المستصفى 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: المستصفى
المؤلف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)
عدد الأجزاء:1
[خُطْبَةُ الْكِتَابِ]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ، الْوَلِيِّ النَّاصِرِ، اللَّطِيفِ الْقَاهِرِ، الْمُنْتَقِمِ الْغَافِرِ، الْبَاطِنِ الظَّاهِرِ، الْأَوَّلِ الْآخِرِ الَّذِي جَعَلَ الْعَقْلَ أَرْجَحَ الْكُنُوزِ وَالذَّخَائِرِ، وَالْعِلْمَ أَرْبَحَ الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، وَأَشْرَفَ الْمَعَالِي وَالْمَفَاخِرِ، وَأَكْرَمَ الْمَحَامِدِ وَالْمَآثِرِ وَأَحْمَدَ الْمَوَارِدِ وَالْمَصَادِرِ؛ فَشَرُفَتْ بِإِثْبَاتِهِ الْأَقْلَامُ وَالْمَحَابِرُ، وَتَزَيَّنَتْ بِسَمَاعِهِ الْمَحَارِيبُ وَالْمَنَابِرُ، وَتَحَلَّتْ بِرُقُومِهِ الْأَوْرَاقُ وَالدَّفَاتِرُ، وَتَقَدَّمَ بِشَرَفِهِ الْأَصَاغِرُ عَلَى الْأَكَابِرِ، وَاسْتَضَاءَتْ بِبَهَائِهِ الْأَسْرَارُ وَالضَّمَائِرُ، وَتَنَوَّرَتْ بِأَنْوَارِهِ الْقُلُوبُ وَالْبَصَائِرُ، وَاسْتُحْقِرَ فِي ضِيَائِهِ ضِيَاءُ الشَّمْسِ الْبَاهِرِ عَلَى الْفَلَكِ الدَّائِرِ، وَاسْتُصْغِرَ فِي نُورِهِ الْبَاطِنِ مَا ظَهَرَ مِنْ نُورِ الْأَحْدَاقِ وَالنَّوَاظِرِ حَتَّى تَغَلْغَلَ بِضِيَائِهِ فِي أَعْمَاقِ الْمُغْمِضَاتِ جُنُودُ الْخَوَاطِرِ، وَإِنْ كَلَّتْ عَنْهَا النَّوَاظِرُ، وَكُثِّفَتْ عَلَيْهَا الْحُجُبُ وَالسَّوَاتِرُ.
وَالصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ ذِي الْعُنْصُرِ الطَّاهِرِ، وَالْمَجْدِ الْمُتَظَاهِرِ، وَالشَّرَفِ الْمُتَنَاصِرِ، وَالْكَرَمِ الْمُتَقَاطِرِ، الْمَبْعُوثِ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، وَنَاسِخًا بِشَرْعِهِ كُلَّ شَرْعٍ غَابِرٍ وَدِينٍ دَائِرٍ، الْمُؤَيَّدِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّذِي لَا يَمَلُّهُ سَامِعٌ وَلَا آثِرٌ، وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَ جَزَالَتِهِ نَاظِمٌ وَلَا نَاثِرٌ، وَلَا يُحِيطُ بِعَجَائِبِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ وَلَا ذِكْرُ ذَاكِرٍ وَكُلُّ بَلِيغٍ دُونَ ذَوْقِ فَهْمِ جَلِيَّاتِ أَسْرَارِهِ قَاصِرٌ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا كَثْرَةً يَنْقَطِعُ دُونَهَا عُمْرُ الْعَادِّ الْحَاصِرِ. أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ تَنَاطَقَ قَاضِي الْعَقْلِ وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يُعْزَلُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَشَاهِدُ الشَّرْعِ وَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُزَكَّى الْمُعَدَّلُ، بِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ غُرُورٍ لَا دَارُ سُرُورٍ، وَمَطِيَّةُ عَمَلٍ لَا مَطِيَّةُ كَسَلٍ، وَمَنْزِلُ عُبُورٍ لَا مُتَنَزَّهُ حُبُورٍ، وَمَحَلُّ تِجَارَةٍ لَا مَسْكَنُ عِمَارَةٍ، وَمَتْجَرٌ بِضَاعَتُهَا الطَّاعَةُ وَرِبْحُهَا الْفَوْزُ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ.
وَالطَّاعَةُ طَاعَتَانِ عَمَلٌ وَعِلْمٌ، وَالْعِلْمُ أَنْجَحُهَا وَأَرْبَحُهَا، فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنْ الْعَمَلِ وَلَكِنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ أَعَزُّ الْأَعْضَاءِ وَسَعْيُ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ مَرْكَبُ الدِّيَانَةِ وَحَامِلُ الْأَمَانَةِ إذْ عُرِضَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالسَّمَاءِ فَأَشْفَقْنَ مِنْ حَمْلِهَا وَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا غَايَةَ الْإِبَاءِ.
 
ثُمَّ الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ: عَقْلِيٌّ مَحْضٌ لَا يَحُثُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْدُبُ إلَيْهِ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالنُّجُومِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلُومِ فَهِيَ بَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لَائِقَةٍ، وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ؛ وَبَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَلَيْسَتْ الْمَنْفَعَةُ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَاضِرَةِ وَالنِّعَمِ الْفَاخِرَةِ فَإِنَّهَا فَانِيَةٌ دَائِرَةٌ، بَلْ النَّفْعُ ثَوَابُ دَارِ الْآخِرَةِ.
(1/3)
 
 
وَنَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَالْأَحَادِيثِ وَالتَّفَاسِيرِ، وَالْخَطْبُ فِي أَمْثَالِهَا يَسِيرٌ؛ إذْ يَسْتَوِي فِي الِاسْتِقْلَالِ بِهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْحِفْظِ كَافِيَةٌ فِي النَّقْلِ وَلِيس فِيهَا مَجَالٌ لِلْعَقْلِ. وَأَشْرَفُ الْعُلُومِ مَا ازْدَوَجَ فِيهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَاصْطَحَبَ فِيهِ الرَّأْيُ وَالشَّرْعُ، وَعِلْمُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ صَفْوِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَلَا هُوَ تَصَرُّفٌ بِمَحْضِ الْعُقُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَلَقَّاهُ الشَّرْعُ بِالْقَبُولِ وَلَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَقْلُ بِالتَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ.
وَلِأَجْلِ شَرَفِ عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَبَبِهِ وَفَّرَ اللَّهُ دَوَاعِيَ الْخَلْقِ عَلَى طَلَبِهِ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ بِهِ أَرْفَعَ الْعُلَمَاءِ مَكَانًا وَأَجَلَّهُمْ شَأْنًا وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا وَأَعْوَانًا؛ فَتَقَاضَانِي فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِي اخْتِصَاصُ هَذَا الْعِلْمِ بِفَوَائِدِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ أَصْرِفَ إلَيْهِ مِنْ مُهْلَةِ الْعُمُرِ صَدْرًا وَأَنْ أَخُصَّ بِهِ مِنْ مُتَنَفَّسِ الْحَيَاةِ قَدْرًا، فَصَنَّفْتُ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ بَعْدَهُ عَلَى عِلْمِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الدِّينِ الْبَاطِنَةِ فَصَنَّفْتُ فِيهِ كُتُبًا بَسِيطَةً كَكِتَابِ " إحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ " وَوَجِيزَةً كَكِتَابِ جَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَوَسِيطَةً كَكِتَابِ كِيمْيَاءُ السَّعَادَةِ.
ثُمَّ سَاقَنِي قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مُعَاوَدَةِ التَّدْرِيسِ وَالْإِفَادَةِ، فَاقْتَرَحَ عَلَيَّ طَائِفَةٌ مِنْ مُحَصِّلِي عِلْمِ الْفِقْهِ تَصْنِيفًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْرِفُ الْعِنَايَةَ فِيهِ إلَى التَّلْفِيقِ بَيْنَ التَّرْتِيبِ وَالتَّحْقِيقِ وَإِلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْإِخْلَالِ وَالْإِمْلَالِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِي الْفَهْمِ دُونَ كِتَابِ " تَهْذِيبِ الْأُصُولِ " لِمَيْلِهِ إلَى الِاسْتِقْصَاءِ وَالِاسْتِكْثَارِ، وَفَوْقَ كِتَابِ " الْمَنْخُولِ " لِمَيْلِهِ إلَى الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، فَأَجَبْتُهُمْ إلَى ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ، وَجَمَعْتُ فِيهِ بَيْنَ التَّرْتِيبِ وَالتَّحْقِيقِ لِفَهْمِ الْمَعَانِي فَلَا مَنْدُوحَةَ لِأَحَدِهِمَا عَنْ الثَّانِي، فَصَنَّفْتُهُ وَأَتَيْتُ فِيهِ بِتَرْتِيبٍ لَطِيفٍ عَجِيبٍ يَطَّلِعُ النَّاظِرُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى جَمِيعِ مَقَاصِدِ هَذَا الْعِلْمِ وَيُفِيدُهُ الِاحْتِوَاءُ عَلَى جَمِيعِ مَسَارِحِ النَّظَرِ فِيهِ، فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يَسْتَوْلِي الطَّالِبُ فِي ابْتِدَاءِ نَظَرِهِ عَلَى مَجَامِعِهِ وَلَا مَبَانِيهِ فَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي الظَّفَرِ بِأَسْرَارِهِ وَمَبَاغِيهِ؛ وَقَدْ سَمَّيْتُهُ كِتَابَ " الْمُسْتَصْفَى مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَسْئُولُ لِيُنْعِمَ بِالتَّوْفِيقِ وَيَهْدِي إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ وَهُوَ بِإِجَابَةِ السَّائِلِينَ حَقِيقٌ.
(1/4)
 
 
[صَدْرُ الْكِتَابِ]
[بَيَانُ حَدِّ أُصُولِ الْفِقْهِ]
صَدْرُ الْكِتَابِ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْمُلَقَّبَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ قَدْ رَتَّبْنَاهُ وَجَمَعْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَبَنَيْنَاهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَقْطَابٍ، الْمُقَدِّمَةُ لَهَا كَالتَّوْطِئَةِ وَالتَّمْهِيدِ، وَالْأَقْطَابُ هِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى لُبَابِ الْمَقْصُودِ. وَلْنَذْكُرْ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَعْنَى أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَدَّهُ وَحَقِيقَتَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ مَرْتَبَتَهُ وَنِسْبَتَهُ إلَى الْعُلُومِ ثَانِيًا، ثُمَّ كَيْفِيَّةَ انْشِعَابِهِ بِهِ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَالْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ ثَالِثًا، ثُمَّ كَيْفِيَّةَ انْدِرَاجِ جَمِيعِ أَقْسَامِهِ وَتَفَاصِيلِهِ تَحْتَ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ رَابِعًا، ثُمَّ وَجْهَ تَعَلُّقِهِ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ خَامِسًا. بَيَانُ حَدِّ أُصُولِ الْفِقْهِ
اعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَفْهَمُ مَعْنَى أُصُولِ الْفِقْهِ مَا لَمْ تَعْرِفْ أَوَّلًا مَعْنَى الْفِقْهِ، وَالْفِقْهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، يُقَالُ فُلَانٌ يَفْقَهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ أَيْ يَعْلَمُهُ وَيَفْهَمُهُ، وَلَكِنْ صَارَ بِعُرْفِ الْعُلَمَاءِ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ خَاصَّةً، حَتَّى لَا يُطْلَقَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ اسْمُ الْفَقِيهِ عَلَى مُتَكَلِّمٍ وَفَلْسَفِيٍّ وَنَحْوِيٍّ وَمُحَدِّثٍ وَمُفَسِّرٍ بَلْ يَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِلْأَفْعَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَالْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَكَوْنِ الْعَقْدِ صَحِيحًا وَفَاسِدًا وَبَاطِلًا وَكَوْنِ الْعِبَادَةِ قَضَاءً وَأَدَاءً وَأَمْثَالِهِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ لِلْأَفْعَالِ أَحْكَامًا عَقْلِيَّةً أَيْ مُدْرَكَةً بِالْعَقْلِ كَكَوْنِهَا أَعْرَاضًا وَقَائِمَةً بِالْمَحَلِّ وَمُخَالِفَةً لِلْجَوْهَرِ وَكَوْنِهَا أَكْوَانًا حَرَكَةً وَسُكُونًا وَأَمْثَالِهَا، وَالْعَارِفُ بِذَلِكَ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا لَا فَقِيهًا.
وَأَمَّا أَحْكَامُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا وَاجِبَةٌ وَمَحْظُورَةٌ وَمُبَاحَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَإِنَّمَا يَتَوَلَّى الْفَقِيهُ بَيَانَهَا، فَإِذَا فَهِمْتَ هَذَا فَافْهَمْ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدِلَّةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ وُجُوهِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ، فَإِنَّ عِلْمَ الْخِلَافِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ، كَدَلَالَةِ حَدِيثٍ خَاصٍّ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ عَلَى الْخُصُوصِ وَدَلَالَةِ آيَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَسْأَلَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَأَمَّا الْأُصُولُ فَلَا يُتَعَرَّضُ فِيهَا لِإِحْدَى الْمَسَائِلِ وَلَا عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمِثَالِ، بَلْ يُتَعَرَّضُ فِيهَا لِأَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلِشَرَائِطِ صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا ثُمَّ لِوُجُوهِ دَلَالَتِهَا الْجُمَلِيَّةِ إمَّا مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهَا أَوْ مَفْهُومُ لَفْظِهَا أَوْ مَجْرَى لَفْظِهَا أَوْ مَعْقُولُ لَفْظِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَعَرَّضَ فِيهَا لِمَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ فَبِهَذَا تُفَارِقُ أُصُولُ الْفِقْهِ فُرُوعَهُ وَقَدْ عَرَفْتَ
(1/5)
 
 
مِنْ هَذَا أَنَّ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَالْعِلْمُ بِطُرُقِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ
 
[بَيَانُ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْأُصُول وَنِسْبَتِهِ إلَى الْعُلُومِ]
بَيَانُ مَرْتَبَةِ هَذَا الْعِلْمِ وَنِسْبَتِهِ إلَى الْعُلُومِ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِنَا. وَإِلَى دِينِيَّةٍ كَالْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ وَعِلْمِ التَّفْسِيرِ وَعِلْمِ الْبَاطِنِ، أَعْنِي عِلْمَ الْقَلْبِ وَتَطْهِيرَهُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْلِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ يَنْقَسِمُ إلَى كُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ.
فَالْعِلْمُ الْكُلِّيُّ مَنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ هُوَ الْكَلَامُ وَسَائِرُ الْعُلُومِ مِنْ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ عُلُومٌ جُزْئِيَّةٌ، لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي مَعْنَى الْكِتَابِ خَاصَّةً وَالْمُحَدِّثُ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي طَرِيقِ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَالْفَقِيهُ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ خَاصَّةً، وَالْأُصُولِيُّ لَا يَنْظُر إلَّا فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خَاصَّةً وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ، فَيَقْسِمُ الْمَوْجُودَ أَوَّلًا إلَى قَدِيمٍ حَادِثٍ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْمُحْدَثَ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْعَرَضَ إلَى مَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَيَاةُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَإِلَى مَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا كَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالطَّعْمِ، وَيَقْسِمُ الْجَوْهَرَ إلَى الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ اخْتِلَافَهَا بِالْأَنْوَاعِ أَوْ بِالْأَعْرَاضِ.
ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْقَدِيمِ فَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُتَكَثَّرُ وَلَا يَنْقَسِمُ انْقِسَامَ الْحَوَادِثِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَأَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا عَنْ الْحَوَادِثِ بِأَوْصَافٍ تَجِبُ لَهُ وَبِأُمُورٍ تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَأَحْكَامٍ تَجُوزُ فِي حَقِّهِ وَلَا تَجِبُ وَلَا تَسْتَحِيلُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُحَالِ فِي حَقِّهِ.
ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ فِعْلُهُ الْجَائِزُ، وَأَنَّهُ لِجَوَازِهِ افْتَقَرَ إلَى مُحْدِثٍ، وَأَنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْجَائِزَةِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى تَعْرِيفِ صِدْقِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَنَّ هَذَا الْجَائِزَ وَاقِعٌ. عِنْدَ هَذَا يَنْقَطِعُ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ وَيَنْتَهِي تَصَرُّفُ الْعَقْلِ، بَلْ الْعَقْلُ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ. ثُمَّ يَعْزِلُ نَفْسَهُ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنْ النَّبِيِّ بِالْقَبُولِ مَا يَقُولُهُ فِي اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِدَرَكِهِ وَلَا يَقْضِي أَيْضًا بِاسْتِحَالَتِهِ فَقَدْ يَرِدُ الشَّرْعُ بِمَا يَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِإِدْرَاكِهِ إذْ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِ كَوْنِ الطَّاعَةِ سَبَبًا لِلسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ وَكَوْنِ الْمَعَاصِي لِلشَّقَاوَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَقْضِي بِاسْتِحَالَتِهِ أَيْضًا، وَيَقْضِي بِوُجُوبِ صِدْقِ مَنْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ صَدَّقَ الْعَقْلُ بِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَهَذَا مَا يَحْوِيهِ عِلْمُ الْكَلَامِ فَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا أَنَّهُ يَبْتَدِئُ نَظَرُهُ فِي أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ أَوَّلًا وَهُوَ الْمَوْجُودُ، ثُمَّ يَنْزِلُ بِالتَّدْرِيجِ إلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيُثْبِتُ فِيهِ مَبَادِئَ سَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، فَيَأْخُذُ الْمُفَسِّرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَظَرَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ الْكِتَابُ فَيَنْظُرُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُحَدِّثُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ السُّنَّةُ فَيَنْظُرُ فِي طُرُقِ ثُبُوتِهَا، وَالْفَقِيهُ يَأْخُذُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَيَنْظُرُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى خِطَابِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ، وَيَأْخُذُ الْأُصُولِيُّ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ قَوْلُ الرَّسُولِ الَّذِي دَلَّ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى صِدْقِهِ فَيَنْظُرُ فِي وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ إمَّا بِمَلْفُوظِهِ أَوْ بِمَفْهُومِهِ أَوْ بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ وَمُسْتَنْبَطِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُ الْأُصُولِيِّ قَوْلَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِعْلَهُ.
فَإِنَّ الْكِتَابَ
(1/6)
 
 
إنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْإِجْمَاعُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ وَالْأَدِلَّةُ هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَقَطْ وَقَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ وَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
فَإِذَا الْكَلَامُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِإِثْبَاتِ مَبَادِئِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْكَلَامِ، فَالْكَلَامُ هُوَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى فِي الرُّتْبَةِ إذْ مِنْهُ النُّزُولُ إلَى هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ مِنْ شَرْطِ الْأُصُولِيِّ وَالْفَقِيهِ وَالْمُفَسِّرِ وَالْمُحَدِّثِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَّلَ عِلْمَ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْكُلِّيِّ الْأَعْلَى كَيْفَ يُمْكِنُهُ النُّزُولُ إلَى الْجُزْئِيِّ الْأَسْفَلِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ أُصُولِيًّا وَفَقِيهًا وَمُفَسِّرًا وَمُحَدِّثًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ عَالِمًا مُطْلَقًا مَلِيئًا بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ الْجُزْئِيَّةِ إلَّا وَلَهُ مَبَادٍ تُؤْخَذُ مُسَلَّمَةً بِالتَّقْلِيدِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَيُطْلَبُ بُرْهَانُ ثُبُوتِهَا فِي عِلْمٍ آخَرَ.
فَالْفَقِيهُ يَنْظُرُ فِي نِسْبَةِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ إلَى خِطَابِ الشَّرْعِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى إثْبَاتِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّات لِلْمُكَلَّفِينَ فَقَدْ أَنْكَرَتْ الْجَبْرِيَّةُ فِعْلَ الْإِنْسَانِ وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ وُجُودَ الْأَعْرَاضِ وَالْفِعْلُ عَرَضٌ. وَلَا عَلَى الْفَقِيهِ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى ثُبُوتِ خِطَابِ الشَّرْعِ وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى كَلَامًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ ثُبُوتَ الْخِطَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَثُبُوتَ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكَلَّفِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ وَيَنْظُرُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْخِطَابِ فَيَكُونُ قَدْ قَامَ بِمُنْتَهَى عِلْمِهِ. وَكَذَلِكَ الْأُصُولِيُّ يَأْخُذُ بِالتَّقْلِيدِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ وَاجِبُ الصِّدْقِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ دَلَالَتِهِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ.
فَكُلُّ عَالِمٍ بِعِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ الْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّهُ مُقَلِّدٌ لَا مَحَالَةَ فِي مَبَادِئِ عِلْمِهِ إلَى أَنْ يَتَرَقَّى إلَى الْعِلْمِ الْأَعْلَى فَيَكُونَ قَدْ جَاوَزَ عِلْمَهُ إلَى عِلْمٍ آخَرَ.
 
[بَيَانُ كَيْفِيَّةِ دَوَرَان عِلْم الْأُصُول عَلَى الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ]
بَيَانُ كَيْفِيَّةِ دَوَرَانِهِ عَلَى الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ اعْلَمْ أَنَّك إذَا فَهِمْتَ أَنَّ نَظَرَ الْأُصُولِيِّ فِي وُجُوهِ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مَنْ الْأَدِلَّةِ، فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي الْأَحْكَامِ، ثُمَّ فِي الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مَنْ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ فِي صِفَاتِ الْمُقْتَبِسِ الَّذِي لَهُ أَنْ يَقْتَبِسَ الْأَحْكَامَ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ ثَمَرَاتٌ وَكُلُّ ثَمَرَةٍ فَلَهَا صِفَةٌ وَحَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهَا وَلَهَا مُثْمِرٌ وَمُسْتَثْمِرٌ وَطَرِيقٌ فِي الِاسْتِثْمَارِ.
وَالثَّمَرَةُ هِيَ الْأَحْكَامُ، أَعْنِي الْوُجُوبَ وَالْحَظْرَ وَالنَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ وَالْإِبَاحَةَ وَالْحُسْنَ وَالْقُبْحَ وَالْقَضَاءَ وَالْأَدَاءَ وَالصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ وَغَيْرَهَا وَالْمُثْمِرُ هِيَ الْأَدِلَّةُ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَقَطْ. وَطُرُقُ الِاسْتِثْمَارِ هِيَ وُجُوهُ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، إذْ الْأَقْوَالُ إمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى الشَّيْءِ بِصِيغَتِهَا وَمَنْظُومِهَا، أَوْ بِفَحْوَاهَا وَمَفْهُومِهَا وَبِاقْتِضَائِهَا وَضَرُورَتِهَا أَوْ بِمَعْقُولِهَا وَمَعْنَاهَا الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهَا.
وَالْمُسْتَثْمِرُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ. فَإِذَا جُمْلَةُ الْأُصُولِ تَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْطَابٍ:
الْقُطْبُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَحْكَامِ، وَالْبُدَاءَةُ بِهَا أَوْلَى لِأَنَّهَا الثَّمَرَةُ الْمَطْلُوبَةُ.
الْقُطْبُ الثَّانِي: فِي الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَبِهَا التَّثْنِيَةُ إذْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَعْرِفَةِ الثَّمَرَةِ لَا أَهَمَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُثْمِرِ.
الْقُطْبُ الثَّالِثُ: فِي طَرِيقِ الِاسْتِثْمَارِ، وَهُوَ وُجُوهُ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: دَلَالَةٌ بِالْمَنْظُومِ، وَدَلَالَةٌ بِالْمَفْهُومِ، وَدَلَالَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَدَلَالَةٌ بِالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ.
الْقُطْبُ الرَّابِعُ: فِي الْمُسْتَثْمِرِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يَحْكُمُ بِظَنِّهِ، وَيُقَابِلُهُ الْمُقَلِّدُ
(1/7)
 
 
الَّذِي يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ، فَيَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَصِفَاتِهِمَا.
 
[بَيَانُ كَيْفِيَّةِ انْدِرَاجِ الشُّعَبِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ]
ِ لَعَلَّكَ تَقُولُ أُصُولُ الْفِقْهِ تَشْتَمِلُ عَلَى أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ وَفُصُولٍ مُنْتَشِرَةٍ فَكَيْفَ يَنْدَرِجُ جُمْلَتُهَا تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ؟ فَنَقُولُ: الْقُطْبُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْحُكْمُ.
وَلِلْحُكْمِ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهِ وَانْقِسَامٌ، وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَاكِمِ وَهُوَ الشَّارِعُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَبِالْمَحْكُومِ فِيهِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَبِالْمُظْهِرِ لَهُ وَهُوَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ، فَفِي الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّرْعِ وَلِيس وَصْفًا لِلْفِعْلِ وَلَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ وَلَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَفِي الْبَحْثِ عَنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ يَتَبَيَّنُ حَدُّ الْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَالْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ الْحَاكِمِ يَتَبَيَّنُ أَنْ لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلرَّسُولِ وَلَا لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا لِمَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَوَضْعُهُ لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ يَتَبَيَّنُ خِطَابُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَالصَّبِيِّ، وَخِطَابُ الْكَافِرِ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ، وَخِطَابُ السَّكْرَانِ وَمَنْ يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ الْمَحْكُومِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخِطَابَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالْأَعْيَانِ وَأَنَّهُ لَيْسَ وَصْفًا لِلْأَفْعَالِ فِي ذَوَاتِهَا. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ مَظْهَرِ الْحُكْمِ يَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ وَالْمَحَلِّ وَالْعَلَامَةِ، فَيَتَنَاوَلُ هَذَا الْقُطْبُ جُمْلَةً مِنْ تَفَارِيقِ فُصُولِ الْأُصُولِ أَوْرَدَهَا الْأُصُولِيُّونَ مُبَدَّدَةً فِي مَوَاضِعَ شَتَّى لَا تَتَنَاسَبُ وَلَا تَجْمَعُهَا رَابِطَةٌ، فَلَا يَهْتَدِي الطَّالِبُ إلَى مَقَاصِدِهَا وَوَجْهِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِأُصُولِ الْفِقْهِ. الْقُطْبُ الثَّانِي: فِي الْمُثْمِرِ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ أَصْلِ الْكِتَابِ يَتَبَيَّنُ حَدُّ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْهُ وَمَا لَيْسَ مِنْهُ، وَطَرِيقُ إثْبَاتِ الْكِتَابِ وَإِنَّهُ التَّوَاتُرُ فَقَطْ وَبَيَانُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَعَرَبِيَّةٍ وَعَجَمِيَّةٍ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ السُّنَّةِ يَتَبَيَّنُ حُكْمُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مِنْ الرَّسُولِ وَطُرُقُ ثُبُوتِهَا مِنْ تَوَاتُرٍ وَآحَادٍ وَطُرُقُ رِوَايَتِهَا مِنْ مُسْنَدٍ وَمُرْسَلٍ وَصِفَاتُ رُوَاتِهَا مِنْ عَدَالَةٍ وَتَكْذِيبٍ، إلَى تَمَامِ كِتَابِ الْأَخْبَارِ. وَيَتَّصِلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كِتَابُ النَّسْخِ فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إلَيْهِ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَتُهُ وَدَلِيلُهُ وَأَقْسَامُهُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَإِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ إلَى جَمِيعِ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ الْقُطْبُ الثَّالِثُ: فِي طُرُقِ الِاسْتِثْمَارِ.
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْأُولَى: دَلَالَةُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهُ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ وَالنَّصِّ. وَالنَّظَرُ فِي كِتَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ نَظَرٌ فِي مُقْتَضَى الصِّيَغِ اللُّغَوِيَّةِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ الْفَحْوَى وَالْمَفْهُومُ فَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كِتَابُ الْمَفْهُومِ وَدَلِيلُ
(1/8)
 
 
الْخِطَابِ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ ضَرُورَةُ اللَّفْظِ وَاقْتِضَاؤُهُ فَيَتَضَمَّنُ جُمْلَةً مِنْ إشَارَاتِ الْأَلْفَاظِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، فَتَقُولُ: أَعْتَقْتُ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْمِلْكِ لِلْمُلْتَمِسِ وَلَمْ يَتَلَفَّظَا بِهِ لَكِنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ مَلْفُوظِهِمَا وَمُقْتَضَاهُ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ مَعْقُولُ اللَّفْظِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَائِعِ وَالْمَرِيضِ وَالْحَاقِنِ بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ الْقِيَاسُ وَيَنْجَرُّ إلَى بَيَانِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْقِيَاسِ وَأَقْسَامِهِ. الْقُطْبُ الرَّابِعُ: فِي الْمُسْتَثْمِرِ، وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُقَلِّدُ، وَفِيهِ يَتَبَيَّنُ صِفَاتُ الْمُجْتَهِدِ وَصِفَاتُ الْمُقَلِّدِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الِاجْتِهَادُ دُونَ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَالْقَوْلُ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَجُمْلَةُ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ذُكِرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَقَدْ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ انْشِعَابِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ
 
[بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْأُصُولِ بِهَا]
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ حَدُّ أُصُولِ الْفِقْهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ اشْتَمَلَ الْحَدُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: الْمَعْرِفَةُ وَالدَّلِيلُ وَالْحُكْمُ فَقَالُوا: إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ حَتَّى كَانَ مَعْرِفَتُهُ أَحَدَ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَمَعْرِفَةِ الْمَعْرِفَةِ، أَعْنِي الْعِلْمَ. ثُمَّ الْعِلْمُ الْمَطْلُوبُ لَا وُصُولَ إلَيْهِ إلَّا بِالنَّظَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّظَرِ فَشَرَعُوا فِي بَيَانِ حَدِّ الْعِلْمِ وَالدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى تَعْرِيفِ صُوَرِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ انْجَرَّ بِهِمْ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إثْبَاتِ الْعِلْمِ عَلَى مُنْكِرِيهِ مِنْ السُّوفُسْطائيَّةِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّظَرِ عَلَى مُنْكِرِي النَّظَرِ وَإِلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَقْسَامِ الْعُلُومِ وَأَقْسَامِ الْأَدِلَّةِ، وَذَلِكَ مُجَاوَزَةٌ لِحَدِّ هَذَا الْعِلْمِ وَخَلْطٌ لَهُ بِالْكَلَامِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ لِغَلَبَةِ الْكَلَامِ عَلَى طَبَائِعِهِمْ فَحَمَلَهُمْ حُبُّ صِنَاعَتِهِمْ عَلَى خَلْطِهِ بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ، كَمَا حَمَلَ حُبُّ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى مَزْجِ جُمْلَةٍ مِنْ النَّحْوِ بِالْأُصُولِ فَذَكَرُوا فِيهِ مِنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَمَعَانِي الْإِعْرَابِ جُمَلًا هِيَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ خَاصَّةً، وَكَمَا حَمَلَ حُبُّ الْفِقْهِ جَمَاعَةً مِنْ فُقَهَاءِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ كَأَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَتْبَاعِهِ عَلَى مَزْجِ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ تَفَارِيعِ الْفِقْهِ بِالْأُصُولِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَوْرَدُوهَا فِي مَعْرِضِ الْمِثَالِ وَكَيْفِيَّةِ إجْرَاءِ الْأَصْلِ فِي الْفُرُوعِ فَقَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ وَعُذْرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذِكْرِ حَدِّ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالدَّلِيلِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَظْهَرُ مِنْ عُذْرِهِمْ فِي إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى إثْبَاتِهَا مَعَ الْمُنْكِرِينَ، لِأَنَّ الْحَدَّ يُثَبِّتُ فِي النَّفْسِ صُوَرَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ تَصَوُّرِهَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ يَتَعَلَّقُ بِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ لِمَنْ يَخُوضُ فِي الْفِقْهِ.
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَحُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ فَذَلِكَ مِنْ خَاصِّيَّةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَذِكْرُ حُجِّيَّةِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ عَلَى مُنْكِرِيهِ اسْتِجْرَارُ الْأُصُولِ إلَى الْفُرُوعِ. وَبَعْدَ أَنْ عَرَّفْنَاكَ إسْرَافَهُمْ فِي هَذَا الْخَلْطِ فَإِنَّا لَا نَرَى أَنْ نُخْلِيَ هَذَا الْمَجْمُوعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْفِطَامَ عَنْ الْمَأْلُوفِ شَدِيدٌ وَالنُّفُوسُ عَنْ الْغَرِيبِ نَافِرَةٌ، لَكِنَّا نَقْتَصِرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جُمْلَةِ الْعُلُومِ مِنْ تَعْرِيفِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ وَكَيْفِيَّةِ تَدَرُّجِهَا مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ عَلَى وَجْهٍ يَتَبَيَّنُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالدَّلِيلِ وَأَقْسَامُهَا وَحُجَجُهَا تَبْيِينًا بَلِيغًا تَخْلُو عَنْهُ مُصَنَّفَاتُ الْكَلَامِ.
(1/9)
 
 
[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ]
[بَيَانُ حَصْرِ مَدَارِكِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ]
مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ بَيَانُ حَصْرِ مَدَارِكِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ نَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مَدَارِكَ الْعُقُولِ وَانْحِصَارَهَا فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ، وَنَذْكُرُ شَرْطَ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ وَشَرْطَ الْبُرْهَانِ الْحَقِيقِيِّ وَأَقْسَامَهُمَا عَلَى مِنْهَاجٍ أَوْجَزَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ مَحَكِّ النَّظَرِ " وَكِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ ". وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مِنْ جُمْلَةِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَلَا مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، بَلْ هِيَ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ كُلِّهَا، وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا فَلَا ثِقَةَ لَهُ بِعُلُومِهِ أَصْلًا، فَمَنْ شَاءَ أَنْ لَا يَكْتُبَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَلْيَبْدَأْ بِالْكِتَابِ مِنْ الْقُطْبِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَاجَةُ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لِحَاجَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
بَيَانُ حَصْرِ مَدَارِكِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ اعْلَمْ أَنَّ إدْرَاكَ الْأُمُورِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إدْرَاكُ الذَّوَاتِ الْمُفْرَدَةِ كَعِلْمِكَ بِمَعْنَى الْجِسْمِ وَالْحَرَكَةِ وَالْعَالَمِ وَالْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ وَسَائِرِ مَا يُدَلُّ عَلَيْهِ بِالْأَسَامِي الْمُفْرَدَةِ، الثَّانِي: إدْرَاكُ نِسْبَةِ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ أَوَّلًا مَعْنَى لَفْظِ الْعَالَمِ وَهُوَ أَمْرٌ مُفْرَدٌ وَمَعْنَى لَفْظِ الْحَادِثِ وَمَعْنَى لَفْظِ الْقَدِيمِ وَهُمَا أَيْضًا أَمْرَانِ مُفْرَدَانِ، ثُمَّ تَنْسُبُ مُفْرَدًا إلَى مُفْرَدٍ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ كَمَا تَنْسُبُ الْقِدَمَ إلَى الْعَالَمِ بِالنَّفْيِ فَتَقُولُ: لَيْسَ الْعَالَمُ قَدِيمًا، وَتَنْسُبُ الْحُدُوثَ إلَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ فَتَقُولُ: الْعَالَمُ حَادِثٌ، وَالضَّرْبُ الْأَخِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَسْتَحِيلُ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إذْ لَا يَتَطَرَّقُ التَّصْدِيقُ، إلَّا إلَى خَبَرٍ، وَأَقَلُّ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ جُزْءَانِ مُفْرَدَانِ وَصْفٌ وَمَوْصُوفٌ، فَإِذَا نُسِبَ الْوَصْفُ إلَى الْمَوْصُوفِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتِ، صُدِّقَ أَوْ كُذِّبَ. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ حَادِثٌ أَوْ جِسْمٌ أَوْ قَدِيمٌ فَأَفْرَادٌ لَيْسَ فِيهَا صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْطَلَحَ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ بِعِبَارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَإِنَّ حَقَّ الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنْ تَخْتَلِفَ أَلْفَاظُهَا الدَّالَّةُ عَلَيْهَا، إذْ الْأَلْفَاظُ مِثْلُ الْمَعَانِي فَحَقُّهَا أَنْ تُحَاذَى بِهَا الْمَعَانِي.
وَقَدْ سَمَّى الْمَنْطِقِيُّونَ مَعْرِفَةَ الْمُفْرَدَاتِ تَصَوُّرًا وَمَعْرِفَةَ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ بَيْنَهُمَا تَصْدِيقًا فَقَالُوا: الْعِلْمُ إمَّا تَصَوُّرٌ وَإِمَّا تَصْدِيقٌ، وَسَمَّى بَعْضُ عُلَمَائِنَا الْأَوَّلَ مَعْرِفَةً وَالثَّانِيَ عِلْمًا تَأَسِّيًا بِقَوْلِ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِمْ الْمَعْرِفَةُ تَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، إذْ تَقُولُ: عَرَفْتُ زَيْدًا، وَالظَّنُّ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ، إذْ تَقُولُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا عَالِمًا، وَلَا تَقُولُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا، وَلَا: ظَنَنْتُ عَالِمًا، وَالْعِلْمُ مِنْ بَابِ الظَّنِّ، فَتَقُولُ: عَلِمْتُ زَيْدًا عَدْلًا.
وَالْعَادَةُ فِي هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُخْتَلِفَةٌ. وَإِذَا فَهِمْتَ افْتِرَاقَ الضَّرْبَيْنِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْقَابِ، فَنَقُولُ الْآنَ: إنَّ
(1/10)
 
 
الْإِدْرَاكَاتِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ أَوْ فِي التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَكُلُّ عِلْمٍ تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَصْدِيقٌ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَعْرِفَتَانِ أَيْ: تَصَوُّرَانِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُفْرَدَ كَيْفَ يَعْلَمُ الْمُرَكَّبَ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى الْعَالَمِ وَمَعْنَى الْحَادِثِ كَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ، وَمَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ قِسْمَانِ: أَوَّلِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُطْلَبُ بِالْبَحْثِ وَهُوَ الَّذِي يَرْتَسِمُ مَعْنَاهُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَطَلَبٍ كَلَفْظِ الْوُجُودِ وَالشَّيْءِ وَكَكَثِيرٍ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ، وَمَطْلُوبٌ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ اسْمُهُ مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ جُمْلِيٍّ غَيْرِ مُفَصَّلٍ وَلَا مُفَسَّرٍ فَيُطْلَبُ تَفْسِيرُهُ بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى أَوَّلِيٍّ كَالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِلَى مَطْلُوبٍ كَالنَّظَرِيَّاتِ.
وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ لَا يُقْتَنَصُ إلَّا بِالْحَدِّ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ لَا يُقْتَنَصُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ، فَالْبُرْهَانُ وَالْحَدُّ هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بِهَا يُقْتَنَصُ سَائِرُ الْعُلُومِ الْمَطْلُوبَةِ. فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الْمَرْسُومَةُ لِبَيَانِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ مُشْتَمِلَةً عَلَى دِعَامَتَيْنِ دِعَامَةٌ فِي الْحَدِّ وَدِعَامَةٌ فِي الْبُرْهَانِ.
 
[الدِّعَامَةُ الْأُولَى فِي الْحَدِّ]
[الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي الْقَوَانِينِ]
الدِّعَامَةُ الْأُولَى: فِي الْحَدِّ الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الْقَوَانِينِ وَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا لِأَنَّ الْمُفْرَدَاتِ تَتَقَدَّمُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَكَّبَاتِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى فَنَّيْنِ: فَنٍّ يَجْرِي مَجْرَى الْقَوَانِينِ، وَفَنٍّ يَجْرِي مَجْرَى الِامْتِحَانَاتِ لِتِلْكَ الْقَوَانِينِ.
الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الْقَوَانِينِ وَهِيَ سِتَّةٌ: الْقَانُونُ الْأَوَّلُ
أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يُذْكَرُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ فِي الْمُحَاوَرَاتِ، وَلَا يَكُونُ الْحَدُّ جَوَابًا عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ بَلْ عَنْ بَعْضِهِ وَالسُّؤَالُ طَلَبٌ وَلَهُ لَا مَحَالَةَ مَطْلُوبٌ وَصِيغَةٌ، وَالصِّيَغُ وَالْمَطَالِبُ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّ أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ أَرْبَعٌ
الْمَطْلَب الْأَوَّلُ: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " هَلْ ". يُطْلَبُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَمْرَانِ إمَّا أَصْلُ الْوُجُودِ كَقَوْلِكَ: هَلْ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ، أَوْ يُطْلَبُ حَالُ الْمَوْجُودِ وَوَصْفُهُ كَقَوْلِكَ: هَلْ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْبَشَرِ، وَهَلْ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ وَآمِرٌ وَنَاهٍ.
الْمَطْلَبُ الثَّانِي: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " مَا ".
وَيُطْلَقُ لِطَلَبِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يُطْلَبَ بِهِ شَرْحُ اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُ مَنْ لَا يَدْرِي الْعُقَارَ: مَا الْعُقَارُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: الْخَمْرُ، إذَا كَانَ يَعْرِفُ لَفْظَ الْخَمْرِ
الثَّانِي: أَنْ يُطْلَبَ لَفْظٌ مُحَرَّرٌ جَامِعٌ مَانِعٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ كَيْفَمَا كَانَ الْكَلَامُ سَوَاءٌ كَانَ عِبَارَةً عَنْ عَوَارِضِ ذَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ الْبَعِيدَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ أَوْ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا الْخَمْرُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ الْمَائِعُ الَّذِي يَقْذِفُ بِالزَّبَدِ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إلَى الْحُمُوضَةِ وَيُحْفَظُ فِي الدَّنِّ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ بَلْ يُجْمَعُ مِنْ عَوَارِضِهِ وَلَوَازِمِهِ مَا يُسَاوِي بِجُمْلَتِهِ الْخَمْرَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْرٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ بِخَمْرٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَبَ بِهِ مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَةُ ذَاتِهِ، كَمَنْ يَقُولُ: مَا الْخَمْرُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ شَرَابٌ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ مِنْ الْعِنَبِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَاشِفًا عَنْ حَقِيقَتِهِ ثُمَّ يَتْبَعُهُ لَا مَحَالَةَ التَّمْيِيزُ. وَاسْمُ الْحَدِّ فِي الْعَادَةِ. يُطْلَقُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ بِالِاشْتِرَاكِ، فَلْنَخْتَرِعْ لِكُلِّ
(1/11)
 
 
وَاحِدٍ اسْمًا وَلْنُسَمِّ الْأَوَّلَ حَدًّا لَفْظِيًّا إذْ السَّائِلُ لَا يَطْلُبُ بِهِ إلَّا شَرْحَ اللَّفْظِ، وَلْنُسَمِّ الثَّانِي حَدًّا رَسْمِيًّا إذْ هُوَ مَطْلَبٌ مُرْتَسِمٌ بِالْعِلْمِ غَيْرُ مُتَشَوِّفٍ إلَى دَرَكِ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَلِنُسَمِّ الثَّالِثَ حَدًّا حَقِيقِيًّا إذْ مَطْلَبُ الطَّالِبِ مِنْهُ دَرَكُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَهَذَا الثَّالِثُ شَرْطُهُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ لَوْ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْحَيَوَانِ فَقِيلَ جِسْمٌ حَسَّاسٌ فَقَدْ جِيءَ بِوَصْفٍ ذَاتِيٍّ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْجَمْعِ وَالْمَنْعِ وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ بَلْ حَقُّهُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْمُتَحَرِّكُ بِالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ كُنْهَ حَقِيقَةِ الْحَيَوَانِ يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ، فَأَمَّا الْمُرْتَسِمُ الطَّالِبُ لِلتَّمْيِيزِ فَيَكْتَفِي بِالْحَسَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُقَلْ إنَّهُ جِسْمٌ أَيْضًا.
الْمَطْلَبُ الثَّالِثُ: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " لَمْ ". وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ الْعِلَّةِ وَجَوَابُهُ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا سَيَأْتِي حَقِيقَتُهُ
الْمَطْلَبُ الرَّابِعُ: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " أَيُّ ". وَهُوَ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ مَا عُرِفَ جُمْلَتُهُ عَمَّا اخْتَلَطَ بِهِ، كَمَا إذَا قِيلَ: مَا الشَّجَرُ؟ فَقِيلَ: إنَّهُ جِسْمٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَيُّ جِسْمٍ هُوَ؟ فَيَقُولُ: نَامٍ. وَأَمَّا مَطْلَبُ (كَيْفَ) وَ (أَيْنَ) وَ (مَتَى) وَسَائِرُ صِيَغِ السُّؤَالِ فَدَاخِلٌ فِي مَطْلَبِ " هَلْ " وَالْمَطْلُوبُ بِهِ صِفَةُ الْوُجُودِ.
 
الْقَانُونُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَادَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَاللَّازِمَةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَذَلِكَ غَامِضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ فَنَقُولُ: الْمَعْنَى إذَا نُسِبَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِهِ وُجِدَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ، إمَّا ذَاتِيًّا لَهُ وَيُسَمَّى صِفَةَ نَفْسٍ، وَإِمَّا لَازِمًا وَيُسَمَّى تَابِعًا، وَإِمَّا عَارِضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إتْقَانِ هَذِهِ النِّسْبَةِ فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ جَمِيعًا.
أَمَّا الذَّاتِيُّ أَعْنِي بِهِ كُلَّ دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ دُخُولًا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الْمَعْنَى دُونَ فَهْمِهِ، وَذَلِكَ كَاللَّوْنِيَّةِ لِلسَّوَادِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِلْفَرَسِ وَالشَّجَرِ فَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الشَّجَرَ فَقَدْ فَهِمَ جِسْمًا مَخْصُوصًا فَتَكُونُ الْجِسْمِيَّةُ دَاخِلَةً فِي ذَاتِ الشَّجَرِيَّةِ دُخُولًا بِهِ قِوَامُهَا فِي الْوُجُودِ وَالْعَقْلِ لَوْ قُدِّرَ عَدَمُهَا لَبَطَلَ وُجُودُ الشَّجَرِيَّةِ، وَكَذَا الْفَرَسُ، وَلَوْ قُدِّرَ خُرُوجُهَا عَنْ الذِّهْنِ لَبَطَلَ فَهْمُ الشَّجَرِ وَالْفَرَسِ مِنْ الذِّهْنِ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجِهِ فِي حَدِّ الشَّيْءِ، فَمَنْ يَحُدُّ النَّبَاتَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: " جِسْمٌ نَامٍ " لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا اللَّازِمُ فَمَا لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ أَلْبَتَّةَ وَلَكِنَّ فَهْمَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، كَوُقُوعِ الظِّلِّ لِشَخْصِ الْفَرَسِ وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُفَارِقَ وُجُودَهُ عِنْدَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ بِاللُّزُومِ وَيَعْتَقِدُهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الذَّاتِ وَلَوَازِمِهِ وَلَيْسَ بِذَاتِيٍّ لَهُ، وَأَعْنِي بِهِ أَنَّ فَهْمَ حَقِيقَتِهِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ لَهُ إذْ الْغَافِلُ عَنْ وُقُوعِ الظِّلِّ يَفْهَمُ الْفَرَسَ وَالنَّبَاتَ بَلْ يَفْهَمُ الْجِسْمَ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةً وَصْفٌ لَازِمٌ لِلْأَرْضِ لَا يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَتُهُ لَهُ، وَلَكِنْ فَهْمُ الْأَرْضِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى فَهْمِ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً فَقَدْ يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ بَعْدُ أَنَّهُمَا مَخْلُوقَتَانِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَوَّلًا حَقِيقَةَ الْجِسْمِ ثُمَّ نَطْلُبُ بِالْبُرْهَانِ كَوْنَهُ مَخْلُوقًا، وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ مَا لَمْ نَعْلَمْ الْجِسْمَ.
وَأَمَّا الْعَارِضُ فَأَعْنِي بِهِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُلَازِمَ بَلْ يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَتُهُ إمَّا
(1/12)
 
 
سَرِيعًا كَحُمْرَةِ الْخَجَلِ أَوْ بَطِيئًا كَصُفْرَةِ الذَّهَبِ وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ وَسَوَادِ الزِّنْجِيِّ، وَرُبَّمَا لَا يَزُولُ فِي الْوُجُودِ كَزُرْقَةِ الْعَيْنِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ رَفْعُهُ فِي الْوَهْمِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةً وَكَوْنُ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ ذَا ظِلٍّ مَانِعٍ نُورَ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ مُلَازِمٌ لَا تُتَصَوَّرُ مُفَارَقَتُهُ.
وَمِنْ مُثَارَاتِ الْأَغَالِيطِ الْكَثِيرَةِ الْتِبَاسُ اللَّازِمِ التَّابِعِ بِالذَّاتِيِّ فَإِنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي اسْتِحَالَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ كَالْعِلَاوَةِ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي كِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ ".
فَإِذَا فَهِمْتَ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ فَلَا تُورَدُ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ إلَّا الذَّاتِيَّاتُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُورَدَ جَمِيعُ الذَّاتِيَّاتِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ بِهَا كُنْهُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، وَأَعْنِي بِالْمَاهِيَّةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِ " مَا هُوَ " فَإِنَّ الْقَائِلَ: مَا هُوَ؟ يَطْلُبُ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ فَلَا يَدْخُلُ فِي جَوَابِهِ إلَّا الذَّاتِيُّ. وَالذَّاتِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَيُسَمَّى جِنْسًا وَإِلَى خَاصٍّ وَيُسَمَّى نَوْعًا، فَإِنْ كَانَ الذَّاتِيُّ الْعَامُّ لَا أَعَمَّ مِنْهُ سُمِّيَ جِنْسَ الْأَجْنَاسِ، وَإِنْ كَانَ الذَّاتِيُّ الْخَاصُّ لَا أَخَصَّ مِنْهُ سُمِّيَ نَوْعَ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمَنْطِقِيِّينَ وَلْنُصَالِحْهُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَهُوَ كَالْمُسْتَعْمَلِ أَيْضًا فِي عُلُومِنَا، وَمِثَالُهُ أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْجَوْهَرُ يَنْقَسِمُ إلَى جِسْمٍ وَغَيْرِ جِسْمٍ وَالْجِسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى نَامٍ وَغَيْرِ نَامٍ وَالنَّامِي يَنْقَسِمُ إلَى حَيَوَانٍ وَغَيْرِ حَيَوَانٍ وَالْحَيَوَانُ يَنْقَسِمُ إلَى عَاقِلٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَغَيْرِ عَاقِلٍ، فَالْجَوْهَرُ جِنْسُ الْأَجْنَاسِ إذْ لَا أَعَمَّ مِنْهُ وَالْإِنْسَانُ نَوْعُ الْأَنْوَاعِ إذْ لَا أَخَصَّ مِنْهُ وَالنَّامِي نَوْعٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجِسْمِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ وَجِنْسٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ بَيْنَ النَّامِي الْأَعَمِّ وَالْإِنْسَانِ الْأَخَصِّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعَمَّ مِنْ الْجَوْهَرِ وَكَوْنُهُ مَوْجُودًا أَعَمُّ مِنْهُ؟ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَخَصَّ مِنْ الْإِنْسَانِ وَقَوْلُنَا شَيْخٌ وَصَبِيٌّ وَطَوِيلٌ وَقَصِيرٌ وَكَاتِبٌ وَخَيَّاطٌ أَخَصُّ مِنْهُ؟ قُلْنَا: لَمْ نَعْنِ فِي هَذَا الِاصْطِلَاحِ بِالْجِنْسِ، الْأَعَمَّ فَقَطْ بَلْ عَنَيْنَا الْأَعَمَّ الَّذِي هُوَ ذَاتِيٌّ لِلشَّيْءِ أَيْ دَاخِلٌ فِي جَوَابِ " مَا هُوَ " بِحَيْثُ لَوْ بَطَلَ عَنْ الذِّهْنِ التَّصْدِيقُ بِثُبُوتِهِ بَطَلَ الْمَحْدُودُ وَحَقِيقَتُهُ عَنْ الذِّهْنِ وَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَفْهُومًا لِلْعَقْلِ وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ فَالْمَوْجُودُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَاهِيَّةِ إذْ بُطْلَانُهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَاهِيَّةِ عَنْ الذِّهْنِ.
بَيَانُهُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا حَدُّ الْمُثَلَّثِ؟ فَقُلْنَا شَكْلٌ يُحِيطُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَضْلَاعٍ، أَوْ قَالَ: مَا حَدُّ الْمُسَبَّعِ؟ فَقُلْنَا شَكْلٌ يُحِيطُ بِهِ سَبْعَةُ أَضْلَاعٍ فَهِمَ السَّائِلُ حَدَّ الْمُسَبَّعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُسَبَّعَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ أَصْلًا فَبُطْلَانُ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ لَا يُبْطِلُ عَنْ ذِهْنِهِ فَهْمَ حَقِيقَةِ الْمُسَبَّعِ، وَلَوْ بَطَلَ عَنْ ذِهْنِهِ الشَّكْلُ لَبَطَلَ الْمُسَبَّعُ وَلَمْ يَبْقَ مَفْهُومًا عِنْدَهُ. وَأَمَّا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْإِنْسَانِ مِنْ كَوْنِهِ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ شَيْخًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ كَاتِبًا أَوْ أَبْيَضَ أَوْ مُحْتَرِفًا فَشَيْءٌ مِنْهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَاهِيَّةِ إذْ لَا يَتَغَيَّرُ جَوَابُ الْمَاهِيَّةِ بِتَغَيُّرِهِ، فَإِذَا قِيلَ لَنَا: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا إنْسَانٌ وَكَانَ صَغِيرًا فَكَبِرَ أَوْ قَصِيرًا فَطَالَ فَسُئِلْنَا مَرَّةً أُخْرَى: مَا هُوَ؟ لَسْتُ أَقُولُ مَنْ هُوَ لَكَانَ الْجَوَابُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ.
وَلَوْ أُشِيرَ إلَى مَا يَنْفَصِلُ مِنْ الْإِحْلِيلِ عِنْدَ الْوِقَاعِ وَقِيلَ: مَا هُوَ؟ لَقُلْنَا نُطْفَةٌ، فَإِذَا صَارَ جَنِينًا ثُمَّ مَوْلُودًا فَقِيلَ: مَا هُوَ؟ تَغَيَّرَ الْجَوَابُ وَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ نُطْفَةٌ بَلْ يُقَالَ إنْسَانٌ. وَكَذَلِكَ الْمَاءُ إذَا سَخِنَ فَقِيلَ: مَا هُوَ؟ قُلْنَا مَاءٌ، كَمَا فِي حَالَةِ الْبُرُودَةِ وَلَوْ اسْتَحَالَ بِالنَّارِ بُخَارًا ثُمَّ هَوَاءً ثُمَّ قِيلَ: مَا هُوَ؟ تَغَيَّرَ الْجَوَابُ. فَإِذَا انْقَسَمَتْ الصِّفَاتُ إلَى مَا يَتَبَدَّلُ الْجَوَابُ عَنْ الْمَاهِيَّةِ بِتَبَدُّلِهَا وَإِلَى مَا لَا يَتَبَدَّلُ فَلْنَذْكُرْ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ مَا يَدْخُلُ فِي الْمَاهِيَّةِ.
وَأَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ وَالرَّسْمِيُّ
(1/13)
 
 
فَمُؤْنَتُهُمَا خَفِيفَةٌ إذْ طَالِبهُمَا قَانِعٌ بِتَبْدِيلِ لَفْظِ الْعُقَارِ بِالْخَمْرِ وَتَبْدِيلِ لَفْظِ الْعِلْمِ بِالْمَعْرِفَةِ أَوْ بِمَا هُوَ وَصْفٌ عَرَضِيٌّ جَامِعٌ مَانِعٌ، وَإِنَّمَا الْعَوِيصُ الْمُتَعَذِّرُ هُوَ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الْكَاشِفُ عَنْ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ لَا غَيْرَ
 
الْقَانُونُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَأَرَدْتَ أَنْ تَحُدَّهُ حَدًّا حَقِيقِيًّا فَعَلَيْكَ فِيهِ وَظَائِفُ لَا يَكُونُ الْحَدُّ حَقِيقِيًّا إلَّا بِهَا، فَإِنْ تَرَكْتَهَا سَمَّيْنَاهُ رَسْمِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْرِبًا عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمُصَوِّرًا لِكُنْهِ مَعْنَاهُ فِي النَّفْسِ.
الْأُولَى: أَنْ تُجْمَعَ أَجْزَاءُ الْحَدِّ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفُصُولِ، فَإِذَا قَالَ لَكَ مُشِيرًا إلَى مَا يَنْبُتُ مِنْ الْأَرْضِ: مَا هُوَ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولَ: جِسْمٌ، لَكِنْ لَوْ اقْتَصَرْتَ عَلَيْهِ لَبَطَلَ عَلَيْكَ بِالْحَجَرِ فَتَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ فَتَقُولُ: نَامٍ، فَتَحْتَرِزُ بِهِ عَمَّا لَا يَنْمُو، فَهَذَا الِاحْتِرَازُ يُسَمَّى فَصْلًا أَيْ فَصَلْتَ الْمَحْدُودَ عَنْ غَيْرِهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَذْكُرَ جَمِيعَ ذَاتِيَّاتِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْفًا وَلَا تُبَالِي بِالتَّطْوِيلِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ الْأَعَمَّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَا تَقُولُ نَامٍ جِسْمٌ بَلْ بِالْعَكْسِ.
وَهَذِهِ لَوْ تَرَكْتَهَا لَتَشَوَّشَ النَّظْمُ وَلَمْ تَخْرُجْ الْحَقِيقَةُ عَنْ كَوْنِهَا مَذْكُورَةً مَعَ اضْطِرَابِ اللَّفْظِ، فَالْإِنْكَارُ عَلَيْكَ فِي هَذَا أَقَلُّ مِمَّا فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى الْجِسْمِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّكَ إذَا وَجَدَتْ الْجِنْسَ الْقَرِيبَ فَلَا تَذْكُرْ الْبَعِيدَ مَعَهُ فَتَكُونَ مُكَرِّرًا، كَمَا تَقُولُ: مَائِعٌ شَرَابٌ، أَوْ تَقْتَصِرُ عَلَى الْبَعِيدِ فَتَكُونُ مُبْعِدًا، كَمَا تَقُولُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، جِسْمٌ مُسْكِرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِنَبِ. وَإِذَا ذَكَرْتَ هَذَا فَقَدْ ذَكَرْتَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ وَمُطَّرِدٌ وَمُنْعَكِسٌ لَكِنَّهُ مُخْتَلٌّ قَاصِرٌ عَنْ تَصْوِيرِ كُنْهِ حَقِيقَةِ الْخَمْرِ، بَلْ لَوْ قُلْتَ: مَائِعٌ مُسْكِرٌ، كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْجِسْمِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ: شَرَابٌ مُسْكِرٌ، فَإِنَّهُ الْأَقْرَبُ الْأَخَصُّ وَلَا تَجِدُ بَعْدَهُ جِنْسًا أَخَصَّ مِنْهُ، فَإِذَا ذَكَرْتَ الْجِنْسَ فَاطْلُبْ بَعْدَهُ الْفَصْلَ إذْ الشَّرَابُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ فَاجْتَهِدْ أَنْ تَفْصِلَ بِالذَّاتِيَّاتِ إلَّا إذَا عَسُرَ عَلَيْكَ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ عَسِيرٌ فِي أَكْثِرْ الْحُدُودِ فَاعْدِلْ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ إلَى اللَّوَازِمِ وَاجْتَهِدْ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ اللَّوَازِمِ الظَّاهِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِنَّ الْخَفِيَّ لَا يُعْرَفُ،
كَمَا إذَا قِيلَ: مَا الْأَسَدُ؟ فَقُلْتَ: " سَبُعٌ أَبْخَرُ " لَيَتَمَيَّزَ بِالْبَخَرِ عَنْ الْكَلْبِ، فَإِنَّ الْبَخَرَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَسَدِ لَكِنَّهُ خَفِيٌّ، وَلَوْ قُلْتَ: سَبُعٌ شُجَاعٌ عَرِيضُ الْأَعَالِي، لَكَانَتْ هَذِهِ اللَّوَازِمُ وَالْأَعْرَاضُ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهَا أَجْلَى.
وَأَكْثَرُ مَا تَرَى فِي الْكُتُبِ مِنْ الْحُدُودِ رَسْمِيَّةً إذْ الْحَقِيقَةُ عَسِرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ يَسْهُلُ دَرَكُ بَعْضِ الذَّاتِيَّاتِ وَيَعْسُرُ بَعْضُهَا فَإِنَّ دَرَكَ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ حَتَّى لَا يَشِذَّ وَاحِدٌ مِنْهَا عَسِرٌ. وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ عَسِرٌ، وَرِعَايَةُ التَّرْتِيبِ حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ بِالْأَخَصِّ قَبْلَ الْأَعَمِّ عَسِرٌ وَطَلَبُ الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ عَسِرٌ، فَإِنَّكَ رُبَّمَا تَقُولُ فِي الْأَسَدِ إنَّهُ حَيَوَانٌ شُجَاعٌ وَلَا يَحْضُرُكَ لَفْظُ السَّبُعِ فَتَجْمَعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْعُسْرِ، وَأَحْسَنُ الرَّسْمِيَّاتِ مَا وُضِعَ فِيهِ الْجِنْسُ الْأَقْرَبُ وَتُمِّمَ بِالْخَوَاصِّ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ تَحْتَرِزَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ الْوَحْشِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ الْبَعِيدَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ الْمُتَرَدِّدَةِ، وَاجْتَهِدْ فِي الْإِيجَازِ مَا قَدَرْتَ وَفِي طَلَبِ اللَّفْظِ النَّصَّ مَا أَمْكَنَكَ، فَإِنْ أَعْوَزَكَ النَّصُّ وَافْتَقَرْتَ إلَى الِاسْتِعَارَةِ فَاطْلُبْ مِنْ الِاسْتِعَارَاتِ مَا هُوَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْغَرَضِ، وَاذْكُرْ مُرَادَكَ لِلسَّائِلِ فَمَا كُلُّ أَمْرٍ مَعْقُولٍ لَهُ عِبَارَةٌ صَرِيحَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِنْبَاءِ عَنْهُ.
وَلَوْ طَوَّلَ مُطَوِّلٌ وَاسْتَعَارَ مُسْتَعِيرٌ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ وَعُرِفَ مُرَادُهُ بِالتَّصْرِيحِ أَوْ عُرِفَ بِالْقَرِينَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْظِمَ صَنِيعَهُ وَيُبَالِغَ فِي
(1/14)
 
 
ذَمِّهِ إنْ كَانَ قَدْ كَشَفَ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِذِكْرِ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهَذِهِ الْمَزَايَا تَحْسِينَاتٌ وَتَزْيِينَاتٌ كَالْأَبَازِيرِ مَنْ الطَّعَامِ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا الْمُتَحَذْلِقُونَ يَسْتَعْظِمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَسْتَنْكِرُونَهُ غَايَةَ الِاسْتِنْكَارِ لِمَيْلِ طِبَاعِهِمْ الْقَاصِرَةِ عَنْ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ إلَى الْوَسَائِلِ وَالرُّسُومِ وَالتَّوَابِعِ حَتَّى رُبَّمَا أَنْكَرُوا قَوْلَ الْقَائِلِ فِي الْعِلْمِ: إنَّهُ الثِّقَةُ بِالْمَعْلُومِ أَوْ إدْرَاكُ الْمَعْلُومِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الثِّقَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْفَهْمِ، وَهَذَا هَوَسٌ لِأَنَّ الثِّقَةَ إذَا قُرِنَتْ بِالْمَعْلُومِ تَعَيَّنَ فِيهَا جِهَةُ الْفَهْمِ.
وَمَنْ قَالَ: حَدُّ اللَّوْنِ مَا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمِيزَانِ وَالشَّمْسِ وَالْعُضْوِ الْبَاصِرِ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَاسَّةِ أَذْهَبَتْ عَنْهُ الِاحْتِمَالَ وَحَصَلَ التَّفْهِيمُ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ السُّؤَالِ، وَاللَّفْظُ غَيْرُ مُرَادٍ بِعَيْنِهِ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ إلَّا عِنْدَ الْمُرْتَسِمِ الَّذِي يَحُومُ حَوْلَ الْعِبَارَاتِ فَيَكُونُ اعْتِرَاضُهُ عَلَيْهَا وَشَغَفُهُ بِهَا.
 
الْقَانُونُ الرَّابِعُ: فِي طَرِيقِ اقْتِنَاصِ الْحَدِّ. اعْلَمْ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَحْصُلُ بِالْبُرْهَانِ، لِأَنَّا إذَا قُلْنَا فِي حَدِّ الْخَمْرِ: إنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ، فَقِيلَ لَنَا: لِمَ؟ لَكَانَ مُحَالًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا خَصْمٌ وَكُنَّا نَطْلُبُهُ فَكَيْفَ نَطْلُبُهُ بِالْبُرْهَانِ وَقَوْلُنَا: الْخَمْرُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ، دَعْوَى هِيَ قَضِيَّةٌ مَحْكُومُهَا الْخَمْرُ وَحُكْمُهَا أَنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ إنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً بِلَا وَسَطٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبُرْهَانِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ وَافْتَقَرَتْ إلَى وَسَطٍ وَهُوَ مَعْنَى الْبُرْهَانِ أَعْنِي طَلَبَ الْوَسَطِ كَانَ صِحَّةُ ذَلِكَ الْوَسَطِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَصِحَّةُ الْحُكْمِ لِلْوَسَطِ كُلُّ وَاحِدٍ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَبِمَاذَا تُعْرَفُ صِحَّتُهَا؟
فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى وَسَطٍ تَدَاعَى إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَإِنْ وَقَفَ فِي مَوْضِعٍ بِغَيْرِ وَسَطٍ فَبِمَاذَا تُعْرَفُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صِحَّتُهُ؟ فَلْيُتَّخَذْ ذَلِكَ طَرِيقًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، مِثَالُهُ لَوْ قُلْنَا فِي حَدِّ الْعِلْمِ: إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ، فَقِيلَ: لِمَ؟ فَقُلْنَا: لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ فَهُوَ اعْتِقَادٌ مَثَلًا وَكُلَّ اعْتِقَادٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ فَكُلُّ عِلْمٍ إذَنْ مَعْرِفَةٌ لِأَنَّ هَذَا طَرِيقُ الْبُرْهَانِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَيُقَالُ وَلِمَ قُلْتُمْ كُلُّ عِلْمٍ فَهُوَ اعْتِقَادٌ وَلِمَ قُلْتُمْ كُلُّ اعْتِقَادٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ؟ فَيَصِيرُ السُّؤَالُ سُؤَالَيْنِ، وَهَكَذَا يَتَدَاعَى إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ.
بَلْ الطَّرِيقُ أَنَّ النِّزَاعَ إنْ كَانَ مَعَ خَصْمٍ أَنْ يُقَالَ: عَرَفْنَا صِحَّتَهُ بِاطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ فَهُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ الْخَصْمُ بِالضَّرُورَةِ. أَمَّا كَوْنُهُ مُعْرِبًا عَنْ تَمَامِ الْحَقِيقَةِ رُبَّمَا يُنَازَعَ فِيهِ وَلَا يُقَرُّ بِهِ، فَإِنْ مُنِعَ اطِّرَادُهُ وَانْعِكَاسُهُ عَلَى أَصْلِ نَفْسِهِ طَالَبْنَاهُ بِأَنْ يَذْكُرَ حَدَّ نَفْسِهِ وَقَابَلْنَا أَحَدَ الْحَدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَعَرَفْنَا مَا فِيهِ التَّفَاوُتُ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَعَرَفْنَا الْوَصْفَ الَّذِي فِيهِ يَتَفَاوَتَانِ وَجَرَّدْنَا النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَبْطَلْنَاهُ بِطَرِيقَةٍ أَوْ أَثْبَتْنَاهُ بِطَرِيقَةٍ، مِثَالُهُ إذَا قُلْنَا: الْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ وَوَلَدُ الْمَغْصُوبِ مَغْصُوبٌ فَكَانَ مَضْمُونًا فَقَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبِ مَغْصُوبٌ، قُلْنَا: حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ.
وَقَدْ وُجِدَ فَرُبَّمَا مُنِعَ كَوْنُ الْيَدِ عَادِيَةً وَكَوْنُهُ إثْبَاتًا، بَلْ نَقُولُ: هَذَا ثُبُوتٌ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِنَا بَلْ رُبَّمَا قَالَ: نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا حَدُّ الْغَصْبِ فَهَذَا لَا يُمْكِنْ إقَامَةُ بِرِهَانٍ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ: هُوَ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ فَمَا الْحَدُّ عِنْدَكَ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ حَتَّى نَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ التَّفَاوُتِ، فَيَقُولُ: بَلْ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْيَدِ الْمُحِقَّةِ، فَنَقُولُ: قَدْ زِدْتَ وَصْفًا وَهُوَ الْإِزَالَةُ.
فَلْنَنْظُرْ هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقْدِرَ عَلَى اعْتِرَافِ الْخَصْمِ بِثُبُوتِ الْغَصْبِ مَعَ عَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ، فَإِنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ بَانَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ مَحْذُوفَةٌ وَذَلِكَ بِأَنْ نَقُولَ: الْغَاصِبُ مِنْ الْغَصْبِ
(1/15)
 
 
يُضْمَنُ لِلْمَالِكِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْيَدَ الْمُبْطِلَةَ وَلَمْ يُزِلْ الْمُحِقَّةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ زَائِلَةً، فَهَذَا طَرِيقُ قَطْعِ النِّزَاعِ مَعَ الْمُنَاظِرِ. وَأَمَّا النَّاظِرُ مَعَ نَفْسِهِ إذَا تَحَرَّرَتْ لَهُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَتَخَلَّصَ لَهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَا تَحَرَّرَ فِي مَذْهَبِهِ عَلِمَ أَنَّهُ وَاجِدٌ لِحَدٍّ فَلَا يُعَانِدُ نَفْسَهُ.
 
الْقَانُونُ الْخَامِسُ: فِي حَصْرِ مَدَاخِلِ الْخَلَلِ فِي الْحُدُودِ
وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَإِنَّهُ تَارَةً يَدْخُلُ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ الْفَصْلِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا. أَمَّا الْخَلَلُ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ فَأَنْ يُؤْخَذَ الْفَصْلُ بَدَلُهُ، كَمَا يُقَالُ فِي الْعِشْقِ: إنَّهُ إفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّهُ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ، فَالْإِفْرَاطُ يَفْصِلُهَا عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْخَذَ الْمَحَلُّ بَدَلَ الْجِنْسِ كَقَوْلِكَ فِي الْكُرْسِيِّ: إنَّهُ خَشَبٌ يُجْلَسُ عَلَيْهِ، وَفِي السَّيْفِ: إنَّهُ حَدِيدٌ يُقْطَعُ بِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِلسَّيْفِ: إنَّهُ آلَةٌ صِنَاعِيَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ مُسْتَطِيلَةٍ عَرْضُهَا كَذَا وَيُقْطَعُ بِهَا كَذَا، فَالْآلَةُ جِنْسٌ وَالْحَدِيدُ مَحَلُّ الصُّورَةِ لَا جِنْسٌ.
وَأَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يُؤْخَذَ بَدَلُ الْجِنْسِ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَالْآنَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، كَقَوْلِكَ لِلرَّمَادِ: إنَّهُ خَشَبٌ مُحْتَرِقٌ، وَلِلْوَلَدِ: إنَّهُ نُطْفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ، فَإِنَّ الْحَدِيدَ مَوْجُودٌ فِي السَّيْفِ فِي الْحَالِ وَالنُّطْفَةُ وَالْخَشَبُ غَيْرُ مَوْجُودَيْنِ فِي الْوَلَدِ وَالرَّمَادِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْخَذَ الْجُزْءُ بَدَلَ الْجِنْسِ كَمَا يُقَالُ فِي حَدِّ الْعَشَرَةِ: إنَّهَا خَمْسَةٌ وَخَمْسَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تُوضَعَ الْقُدْرَةُ مَوْضِعَ الْمَقْدُورِ كَمَا يُقَالُ حَدُّ الْعَفِيفِ هُوَ الَّذِي يَقْوَى عَلَى اجْتِنَابِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَهُوَ فَاسِدٌ بَلْ هُوَ الَّذِي يُتْرَكُ وَإِلَّا فَالْفَاسِقُ يَقْوَى عَلَى التَّرْكِ وَلَا يَتْرُكُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ اللَّوَازِمَ الَّتِي لَيْسَتْ بِذَاتِيَّةٍ بَدَلَ الْجِنْسِ، كَالْوَاحِدِ وَالْمَوْجُودِ إذَا أَخَذْتَهُ فِي حَدِّ الشَّمْسِ أَوْ الْأَرْضِ مَثَلًا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ النَّوْعَ مَكَانَ الْجِنْسِ كَقَوْلِكَ: الشَّرُّ هُوَ ظُلْمُ النَّاسِ، وَالظُّلْمُ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِّ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْفَصْلِ فَأَنْ يَأْخُذَ اللَّوَازِمَ وَالْعَرَضِيَّاتِ فِي الِاحْتِرَازِ بَدَلَ الذَّاتِيَّاتِ وَأَنْ لَا يُورِدَ جَمِيعَ الْفُصُولِ. وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُشْتَرَكَةُ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحَدَّ الشَّيْءُ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَدُّ الْحَادِثِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدُّ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْخَفَاءِ، كَقَوْلِكَ: الْعِلْمُ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَوْ مَا يَكُونُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَرَّفَ الضِّدُّ بِالضِّدِّ فَيَقُولُ: حَدُّ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ بِظَنٍّ وَلَا جَهْلٍ، وَهَكَذَا حَتَّى يَحْصُرَ الْأَضْدَادَ، وَحَدُّ الزَّوْجِ مَا لَيْسَ بِفَرْدٍ، ثُمَّ يُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ فِي حَدِّ الْفَرْدِ: مَا لَيْسَ بِزَوْجٍ، فَيَدُورُ الْأَمْرُ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بَيَانٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُضَافُ فِي حَدِّ الْمُضَافِ وَهُمَا مُتَكَافِئَانِ فِي الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَدُّ الْأَبِ مَنْ لَهُ ابْنٌ، ثُمَّ لَا يَعْجَزُ أَنْ يَقُولَ حَدُّ الِابْنِ مَنْ لَهُ أَبٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: الْأَبُ حَيَوَانٌ تَوَلَّدَ مِنْ نُطْفَتِهِ حَيَوَانٌ آخَرُ هُوَ مِنْ نَوْعِهِ، فَهُوَ أَبٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يُحِيلُ عَلَى الِابْنِ فَإِنَّهُمَا فِي الْجَهْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يَتَلَازَمَانِ. وَمَنْ يَقُولُ فِي حَدُّ الشَّمْسِ: إنَّهُ كَوْكَبٌ يَطْلُعُ نَهَارًا، فَيُقَالُ وَمَا حَدُّ النَّهَارِ؟ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: النَّهَارُ زَمَانٌ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا، إنْ أَرَادَ الْحَدَّ الصَّحِيحَ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهَا.
 
الْقَانُونُ السَّادِسُ: فِي أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَا تَرْكِيبَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لَا يُمْكِنُ حَدُّهُ إلَّا بِطَرِيقِ
(1/16)
 
 
شَرْحِ اللَّفْظِ أَوْ بِطَرِيقِ الرَّسْمِ، وَأَمَّا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فَلَا، وَالْمَعْنَى الْمُفْرَدُ مِثْلُ الْمَوْجُودِ. فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ الْمَوْجُودِ؟ فَغَايَتُكَ أَنْ تَقُولَ: هُوَ الشَّيْءُ أَوْ الثَّابِتُ، فَتَكُونَ قَدْ أَبْدَلْتَ اسْمًا بِاسْمٍ مُرَادِفٍ لَهُ رُبَّمَا يَتَسَاوَيَانِ فِي التَّفْهِيمِ. وَرُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَخْفَى فِي مَوْضِعِ اللِّسَانِ كَمَنْ يَقُولُ: مَا الْعُقَارُ؟ فَيُقَالُ: الْخَمْرُ، وَمَا الْغَضَنْفَرُ؟ فَيُقَالُ الْأَسَدُ.
وَهَذَا أَيْضًا إنَّمَا يَحْسُنُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَوَابِ أَشْهَرَ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ ثُمَّ لَا يَكُونُ إلَّا شَرْحًا لِلَّفْظِ، وَإِلَّا فَمَنْ يَطْلُبُ تَلْخِيصَ ذَاتِ الْأَسَدِ فَلَا يَتَخَلَّصُ لَهُ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ إلَّا بِأَنْ يَقُولَ: هُوَ سَبُعٌ مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَمَّا تَكْرَارُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ فَلَا يُغْنِيهِ. وَلَوْ قُلْتَ: حَدُّ الْمَوْجُودِ أَنَّهُ الْمَعْلُومُ أَوْ الْمَذْكُورُ، وَقَيَّدْتَهُ بِقَيْدٍ احْتَرَزْتَ بِهِ عَنْ الْمَعْدُومِ، كُنْتَ ذَكَرْتَ شَيْئًا مِنْ تَوَابِعِهِ وَلَوَازِمِهِ وَكَانَ حَدُّكَ رَسْمِيًّا غَيْرَ مُعْرِبٍ عَنْ الذَّاتِ فَلَا يَكُونُ حَقِيقِيًّا، فَإِذًا الْمَوْجُودُ لَا حَدَّ لَهُ فَإِنَّهُ مَبْدَأُ كُلِّ شَرْحٍ فَكَيْفَ يُشْرَحُ فِي نَفْسِهِ؟ إنَّمَا قُلْنَا الْمَعْنَى الْمُفْرَدُ لَيْسَ لَهُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ مَا حَدُّ الشَّيْءِ، قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَا حَدُّ هَذِهِ الدَّارِ، وَلِلدَّارِ جِهَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ إلَيْهَا يَنْتَهِي الْحَدُّ فَيَكُونُ تَحْدِيدُ الدَّارِ بِذِكْرِ جِهَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي الدَّارُ مَحْصُورَةٌ مُسَوَّرَةٌ بِهَا.
فَإِذَا قَالَ: مَا حَدُّ السَّوَادِ؟ فَكَأَنَّهُ يَطْلُبُ بِهِ الْمَعَانِيَ وَالْحَقَائِقَ الَّتِي بِائْتِلَافِهَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ السَّوَادِ، فَإِنَّ السَّوَادَ لَوْنٌ وَمَوْجُودٌ وَعَرَضٌ وَمَرْئِيٌّ وَمَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ وَوَاحِدٌ وَكَثِيرٌ وَمُشْرِقٌ وَبَرَّاقٌ وَكَدِرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ بَعْضُهَا عَارِضٌ يَزُولُ وَبَعْضُهَا لَازِمٌ لَا يَزُولُ وَلَكِنْ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً كَكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَوَاحِدًا وَكَثِيرًا، وَبَعْضُهَا ذَاتِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ السَّوَادِ دُونَ فَهِمِهِ، كَكَوْنِهِ لَوْنًا.
فَطَالِبُ الْحَدِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إلَى كَمْ مَعْنًى تَنْتَهِي حُدُودُ حَقِيقَةِ السَّوَادِ؟ لِتُجْمَعَ لَهُ تِلْكَ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةُ، وَيَتَخَلَّصُ بِأَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَعَمِّ وَيَخْتِمَ بِالْأَخَصِّ وَلَا يَتَعَرَّضَ لِلْعَوَارِضِ. وَرُبَّمَا يُطْلَبُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلَّوَازِمِ بَلْ لِلذَّاتِيَّاتِ خَاصَّةً، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مُؤْتَلِفًا مِنْ ذَاتِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْمَوْجُودِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَحْدِيدُهُ؟ فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا حَدُّ الْكُرَةِ؟ وَيُقَدِّرُ الْعَالَمَ كُلَّهُ كُرَةً، فَكَيْفَ يُذْكَرُ حَدُّهُ عَلَى مِثَالِ حُدُودِ الدَّارِ إذْ لَيْسَ لَهُ حُدُودٌ، فَإِنَّ حَدَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُنْقَطَعِهِ وَمُنْقَطَعُهُ سَطْحُهُ الظَّاهِرُ وَهُوَ سَطْحٌ وَاحِدٌ مُتَشَابِهٌ وَلَيْسَ سُطُوحًا مُخْتَلِفَةً وَلَا هُوَ مُنْتَهٍ إلَى مُخْتَلِفَةٍ حَتَّى يُقَالَ أَحَدُ حُدُودِهِ يَنْتَهِي إلَى كَذَا وَالْآخَرُ إلَى كَذَا.
فَهَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْمَقْصُودِ رُبَّمَا يُفْهِمُ مَقْصُودَ هَذَا الْكَلَامِ. وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قُولِي السَّوَادُ مُرَكَّبٌ مِنْ مَعْنَى اللَّوْنِيَّةِ وَالسَّوَادِيَّةِ وَاللَّوْنِيَّةُ جِنْسٌ وَالسَّوَادِيَّةُ نَوْعٌ أَنَّ فِي السَّوَادِ ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً مُتَبَايِنَةً مُتَفَاضِلَةً، فَلَا تَقُلْ: إنَّ السَّوَادَ لَوْنٌ وَسَوَادٌ بَلْ لَوْنُ ذَلِكَ اللَّوْنِ بِعَيْنِهِ هُوَ سَوَادٌ وَمَعْنَاهُ يَتَرَكَّبُ وَيَتَعَدَّدُ لِلْعَقْلِ حَتَّى يَعْقِلَ اللَّوْنِيَّةَ مُطْلَقًا وَلَا يَخْطِرُ لَهُ السَّوَادُ مَثَلًا ثُمَّ يَعْقِلُ السَّوَادَ فَيَكُونُ الْعَقْلُ قَدْ عَقَلَ أَمْرًا زَائِدًا لَا يُمْكِنُهُ جَحْدُ تَفَاصِيلِهِ فِي الذِّهْنِ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ تَفَاصِيلَهُ فِي الْوُجُودِ، وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ مُنْكِرَ الْحَالِ يَقْدِرُ عَلَى حَدِّ شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ.
وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَ اللَّوْنِيَّةَ حَالًا لِأَنَّ مُنْكِرَ الْحَالِ إذَا ذَكَرَ الْجِنْسَ وَاقْتَصَرَ بَطَلَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ زَادَ شَيْئًا لِلِاحْتِرَازِ فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الزِّيَادَةَ عَيْنُ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ كَانَ عَيْنَهُ فَهُوَ تَكْرَارٌ فَاطْرَحْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَمْرَيْنِ.
وَإِنْ قَالَ فِي حَدِّ الْجَوْهَرِ: إنَّهُ مَوْجُودٌ بَطَلَ بِالْعَرَضِ، فَإِنْ زَادَ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ فَيُقَالُ لَهُ: قَوْلُكَ مُتَحَيِّزٌ مَفْهُومُهُ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَوْجُودِ أَوْ عَيْنُهُ؟ فَإِنْ كَانَ عَيْنَهُ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ
(1/17)
 
 
مَوْجُودٌ مَوْجُودٌ وَالْمُتَرَادِفَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ فَهُوَ إذًا يَبْطُلُ بِالْعَرَضِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ حَتَّى انْدَفَعَ النَّقْضُ بِقَوْلِكَ " مُتَحَيِّزٌ " وَلَمْ يَنْدَفِعْ بِقَوْلِكَ " مَوْجُودٌ " فَهُوَ غَيْرٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، فَوَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِتَغَايُرِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْلِ.
وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا يُحَدُّ لَهُ بِحَدٍّ لَفْظِيٍّ كَقَوْلِكَ فِي حَدِّ الْمَوْجُودِ: إنَّهُ الشَّيْءُ، أَوْ رَسْمِيٍّ كَقَوْلِكَ فِي حَدِّ الْمَوْجُودِ: إنَّهُ الْمُنْقَسِمُ إلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَادِرِ وَالْمَقْدُورِ أَوْ الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ أَوْ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ أَوْ الْبَاقِي وَالْفَانِي أَوْ مَا شِئْت مِنْ لَوَازِمِ الْمَوْجُودِ وَتَوَابِعِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ يُنَبِّئُ عَنْ ذَاتِ الْمَوْجُودِ عَنْ تَابِعٍ لَازِمٍ لَا يُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَكَّبَ إذَا حَدَّدْتَهُ بِذِكْرِ آحَادِ الذَّاتِيَّاتِ تَوَجَّهَ السُّؤَالُ عَنْ حَدِّ الْآحَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ الشَّجَرِ؟ فَقُلْتَ: نَبَاتٌ قَائِمٌ عَلَى سَاقٍ، فَقِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ النَّبَاتِ؟ فَتَقُولُ: جِسْمٌ نَامٍ، فَيُقَالُ: مَا حَدُّ الْجِسْمِ؟ فَتَقُولُ: جَوْهَرٌ مُؤْتَلِفٌ أَوْ الْجَوْهَرُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ الْعَمِيقُ، فَيُقَالُ وَمَا حَدُّ الْجَوْهَرِ؟ وَهَكَذَا، فَإِنَّ كُلَّ مُؤَلَّفٍ فِيهِ مُفْرَدَاتٌ فَلَهُ حَقِيقَةٌ وَحَقِيقَتُهُ أَيْضًا تَأْتَلِفُ مِنْ مُفْرَدَاتٍ.
وَلَا تَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَتَمَادَى إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ بَلْ يَنْتَهِي إلَى مُفْرَدَاتٍ يَعْرِفُهَا الْعَقْلُ وَالْحِسُّ مَعْرِفَةً أَوَّلِيَّةً لَا تَحْتَاجُ إلَى طَلَبٍ بِصِيغَةِ الْحَدِّ، كَمَا أَنَّ الْعُلُومَ التَّصْدِيقِيَّةَ تُطْلَبُ بِالْبُرْهَانِ عَلَيْهَا وَكُلُّ بُرْهَانٍ يَنْتَظِمُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُقَدِّمَةٍ أَيْضًا مِنْ بُرْهَانٍ يَأْتَلِفُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَهَكَذَا فَيَتَمَادَى إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَوَّلِيَّاتٍ، فَكَمَا أَنَّ فِي الْعُلُومِ أَوَّلِيَّاتٍ فَكَذَلِكَ فِي الْمَعَارِفِ، فَطَالِبُ حُدُودِ الْأَوَّلِيَّاتِ إنَّمَا يَطْلُبُ شَرْحَ اللَّفْظِ لَا الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ تَكُونُ ثَابِتَةً فِي عَقْلِهِ بِالْفِطْرَةِ الْأُولَى كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ فِي الْعَقْلِ، فَإِنْ طَلَبَ الْحَقِيقَةَ فَهُوَ مُعَانِدٌ كَمِنْ يَطْلُبُ الْبُرْهَانَ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ، فَهَذَا بَيَانُ مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْقَوَانِينِ
 
[الْفَنُّ الثَّانِي مِنْ دِعَامَةِ الْحَدِّ فِي الِامْتِحَانَاتِ لِلْقَوَانِينِ]
ِ فِي الِامْتِحَانَاتِ لِلْقَوَانِينِ بِحُدُودٍ مُفَصَّلَةٍ:
وَقَدْ أَكْثَرْنَا أَمْثِلَتَهَا فِي كِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ وَمِحَكِّ النَّظَرِ " وَنَحْنُ الْآنَ مُقْتَصِرُونَ عَلَى حَدِّ الْحَدِّ وَحَدِّ الْعِلْمِ وَحَدِّ الْوَاجِبِ لِأَنَّ هَذَا النَّمَطَ مِنْ الْكَلَامِ دَخِيلٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَلَا يَلِيقُ فِيهِ الِاسْتِقْصَاءُ.
الِامْتِحَانُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ الْحَدِّ، فَمِنْ قَائِلٍ، يَقُولُ: حَدُّ الشَّيْءِ هُوَ حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ، وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: حَدُّ الشَّيْءِ هُوَ اللَّفْظُ الْمُفَسِّرُ لِمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ وَيَجْمَعُ، وَمِنْ قَائِلٍ ثَالِثٍ يَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ فَيَنْصُرُ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَخَبَّطَ عَقْلُ هَذَا الثَّالِثِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ التَّوَارُدِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَانِ قَدْ تَبَاعَدَا وَتَنَافَرَا وَمَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا مَنْشَأُ هَذَا الْغَلَطِ الذُّهُولُ عَنْ مَعْرِفَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَإِنَّ مَنْ يَحُدُّ الْعَيْنَ بِأَنَّهُ الْعُضْوُ الْمُدْرِكُ لِلْأَلْوَانِ بِالرُّؤْيَةِ لَمْ يُخَالِفْ مَنْ حَدَّهُ بِأَنَّهُ الْجَوْهَرُ الْمَعْدِنِيُّ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ النُّقُودِ بَلْ حَدُّ هَذَا أَمْرًا مُبَايِنًا لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي اسْمِ الْعَيْنِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ قَانُونٌ كَثِيرُ النَّفْعِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الصَّحِيحُ عِنْدَكَ فِي حَدِّ الْحَدِّ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَلَبَ الْمَعَانِيَ مِنْ الْأَلْفَاظِ ضَاعَ وَهَلَكَ وَكَانَ كَمَنْ اسْتَدْبَرَ الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَطْلُبُهُ وَمَنْ قَرَّرَ الْمَعَانِيَ أَوَّلًا فِي عَقْلِهِ ثُمَّ أَتْبَعَ الْمَعَانِيَ الْأَلْفَاظَ فَقَدْ اهْتَدَى. فَلْنُقَرِّرْ الْمَعَانِيَ، فَنَقُولُ: الشَّيْءُ لَهُ فِي الْوُجُودِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ
الْأُولَى: حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِهِ.
(1/18)
 
 
الثَّانِيَةُ: ثُبُوتُ مِثَالِ حَقِيقَةٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِلْمِ.
الثَّالِثَةُ: تَأْلِيفُ صَوْتٍ بِحُرُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي فِي النَّفْسِ.
الرَّابِعَةِ: تَأْلِيفُ رُقُومٍ تُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ دَالَّةٍ عَلَى اللَّفْظِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، فَالْكِتَابَةُ تَبَعٌ لِلَّفْظِ إذْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ تَبَعٌ لِلْعِلْمِ إذْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ تَبَعٌ لِلْمَعْلُومِ إذْ يُطَابِقُهُ وَيُوَافِقُهُ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُتَطَابِقَةٌ مُتَوَازِيَةٌ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ وُجُودَانِ حَقِيقِيَّانِ لَا يَخْتَلِفَانِ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ وَالْآخَرَيْنِ وَهُوَ اللَّفْظُ وَالْكِتَابَةُ يَخْتَلِفَانِ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ لِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ بِالِاخْتِيَارِ، وَلَكِنَّ الْأَوْضَاعَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي أَنَّهَا قُصِدَ بِهَا مُطَابَقَةُ الْحَقِيقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدَّ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لِمُشَارَكَتِهِ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ، فَانْظُرْ الْمَنْعَ أَيْنَ تَجِدُهُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. فَإِذَا ابْتَدَأْتَ بِالْحَقِيقَةِ لَمْ تَشُكَّ فِي أَنَّهَا حَاصِرَةٌ لِلشَّيْءِ مَخْصُوصَةٌ بِهِ إذْ حَقِيقَةُ كُلِّ شَيْءٍ خَاصِّيَّتُهُ الَّتِي لَهُ وَلَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَإِذَا الْحَقِيقَةُ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى مِثَالِ الْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَجَدْتَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمَانِعَةِ وَالْمُطَابَقَةُ تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَنْعِ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى الْعِبَارَةِ عَنْ الْعِلْمِ وَجَدْتَهَا أَيْضًا حَاصِرَةً فَإِنَّهَا مُطَابِقَةٌ لِلْعِلْمِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمُطَابِقُ لِلْمُطَابِقِ مُطَابِقٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى الْكِتَابَةِ وَجَدْتَهَا مُطَابِقَةً لِلَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِيقَةِ فَهِيَ أَيْضًا مُطَابِقَةٌ فَقَدْ وَجَدْتَ الْمَنْعَ فِي الْكُلِّ إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِإِطْلَاقِ الْحَدِّ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ الرَّابِعَةُ وَلَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الثَّانِي بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَبَيْنَ اللَّفْظِ وَكُلُّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدَّانِ مُخْتَلِفَانِ كَلَفْظِ الْعَيْنِ. فَإِذًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ يَكُونُ حَدًّا لِحَدٍّ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ الثَّانِي يَكُونُ حَدًّا لِحَدٍّ أَنَّهُ اللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ، إلَّا أَنَّ الَّذِينَ أَطْلَقُوهُ عَلَى اللَّفْظِ أَيْضًا اصْطِلَاحُهُمْ مُخْتَلِفٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَدِّ اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ، فَحَدُّ الْحَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقْنَعُ بِتَكْرِيرِ اللَّفْظِ كَقَوْلِكَ الْمَوْجُودُ هُوَ الشَّيْءُ وَالْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْحَرَكَةُ هِيَ النَّقْلَةُ هُوَ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ عِنْدَ السَّائِلِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَجْمَعَ وَيَمْنَعَ. وَأَمَّا حَدُّ الْحَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقْنَعُ بِالرَّسْمِيَّاتِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الشَّارِحُ لِلشَّيْءِ بِتَعْدِيدِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ اللَّازِمَةِ عَلَى وَجْهٍ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ تَمْيِيزًا ي