أصول الشاشي

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: أصول الشاشي
المؤلف: نظام الدين أبو علي أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي (المتوفى: 344هـ)
عدد الأجزاء: 1     
 
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الذى أَعلَى منزلَة الْمُؤمنِينَ بكريم خطابه رفع دَرَجَة الْعَالمين بمعاني كِتَابه وَخص المستنبطين مِنْهُم بمزيد الْإِصَابَة وثوابه والصلوة عَليّ النَّبِي وَأَصْحَابه وَالسَّلَام على أبي حنيفَة وأحبابه وَبعد فَإِن أصُول الْفِقْه أَرْبَعَة كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله وَإِجْمَاع الْأمة وَالْقِيَاس فَلَا بُد من الْبَحْث فِي كل وَاحِد من هَذِه الأ قسام ليعلم بذلك طَرِيق تخرج الأ حكام
الْبَحْث الأول فِي كتاب الله تَعَالَى
 
1 - فصل فِي الْخَاص وَالْعَام
 
فالخاص لفظ وضع لِمَعْنى مَعْلُوم أَو لمسمى مَعْلُوم على الِانْفِرَاد كَقَوْلِنَا فِي تَخْصِيص الْفَرد زيد وَفِي تَخْصِيص النَّوْع رجل وَفِي تَخْصِيص الْجِنْس إِنْسَان
(1/13)
 
 
1 - 1 بحث الْعَام وَالْخَاص
 
وَالْعَام كل لفظ يَنْتَظِم جمعا من الْأَفْرَاد
إِمَّا لفظا كَقَوْلِنَا مُسلمُونَ ومشرقون وَإِمَّا معنى كَقَوْلِنَا من وَمَا
وَحكم الْخَاص من الْكتاب وجوب الْعَمَل بِهِ لَا محَالة فَإِن قابله خبر الْوَاحِد أَو الْقيَاس فَإِن أمكن الْجمع بَينهمَا بِدُونِ تَغْيِير فِي حكم الْخَاص يعْمل بهما وَإِلَّا يعْمل بِالْكتاب وَيتْرك مَا يُقَابله مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} فَإِن لَفْظَة الثَّلَاثَة خَاص فِي تَعْرِيف عدد مَعْلُوم فَيجب الْعَمَل بِهِ
وَلَو حمل الإ قراء على الا طهار كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي بِاعْتِبَار أَن الطُّهْر مُذَكّر دون الْحيض وَقد ورد الْكتاب فِي الْجمع بِلَفْظ التَّأْنِيث دلّ على أَن جمع الْمُذكر وَهُوَ الطُّهْر لزم ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص لِأَن من حمله على الطُّهْر لَا يُوجب ثَلَاثَة أطهار بل طهرين وَبَعض الثَّالِث وَهُوَ الَّذِي وَقع فِيهِ الطَّلَاق فَيخرج على هَذَا حكم الرّجْعَة فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة وزواله وَتَصْحِيح نِكَاح الْغَيْر وإبطاله وَحكم الْحَبْس وَالْإِطْلَاق والمسكن والإنفاق وَالْخلْع وَالطَّلَاق وَتزَوج الزَّوْج بأختها وَأَرْبع سواهَا وَأَحْكَام الْمِيرَاث مَعَ كَثْرَة تعدادها وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى
(1/17)
 
 
2 - 2 بحث تَقْسِيم الْعَام إِلَى قسمَيْنِ
 
{قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} خَاص فِي التَّقْدِير الشَّرْعِيّ فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِاعْتِبَار أَنه عقد مَالِي فَيعْتَبر بِالْعُقُودِ الْمَالِيَّة فَيكون تَقْدِير المَال فِيهِ موكولا إِلَى رَأْي الزَّوْجَيْنِ كَمَا ذكره الشَّافِعِي وَفرع على هَذَا أَن التخلي لنفل الْعِبَادَة أفضل من الِاشْتِغَال بِالنِّكَاحِ وأباح إِبْطَاله بِالطَّلَاق كَيفَ مَا شَاءَ الزَّوْج من جمع وتفريق وأباح إرْسَال الثَّلَاث جملَة وَاحِدَة وَجعل عقد النِّكَاح قَابلا للْفَسْخ بِالْخلْعِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} خَاص فِي وجود النِّكَاح من الْمَرْأَة فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
أَيّمَا امرآة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل بَاطِل بَاطِل وَيتَفَرَّع مِنْهُ الْخلاف فِي حل الْوَطْء وَلُزُوم الْمهْر وَالنَّفقَة وَالسُّكْنَى وَوُقُوع الطَّلَاق وَالنِّكَاح بعد الطلقات الثَّلَاث على مَا ذهب إِلَيْهِ قدماء أَصْحَابه بِخِلَاف مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخّرُونَ مِنْهُم
وَأما الْعَام فنوعان عَام خص عَنهُ الْبَعْض وعام لم يخص عَنهُ شَيْء فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْخَاص فِي حق لُزُوم الْعَمَل بِهِ لَا محَالة وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قطع يَد السَّارِق بَعْدَمَا هلك الْمَسْرُوق عِنْده لَا يجب عَلَيْهِ الضَّمَان لِأَن الْقطع جَزَاء جَمِيع مَا اكْتَسبهُ
(1/20)
 
 
1 - 3 بحث عُمُوم كلمة مَا
 
إِن كلمة مَا عَامَّة تتَنَاوَل جَمِيع مَا وجد من السَّارِق وَبِتَقْدِير إِيجَاب الضَّمَان يكون الْجَزَاء هُوَ الْمَجْمُوع وَلَا يتْرك الْعَمَل بِالْقِيَاسِ على الْغَصْب وَالدَّلِيل على أَن كلمة مَا عَامَّة مَا ذكره مُحَمَّد رَحمَه الله إِذا قَالَ الْمولى لجاريته إِن كَانَ مَا فِي بَطْنك غُلَاما فَأَنت حرَّة فَولدت غُلَاما وَجَارِيَة لَا تعْتق وبمثله نقُول فِي قَوْله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} فَإِنَّهُ عَام فِي جَمِيع مَا تيَسّر من الْقُرْآن وَمن ضَرُورَته عدم توقف الْجَوَاز على قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَجَاء فِي الْخَبَر أَنه قَالَ لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب فعملنا بهما على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب بِأَن نحمل الْخَبَر على نفي الْكَمَال حَتَّى يكون مُطلق الْقِرَاءَة فرضا بِحكم الْكتاب وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة وَاجِبَة بِحكم الْخَبَر وَقُلْنَا كَذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} أَنه يُوجب حُرْمَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا وَجَاء فِي الْخَبَر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا فَقَالَ
(كلوه فَإِن تَسْمِيَة الله تَعَالَى فِي قلب كل امرىء مُسلم) فَلَا يُمكن التَّوْفِيق بينهمالأنه لَو ثَبت الْحل بِتَرْكِهَا عَامِدًا لثبت الْحل بِتَرْكِهَا نَاسِيا فَحِينَئِذٍ يرْتَفع حكم الْكتاب فَيتْرك الْخَبَر
(1/23)
 
 
1 - 4 بحث الْعَام الْمَخْصُوص مِنْهُ الْبَعْض
 
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ حُرْمَة نِكَاح الْمُرضعَة وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر
لَا تحرم المصة وَلَا المصتان وَلَا الإملاجة وَلَا الإملاجتان فَلم يُمكن التَّوْفِيق بَينهمَا فَيتْرك الْخَبَر
(وَأما الْعَام الَّذِي خص عِنْد الْبَعْض فَحكمه) أَنه يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْبَاقِي مَعَ الِاحْتِمَال فَإِذا أَقَامَ الدَّلِيل على تَخْصِيص الْبَاقِي يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد أَو الْقيَاس إِلَى أَن يبْقى الثُّلُث بعد ذَلِك لَا يجوز فَيجب الْعَمَل بِهِ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن الْمُخَصّص الَّذِي أخرج الْبَعْض عَن الْجُمْلَة لَو أخرج بَعْضًا مَجْهُولا يثبت الِاحْتِمَال فِي كل فَرد معِين فَجَاز أَن يكون بَاقِيا تَحت حكم الْعَام وَجَاز أَن يكون دَاخِلا تَحت دَلِيل الْخُصُوص فَاسْتَوَى الطرفان فِي حق الْمعِين فَإِذا أَقَامَ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على أَنه من جملَة مَا دخل تَحت دَلِيل الْخُصُوص ترجح جَانب نخصيصه وَإِن كَانَ الْمُخَصّص أخرج بَعْضًا مَعْلُوما عَن الْجُمْلَة جَازَ أَن يكون معلولا بعلة مَوْجُودَة فِي هَذَا الْفَرد الْمعِين فَإِذا قَامَ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على وجود تِلْكَ الْعلَّة فِي غير هَذَا الْفَرد الْمعِين ترجح جِهَة تَخْصِيصه فَيعْمل بِهِ مَعَ وجود الِاحْتِمَال
(1/26)
 
 
الْفَصْل الثَّانِي فصل فِي الْمُطلق والمعيد
 
2 - / 1 بحث الْمُطلق إِذا أمكن الْعَمَل بِهِ لَا يجوز الزِّيَادَة عَلَيْهِ
 
ذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَن الْمُطلق من كتاب الله تَعَالَى إِذا أمكن الْعَمَل بِإِطْلَاقِهِ فَالزِّيَادَة عَلَيْهِ بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس لَا يجوز مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} فالمأمور بِهِ هُوَ الْغسْل على الْإِطْلَاق فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط النِّيَّة وَالتَّرْتِيب والموالاة وَالتَّسْمِيَة بالْخبر وَلَكِن يعْمل بالْخبر على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب فَيُقَال الْغسْل الْمُطلق فرض بِحكم الْكتاب وَالنِّيَّة سنة بِحكم الْخَبَر
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} إِن الْكتاب جعل جلد الْمِائَة حدا للزِّنَا فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ التَّغْرِيب حدا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
(الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام)
بل يعْمل بالْخبر على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب فَيكون الْجلد حدا شَرْعِيًّا بِحكم الْكتاب والتغريب مَشْرُوعا سياسة بِحكم الْخَبَر
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} مُطلق فِي مُسَمّى الطّواف بِالْبَيْتِ فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط الْوضُوء بالْخبر بل يعْمل بِهِ على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب بِأَن يكون مُطلق الطّواف فرضا بِحكم الْكتاب وَالْوُضُوء وَاجِبا بِحكم الْخَبَر فَيجْبر النُّقْصَان اللَّازِم بترك الْوضُوء الْوَاجِب بِالدَّمِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {واركعوا مَعَ الراكعين}
(1/29)
 
 
2 - / 2 بحث جَوَاز التوضي بِمَاء الزَّعْفَرَان وَأَمْثَاله
 
مُطلق فِي مُسَمّى الرُّكُوع فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط التَّعْدِيل بِحكم الْخَبَر وَلَكِن يعْمل بالْخبر على وَجه لَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْكتاب
فَيكون مُطلق الرُّكُوع فرضا بِحكم الْكتاب
وَالتَّعْدِيل وَاجِبا بِحكم الْخَبَر وعَلى هَذَا قُلْنَا
يجوز التوضي بِمَاء الزَّعْفَرَان وَبِكُل مَاء خالطه شَيْء طَاهِر فَغير أحد أَوْصَافه لِأَن شَرط الْمصير إِلَى التَّيَمُّم عدم مُطلق المَاء وَهَذَا قد بَقِي مَاء مُطلقًا فَإِن قيد الْإِضَافَة مَا أَزَال عَنهُ اسْم المَاء بل قَرَّرَهُ فَيدْخل تَحت حكم مُطلق المَاء وَكَانَ شَرط بَقَائِهِ على صفة الْمنزل من السَّمَاء قيدا لهَذَا الْمُطلق وَبِه يخرج حكم مَاء الزَّعْفَرَان والصابون والأشنان وَأَمْثَاله وَخرج عَن هَذِه الْقَضِيَّة المَاء النَّجس بقوله تَعَالَى {وَلَكِن يُرِيد ليطهركم} وَالنَّجس لَا يُفِيد الطَّهَارَة وبهذه الْإِشَارَة علم أَن الْحَدث شَرط لوُجُوب الْوضُوء فَإِن تَحْصِيل الطَّهَارَة بِدُونِ وجود الْحَدث محَال
قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ الْمظَاهر إِذا جَامع امْرَأَته فِي خلال الْإِطْعَام لَا يسْتَأْنف الْإِطْعَام لِأَن الْكتاب مُطلق فِي حق الْإِطْعَام فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شَرط عدم الْمَسِيس بِالْقِيَاسِ على الصَّوْم بل الْمُطلق يجْرِي على إِطْلَاقه والمقيد على تَقْيِيده
وَكَذَلِكَ قُلْنَا الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين مُطلقَة فَلَا يُزَاد عَلَيْهِ شلاط الْإِيمَان بِالْقِيَاسِ على كَفَّارَة الْقَتْل
(1/33)
 
 
بحث الْمُشْتَرك والمؤول
 
إِن قيل أَن الْكتاب فِي مسح الرَّأْس يُوجب مسح مُطلق الْبَعْض وَقد قيدتموه بِمِقْدَار الناصية بالْخبر وَالْكتاب مُطلق فِي انْتِهَاء الْحُرْمَة الغليظة بِالنِّكَاحِ وَقد قيدتموه بِالدُّخُولِ بِحَدِيث امْرَأَة رِفَاعَة
قُلْنَا إِن الْكتاب لَيْسَ بِمُطلق فِي بَاب الْمسْح فَإِن حكم الْمُطلق أَن يكون الْآتِي بِأَيّ فَرد كَانَ آتِيَا بالمأمور بِهِ والآتي بِأَيّ بعض كَانَ هَهُنَا لَيْسَ بآت بالمأمور بِهِ فَإِنَّهُ لَو مسح على النّصْف أَو على الثُّلثَيْنِ لَا يكون الْكل فرضا وَبِه فَارق الْمُطلق الْمُجْمل
وَأما قيد الدُّخُول فقد قَالَ الْبَعْض أَن النِّكَاح فِي النَّص حمل على الوطءإذ العقد مُسْتَفَاد من لفظ الزَّوْج وَبِهَذَا يَزُول السُّؤَال
وَقَالَ الْبَعْض قيد الدُّخُول ثَبت الْخَبَر وجعلوه من الْمَشَاهِير فَلَا يلْزمهُم تَقْيِيد الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد
الْفَصْل الثَّالِث فصل فِي الْمُشْتَرك والمؤول
 
الْمُشْتَرك مَا وضع لمعنيين مُخْتَلفين أَو لمعان مُخْتَلفَة الْحَقَائِق مِثَاله قَوْلنَا جَارِيَة فَإِنَّهَا تتَنَاوَل الْأمة والسفينة وَالْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يتَنَاوَل قَابل عقد البيع وكوكب السَّمَاء
وَقَوْلنَا بئن فَأن يحْتَمل الْبَين وَالْبَيَان وَحكم الْمُشْتَرك أَنه إِذا تعين الوحد مرَادا بِهِ
(1/36)
 
 
سقط اعْتِبَار إِرَادَة غَيره وَلِهَذَا أجمع الْعلمَاء رَحِمهم الله تَعَالَى على أَن لفظ القروء الْمَذْكُور فِي كتاب الله تَعَالَى مَحْمُول إِمَّا على الْحيض كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا أَو على الطُّهْر كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي
وَقَالَ مُحَمَّد إِذا أوصى لموَالِي بني فلَان ولبني فلَان موَالٍ من أَعلَى وموال من أَسْفَل فَمَاتَ بطلت الْوَصِيَّة فِي حق الْفَرِيقَيْنِ لِاسْتِحَالَة الْجمع بَينهمَا وَعدم الرجحان
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِذا قَالَ لزوجته أَنْت عَليّ مثل أُمِّي لَا يكون مُظَاهرا لِأَن اللَّفْظ مُشْتَرك بَين الْكَرَامَة وَالْحُرْمَة فَلَا يتَرَجَّح جِهَة الْحُرْمَة إِلَّا بِالنِّيَّةِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَا يجب النظير فِي جَزَاء الصَّيْد لقَوْله تَعَالَى {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} لِأَن الْمثل مُشْتَرك بَين الْمثل صُورَة وَبَين الْمثل معنى وَهُوَ الْقيمَة وَقد أُرِيد الْمثل من حَيْثُ الْمَعْنى بِهَذَا النَّص فِي قتل إِذْ لَا عُمُوم للمشترك أصلا فَيسْقط اعْتِبَار الصُّورَة لِاسْتِحَالَة الْجمع
ثمَّ إِذا ترجح بعض وُجُوه الْمُشْتَرك بالغالب الرَّأْي يصير مؤلا وَحكم المؤول وجوب الْعَمَل بِهِ مَعَ احْتِمَال الْخَطَأ ومثاله فِي الحكميات مَا قُلْنَا إِذا أطلق الثّمن ومثاله فِي الحكميات مَا قُلْنَا إِذا أطلق فِي البيع كَانَ على غَالب نقد الْبَلَد وَذَلِكَ بطرِيق التَّأْوِيل
وَلَو كَانَت النُّقُود مُخْتَلفَة فسد البيع لما ذكرنَا وَحمل الإقراء على الْحيض
(1/39)
 
 
بحث الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
 
حمل النِّكَاح فِي الْآيَة على الوطىء وَحمل الْكِنَايَات حَال مذاكرة الطَّلَاق على الطَّلَاق من هَذَا الْقَبِيل وعَلى هَذَا قُلْنَا الدّين الْمَانِع من الزَّكَاة يصرف إِلَى أيسر الْمَالَيْنِ قَضَاء للدّين
فرع مُحَمَّد على هَذَا فَقَالَ إِذا تزوج امْرَأَة على نِصَاب وَله نِصَاب من الْغنم ونصاب من الدَّرَاهِم يصرف الدّين إِلَى الدَّرَاهِم حَتَّى لَو حَال عَلَيْهِمَا الْحول تجب الزَّكَاة عِنْده فِي نِصَاب الْغنم وَلَا تجب فِي الدَّرَاهِم وَلَو ترجح بعض وُجُوه الْمُشْتَرك بِبَيَان من قبل الْمُتَكَلّم كَانَ مُفَسرًا وَحكمه أَنه يجب الْعَمَل بِهِ يَقِينا
مِثَاله إذاقال لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم من نقد بخاري فَقَوله من نقد بخاري تَفْسِير لَهُ فلولا ذَلِك لَكَانَ منصرفا إِلَى غَالب نقد الْبَلَد بطرِيق التَّأْوِيل فيترجح الْمُفَسّر فَلَا يجب نقد الْبَلَد
الْفَصْل الرَّابِع فصل فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
 
كل لفظ وَضعه وَاضع اللُّغَة بِإِزَاءِ شَيْء فَهُوَ حَقِيقَة لَهُ وَلَو اسْتعْمل فِي غَيره يكون مجَازًا لَا حَقِيقَة
(1/42)
 
 
ثمَّ الْحَقِيقَة مَعَ الْمجَاز لَا يَجْتَمِعَانِ ارادة من لفظ وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة وَلِهَذَا قُلْنَا لما أُرِيد مَا يدْخل فِي الصَّاع بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
(لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاع بالصاعين) وَسقط اعْتِبَار نفس الصَّاع حَتَّى جَازَ بيع الْوَاحِد مِنْهُ بالإثنين
وَلما أُرِيد الوقاع من آيَة الْمُلَامسَة سقط اعْتِبَار إِرَادَة الْمس بِالْيَدِ
(1/43)
 
 
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
 
قَالَ مُحَمَّد إذاأوصى لمواليه وَله موَالٍ أعتقهم ولمواليه موَالٍ اعتقوهم كَانَت الْوَصِيَّة لمواليه دون موَالِي موَالِيه
وَفِي السّير الْكَبِير لَو استأمن أهل الْحَرْب على آبَائِهِم لَا تدخل الأجداد فِي الْأمان وَلَو استأمنوا على أمهاتهم لَا يثبت الْأمان فِي حق الْجدَّات
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا أوصى لأبكار بني فلَان لَا تدخل المصابة بالفجورفي حكم الْوَصِيَّة
وَلَو أوصى لبني فلَان وَله بنُون وَبَنُو بنيه كَانَت الْوَصِيَّة لِبَنِيهِ دون بني بنيه
قَالَ أَصْحَابنَا لَو حلف لَا ينْكح فُلَانَة وَهِي أَجْنَبِيَّة كَانَ ذَلِك على العقد حَتَّى لَو زنا بهَا لَا يَحْنَث
وَلَئِن قَالَ إِذا حلف لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان يَحْنَث لَو دَخلهَا حافيا أَو متنعلا أَو رَاكِبًا وَكَذَلِكَ لَو حلف لَا يسكن دَار فلَان يَحْنَث لَو كَانَت الدَّار ملكا لفُلَان أَو كَانَت بِأُجْرَة اَوْ عَادِية وَذَلِكَ جمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ عَبده حر يَوْم يقدم فلَان فَقدم فلَان لَيْلًا أَو نَهَارا يَحْنَث
قُلْنَا وضع الْقدَم صَار مجَازًا عَن الدُّخُول بِحكم الْعرف وَالدُّخُول لَا يتَفَاوَت فِي الْفَصْلَيْنِ وَدَار فلَان صَار مجَازًا عَن دَار مسكونة لَهُ وَذَلِكَ لَا يتَفَاوَت بَين أَن يكون ملكا لَهُ أَو كَانَت بِأُجْرَة لَهُ
(1/46)
 
 
4 - / 1 بحث تَقْسِيم الْحَقِيقَة إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام
 
وَالْيَوْم فِي مَسْأَلَة الْقدوم عبارَة عَن مُطلق الْوَقْت لِأَن الْيَوْم إِذا أضيف إِلَى فعل لَا يَمْتَد يكون عبارَة عَن مُطلق الْوَقْت كَمَا عرف فَكَانَ الْحِنْث بِهَذَا الطَّرِيق لَا بطرِيق الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
ثمَّ الْحَقِيقَة أَنْوَاع ثَلَاثَة متعذرة ومهجورة ومستعملة
وَفِي الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين يُصَار إِلَى الْمجَاز بالِاتِّفَاقِ
وَنَظِير المتعذرة إِذا حلف لَا يَأْكُل من هَذِه الشَّجَرَة أَو من هَذِه الْقدر فَإِن أكل الشَّجَرَة وَالْقدر مُتَعَذر فَيَنْصَرِف ذَلِك إِلَى ثَمَرَة الشَّجَرَة وَإِلَى مَا يحل فِي الْقدر حَتَّى لَو أكل من عين الشَّجَرَة أَو من عين الْقدر بِنَوْع تكلّف لَا يَحْنَث
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا حلف لَا يشرب من هَذِه البير ينْصَرف ذَلِك إِلَى الاغتراف حَتَّى لَو فَرضنَا أَنه لَو كرع بِنَوْع تكلّف لَا يَحْنَث بالِاتِّفَاقِ
وَنَظِير المهجورة لَو حلف لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان فَإِن إِرَادَة وضع الْقدَم مهجورة عَادَة
وعَلى هَذَا قُلْنَا التَّوْكِيل بِنَفس الْخُصُومَة ينْصَرف إِلَى مُطلق جَوَاب الْخصم حَتَّى يسع للْوَكِيل أَن يُجيب بنعم كَمَا يَسعهُ أَن يُجيب بِلَا لِأَن التَّوْكِيل بِنَفس الْخُصُومَة مهجور شرعا وَعَادَة
(1/49)
 
 
وَلَو كَانَت الْحَقِيقَة مستعملة فَإِن لم يكن لَهَا مجَاز مُتَعَارَف فالحقيقة أولى بِلَا خلاف فَإِن كَانَ لَهَا مجَاز مُتَعَارَف
(1/50)
 
 
4 - / 2 بحث كَون الْمجَاز خلفا عَن الْحَقِيقَة عِنْد أبي حنيفَة
 
فالحقيقة أولى عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا الْعَمَل بِعُمُوم الْمجَاز أولى مِثَاله لَو حلف لَا يَأْكُل من هَذِه الْحِنْطَة ينْصَرف ذَلِك إِلَى عينهَا عِنْده حَتَّى لَو أكل من الْخبز الْحَاصِل مِنْهَا لَا يَحْنَث عِنْده وَعِنْدَهُمَا ينْصَرف إِلَى مَا تتضمنه الْحِنْطَة بطرِيق عُمُوم الْمجَاز فَيحنث بأكلها وبأكل الْخبز الْحَاصِل مِنْهَا
وَكَذَا لَو حلف لَا يشرب من الْفُرَات ينْصَرف إِلَى الشّرْب مِنْهَا كرعا عِنْده وَعِنْدَهُمَا إِلَى الْمجَاز الْمُتَعَارف وَهُوَ شرب مَائِهَا بِأَيّ طَرِيق كَانَ
ثمَّ الْمجَاز عِنْد أبي حنيفَة خلف عَن الْحَقِيقَة فِي حق اللَّفْظ وَعِنْدَهُمَا خلف عَن الْحَقِيقَة فِي حق الحكم حَتَّى لَو كَانَت الْحَقِيقَة مُمكنَة فِي نَفسهَا إِلَّا أَنه امْتنع الْعَمَل بهَا لمَانع يُصَار إِلَى الْمجَاز وَإِلَّا صَار الْكَلَام لَغوا
وَعِنْده يُصَار إِلَى الْمجَاز وَإِن لم تكن الْحَقِيقَة مُمكنَة فِي نَفسهَا
أَمْثَاله إِذا قَالَ لعَبْدِهِ وَهُوَ أكبر سنا مِنْهُ هَذَا ابْني
لَا يُصَار إِلَى الْمجَاز عِنْدهمَا لِاسْتِحَالَة الْحَقِيقَة
وَعِنْده يُصَار إِلَى الْمجَاز حَتَّى يعْتق العَبْد
(1/52)
 
 
وعَلى هَذَا يخرج الحكم فِي قَوْله لَهُ عَليّ ألف أَو على هَذَا الْجِدَار وَقَوله عَبدِي أَو حماري حر وَلَا يلْزم على هَذَا إِذا قَالَ لامْرَأَته هَذِه ابْنَتي وَلها نسب مَعْرُوف من غَيره حَيْثُ لاتحرم عَلَيْهِ
(1/53)
 
 
وَلَا يَجْعَل ذَلِك مجَازًا عَن الطَّلَاق سَوَاء كَانَت الْمَرْأَة أَصْغَر سنا مِنْهُ أَو كبرى لِأَن هَذَا اللَّفْظ لَو صَحَّ مَعْنَاهُ لَكَانَ منافيا للنِّكَاح فَيكون منافيا لحكمه هُوَ الطَّلَاق وَلَا اسْتِعَارَة مَعَ وجود التَّنَافِي
بِخِلَاف قَوْله هَذَا ابْني فَإِن الْبُنُوَّة لَا تنَافِي ثُبُوت الْملك للْأَب بل يثبت الْملك لَهُ ثمَّ يعْتق عَلَيْهِ
الْفَصْل الْخَامِس فصل فِي تَعْرِيف طَرِيق الِاسْتِعَارَة
 
اعْلَم أَن الِاسْتِعَارَة فِي أَحْكَام الشَّرْع مطردَة بطريقين
أَحدهمَا لوُجُود الِاتِّصَال بَين الْعلَّة وَالْحكم
وَالثَّانِي لوُجُود الِاتِّصَال بَين السَّبَب والمحض وَالْحكم
فَالْأول مِنْهُمَا يُوجب صِحَة الِاسْتِعَارَة من الطَّرفَيْنِ
وَالثَّانِي يُوجب صِحَّتهَا من أحد الطَّرفَيْنِ وَهُوَ اسْتِعَارَة الأَصْل للفرع
مِثَال الأول فِيمَا إِذا قَالَ إِن ملكت عبدا فَهُوَ حر فَملك نصف العَبْد فَبَاعَهُ ثمَّ ملك النّصْف الآخر لم يعْتق إِذْ لم يجْتَمع فِي ملكه كل العَبْد
وَلَو قَالَ إِن اشْتريت عبدا فَهُوَ حر فَاشْترى نصف العَبْد فَبَاعَهُ ثمَّ
(1/56)
 
 
اشْترى النّصْف الآخر عتق النّصْف الثَّانِي
وَلَو عَنى بِالْملكِ الشِّرَاء أَو بِالشِّرَاءِ الْملك صحت نِيَّته بطرِيق الْمجَاز لِأَن الشِّرَاء عِلّة الْملك وَالْملك حكمه فعمت الِاسْتِعَارَة بَين الْعلَّة والمعلول من الطَّرفَيْنِ
(1/57)
 
 
إلاإنه فِيمَا يكون تَخْفِيفًا فِي حَقه لَا يصدق فِي حق الْقَضَاء خَاصَّة لِمَعْنى التُّهْمَة لَا لعدم صِحَة الِاسْتِعَارَة
وَمِثَال الثَّانِي إِذا قَالَ لامْرَأَته حررتك وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَصح لِأَن التَّحْرِير بحقيقته يُوجب زَوَال ملك الْبضْع بِوَاسِطَة زَوَال ملك الرقبه فَكَانَ سَببا مَحْضا لزوَال ملك الْمُتْعَة فَجَاز أَن يستعار عَن الطَّلَاق الَّذِي هُوَ مزيل لملك الْمُتْعَة
وَلَا يُقَال لَو جعل مجَازًا عَن الطَّلَاق لوَجَبَ أَن يكون الطَّلَاق الْوَاقِع بِهِ رَجْعِيًا كصريح الطَّلَاق
لأَنا نقُول لَا نجعله مجَازًا عَن الطَّلَاق بل عَن المزيل لملك الْمُتْعَة وَذَلِكَ فِي الْبَائِن إِذْ لرجعي لَا يزِيل ملك الْمُتْعَة عندنَا
وَلَو قَالَ لأمته طَلقتك وَنوى بِهِ التَّحْرِير لَا يَصح لِأَن الأَصْل جَازَ أَن يثبت بِهِ الْفَرْع وَأما الْفَرْع فَلَا يجوز أَن يثبت بِهِ الأَصْل وعَلى هَذَا نقُول
ينْعَقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة وَالتَّمْلِيك وَالْبيع لِأَن الْهِبَة بحقيقتها توجب ملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة يُوجب ملك الْمُتْعَة فِي الْإِمَاء فَكَانَت الْهِبَة سَببا مَحْضا لثُبُوت ملك الْمُتْعَة فَجَاز أَن يستعار عَن النِّكَاح
(1/60)
 
 
وَكَذَلِكَ لفظ التَّمْلِيك وَالْبيع لَا ينعكس حَتَّى لَا ينْعَقد البيع وَالْهِبَة بِلَفْظ النِّكَاح
ثمَّ فِي كل مَوضِع يكون الْمحل مُتَعَيّنا لنَوْع من الْمجَاز لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى النِّيَّة لَا يُقَال وَلما كَانَ إِمْكَان الْحَقِيقَة شرطا لصِحَّة الْمجَاز عِنْدهمَا
(1/61)
 
 
كَيفَ يُصَار إِلَى الْمجَاز فِي صُورَة النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة مَعَ أَن تمْلِيك الْحرَّة بِالْبيعِ وَالْهِبَة محَال
لأَنا نقُول ذَلِك مُمكن فِي الْجُمْلَة بِأَن ارْتَدَّت وَلَحِقت بدار الْحَرْب ثمَّ سبيت وَصَارَ هَذَا نَظِير مس السَّمَاء واخواته
الْفَصْل السَّادِس فصل فِي الصَّرِيح وَالْكِنَايَة
 
الصَّرِيح لفظ يكون المُرَاد بِهِ ظَاهرا كَقَوْلِه بِعْت واشتريت وَأَمْثَاله
وَحكمه أَنه يُوجب ثُبُوت مَعْنَاهُ بِأَيّ طَرِيق كَانَ من إِخْبَار أَو نعت أَو نِدَاء
وَمن حكمه أَنه يَسْتَغْنِي عَن النِّيَّة وعَلى هَذَا قُلْنَا
إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَو طَلقتك أَو يَا طَالِق يَقع الطَّلَاق نوى بِهِ الطَّلَاق أَو لم ينْو
وَكَذَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر أَو حررتك أَو يَا حر
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن التَّيَمُّم يُفِيد الطَّهَارَة لِأَن قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن يُرِيد ليطهركم} صَرِيح فِي حُصُول الطَّهَارَة بِهِ
(1/64)
 
 
وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه طَهَارَة ضَرُورِيَّة
وَالْآخر انه لَيْسَ بِطَهَارَة بل هُوَ ساترا للْحَدَث وعَلى هَذَا يخرج الْمسَائِل على المذهبين
من جَوَازه قبل الْوَقْت إداء الفرضين بِتَيَمُّم وَاحِد
وأمامة المتيم للمتوضئين
وجوازه بِدُونِ خوف تلف النَّفس أَو الْعُضْو بِالْوضُوءِ
وجوازه للعيد والجنازة
وجوازه بنية الطَّهَارَة
وَالْكِنَايَة هِيَ مَا استتر مَعْنَاهُ
وَالْمجَاز قبل أَن يصير متعارفا بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة وَحكم الْكِنَايَة ثُبُوت الحكم بهَا
(1/65)
 
 
عِنْد وجود النِّيَّة أَو بِدلَالَة الْحَال إِذْ لَا بُد لَهُ من دَلِيل يَزُول بِهِ التَّرَدُّد ويترجح بِهِ بعض الْوُجُوه وَلِهَذَا الْمَعْنى سمي لفظ الْبَيْنُونَة وَالتَّحْرِيم كِنَايَة فِي بَاب الطَّلَاق لِمَعْنى التَّرَدُّد واستتار المُرَاد لَا أَنه يعْمل عمل الطَّلَاق وَيتَفَرَّع مِنْهُ حكم الْكِنَايَات فِي حق عدم ولَايَة الرّجْعَة
ولوجود معنى التَّرَدُّد فِي الْكِنَايَة لَا يُقَام بهَا الْعُقُوبَات حَتَّى لَو أقرّ على نَفسه فِي بَاب الزِّنَا وَالسَّرِقَة لَا يُقَام عَلَيْهِ الْحَد مَا لم يذكر اللَّفْظ الصَّرِيح ولهذاالمعنى لَا يُقَام الْحَد على الْأَخْرَس بِالْإِشَارَةِ
وَلَو قذف رجلا بِالزِّنَا فَقَالَ الآخر صدقت لَا يجب الْحَد لاحْتِمَال التَّصْدِيق لَهُ فِي غَيره
الْفَصْل السَّابِع فصل فِي المتقابلات يعْنى بهَا الظَّاهِر وَالنَّص والمفسر والمحكم مَعَ مَا يقابلها من الْخَفي والمشكل والمجمل والمتشابه
 
فَالظَّاهِر اسْم لكل كَلَام ظهر المُرَاد بِهِ للسامع بِنَفس السماع من غير تَأمل
وَالنَّص مَا سيق الْكَلَام لأَجله ومثاله فِي قَوْله تَعَالَى {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} فالآية سيقت لبَيَان التَّفْرِقَة بَين البيع والربا ردا لما ادَّعَاهُ الْكفَّار من التَّسْوِيَة بَينهمَا حَيْثُ قَالُوا {إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا}
(1/68)
 
 
وَقد علم حل البيع وَحُرْمَة الرِّبَا بِنَفس السماع فَصَارَ ذَلِك نصا فِي التَّفْرِقَة ظَاهرا فِي حل البيع وَحُرْمَة الرِّبَا
(1/69)
 
 
7 - / 1 بحث وجوب الْعَمَل بِحكم الظَّاهِر وَالنَّص
 
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع}
سيق الْكَلَام لبَيَان الْعدَد وَقد علم الْإِطْلَاق وَالْإِجَازَة بِنَفس السماع فَصَارَ ذَلِك ظَاهرا فِي حق الْإِطْلَاق نصا فِي بَيَان الْعدَد
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة}
نَص فِي حكم من لم يسم لَهَا الْمهْر
وَظَاهر فِي استبداد الزَّوْج بِالطَّلَاق
وَإِشَارَة إِلَى أَن النِّكَاح بِدُونِ ذكر الْمهْر يَصح
وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من ملك ذَا رحم محرم مِنْهُ عتق عَلَيْهِ
نَص فِي اسْتِحْقَاق الْعتْق للقريب
وَظَاهر فِي ثُبُوت الْملك لَهُ
وَحكم الظَّاهِر وَالنَّص وجوب الْعَمَل بهما عَاميْنِ كَانَا أَو خاصين مَعَ احْتِمَال إِرَادَة الْغَيْر وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة الْمجَاز مَعَ الْحَقِيقَة
وعَلى هذاقلنا إِذا اشْترى قَرِيبه حَتَّى عتق عَلَيْهِ يكون هُوَ معتقا وَيكون الْوَلَاء لَهُ وَإِنَّمَا يظْهر التَّفَاوُت بَينهمَا عِنْد الْمُقَابلَة
(1/72)
 
 
وَلِهَذَا لَو قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفسك فَقَالَت أبنت نَفسِي يَقع الطَّلَاق رَجْعِيًا
لِأَن هَذَا نَص فِي الطَّلَاق وَظَاهر فِي الْبَيْنُونَة فيترجح الْعَمَل بِالنَّصِّ
وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لأهل عرينة
(إشربوا من أبوالها والبانها)
نَص فِي بَيَان سَبَب الشِّفَاء
وَظَاهر فِي إجَازَة شرب الْبَوْل
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام
(استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ)
نَص فِي وجوب الِاحْتِرَاز عَن الْبَوْل فيترجح النَّص على الظَّاهِر فَلَا يحل شرب الْبَوْل أصلا
(1/73)
 
 
7 - / 2 بحث تَرْجِيح الْمُفَسّر على النَّص
 
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام
(مَا سقته السَّمَاء فَفِيهِ الْعشْر) نَص فِي بَيَان الْعشْر
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ
(فِي الخضروات صَدَقَة) مؤول فِي نفي الْعشْر لِأَن الصَّدَقَة تحْتَمل وُجُوهًا فيترجح الأول على الثَّانِي
وَأما الْمُفَسّر فَهُوَ مَا ظهر المُرَاد بِهِ من اللَّفْظ بِبَيَان من قبل الْمُتَكَلّم بِحَيْثُ لَا يبْقى مَعَه احْتِمَال التَّأْوِيل والتخصيص مِثَاله
فِي قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} فاسم الْمَلَائِكَة ظَاهر فِي الْعُمُوم إِلَّا أَن احْتِمَال التَّخْصِيص قَائِم فانسد بَاب التَّخْصِيص بقوله (كلهم) ثمَّ بَقِي احْتِمَال التَّفْرِقَة فِي السُّجُود فانسد بَاب التَّأْوِيل بقوله أَجْمَعُونَ
وَفِي الشرعيات إِذا قَالَ تزوجت فُلَانَة شهرا بِكَذَا فَقَوله تزوجت ظَاهر فِي النِّكَاح إِلَّا أَن احْتِمَال الْمُتْعَة قَائِم فبقوله شهرا فسر المُرَاد بِهِ فَقُلْنَا هَذَا مُتْعَة وَلَيْسَ بِنِكَاح
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف من ثمن هَذَا العَبْد أَو من ثمن هَذَا الْمَتَاع فَقَوله عَليّ ألف نَص فِي لُزُوم الْألف إِلَّا أَن احْتِمَال التَّفْسِير بَاقٍ
فبقوله من ثمن هَذَا العَبْد اَوْ من ثمن هَذَا الْمَتَاع بَين المُرَاد بِهِ فيترجح الْمُفَسّر على النَّص حَتَّى لَا يلْزمه المَال إِلَّا عِنْد قبض العَبْد أَو الْمَتَاع
(1/76)
 
 
وَقَوله لفُلَان عَليّ ألف ظَاهر فِي الْإِقْرَار نَص فِي نقد الْبَلَد فَإِذا قَالَ من نقد بلد كَذَا يتَرَجَّح الْمُفَسّر على النَّص فَلَا يلْزمه نقد الْبَلَد بلد نقد بلد كَذَا وعَلى هَذَا نَظَائِره
(1/77)
 
 
7 - / 3 بحث الْخَفي والمشكل والمجمل والمتشابه
 
وَأما الْمُحكم فَهُوَ مَا ازْدَادَ قُوَّة على الْمُفَسّر بِحَيْثُ لَا يجوز خِلَافه أصلا مِثَاله فِي الْكتاب {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} {إِن الله لَا يظلم النَّاس شَيْئا} وَفِي الحكميات مَا قُلْنَا فِي الْإِقْرَار إِنَّه لفُلَان عَليّ ألف من ثمن هَذَا العَبْد فَإِن هَذَا اللَّفْظ مُحكم فِي لُزُومه بَدَلا عَنهُ وعَلى هَذَا نَظَائِره
وَحكم الْمُفَسّر والمحكم لُزُوم الْعَمَل بهما لَا محَالة
ثمَّ لهَذِهِ الْأَرْبَعَة أَرْبَعَة أُخْرَى تقَابلهَا
فضد الظَّاهِر الْخَفي
وضد النَّص الْمُشكل
وضد الْمُفَسّر الْمُجْمل
وضد الْمُحكم الْمُتَشَابه
فالخفي مَا أخْفى المُرَاد بهَا بِعَارِض لَا من حَيْثُ الصِّيغَة مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَإِنَّهُ ظَاهر فِي حق السَّارِق خَفِي فِي حق الطرار والنباش
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} ظاهرفي حق الزَّانِي خَفِي فِي حق اللوطي
وَلَو حلف لَا يَأْكُل فَاكِهَة كَانَ ظَاهرا فِيمَا يتفكه بِهِ خفِيا فِي حق الْعِنَب وَالرُّمَّان
(1/80)
 
 
وَحكم الْخَفي وجوب الطّلب حَتَّى يَزُول عَنهُ الخفاء
وَأما الْمُشكل فَهُوَ مَا ازْدَادَ خَفَاء على الْخَفي كَأَنَّهُ بَعْدَمَا خَفِي على السَّامع حَقِيقَة دخل فِي أشكاله وَأَمْثَاله حَتَّى لَا ينَال المُرَاد إِلَّا بِالطَّلَبِ ثمَّ بِالتَّأَمُّلِ حَتَّى يتَمَيَّز عَن أَمْثَاله
وَنَظِيره فِي الْأَحْكَام لَو حلف لَا يأتدم فَإِنَّهُ ظَاهر فِي الْخلّ والدبس فَإِنَّمَا هُوَ مُشكل فِي اللَّحْم وَالْبيض والجبن حَتَّى يطْلب فِي معنى الائتدام ثمَّ يتَأَمَّل أَن ذَلِك الْمَعْنى هَل يُوجد فِي اللَّحْم وَالْبيض والجبن أَولا
ثمَّ وفْق الْمُشكل الْمُجْمل وَهُوَ مَا احْتمل وُجُوهًا فَصَارَ بِحَال لَا يُوقف على المُرَاد بِهِ إِلَّا بِبَيَان من قبل الْمُتَكَلّم
(1/81)
 
 
وَنَظِيره فِي الشرعيات قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا} فَإِن الْمَفْهُوم من الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَة الْمُطلقَة وَهِي غير مُرَادة بل المُرَاد الزِّيَادَة الخالية عَن الْعِوَض فِي بيع المقدورات المتجانسة وَاللَّفْظ لَا دلَالَة لَهُ على هَذَا فَلَا ينَال المُرَاد بِالتَّأَمُّلِ
ثمَّ فَوق الْمُجْمل فِي الخفاء الْمُتَشَابه مِثَال الْمُتَشَابه الْحُرُوف المقطعات فِي أَوَائِل السُّور
وَحكم الْمُجْمل والمتشابه اعْتِقَاد حقية المُرَاد بِهِ حَتَّى يَأْتِي الْبَيَان
الْفَصْل الثَّامِن فصل فِيمَا يتْرك بِهِ حقائق الْأَلْفَاظ وَمَا يتْرك بِهِ حَقِيقَة اللَّفْظ خَمْسَة أَنْوَاع
 
أَحدهَا دلَالَة الْعرف وَذَلِكَ لِأَن ثُبُوت الْأَحْكَام بالألفاظ إِنَّمَا كَانَ لدلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى المُرَاد للمتكلم
فَإِذا كَانَ الْمَعْنى متعارفا بَين النَّاس كَانَ ذَلِك الْمَعْنى الْمُتَعَارف دَلِيلا على أَنه هُوَ المُرَاد بِهِ ظَاهرا فيترتب عَلَيْهِ الحكم
مِثَاله لَو حلف لَا يَشْتَرِي رَأْسا فَهُوَ على مَا تعارفه النَّاس فَلَا يَحْنَث بِرَأْس العصفور والحمامة
(1/85)
 
 
وَكَذَلِكَ لَو حلف لَا يَأْكُل بيضًا كَانَ ذَلِك على الْمُتَعَارف فَلَا يَحْنَث بتناول بيض العصفور والحمامة
وَبِهَذَا ظهر أَن ترك الْحَقِيقَة لَا يُوجب الْمصير إِلَى الْمجَاز بل جَازَ أَن تثبت بِهِ الْحَقِيقَة القاصرة ومثاله تَقْيِيد الْعَام بِالْبَعْضِ
(1/86)
 
 
بحث ترك الْحَقِيقَة بِدلَالَة فِي نفس الْكَلَام
 
وَكَذَلِكَ لَو نذر حجا أَو مشيا إِلَى بَيت الله تَعَالَى أَو أَن يضْرب بِثَوْبِهِ حطيم الْكَعْبَة يلْزمه الْحَج بِأَفْعَال مَعْلُومَة لوُجُود الْعرف
وَالثَّانِي قد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة فِي نفس الْكَلَام مِثَاله إِذا قَالَ كل مَمْلُوك لي فَهُوَ حرلم يعْتق مكاتبوه وَلَا من أعتق بعضه إِلَّا إِذا نوى دُخُولهمْ لِأَن لفظ الْمَمْلُوك مُطلق يتَنَاوَل الْمَمْلُوك من كلوجه وَالْمكَاتب لَيْسَ بمملوك وَمن كل وَجه وَلِهَذَا لم يجز تصرفه فِيهِ وَلَا يحل لَهُ وَطْء الْمُكَاتبَة وَلَو تزوج الْمكَاتب بنت مَوْلَاهُ ثمَّ مَاتَ الْمولى ورثته الْبِنْت لم يفْسد النِّكَاح
وَإِذا لم يكن مَمْلُوكا من كل وَجه لَا يدْخل تَحت لفظ الْمَمْلُوك الْمُطلق
وَهَذَا بِخِلَاف الْمُدبر وَأم الْوَلَد فَإِن الْملك فيهمَا كَامِل وَلذَا حل وَطْء الْمُدبرَة وَأم الْوَلَد وَإِنَّمَا النُّقْصَان فِي الرّقّ من حَيْثُ أَنه يَزُول بِالْمَوْتِ لَا محَالة وعَلى هَذَا
قُلْنَا إِذا أعتق الْمكَاتب عَن كَفَّارَة يَمِينه أَو ظهارها جَازَ وَلَا يجوز فيهمَا إِعْتَاق الْمُدبر وَأم الْوَلَد لِأَن الْوَاجِب هُوَ التَّحْرِير وَهُوَ إِثْبَات الْحُرِّيَّة بِإِزَالَة الرّقّ فَإِذا كَانَ الرّقّ فِي الْمكَاتب كَامِلا كَانَ تحريره تحريرا من جَمِيع الْوُجُوه وَفِي الْمُدبر وَأم الْوَلَد لما كَانَ الرّقّ نَاقِصا لَا يكون
(1/89)
 
 
التَّحْرِير تحريرا من كل الْوُجُوه
وَالثَّالِث قد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة سِيَاق الْكَلَام قَالَ فِي (السّير الْكَبِير) إِذا قَالَ الْمُسلم للحربي إنزل فَنزل كَانَ آمنا
(1/90)
 
 
بحث ترك الْحَقِيقَة بِدلَالَة من قبل الْمُتَكَلّم
 
وَلَو قَالَ إنزل إِن كنت رجلا فَنزل لَا يكون آمنا
وَلَو قَالَ الْحَرْبِيّ الْأمان الْأمان فَقَالَ الْمُسلم الْأمان الْأمان كَانَ أمنا
وَلَو قَالَ الْأمان ستعلم مَا تلقى غَدا أَو لَا تعجل حَتَّى ترى فَنزل لَا يكون آمنا
وَلَو قا اشْتَرِ لي جَارِيَة لتخدمني فَاشْترى العمياء أَو الشلاء لَا يجوز
وَلَو قَالَ اشْتَرِ لي جَارِيَة حَتَّى أطأها فَاشْترى أُخْته من الرَّضَاع لَا يكون عَن الْمُوكل
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
(إِذا وَقع الذُّبَاب فِي طَعَام أحدكُم فامقلوه ثمَّ انقلوه فَإِن فِي إِحْدَى جناحيه دَاء وَفِي الْأُخْرَى دَوَاء وَإنَّهُ ليقدم الدَّاء على الدَّوَاء)
دلّ سِيَاق الْكَلَام على أَن الْمقل لدفع الْأَذَى عَنَّا لَا لأمر تعبدي حَقًا للشَّرْع فَلَا يكون للْإِيجَاب
وَقَوله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} عقيب قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات} يدل على أَن ذكر الْأَصْنَاف لقطع طمعهم من الصَّدقَات بِبَيَان المصارف لَهَا فَلَا يتَوَقَّف الْخُرُوج عَن الْعهْدَة على الْأَدَاء إِلَى الْكل
وَالرَّابِع قد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة من قبل الْمُتَكَلّم مِثَاله قَوْله تَعَالَى {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر}
(1/93)
 
 
وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى حَكِيم وَالْكفْر قَبِيح والحكيم لَا يَأْمر بِهِ فَيتْرك دلَالَة اللَّفْظ على الْأَمر بحكمة الْأَمر وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا وكل بشرَاء اللَّحْم
فَإِن كَانَ مُسَافِرًا نزل على الطَّرِيق فَهُوَ على الْمَطْبُوخ أَو على المشوي
وَإِن كَانَ صَاحب منزل فَهُوَ على النيء وَمن هَذَا النَّوْع يَمِين الْفَوْر مِثَاله إِذا قَالَ تعال تغد معي فَقَالَ وَالله لَا أتغدى ينْصَرف ذَلِك إِلَى الْغَدَاء الْمَدْعُو إِلَيْهِ حَتَّى لَو تغدى بعد ذَلِك فِي منزله مَعَه أَو مَعَ غَيره فِي ذَلِك الْيَوْم لايحنث
وَكَذَا إِذا قَامَت الْمَرْأَة تُرِيدُ الْخُرُوج فَقَالَ الزَّوْج إِن خرجت فَأَنت كَذَا كَانَ الحكم مَقْصُورا على الْحَال حَتَّى لَو خرجت بعد ذَلِك لَا يَحْنَث
وَالْخَامِس وَقد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة مَحل الْكَلَام بِأَن كَانَ الْمحل لَا يقبل حَقِيقَة اللَّفْظ ومثاله انْعِقَاد نِكَاح الْحرَّة بِلَفْظ البيع وَالْهِبَة وَالتَّمْلِيك وَالصَّدَََقَة وَقَوله لعَبْدِهِ وَهُوَ مَعْرُوف النّسَب من غَيره هَذَا إبني وَكَذَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ وَهُوَ أكبر سنا من الْمولى هَذَا إبني كَانَ مجَازًا عَن الْعتْق عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ خلافًا لَهما بِنَاء على مَا ذكرنَا أَن الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي حق اللَّفْظ عِنْده وَفِي حق الحكم عِنْدهمَا
(1/94)
 
 
الْفَصْل التَّاسِع فصل فِي متعلقات النُّصُوص
 
نعني بهَا عبارَة النَّص وإشارته ودلالته واقتضاءه
فَأَما عبارَة النَّص فَهُوَ مَا سيق الْكَلَام لأَجله وَأُرِيد بِهِ قصدا
وَأما إِشَارَة النَّص فَهِيَ مَا ثَبت بنظم النَّص
(1/99)
 
 
من غير زِيَادَة وَهُوَ غير ظَاهر من كل وَجه وَلَا سيق الْكَلَام لأَجله
مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ} الْآيَة فَإِنَّهُ سيق لبَيَان اسْتِحْقَاق الْغَنِيمَة فَصَارَ نصا فِي ذَلِك وَقد ثَبت فَقرهمْ بنظم النَّص فَكَانَ إِشَارَة إِلَى أَن اسْتِيلَاء الْكَافِر على مَال الْمُسلم سَبَب لثُبُوت الْملك للْكَافِرِ إِذْ لَو كَانَت الْأَمْوَال بَاقِيَة على ملكهم لَا يثبت فَقرهمْ
وَيخرج مِنْهُ الحكم فِي مَسْأَلَة الِاسْتِيلَاء وَحكم ثُبُوت الْملك للتاجر بِالشِّرَاءِ مِنْهُم وتصرفاته من البيع وَالْهِبَة وَالْإِعْتَاق
وَحكم ثُبُوت الاستغنام وَثُبُوت الْملك للغازي وَعجز الْمَالِك عَن انْتِزَاعه من يَده وتفريعاته
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} إِلَى قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فالإمساك فِي أول الصُّبْح يتَحَقَّق مَعَ الْجَنَابَة لِأَن من ضَرُورَة حل الْمُبَاشرَة إِلَى الصُّبْح أَن يكون الْجُزْء الأول من النَّهَار مَعَ وجود الْجَنَابَة والإمساك فِي ذَلِك الْجُزْء صَوْم أَمر العَبْد بإتمامه فَكَانَ هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن الْجَنَابَة لَا تنَافِي الصَّوْم
وَلزِمَ من ذَلِك أَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق لَا يُنَافِي بَقَاء الصَّوْم
(1/101)
 
 
وَيتَفَرَّع مِنْهُ أَن من ذاق شَيْئا بفمه لم يفْسد صَوْمه فَإِنَّهُ لَو كَانَ المَاء مالحا يجد طعمه عِنْد الْمَضْمَضَة لَا يفْسد بِهِ الصَّوْم
(1/102)
 
 
بحث كَون حكم دلَالَة النَّص عُمُوم الحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
 
وَعلم مِنْهُ حكم الِاحْتِلَام والاحتجام والادهان لِأَن الْكتاب لما سمي الْإِمْسَاك اللَّازِم بِوَاسِطَة الِانْتِهَاء عَن الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي أول الصُّبْح صوما علم أَن ركن الصَّوْم يتم بالانتهاء عَن الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة
وعَلى هَذَا يخرج الحكم فِي مَسْأَلَة التبييت فَإِن قصد الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ إِنَّمَا يلْزمه عِنْد توجه الْأَمر
وَالْأَمر إِنَّمَا يتَوَجَّه بعد الْجُزْء الأول لقَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل}
وَأما دلَالَة النَّص فَهِيَ مَا علم عِلّة للْحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ لُغَة لَا اجْتِهَادًا وَلَا استنباطا مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما}
فالعالم بأوضاع اللُّغَة يفهم بِأول السماع أَن تَحْرِيم التأفيف لدفع الْأَذَى عَنْهُمَا
وَحكم هَذَا النَّوْع عُمُوم الحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ لعُمُوم علته وَلِهَذَا الْمَعْنى قُلْنَا بِتَحْرِيم الضَّرْب والشتم والاستخدام عَن الْأَب بِسَبَب الْإِجَارَة وَالْحَبْس بِسَبَب الدّين وَالْقَتْل قصاصا
(1/104)
 
 
ثمَّ دلَالَة النَّص بِمَنْزِلَة النَّص حَتَّى صَحَّ إِثْبَات الْعقُوبَة بِدلَالَة النَّص
قَالَ أَصْحَابنَا وَجَبت الْكَفَّارَة بالوقاع بِالنَّصِّ وبالأكل واشرب بِدلَالَة النَّص
(1/105)
 
 
بحث كَون الْمُقْتَضى زِيَادَة على النَّص
 
وعَلى اعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى قَلِيل يدارالحكم على تِلْكَ الْعلَّة قَالَ الإِمَام القَاضِي أَبُو زيد لَو أَن قوما يعدون التأفيف كَرَامَة لَا يحرم عَلَيْهِم تأفيف الْأَبَوَيْنِ
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي} الْآيَة وَلَو فَرضنَا بيعا لَا يمْنَع الْعَاقِدين عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة بِأَن كَانَا فِي سفينة تجْرِي إِلَى الْجَامِع لَا يكره البيع
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا حلف لَا يضْرب امْرَأَته فَمد شعرهَا أَو عضها أَو خنقها يَحْنَث إِذا كَانَ بِوَجْه الإيلام
وَلَو وجد صُورَة الضَّرْب وَمد الشّعْر عِنْد الملاعبة دون الإيلام لَا يَحْنَث
وَمن حلف لَا يضْرب فلَانا فَضَربهُ بعد مَوته لَا يَحْنَث لِانْعِدَامِ معنى الضَّرْب وَهُوَ الإيلام
وَكَذَا لَو حلف لَا يكلم فلَانا فَكَلمهُ بعد مَوته لَا يَحْنَث لعدم الإفهام
وَبِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى يُقَال إِذا حلف لَا يَأْكُل لَحْمًا فَأكل لحم السّمك وَالْجَرَاد لَا يَحْنَث
وَلَو أكل لحم الْخِنْزِير أَو الْإِنْسَان يَحْنَث لِأَن الْعَالم بِأول السماع يعلم
(1/108)
 
 
أَن الْحَامِل على هَذَا الْيَمين إِنَّمَا هُوَ الِاحْتِرَاز عَمَّا ينشأ من الدَّم فَيكون الِاحْتِرَاز عَن تنَاول الدمويات فيدار الحكم على ذَلِك
وَأما الْمُقْتَضى فَهُوَ زِيَادَة على النَّص لَا يتَحَقَّق معنى النَّص إِلَّا بِهِ كَأَن النَّص اقْتَضَاهُ ليَصِح فِي نَفسه
(1/109)
 
 
بحث كَون الْقبُول ركنا فِي بَاب البيع
 
مَعْنَاهُ مثلا فِي الشرعيات قَوْله أَنْت طَالِق فَإِن هَذَا نعت الْمَرْأَة إِلَّا أَن النَّعْت يَقْتَضِي الْمصدر فَكَأَن الْمصدر مَوْجُود بطرِيق الِاقْتِضَاء
وَإِذا قَالَ اعْتِقْ عَبدك عني بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ اعتقت يَقع الْعتْق عَن الْآمِر فَيجب عَلَيْهِ الْألف
وَلَو كَانَ الْآمِر نوى بِهِ الْكَفَّارَة يَقع عَمَّا نوى وَذَلِكَ لِأَن قَوْله اعتقه عني بِأَلف دِرْهَم يَقْتَضِي معنى قَوْله بِعْهُ عني بِأَلف ثمَّ كن وَكيلِي بِالْإِعْتَاقِ فاعتقه عني فَيثبت البيع بطرِيق الِاقْتِضَاء فَيثبت الْقبُول كَذَلِك لِأَنَّهُ ركن فِي بَاب البيع
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف إِذا قَالَ اعْتِقْ عَبدك عني بِغَيْر شَيْء فَقَالَ اعتقت يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَيكون هَذَا مقتضيا للهبة وَالتَّوْكِيل وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْقَبْض لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْقبُول فِي بَاب البيع
وَلَكنَّا نقُول الْقبُول ركن فِي بَاب البيع فَإِذا أثبتنا البيع اقْتِضَاء أثبتنا الْقبُول ضَرُورَة بِخِلَاف الْقَبْض فِي بَاب الْهِبَة فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرُكْن فِي الْهِبَة ليَكُون الحكم بِالْهبةِ بطرِيق الِاقْتِضَاء حكما بِالْقَبْضِ
وَحكم الْمُقْتَضى أَنه يثبت بطرِيق الضَّرُورَة فَيقدر بِقدر الضَّرُورَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق وَنوى بِهِ الثَّلَاث لَا يَصح لِأَن الطَّلَاق
(1/112)
 
 
يقدر مَذْكُورا بطرِيق الِاقْتِضَاء فَيقدر بِقدر الضَّرُورَة والضرورة ترْتَفع بِالْوَاحِدِ فَيقدر مَذْكُورا فِي حق الْوَاحِد
(1/113)
 
 
وعَلى هَذَا يخرج الحكم فِي قَوْله إِن أكلت وَنوى بِهِ طَعَاما عَاما دون طَعَام لَا يَصح لِأَن الْأكل يَقْتَضِي طَعَاما فَكَانَ ذَلِك ثَابتا بطرِيق الِاقْتِضَاء بِقدر الضَّرُورَة والضرورة ترْتَفع بالفرد الْمُطلق وَلَا تَخْصِيص فِي الْفَرد الْمُطلق لِأَن التَّخْصِيص يعْتَمد الْعُمُوم
وَلَو قَالَ بعد الدُّخُول اعْتدي وَنوى بِهِ الطَّلَاق فَيَقَع الطَّلَاق اقْتِضَاء لِأَن الِاعْتِدَاد وجود الطَّلَاق فَيقدر الطَّلَاق مَوْجُودا ضَرُورَة وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع بِهِ رَجْعِيًا لِأَن صفة الْبَيْنُونَة زَائِدَة على قدر الضَّرُورَة فَلَا يثبت بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا يَقع إِلَّا وَاحِد لما ذكرنَا
الْفَصْل الْعَاشِر فصل فِي الْأَمر
 
الْأَمر فِي اللُّغَة قَول الْقَائِل لغيره افْعَل
وَفِي الشَّرْع تصرف إِلْزَام الْفِعْل على الْغَيْر وَذكر بعض الأيمة أَن المُرَاد بِالْأَمر يخْتَص بِهَذِهِ الصِّيغَة
واستحال أَن يكون مَعْنَاهُ إِن حَقِيقَة الْأَمر يخْتَص بِهَذِهِ الصِّيغَة فَإِن الله تَعَالَى مُتَكَلم فِي الْأَزَل عندنَا وَكَلَامه أَمر وَنهي وإخبار واستخبار
واستحال وجود هَذِه الصِّيغَة فِي الْأَزَل
(1/116)
 
 
واستحال أَيْضا ان يكون مَعْنَاهُ أَن المُرَاد بِالْأَمر لِلْأَمْرِ يخْتَص بِهَذِهِ الصِّيغَة فَإِن المُرَاد للشارع بِالْأَمر وجوب
الْفِعْل على العَبْد وَهُوَ معني الِابْتِلَاء عندنَا وَقد ثَبت الْوُجُوب بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة أَلَيْسَ أَنه وَجب الْإِيمَان على من لم تبلغه الدعْوَة بِدُونِ وُرُود السّمع
(1/117)
 
 
قَالَ أَبُو حنيفَة لَو لم يبْعَث الله تَعَالَى رَسُولا لوَجَبَ على الْعُقَلَاء مَعْرفَته بعقولهم فَيحمل ذَلِك على أَن المُرَاد بِالْأَمر يخْتَص بِهَذِهِ الصِّيغَة فِي حق العَبْد فِي الشرعيات حَتَّى لَا يكون فعل الرَّسُول بِمَنْزِلَة قَوْله افعلوا وَلَا يلْزم اعْتِقَاد الْوُجُوب بِهِ والمتابعة فِي افعاله عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا تجب عِنْد الْمُوَاظبَة وانتقاء دَلِيل الِاخْتِصَاص
بحث تَحْقِيق مُوجب الْأَمر الْمُطلق فصل
 
اخْتلف النَّاس فِي الْأَمر الْمُطلق أَي الْمُجَرّد عَن القرنية الدَّالَّة على اللُّزُوم وَعدم اللُّزُوم نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين}
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب إِن مُوجبه الْوُجُوب إِلَّا إِذا قَامَ الدَّلِيل على خِلَافه لِأَن ترك الْأَمر مَعْصِيّة كَمَا أَن الائتمار طَاعَة قَالَ الحماسي
أَطَعْت لآمريك بِصرْم حبلي
مريهم فِي أحبتهم بِذَاكَ ... فَإِن هم طاوعوك فطاوعيهم
وَإِن عاصوك فاعصي من عصاك
(1/120)
 
 
والعصيان فِيمَا يرجع إِلَى حق الشَّرْع سَبَب للعقاب
وتحقيقه أَن لُزُوم الائتمار إِنَّمَا يكون بِقدر ولَايَة الْآمِر على الْمُخَاطب
وَلِهَذَا إِذا وجهت صِيغَة الْأَمر إِلَى من لَا يلْزمه طَاعَتك أصلا لَا يكون ذَلِك مُوجبا للائتمار
وَإِذا وجهتها إِلَى من يلْزمه طَاعَتك من العبيد لزمَه الائتمار لَا محَالة حَتَّى لَو تَركه اخْتِيَارا يسْتَحق الْعقَاب عرفا وَشرعا
فعلى هَذَا عرفنَا أَن لُزُوم الائتمار بِقدر ولَايَة الْأَمر
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول أَن لله تَعَالَى ملكا كَامِلا فِي كل جُزْء من أَجزَاء الْعَالم وَله التَّصَرُّف كَيفَ مَا شَاءَ وَأَرَادَ
وَإِذا ثَبت أَن من لَهُ الْملك الْقَاصِر فِي العَبْد كَانَ ترك الائتمار سَببا للعقاب وَمَا ظَنك فِي ترك أَمر من أوجدك من الْعَدَم وأدر عَلَيْك شآبيب النعم
فصل الْأَمر بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التّكْرَار
 
وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ طلق امْرَأَتي فَطلقهَا الْوَكِيل ثمَّ تزَوجهَا الْمُوكل لَيْسَ للْوَكِيل أَن يطلقهَا بِالْأَمر الأول ثَانِيًا
(1/123)
 
 
وَلَو قَالَ زَوجنِي امْرَأَة لَا يتَنَاوَل هَذَا تزويجا مرّة بعد أُخْرَى
وَلَو قَالَ لعَبْدِهِ تزوج لَا يتَنَاوَل ذَلِك إِلَّا مرّة وَاحِدَة لِأَن الْأَمر بِالْفِعْلِ طلب تَحْقِيق الْفِعْل على سَبِيل الِاخْتِصَار فَإِن قَوْله اضْرِب مُخْتَصر من قَوْله افْعَل
(1/124)
 
 
بحث تكْرَار الْعِبَادَات بتكرار أَسبَابهَا
 
فعل الضَّرْب والمختصر من الْكَلَام والمطول سَوَاء فِي الحكم
ثمَّ الْأَمر بِالضَّرْبِ أَمر بِجِنْس تصرف مَعْلُوم
وَحكم اسْم الْجِنْس أَن يتَنَاوَل الْأَدْنَى عِنْد الْإِطْلَاق وَيحْتَمل كل الْجِنْس وعَلى هَذَا قُلْنَا
إِذا حلف لَا يشرب المَاء يَحْنَث بِشرب أدنى قَطْرَة مِنْهُ وَلَو نوى بِهِ جَمِيع مياه الْعَالم صحت نِيَّته
وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفسك فَقَالَت طلقت يَقع الْوَاحِدَة وَلَو نوى الثَّلَاث صحت نِيَّته
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الآخر طَلقهَا يتَنَاوَل الْوَاحِدَة عِنْد الْإِطْلَاق وَلَو نوى الثَّلَاث صحت نِيَّته وَلَو نوى الثِّنْتَيْنِ لَا يَصح إِلَّا إِذا كَانَت النكوحة أمة فَإِن نِيَّة الثِّنْتَيْنِ فِي حَقّهَا نِيَّة بِكُل الْجِنْس
وَلَو قَالَ لعَبْدِهِ تزوج يَقع على تزوج امْرَأَة وَاحِدَة وَلَو نوى الثِّنْتَيْنِ صحت نِيَّته لِأَن ذَلِك كل الْجِنْس فِي حق العَبْد
وَلَا يَتَأَتَّى على هَذَا فصل تكْرَار الْعِبَادَات فَإِن ذَلِك لم يثبت بِالْأَمر بل بتكرار أَسبَابهَا الَّتِي يثبت بهَا الْوُجُوب وَالْأَمر
(1/127)
 
 
لطلب أَدَاء مَا وَجب فِي الذِّمَّة بِسَبَب سَابق لَا لإِثْبَات أصل الْوُجُوب وَهَذَا بِمَنْزِلَة قَول الرجل أد ثمن الْمَبِيع وأد نَفَقَة الزَّوْجَة فَإِذا وَجَبت الْعِبَادَة بِسَبَبِهَا فَتوجه الْأَمر لأَدَاء مَا وَجب مِنْهَا عَلَيْهِ ثمَّ الْأَمر لما كَانَ يتَنَاوَل الْجِنْس
(1/128)
 
 
يتَنَاوَل الْجِنْس مَا وَجب عَلَيْهِ ومثاله مَا يُقَال إِن الْوَاجِب فِي وَقت الظّهْر هُوَ الظّهْر فَتوجه الْأَمر لأَدَاء ذَلِك الْوَاجِب ثمَّ إِذا تكَرر الْوَقْت تكَرر الْوَاجِب فَيتَنَاوَل الْأَمر ذَلِك الْوَاجِب الآخر ضَرُورَة تنَاوله كل الْجِنْس الْوَاجِب عَلَيْهِ صوما كَانَ أَو صَلَاة فَكَانَ تكْرَار الْعِبَادَة المتكررة بِهَذَا الطَّرِيق لَا بطرِيق أَن الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار
بحث نَوْعي الْمَأْمُور بِهِ مُطلق ومقيد
 
مُطلق عَن الْوَقْت ومقيد بِهِ
وَحكم الْمُطلق أَن يكون الْأَدَاء وَاجِبا على التَّرَاخِي بِشَرْط أَن لَا يفوتهُ فِي الْعُمر وعَلى هَذَا قَالَ مُحَمَّد فِي الْجَامِع
لَو نذر أَن يعْتَكف شهرا لَهُ أَن يعْتَكف أَي شهر شَاءَ
وَلَو نذر أَن يَصُوم شهرا لَهُ أَن يَصُوم أَي شهر شَاءَ
وَفِي الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر وَالْعشر الْمَذْهَب الْمَعْلُوم أَنه لَا يصير بِالتَّأْخِيرِ مفرطا فَإِنَّهُ لَو هلك النّصاب سقط الْوَاجِب والحانث إِذا ذهب مَاله وَصَارَ فَقِيرا كفر بِالصَّوْمِ
وعَلى هَذَا لَا يجب قَضَاء الصلوة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة لِأَنَّهُ لما وَجب مُطلقًا وَجب كَامِلا فَلَا يخرج عَن الْعهْدَة بأَدَاء النَّاقِص فَيجوز
(1/131)
 
 
الْعَصْر عِنْد الاحمرار أَدَاء وَلَا يجوز قَضَاء وَعَن الْكَرْخِي رح أَن مُوجب الْأَمر الْمُطلق
(1/132)
 
 
الْوُجُوب على الْفَوْر وَالْخلاف مَعَه فِي الْوُجُوب وَلَا خلاف فِي أَن المسارعة إِلَى الائتمار مَنْدُوب إِلَيْهَا
بحث نَوْعي الْمَأْمُور بِهِ مُطلق ومقيد وحكمهما
 
وَأما الموقت فنوعان
نوع يكون الْوَقْت ظرفا للْفِعْل حَتَّى لَا يشْتَرط اسْتِيعَاب كل الْوَقْت بِالْفِعْلِ كالصلوة
وَمن حكم هَذَا النَّوْع أَن وجوب الْفِعْل فِيهِ لَا يُنَافِي وجوب فعل آخر فِيهِ من جنسه حَتَّى لَو نذر أَن يُصَلِّي كَذَا أَو كَذَا رَكْعَة فِي وَقت الظّهْر لزمَه
وَمن حكمه أَن وجوب الصلوة فِيهِ لَا يُنَافِي صِحَة صلوة أُخْرَى فِيهِ حَتَّى لَو شغل جَمِيع وَقت الظّهْر لغير الظّهْر يجوز
وَحكمه أَنه لَا يتَأَدَّى الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بنية مُعينَة لِأَن غَيره لما كَانَ مَشْرُوعا فِي الْوَقْت لَا يتَعَيَّن هُوَ بِالْفِعْلِ وَإِن ضَاقَ الْوَقْت لِأَن اعْتِبَار النِّيَّة بِاعْتِبَار المزاحم وَقد بقيت الْمُزَاحمَة عِنْد ضيق الْوَقْت
وَالنَّوْع الثَّانِي مَا يكون الْوَقْت معيارا لَهُ وَذَلِكَ فصل الصَّوْم فَإِنَّهُ يتَقَدَّر بِالْوَقْتِ وَهُوَ الْيَوْم
وَمن حكمه أَن الشَّرْع إِذا عين لَهُ وقتا لَا يجب غَيره فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا يجوز إداء غَيره فِيهِ حَتَّى أَن الصَّحِيح الْمُقِيم لَو أوقع
(1/135)
 
 
إِمْسَاكه فِي رَمَضَان عَن وَاجِب آخر يَقع عَن رَمَضَان لَا عَمَّا نوى
وَإِذا انْدفع المزاحم فِي الْوَقْت سقط اشْتِرَاط التَّعْيِين فَإِن ذَلِك لقطع الْمُزَاحمَة وَلَا يسْقط أصل النِّيَّة لِأَن الْإِمْسَاك لَا يصير صوما إِلَّا بِالنِّيَّةِ
(1/136)
 
 
بحث أحد نَوْعي الْمَأْمُور بِهِ أَي الْمُقَيد
 
فَإِن الصَّوْم شرعا هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع نَهَارا مَعَ النِّيَّة
وَإِن لم يعين الشَّرْع لَهُ وقتا فَإِنَّهُ لَا يتَعَيَّن الْوَقْت لَهُ بِتَعْيِين العَبْد حَتَّى لَو عين العَبْد أَيَّامًا لقَضَاء رَمَضَان لَا تتَعَيَّن هِيَ للْقَضَاء وَيجوز فِيهَا صَوْم الْكَفَّارَة وَالنَّفْل وَيجوز قَضَاء رَمَضَان فِيهَا وَغَيرهَا
وَمن حكم هَذَا النَّوْع أَنه يشْتَرط تعْيين النِّيَّة لوُجُود المزاحم
ثمَّ للْعَبد أَن يُوجب شَيْئا على نَفسه موقتا أَو غير موقت وَلَيْسَ لَهُ تَغْيِير حكم الشَّرْع
مِثَاله إِذا نذر أَن يَصُوم يَوْمًا بِعَيْنِه لزمَه ذَلِك
وَلَو صَامَهُ عَن قَضَاء رَمَضَان أَو عَن كَفَّارَة يَمِينه جَازَ لِأَن الشَّرْع جعل الْقَضَاء مُطلقًا فَلَا يتَمَكَّن العَبْد من تَغْيِيره بالتقييد بِغَيْر ذَلِك الْيَوْم وَلَا يلْزم على هَذَا مَا إِذا صَامَهُ عَن نفل حَيْثُ يَقع عَن الْمَنْذُور لَا عَمَّا نوى لِأَن النَّفْل حق العَبْد إِذْ هُوَ يستبد بِنَفسِهِ من تَركه وتحقيقه فَجَاز ان يُؤثر فعله فِيمَا هُوَ حَقه لافيما هُوَ حق الشَّرْع
وعَلى اعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى قَالَ مَشَايِخنَا إِذا شرطا فِي الْخلْع أَن لَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سُكْنى سَقَطت النَّفَقَة دون السُّكْنَى حَتَّى لَا يتَمَكَّن
(1/138)
 
 
الزَّوْج من اخراجها عَن بَيت الْعدة لِأَن السُّكْنَى فِي بَيت الْعدة حق الشَّرْع فَلَا يتَمَكَّن العَبْد من إِسْقَاطه بِخِلَاف النَّفَقَة
(1/139)
 
 
بحث كَون الْمَأْمُور بِهِ فِي حق الْحسن نَوْعَيْنِ
 
فصل الْأَمر بالشَّيْء يدل على حسن الْمَأْمُور بِهِ
 
إِذا كَانَ الْآمِر حكيما لَان الْأَمر لبَيَان أَن الْمَأْمُور بِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يُوجد فَاقْتضى ذَلِك حسنه
ثمَّ الْمَأْمُور بِهِ فِي حق الْحسن نَوْعَانِ حسن بِنَفسِهِ وَحسن لغيره
فالحسن بِنَفسِهِ مثل الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وشكر الْمُنعم والصدق وَالْعدْل والصلوة وَنَحْوهَا من الْعِبَادَات الْخَالِصَة
فَحكم هَذَا النَّوْع أَنه إِذا وَجب على العَبْد أَدَاؤُهُ لَا يسْقط إِلَّا بِالْأَدَاءِ وَهَذَا فِيمَا لَا يحْتَمل السُّقُوط مثل الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى
وَأما مَا يحْتَمل السُّقُوط فَهُوَ يسْقط بِالْأَدَاءِ أَو بِإِسْقَاط الْأَمر
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا وَجَبت الصلوة فِي أول الْوَقْت سقط الْوَاجِب بِالْأَدَاءِ أَو باعتراض الْجُنُون وَالْحيض وَالنّفاس فِي آخر الْوَقْت بِاعْتِبَار أَن الشَّرْع أسقطها عَنهُ عِنْد هَذِه الْعَوَارِض وَلَا يسْقط بِضيق الْوَقْت وَعدم المَاء واللباس وَنَحْوه
النَّوْع الثَّانِي مَا يكون حسنا بِوَاسِطَة الْغَيْر وَذَلِكَ مثل السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة وَالْوُضُوء للصلوة فَإِن السَّعْي حسن بِوَاسِطَة كَونه مفضيا إِلَى أَدَاء الْجُمُعَة
(1/142)
 
 
وَالْوُضُوء حسن بِوَاسِطَة كَونه مفتاحا للصَّلَاة
وَحكم هَذَا النَّوْع أَنه يسْقط بِسُقُوط تِلْكَ الْوَاسِطَة حَتَّى أَن السَّعْي لَا يجب على من لَا جُمُعَة عَلَيْهِ وَلَا يجب الْوضُوء على من لَا صَلَاة عَلَيْهِ وَلَو سعى إِلَى الْجُمُعَة فَحمل مكْرها إِلَى مَوضِع آخر إِقَامَة الْجُمُعَة يجب عَلَيْهِ السَّعْي ثَانِيًا
(1/143)
 
 
وَلَو كَانَ معتكفا فِي الْجَامِع يكون السَّعْي سَاقِطا عَنهُ وَكَذَلِكَ لَو تَوَضَّأ فأحدث قبل أَدَاء الصلوة يجب عَلَيْهِ الْوضُوء ثَانِيًا
وَلَو كَانَ متوضئا عِنْد وجوب الصلوة لَا يجب عَلَيْهِ تَجْدِيد الْوضُوء
والقريب من هَذَا النَّوْع الْحُدُود وَالْقصاص وَالْجهَاد
فَإِن الْحَد حسن بِوَاسِطَة الزّجر عَن الْجِنَايَة
وَالْجهَاد حسن بِوَاسِطَة دفع شَرّ الْكَفَرَة وإعلاء كلمة الْحق وَلَو فَرضنَا عدم الْوَاسِطَة لَا يبْقى ذَلِك مَأْمُورا بِهِ فَإِنَّهُ لَوْلَا الْجِنَايَة لَا يجب الْحَد
وَلَوْلَا الْكفْر الْمقْضِي إِلَى الحراب لَا يجب عَلَيْهِ الْجِهَاد
فصل الْوَاجِب بِحكم الْأَمر نَوْعَانِ
 
أَدَاء وَقَضَاء
فالأداء عبارَة عَن تَسْلِيم عين الْوَاجِب إِلَى مُسْتَحقّه
وَالْقَضَاء عبارَة عَن تَسْلِيم
مثل الْوَاجِب إِلَى مُسْتَحقّه
ثمَّ الْأَدَاء نَوْعَانِ كَامِل وقاصر
فالكامل مثل أَدَاء الصَّلَاة فِي وَقتهَا بِالْجَمَاعَة أَو الطّواف متوضئا وَتَسْلِيم الْمَبِيع سليما كَمَا اقْتَضَاهُ العقد إِلَى المُشْتَرِي
(1/146)
 
 
وَتَسْلِيم الْغَاصِب الْعين الْمَغْصُوبَة كَمَا غصبهَا
وَحكم هَذَا النَّوْع أَن يحكم بِالْخرُوجِ عَن الْعهْدَة بِهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا
الْغَاصِب إِذا بَاعَ الْمَغْصُوب من الْمَالِك أَو رَهنه عِنْده أَو وهبه لَهُ وَسلمهُ إِلَيْهِ يخرج عَن الْعهْدَة وَيكون ذَلِك أَدَاء لحقه ويلغي مَا صرح بِهِ من البيع وَالْهِبَة
وَلَو غصب طَعَاما فأطعمه مَالِكه وَهُوَ لَا يدْرِي أَنه طَعَامه أَو غصب ثوبا فألبسه مَالِكه وَهُوَ لَا يدْرِي أَنه ثَوْبه يكون ذَلِك أَدَاء لحقه
(1/147)
 
 
وَالْمُشْتَرِي فِي البيع الْفَاسِد لَو أعَار الْمَبِيع من البَائِع اَوْ رَهنه عِنْده أَو آجره مِنْهُ أَو بَاعه مِنْهُ أَو وهبه لَهُ وَسلمهُ يكون ذَلِك أَدَاء لحقه ويلغي مَا صرح بِهِ من البيع وَالْهِبَة وَنَحْوه
بحث الْأَدَاء الْقَاصِر وَحكمه
 
وَأما الْأَدَاء الْقَاصِر تَسْلِيم عين الْوَاجِب مَعَ النُّقْصَان فِي صفته نَحْو الصلوة بِدُونِ تَعْدِيل الْأَركان أَو الطّواف مُحدثا ورد البيع مَشْغُولًا بِالدّينِ أَو بِالْجِنَايَةِ ورد الْمَغْصُوب مُبَاح الدَّم بِالْقَتْلِ أَو مَشْغُولًا بِالدّينِ أَو الْجِنَايَة بِسَبَب عِنْد الْغَاصِب وَأَدَاء الزُّيُوف مَكَان الْجِيَاد إِذا لم يعلم الدَّائِن ذَلِك
وَحكم هَذَا النَّوْع أَنه إِن أمكن جبر النُّقْصَان بِالْمثلِ ينجبر بِهِ وَإِلَّا يسْقط حكم النُّقْصَان إِلَّا فِي الْإِثْم
وعَلى هَذَا إِذا ترك تَعْدِيل الْأَركان فِي بَاب الصلوة لَا يُمكن تَدَارُكه بِالْمثلِ إِذْ لَا مثل لَهُ عِنْد المعبد فَسقط
وَلَو ترك الصلوة فِي أَيَّام التَّشْرِيق فقضاها فِي غير أَيَّام التَّشْرِيق لَا يكبر لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّكْبِير بالجهر شرعا
(1/150)
 
 
وَقُلْنَا فِي ترك قِرَاءَة الْفَاتِحَة والقنوت وَالتَّشَهُّد وتكبيرات الْعِيدَيْنِ أَنه يجْبر بالسهو
وَلَو طَاف طواف الْفَرْض مُحدثا يجْبر ذَلِك بِالدَّمِ وَهُوَ مثل لَهُ شرعا
وعَلى هَذَا لَو أدّى زيفا مَكَان جيد فَهَلَك عِنْد الْقَابِض لَا شَيْء لَهُ على الْمَدْيُون عِنْد أبي حنيفَة لانه لَا مثل الصّفة الْجَوْدَة مُنْفَرِدَة حَتَّى يُمكن جبرها بِالْمثلِ
وَلَو سلم العَبْد مُبَاح الدَّم بِجِنَايَة عِنْد الْغَاصِب وَعند البَائِع بعد الْمَبِيع فان هلك عِنْد الْمَالِك أَو المُشْتَرِي قبل الدّفع لزمَه الثّمن وَبرئ الْغَاصِب بِاعْتِبَار أصل الْأَدَاء
وان قتل بِتِلْكَ الْجِنَايَة اسْتندَ الْهَلَاك الى أول سَببه فَصَارَ كَأَنَّهُ لَا يُوجد الاداء عِنْد أبي حنيفَة
والمغصوبة إِذا ردَّتْ حَامِلا بِفعل عِنْد الْغَاصِب فَمَاتَتْ بِالْولادَةِ عِنْد الْمَالِك لَا يبرأ الْغَاصِب عَن الضَّمَان عِنْد أبي حنيفَة
(1/154)
 
 
بحث الْقَضَاء ونوعية كَامِل وقاصر
 
ثمَّ الأَصْل فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْأَدَاء كَامِلا كَانَ أَو نَاقِصا وانما يُصَار الى الْقَضَاء عِنْد تعذر الْأَدَاء وَلِهَذَا يتَعَيَّن المَال فِي الْوَدِيعَة وَالْوكَالَة وَالْغَصْب
وَلَو أَرَادَ الْمُودع وَالْوَكِيل وَالْغَاصِب أَن يمسك الْعين وَيدْفَع مَا يماثله لَيْسَ لَهُ ذَلِك وَلَو بَاعَ شَيْئا وَسلمهُ فَظهر بِهِ عيب كَانَ المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَين الْأَخْذ وَالتّرْك فِيهِ وَبِاعْتِبَار أَن الأَصْل هُوَ الْأَدَاء يَقُول الشَّافِعِي
الْوَاجِب على الْغَاصِب رد الْعين الْمَغْصُوبَة وان تَغَيَّرت فِي يَد الْغَاصِب تغيرا فَاحِشا وَيجب الْأَرْش بِسَبَب النُّقْصَان
وعَلى هَذَا لَو غصب حِنْطَة فطحنها أَو ساجة فَبنى عَلَيْهَا دَارا أَو شَاة فذبحها وشواهاأو عنبا فعصرها أَو حِنْطَة فزرعها وَنبت الزَّرْع كَانَ ذَلِك ملكا للْمَالِك عِنْده
وَقُلْنَا جَمِيعهَا للْغَاصِب ويجيب عَلَيْهِ رد الْقيمَة
وَلَو غصب فضَّة فضربها دَرَاهِم أَو تبرا فاتخذها دنانيرا أَو شَاة فذبحها لَا يَنْقَطِع حق الْمَالِك فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَكَذَلِكَ لَو غصب قطنا فغزله أَو غزلا فنسجه لَا يَنْقَطِع حق الْمَالِك فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَيتَفَرَّع من هَذَا مَسْأَلَة المضمونات وَلذَا قَالَ لَو ظهر العَبْد
(1/157)
 
 
الْمَغْصُوب بَعْدَمَا أَخذ الْمَالِك ضمانة من الْغَاصِب كَانَ العَبْد ملكا للْمَالِك وَالْوَاجِب على الْمَالِك رد مَا أَخذ من قيمَة العَبْد
وَأما الْقَضَاء فنوعان كَامِل وقاصر
فالكامل مِنْهُ تَسْلِيم مثل الْوَاجِب صُورَة وَمعنى كمن
غصب قفيز حِنْطَة فاستهلكها ضمن قفيز حِنْطَة وَيكون الْمُؤَدِّي مثلا للْأولِ صُورَة وَمعنى وَكَذَلِكَ الحكم فِي جَمِيع الْمِثْلِيَّات
وَأما الْقَاصِر فَهُوَ مَا لَا يماثل الْوَاجِب صُورَة ويماثل معنى كمن غصب شَاة فَهَلَكت ضمن قيمتهَا وَالْقيمَة مثل الشَّاة من حَيْثُ الْمَعْنى لَا من حَيْثُ الصُّورَة وَالْأَصْل فِي الْقَضَاء الْكَامِل
وعَلى هَذَا قَالَ أبي حنيفَة إِذا غصب مثلِيا فَهَلَك فِي يَده انْقَطع ذَلِك عَن أَيدي النَّاس ضمن قِيمَته يَوْم الْخُصُومَة لِأَن الْعَجز عَن تَسْلِيم الْمثل الْكَامِل إِنَّمَا يظْهر عِنْد الْخُصُومَة فَأَما قبل الْخُصُومَة فَلَا لتصور حُصُول الْمثل من كل وَجه
فَأَما مَا لَا مثل لَهُ لَا صُورَة وَلَا معنى لَا يُمكن إِيجَاب الْقَضَاء فِيهِ بِالْمثلِ
وَلِهَذَا الْمَعْنى قُلْنَا إِن الْمَنَافِع لَا تضمن بِالْإِتْلَافِ لِأَن إِيجَاب الضَّمَان بِالْمثلِ مُتَعَذر وإيجابه بِالْعينِ كَذَلِك لِأَن الْعين لَا تماثل الْمَنْفَعَة لَا صُورَة وَلَا معنى كَمَا إِذا غصب عبدا فاستخدمه شهرا أَو دَارا فسكن فِيهَا شهرا ثمَّ رد الْمَغْصُوب إِلَى الْمَالِك لَا يجب عَلَيْهِ ضَمَان الْمَنَافِع خلافًا للشَّافِعِيّ فَبَقيَ الْإِثْم حكما لَهُ وانتقل جَزَاؤُهُ إِلَى دَار الْآخِرَة
وَلِهَذَا الْمَعْنى قُلْنَا لَا تضمن مَنَافِع الْبضْع بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَة على الطَّلَاق وَلَا بقتل مَنْكُوحَة الْغَيْر وَلَا
(1/158)
 
 
بِالْوَطْءِ حَتَّى لَو وطئ زَوْجَة إِنْسَان لَا يضمن للزَّوْج شَيْئا إِلَّا إِذا ورد الشَّرْع بِالْمثلِ مَعَ أَنه لَا يماثله صُورَة وَمعنى فَيكون مثلا لَهُ شرعا فَيجب قَضَاؤُهُ بِالْمثلِ الشَّرْعِيّ وَنَظِيره مَا قُلْنَا أَن الْفِدْيَة فِي حق الشَّيْخ الفاني مثل الصَّوْم وَالدية فِي الْقَتْل خطأ مثل النَّفس مَعَ أَنه لَا مشابهة بَينهمَا
(1/159)
 
 
بحث تَقْسِيم النَّهْي إِلَى قسمَيْنِ
 
الْفَصْل الْحَادِي عشر فصل فِي النَّهْي
 
وَالنَّهْي نَوْعَانِ نهي عَن الْأَفْعَال الحسية كَالزِّنَا وَشرب الْخمر وَالْكذب وَالظُّلم
وَنهي عَن التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة كالنهي عَن الصَّوْم فِي يَوْم النَّحْر والصلوة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة وَبيع الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ
وَحكم النَّوْع الأول أَن يكون المنهى عَنهُ هُوَ عين مَا ورد عَلَيْهِ النَّهْي فَيكون عينه قبيحا فَلَا يكون مَشْرُوعا أصلا
وَحكم النَّوْع الثَّانِي أَن يكون المنهى عَنهُ غير مَا أضيف إِلَيْهِ النَّهْي فَيكون هُوَ حسنا بِنَفسِهِ قبيحا لغيره وَيكون الْمُبَاشر مرتكبا لِلْحَرَامِ لغيره لَا لنَفسِهِ وعَلى هَذَا
قَالَ أَصْحَابنَا النَّهْي عَن التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة يَقْتَضِي تقريرها
وَيُرَاد بذلك أَن التَّصَرُّف بعد النَّهْي يبْقى مَشْرُوعا كَمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَو لم يبْق مَشْرُوعا كَانَ العَبْد عَاجِزا عَن تَحْصِيل الْمَشْرُوع وَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِك نهيا للعاجز وَذَلِكَ من الشَّارِع محَال
(1/165)
 
 
بحث النَّهْي عَن الْأَفْعَال الحسية والشرعية
 
وَبِه فَارق الْأَفْعَال الحسية لانه لَو كَانَ عينهَا قبيحا لَا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى نهي الْعَاجِز لانه بِهَذَا الْوَصْف لَا يعجز يَوْم النَّحْر وَجَمِيع صور التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة مَعَ وُرُود النَّهْي عَنْهَا
وَيتَفَرَّع من هَذَا حكم البيع الْفَاسِد وَالْإِجَارَة الْفَاسِدَة وَالنّذر بِصَوْم يَوْم النَّحْر وَجَمِيع صور التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة مَعَ وُرُود النَّهْي عَنْهَا
فَقُلْنَا البيع الْفَاسِد يُفِيد الْملك عِنْد الْقَبْض بِاعْتِبَار أَنه بيع وَيجب نقضه بِاعْتِبَار كَونه حَرَامًا لغيره
وَهَذَا بِخِلَاف نِكَاح المشركات ومنكوحة الْأَب ومعتدة الْغَيْر ومنكوحته وَنِكَاح الْمَحَارِم وَالنِّكَاح بِغَيْر شُهُود
لِأَن مُوجب النِّكَاح حل التَّصَرُّف
وَمُوجب النَّهْي حُرْمَة التَّصَرُّف فاستحال الْجمع بَينهمَا فَيحمل النَّهْي على النَّفْي
فَأَما مُوجب البيع ثُبُوت الْملك وَمُوجب النَّهْي حُرْمَة التَّصَرُّف وَقد أمكن الْجمع بَينهمَا بَان يثبت الْملك وَيحرم التَّصَرُّف
أَلَيْسَ أَنه لَو تخمر الْعصير فِي ملك الْمُسلم يبْقى ملكه فِيهَا وَيحرم التَّصَرُّف
(1/168)
 
 
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِذا نذر بِصَوْم يَوْم النَّحْر أَيَّام التَّشْرِيق يَصح نَذره لِأَنَّهُ نذر بِصَوْم مَشْرُوع وَكَذَلِكَ لَو نذر بالصلوة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة يَصح لِأَنَّهُ نذر بِعبَادة مَشْرُوعَة لما ذكرنَا أَن النَّهْي
يُوجب بَقَاء التَّصَرُّف مَشْرُوعا وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شرع فِي النَّقْل فِي هَذِه الْأَوْقَات لزمَه بِالشُّرُوعِ وارتكاب الْحَرَام لَيْسَ بِلَازِم للُزُوم الاتمام فانه لَو صَبر حَتَّى حلت الصلوة بارتفاع الشَّمْس وغروبها ودلوكها أمكنه اتمام بِدُونِ الْكَرَاهَة
وَبِه فَارق صَوْم يَوْم الْعِيد فانه لَو شرع فِيهِ لَا يلْزمه عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَان الاتمام لَا يَنْفَكّ عَن ارْتِكَاب الْحَرَام
وَمن هَذَا النَّوْع وَطْء الْحَائِض فان النَّهْي عَن قربانها بِاعْتِبَار الْأَذَى لقَوْله تَعَالَى {ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن}
وَلِهَذَا قُلْنَا يَتَرَتَّب الْأَحْكَام على هَذَا الْوَطْء فَيثبت بِهِ إِحْصَان الْوَاطِئ وَتحل الْمَرْأَة للزَّوْج الأول وَيثبت بِهِ حكم الْمهْر وَالْعدة وَالنَّفقَة
وَلَو امْتنعت عَن التَّمْكِين لأجل الصَدَاق كَانَت نَاشِزَة عِنْدهمَا فَلَا تسْتَحقّ النَّفَقَة
وَحُرْمَة الْفِعْل لَا تنَافِي ترَتّب الْأَحْكَام كَطَلَاق الْحَائِض وَالْوُضُوء بالمياه الْمَغْصُوبَة والإصطياد بقوس مَغْصُوبَة وَالذّبْح بسكين مَغْصُوبَة والصلوة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَالْبيع فِي وَقت النداء فانه يَتَرَتَّب الحكم على هَذِه التَّصَرُّفَات مَعَ اشتمالها على الْحُرْمَة وَبِاعْتِبَار هَذَا الأَصْل قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا}
(1/169)
 
 
الْفَصْل الثَّانِي عشر فصل فِي تَعْرِيف طَرِيق المُرَاد بالنصوص
 
ان الْفَاسِق من أهل الشَّهَادَة فَينْعَقد النِّكَاح بِشَهَادَة الْفُسَّاق لَان النَّهْي عَن قبُول الشَّهَادَة بِدُونِ الشَّهَادَة محَال وانما لم تقبل شَهَادَتهم لفساد فِي الْأَدَاء لَا لعدم الشَّهَادَة أصلا
وعَلى هَذَا لَا يجب عَلَيْهِم اللّعان لَان ذَلِك أَدَاء الشَّهَادَة وَلَا أَدَاء مَعَ الْفَاسِق
بحث طَرِيق معرفَة المُرَاد بالنصوص
 
اعْلَم ان لمعْرِفَة المُرَاد بالنصوص طرقا مِنْهَا
1 - ان اللَّفْظ اذا كَانَ حَقِيقَة لِمَعْنى ومجازا لآخر فالحقيقة أولى مِثَاله مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْبِنْت المخلوقة من مَاء الزِّنَا يحرم على الزَّانِي نِكَاحهَا
وَقَالَ الشَّافِعِي رح يحل
وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا لِأَنَّهَا بنته حَقِيقَة فَتدخل تَحت قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم}
وَيتَفَرَّع مِنْهُ الْأَحْكَام على المذهبين من حل الْوَطْء وَوُجُوب الْمهْر وَلُزُوم النَّفَقَة وجريان التَّوَارُث وَولَايَة الْمَنْع عَن الْخُرُوج والبروز
2 - وَمِنْهَا أَن أحد المحملين إِذا أوجب تَخْصِيصًا فِي النَّص دون الآخر فالحمل على مَا لَا يسْتَلْزم التَّخْصِيص أولى
مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} فالملامسة لَو حملت على الوقاع
(1/175)
 
 
كَانَ النَّص مَعْمُولا بِهِ فِي جَمِيع صور وجوده
وَلَو حملت على الْمس بِالْيَدِ كَانَ النَّص مَخْصُوصًا بِهِ فِي كثير من الصُّور فان مس الْمَحَارِم والطفلة الصَّغِيرَة جدا غير نَاقض للْوُضُوء فِي أصح قولي الشَّافِعِي
وَيتَفَرَّع مِنْهُ الْأَحْكَام على المذهبين من إِبَاحَة الصلوة وَمَسّ الْمُصحف وَدخُول الْمَسْجِد وَصِحَّة الامامة وَلُزُوم التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء وتذكر الْمس فِي أثْنَاء الصلوة
3 - وَمِنْهَا أَن النَّص إِذا قرئَ بقراءتين أَو رُوِيَ بروايتين كَانَ الْعَمَل بِهِ على وَجه يكون عملا بِالْوَجْهَيْنِ أولى
مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {وأرجلكم} قرئَ بِالنّصب عطفا على المغسول وبالخفض عطفا على الْمَمْسُوح
فَحملت قِرَاءَة الْخَفْض على حَالَة التخفف وَقِرَاءَة النصب على حَالَة عدم التخفف وَبِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى قَالَ الْبَعْض جَوَاز الْمسْح ثَبت بِالْكتاب
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يطهرن} قرئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف
فَيعْمل بِقِرَاءَة التَّخْفِيف فِيمَا إِذا كَانَ أَيَّامهَا عشرَة
وبقراءة التَّشْدِيد فِيمَا إِذا كَانَ أَيَّامهَا دون الْعشْرَة
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا اذا انْقَطع دم الْحيض لأَقل من عشرَة
(1/176)
 
 
أَيَّام لم يجز وَطْء الْحَائِض حَتَّى تَغْتَسِل لِأَن كَمَال الطَّهَارَة يثبت بالإغتسال
وَلَو انْقَطع دَمهَا لعشرة أَيَّام جَازَ وَطئهَا قبل الْغسْل لِأَن مُطلق الطَّهَارَة ثَبت بِانْقِطَاع الدَّم
وَلِهَذَا قُلْنَا اذا انْقَطع دم الْحيض لعشرة أَيَّام فِي آخر وَقت الصلوة تلزمها فَرِيضَة الْوَقْت وان لم يبْق من الْوَقْت مِقْدَار مَا تَغْتَسِل بِهِ
وَلَو انْقَطع دَمهَا لأَقل من عشرَة ايام فِي آخر وَقت الصلوة
إِن بَقِي من الْوَقْت مِقْدَار مَا تَغْتَسِل فِيهِ وَتحرم للصلوة لزمتها الْفَرِيضَة وَإِلَّا فَلَا
ثمَّ نذْكر طرقا من التمسكات الضعيفة ليَكُون ذَلِك تَنْبِيها على مَوضِع الْخلَل فِي هَذَا النَّوْع مِنْهَا
ان التَّمَسُّك بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَنه قاء فَلم يتَوَضَّأ) لاثبات أَن الْقَيْء غير نَاقض ضَعِيف
لَان الْأَثر يدل على ان الْقَيْء لَا يُوجب الْوضُوء فِي الْحَال وَلَا خلاف فِيهِ وانما الْخلاف فِي كَونه ناقضا
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّك بقوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} لاثبات فَسَاد المَاء بِمَوْت الذُّبَاب ضَعِيف لَان النَّص يثبت حُرْمَة الْميتَة وَلَا خلاف فِيهِ وانما الْخلاف فِي فَسَاد المَاء
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
(حتيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ) لاثبات أَن الْخلّ لَا يزِيل النَّجس ضَعِيف لِأَن الْخَبَر يَقْتَضِي وجوب غسل الدَّم بِالْمَاءِ فيتقيد بِحَال وجود الدَّم على الْمحل وَلَا خلاف فِيهِ وانما الْخلاف فِي طَهَارَة الْمحل بعد زَوَال الدَّم بالخل
(1/177)
 
 
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
(فِي اربعين شَاة شَاة) لاثبات عدم جَوَاز دفع الْقيمَة ضَعِيف لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وجوب الشَّاة وَلَا خلاف فِيهِ وانما الْخلاف فِي سُقُوط الْوَاجِب بأَدَاء الْقيمَة
(1/178)
 
 
بحث التمسكات الضعيفة الْفَاسِدَة
 
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّك بقوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} لإِثْبَات وجوب الْعمرَة ابْتِدَاء ضَعِيف لِأَن النَّص يَقْتَضِي وجوب الْإِتْمَام وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بعد الشُّرُوع وَلَا خلاف فِيهِ وَإِنَّمَا الْخلاف فِي وُجُوبهَا ابْتِدَاء
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
(لاتبيعوا الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاع بالصاعين) لإِثْبَات أَن البيع الْفَاسِد لَا يُفِيد الْملك ضَعِيف لِأَن النَّص يَقْتَضِي تَحْرِيم البيع الْفَاسِد وَلَا خلاف فِيهِ وَإِنَّمَا الْخلاف فِي ثُبُوت الْملك وَعَدَمه
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
(أَلا لَا تَصُومُوا فِي هَذِه الْأَيَّام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وبعال) لإِثْبَات أَن النّذر بِصَوْم يَوْم النَّحْر لَا يَصح ضَعِيف لِأَن النَّص يَقْتَضِي حُرْمَة الْفِعْل وَلَا خلاف فِي كَونه حَرَامًا وَإِنَّمَا الْخلاف فِي إِفَادَة الْأَحْكَام مَعَ كَونه حَرَامًا وَحُرْمَة الْفِعْل لَا تنَافِي ترَتّب الْأَحْكَام فَإِن الْأَب لَو استولد جَارِيَة ابْنه يكون حَرَامًا وَيثبت بِهِ الْملك للْأَب
وَلَو ذبح شَاة بسكين مَغْصُوبَة يكون حَرَامًا وَيحل الْمَذْبُوح
وَلَو غسل الثَّوْب النَّجس بِمَاء مَغْصُوب يكون حَرَامًا ويطهر بِهِ الثَّوْب
(1/185)
 
 
وَلَو وطىء امْرَأَة فِي حَالَة الْحيض يكون حَرَامًا وَيثبت بِهِ إِحْصَان الواطىء وَيثبت الْحل للزَّوْج الأول
(1/186)
 
 
الْفَصْل الثَّالِث عشر تَقْرِير حُرُوف الْمعَانِي
 
الْوَاو للْجمع الْمُطلق وَقيل أَن الشَّافِعِي جعله للتَّرْتِيب وعَلى هَذَا الْوَاجِب التَّرْتِيب فِي بَاب الْوضُوء
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رح إِذا قَالَ لامْرَأَته ان كلمت زيدا أَو عمرا فَأَنت طَالِق فكلمت عمرا ثمَّ زيدا طلقت وَلَا يشْتَرط فِيهِ معنى التَّرْتِيب والمقارنة
وَلَو قَالَ إِن دخلت هَذِه الدَّار وَهَذِه الدَّار فَأَنت طَالِق فَدخلت الثَّانِيَة ثمَّ دخلت الأول طلقت
قَالَ مُحَمَّد رح إِذا قَالَ أَن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق تطلق فِي الْحَال وَلَو اقْتضى ذَلِك ترتيبا لترتب الطَّلَاق بِهِ على الدُّخُول وَيكون ذَلِك تَعْلِيقا لَا تنجيزا
وَقد تكون الْوَاو للْحَال فتجمع بَين الْحَال وَذي الْحَال وَحِينَئِذٍ تفِيد معنى الشَّرْط مِثَاله مَا قَالَ فِي الْمَأْذُون إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا وَأَنت حر يكون الْأَدَاء شرطا للحرية
وَقَالَ مُحَمَّد فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ الإِمَام للْكفَّار افتحوا الْبَاب وَأَنْتُم آمنون لَا يأمنون بِدُونِ الْفَتْح وَلَو قَالَ للحربي أنزل وَأَنت آمن لَا يَأْمَن بِدُونِ النُّزُول
وَإِنَّمَا تحمل الْوَاو على الْحَال لطريق الْمجَاز فَلَا بُد من احْتِمَال
(1/189)
 
 
اللَّفْظ ذَلِك وَقيام الدّلَالَة على ثُبُوته كَمَا فِي قَول الْمولى لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا وَأَنت حر فَإِن الْحُرِّيَّة تتَحَقَّق حَال الْأَدَاء وَقَامَت الدّلَالَة على ذَلِك فَإِن الْمولى لَا يسْتَوْجب على عَبده مَالا مَعَ قيام الرّقّ فِيهِ وَقد صَحَّ التَّعْلِيق بِهِ فَحمل عَلَيْهِ
(1/190)
 
 
بحث كَون الْوَاو لمُطلق الْجمع وَالْفَاء للتعقيب
 
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة أَو مصلية تطلق فِي الْحَال وَلَو نوى التَّعْلِيق صحت نِيَّته فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى لِأَن اللَّفْظ وَإِن كَانَ يحْتَمل معنى الْحَال إِلَّا أَن الظَّاهِر خِلَافه وَإِذا تأيد ذَلِك بِقَصْدِهِ ثَبت
وَلَو قَالَ خُذ هَذِه الْألف مُضَارَبَة واعمل بهَا فِي الْبَز لَا يتَقَيَّد الْعَمَل فِي الْبَز وَيكون الْمُضَاربَة عَامَّة لِأَن الْعَمَل فِي الْبَز لَا يصلح حَالا لأخذ الْألف مُضَارَبَة فَلَا يتَقَيَّد صدر الْكَلَام بِهِ
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة إِذا قَالَت لزَوجهَا (طَلقنِي وَلَك ألف) فَطلقهَا لَا يجب لَهُ عَلَيْهَا شيءلأن قَوْلهَا (وَلَك ألف) لَا يُفِيد حَال وجوب الْألف عَلَيْهَا وَقَوْلها (طَلقنِي) مُفِيد بِنَفسِهِ فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِدُونِ الدَّلِيل
بِخِلَاف قَوْله احْمِلْ هَذَا الْمَتَاع وَلَك دِرْهَم لِأَن دلَالَة الْإِجَارَة يمْنَع الْعَمَل بِحَقِيقَة اللَّفْظ
وَلِهَذَا تسْتَعْمل فِي الأجزية لما أَنَّهَا تتعقب الشَّرْط قَالَ أَصْحَابنَا رح إِذا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف فَقَالَ الآخر
فصل الْفَاء للتعقيب مَعَ الْوَصْل
(1/193)
 
 
فَهُوَ حر يكون ذَلِك مَقْبُولًا للْبيع اقْتِضَاء وَيثبت الْعتْق مِنْهُ عقيب البيع
بِخِلَاف مَا لَو قَالَ وَهُوَ حر أَو هُوَ حر فَإِنَّهُ يكون ردا للْبيع وَإِذا قَالَ للخياط انْظُر إِلَى هَذَا الثَّوْب أيكفيني قَمِيصًا فَنظر فَقَالَ نعم
فَقَالَ صَاحب الثَّوْب فاقطعه فَقَطعه فَإِذا هُوَ لَا يَكْفِيهِ كَانَ الْخياط ضَامِنا لِأَنَّهُ إِنَّمَا أمره بِالْقطعِ عقيب الْكِفَايَة
بِخِلَاف مَا لَو قَالَ اقطعه أَو واقطعه فَقَطعه فَإِنَّهُ لَا يكون الْخياط ضَامِنا
وَلَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْب بِعشْرَة فاقطعه فَقَطعه وَلم يقل شَيْئا كَانَ البيع تَاما
وَلَو قَالَ إِن دخلت هَذِه الدَّار فَهَذِهِ الدَّار فَأَنت طَالِق فَالشَّرْط دُخُول الثَّانِيَة عقيب دُخُول الأولى مُتَّصِلا بِهِ حَتَّى لَو دخلت الثَّانِيَة أَولا أَو آخرا لكنه بعد مُدَّة لَا يَقع الطَّلَاق
(1/194)
 
 
بحث أَن الْفَاء قد تسْتَعْمل لبَيَان الْعلية
 
وَقد تكون الْفَاء لبَيَان الْعلَّة مِثَاله إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا فَأَنت حر كَانَ العَبْد حرا فِي الْحَال وَإِن لم يؤد شَيْئا
وَلَو قَالَ للحربي إنزل فَأَنت آمن كَانَ آمنا وَإِن لم ينزل
وَفِي الْجَامِع مَا إِذا قَالَ أَمر امْرَأَتي بِيَدِك فَطلقهَا فَطلقهَا فِي الْمجْلس طلقت تَطْلِيقَة بَائِنَة وَلَا يكون الثَّانِي توكيلا بِطَلَاق غير الأول فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ طَلقهَا بِسَبَب أَن أمرهَا بِيَدِك
وَلَو قَالَ طَلقهَا فَجعلت أمرهَا بِيَدِك فَطلقهَا فِي الْمجْلس طلقت تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة
وَلَو قَالَ طَلقهَا وَجعلت أمرهَا بِيَدِك وَطَلقهَا فِي الْمجْلس طلقت تَطْلِيقَتَيْنِ
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ طَلقهَا وَابْنهَا أَو ابْنهَا وَطَلقهَا فَطلقهَا فِي الْمجْلس وَقعت
تَطْلِيقَتَانِ وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا
إِذا أعتقت الْأمة الْمَنْكُوحَة ثَبت لَهَا الْخِيَار سَوَاء كَانَ زَوجهَا عبدا أَو حرا لِأَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لبريدة حِين أعتقت
(ملكت بضعك فاختاري) أثبت الْخِيَار لَهَا بِسَبَب ملكهَا بضعهَا بِالْعِتْقِ وَهَذَا الْمَعْنى لَا يتَفَاوَت بَين كَون الزَّوْج عبدا أَو حرا
وَيتَفَرَّع مِنْهُ مَسْأَلَة (اعْتِبَار الطَّلَاق بِالنسَاء) فَإِن بضع الْأمة
(1/198)
 
 
الْمَنْكُوحَة ملك الزَّوْج وَلم يزل عَن ملكه بِعتْقِهَا فدعَتْ الضَّرُورَة إِلَى القَوْل بازدياد الْملك بِعتْقِهَا حَتَّى يثبت لَهُ الْملك فِي الزِّيَادَة وَيكون ذَلِك سَببا لثُبُوت الْخِيَار لَهَا وازدياد ملك الْبضْع بِعتْقِهَا معنى مَسْأَلَة اعْتِبَار الطَّلَاق بِالنسَاء فيدار حكم مالكية الثَّلَاث على عتق الزَّوْجَة دون عتق الزَّوْج كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي رح
(1/199)
 
 
فصل ثمَّ للتراخي
 
لكنه عِن