المستصفى 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: المستصفى
المؤلف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)
عدد الأجزاء:1
أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ أَنْ يُصَلُّوا إلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ أَنَّ الْقِبْلَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ وَلَمَّا جَازَ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنْ يُعْتِقَ وَاحِدٌ وَيَصُومَ آخَرُ وَلَمَا جَازَ لِلْمُضْطَرِّينَ إلَى مَيْتَةٍ لَا تَفِي بِرَمَقِ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَتَقَارَعُوا وَلَمَّا جَازَ الِاجْتِهَادُ فِي أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ وَفِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ وَكُلِّ مَا سَمَّيْنَاهُ بِتَحْقِيقٍ مَنَاطَ الْحُكْمِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ مُرَادُنَا الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَلْ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَعَلَى الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ.
الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ: حَسَمْتُمْ إمْكَانَ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالصَّحَابَةُ مُجْمِعُونَ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ الْخَطَإِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنْ الشَّيْطَانِ وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " إنْ لَمْ يَجْتَهِدُوا فَقَدْ غَشُّوا وَإِنْ اجْتَهَدُوا فَقَدْ أَخْطَئُوا، أَمَّا الْإِثْمُ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَنْكَ زَائِلًا وَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَيْكَ " وَلَمَّا كَتَبَ أَبُو مُوسَى كِتَابًا عَنْ عُمَرَ كَتَبَ فِيهِ " هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ " فَقَالَ امْحُهْ وَاكْتُبْ هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ فَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ عُمَرَ وَقَالَ فِي جَوَابِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَدَّتْ عَلَيْهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَهْرِ حَيْثُ ذَكَرَتْ الْقِنْطَارَ فِي الْكِتَابِ: " أَصَابَتْ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ: " إنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ " بَعْدَ أَنْ اجْتَهَدَ شَهْرًا.
الْجَوَابُ أَنَّا نُثْبِتُ الْخَطَأَ فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ: " أَنْ يَصْدُرَ الِاجْتِهَادُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوْ لَا يَسْتَتِمَّ الْمُجْتَهِدُ نَظَرَهُ، أَوْ يَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ بَلْ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، أَوْ يُخَالِفَ فِي اجْتِهَادِهِ دَلِيلًا قَاطِعًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ مُثَارَاتِ إفْسَادِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّا ذَكَرْنَا عَشَرَةَ أَوْجُهٍ تُبْطِلُ الْقِيَاسَ قَطْعًا لَا ظَنًّا، فَجَمِيعُ هَذَا مَجَالُ الْخَطَإِ.
وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْخَطَأُ مَتَى صَدَرَ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَهْلِهِ وَتَمَّ فِي نَفْسِهِ وَوُضِعَ فِي مَحَلِّهِ وَلَمْ يَقَعْ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَثْبُتُ اسْمُ الْخَطَإِ بِالْإِضَافَةِ إلَى طَلَبٍ لَا إلَى مَا وَجَبَ كَمَا فِي الْقِبْلَةِ وَتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْأَحْكَامِ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَأَمَّا إنْ كَانَ اعْتَقَدَ أَنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ وَذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا غَفَلَ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَسْتَتِمَّ نَظَرَهُ وَلَمْ يَسْتَفْرِغْ تَمَامَ وُسْعِهِ، أَوْ يَخَافَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ أَمِنَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَكِنْ قَالَ مَا قَالَ إظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ: " أَنَا مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ " مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي إيمَانِهِمْ.
ثُمَّ جَمِيعُ مَا ذَكَرُوا أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهَا الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا:
 
[مَسْأَلَةٌ نَفْيِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ]
مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ فِي نَفْيِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ
أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَقَدْ وَضَعَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ قِبْلَةُ الطَّالِبِ وَمَقْصِدُ طَلَبِهِ فَيُصِيبُ أَوْ يُخْطِئُ؛ أَمَّا الْمُصَوِّبَةُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى إثْبَاتِهِ وَإِلَيْهِ تُشِيرُ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلطَّالِبِ مِنْ مَطْلُوبٍ، وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّ مَطْلُوبَ الْمُجْتَهِدِ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَشْبَهُ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْبُرْهَانُ الْكَاشِفُ لِلْغِطَاءِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبْهَمِ هُوَ أَنَّا نَقُولُ: الْمَسَائِلُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى مَا وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ وَإِلَى مَا لَمْ يَرِدْ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ فَالنَّصُّ كَأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَكِنْ لَا يَصِيرُ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ إلَّا إذَا بَلَغَهُ وَعَثَرَ عَلَيْهِ أَوَ كَانَ عَلَيْهِ
(1/361)
 
 
دَلِيلٌ قَاطِعٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ الْعُثُورُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِهِ، فَهَذَا مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ وَطَلَبُهُ وَاجِبٌ وَإِذَا لَمْ يُصِبْ فَهُوَ مُقَصِّرٌ آثِمٌ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَيْهِ طَرِيقٌ مُتَيَسِّرٌ قَاطِعٌ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَهُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ؛ لَكِنَّهُ عُرْضَةٌ أَنْ يَصِيرَ حُكْمًا فَهُوَ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا بِالْبُلُوغِ أَوْ تَيَسُّرِ طَرِيقِهِ عَلَى وَجْهٍ يَأْثَمُ مَنْ لَا يُصِيبُهُ. فَمَنْ قَالَ: فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهُ حُكْمٌ مَوْضُوعٌ لِيَصِيرَ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ إذَا بَلَغَهُ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ وَتَيَسُّرِ الطَّرِيقِ لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ بِالْفِعْلِ بَلْ بِالْقُوَّةِ فَهُوَ صَادِقٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ.
أَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ فِيهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى خِطَابُهُ وَخِطَابُهُ يُعْرَفُ بِأَنْ يُسْمَعَ مِنْ الرَّسُولِ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ سُكُوتِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَرِّفُنَا خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اسْتِمَاعِ صِيغَةٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خِطَابٌ لَا مَسْمُوعٌ وَلَا مَدْلُولٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِيهِ حُكْمٌ؟ فَقَلِيلُ النَّبِيذِ إنْ اُعْتُقِدَ فِيهِ كَوْنُهُ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا فَمَعْنَى تَحْرِيمِهِ أَنَّهُ قِيلَ فِيهِ: لَا تَشْرَبُوهُ.
وَهَذَا خِطَابٌ وَالْخِطَابُ يَسْتَدْعِي مُخَاطَبًا وَالْمُخَاطَبُ بِهِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ الْجِنُّ أَوْ الْآدَمِيُّونَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ هُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَمَتَى خُوطِبُوا وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ نَصٌّ بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ وَلَا مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ سِوَى النُّطْقِ؛ فَإِذًا لَا يُعْقَلُ خِطَابٌ لَا مُخَاطَبَ بِهِ كَمَا لَا يُعْقَلُ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ لَهُ وَقَتْلٌ لَا مَقْتُولَ لَهُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُخَاطَبَ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْخِطَابَ وَلَا يَعْرِفُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ.
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَمَارَاتِ أَدِلَّةً مَجَازٌ، فَإِنَّ الْأَمَارَاتِ لَا تُوجِبُ الظَّنَّ لِذَاتِهَا بَلْ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ، فَمَا لَا يُفِيدُ الظَّنَّ لِزَيْدٍ فَقَدْ يُفِيدُ لِعَمْرٍو وَمَا يُفِيدُ لِزَيْدٍ حُكْمًا فَقَدْ يُفِيدُ لِعَمْرٍو وَنَقِيضُهُ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ فِي حَقِّ زَيْدٍ فِي حَالَتَيْنِ فَلَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْمَعْرِفَةِ وَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لَعَصَى إذَا لَمْ يُصِبْهُ، فَسَبَبُ هَذَا الْغَلَطِ إطْلَاقُ اسْمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْأَمَارَاتِ مَجَازًا فَظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ مُحَقَّقٌ وَإِنَّمَا الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ النَّفْسِ إلَى شَيْءٍ وَاسْتِحْسَانُ الْمَصَالِحِ كَاسْتِحْسَانِ الصُّوَرِ، فَمَنْ وَافَقَ طَبْعُهُ صُورَةً مَالَ إلَيْهَا وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْحُسْنِ، وَذَلِكَ قَدْ يُخَالِفُ طَبْعَ غَيْرِهِ فَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْقُبْحِ حَيْثُ يَنْفِرُ عَنْهُ؛ فَالْأَسْمَرُ حَسَنٌ عِنْدَ قَوْمٍ قَبِيحٌ عِنْدَ قَوْمٍ، فَهِيَ أُمُورٌ إضَافِيَّةٌ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْأَسْمَرُ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ قَبِيحٌ؟
قُلْنَا: لَا حَقِيقَةَ لِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا مُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ الطِّبَاعِ وَمُخَالَفَتُهُ لِبَعْضِهَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا هُوَ عِنْدَ النَّاسِ، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ عِنْدَ زَيْدٍ قَبِيحٌ عِنْدَ عَمْرٍو، إذْ لَا مَعْنَى لَحُسْنِهِ إلَّا مُوَافَقَتُهُ طَبْعَ زَيْدٍ وَلَا مَعْنَى لِقُبْحِهِ إلَّا مُخَالَفَتُهُ لِطَبْعِ عَمْرٍو. وَكَذَلِكَ تَحْرِيكُ الرَّغْبَةِ لِلْفَضَائِلِ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْعَطَاءِ هُوَ حَسَنٌ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُوَافِقٌ لِرَأْيِهِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ مُوَافِقًا لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلْ الْحَسَنُ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا بَلَاغًا وَلَا يَلْتَفِتَ إلَيْهَا.
فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ فِي الظُّنُونِ يَنْبَغِي أَنْ تُفْهَمَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْغِطَاءُ، وَإِنَّمَا غَلَطَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ كَمَا ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ وَصْفٌ لِلذَّوَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نُطْقٌ وَلَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ نَازِلٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ نَعْنِي بِالْأَشْبَهِ فِيمَا هُوَ قِبْلَةٌ لِلطَّالِبِ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُ لَوْ نَزَّلَهُ وَرُبَّمَا كَانَ الشَّارِعُ يَقُولُهُ لَوْ رُوجِعَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. قُلْنَا: هَذَا هُوَ
(1/362)
 
 
الْحُكْمُ بِالْقُوَّةِ وَمَا كَانَ يَنْزِلُ لَوْ نَزَلَ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمًا وَلَوْ نَزَلَ فَقَبْلَ نُزُولِهِ لَيْسَ حُكْمًا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حُكْمَ؛ وَمَنْ أَخْطَأَ لَمْ يُخْطِئْ الْحُكْمَ بَلْ أَخْطَأَ مَا كَانَ لَعَلَّهُ سَيَصِيرُ حُكْمًا لَوْ جَرَى فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ إنْزَالُهُ وَلَمْ يَجْرِ فِي تَقْدِيرِهِ فَلَا مَعْنَى لَهُ
وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَجُوزَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا فِي تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَةُ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يَنْزِلُ لَوْ أُنْزِلَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَتَصْوِيبُ كُلِّ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا كَيْفَمَا قَالَ أَوْ يَنْزِلُ تَخْطِئَةُ كُلِّ مَنْ قَطَعَ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ حَيْثُ لَمْ يَتَخَيَّرْ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّجْوِيزَاتِ لَا تَنْحَصِرُ فَرُبَّمَا يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْعِبَادِ فِي أَنْ لَا يَضَعَ فِي الْوَقَائِعِ حُكْمًا بَلْ يَجْعَلَ حُكْمَهَا تَابِعًا لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ فَتَعَبُّدُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَ وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ مَنْ يَقُولُ فِيهَا بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ فَيَكُونُ فِي هَذَا تَخْطِئَةُ كُلِّ مَنْ أَثْبَتَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ حُكْمًا مُعَيَّنًا نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا.
احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: إنَّمَا اضْطَرَّنَا إلَى هَذَا ضَرُورَةُ الطَّلَبِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا؛ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَمَادَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يُطْلَبَ الظَّنُّ أَوْ الْعِلْمُ بِجَهْلِهِ وَعِلْمِهِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ خَالٍ عَنْ وَصْفِ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَطْلُبَ مَا يَعْتَقِدُ انْتِفَاءَهُ؟ فَإِذَا اعْتَقَدَ الطَّالِبُ أَنَّ قَلِيلَ النَّبِيذِ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا وَلَا حَلَالًا فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ أَحَدِهِمَا؟
قُلْنَا: فَقَدْ أَخْطَأْتُمْ إذْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَطْلُبُ حُكْمَ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ خِطَابُهُ، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا خِطَابَ بَلْ إنَّمَا يَطْلُبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَهُوَ كَمَنْ كَانَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَقِيلَ لَهُ: إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ السَّلَامَةُ أُبِيحَ لَك الرُّكُوبُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ الْهَلَاكُ حَرُمَ عَلَيْكَ الرُّكُوبُ. وَقَبْلَ حُصُولِ الظَّنِّ لَا حُكْمَ لِلَّهِ عَلَيْكَ وَإِنَّمَا حُكْمُهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ظَنِّكَ وَيَتْبَعُ ظَنَّكَ بَعْدَ حُصُولِهِ، فَهُوَ يَطْلُبُ الظَّنَّ دُونَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الْبَحْرِ مَعْقُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي أَمَارَاتِ الْهَلَاكِ وَالسَّلَامَةِ فَذَلِكَ مَطْلُوبُهُ، وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ أَمْرٌ وَرَاءَهُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا مَطْلُوبَ سِوَى الْحُكْمِ.
قُلْنَا: مِنْ هَهُنَا غَلِطْتُمْ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ؛ وَنَحْنُ نَكْشِفُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ فَنَقُولُ: لَوْ قُلْنَا لِلشَّارِعِ: مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَطَاءِ الْوَاجِبِ التَّسْوِيَةَ أَوْ التَّفْضِيلَ؟ ؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ إمَامٍ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي التَّسْوِيَةِ هُوَ التَّسْوِيَةُ، وَحُكْمُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي التَّفْضِيلِ التَّفْضِيلُ، وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ تَحْصِيلِ الظَّنِّ إنَّمَا يَتَجَدَّدُ حُكْمُهُ بِالظَّنِّ وَبَعْدَهُ كَمَا يَتَجَدَّدُ الْحُكْمُ عَلَى رَاكِبِ الْبَحْرِ بَعْدَ الظَّنِّ وَيَتَجَدَّدُ عَلَى قَاضِيَيْنِ شَهِدَ عِنْدَهُمَا فِي وَاقِعَتَيْنِ شَخْصَانِ وُجُوبُ الْقَبُولِ وَوُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَظَنِّ الْكَذِبِ، فَيَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا التَّصْدِيقُ وَعَلَى الْآخَرِ التَّكْذِيبُ.
وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: مَا حُكْمُهُ فِي قَلِيلِ النَّبِيذِ؟ فَقَالَ: حُكْمُهُ تَحْرِيمُ الشُّرْبِ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ قَلِيلَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ إلَى كَثِيرِهِ وَالتَّحْلِيلُ لِمَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا إلَّا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى قَبْلَ هَذَا الظَّنِّ. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: مَا حُكْمُ اللَّهِ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَتُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَمْ عَلَى الْجَانِي؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِالْحُرِّ أَشْبَهَ الضَّرْبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَعَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِالْبَهِيمَةِ أَشْبَهَ الضَّرْبَ عَلَى الْجَانِي.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ: مَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي بَيْعِ الْجَصِّ وَالْبِطِّيخِ؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبُرِّ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ تَحْرِيمُ الْبِطِّيخِ دُونَ الْجَصِّ وَعَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُهُ لِلْكَيْلِ تَحْرِيمُ الْجَصِّ دُونَ الْبِطِّيخِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْبُرِّ عِنْدَ اللَّهِ أَهِيَ الطَّعْمُ أَمْ
(1/363)
 
 
الْكَيْلُ أَوْ الْقُوتُ؟
فَنَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّعْمِ وَالْكَيْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِذَاتِهَا بَلْ مَعْنَى كَوْنِهَا عِلَّةً أَنَّهَا عَلَامَةٌ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكَيْلَ عَلَامَةٌ فَهُوَ عَلَامَةٌ فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَامَتَهُ الطَّعْمُ وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ وَصْفًا ذَاتِيًّا كَالْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ حَتَّى يَجِبَ أَنْ يَكُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا مَحَالَةَ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ وَالْوَضْعُ يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ وَقَدْ وَضَعْتُهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ بِهِ فَهُوَ مَعْقُولٌ وَجَانِبُ الْخَصْمِ لَوْ صَرَّحَ بِهِ كَانَ مُحَالًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حُكْمٌ لَيْسَ بِخِطَابٍ
وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُخَاطَبٍ وَمُكَلَّفٍ، فَإِنَّ هَذَا يُضَادُّ حَدَّ الْحُكْمِ وَحَقِيقَتَهُ، أَوْ يَقُولُ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ يَقُولُ: لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَقَدْ أُمِرَ بِهِ لَكِنَّهُ لَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُضَادُّ حَدَّ الْوَاجِبِ وَيُضَادُّ حَدَّ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ ضِدُّهُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ يُقَالَ: الْقِبْلَةُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى؟ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ خَالَفَ اجْتِهَادَ نَفْسِهِ وَاسْتَقْبَلَ جِهَةً أُخْرَى فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَاسْتَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ الشَّرْعِيُّ عَلَى الْمُمْكِنِ دُونَ الْمُحَالِ. هَذَا حُكْمُ التَّأْثِيمِ وَالتَّصْوِيبِ، وَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ فِي صُوَرِ مَسَائِلَ.
 
[مَسْأَلَة تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ]
مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ وَلَمْ يَجِدْ دَلِيلًا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَتَحَيَّرَ.
فَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ يَقُولُونَ: هَذَا بِعَجْزِ الْمُجْتَهِدِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ تَعَارُضٌ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَيَلْزَمُ التَّوَقُّفُ أَوْ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ آخَرَ عَثَرَ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَأَمَّا الْمُصَوِّبَةُ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَوَقَّفُ لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِاتِّبَاعِ غَالِبِ الظَّنِّ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ ظَنُّ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ الْأَسْلَمُ الْأَسْهَلُ، وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَهَذَا رُبَّمَا يُسْتَنْكَرُ وَيُسْتَبْعَدُ، وَيُقَالُ: كَيْفَ يَتَخَيَّرُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ؟ وَلَيْسَ هَذَا مُحَالًا؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ
وَلَوْ صَرَّحَ الشَّرْعُ بِالتَّخْيِيرِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَدْ اُضْطُرِرْنَا إلَى التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يُؤْخَذُ مِنْ النَّصِّ وَتَارَةً مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَتَارَةً مِنْ الشَّبَهِ وَتَارَةً مِنْ الِاسْتِصْحَابِ. فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى النَّصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَارَضَ فِي حَقِّنَا نَصَّانِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ تَارِيخٌ أَوْ يَتَعَارَضَ عُمُومَانِ وَلَا يَتَبَيَّنُ تَرْجِيحٌ أَوْ يَتَعَارَضَ اسْتِصْحَابَانِ كَمَا فِي مَسَائِلِ تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ يَتَعَارَضَ شَبَهَانِ بِأَنْ تَدُورَ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَيَكُونَ شَبَهُهُ هَذَا كَشَبَهِهِ ذَاكَ أَوْ يَتَعَارَضَ مَصْلَحَتَانِ بِحَيْثُ لَا تَرْجِيحَ.
فَلَوْ قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ، فَإِلَى مَتَى يَتَوَقَّفُ؟ وَرُبَّمَا لَا يَقْبَلُ الْحُكْمُ التَّأْخِيرَ وَلَا نَجِدُ مَأْخَذًا آخَرَ لِلْحُكْمِ وَلَا نَجِدُ مُفْتِيًا آخَرَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَوْ وُجِدَ مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِخَيَالٍ هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، فَكَيْفَ يُرَجِّحُ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ؟ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَّا التَّخَيُّرُ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ عَلَى الْعَامِّيِّ مُفْتِيَانِ اسْتَوَى حَالُهُمَا عِنْدَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ، وَلَمْ يَجِدْ ثَالِثًا فَلَا طَرِيقَ إلَّا التَّخْيِيرُ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ مَذَاهِبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَقْسِمُ الْمَالَ بَيْنَهُمَا وَمَعْنَاهُ تَصْدِيقُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَتَقْدِيرُ أَنَّهُ قَامَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَبَبُ كَمَالِ الْمِلْكِ، لَكِنْ ضَاقَ الْمَحَلُّ عَنْ الْوَفَاءِ بِهِمَا وَلَا تَرْجِيحَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّاهُ بِالشُّفْعَةِ إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ سَبَبٌ كَامِلٌ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ لَكِنْ ضَاقَ الْمَحَلُّ
(1/364)
 
 
فَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ الِاحْتِمَالَاتُ أَرْبَعَةٌ: إمَّا الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ جَمِيعًا أَوْ إسْقَاطُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا بِالتَّحَكُّمِ أَوْ التَّخْيِيرُ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ عَمَلًا وَإِسْقَاطًا؛ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فَإِنَّ فِيهِ تَعْطِيلًا، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّحَكُّمِ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا؛ فَلَا يَبْقَى إلَّا الرَّابِعُ وَهُوَ التَّخْيِيرُ كَمَا فِي اجْتِمَاعِ الْمُفْتِيَيْنِ عَلَى الْعَامِّيِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَمَا اسْتَحَالَتْ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ فَالتَّخْيِيرُ أَيْضًا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَهُوَ مُحَالٌ.
قُلْنَا: الْمُحَالُ مَا لَوْ صَرَّحَ الشَّرْعُ بِهِ لَمْ يُعْقَلْ، وَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ: مَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَيَّ جِدَارٍ أَرَادَ فَيَتَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِدَارًا أَوْ يَسْتَدْبِرَهُ، كَانَ مَعْقُولًا لِأَنَّهُ كَيْفَمَا فَعَلَ فَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ شَيْئًا مِنْ الْكَعْبَةِ، وَكَيْفَمَا تَقَلَّبَ فَإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: تَعَبَّدْتُكُمْ بِاتِّبَاعِ الِاسْتِصْحَابِ، ثُمَّ تَعَارَضَ اسْتِصْحَابَانِ فَكَيْفَمَا تَقَلَّبَ فَهُوَ مُسْتَصْحِبٌ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا غَائِبًا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اشْتِغَالِ الذِّمَّةِ فَقَدْ تَعَارَضَا.
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْمُجْتَهِدُ أَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ مَصْلَحَةً وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنْ وَحْشَةِ الصُّدُورِ بِمِقْدَارِ التَّفَاوُتِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّرُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَفِي التَّفَاوُتِ مَصْلَحَةُ تَحْرِيكِ رَغَبَاتِ الْفَضَائِلِ وَهُمَا مَصْلَحَتَانِ رُبَّمَا تَسَاوَتَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، فَكَيْفَمَا فَعَلَ فَقَدْ مَالَ إلَى مَصْلَحَةٍ.
وَكَذَلِكَ قَدْ تُشْبِهُ الْمَسْأَلَةُ أَصْلَيْنِ شَبَهًا مُتَسَاوِيًا وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ الشَّبَهِ فَكَيْفَمَا فَعَلَ فَهُوَ مُمْتَثِلٌ، وَمِثَالُهُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» فَمَنْ لَهُ مِنْ الْإِبِلِ مِائَتَانِ فَإِنْ أَخْرَجَ الْحِقَاقَ فَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» وَإِنْ أَخْرَجَ بَنَاتِ لَبُونٍ فَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» وَلَيْسَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَتَخَيَّرُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ الِاسْتِصْحَابِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالشَّبَهِ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَنَقِيضِهِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَتَرْكِهِ يَرْفَعُ الْوُجُوبَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مَمْلُوكَتَيْنِ إمَّا أَنْ يُحَرِّمَ أَوْ لَا يُحَرِّمَ، فَإِنْ قُلْنَا بِهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ.
قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرْجَعَ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ وَالْمُسْقِطِ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّسَاقُطِ وَيُطْلَبَ الدَّلِيلُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَيُخَصَّ وَجْهُ التَّخْيِيرِ بِمَا لَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّخْيِيرِ لَمْ يَتَنَاقَضْ مِمَّا يُضَاهِي مَسْأَلَةَ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقِ وَكَالِاخْتِلَافِ فِي الْمُحْرِمِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّحْلِيلَيْنِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ إذْ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا مَعْقُولٌ فَيَحْصُلُ فِي تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ وَجْهٌ فِي التَّسَاقُطِ، وَوَجْهٌ فِي التَّخْيِيرِ، وَوَجْهٌ فِي التَّفْصِيلِ؛ وَفَصْلٌ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ إذْ يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهَا وَبَيْنَ مَا يَتَعَارَضُ فِيهِ الْمُوجِبُ وَالْمُبِيحُ أَوْ الْمُحَرِّمُ وَالْمُبِيحُ فَلَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهِ فَيَرْجِعُ إلَى التَّسَاقُطِ.
وَإِنْ أَرَدْنَا الْإِصْرَارَ عَلَى وُجُوبِ التَّخْيِيرِ مُطْلَقًا فَلَهُ وَجْهٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يُنَاقِضُ الْوُجُوبُ جَوَازَ التَّرْكِ مُطْلَقًا أَمَّا جَوَازُهُ بِشَرْطٍ فَلَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى التَّرَاخِي وَإِذَا أَخَّرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمْ يَلْقَ اللَّهَ عَاصِيًا عِنْدَنَا إذَا أَخَّرَ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَجَوَازُ تَرْكِهِ بِشَرْطِ الْعَزْمِ لَا يُنَافِي فِي الْوُجُوبِ بَلْ الْمُسَافِرُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَرْضًا وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ رَكْعَتَيْنِ، فَالرَّكْعَتَانِ وَاجِبَتَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا وَلَكِنْ جَازَ تَرْكُهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ التَّرَخُّصَ وَيَقْبَلَ صَدَقَةً قَدْ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَهُوَ كَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ عَلَى غَيْرِهِ فَقَالَ لَهُ: تَصَدَّقْتُ عَلَيْكَ بِدِرْهَمَيْنِ إنْ قَبِلْتَ وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ وَأَتَيْتَ بِالْأَرْبَعَةِ قَبِلْتُ
(1/365)
 
 
الْأَرْبَعَةَ عَنْ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ
فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ الصَّدَقَةَ وَأَتَى بِدِرْهَمَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَتَى بِالْأَرْبَعَةِ عَنْ الْوَاجِبِ وَلَا يَتَنَاقَضُ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا إذَا اقْتَضَى اسْتِصْحَابُ شَغْلِ الذِّمَّةِ إيجَابَ عِتْقٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا غَائِبًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ اسْتِصْحَابَ الْحَيَاةِ وَيَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ، فَمَنْ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ أَوْ خَطَرَ لَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ الْعَمَلَ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] حُرِّمَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ إذَا قَصَدَ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ فَوَافَقَ يَوْمَ الْعِيدِ فَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا " مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ فَيَحْرُمُ صَوْمُ الْعِيدِ بِالنَّهْيِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَصُومَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ جَوَازًا بِشَرْطٍ فَلَا يَتَنَاقَضُ الْوَاجِبُ، وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ التَّخْيِيرُ الْمُطْلَقُ كَالْوَلِيِّ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ اللَّبَنِ إلَّا مَا يَسُدُّ رَمَقَ أَحَدِ رَضِيعَيْهِ وَلَوْ قَسَمَ عَلَيْهِمَا أَوْ مَنَعَهُمَا لَمَاتَا وَلَوْ أَطْعَمَ أَحَدَهُمَا مَاتَ الْآخَرُ فَإِذَا أَشَرْنَا إلَى رَضِيعٍ مُعَيَّنٍ كَانَ إطْعَامُهُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَهُ وَحَرَامًا؛ لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ غَيْرِهِ، فَنَقُولُ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطْعِمَ هَذَا فَيَهْلِكَ ذَاكَ أَوْ ذَاكَ فَيَهْلِكَ هَذَا، فَلَا سَبِيلَ إلَّا التَّخْيِيرُ، فَإِذًا مَهْمَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ فِي وَاجِبَيْنِ كَالشَّاةِ وَالْبَدَنَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التَّحْلِيلَيْنِ تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ تَعَارَضَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ تَخَيَّرَ بِشَرْطِ قَصْدِ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ كَمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ تَرْكِ الرَّكْعَتَيْنِ قَصْدًا وَبَيْنَ إتْمَامِهِمَا لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ، وَإِنْ تَعَارَضَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ حَصَلَ التَّخْيِيرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا. هَذَا طَرِيقُ نُصْرَةِ اخْتِيَارِ الْقَاضِي فِي التَّخْيِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعَارُضُ دَلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا يَخْفَى التَّرْجِيحُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ. قُلْنَا: وَبِمَ عَرَفْتُمْ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ؟ فَكَمَا تَعَارَضَ مُوجِبُ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقِ فَلَمْ يَسْتَحِلْ أَنْ يَتَعَارَضَ اسْتِصْحَابَانِ وَشَبَهَانِ وَمَصْلَحَتَانِ وَيَنْتَفِي التَّرْجِيحُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ؟ قُلْنَا: هُوَ التَّخْيِيرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَالتَّرَدُّدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، كَتَرَدُّدِهِ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ هَلْ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ بِإِضَافِيٍّ فَيَكُونَ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَذْهَبُ التَّخْيِيرِ يُفْضِي إلَى مُحَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ الْحَاكِمُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ أَوْ اسْتِغْرَاقِ الْجَدِّ لِلْمِيرَاثِ أَوْ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ الْخِيَرَةُ، وَكَذَلِكَ يُخَيِّرُ الْمُفْتِي الْعَامِّيَّ، وَكَذَلِكَ يَحْكُمُ لِزَيْدٍ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَلِعَمْرٍو بِنَقِيضِهِ وَيَوْمَ السَّبْتِ بِاسْتِغْرَاقِ الْجَدِّ لِلْمِيرَاثِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ بِالْمُقَاسَمَةِ بَلْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ وَتُسْتَرَدُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِالرَّأْيِ الْآخَرِ.
قُلْنَا: لَا تَخْيِيرَ لِلْمُتَخَاصَمَيْنِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَفْصِلَ الْخُصُومَةَ بِأَيِّ رَأْيٍ أَرَادَ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ السَّاعِي وَالْمَالِكُ فِي بَنَاتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقِ وَفِي الشَّاةِ وَالدَّرَاهِمِ فِي الْجُبْرَانِ فَالْحَاكِمُ يَحْكُمُ بِمَا أَرَادَ أَمَّا الرُّجُوعُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ عِنْدَكُمْ تُغَيَّرُ فَتْوَاهُ وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ السَّابِقُ لِلْمَصْلَحَةِ، أَمَّا قَضَاؤُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ بِخِلَافِ قَضَائِهِ يَوْمَ السَّبْتِ
(1/366)
 
 
وَفِي حَقِّ زَيْدٍ بِخِلَافِ مَا فِي حَقِّ عَمْرٍو فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ؟ أَلَيْسَ ذَلِكَ جَائِزًا؟
فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ دَلِيلَانِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا كَمَا فِي الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ يَجُوزُ أَنْ يُشِيرَ بِإِشَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَأْمُرَ زَيْدًا بِبَنَاتِ اللَّبُونِ وَعَمْرًا بِالْحِقَاقِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ يَجُوزُ أَنْ يُغَايِرَ أَمْرُ الْحُكْمِ أَمْرَ الْفَتْوَى لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ الِاجْتِهَادُ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمَاضِيَ وَيَحْكُمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ إذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ فِي جِهَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ لَا تَقْبَلُ التَّأْخِيرَ وَلَا مُجْتَهِدَ يُقَلِّدُ فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَّا أَنْ يَتَخَيَّرَ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيُصَلِّيَ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْجِهَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ دَلَّ اجْتِهَادُهُ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ لَيْسَتْ فِيهِمَا، فَهَذِهِ أُمُورٌ لَوْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهَا مِنْ الشَّارِعِ كَانَ مَقْبُولًا وَمَعْقُولًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ: " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ "
 
[مَسْأَلَةٌ فِي نَقْضِ الِاجْتِهَادِ]
ِ. الْمُجْتَهِدُ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ فَنَكَحَ امْرَأَةً خَالَعَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَزِمَهُ تَسْرِيحُهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إمْسَاكُهَا عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ حَاكِمٌ بَعْدَ أَنْ خَالَعَ الزَّوْجُ ثَلَاثًا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُنْقَضْ اجْتِهَادُهُ السَّابِقُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ نُقِضَ الِاجْتِهَادُ لَنُقِضَ النَّقْضُ أَيْضًا وَلَتَسَلْسَلَ فَاضْطَرَبَتْ الْأَحْكَامُ وَلَمْ يُوثَقْ بِهَا.
أَمَّا إذَا نَكَحَ الْمُقَلِّدُ بِفَتْوَى مُفْتٍ وَأَمْسَكَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ دَوْرِ الطَّلَاقِ وَقَدْ نَجَّزَ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدَّوْرِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُفْتِي فَهَلْ عَلَى الْمُقَلِّدِ تَسْرِيحُ زَوْجَتِهِ؟ هَذَا رُبَّمَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ تَسْرِيحُهَا كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ هُوَ الَّذِي يُنْقَضُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَ نَصًّا وَلَا دَلِيلًا قَاطِعًا فَإِنْ أَخْطَأَ النَّصَّ نَقَضْنَا حُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَنَبَّهْنَا لِأَمْرٍ مَعْقُولٍ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ أَوْ تَنْقِيحِهِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَنَبَّهَ لَهُ لَعَلِمَ قَطْعًا بُطْلَانَ حُكْمِهِ فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مُخَالِفَ النَّصِّ مُصِيبٌ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ فَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ. قُلْنَا: نَعَمْ، هُوَ مُصِيبٌ بِشَرْطِ دَوَامِ الْجَهْلِ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَحُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ فَحُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ، لَكِنْ عِنْدَ الْجَهْلِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وُجُوبًا حَاصِلًا نَاجِزًا وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ أَيْ هِيَ بِصَدَدِ أَنْ تَصِيرَ حَرَامًا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَمَهْمَا عَلِمَ لَزِمَهُ تَدَارُكُ مَا مَضَى وَكَانَ ذَلِكَ صَلَاةً بِشَرْطِ دَوَامِ الْجَهْلِ وَكَذَلِكَ مَهْمَا بَلَغَ الْمُجْتَهِدَ النَّصُّ نُقِضَ حُكْمُهُ الْوَاقِعُ، فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ الْآخَرُ الْعَالِمُ بِالنَّصِّ يُنْقَضُ حُكْمُهُ.
وَعِنْدَ هَذَا نُنَبِّهُ عَلَى دَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ حَالِ الْمُكَلَّفِ فِي الظَّنِّ وَالْعِلْمِ كَاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالطُّهْرِ وَالْحَيْضِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبٌ لِسَفَرِهِ أَوْ عَجْزِهِ فَلَا يَجِبُ إزَالَةُ سَفَرِهِ وَعَجْزِهِ لِيَتَحَقَّقَ الْوُجُوبُ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ لِجَهْلِهِ وَجَبَ إزَالَةُ جَهْلِهِ فَإِنَّ التَّعْلِيمَ وَتَبْلِيغَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَتَعْرِيفَ أَسْبَابِهِ وَاجِبٌ
وَكَذَلِكَ نَقُولُ: مَنْ صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَا يَعْرِفُهَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَا يَقْضِيهَا عَلَى قَوْلٍ، فَمَنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ تِلْكَ النَّجَاسَةَ يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهُ وَلَوْ
(1/367)
 
 
تَيَمَّمَ لِيُصَلِّيَ وَقَدَرَ غَيْرُهُ عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَجْزَهُ بِحَمْلِ مَاءٍ إلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَفِي هَذِهِ الدَّقِيقَةِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَحُكْمُ سَائِرِ الْأَوْصَافِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ خَالَفَ الْحَاكِمُ قِيَاسًا جَلِيًّا هَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ؟ قُلْنَا: قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُنْقَضُ. فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ قِيَاسًا مَظْنُونًا مَعَ كَوْنِهِ جَلِيًّا فَلَا وَجْهَ لَهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ظَنٍّ وَظَنٍّ، فَإِذَا انْتَفَى الْقَاطِعُ فَالظَّنُّ يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ وَمَا يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَتَبُّعِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ حَكَمَ عَلَى خِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ بِمُجَرَّدِ صِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْ حَكَمَ فِي الْفَسَادِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ فَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ وَقَدْ قَطَعْتُمْ بِصِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنَّهْيَ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى الْفَسَادِ؟
قُلْنَا مَهْمَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّهُ حُكْمٌ لِرَدِّهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْ أَنَّهُ حُكْمٌ بِمُجَرَّدِ صِيغَةِ الْأَمْرِ، بَلْ لَعَلَّهُ كَانَ حُكْمُ الدَّلِيلِ آخَرَ ظَهَرَ لَهُ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَكَمَ لِذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَعَ ذَلِكَ ظَنِّيَّةً اجْتِهَادِيَّةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الظَّنِّيَّةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَقَدْ حَكَمَ بِمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فَلَيْسَ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْحُكْمِ بَلْ حَكَمَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْحُكْمُ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ لَيْسَ حُكْمًا بِرَدِّ الْخَبَرِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْمَقْطُوعُ بِهِ كَوْنُ الْخَبَرِ حُجَّةً عَلَى الْجُمْلَةِ، أَمَّا آحَادُ الْمَسَائِلِ فَلَا يُقْطَعُ فِيهَا بِحُكْمٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ حَكَمَ بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ لَكِنْ وَافَقَ مُجْتَهِدًا آخَرَ وَقَلَّدَهُ فَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ؟ وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ مُقَلِّدٌ بِخِلَافِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَهَلْ يُنْقَضُ؟ قُلْنَا: هَذَا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ لَا يُعْرَفُ يَقِينًا بَلْ يُحْتَمَلُ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَا يَصِحُّ حُكْمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْنُ وَإِنْ حَكَمْنَا بِتَنْفِيذِ حُكْمِ الْمُقَلِّدِينَ فِي زَمَانِنَا لِضَرُورَةِ الْوَقْتِ فَإِنْ قَضَيْنَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَتْبَعَ أَيَّ مُفْتٍ شَاءَ بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ إمَامِهِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالصَّوَابِ فِي ظَنِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْقَضَ حُكْمُهُ، وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ؛ فَإِذَا وَافَقَ مَذْهَبَ ذِي مَذْهَبٍ فَقَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ.
وَهَذِهِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ أَعْنِي نَقْضَ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ فِي شَيْءٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
 
[مَسْأَلَةٌ فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَتَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ]
وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُخَالِفَهُ وَيَعْمَلَ بِنَظَرِ غَيْرِهِ وَيَتْرُكَ نَظَرَ نَفْسِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَجْتَهِدْ بَعْدُ وَلَمْ يَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الِاجْتِهَادِ كَالْعَامِّيِّ فَلَهُ التَّقْلِيدُ، وَهَذَا لَيْسَ مُجْتَهِدًا لَكِنْ رُبَّمَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَعَاجِزًا عَنْ الْبَعْضِ إلَّا بِتَحْصِيلِ عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ مَثَلًا فِي مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ وَعِلْمِ صِفَاتِ الرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ خَبَرِيَّةٍ وَقَعَ النَّظَرُ فِيهَا فِي صِحَّةِ الْإِسْنَادِ؛ فَهَذَا مِنْ حَيْثُ حَصَّلَ بَعْضَ الْعُلُومِ وَاسْتَقَلَّ بِهَا لَا يُشْبِهُ الْعَامِّيَّ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ هَذَا الْعِلْمَ فَهُوَ كَالْعَامِّيِّ، فَيَلْحَقُ بِالْعَامِّيِّ أَوْ بِالْعَالِمِ؟ فِيهِ نَظَرٌ.
وَالْأَشْهَرُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ، وَإِنَّمَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ الَّذِي صَارَتْ الْعُلُومُ عِنْدَهُ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ، أَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى تَعَبٍ كَثِيرٍ فِي التَّعْلِيمِ بَعْدُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ عَاجِزٌ، وَكَمَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ فَالْعَامِّيُّ أَيْضًا يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ وَلَا يَلْزَمُهُ بَلْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الِاجْتِهَادِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُبْتَدِئِ فِي الْعِلْمِ وَبَيْنَ رُتْبَةِ الْكَمَالِ مَنَازِلُ وَاقِعَةٌ بَيْنَ
(1/368)
 
 
طَرَفَيْنِ، وَلِلنَّظَرِ فِيهَا مَجَالٌ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا الْآنَ فِي الْمُجْتَهِدِ.
لَوْ بَحَثَ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَنَظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ لَاسْتَقَلَّ بِهَا وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعَلُّمِ عِلْمٍ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُجْتَهِدُ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ أَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ؟ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَنَّ مَنْ وَرَاءَ الصَّحَابَةِ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ وَقَالَ قَوْمٌ: مَنْ وَرَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ؟ وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْلِيدِ الْعَالِمِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقَلِّدُ الْعَالِمُ الْأَعْلَمَ وَلَا يُقَلِّدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ الْعَالِمَ فِيمَا يُفْتِي وَفِيمَا يَخُصُّهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يُفْتِي وَخَصَّصَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَخُصُّهُ مَا يَفُوتُ وَقْتُهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ وَاخْتَارَ الْقَاضِي مَنْعَ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلصَّحَابَةِ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ تَقْلِيدَ مَنْ لَا تَثْبُتُ عِصْمَتُهُ وَلَا يُعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ إصَابَتُهُ بَلْ يَجُوزُ خَطَؤُهُ وَتَلْبِيسُهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ وَلَا نَصَّ وَلَا مَنْصُوصَ إلَّا الْعَامِّيَّ وَالْمُجْتَهِدَ، إذْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَأْخُذَ بِنَظَرِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَلِلْعَامِّيِّ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ؛ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِظَنِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْعِلْمِ فَالضَّرُورَةُ دَعَتْ إلَيْهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ.
أَمَّا الْعَامِّيُّ فَإِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ لِلْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ بِنَفْسِهِ، وَالْمُجْتَهِدُ غَيْرُ عَاجِزٍ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعَاجِزِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى الْعَالِمِ بِوَضْعِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَالْمُبَادَرَةِ قَبْلَ اسْتِتْمَامِ الِاجْتِهَادِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ فِي بَعْضِهَا إلَى الْيَقِينِ وَفِي بَعْضِهَا إلَى الظَّنِّ، فَكَيْفَ يَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَى عَمَايَةٍ كَالْعُمْيَانِ وَهُوَ بَصِيرٌ بِنَفْسِهِ؟ وَهُوَ لَيْسَ يَقْدِرُ إلَّا عَلَى تَحْصِيلِ ظَنٍّ وَظَنُّ غَيْرِهِ كَظَنِّهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَكُمْ وَقَدْ صَوَّبْتُمْ كُلَّ مُجْتَهِدٍ.
قُلْنَا: مَعَ هَذَا إذَا حَصَلَ ظَنُّهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ اتِّبَاعُ ظَنِّ غَيْرِهِ فَكَانَ ظَنُّهُ أَصْلًا وَظَنُّ غَيْرِهِ بَدَلًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْمُبْدَلِ فَلَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَبْدَالِ وَالْمُبْدَلَاتِ إلَّا إنْ وَرَدَ نَصٌّ بِالتَّخْيِيرِ فَتَرْتَفِعُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ يَرِدَ نَصٌّ بِأَنَّهُ بَدَلٌ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا عِنْدَ الْعَدَمِ، كَبِنْتِ مَخَاضٍ وَابْنِ لَبُونٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّ وُجُوبَ بِنْتِ مَخَاضٍ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ ابْنِ لَبُونٍ وَالْقُدْرَةُ عَلَى شِرَائِهِ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: حَصَرْتُمْ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي الْإِلْحَاقِ ثُمَّ قَطَعْتُمْ طَرِيقَ الْإِلْحَاقِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَأْخَذَهُ الْإِلْحَاقُ بَلْ عُمُومَاتٌ تَشْمَلُ الْعَامِّيَّ وَالْعَالِمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَمَا أَرَادَ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَصْلًا فَإِنَّ ذَاكَ مَجْنُونٌ أَوْ صَبِيٌّ بَلْ مَنْ لَا يَعْلَمُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَهُمْ الْعُلَمَاءُ.
قُلْنَا: أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَمْرُ الْعَوَامّ بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ إذْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَيَّزَ السَّائِلُ عَنْ الْمَسْئُولِ فَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَسْئُولٌ وَلَيْسَ بِسَائِلٍ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنْ لَا تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ حَاضِرَةً فِي ذِهْنِهِ إذْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مَعْرِفَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: سَلُوا لِتَعْلَمُوا، أَيْ سَلُوا عَنْ الدَّلِيلِ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ، كَمَا يُقَالُ: كُلْ لِتَشْبَعَ، وَاشْرَبْ لِتُرْوَى.
(1/369)
 
 
وَأَمَّا أُولُو الْأَمْرِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِمْ الْوُلَاةَ إذْ أَوْجَبَ طَاعَتَهُمْ كَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ اتِّبَاعُ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْوُلَاةَ فَالطَّاعَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَالطَّاعَةُ عَلَى الْعَوَامّ وَلَا نَفْهَمُ غَيْرَ ذَلِكَ.
ثُمَّ نَقُولُ: يُعَارِضُ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ عُمُومَاتٌ أَقْوَى مِنْهَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا ابْتِدَاءً فِي الْمَسْأَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَقَوْلِهِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَقَوْلِهِ {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وَقَوْلِهِ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ بِالتَّدَبُّرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاعْتِبَارِ، وَلِيس خِطَابًا مَعَ الْعَوَامّ، فَلَمْ يَبْقَ مُخَاطَبٌ إلَّا الْعُلَمَاءُ وَالْمُقَلِّدُ تَارِكٌ لِلتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِنْبَاطِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] وَ {ولَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إلَى الْكِتَابِ فَقَطْ لَكِنْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةُ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْقِيَاسِ وَصَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُنَزَّلًا فَهُوَ الْمُتَّبَعُ دُونَ أَقْوَالِ الْعِبَادِ. فَهَذِهِ ظَوَاهِرُ قَوِيَّةٌ وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ يَقْوَى فِيهَا التَّمَسُّكُ بِأَمْثَالِهَا، وَيُعْتَضَدُ ذَلِكَ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ تَشَاوَرُوا فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْعَوْلِ وَالْمُفَوِّضَةِ وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَحَكَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِظَنِّ نَفْسِهِ وَلَمْ يُقَلِّدْ غَيْرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمْ أَهْلُ الشُّورَى نَظَرٌ فِي الْأَحْكَامِ مَعَ ظُهُورِ الْخِلَافِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِقَوْلِ غَيْرِهِمْ.
قُلْنَا: كَانُوا لَا يُفْتُونَ اكْتِفَاءً بِمَنْ عَدَاهُمْ فِي الْفَتْوَى، أَمَّا عَمَلُهُمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِمَا سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكِتَابِ وَعَرَفُوهُ، فَإِنْ وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ لَمْ يَعْرِفُوا دَلِيلَهَا شَاوَرُوا غَيْرَهُمْ لِتَعَرُّفِ الدَّلِيلِ لَا لِلتَّقْلِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ؟ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مَا وَافَقَ الْأَعْلَمَ فَذَاكَ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خِلَافُهُ فَمَا يَنْفَعُ كَوْنُهُ أَعْلَمَ وَقَدْ صَارَ رَأْيُهُ مُزَيَّفًا عِنْدَهُ، وَالْخَطَأُ جَائِزٌ عَلَى الْأَعْلَمِ وَظَنُّهُ أَقْوَى فِي نَفْسِهِ مِنْ ظَنِّ غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِظَنِّ نَفْسِهِ وِفَاقًا وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَقْلِيدُهُ؛ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ تَقْلِيدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ لِأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَلِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يَخُصُّهُ وَبَيْنَ مَا يُفْتِي بِهِ؟ قُلْنَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ لِلْمُسْتَفْتِي مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَكِنْ لَا يُفْتِي مَنْ يَسْتَفْتِيهِ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، إذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الْفَتْوَى لِلْعَوَامِّ
وَأَمَّا مَا يَخُصُّهُ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَكَانَ فِي الْبَحْثِ تَفْوِيتٌ فَهَذَا هَلْ يُلْحِقُهُ بِالْعَاجِزِ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ؟ فِيهِ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُدُولِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَتَنَاوُبِ جَمَاعَةٍ عَلَى بِئْرِ مَاءٍ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُحْتَمَلَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[الْفَنُّ الثَّانِي فِي التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ وَحُكْمِ الْعَوَامّ فِيهِ]
[مَسْأَلَةٌ التَّقْلِيدُ هُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّة]
الْفَنُّ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْقُطْبِ فِي التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ وَحُكْمِ الْعَوَامّ فِيهِ وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: مَسْأَلَةٌ: التَّقْلِيدُ هُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا
(1/370)
 
 
فِي الْفُرُوعِ وَذَهَبَ الْحَشَوِيَّةُ وَالتَّعْلِيمِيَّة إلَى أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ التَّقْلِيدُ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ وَأَنَّ النَّظَرَ وَالْبَحْثَ حَرَامٌ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ مَسَالِكُ، الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ صِدْقَ الْمُقَلِّدِ لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ.
وَدَلِيلُ الصِّدْقِ الْمُعْجِزَةُ فَيُعْلَمُ صِدْقُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمُعْجِزَتِهِ وَصِدْقُ كَلَامِ اللَّهِ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ صِدْقِهِ وَصِدْقُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ عِصْمَتِهِمْ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْحُكْمُ بِقَوْلِ الْعُدُولِ لَا بِمَعْنَى اعْتِقَادِ صِدْقِهِمْ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى تَعَبُّدِ الْقُضَاةِ بِاتِّبَاعِ غَلَبَةِ الظَّنِّ صَدَقَ الشَّاهِدُ أَمْ كَذَبَ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ اتِّبَاعُ الْمُفْتِي؛ إذْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَوَامّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ كَذَبَ الْمُفْتِي أَمْ صَدَقَ أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ. فَنَقُولُ: قَوْلُ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ لَزِمَ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِحُجَّةٍ فَلَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا، فَإِنَّا نَعْنِي بِالتَّقْلِيدِ قَبُولَ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ فَحَيْثُ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ وَلَمْ يُعْلَمْ الصِّدْقُ بِضَرُورَةٍ وَلَا بِدَلِيلٍ فَالِاتِّبَاعُ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْجَهْلِ.
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: أَتُحِيلُونَ الْخَطَأَ عَلَى مُقَلَّدِكُمْ أَمْ تُجَوِّزُونَهُ؟ فَإِنْ جَوَّزْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ شَاكُّونَ فِي صِحَّةِ مَذْهَبِكُمْ، وَإِنْ أَحَلْتُمُوهُ فَبِمَ عَرَفْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ بِضَرُورَةٍ أَمْ بِنَظَرٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَلَا ضَرُورَةَ وَلَا دَلِيلَ؟ فَإِنْ قَلَّدْتُمُوهُ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَذْهَبَهُ حَقٌّ فَبِمَ عَرَفْتُمْ صِدْقَهُ فِي تَصْدِيقِ نَفْسِهِ؟ وَإِنْ قَلَّدْتُمْ فِيهِ غَيْرَهُ فَبِمَ عَرَفْتُمْ صِدْقَ الْمُقَلَّدِ الْآخَرِ؟ وَإِنْ عَوَّلْتُمْ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إلَى قَوْلِهِ فَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ سُكُونِ نُفُوسِكُمْ وَسُكُونِ نُفُوسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ؟ وَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ مُقَلَّدِكُمْ: إنِّي صَادِقٌ مُحِقٌّ وَبَيْنَ قَوْلِ مُخَالِفِكُمْ؟ وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا فِي إيجَابِ التَّقْلِيدِ: هَلْ تَعْلَمُونَ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ فَلِمَ قَلَّدْتُمْ وَإِنْ عَلِمْتُمْ فَبِضَرُورَةٍ أَمْ بِنَظَرٍ أَوْ تَقْلِيدٍ؟ وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ السُّؤَالُ فِي التَّقْلِيدِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ فَلَا يَبْقَى إلَّا إيجَابُ التَّقْلِيدِ بِالتَّحَكُّمِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَرَفْنَا صِحَّتَهُ بِأَنَّهُ مَذْهَبٌ لِلْأَكْثَرِينَ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ. قُلْنَا: وَبِمَ أَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ يَقُولُ: الْحَقُّ دَقِيقٌ غَامِضٌ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا الْأَقَلُّونَ وَيَعْجَزُ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّفَرُّغِ لِلنَّظَرِ وَنَفَاذِ الْقَرِيحَةِ وَالْخُلُوِّ عَنْ الشَّوَاغِلِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُحِقًّا فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَهُوَ فِي شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى
خِلَافِ الْأَكْثَرِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] كَيْفَ وَعَدَدُ الْكُفَّارِ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرُ؟ ثُمَّ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَتَوَقَّفُوا حَتَّى تَدُورُوا فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَتَعُدُّوا جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ، فَإِنْ سَاوَوْهُمْ تَوَقَّفُوا وَإِنْ غَلَبُوا رَجَحُوا، كَيْفَ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْكُنَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ «وَالشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» قُلْنَا: أَوَّلًا، بِمَ عَرَفْتُمْ صِحَّةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ تَقْلِيدٍ فَبِمَ تَتَمَيَّزُونَ عَنْ مُقَلَّدٍ اعْتَقَدَ فَسَادَهَا؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَمُتَّبِعُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ بَلْ عَلِمَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ وَذَلِكَ قَبُولُ قَوْلٍ بِحُجَّةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ.
ثُمَّ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْإِجْمَاعِ " وَأَنَّهُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوَافَقَةِ الْإِمَامِ أَوْ مُوَافَقَةِ الْإِجْمَاعِ. وَلَهُمْ شُبَهٌ:
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّاظِرَ مُتَوَرِّطٌ فِي شُبُهَاتٍ
(1/371)
 
 
وَقَدْ كَثُرَ ضَلَالُ النَّاظِرِينَ فَتَرْكُ الْخَطَرِ وَطَلَبُ السَّلَامَةِ أَوْلَى.
قُلْنَا: وَقَدْ كَثُرَ ضَلَالُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَقْلِيدِكُمْ وَتَقْلِيدِ سَائِرِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ؟ ثُمَّ نَقُولُ: إذَا وَجَبَتْ الْمَعْرِفَةُ كَانَ التَّقْلِيدُ جَهْلًا وَضَلَالًا فَكَأَنَّكُمْ حَمَلْتُمْ هَذَا خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ، كَمَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ عَطَشًا وَجُوعًا خِيفَةً مِنْ أَنْ يَغَصَّ بِلُقْمَةٍ أَوْ يَشْرَقَ بِشَرْبَةٍ لَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ، وَكَالْمَرِيضِ يَتْرُكُ الْعِلَاجَ رَأْسًا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعِلَاجِ، وَكَمَنْ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَالْحِرَاثَةَ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ صَاعِقَةٍ فَيَخْتَارُ الْفَقْرَ خَوْفًا مِنْ الْفَقْرِ.
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجِدَالِ فِي الْقَدَرِ وَالنَّظَرُ يَفْتَحُ بَابَ الْجِدَالِ قُلْنَا: نَهَى عَنْ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5] بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فَأَمَّا الْقَدَرُ فَنَهَاهُمْ عَنْ الْجِدَالِ فِيهِ؛ إمَّا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَفَهُمْ عَلَى الْحَقِّ بِالنَّصِّ فَمَنَعَهُمْ عَنْ الْمُمَارَاةِ فِي النَّصِّ أَوْ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَاحْتَرَزَ عَنْ أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُخَالِفُ فَيَقُولَ: هَؤُلَاءِ بَعْدُ لَمْ تَسْتَقِرَّ قَدَمُهُمْ فِي الدِّينِ أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَدْفُوعِينَ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُمْ.
ثُمَّ إنَّا نُعَارِضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] ، هَذَا كُلُّهُ نَهْيٌ عَنْ التَّقْلِيدِ وَأَمْرٌ بِالْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ عَظُمَ شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ» وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِالتَّقْلِيدِ بَلْ بِالْعِلْمِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " لَا تَكُونَنَّ إمَّعَةً " قِيلَ: وَمَا إمَّعَةٌ؟ قَالَ: " أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَنَا مَعَ النَّاسِ إنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ وَإِنْ اهْتَدَوْا اهْتَدَيْتُ، أَلَا لَا يُوَطِّنَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَكْفُرَ إنْ كَفَرَ النَّاسُ ".
 
[مَسَالَةٌ الْعَامِّيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتَاءُ وَاتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ]
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ: يَلْزَمُهُمْ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِمَسْلَكَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ الْعَوَامَّ وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عَلَى الضَّرُورَةِ وَالتَّوَاتُرِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْإِمَامِيَّةِ: كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ عَلِيٍّ لِعِصْمَتِهِ وَكَانَ عَلِيٌّ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ تُقْيَةً وَخَوْفًا مِنْ الْفِتْنَةِ. قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي حَالِ وَلَايَتِهِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي اضْطِرَابٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَعَلَّ جَمِيعَ مَا قَالَهُ خَالَفَ فِيهِ الْحَقَّ خَوْفًا وَتَقِيَّةً
الْمَسْلَكِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ مُكَلَّفٌ بِالْأَحْكَامِ، وَتَكْلِيفُهُ طَلَبَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ وَتَتَعَطَّلَ الْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ وَيُؤَدِّي إلَى خَرَابِ الدُّنْيَا لَوْ اشْتَغَلَ النَّاسُ بِجُمْلَتِهِمْ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يَرُدُّ الْعُلَمَاءَ إلَى طَلَبِ الْمَعَايِشِ وَيُؤَدِّي إلَى انْدِرَاسِ الْعِلْمِ بَلْ إلَى إهْلَاكِ الْعُلَمَاءِ وَخَرَابِ الْعَالَمِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ هَذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ التَّقْلِيدَ وَهَذَا عَيْنُ التَّقْلِيدِ. قُلْنَا: التَّقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ وَهَؤُلَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أَفْتَى بِهِ الْمُفْتِي بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ قَبُولُ الشُّهُودِ
(1/372)
 
 
وَوَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ وَذَلِكَ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَالظَّنُّ مَعْلُومٌ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ مَعْلُومٌ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ فَهَذَا الْحُكْمُ قَاطِعٌ، وَالتَّقْلِيدُ جَهْلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَفَعْتُمْ التَّقْلِيدَ مِنْ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا يَحِلُّ تَقْلِيدُ أَحَدٍ سِوَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ أَثْبَتَ تَقْلِيدًا. قُلْنَا: قَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ رَأْسًا إلَّا مَا اسْتَثْنَى فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الِاسْتِفْتَاءَ وَقَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَهَادَةَ الْعُدُولِ تَقْلِيدًا، نَعَمْ، يَجُوزُ تَسْمِيَةُ قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ تَقْلِيدًا وَتَوَسُّعًا وَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ لِحُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ جُمْلَةً فَلَا تَطْلُبْ مِنْهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَكَأَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ خَاصَّةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ تَقْلِيدًا مَجَازًا.
 
[مَسْأَلَةٌ لَا يَسْتَفْتِي الْعَامِّيُّ إلَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ]
أَمَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْلِ فَلَا يَسْأَلُهُ وِفَاقًا، وَإِنْ سَأَلَ مَنْ لَا يَعْرِفُ جَهْلَهُ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَحْثُ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُ قَوْلِ غَيْرِهِ فَيَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ حَالِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ مَعْرِفَةُ حَالِ الرَّسُولِ بِالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَتِهِ فَلَا يُؤْمَنُ بِكُلِّ مَجْهُولٍ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ مَعْرِفَةُ حَالِ الشَّاهِدِ فِي الْعَدَالَةِ وَالْمُفْتِي مَعْرِفَةُ حَالِ الرَّاوِي وَعَلَى الرَّعِيَّةِ مَعْرِفَةُ حَالِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ كَيْفَ يُسْأَلُ مَنْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَجْهَلَ مِنْ السَّائِلِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَةَ الْمُفْتِي هَلْ يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ؟ إنْ قُلْتُمْ يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ فَقَدْ خَالَفْتُمْ الْعَادَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلْدَةً فَيَسْأَلُ عَالِمَ الْبَلْدَةَ وَلَا يَطْلُبُ حُجَّةً عَلَى عَدَالَتِهِ، وَإِنْ جَوَّزْتُمْ مَعَ الْجَهْلِ فَكَذَلِكَ فِي الْعِلْمِ. قُلْنَا: مَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ فَلَا يَسْأَلُهُ وَمَنْ عَرَفَهُ بِالْعَدَالَةِ فَيَسْأَلُهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَهْجُمُ بَلْ يَسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَلْبِيسَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: ظَاهِرُ حَالِ الْعَالِمِ الْعَدَالَةُ لَا سِيَّمَا إذَا اُشْتُهِرَ بِالْفَتْوَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ظَاهِرُ حَالِ الْخَلْقِ الْعِلْمُ وَنَيْلُ دَرَجَةِ الْفَتْوَى وَالْجَهْلُ أَغْلَبُ عَلَى الْخَلْقِ فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عَوَامُّ إلَّا الْأَفْرَادَ بَلْ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ إلَّا الْآحَادَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ وَجَبَ السُّؤَالُ لِمَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ أَوْ عِلْمِهِ فَيُفْتَقَرُ إلَى التَّوَاتُرِ أَمْ لَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ؟ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَكْفِي غَالِبَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِقَوْلِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ، وَقَدْ جَوَّزَ قَوْمٌ الْعَمَلَ بِإِجْمَاعٍ نَقَلَهُ الْعَدْلُ الْوَاحِدُ وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ وَجْهٍ
 
[مَسْأَلَةٌ مُرَاجَعَة العامى للمفتى]
مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلْدَةِ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ مُرَاجَعَتُهُ.
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ وَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الْأَعْلَمِ كَمَا فُعِلَ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ إذْ سَأَلَ الْعَوَامُّ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى الْخَلْقِ فِي سُؤَالِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَجِبُ مُرَاجَعَةُ الْأَفْضَلِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا تَخَيَّرَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ إذْ لَمْ يَحْجُرْ الْفَاضِلُ عَلَى الْمَفْضُولِ الْفَتْوَى بَلْ لَا تَجِبُ إلَّا مُرَاجَعَةُ مَنْ عَرَفَهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَقَدْ عُرِفَ كُلُّهُمْ بِذَلِكَ.
نَعَمْ، إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ فِي حُكْمٍ فَإِنْ تَسَاوَيَا رَاجَعَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ تَنَاقَضَ فَتْوَاكُمَا تَسَاوَيْتُمَا عِنْدِي، فَمَا الَّذِي يَلْزَمُنِي؟ فَإِنْ خَيَّرَاهُ تَخَيَّرَ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ الْمَيْلِ إلَى جَانِبٍ مُعَيَّنٍ فَعَلَ وَإِنْ أَصَرَّا عَلَى الْخِلَافِ لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْطِيلِ الْحُكْمِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَالْأَئِمَّةُ كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَى
(1/373)
 
 
اهْتَدَى، أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ وَأَعْلَمَ فِي اعْتِقَادِهِ اخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَوْ انْفَرَدَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَزِيَادَةُ الْفَضْلِ لَا تُؤَثِّرُ
وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ الْأَفْضَلِ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَعْلَمُ وَالصَّوَابَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَغْلَبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِمَذْهَبِ مُخَالِفِهِ بِالتَّشَهِّي وَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَنْتَقِيَ مِنْ الْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَطْيَبَهَا عِنْدَهُ فَيَتَوَسَّعَ بَلْ هَذَا التَّرْجِيحُ عِنْدَهُ كَتَرْجِيحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عِنْدَ الْمُفْتِي فَإِنَّهُ يَتْبَعُ ظَنَّهُ فِي التَّرْجِيحِ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَإِنْ صَوَّبْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَلَكِنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَبِالْحُكْمِ قَبْلَ تَمَامِ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، وَالْغَلَطُ عَلَى الْأَعْلَمِ أَبْعَدُ لَا مَحَالَةَ
وَهَذَا التَّحْقِيقُ وَهُوَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سِرًّا فِي رَدِّ الْعِبَادِ إلَى ظُنُونِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا مُهْمَلِينَ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى مُسْتَرْسِلِينَ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُمَّهُمْ لِجَامُ التَّكْلِيفِ فَيَرُدَّهُمْ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ فَيَتَذَكَّرُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَنَفَاذَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ، فَمَا دُمْنَا نَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِهِمْ بِضَابِطٍ فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَخْيِيرِهِمْ وَإِهْمَالِهِمْ كَالْبَهَائِمِ وَالصِّبْيَانِ، أَمَّا إذَا عَجَزْنَا عِنْدَ تَعَارُضِ مُفْتِيَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ دَلِيلَيْنِ فَذَلِكَ ضَرُورَةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَوْ يُصَوَّبُ فِيهَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيهَا النَّظَرُ بَلْ يَتَخَيَّرُ فَيَفْعَلُ مَا شَاءَ، إذْ مَا مِنْ جَانِبٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ مُجْتَهِدٍ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا تَحْصِيلُ الظَّنِّ ثُمَّ يَتْبَعُ مَا ظَنَّهُ؛ فَكَذَلِكَ ظَنُّ الْعَامِّيِّ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ ظَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ طُرُقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَالْعَامِّيُّ يَحْكُمُ بِالْوَهْمِ وَيَغْتَرُّ بِالظَّوَاهِرِ وَرُبَّمَا يُقَدِّمُ الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ فَلْيَنْظُرْ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ وَلْيَحْكُمْ بِمَا يَظُنُّهُ فَلِمَعْرِفَةِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ أَدِلَّةٌ غَامِضَةٌ لَيْسَ دَرْكُهَا مِنْ شَأْنِ الْعَوَامّ.
وَهَذَا سُؤَالٌ وَاقِعٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنْ مَرِضَ لَهُ طِفْلٌ وَهُوَ لَيْسَ بِطَبِيبٍ فَسَقَاهُ دَوَاءً بِرَأْيِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا مُقَصِّرًا ضَامِنًا، وَلَوْ رَاجَعَ طَبِيبًا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ طَبِيبَانِ فَاخْتَلَفَا فِي الدَّوَاءِ فَخَالَفَ الْأَفْضَلَ عُدَّ مُقَصِّرًا، وَيُعْلَمُ فَضْلُ الطَّبِيبَيْنِ بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ وَبِإِذْعَانِ الْمَفْضُولِ لَهُ وَبِتَقْدِيمِهِ بِأَمَارَاتٍ تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ يُعْلَمُ الْأَفْضَلُ بِالتَّسَامُعِ وَبِالْقَرَائِنِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ نَفْسِ الْعِلْمِ، وَالْعَامِّيُّ أَهْلٌ لَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِفَ الظَّنَّ بِالتَّشَهِّي. فَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا وَالْأَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ فِي ضَبْطِ الْخَلْقِ بِلِجَامِ التَّقْوَى وَالتَّكْلِيفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[الْفَنُّ الثَّالِثُ فِي التَّرْجِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ]
[الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ]
الْفَنُّ الثَّالِثُ مِنْ الْقُطْبِ الرَّابِعِ
فِي التَّرْجِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْفَنُّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثٍ وَبَابَيْنِ
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَفِي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ.
فَنَقُولُ: يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَنْ يَرُدَّ نَظَرَهُ إلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ثُمَّ يَبْحَثَ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ فَيَنْظُرَ أَوَّلَ شَيْءٍ فِي الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعًا تَرَكَ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
(1/374)
 
 
فَإِنَّهُمَا يَقْبَلَانِ النَّسْخَ، وَالْإِجْمَاعُ يَقْبَلُهُ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى النَّسْخِ إذْ لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى الْخَطَإِ. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَاطِعَ وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ السَّمْعِيَّةِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا، فَمَا وُجِدَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أُخِذَ بِهِ، وَيَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَظَوَاهِرِهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمِنْ الْأَقْيِسَةِ فَإِنْ عَارَضَ قِيَاسٌ عُمُومًا أَوْ خَبَرُ وَاحِدٍ عُمُومًا فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَفْظًا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا نَظَرَ إلَى قِيَاسِ النُّصُوصِ، فَإِنْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ أَوْ خَبَرَانِ أَوْ عُمُومَانِ طَلَبَ التَّرْجِيحَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِنْ تَسَاوَيَا عِنْدَهُ تَوَقَّفَ عَلَى رَأْيٍ وَتَخَيَّرَ عَلَى رَأْيٍ آخَرَ كَمَا سَبَقَ.
 
[الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَقِيقَةِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّة وَمَحَلِّهِ]
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَقِيقَةِ التَّعَارُضِ وَمَحَلِّهِ.
اعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَجْرِي بَيْنَ ظَنَّيْنِ؛ لِأَنَّ الظُّنُونَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مَعْلُومَيْنِ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْعُلُومِ أَقْوَى وَأَغْلَبَ مِنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى وَأَقْرَبَ حُصُولًا وَأَشَدَّ اسْتِغْنَاءً عَنْ التَّأَمُّلِ، بَلْ بَعْضُهَا يَسْتَغْنِي عَنْ أَصْلِ التَّأَمُّلِ وَهُوَ الْبَدِيهِيُّ وَبَعْضُهَا غَيْرُ بَدِيهِيٍّ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ لَكِنَّهُ بَعْدَ الْحُصُولِ مُحَقَّقٌ يَقِينِيٌّ لَا يَتَفَاوَتُ فِي كَوْنِهِ مُحَقَّقًا فَلَا تَرْجِيحَ لِعِلْمٍ عَلَى عِلْمٍ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ قَاطِعَانِ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّرْجِيحِ، بَلْ إنْ كَانَا مُتَوَاتِرَيْنِ حُكِمَ بِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَعَرَفْنَا التَّارِيخَ أَيْضًا حَكَمْنَا بِالْمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ فَصِدْقُ الرَّاوِي مَظْنُونٌ فَنُقَدِّمُ الْأَقْوَى فِي نُفُوسِنَا.
وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ نَصَّيْنِ قَاطِعَيْنِ فَكَذَلِكَ فِي عِلَّتَيْنِ قَاطِعَتَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَ اللَّهُ عِلَّةً قَاطِعَةً لِلتَّحْرِيمِ فِي مَوْضِعٍ، وَعِلَّةً قَاطِعَةً لِلتَّحْلِيلِ فِي مَوْضِعٍ، وَتَدُورُ بَيْنَهُمَا مَسْأَلَةٌ تُوجَدُ فِيهَا الْعِلَّتَانِ، وَنَتَعَبَّدُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ قَاطِعٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَقَاطِعٌ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي فَرْعٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ لَا كَالْعِلَلِ الْمَظْنُونَةِ؛ لِأَنَّ الظُّنُونَ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَاتِ فَلَا تَجْتَمِعُ فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَقَاوَمَ ظَنَّانِ أَوْجَبْنَا التَّوَقُّفَ عَلَى رَأْيٍ كَمَا لَوْ تَعَارَضَ قَاطِعَانِ
وَمَنْ أَمَرَ بِالتَّخْيِيرِ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ نَصَّانِ قَاطِعَانِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ التَّخْيِيرَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ، فَكَذَلِكَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْلِيلِ تَصْرِيحٌ بِالنَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَيَكُونَ مُتَنَاقِضًا. أَمَّا الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى تَعَبُّدِ الْمُجْتَهِدِ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ فَيَصْلُحُ لَأَنْ يَنْزِلَ عَلَى اتِّبَاعِ أَغْلَبِ الظَّنَّيْنِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِ الْمَصْلَحَةِ وَبِالتَّشْبِيهِ وَبِالِاسْتِصْحَابِ فَإِذَا تَعَارَضَا فَكَيْفَمَا فَعَلَ فَهُوَ مُسْتَصْحِبٌ وَمُشَبِّهٌ وَمُتَّبِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ.
أَمَّا الْقَوَاطِعُ فَمُتَضَادَّةٌ وَمُتَنَاقِضَةٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا فَلَا تَقْبَلُ الْجَمْعَ، نَعَمْ لَوْ أُشْكِلَ التَّارِيخُ وَعَجَزْنَا عَنْ طَلَبِ دَلِيلٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُتَخَيَّرَ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ مَعَ تَضَادِّهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ عِلْمٌ وَظَنٌّ؟ قُلْنَا: لَا فَإِنَّ الظَّنَّ لَوْ خَالَفَ الْعِلْمَ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَا عُلِمَ كَيْفَ يُظَنُّ خِلَافُهُ؟ وَظَنُّ خِلَافِهِ شَكٌّ، فَكَيْفَ