الجازم من الله سبحانه وتعالى: من غير وعيد على تركه لما كان للحكم بالوجوب معنى معقول في حقوقنا.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذريعة: وسيلة وسببا. "المعجم الوجيز" ص 244333".
2 شيب: تعزل. "المعجم الوجيز" ص "333".
3 جحد: إنكار. "المعجم الوجيز" ص "93".
 ج / 1 ص -10-
 
  
فليتأمل الناظر في هذا فهو من لطيف الكلام ولا يغمض معه في النفي والإثبات شيء على المتأمل في هذا الباب.
شبه المعتزلة1:.
13- قال أبو هاشم2: من تصدى له أمر مرغوب فيه وهو يناله بالصدق ويناله بالكذب على حد سواء فالعقل يتقاضاه الصدق فدل ذلك على أن الكذب قبيح لعينه قلنا له كيف يستويان والكاذب ملوم شرعا فإن قال أفرض ذلك في حق من لم يبلغه الشرع قلنا قد يكون في قوم يعتقدون اعتقادكم فإن انتهى الأمر في التصوير إلى حقيقة الاستواء لم يسلم له قضاء العقل بتعيين الصدق.
شبهة أخرى:.
14- فإن قالوا البراهمة مع إنكارهم الشرائع قبحت وحسنت قلنا جهلوا كجهلكم فلا استرواح3 إلى مذهبهم هذا إن عزوا التقبيح والتحسين إلى حكم الله تعالى وليس الأمر كذلك فإنهم يردون ما يحسنون ويقبحون إلى حقوقنا الناجزة وقد اشتمل كلامنا على تسليم ذلك.
مسألة.
15- ترسم بشكر المنعم لا يدرك وجوب شكر المنعم بالعقل عندنا وهذا يندرج تحت الأصل الذي سبق عقده وقال من خالف في الجملة المتقدمة وجوب شكر المنعم مدرك بالعقل وليس ذلك عند المخالفين واقعا في قسم الضروريات وإنما هو مدرك بالنظر منوط بمسلك لهم نوضحه في شبههم.
16- والبرهان القاطع في بطلان ما صاروا إليه أن الشكر تعب للشاكر ناجزا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعتزلة: ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركا وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله – تعالى – واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه...إلخ, "الملل والنحل" للشهرستاني "1/43-45".
2 أبو هاشم: هو عبد السلام بن عبد الوهاب الجبائي. له تصانيف و"تفسير وكان من رءوس المعتزلة هو وأبوه. وكان موته هو وابن دريد في يوم واحد سنة "321" ببغداد. له ترجمة في: البداية والنهاية "12/150" وتذكرة الحفاظ "4/1208" والنجوم الزاهرة "5/156".
3 استرواح: اطمئنان. "المعجم الوجيز" ص "281".
 ج / 1 ص -11-
 
  
ولا يفيد المشكور شيئا فكيف يقضي العقل بوجوبه فإن قيل إنه يفيد الشاكر الثواب الجزيل في الآجل والعقل قاض باحتمال التعب العاجل لارتقاب النفع الآجل المربى على التعب المحتمل قلنا: كيف يدرك ذلك بالعقل ومن أين يعرف العقل هذا؟ والمشكور يقول: لا يجب على نفعك ابتداء وما نفعتني فأعوضك فإن قيل يدرأ الشاكر بالشكر العقاب المرتقب على ترك الشكر قلنا كيف يعلم ذلك؟ والكفر والشكر سيان في حق المشكور فإن قيل إن لم يقطع بالعقاب لم يأمنه قلنا إذا تحقق استواء الأمرين فارتقاب العقاب على ترك الشكر كارتقابه على فعله ولا يبقى بعد ذلك مضطرب.
17- ومما ذكره الأستاذ أبو إسحاق1 - رحمه الله عليه - في مفاوضة له إذ قال الشاكر متعب نفسه وهو ملك خالقه فقد يتوقع على تنقيص ملك المالك من غير إذنه فيما لا ينفع به المالك عقابا.
18-  وللخصوم مسلكان: أحدهما: التعلق [بتعاقل] العقلاء شاهدا فيزعمون أن الشكر واجب شاهدا ثم يقضون بذلك على الغائب وهذا ظاهر السقوط فإن ما ذكروه إن سلم لهم فهو من جهة انتفاع المشكور والرب تعالى متعال عن قبول النفع والضر كما سبق.
والمسلك الثاني: في توقع العقاب وقد اندرج تحت ما سبق سؤالا وجوابا.
19- ومما يعد من غوامض الأسئلة كلام للخصوم في وجوب النظر والمسألة وإن كانت مرسومة في الشكر فكل ما يدعى الخصم وجوبه عقلا فمأخذ الكلام فيه واحد.
فإن قالوا: لو لم نقض بوجوب النظر عقلا لانحسمت دعوة الأنبياء عليهم السلام وخصموا إذا دعوا فلم يجابوا فإن المدعوين يقولون لا ننظر فيما جئتم به فإن الوجوب مستدرك بالشرع ولم يتقرر عندنا شرع يتضمن وجوب النظر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو إسحاق هو: الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الإمام العلامة ركن الدين الفقيه الشافعي المتكلم صاحب التصانيف في الأصلين جامع الحلى في مجلدات والتعليقة النافعة في "أصول الفقه". سمع الكثير من الحديث وأخذ عته البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري والحاكم والنيسابوري وأثنى عليه. مات سنة "418". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/24".
 ج / 1 ص -12-
 
  
وهذا أولا ليس برهانا في إثبات وجوب النظر فيقع الدور في لزوم الدعوى ولا يستمر هذا برهانا في إثبات وجوب النظر وإنما هي غائلة أبدوها في دعوة الأنبياء وحقها أن تذكر في مشكلات الدعوة والإجابة.
20- ثم نفس العقل لا يدرك به وجوب النظر [البتة] ولا بد من فكر مفض على زعمهم إليه فامتناع المدعوين عن الفكر المرشد إلى وجوب النظر العقلي كامتناعهم عن النظر المرشد إلى الواجب السمعي فإن تعسف غبي وزعم أن نفس العقل يدرك به وجوب النظر كان مباهتا ملتزما ألا يخلو عاقل في مضطرب أحواله عن العلم بوجوب النظر وكيف يستقيم ادعاء ذلك مع مخالفتنا لهم أم كيف ينقدح ما قالوه مع قيام البرهان القاطع الذي أقمناه على مخالفتهم؟
21- فإن قالوا يبعث الله إلى كل مدعو ملكا ينفث في روعه ويردده بين إمكان العقاب لو ترك النظر واستحقاق الثواب لو نظر ثم العقل يستحثه على اجتناب العقاب قلنا هذا يوجب أن [لا] يخلو مدعو عن تقابل خاطرين ونحن نعلم معظم المدعوين مضربين عن هذه الفنون ولو سلم ما قالوه من معنى فكيف يدرك المدعو كلام الملك والكلام عند الخصوم أصوات وإن أدركه فلا يبالي به وأي حاجة إلى ذلك وفي دعوى النبي مقنع عما هذوا به؟
22- ثم التحقيق فيه أن النظر ممكن وإنما يمتنع إيجاب مالا يمكن إيقاعه فإن امتنع ممتنع تعرض للوعيد الذي بلغه النبي ولا يشترط في وجوب الشيء علم المخاطب بوجوبه عليه بل يشترط تمكنه من العلم والسر في ذلك أن النظر الأول لا يتصور إلا كذلك سواء فرض أخذه من السمع المنقول أو من مدارك العقول وعن هذا قيل إن القربة التي لا يتصور التقرب بها إلى الله تعالى هي النظر الأول.
مسألة.
23- لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع بناء على أن [الأحكام] هي الشرائع بأعيانها وليست الأحكام صفات للأفعال وهذه المسألة تفرض فيما لا يقضى الخصوم فيه بتقبيح عقلي أو تحسين.
وقد افترقت المعتزلة فذهب بعضهم إلى أن مالا يعين العقل فيه قبحا ولا حسنا فهو على الحظر قبل ورود الشرع وذهب آخرون إلى أنه على الإباحة.
فأما أصحاب الحظر فيلزمون الأضداد التي لا انفكاك عن جميعها وليس يتحقق العرو عن جملتها فإن حظروا جميعها كان ذلك تكليف مالا يستطاع وإن خصصوا.
 ج / 1 ص -13-
 
  
بالحظر شيئا عن شيء من غير تقبيح العقل وتحسينه لم يخف سقوط هذا المذهب وإن خصصوا الحظر بما يعتقدون جواز الخلو عنه أصلا فمرجعهم إلى أن التصرف في ملك الغير من غير إذنه قبيح وقد مضى من الكلام ما يدرأ هذا الفن.
24- ثم قال الأستاذ رحمه الله من ملك بحرا لا ينزف واتصف بالجود واستغنى عن وجود الملك ومملوكه عطشان لاهث والجرعة تروية والنفية من الماء تكفيه ومالكه ناظر إلى عطشه فلا يدرك بالعقل تحريم القدر النزر من البحر الذي لا ينقصه ما يؤخذ منه نقصا محسوسا ولا حاجة إلى هذا الفن مع وضوح مسالك البرهان.
وأما أصحاب الإباحة فلا خلاف على الحقيقة بيننا وبينهم فإنهم لم يعنوا بالإباحة ورود خبر عنها وإنما أرادوا استواء الأمر في الفعل والترك والأمر على ما ذكروه.
نعم لو قالوا حق على المالك أن يبيح فهذا ينعكس [عليهم] الآن بالتحكم في تفاصيل النفع والضر على من لا ينتفع ولا يتضرر.
فصل
يجمع التكليف ومعناه ومن يكلف وما يجوز التكليف به.
25- فأما التكليف فقد قال القاضي أبو بكر1 - رحمه الله - إنه الأمر بما فيه كلفة والنهي عما في الامتناع عنه كلفه وإن جمعتهما قلت الدعاء إلى ما فيه كلفة وعد الأمر على الندب والنهي على الكراهية من التكليف.
26- والأوجه عندنا في معناه أنه إلزام ما فيه كلفة فإن التكليف يشعر بتطويق المخاطب الكلفة من غير خيرة من المكلف والندب والكراهية يفترقان [بتخيير] المخاطب والقول في ذلك قريب فإن الخلاف فيه آيل إلى المناقشة في عبارة الشرع نعم الشرع يجمع الواجب والحظر والندب والكراهية فأما الإباحة فلا ينطوي عليها معنى التكليف.
وقد قال الأستاذ2 - رحمه الله -: إنها من التكليف وهي هفوة ظاهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 سبقت ترجمته.
 ج / 1 ص -14-
 
  
ثم فسر قوله بأنه يجب اعتقاد الإباحة والذي ذكره رد الكلام إلى الواجب وهو معدود من التكليف فإن قيل هل تعدون الإباحة من الشرع قلنا هي معدودة منه على تأويل أن الشرع ورد بها.
27- ونحن نذكر بعد ذلك من يكلف وما يكلف به وذلك يستدعي قولا مقنعا في تكليف مالا يطاق.
فقد نقل الرواة عن [الشيخ] أبي الحسن1 الأشعري رضي الله عنه أنه كان يجوز تكليف مالا يطاق ثم نقلوا اختلافا عنه في وقوع ما جوزه من ذلك وهذا سوء معرفة بمذهب الرجل فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة على خلاف الاستطاعة وهذا يتقرر من وجهين:.
أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه وهو إذ ذاك غير مستطيع ولا يدفع ذلك قول القائل إن الأمر بالفعل نهى عن أضداده والمأمور بالفعل قبل الفعل إن لم يكن قادرا على الفعل فهو قادر على ضد من أضداده ملابس له فإنا سنوضح أن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن أضداده وأيضا فإن القدرة إذا قارنت الضد لم تقارن الأمر بالفعل والفعل مقصود مأمور به وقد تحقق طلبه قبل القدرة عليه فهذا أحد الوجهين.
والثاني أن فعل العبد عنده واقع بقدرة الله تعالى والعبد مطالب بما هو من فعل ربه ولا ينجى من ذلك تمويه المموه بذكره الكسب [فإنا سنذكر سر ما نعتقده في خلق الأعمال], [إذ لا يحتمله هذا الموضع].
28- فإن قيل فما الصحيح [عندكم] في تكليف مالا يطاق قلنا إن أريد بالتكليف طلب الفعل فهو فيما لا يطاق محال من العالم باستحالة وقوع المطلوب وإن أريد به ورود الصيغة وليس المراد بها طلبا كقوله سبحانه وتعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}2 فهذا غير ممتنع فإن المراد بذلك كوناهم قردة خاسئين.
فكانوا كما أردناهم وأما سر ما نعتقده في خلق الأعمال فلا يحتمله هذا الموضع.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو الحسن الأشعري هو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان مالكيا صنف لأهل التصانيف وأقام الحجج على إثبات السنن وكان أبو الحسن القابسي يثني عليه وله مؤلفات مفيدة جدا ككتاب "الحث على البحث" و" البرهان" و "أدب الجدل" مات سنة "334" له ترجمة في: البداية والنهاية "11/187" وتذكرة الحفاظ "3/821".ووفيات الأعيان "2/446".
2 آية [65] سورة البقرة.
 ج / 1 ص -15-
 
  
فإن قيل قد كلف الله تعالى أبا جهل أن يصدقه فيما يخبر به وكان سبحانه وتعالى: أخبر بأنه لا يصدقه فكان هذا تكليفا منه أن يصدقه بأنه لا يصدقه وهذا طلب جمع النقيضين قلنا لا يصح تكليف التصديق على هذا الوجه على معنى تحقيق الطلب ولكن كلفه الإيمان به وتصديق رسله والتزام شرائعه فأما تكليفة الجمع بين نقيضين في التصديق فلا.
فإن قيل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر على وفق علمه بأنه لا يكون فلا يكون والتكليف بخلاف المعلوم جائز قلنا إنما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدور في نفسه وليس امتناعة للعلم بأنه لا يقع ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه فالعلم يتعلق به على ما هو عليه وتعلق العلم بالمعلوم لا يغيره ولا يوجبه بل يتبعه في النفي والإثبات ولو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم [سبحانه وتعالى:] وتقرير ذلك في [فن] الكلام.
فهذا منتهى الغرض في منع تكليف مالا يطاق فنعود بعده إلى المقصود بالفصل في ذكر من يكلف وما يقع التكليف به.
29- فالقول الوجيز أنه يكلف المتمكن ويقع التكليف بالممكن ولا نظر إلى الاستصلاح ونقيضه.
مسألة.
30- السكران يمتنع تكليفه خلافا لطوائف من الفقهاء والدليل على امتناع تكليفه استحالة فهم الخطاب والامتثال قصدا إليه غير ممكن دون فهم الخطاب فإن تمسك الفقهاء بما يصح من أقوال للسكران وما ينزل فيه من أحواله منزلة الصاحي فحكم الشرع بالصحة والفساد متبع [ولا] استحالة فيه وإنما الاستحالة في توجيه الخطاب على من لا يفهم الخطاب.
31- فإن قيل هل يجوز تكليف الناسي في استمرار نسيانه قلنا القول فيه كالقول في السكران.
مسألة.
32- المكره لا يمتنع تكليفه لإمكان الفهم والامتثال وإن كان على الكره.
وذهبت المعتزلة إلى أن المكره على العبادة لا يجوز أن يكون مكلفا بها وبنوا ذلك على.
 ج / 1 ص -16-
 
  
أصلهم في وجوب إثابة المكلف والمحمول على الشيء لا يثاب عليه وهذا الأصل باطل عندنا فلا يمتنع التكليف من غير إثابة وقاعدة القول في الثواب والعقاب تستقصي في غير هذا الفن.
وقد ألزمهم القاضي رحمه الله [إثم] المكره على القتل فإنه منهي عنه آثم به لو أقدم عليه وهذه هفوة عظيمة فإنهم لا يمنعون النهى عن الشيء مع الحمل عليه فإن ذلك أشد في المحنة واقتضاء الثواب وإنما الذي منعوه الاضطرار إلى فعل مع الأمر به.
مسألة:
33- ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة1 إلى أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة وظاهر مذهب الشافعي2 رحمه الله أنهم مخاطبون بها.
وفصل فاصلون من العلماء بين المأمورات والمنهيات وقالوا هم معاقبون على ارتكاب المنهيات غير معاقبين على ترك المأمورات.
34- والقول في هذه المسألة يتعلق بطرفين أحدهما في جواز المخاطبة عقلا وإمكان ذلك والثاني في وقوع ذلك إن ثبت جوازه فأما الجواز فالذي حمل الصائرين إلى منع ذلك والقضاء باستحالته أنه لو فرض الخطاب بإقامة الفروع لكان ذلك خطابا بتصحيح الفروع وذلك مستحيل مع الإصرار على الكفر وفي تجويز مخاطبتهم بإقامة الشرائع مع تقدير استمرارهم على الكفر تجويز تكليف ما لا يطاق وقد سبق بطلانه وهذا منقوض أولا باعتقاد النبوات واعتقاد صدق الأنبياء عليهم السلام فإن ذلك غير ممكن فيمن لا يعتقد الصانع المختار ولا خلاف أن الكفار أجمعين مخاطبون بتصديق الأنبياء عليهم السلام وإن اقتضى وقوع ذلك.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت التميمي الكوفي فقيه أهل العراق وإمام أصحاب الرأي قال ابن معين: كان ثقة لا يحدث من الحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظه وقال ابن المبارك: ما رأيت في الفقه مثله مات سنة "150" له ترجمة في البداية والنهاية "10/107" وتاريخ بغداد "13/323" ووفيات الأعيان "2/163".
2 الشافعي: هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلي المكي. نزيل مصر وإمام الأئمة وقدوة المة قال ابن مهدي: ما أصلي صلاة إل وأنا أدعو للشافعي فيها مات سنة "211" له ترجمة في البداية والنهاية "10/251" وتاريخ بغداد "2/56" وتذكرة الحفاظ "1/361" ووفيات الأعيان "1/447".
 ج / 1 ص -17-
 
  
تقديم قواعد العقائد في الإلهيات وكذلك المحدث مأمور بالصلاة عند دخول وقتها وإن كان لا يتأتي منه إقامتها ما لم يقدم رفع الحدث عليها.
ثم التحقيق في ذلك كله عندي أن الكافر في حال كفره يستحيل أن يخاطب بإنشاء فروع على الصحة وكذلك القول فيما يقع آخرا من العقائد في حق من لم يصح عقده في الأوائل وكذلك المحدث مستحيل أن يخاطب بإنشاء الصلاة الصحيحة مع بقاء الحدث ولكن هؤلاء مخاطبون بالتوصل إلى ما يقع آخرا ولا يتنجز الأمر عليهم بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط ولكن إذا مضى من الزمان ما يسع الشرط والمشروط والأوائل والأواخر فلا يمتنع أن يعاقب الممتنع على حكم التكليف.
معاقبة من خالف أمرا توجه عليه ناجزا فمن أبي ذلك قضى عليه قاطع العقل بالفساد ومن جوز تنجيز الخطاب بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط فقد سوغ تكليف ما لا يطاق ومن أراد أن يفرق بين الفروع وبين أواخر العقائد وبين صلاة المحدث فهو مبطل قطعا.
وقد نقل عن أبي هاشم الجبائي أنه قال ليس المحدث مخاطبا بالصلوات [ولو استمر حدثه دهره لقي الله تعالى غير مخاطب بصلاة في عمره].
فإن أراد الرجل ما ذكرناه فهو الحق الذي لا خفاء به وإن أراد أنه لا يعاقب على ترك الصلاة لتركه التوصل إليها فقد خرق إجماع الأمة فهذا هو الكلام في طرف الجواز.
35- فإن قيل إن ثبت لكم الجواز على تأويل التوصل وفرض العقاب فكيف الواقع من ذلك قلنا ذكر القاضي رحمه الله أن ذلك من [مجال] الفقهاء وهو مظنون مطلوب من مسالك الظنون.
والذي نراه أن الكفار مأمورون بالتزام الشرع جملة والقيام بمعالمة تفصيلا فمن أنكر وقوع وجوب التوصل إليه فقد جحد أمرا معلوما وهذا على التقدير مترق عن مرتبة الظنون.
فإن قيل أتقطعون بأنهم معاقبون في الآخرة على ترك فروع الشرع قلنا أجل والموصل إليه أنه قد ثبت قطعا وجوب التوصل وثبت أن تارك الواجب.
متوعد بالعقاب إلا أن يعفو الله تبارك وتعالى وتقرر في أصل الدين ومستفيض الأخبار أن الله لا يعفو عن الكفار.
 ج / 1 ص -18-
 
  
القول في العلوم ومداركها وأدلتها.
36- الوجه تصدير الباب بقول مقنع في العقل فإنا سنسند حقائق العلوم إلى مدارك العقل ولا بد من الإحاطة بحقيقته على حسب ما يليق بهذا المختصر.
قال القاضي [أبو بكر1 رحمه الله] العقل من العلوم إذ لا يتصف بالعقل خال عن العلوم كلها وليس من العلوم النظرية فإن النظر لا يقع ابتداؤه إلا مسبوقا بالعقل فانحصر في العلوم الضرورية وليس كلها فإنه قد يخلو عن العلوم بالمحسوسات من اختلت عليه حواسه وإن كان على كمال من عقله ثم لم يزل يبحث حتى قال العقل علوم ضرورية لا يخلو عنها المتصف بالعقل ولا يتصف بها من لا يتصف بالعقل ثم سبر على ما زعم واستبان أن العقل علوم ضرورية بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ولا يتصف بهذه الفنون إلا عاقل كما لا يتصف بها من ليس بعاقل فهذا لباب كلامه بعد تطويل وإطناب.
والذي ذكره رحمه الله فيه نظر فإنه بنى كلامه على أن العقل من العلوم الضرورية لأنه لا يتصف بالعقل عار من العلوم كلها وهذا يرد عليه أنه لا يمتنع كون العقل مشروطا بعلوم وإن لم يكن منها وهذا سبيل كل شرط ومشروط.
فإن قيل ما الذي يبطل ما ذكره القاضي رحمه الله في معنى العقل قلنا نرى العاقل يذهل عن الفكر في الجواز والاستحالة وهو عاقل.
37- فإن قيل فما العقل [عندكم] قلنا ليس الكلام فيه بالهين وما حوم عليه أحد من علمائنا غير الحارث2 [بن أسد] المحاسبي رحمه الله فإنه قال العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم وليست منها فالقدر الذي يحتمل هذا المجموع ذكره أنه صفة إذا ثبتت تأتي بها التوصل إلى العلوم النظرية ومقدماتها من الضروريات التي هي مستند النظريات.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله البصري المولد البغدادي المنزل والوفاة قال الهيتمي هو إمام المسلمين في "الفقه" و "التصوف" و "الحديث" و "الكلام" وقال الغزالي: "المحاسبي جبر الأمة في علم المعاملة" مات سنة "243" له ترجمة في: حلية الأولياء "10/73-110" وشذرات الذهب "2/17".
 ج / 1 ص -19-
 
  
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في هذا الكتاب أن هذا مبلغ علمنا في [حقيقة العقل] ولكن هذا الموضع لا يحتمل أكثر من هذا فإذا ثبت ما حاولناه في العقل فنتكلم بعده في إثبات العلوم وذكر تفاصيلها وحدها ومداركها والأدلة عليها إن شاء الله تعالى.
فصل
38- لم ينكر من يبالي به من العقلاء أصل العلوم ونقل أصحاب المقالات عن السوفسطائية إنكار العلوم وهم أربع فرق.
قال فريق منهم وهم غلاتهم نعلم ألا علم أصلا وعمموا الجحد في الضروري والنظري.
وقال فريق [منهم] لم يثبت عندنا علم بمعلوم فلم يعلم انتفاء العلوم.
وقال فريق لا ننكر العلوم ولكن ليس في القوة البشرية الاحتواء عليها لأن الذين يحاولونها سيالون لا يستقرون في حال وإنما تحصل الثقة لمستقر ينتظم آخر عثوره على المطلوب بإنشاء الطلب.
وذهبت فرقة إلى أن العقود المصممة كلها علوم فمعتقد قدم العالم على علم ومعتقد حدثه على علم ومثلوا ذلك باختلاف أحوال ذوي الحواس فالصحيح يدرك الماء الفرات عذبا ويدركه من هاجت عليه المرة الصفراء ممقرا [مرا].
39- وقد اختلف المحققون في مكالمتهم فذهب الأكثرون إلى الانكفاف عنهم فإن غاية المناظر اضطرار خصمه إلى الضروريات فإذا كان مذهبهم جحدها والتمادي فيها فكيف الإنتفاع بمكالمتهم؟ ومن النظار من كلمهم بالتقريبات وضرب الأمثال وإلزام التناقض فقال للأولين أنكرتم العلوم وادعيتم العلم بانتفائها [كلها] وهذا تناقض لا ينكره عاقل.
والذي أراه أنه لا يتصور أن يجتمع على عقدهم فرقة من العقلاء من غير فرض تواطوء على الكذب.
 ج / 1 ص -20-
 
  
فصل في حد العلم وحقيقته.
40-  قال قائلون منا العلم تبين المعلوم على ما هو به وهذا مدخول من جهة أن التبين مشعر بوضوح الشيء عن إشكال وهذا يخرج العلم القديم عن الحد.
وقال [الشيخ] أبو الحسن رحمه الله العلم ما يوجب لمن قام به كونه عالما.
وهذا وإن كان يطرد وينعكس فهو مدخول فإن من جهل العلم وحمله جهله به [على] السؤال عنه فهو جاهل بكل اسم مشتق منه ووضوح ذلك يغنى عن بسطه وأصدق شاهد في فساده جريانه في كل صفة يفرض السؤال عنها وهو بمثابة قول القائل العلم ما علمه الله تعالى علما.
وقال الأستاذ أبو بكر1 [بن فورك] رحمه الله العلم ما يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه.
وليس من المقولات في حد العلم أظهر فسادا من هذا فإنه أولا حد العلم بكيفية العمل وخلى معظم العلوم على أن العلم لا يتأتى به الإحكام دون القدرة فيلزم من ذلك إدراج القدرة في حد العلم وإخراجها عن الرأي الذي رآه.
وقالت المعتزلة2: حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع طمأنينة النفس.
وهذا بعد تطويل لا يليق بهذا المجموع باطل باعتقاد المقلد المصمم على عقده فإنه ليس علما عندهم وإن أنكروا الطمأنينة فيه كانوا مباهتين فإنا نرى الحشوي3 من الحنابلة مصمما على عقد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع إنكاره.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو بكر بن فورك هو: أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني الحافظ الكبير الثبت العلامة روى عن أبي سهل بن زياد القطان وآخرين وعنه أبو القاسم عبد الرحمن بن منده وآخرون كان قيما بعلم الحديث بصير بالرجال طويل الباع مات سنة "410" له ترجمة في: تاريخ أصبهان "1/168" والعبر "3/102" والنجوم الزاهرة "4/245".
2 تقدم التعريف بهذه الفرقة.
3 الحشوي: قوم تمسكوا بالظواهر فذهبوا إلى التجسيم وغيره وسموا بذلك لأنهم كانوا في الحلقة الحسن البصري فوجدهم يتكلمون كلاما غير كلامه فقال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة. "كشاف اصطلاحات الفنون" ص "394".
 ج / 1 ص -21-
 
  
النظر ولو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع وكيف يتجه إنكار الطمأنينة والكفار مطمئنون إلى كفرهم ومن أنكر ذلك منهم مع اتفاقهم على الإخبار عن طمأنينتهم وهم الجم الغفير والعدد الكثير الذي لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فقد خرق حجاب الهيبة واستأصل قاعدة العرف فقد بطل حدهم.
وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: العلم معرفة المعلوم على ما هو به فإذا قيل له المعرفة هي العلم قال مجيبا الحد هو المحدود بعينه ولو كان غيره لم يكن حده وإنما على الحاد أن يأتي بعبارة يظن السائل عالما بها إن جهل ما سأل عنه فإن جهل العبارات كلها فسحقا سحقا.
ولست أرى ما قاله القاضي سديدا فإن الغرض من الحد الإشعار بالحقيقة التي بها قيام المسئول عن حده وبه تميزه الذاتي عما عداه وهذا لا يرشد إليه تغاير العبارات فإن قيل قد تتبعتم عيون كلام المحققين بالنقض فما المرتضى عندكم في حقيقة العلم وهل العلم مما تحويه صناعة الحد أم لا فليس كل شيء محدودا.
41- قلنا: الرأي السديد عندنا أن نتوصل إلى درك حقيقة العلم بماحثة نبغي بها ميز مطلوبنا مما ليس منه فإذا انتفضت الحواشي وضاق موضع النظر حاولنا مصادفة المقصد جهدنا.
42- فنقول: الجهل عقد يتعلق بالمعتقد على خلاف ما هو به والعلم خالفه في ذلك ويتميز عنه والشك والظن يترددان بين معتقدين وهو بخلافهما في ذلك فلا يبقى إلا النظر في عقد يتعلق بالمعتقد على ما هو به من مقلد في ذلك مع التصميم والاستقرار مع القطع بأنه ليس علما والنظر في العلم الحق وما يتميز به عن عقد المقلد فليجرد الناظر فكره لمحاولة المميز بينهما فإن استتب له ذلك فقد أحاط بحقيقة العلم فإن ساعدت عبارة سديدة في الحد حد بها وإن لم تساعد اكتفى بدرك الحقيقة ولم يضر تقاعد العبارة فليس كل من يدرك حقيقة شيء تنتظم له عبارة عن حده ولو فرضنا رفض اللغات ودروس العبارات لاستقلت العقول بدرك المعقولات وإيضاح ذلك بالمثال أن ذا العقل يدرك [حقيقة] رائحة المسك ولو رام أن يصوغ عبارة عنها لم يجدها.
فنقول: عقد المقلد إذا لم يكن له مستند عقلي فهو على القطع من جنس الجهل وبيان ذلك بالمثال أن من سبق إلى عقده أن زيدا في الدار ولم يكن فيها.
 ج / 1 ص -22-
 
  
ثم استمر العقد فدخلها زيد فحال المعتقد لا يختلف وإن اختلف المعتقد وعن ذلك نقل النقلة عن عبد السلام بن الجبائي وهو أبو هاشم أنه كان يقول العلم بالشيء والجهل به مثلان وأطال المحققون ألسنتهم فيه وهذا عندي غلط عظيم في النقل فالذي نص عليه الرجل في كتاب الأبواب أن العقد الصحيح مماثل للجهل وعنى بالعقد اعتقاد المقلد وقد سبق أن الوجه القطع بمساواة عقد المقلد الجهل فإذا ظهر ذلك قدمنا أمرا آخر وقلنا الشاك يرتبط عقده بأن زيدا في الدار أم لا والمقلد سابق إلى أحد المعتقدين من غير ثقة مستمر عليه إما عن وفاق أو عن سبب يقتضيه اتباع الأولين وحذار مخالفة الماضين.
ومن أحكام عقد المقلد أنه لو أصغى إلى جهة في التشكيك ولم يضرب عن حقيقة الإصغاء لتشكك لا محالة كالذي يتنبه وهو يأرق في وقفته.
43- ومن عجيب الأمر ظن من ظن أن العلم [عقد من العقود أو نوع منها] وهو عندي نقيض جميعها فإن معنى العقد ربطك الفكر بمعتقد والاعتقاد افتعال منه والعلم يشعر بانحلال العقود وهو الانشراح والثلج والثقة.
وحق ذي العلم ألا يتصور تشككه وإن تناهى في الإصغاء إلى جهة التشكيك فإن أورد متحذق مسلكا في التشكيك على واثق بالعلم الحق كان العالم على حالات إحداها أن يتبين له سقوط جهة التشكيك والأخرى ألا يفهمها ولا يتخالجه ريب في معلومة لعدم علمه بما أورد عليه والأخرى أن ينقدح له اندفاع الشك ولا يتحرر له عبارة في دفعه ويرى معارضة جدلا محجاجا.
44- وقد يقرأ على العالم المحقق في أمر سؤال صادر عن عقد له تقليدي والسؤال يلزم لزوما لا دفع له لو كان ذلك العقد علما فإذا كان الأول علما والثاني نقيضه فلا يستريب ذو التحصيل في بطلان عقده ولا يستطيع لو أنصف مراء وقد يكيع عن تغير عقده حذارا من أمر فتثور منه ثوائر في عقد التقليد والعلم السابق [يجاذبه] وليس ذلك شكا أرشدتم فيما تقدم وإنما هو إيثار ذهول عن الأول ليستمر ما يحاوله من الاستقرار على العقد التقليدي [و] لن يبالي بذلك إلا من ضعف غريزة عقله وهذا أوان الوقوف على هذا المنتهى فإن مجاوزته تزيد على قدر هذا المجموع وسأتحفك إن ساعدت الأقدار بلباب هذه الفنون مستعينا بالله وهو خير معين.
 ج / 1 ص -23-
 
  
فصل
يحوي الأقاويل في مدارك العلوم.
45- حكى أصحاب المقالات عن بعض الأوائل حصرهم مدارك العلوم في الحواس ومصيرهم إلى أن لا معلوم إلا المحسوسات.
ونقلوا عن طائفة يعرفون بالسمنية أنهم ضموا إلى الحواس أخبار التواتر ونفوا ما عداها.
وحكى عن بعض الأوائل أنهم قالوا لا معلوم إلا مادل عليه النظر العقلي وهذا في ظاهره مناقض للقول الأول ومتضمنة أن المحسوسات غير معلومة.
والذي أراه أن الناقلين غلطوا في نقل هذا عن القوم وأنا أنبه على وجه الغلط.
قال الأوائل العلوم كل ما تشكل في الحواس وما يفضي إليه نظر العقل مما لا يتشكل فهو معقول فنظر الناقلون إلى ذلك ولم يحيطوا باصطلاح القوم وقال المطلعون من مذاهبهم على أن لا معلوم إلا المحسوس من أصلهم أن المدارك تنحصر في الحواس وقال من رآهم يسمون النظريات معقولات من أصل هؤلاء أن المدارك منحصرة في سبل النظر وهذا ظن ولا أرى خلافا في المعنى وقال قائلون مدارك العلوم الإلهام.
وقال آخرون من الحشوية المشبهة لا مدارك للعلوم إلا الكتاب والسنة والإجماع وقال المحققون مدارك العلوم الضروريات التي تهجم مبادئ فكر العقلاء عليها والنظريات العقليات والسمعيات على ما سيأتي تفصيلها فأما الضروريات فإنها تقع بقدرة الله تعالى غير مقدورة للعباد والنظريات في رأى معظم الأصحاب مقدورة بالقدرة الحادثة.
46- والمرتضى المقطوع به عندنا أن العلوم كلها ضرورية والدليل القاطع على ذلك أن من استد نظره وانتهى نهايته ولم يستعقب النظر ضد من أضداد العلم بالمنظور فيه فالعلم يحصل لا محالة من غير تقدير فرض خيرة فيه ولن يبلغ المرء مبلغ التحقيق في ذلك حتى يعرف مذهبنا في حقيقة النظر وسنبدي أنه تردد في أنحاء الضروريات ومراتبها على ما سيأتي شرحنا عليه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
 ج / 1 ص -24-
 
  
47- فأما المعتزلة فإنهم فهموا أن العلوم ليست مباشرة بالقدرة وعلموا أن النظر يستعقبها استعقابا لا دفع له فزعموا أن النظر يولدها توليد الأسباب مسبباتها.
والمقدور الذي هو مرتبط التكليف والثواب هو النظر عندي.
48- ثم رتب أئمتنا أدلة العقل ترتيبا ننقله ثم نبين فساده ونوضح مختارنا فنكون جامعين بين نقل تراجم المذاهب والتنبيه على الصواب منها.
قالوا أدلة العقول تنقسم أربعة أقسام أحدها بناء الغائب على الشاهد والثاني إنتاج المقدمات النتائج والثالث السبر والتقسيم والرابع الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه.
ثم قالوا أما بناء الغائب على الشاهد فلا يجوز التحكم به من غير جامع عقلي ومن التحكم به شبهت المشبهة وعطلت المعطلة وعميت بصائر الزنادقة.
فقالت المشبهة: لم نر فاعلا ليس متصورا وقالت المعطلة: الموجود الذي لا يناسب موجودا غير معقول ثم حصروا الجوامع في أربع جهات أحدها الجمع بالعلة والثاني الجمع بالحقيقة والثالث الجمع بالشرط والرابع الجمع بالدليل فأما الجمع بالعلة فكقول [مثبتي] الصفات إذا كان كون العالم عالما شاهدا [معللا] بالعلم لزم طرد ذلك غائبا.
والجمع بالحقيقة كقول القائل حقيقة العالم شاهدا من له علم فيجب طرد ذلك غائبا.
والجمع بالشرط كقولنا العلم مشروط بالحياة شاهدا فيجب الحكم بذلك على الغائب.
[والجمع] بالدليل كقولنا الحدوث والتخصيص والإحكام يدل على القدرة والإرادة والعلم شاهدا فيجب طرد ذلك غائبا.
وأما بناء النتائج على المقدمات فهو كقولنا الجواهر لا تخلو عن حوادث مستندة إلى أولية فهذه هي المقدمة والنتيجة أن مالا يخلو عن الحوادث لا يسبقها.
والاستدلال بالمتفق على المختلف كقياسنا الألوان على الأكوان [في] استحالة تعري الجواهر عنها.
فهذا سياق كلام الأصحاب في ذلك.
 ج / 1 ص -25-
 
  
ثم قالوا قد تكون المقدمة ضرورية والنتيجة نظرية وهذا هو الأكثر كقولنا تحرك الجوهر ولم يكن متحركا فهذه مقدمة ضرورية نتيجتها أنه لا بد والحالة هذه من فرض زائد على الذات.
وقد تكون المقدمة نظرية والنتيجة ضرورية كقولنا الجوهر لا يخلو عن الحوادث التي لها أول وهذه مقدمة نظرية لا يتوصل إليها إلا بدقيق النظر والنتيجة أن ما لا يخلو عن الحوادث التي لها أول حادث وهذا ضروري.
49- فأما نحن فلا نرتضى شيئا من ذلك فأما بناء الغائب على الشاهد فلا أصل له فإن التحكم به باطل وفاقا والجمع بالعلة لا أصل له إذ لا علة ولا معلول عندنا وكون العالم عالما هو العلم بعينه.
والجمع بالحقيقة ليس بشيء فإن العلم الحادث مخالف للعلم القديم فكيف يجتمعان في الحقيقة مع اختلافهما فإن قيل جمعتهما العلمية فهو باطل مبنى على القول بالأحوال وسنوضح بطلانها على قدر مسيس الحاجة.
والقول الجامع في ذلك أنه إن قام دليل على المطلوب في الغائب فهو المقصود ولا أثر لذكر الشاهد وإن لم يقم دليل على المطلوب في الغائب فذكر الشاهد لا معنى له وليس في المعقول قياس وهذا يجري في الشرط والدليل.
وأما المقدمة والنتيجة فلست أرى في عد ذلك صنفا من أدلة العقول معنى ولا حاصل للفصل بين النظري والضروري والعلوم كلها ضرورية كما سبق تقريره.
والاستدلال بالمتفق على المختلف لا أصل له فإن المطلوب في المعقولات العلم ولا أثر للخلاف والوفاق فيها.
وأما السبر والتقسيم فمعظم ما يستعمل منه باطل فإنه لا ينحصر في نفى وإثبات كقول من يقول لو كان الإله مرئيا لرأيناه الآن فإن المانع من الرؤية القرب المفرط أو البعد [المفرط] أو الحجب إلى غير ذلك مما يعدونه وهذا الفن لا يفيد علما قط ويكفى في رده قول المعترض بم تنكرون على من يثبت مانعا غير ما ذكرتموه فلا يجد السابر المقسم من ذلك محيصا.
فأما التقسيم الدائر بين النفي والإثبات فقد ينتهض ركنا في النظر الصحيح كما ذكرناه في كتاب النظر في الكلام.
 ج / 1 ص -26-
 
  
فصل
يجمع قول الأصحاب في مراتب العلوم وما نختار من ذلك.
50- قال الأئمة رحمهم الله مراتب العلوم في التقسيم الكلي عشر.
الأولى: علم الإنسان بنفسه ويلتحق بذلك علمه بما يجده ضروريا من صفاته كألمه ولذاته.
والدرجة الثانية: تحوي العلوم الضرورية كالعلم باستحالة المستحيلات وهذا دون الدرجة الأولى من حيث إنه يستند العلم فيه إلى فكر في ذوات المتضادات وتضادها.
والثالثة: تجمع العلوم بالمحسوسات وهذه الرتبة دون الثانية لأن الحواس عرضة الآفات والتخييلات.
والمرتبة الرابعة تحوي العلم بصدق المخبرين تواترا وهذا دون العلم بالمحسوسات ولما يتطرق إلى إخبار المخبرين من [إمكان] التواطؤ وإن كثر الجمع فلا بد من نوع من الفكر ولذلك ألحق الكعبي هذا القسم بالنظريات.
والمرتبة الخامسة: العلم بالحرف والصناعات وهي محطوطة عما تقدم لما فيها من المعاناة والمقاساة وتوقع الغلطات.
والمرتبة السادسة: في العلوم المستندة إلى قرائن الأحوال كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل وغضب الغضبان وإنما استأخرت هذه المرتبة لتعارض الاحتمالات في محامل الأحوال وخروجها عن الضبط.
والمرتبة السابعة: العلوم الحاصلة بأدلة العقول وهي مستأخرة لا محالة عن الضروريات المذكورة في المراتب السابقة.
والثامنة: العلم بجواز النبوات وابتعاث الرسل وجواز ورود الشرائع.
والتاسعة: في العلم بالمعجزات إذا وقعت.
والعاشرة: في العلم بوقوع السمعيات الكلية ومستندها الكتاب والسنة والإجماع.
 ج / 1 ص -27-
 
  
51- ثم في بعض الأقسام التي ذكروها مواقع خلاف على ما نشير إليها.
فمن الجملة التي اختلف فيها الخائضون في التقسيم المحسوسات فقال قائلون كلها في درجة واحدة وقال آخرون السمع والبصر مقدمان على ما سواهما ثم من هؤلاء من قدم البصر على السمع لتعلقه بجميع الموجودات بزعمه ومنهم من سوى بينهما.
52 - وذهب بعض أصحاب الأقاويل إلى تقديم السمع على البصر لوجهين أحدهما أن السمع لا يحتاج إلى الأشعة المتعرضة للحركات والتعريجات والأخر أن السمع لا يختص في دركه بجهة بخلاف البصر وذكر القتبي1 هذا واختاره وذكر أن الباري سبحانه وتعالى: قدم السمع على البصر فقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ}2 ثم قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ}3 وجمع من هذا كثيرا وهو ولاج هجوم على مالا يحسنه ومما قاله: إن الله لم يبتعث أصم وفي الأنبياء عليهم السلام عميان.
ومما خاض فيه الخائضون أنا قدمنا ما يدرك بالحواس على ما يدرك بالعقل وهو اختيار شيخنا أبي الحسن الأشعري4 رحمة الله عليه وقدم القلانسي المعقولات بالأدلة النظرية على المحسوسات من حيث إن العقل مرجع المعقولات ومحلها ومرجع المحسوسات إلى الحواس وهي عرضة الآفات فهذه جمل من المقالات.
53- والحق عندنا بعيد نازح عن هذه المسالك وما أرى المقسمين بنوا تقاسيمهم إلا على الرضا والقناعة لعقود ظاهره لا تبلغ الثلج ومسلك اليقين ومن أحاط بحقيقة العلم واعتقد العلوم كلها ضرورية لم يتخيل فيها تقديما [ولا] تأخيرا.
نعم الطرق إليها قد يتخيل أن فيها ترتيبا في تعرضها للزلل فأما العلوم في نفسها إذا حصلت على حقيقتها فيستحيل اعتقاد ترتيبها.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القبتي: هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الكاتب نزيل بغداد قال الخطيب: كان رأسا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس ثقة دينا فاضلا صنف "إعراب القرآن" و "معاني القرآن" و "مختلف الحديث" و "غريب الحديث". مات سنة "267" له ترجمة في البداية والنهاية "11/48" وتاريخ بغداد "10/170" وشذرات الذهب "2/169" ووفيات الأعيان "2/246".
2 آية "42" سورة يونس.
3 آية "43" سورة يونس.
4 سبقت ترجمته
 ج / 1 ص -28-
 
  
فصل
فيما يدرك بالعقل لا غير وفيما يدرك بالسمع لا غير وفيما يجوز فرض إدراكه بهما جميعا.
54-  فأما مالا يدرك إلا بالعقل فحقائق الأشياء ودرك [استحالة] المستحيلات وجواز الجائزات ووجوب الواجبات العقلية لا التكليفية الضرورية منها والنظرية.
وأما ما لا يدرك إلا بالسمع فوقوع الجائزات وانتفاؤها وأما ما يشترك فيه السمع والعقل وبذكره ينضبط ما تقدم من القسمين فنقول فيه كل مدرك يتقدم على ثبوت كلام صدق فيستحيل دركه من سمع فإن مستند السمعيات كلها الكلام الحق الصدق.
وبيان ذلك بالمثال: أن وجود الباري سبحانه وتعالى: وحياته وأن له كلاما صدقا لا يثبته سمع فأما من أحاط بكلام صدق ونظر بعده في جواز الرؤية وفي خلق الأفعال وأحكام القدرة فما يقع من هذا الفن بعد ثبوت مستند السمعيات لا يمتنع اشتراك السمع والعقل فيه.
فصل
يشتمل على مقدار من مدارك العقول تمس الحاجة إليه في مسائل الأصول.
55-  فنقول لا يجول العقل في كل شيء بل يقف في أشياء وينفذ في أشياء ولا يحصل مقدار غرضنا في هذا المجموع من مضمون هذا الفصل العظيم القدر إلا بتقديم قاعدة موضع استقصائها كتاب النظر من الكلام.
فالنظر عندنا مباحثة في أنحاء الضروريات وأساليبها ثم العلوم الحاصلة على أثرها كلها ضرورية كما سبق تقرير ذلك وتلك الأنحاء يئول حاصل القول فيها إلى تقاسيم منضبطة بالنفي والإثبات منحصرة بينهما يعرضها العاقل على الفكر العقلي ويحكم فيها بالنفي والإثبات فإن كان ينقدح فيها نفى أو إثبات قطع به وليس للدليل تحصيل إلا تجريد الفكر من ذي نحيزة صحيحة إلى جهة يتطرق إلى مثلها العقل فإذا استد النظر وامتد إلى اليقين والدرك فهو الذي يسمى نظرا ودليلا.
وبيان ذلك بالأمثلة الهندسية والأرتماطيقية والكلامية فمن المقدمات الهندسية ما تهجم العقول عليها من غير احتجاج إلى فكر كالعلم بأن الجزء أقل من الكل والكل.
 ج / 1 ص -29-
 
  
أكثر من الجزء والخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى محيطها متساوية إلى غير ذلك من الأمثلة إلى تسمى المصادرات.
فإذا بنى المهندس على هذه المقدمات شكلا وركب عليها دعاوي وبرهنها بما يستند إلى تلك المقدمات فقد يحتاج في ترتيب الاستخراج إلى فكر طويل وإذا أحاط بما يبغيه فعلمه به على حسب علمه بالمقدمات وكذلك القول في العدديات.
ويقول المتكلم في الجسم الساكن إذا تحرك [قد] تجدد أمر لم يكن وهذا مهجوم عليه من غير نظر ثم إن استد فكره في جهة إثبات [الأعراض] [قال] هذا التجدد جائز أم لا فيفرض التقسيم بين النفى والإثبات ثم يفكر فيطيل فكره أو يقصره على التفاوت في احتداد القرائح وكلالها فيعلم من غير وسيلة ما يسمى دليلا أن الحكم بوجوب التحرك محال فيعلم الجواز ثم يعن له تقسيم آخر في أن ما علم جوازه يثبت لنفسه أم لا فيفكر كما تقدم فيتعين له أحد القسمين تعيينا ضروريا.
فهذا هو التردد في أنحاء الضروريات ولكنها لما انقسمت إلى مهجوم عليه وإلى ما يحتاج فيه إلى تقسيم وفكر سمى أحد القسمين نظريا والثاني ضروريا.
فإذا تقرر ذلك فالقول الضابط في مقصود الفصل أن كل ما يتجه فيه تقسيم مضبوط وينقدح تعيين أحدهما فهو الذي يتطرق العقل إليه وما لا ينضبط فيه التقسيم أو ينضبط ولا يهتدي العقل مع الفكر الطويل إلى تعيين أحدهما فهو من [محارات] العقل.
وبيان ذلك بمثالين: أحدهما: أن من أخذ يبغي جواز رؤية الباري سبحانه وتعالى: من النظر في أن مصحح الرؤية ماذا فهذا وقبيله لا يحصره النفي والإثبات فلا ينتهي النظر فيه قط إلى العلم.
وأما المثال الثاني: فهو أن من نظر وقد عن له تقسيم بين نفى وإثبات في أن الجوهر هل يجوز أن يخلو عن الألوان أم لا فهذا تقسيم منضبط ولكن العقل لا يعين أحد القسمين وإن تمادى فيه فكر العاقل أبد الآباد ومن أراد أن يأخذ ذلك من القياس على الأكوان فقد نأى عن مسلك العقل فليس في العقل قياس.
والتحقيق فيه: أن النظر الذي اقتضى استحالة العرو عن الأكوان إن قام في الألوان أغناك عن الاستشهاد بالأكوان فإذا لم يقم في الألوان فالعقل لا يحكم على الأكوان بحكم الألوان من غير بصيرة.
 ج / 1 ص -30-
 
  
56- ومما يتعين على الطالب الاهتمام به في مضايق هذه الحقائق أن يفصل بين موقف العقل وبين تبلده وقصوره لفرض عوائق تعوق.
57- ومما يجب الاعتناء به الميز بين الجواز الذي هو حكم مدرك [بالعقل] وبين الجواز الذي معناه التردد.
ونحن نذكر لمساق كل مقصد مسلكا مؤيدا بمثال على قدر ما يليق بهذا المجموع إن شاء الله تعالى.
فأما الموقف الذي يحكم به ويحيل تعديه فهو الإحاطة بأحكام الإلهيات على حقائقها وخواصها فأقصى إفضاء العقل إلى أمور [جملية] منها والدليل القاطع في ذلك رأى الإسلاميين أن ما يتصف به حادث موسوم بحكم النهاية يستحيل أن يدرك حقيقة مالا يتناهى وعبر الأوائل عن ذلك بأن قالوا تصرف الإنسان في المعقولات بفيض ما يحتمله من العقل عليه ويستحيل أن يدرك الجزء الكل ويحيط جزء طبيعي له حكم عقلي بما وراء عالم الطبائع وهذه العبارات وإن كانت مستنكرة في الإسلام فهي محومة على الحقائق ولكن لا يعدم العاقل العلم بكلى ما وراء [عالم] الطبائع فأما الاحتواء على الحقيقة فهو حكم سلطنة الكل على الجزء.
وأما [ما يحمل] على تبلد العقل فهو ما يقتضيه طارئ من الاعتلال أو الاختلال ولا يكاد ينكر ذلك العاقل من نفسه ثم يتصدى له طوران أحدهما أن يعلم قصوره والمطلوب مضطرب العقل والثاني أن يتمارى أنه مضطرب العقل أم لا وبالجملة لا يحكم لمن هذا حاله بتوقف العقل كحكمنا الأول فيما تقدم.
58- وقد صار معظم الأوائل إلى أن درك خواص الأجسام [وحقائقها] من مواقف العقول [فليس] من الممكن أن يدرك بالعقل الخاصية الجاذبة للحديد في المغناطيس وهذا عندي فيه نظر فإنها وإن دقت فهي من عالم الطبائع فالجزئي من العقل مسيطر على كل الطبائع ولكن ينقدح [عندي] في ذلك أمر يحمل التعذر عليه وهو إن تهيأ مفيض العقل من الإنسان للفيض الطبيعي فلا يكاد يبلغ هذا التركيب والتهيؤ مبلغا يفيض من العقل عليه ما يحيط بالخواص وأيضا فليست الخاصية قضية طبيعية محضة وإنما هي سلطنة النفس في المحل المختص ولا بعد في قصور [جزئي] العقل عن سلطان النفس.
وبالجملة لا يقوم برهان على التحاق هذا [القسم] بالمواقف إلا أن يعتمد المعتمد.
 ج / 1 ص -31-
 
  
الاستقراء ويعلم أن هذا لو كان ممكنا لجرى الإمكان في زمان ما مع تكرر المقتضيات والله المستعان.
59- وأما الميز بين الجواز المحكوم به وبين الجواز بمعنى التردد والشك فلائح [واضح] ومثاله أن العقل يقضي بجواز تحرك جسم ساكن وهذا الجواز حكم مبتوت للعقل وهو نقيض الاستحالة وأما الجواز بمعنى التردد والشك فكثير ونحن نكتفي فيه بمثال واحد فنقول تردد المتكلمون في انحصار الأجناس كالألوان فقطع قاطعون بأنها غير متناهية في الإمكان كآحاد كل جنس وزعم آخرون أنها منحصرة وقال المقتصدون لا ندري أنها منحصرة أم لا ولم يثبتوا مذهبهم على بصيرة وتحقيق.
والذي أراه قطعا أنها منحصرة فإنها لو كانت غير منحصرة لتعلق العلم منها بأجناس لا تتناهى على التفصيل وذلك مستحيل فإن استنكر الجهلة ذلك وشمخوا بآنافهم وقالوا الباري سبحانه عالم بما لا يتناهى على التفصيل سفهنا عقولهم وأحلنا تقرير هذا الفن على أحكام الصفات [في الكلام] وبالجملة علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا تتناهى فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل الاحاد مع نفى النهاية فإن ما يحيل دخول مالا يتناهى في الوجود يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم والأجناس المختلفة التي فيها الكلام يستحيل استرسال العلم عليها فإنها متباينة بالخواص وتعلق العلم بها على التفصيل مع نفى النهاية محال وإذا لاحت الحقائق فليقل الأخرق بعدها ما شاء.
فصل
مدارك العلوم في الدين ثلاثة في التقسيم الكلي.
60- أحدها: العقول والمطلوب منها درك الجواز في كل جائز ودرك المخصص له بالوجه الذي وقع عليه ودرك وجوب مخالفة المخصص للجائزات في أحكام الجواز ودرك وجوب صفات المخصص [التي] لا يصح كونه مخصصا دونها فهذا حظ العقل المحض في الديانات.
61- والمدرك الثاني: هو المرشد إلى ثبوت كلام صدق وهذا لا يتمحض العقل فيه فإن مسلكه المعجزات وارتباطها بالعادات انخراقا واستمرارا والقول في ذلك يطول.
 ج / 1 ص -32-
 
  
62- والمدرك الثالث أدلة السمعيات المحضة وهي إذا فصلت على مراسم العلماء [ثلاثة] الكتاب والسنة والإجماع وعد عادون خبر الواحد والقياس والتحقيق في ذلك يستدعي تقديم أصلين ثم بعدهما نعد السمعيات.
63 - فأحد الأصلين: في ذكر ما يقع الاستقلال به في إثبات العلم بكلام الله سبحانه وتعالى: الصدق ولا مطمع في استقصاء القول في ذلك ولكن القدر الذي يتفطن له العاقل أن العالم لا يخلو عن نطق النفس ثم النطق النفسي لا يكون إلا على حسب تعلق العلم وإذا كان كذلك لم يكن إلا صدقا وإن فرض فارض إجراء شيء في النفس على خلاف العلم فهو وسواس وتقديرات لا يتصور فرضها [إلا حادثة] وهذا القدر على إيجازه مقنع في غرض هذا الفصل.
64- والأصل الثاني: في إثبات اقتضاء المعجزة صدق من ظهرت على يديه ولا سبيل إلى الخوض في شرائطها وأحكامها كملا ولكن قدر غرضنا من ذلك أن المعجزة تكون فعلا لله سبحانه وتعالى: خارقا للعادة ظاهرا على حسب سؤال مدعى النبوة مع تحقيق امتناع وقوعه في الاعتياد من غيره إذا كان يبغي معارضة ووجه دلالتها يقرب من إشعار قرائن الأحوال بالعلوم البديهية فإذا قال من يدعى النبوة قد علمتم ربا مقتدرا على ما يشاء وتحققتم أن إحياء الموتى ليس مما يدخل تحت مسالك الحيل ومدارك القوى البشرية وإنما ينفرد بالقدرة عليه إله الخلق تعالى ثم يقول أي رب إن كنت صادقا في دعواي فأحي هذه العظام الرميم فإذا ائتلفت وتمثلت شخصا ينطق فلا يستريب ذو لب في أن ذلك جرى قصدا إلى تصديقه.
وهذا يناظر ما ضربه القاضي أبو بكر رحمة الله عليه في كتبه مثلا حيث قال إذا تصدى ملك للداخلين عليه في مهم سنح وأخذ الناس مجالسهم وتأزر المجلس بأهله ثم قام قائم بمرأى من الملك ومسمع فقال أنا رسول الملك إليكم وآية رسالتي أن ألتمس من الملك أن يقوم ويقعد خارقا عادته المألوفة فيفعل ثم يقول أيها الملك إن كنت رسولك فصدقني بقيامك وقعودك فإذا طابقه الملك قطع الحاضرون بتصديقه إياه من غير فكر وروية وانصرفوا واثقين على ثلج من الصدور وهذا ليس قياسا وإنما أثبتناه مثلا وإيناسا وإلا فإظهار المعجزة على شرطها بهذه المثابة يفيد العلم بصدقة ضرورة من غير احتياج إلى [نظر].
فإن قيل: أيتصف الرب سبحانه وتعالى: بالاقتدار على أن يظهر على يد كذاب مع ما يعتقد في العقيدة من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء؟ قلت:.
 ج / 1 ص -33-
 
  
معتقدي وجوب وصف الرب سبحانه بهذا لا محالة.
فإن قيل فما المانع من وقوع ذلك وكل مقدور ممكن [الوقوع] وإنما لا يقع خلاف المعلوم من حيث علمناه معلوما؟ فبأي مسلك يتوصل إلى أن من يعتقد صادقا هو كذلك؟ وما يؤمن كونه كذابا ومراد الباري - سبحانه وتعالى - يعضده بخوارق العادات إظهارا للضلالات وإغواء للخلق؟ وهذا لا يليق بقدر هذا الكتاب ولكن إذا انتهى الكلام إليه نثبت بديعة شافية.
ونقول قد أجرينا في أدراج الكلام أن المعجزات تجرى مجرى قرائن الأحوال والرب سبحانه وتعالى: قادر على ألا يخلق لنا العلم الضروري بخجل الخجل عند ظهور قرائن الأحوال بل هو قادر على أن يخلق عندها الجهل ولكن تجويز ذلك لا يغض من يقيننا بالعلم الحاصل ولو فرض خرق هذه العادة لعدم العاقل مذاق هذا العلم.
وكذلك لو فرضنا ظهور المعجزة على حقها لحصل العلم ضروريا عندها مع سبق العلم بالصانع واعتقاد أنه المقتدر [بقدرته] على هذا الفن [كقدرته على كل شيء] وما أتى منكر لصدق نبي حق إلا من جهات منها التردد في إثبات صانع مختار ومنها اعتقاد الواقع تخييلا ومنها اعتقاده موصولا إليه بالغوص على العلوم والإحاطة بالخواص فأما من لم تخطر له هذه الفنون وهدى للحق الواضح واعتقد أن المعجزة فعل الله ولا يتوصل إلى مثلها محتال وقد وقعت على موافقة الدعوى فإنه لا يستريب مع ذلك في صدق من ظهرت عليه المعجزة ولو خرق الله سبحانه وتعالى: العادة في إظهارها على أيدي الكذابين لانسلت العلوم عن الصدور كما سبق تمثيله في قرائن الأحوال.
65- ونقول بعد هذين الأصلين الأصل في السمعيات كلام الله تعالى وهو مستند قول النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لا يثبت عندنا كلام الله تعالى إلا [من] جهة من يثبت صدقه بالمعجزة إذا أخبر عن كلام الله تعالى فمال السمع إلى كلام الله تعالى وهو متلقى من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستند الثقة بالتلقي منه ثبوت صدقه والدال على صدقة المعجزة والمعجزة تدل من جهة نزولها منزلة التصديق بالقول وذلك مستند إلى اطراد العرف في إعقاب القرائن للعلم وثبوت العلم بأصل الكلام لله تعالى يدل عليه وجوب اتصاف العالم بالشيء بالنطق الحق.
 ج / 1 ص -34-
 
  
الصدق عما هو عالم به فإذا ذكرنا في مراتب السمعيات الكتاب فهو الأصل وإذا ذكرنا السنة فمنها تلقى الكتاب والأصل الكتاب فأما الإجماع فقد أسنده معظم العلماء إلى نص الكتاب وذكروا قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرسول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}1 [الآية] وهذا عندنا ليس على رتبة الظاهر فضلا عن ادعاء منصب النص [فيها] وإنما يتلقى الإجماع من أمر متعلق بالعادة أولا فإن علماء الدهر إذا قطعوا أقوالهم جزما في مظنون وعلم استحالة التواطؤ منهم فالعرف يقضى باستناد اعتقادهم واتفاقهم إلى خبر مقطوع به عندهم وسيأتي ذلك مفردا في كتاب الإجماع إن شاء الله تعالى فإذا ليس الإجماع في نفسه دليلا بل العرف قاض باستناده إلى خبر والخبر مقبول من أمر الله تعالى بقبوله وأمر الله من كلامه وكلامه متلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق رسوله من مدلول تصديق الله تعالى إياه بالمعجزة وما ذكرناه من [الخبر] في أثناء الكلام عنينا به الخبر المتواتر النص الذي ثبت أصله وفحواه قطعا.
فأما خبر الواحد إن عد من مراتب السمعيات فلا نعني بذكره أنه يستقل بنفسه ولكن العمل عنده يستند إلى خبر متواتر وإلى إجماع مستند إلى الخبر المتواتر وكذلك القول في القياس.
وبالجملة أصل السمعيات كلام الله تعالى وما عداه طريق نقله أو مستند إليه فهذا بيان العقلي المحض والسمعي المحض والمتوسط بينهما.
66- فإن قيل قد أثبتم النطق لله تعالى بالعقل المحض وقد عددتموه فيما تقدم من الرتبة المتوسطة قلنا الرتبة المتوسطة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلق بالمعجزة والذي ذكرناه قبل من ثبوت الصدق متوسطا فإياه عنينا إذ لا يثبت حكم إلهي سمعي إلا بعد تقدم العلم بوجوب الصدق لله تعالى فلو كان الصدق لله تعالى في نفسه ثبت بالسمع ومستند كل سمع كلام الله تعالى لأدى [ذلك] إلى إثبات الكلام بالكلام وهذا لا سبيل إليه ولا ينتظم العقد فيه وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتبط بالسمع أيضا وإنما يتردد بين حكم العرف وقضايا العقل.
67- قال الأصوليون الأدلة العقلية هي التي [يقتضي] النظر التام فيها العلم بالمدلولات وهي تدل لأنفسها وما هي عليه من صفاتها ولا يجوز تقديرها غير دالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النساء: آية 115.
 ج / 1 ص -35-
 
  
[كالفعل] الدال على القادر والتخصيص الدال على المريد والإحكام الدال على العالم فإذا وقعت هذه الأدلة دلت لأعيانها من غير حاجة إلى قصد قاصد إلى نصبها أدلة.
وأما السمعيات فإنها تدل بنصب ناصب إياها أدلة وهي ممثلة باللغات والعبارات الدالة على المعاني عن توقيف من الله تعالى فيها أو اصطلاح صدر عن الاختيار.
68- وتمام الغرض في ذلك أن المعقولات تنقسم إلى البدائه وهي التي يهجم العقل عليها من غير احتياج إلى تدبر وإلى ما لا بد فيه من فرط تأمل فإذا تقرر على سداده أعقب العلم الضروري إن لم يطرأ آفة ثم ليس في العقليات على الحقيقة انقسام إلى جلي وخفي فإن قصاراها كلها العلم الضروري ولكن يتطرق إليها نوعان من الفرق أحدهما أن الشيء قد يحوج إلى مزيد تدبر لبعد القريحة عن معاناة الفكر في أمثاله ولا شيء ينال طال الفكر فيه أو قصر إلا بتجريد الفكر في جهة الطلب فهذا نوع من الفرق بين النظرين.
والنوع الثاني: أن الناظر قد يبغي شيئا نازحا بعيدا يقع بعد عشر رتب مثلا من النظر ويطول الزمان في استيعاب معناها وقد يطرأ على الناظر في الأواخر نسيان الأوساط والأوائل فيتخبط النظر وقد يكون المطلوب في الرتبة الثالثة مثلا فيقرب المدرك ولا يتوعر المسلك ولا يطرأ من الذهول في ذلك ما يطرأ على من يتعدد عليه رتب النظر ويطول الزمان في استيعاب جميعها على الطالب قبل مطلوبه فهذا هو تفاوت النظر والناظر وإلا فليس في حقيقة النظر العقلي المفضي إلى العلم تفاوت.
69- ثم البرهان ينقسم إلى البرهان [المستد] وإلى البرهان الخلف.
فأما البرهان المستد فهو النظر المفضى بالناظر إلى عين مطلوبه وبرهان الخلف هو الذي لا يهجم بنفسه على تعيين المقصود ولكن يدير الناظر المقصود بين قسمى نفى وإثبات ثم يقوم البرهان على استحالة النفي فيحكم الناظر بالثبوت أو يقوم على استحالة الثبوت فيحكم الناظر بالنفي.
والأحكام الإلهية كلها تستند إلى البرهان الخلف وبيان ذلك بالمثال أن من اعتقد على الثقة صانعا ثم ردد النظر بين كونه في جهة وبين استحالة ذلك عليه فلا يهجم النظر على موجود لا في جهة ولكن يقوم البرهان القاطع على استحالة قديم في جهة فيترتب عليه لزوم القضاء بموجود لا في جهة.
 ج / 1 ص -36-
 
  
وإذا تكلمنا في مسالك العقول من غير فرض الكلام في الإله سبحانه وصفاته فالنظر المستد يجرى في جميع مطالب العقل إلا في شيئين:.
أحدهما: ما يتعلق بأحكام الأزل ونفى الأولية.
والثاني: ما يتعلق بنفى الإنقسام عن الجوهر الفرد.
فهذا القدر كاف في التنبيه على مسالك العقول والسمع واستكمال ذلك يستدعي طرفا من الكلام صالحا في البيان ومعناه فقد رسمه الأصوليون وطولوا أنفاسهم فيه ونحن الآن نبتدىء به بعون الله وتوفيقه.
 ج / 1 ص -37-
 
  
الكتاب الأول: القول في البيان.
الكلام في هذا الفصل يتعلق بثلاثة فنون أحدها في ماهية البيان والاختلاف فيه والثاني في مراتب البيان والثالث في تأخير البيان عن مورد اللفظ إلى وقت الحاجة.
مسألة:
اختلفت عبارات الخائضين في هذا الفن في معنى البيان.
70- فذهب بعض من ينسب إلى الأصوليين إلى أن البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح وهذه العبارة وإن كانت محمومة على المقصود فليست مرضية فإنها مشتملة على ألفاظ مستعارة كالحيز والتجلي وذوو البصائر لا يودعون مقاصد الحدود إلا في عبارات هي قوالب لها تبلغ الغرض من غير قصور ولا ازدياد يفهمها المبتدئون ويحسنها المنتهون.
وقال قائلون البيان هو العلم وهو غير مرضى فإن الإنسان ينهي الكلام إلى حد البيان ويحسن منه أن يقول ثم البيان وإن لم يفهم المخاطب وقد يقول بينت فلم يتبين.
71- والقول المرضى في البيان ما ذكره القاضي أبو بكر حيث قال البيان هو الدليل ثم الدليل ينقسم إلى العقلي والسمعي كما نفصل القول فيه والله سبحانه وتعالى: مبين الأمور المعقولة بنصب الأدلة العقلية عليها والمسمع المخاطب مبين للمخاطب ما يبغيه إذا استقل كلامه بالإبانة والإشعار بالغرض فهذا منتهى المقصود في هذا الفن.
مسألة في مراتب البيان:
فأما الكلام في مراتب البيان فلا نجد بدا من نقل المقالات فيه ليكون الناظر.
 ج / 1 ص -39-
 
  
خبيرا بها ثم نذكر عند نجازها المختار عندنا إن شاء الله تعالى.
72- قال الشافعي رضي الله عنه في باب البيان في كتاب الرسالة1:
المرتبة الأولى: في البيان لفظ ناص منبه على المقصود من غير تردد وقد يكون مؤكدا واستشهد في هذه المرتبة بقوله سبحانه وتعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}2 فهذا في أعلى مراتب البيان.
والمرتبة الثانية: كلام بين واضح في المقصود الذي سيق الكلام له ولكن يختص بدرك معانيه وما فيه المستقلون وذوو البصائر واستشهد بآية الوضوء فإنها واضحة ولكن في أثنائها حروف لا يحيط بها إلا بصير بالعربية.
والمرتبة الثالثة: ما جرى له ذكر في الكتاب وبيان تفصيله محال على المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}3 فتفصيله قدرا وذكر مستحقه محال على رسول الله عليه الصلاة والسلام ولكن الأمر به ثابت في الكتاب.
والمرتبة الرابعة: الأخبار الصحيحة التي لا ذكر لمقتضياتها في كتاب الله تعالى وإنما متعلقها من الكتاب قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}4.
والمرتبة الخامسة: القياس المستنبط مما ثبت في الكتاب والسنة.
فهذه مراتب تقاسيم البيان عنده فكأنه رضي الله عنه آثر ارتباط البيان بكتاب الله تعالى من كل وجه ولهذا قال في صفة المفتى من عرف كتاب الله تعالى نصا واستنباطا استحق الإمامة في الدين فهذا مسلك الشافعي في ترتيب مراتب البيان.
73- وقال أبو بكر بن داود الأصفهاني أغفل الشافعي رحمه الله في المراتب الإجماع وهو من أصول أدلة الشريعة فإن تكلف متكلف وزعم أن الإجماع يدل من حيث استند إلى الخبر فاكتفى بذكر الأخبار فهلا ذكر الإجماع أولا واكتفى بذكره عن القياس لاستناده إليه فالقياس مستند إلى الإجماع وهو مستند إلى الخبر وقد عده الشافعي ولو ذكر الإجماع لكان أقرب إذ هو أعلى من القياس ثم كان يندرج.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ص "26-34".
2 آية "96" سورة البقرة.
3 آية "141" سورة الأنعام.
4 آية "7" سورة الحشر.
 ج / 1 ص -40-
 
  
القياس تحت متضمنات الإجماع ولا دفع للسؤال.
74-  وذكر بعض الأصوليين صنفا آخر من الترتيب فقال:
الرتبة الأولى النص والثانية الظاهر المحتمل التأويل والثالثة اللفظ المتردد بين احتمالين من غير ترجيح وظهور في أحدهما كالقرء ونحوه.
وهذا ساقط فإن ما ذكره هذا القائل آخرا من المجملات هو نقيض البيان والظاهر ليس بيانا أيضا مع تطرق الاحتمال إليه ولولا ما قام من القاطع على وجوب العمل به لما اقتضى بنفسه عملا.
75- وقال قائلون: المرتبة الأولى فيها لفظ الشارع صلى الله عليه وسلم.
والثانية فحوى فعل الشارع صلى الله عليه وسلم الواقع بينانا كصلاته مع قوله صلوا كما رأيتموني أصلى1.
والمرتبة الثالثة في إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم كما صح في الحديث2 أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر هكذا وهكذا, وهكذا" فأشار بأصابعه العشر وحبس واحدة في الثالثة.
والمرتبة الرابعة الكتابة وهي دون الفعل والإشارة لما يتطرق إليها من الإيهام والتحريف لا سيما مع الغيبة.
والمرتبة الخامسة في المفهوم وهو ينقسم إلى مفهوم الموافقة والمخالفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والسادسة: في القياس وهو ينقسم إلى ما في لفظ الشارع صلى الله عليه وسلم إشارة إليه كقوله3: "أينقص الرطب إذا يبس؟" [فقالوا: نعم يا رسول الله, فقال: "فلا إذا" فكان"] ذلك إيماء إلى تعليل فساد البيع بما يتوقع من النقصان عند الجفاف.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري 1/162, 8/11 و 9/107, و البيهقي 2/173 و الدارقطني 1/273 و 346.
2 البخاري 3/34 و 35, 7/68, ومسلم في: الصيام: ب 3: حديث 4, 10, 13, 16, و ب "4": حديث 26, 27, والنسائي في: الصيام ب 15, 16, وابن ماجه 1656 و 1657 و وأحمد 1/284 و2/28 و43 و 125 و 5/42, و البيهقي 4/205 و250.
3 أبو داود: في البيوع "18" والترمذي في: البيوع "14" والنسائي في البيوع "36" وابن ماجه في: التجارات "53" ومالك في: البيوع "22", و الدارقطني "3/49", وشرح السنة "8/78", و البيهقي "5/294".
 ج / 1 ص -41-
 
  
وإلى ما ليس في لفظ الشارع صلى الله عليه وسلم له ذكر ثم له مراتب لسنا لها الآن.
76- والقول الحق عندي أن البيان هو الدليل وهو ينقسم إلى العقلي والسمعي.
فأما العقلي فلا ترتيب فيه على التحقيق في الجلاء والخفاء وإنما يتباين من الوجهين المقدمين في التعدد [وفي] الاحتياج إلى مزيد فكر وترو.
فأما السمعيات فالمستند فيها المعجزة وثبوت العلم بالكلام الصدق الحق لله سبحانه وتعالى: فكل ما كان أقرب إلى المعجزة فهو أولى بأن يقدم وما بعد في الرتبة أخر.
وبيان ذلك [أن كل] ما يتلقاه من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رآه فهو مدلول المعجزة من غير واسطة والإجماع من حيث يشعر بخبر مقطوع به يقع ثانيا والمدلولات المتلقاة من الإجماع [و] منها خبر الواحد والقياس يقع ثالثا ثم لها مراتب في الظنون ولا تنضبط وإنما غرضنا ترتيب البيان ومن ضرورة البيان تقدير العلم.
فإن قيل: لم, لم تعدوا كتاب الله تعالى؟ قلنا: هو مما تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل ما يقوله الرسول فمن الله تعالى فلم يكن لذكر الفصل بين الكتاب والسنة معنى فهذا منتهى الغرض في تقسيم البيان والله المستعان.
مسألة في تأخير البيان:
77- اعلم أن البيان لا يسوغ تأخيره عن وقت الحاجة والمعنى به توجه الطلب التكليفي فإذا فرض ذلك استحال أن يؤخر بيان المطلوب ولو فرض ذلك لكان مقتضيا تكليف مالا يطاق وقد سبق القول في استحالته.
وأما تأخير البيان إلى وقت الحاجة عند ورود الخطاب فجائز عند أهل الحق.
78- ومنع المعتزلة ذلك وأوجبوا اقتران البيان بمورد الخطاب والكلام عليهم يحصره ثلاثة أقسام.
أحدها: البرهان الحق فنقول لا يمتنع ما منعتموه وقوعا وتصورا وليس كامتناع المستحيلات وفرض اجتماع المتضادات فلئن فرض استحالته فهو متلقى على زعمكم من فن الاستصلاح والقول بالصلاح والأصلح فرع من فروع مذهبهم في التقبيح والتحسين العقليين وقد استأصلنا قاعدتهم فيما يدعونه من ذلك على أن.
 ج / 1 ص -42-
 
  
معتضدهم فيما يدعونه من ذلك الرجوع إلى [معاقلات] العقلاء وليس ببدع أن يقول القائل ربما يعلم الله تعالى صلاح عباده في أن يبهم عليهم الخطاب حتى يعتقدوه مبهما ثم إذا استمروا بين لهم التفصيل عند الحاجة ولو بين لهم أولا لفسدوا فيبطل ما ذكروه من كل وجه فهذا مسلك.
والمسلك الثاني: يتعلق بمناقضتهم مذهبهم هاهنا بأصلهم في النسخ فإن النسخ عندهم بيان مدة التكليف [ولم يكن] هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول وليس لهم عن هذا جواب.
والمسلك الثالث: يتعلق بمطالبتهم [بما] رأينا الشرع عليه فنقول قد ورد الأمر بالحج ولم يقترب به تفاصيله جملة واحدة وكذلك القول في الصلاة وغيرها من قواعد الشريعة فلم يبق لمذهبهم متعلق.
فإن قالوا: مخاطبة المكلف بما لا يفهم لا فائدة فيه, قلنا: هذا عين المذهب وفيما ذكرناه ما يبطله.
فإن قالوا: مخاطبة العربي بلفظ محتمل في اللغة كمخاطبة الأعجمي بالعربية, قلنا: ونحن لا نمنع من ذلك إذا فهم [العجمي] على الجملة أنه مأمور والعجم مأمورون بأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ثم [يفسر] لهم في وقت الحاجة.
القول في اللغات ومأخذها وذكر ألفاظ جرى رسم الأصوليين بالكلام عليها.
79- اعلم أن معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني أما المعاني فستأتي في كتاب القياس إن شاء الله تعالى وأما الألفاظ فلا بد من الاعتناء بها فإن الشريعة عربية ولن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر في الشرع ما لم يكن ريانا من النحو واللغة ولكن لما كان هذا النوع فنا مجموعا ينتحى ويقصد لم يكثر منه الأصوليون مع مسيس الحاجة إليه وأحالوا مظان الحاجة على ذلك الفن واعتنوا في فنهم بما أغفله أئمة العربية واشتد اعتناؤهم بذكر ما اجتمع فيه إغفال أئمة اللسان وظهور مقصد الشرع وهذا كالكلام على الأوامر والنواهي والعموم والخصوص وقضايا الاستثناء وما يتصل بهذه الأبواب ولا يذكرون ما ينصه أهل اللسان إلا على.
 ج / 1 ص -43-
 
  
قدر الحاجة الماسة التي لا عدول عنها.
ونحن نذكر الآن مسائل على شرط هذه الترجمة إن شاء الله.
مسألة:
80- اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبت اصطلاحا وتواطؤا وذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائييني رحمه الله في طائفة من الأصحاب إلى أن القدر الذي يفهم منه قصد التواطؤ لا بد أن يفرض فيه التوقيف.
والمختار عندنا أن العقل يجوز ذلك كله فأما تجويز التوقيف فلا حاجة إلى تكلف دليل فيه ومعناه أن يثبت الله سبحانه وتعالى: في الصدور علوما بديهية بصيغ مخصوصة بمعان فيتبين العقلاء الصيغ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار.
وأما الدليل على جواز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعد أن يحرك الله تعالى نفوس العقلاء لذلك ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيارهم صيغا وتقترن بما يريدون أحوال لهم وإشارات إلى مسميات وهذا غير مستنكر وبهذا المسلك ينطق الطفل على طول ترديد المسمع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه.
فإذا ثبت الجواز في الوجهين لم يبق لما تخيله الأستاذ رحمه الله وجه والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تثبت في النفوس فإذا لم يمتنع ثبوتها لم يبق لمنع التوقيف والاصطلاح بعدها معنى ولا أحد يمنع جواز ثبوت العلوم الضرورية على النحو المبين.
فهذا خط الأصول من هذه المسألة.
81- فإن قيل فإذا أثبتم الجواز في الوجهين عموما فما الذي اتفق عندكم وقوعه قلنا ليس هذا الآن مما يتطرق إليه بمسالك العقول فإن وقوع الجائز لا يستدرك إلا بالسمع المحض ولم يثبت عندنا سمع قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1 دليل على أحد الجائزين فإنه.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "31" سورة البقرة.
 ج / 1 ص -44-
 
  
لا يمتنع أن اللغات لم يكن يعلمها فعلمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتها ابتداء وعلمه إياها.
مسألة:
82- ذهب بعض من ينتمي إلى أصحابنا في طوائف من الفرق إلى أن اللغات لا يمتنع إثباتها قياسا وإنما قالوا ذلك في الأسماء المشتقة كالخمر فإنها من التخمير أو المخامرة فقال هؤلاء إن خصصت العرب في الوضع اسم الخمر بالخمر النية العنبية فيجوز تسمية النبيذ المشتد خمرا لمشاركته الخمر النية فيما منه اشتقاق الاسم.
83- والذي نرتضيه: أن ذلك باطل لعلمنا أن العرب لا تلتزم طرد الاشتقاق وأقرب مثال إلينا أن الخمر ليس في معناها الإطراب وإنما هي من المخامرة أو التخمير فلو ساغ الاستمساك بالاشتقاق لكان كل ما يخمر العقل أو يخامره ولا يطرب خمرا وليس الأمر كذلك.
والقول الضابط فيه: أن الذي يدعى ذلك إن كان يزعم أن العرب أرادته ولم تبح به فهو متحكم من غير ثبت ولا توقيف فإن اللغات على خلاف ذلك ولم يصح فيها ادعاء نقل وإن كان يزعم أن العرب لم تعن ذلك فإلحاق الشيء بلسانها وهي لم ترده محال والقايس في حكم من يبتدئ وضع صيغة.
فإن قيل الأقيسة الحكمية يدور فيها هذا التقسيم قلنا أجل ولكن ثبت قاطع سمعي على أنها متعلق الأحكام فإن نقلتم قاطعا من أهل اللسان اتبعناه.
ثم السر فيه أن الإجماع انعقد علة وجوب العمل عند قيام ظنون القايسين فلم تكن الظنون موجبة علما ولا عملا وليس في اللغات عمل فإن كنتم تظنون شيئا فلا نمنعكم من الظن ولكن لا يسوغ الحكم بالظن المجرد فإن تعلق هؤلاء بالأسماء المشتقة من حيث الأفعال كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري على قضية واحدة فقد ثبت في هذه من طريق النقل اطراد القياس فاتبعناه ولا يجرى هذا في محل النزاع قطعا.
84-  في ألفاظ استعملتها العرب فجرت في ألفاظ الشارع صلى الله عليه وسلم على أنحاء لم تعهد في اللغة المحضة كالصلاة والزكاة والحجج والعمرة وما في معناها.
فالصلاة في اللسان: الدعاء وقيل: هي ملازمة الشيء من قولهم صلى النار.
 ج / 1 ص -45-
 
  
واصطلى بها ومنه المصلى في السباق.
والزكاة هي: النمو والحج والعمرة القصد ثم الشارع سمى عبادة مخصوصة صلاة وكذلك القول في أخوات هذه اللفظة فما وجه ذلك؟.
قال قائلون: نقل الشرع الألفاظ اللغوية عن حكم وضع اللسان إلى مقاصد الشرع.
وقال آخرون: هي مقرة على حقائق اللغات لم تنقل ولم يزد في معناها وهو اختيار القاضي أبي بكر رحمه الله.
وذهب طوائف من الفقهاء إلى أنها أقرب وزيد في معناها في الشرع.
وقالت المعتزلة: الألفاظ تنقسم ثلاثة أقسام أحدها الألفاظ الدينية وهي الإيمان والكفر والفسق: فهي عندهم منقولة إلى قضايا في الدين فالإيمان في اللسان التصديق والكفر من الكفر وهو الستر والفسق الخروج وهذا الذي ذكروه على قواعدهم في أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا دينا وليس كافرا أيضا وإنما هو فاسق.
والقسم الثاني: الألفاظ اللغوية وهي القارة على قوانين اللسان.
والقسم الثالث: الألفاظ الشرعية وهي الصلاة والصوم وأخواتها فهي مستعملة في فروع الشرع.
وسر مذهبهم في الدينية والشرعية يئول إلى ما حكيناه عن الفقهاء من أنها مقرة زيد في معناها.
أما القاضي رحمة الله عليه فإنه استمر على لجاج ظاهر فقال الصلاة الدعاء والمسمى بها في الشرع دعاء عند وقوع أقوال وأفعال ثم الشرع لا يزجر عن تسمية الدعاء المحض صلاة وطرد ذلك في الألفاظ التي فيها الكلام.
وهذا غير سديد فإن حملة الشريعة مجمعون على أن الركوع والسجود من الصلاة ومساق ما ذكره [أن] المسمى بالصلاة الدعاء فحسب وليس الأمر كذلك.
85- وأما المختار عندنا فيقتضي بيانه تقديم أصل هو مقصود في نفسه وبه يتم غرض المسألة فنقول:
 ج / 1 ص -46-
 
  
قد ذكر الأصوليون أن في الألفاظ ما هو عرفي وللعرف احتكام فيه ووجه احتكام العرف فيه يحصره شيئان أحدهما أن تعم استعارته عموما يستنكر معها استعمال الحقيقة وهذا كقول القائل: الخمر محرمة وهذا مستعار متجوز فإن الخمر لا تكون مرتبط التكليف وإنما يتعلق التكليف بأحكام أفعال المكلفين فالمحرم إذا شرب الخمر وتعاطيها ولو قال قائل: ليست الخمر محرمة لكان قائلا هجرا ويكثر تطاير ذلك في اللسان والشرع فهذا أحد الوجهين.
والثاني: يخصص العرف أسماء ببعض المسميات ووضع الاسم يقتضي ألا يختص وهذا كالدابة فإنها مأخوذة من دب يدب وهو مبني بناء فاعل على قياس مطرد في أسماء الفاعلين ثم يقال فلان دب ولا يسمى دابة إلا بعض البهائم والحشرات كالحيات ونحوها.
فإذا تبين هذا بنينا عليه غرضنا وقلنا الدعاء التماس وأفعال المصلي أحوال يخضع فيها لربه عز وجل ويبغى بها التماسا فعمم الشرع عرفا في تسمية تلك الأفعال دعاء تجوزا واستعارة وخصص اسم الصلاة بدعاء مخصوص فلا تخلو الألفاظ الشرعية عن هذين الوجهين وهما متلقيان من عرف الشرع فمن قال إن الشرع زاد في مقتضاها وأراد هذا فقد أصاب الحق وإن أراد غيره فالحق ما ذكرناه ومن قال إنها نقلت نقلا كليا فقد زل فإن في الألفاظ الشرعية اعتبار معاني اللغة في الدعاء والقصد والإمساك في الصلاة والصوم والحج فهذا حاصل هذه المسألة.
فصل: [في ألفاظ] جرى رسم الأصوليين بالخوض فيها فلا وجه لإخلاء هذا المجموع عنها.
86-  منها: اللغة من لغي يلغى إذا لهج بالكلام وقيل لغي يلغا والكلام هو المفيد والمفيد جملة معقودة من مبتدأ وخبر وفعل أو فاعل والكلم جمع كلمة كالنبق والنبقة واللبن واللبنة وهي تنطلق على ما يفيد وعلى مالا يفيد والكلم الذي ينتظم الكلام [منه] اسم وفعل وحرف جاء لمعنى.
87- فالاسم كقولك: رجل ودابة وكل مادل على معنى سمى به ثم.
 ج / 1 ص -47-
 
  
الأسماء تنقسم إلى متمكن وإلى غير متمكن فأما غير المتمكن فهو الذي يحتاج الناظر إلى فكر في إلحاقه بقبيل الأسماء كقولك أين وكيف ومتى وما في معناها وهي كلها مبنيات لا يدخلها الإعراب لمشابهتها الحروف1 والمتمكن مالا يستراب في كونه اسما وهو ينقسم إلى ما يسمى الأمكن وهو ما ينصرف ويجر2 ومعنى الانصراف قبول الجر والتنوين3 وما لا ينصرف يسمى متمكنا ولا يجر4 ولا ينون.
88- والأفعال صيغ دالة على أحداث أسماء مشعرة بالأزمان والأحداث هي المصادر وهي أسماء ولكنها لصيغ الأفعال كالتبر للصور المصوغة.
ثم الأفعال5 مبنية خلا