أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: أصُولُ الِفقهِ الذي لا يَسَعُ الفَقِيهِ جَهلَهُ
المؤلف: عياض بن نامي بن عوض السلمي
عدد الأجزاء: 1     
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، وترفع الدرجات، أحمده على آلائه ونعمه، وأعوذ به من عذابه وغضبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالحق بشيراً ونذيراً، فبشر ويسر، وحذر وأنذر، حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد طلب مني كثير من الإخوان في مناسبات عديدة أن أكتب كتاباً في أصول الفقه يكون متوسطاً في حجمه، جامعاً لأهم مسائل هذا العلم، مع وضوح العبارة وضرب الأمثلة التي تقربه للفهم وتظهر فوائده لطلاب العلم.
وقد رأيت أن أجيب طلبهم بتأليف كتاب يحتوي على ما لا يستغني عنه الفقيه من أصول الفقه، مع تجنب الإطالة في مسائل الخلاف، والاكتفاء بالأقوال المشهورة وأهم أدلتها، والعناية ببيان حقيقة الخلاف، وتصحيح ما يقع من الوهم أو سوء الفهم للمشتغلين بهذا العلم في تحرير مسائله وتقريرها وتصويرها.
وقد عُنيتُ عنايةً خاصة بثمرات الخلاف، والوقوف عند بعض القضايا الشائكة وتحريرها وتقريبها للفهم، وقد أخالف ما عليه أكثر الأصوليين في اختيار رأي أو تعريف، أو نحو ذلك، لا رغبةً في المخالفة، ولكن إيضاحاً لما أعتقده من الحق، أو تصحيحاً لخطأ نشأ عن سوء الفهم أو تضارب النقول عن أئمة الأصول.
(1/3)
 
 
وقد اجتهدتُ في أن يكون الكتاب شاملاً للمناهج التي تدرس في كليات الشريعة وأصول الدين في الجامعات السعودية؛ رجاء أن يكون الطلابُ أولَ المستفيدين منه.
وليشمل الكتاب جميع المسائل المهمة في أصول الفقه قسمته إلى تمهيد وستة أبواب وخاتمة، على النحو التالي:
التمهيد: التعريف بأصول الفقه.
الباب الأول: الحكم الشرعي.
الباب الثاني: أدلة الأحكام الشرعية.
الباب الثالث: دلالة الألفاظ.
الباب الرابع: التعارض وطرق دفعه.
الباب الخامس: الاجتهاد.
الباب السادس: التقليد.
وقد رأيت أن لا أثقل الكتاب بالهوامش والحواشي، فاقتصرت على توثيق المعلومات التي لا يتكرر وجودها في كتب التخصص، أو التي فيها شيء من الغرابة.
وفي تخريج الأحاديث اقتصرت على عزو الحديث لمن خرَّجه في الصلب، وإذا خُرّج في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به.
واللهَ أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.
والحمد لله أولا وآخرا. وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه أجمعين.
عياض السلمي
الرياض 1/ 1/1426هـ
(1/4)
 
 
التمهيد
التعريف بأصول الفقه
1 - نشأة أصول الفقه:
أصول الفقه ككثير من العلوم الإسلامية لم يأخذ شكله النهائي الذي يميزه عن سائر علوم الشريعة إلا في آخر القرن الثاني، أما في العهد النبوي وعهد الصحابة وأوائل عهد التابعين فلم يكن أصول الفقه علما مستقلا متميزا عن غيره من علوم الشريعة، ولكن قواعده العامة كانت موجودة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأدلة الشرعية التي هي موضوع هذا العلم الرئيس كانت معروفة، والاستدلال بالكتاب والسنة والقياس كان حاصلا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة الكتاب والسنة كانت معروفة للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بحكم معرفتهم بلغة العرب التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أمراء الفصاحة والبيان، وأعرف الناس بمعاني اللغة من حقيقة ومجاز، وإطلاق وتقييد، وعموم وخصوص، ومنطوق ومفهوم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن توضع لهم قواعد تبين طرق الدلالات.
وهم بالإضافة إلى ما سبق قد عرفوا أسباب النزول، والظروف التي قيلت فيها الأحاديث القولية، وشهدوا الحوادث التي قضى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء أو سنَّ فيها سنة، فأغناهم ذلك عن كثير مما احتاج إليه المتأخرون، وكانوا يجمعون إلى ذلك سلامة النية وحسن القصد في طلب الحق من غير هوى ولا تعصب.
كان الصحابة رضي الله عنهم يفزعون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يعرض لهم من الحوادث،
(1/5)
 
 
فإن كان الحكم قد أوحي إليه به أفتاهم وأرشدهم، سواء أكان الوحي متلواً أم غير متلو، وإن لم ينزل عليه في ذلك وحي صريح نظر فيما أوحي إليه، فإن ظهر له حكم المسألة أخبرهم به وإلا انتظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قرب بحكم ما أشكل عليه.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة بالحمر الأهلية، فقال: «ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة 7 - 8]» (متفق عليه).
فهذا استدلال من الرسول صلى الله عليه وسلم بعموم الكتاب على مسألة جزئية، ومثله إنكاره على أبي بن كعب رضي الله عنه تأخره عن إجابة ندائه لاشتغاله بالصلاة، واستدلاله عليه بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال 24] (أخرجه أحمد والترمذي)، ومثل هذه القصة ما حصل لأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه (أخرجه البخاري).
ومن اجتهاداته فيما لم يرد فيه نص بخصوصه ولا بعمومه اجتهاده في أخذ الفداء من أسرى بدر، وعقد الصلح مع أهل مكة عام الحديبية، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
وأما الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يجتهدون في فهم النصوص من الكتاب والسنة، ويسأل بعضهم بعضا فيما خفي عليه، ويقيسون المسائل بما يشبهها، ولم يكونوا بحاجة إلى وضع قواعد تضبط استدلالهم مع حضور تلك القواعد في أذهان المجتهدين منهم، وكذلك كان الحال في عهد كبار التابعين مع ظهور التفاضل بينهم في العلم والفتوى.
وفي أواخر عهد التابعين بدأت المدارس الفقهية تظهر قدرا أكبر من التمايز
(1/6)
 
 
والاختلاف، فبرز في العراق ما سمي أخيرا بمدرسة أهل الرأي، وبرز في المدينة ما عرف بمدرسة أهل الحديث (1). وكان طلاب الفتوى يترددون بين علماء هذا الاتجاه أو ذاك، وربما سأل بعضهم في النازلة أكثر من عالم من غير أن ينكر هؤلاء أو أولئك على عوام الناس سؤالهم لمن يثقون به.
وكان في كل بلد من حواضر الإسلام علماء يرجع إليهم الناس في الفتيا والقضاء، ولهؤلاء العلماء طلاب تأثروا بمنهجهم واقتفوا آثارهم وربما التقى العلماء فتناظروا وأدلى كل منهم بحجته، فإما أن يرجع أحدهم إلى قول صاحبه أو يبقى على رأيه لقناعته بصحته لا حبا في الخلاف، وربما التقى الطلاب فتفاخر كل منهم بأستاذه ومعلمه.
وفي هذه الأثناء بدأ التعصب لرأي الشيخ والإعجاب به يطغى على الإنصاف عند بعض الطلاب، ولم تكن هناك قواعد يرجع إليها لوزن الآراء ومعرفة الراجح منها والمرجوح.
وفي هذا الوقت كثر اختلاط العجم بالعرب، وضعف اللسان العربي، ودخل الوضع في الحديث لنصرة مذهب سياسي أو لتأييد رأي، وتصدر للرواية من لم يكن أهلا، واحتاج القرآن إلى تفسير وإيضاح، واحتاجت السنة إلى تمييز الصحيح منها عن الضعيف.
ولذلك كله شرع الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في وضع قواعد تضبط الاستدلال، وتبين ما يصلح دليلا وما لا يصلح، وتبين عمل الفقيه عند تعارض الأدلة عنده، وتؤسس قواعد الفهم لنصوص الكتاب والسنة، فكتب الرسالة، وجعلها بمثابة مقدمة لكتاب الأم، فتلقاها أكثر الناس بالقبول وأعجبوا بها
_________
(1) في معالم السنن: انقسام أهل الزمان إلى أهل حديث وأثر، وأهل فقه ونظر.
(1/7)
 
 
حتى قال الإمام أحمد: «ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه مِنَّة، فقلنا: يا أبا محمد كيف ذلك؟ قال: إن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام عليهم الحجة» (1). ولم يكن كتاب الرسالة هو كل ما كتبه الشافعي في أصول الفقه، بل كتب كتبا أخرى لكنها لم تكن في شمول الرسالة ولا في تمحضها لمسائل هذا العلم، ومن تلك الكتب اختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وجماع العلم، وكتاب أحكام القرآن (2).
وبعد الإمام الشافعي تتابع التأليف في هذا العلم فكتب الإمام أحمد بن حنبل كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب داود الظاهري: الإجماع، وإبطال التقليد، وخبر الواحد، والخصوص والعموم، وكتب عيسى بن أبان كتابا في خبر الواحد، وكتب الكرخي رسالة في أصول الفقه طبعت مع كتاب تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي وهي تقع في ورقات قليلة أشبه بقواعد فقهية لعلماء الحنفية، ومن أقدم كتب الحنفية الموجودة: الفصول، لأبي بكر الجصاص، وهو مطبوع محقق.
وكان القرنان الخامس والسادس هما عصر ازدهار التأليف في أصول الفقه، حيث ظهرت فيهما أهم كتب أصول الفقه مثل العمد للقاضي عبد الجبار، والمعتمد لأبي الحسين البصري، واللمع، والتبصرة كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي، والعدة للقاضي أبي يعلى، والمستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل للغزالي، والواضح لابن عقيل، والتمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني، وأصول السرخسي، وأصول البزدوي، وإحكام الفصول، والإشارة، لأبي الوليد الباجي.
_________
(1) الانتقاء لابن عبد البر ص 86.
(2) البحر المحيط 1/ 7.
(1/8)
 
 
وفي أواخر القرن السادس وما بعده انتشرت المختصرات والشروح، فأما المختصرات فكان القصد منها الحفظ وجمع أكبر قدر من المسائل الأصولية في كتاب صغير يمكن حفظه. وأما الشروح فكان القصد منها حل ما في المختصرات من إشكال، وتفصيل ما فيها من إجمال، وتقريب المسائل بضرب الأمثلة وبيان الراجح من الأقوال بذكر الأدلة.
وفي العصر الحديث ضعفت همم الناس عن حفظ المختصرات، وقصرت أفهامهم عن إدراك ما فيها من المبهمات، ولم يجدوا من الوقت ما يقضونه في دراسة المطولات، من الشروح والمؤلفات، فاحتاجوا إلى نوع جديد من المؤلفات، يكون سهل العبارة محصلا للمقصود من أصول الفقه بأيسر طريق.
ولما كان أصول الفقه من علوم الآلة لا من العلوم التي تقصد لذاتها وإنما للتوصل إلى الفقه في الدين ومعرفة الحلال من الحرام بطريق يطمئن إليها العالم ويقتنع بها طالب العلم، لم أر بأساً من الإسهام في إعادة صياغة هذا العلم بأسلوب ميسر، مع المحافظة على أسسه وقواعده، ومحاولة التقريب بينه وبين الفقه، ليمتزج العلمان فتؤخذ الثمرة من المثمِر طرية يانعة.
وما يتخوّف منه بعض الغيورين من ابتعاد الناس عن كتب التراث وجهلهم بلغتها وأسلوبها إن هم اكتفوا بتلك المؤلفات الحديثة، لا أرى له ما يؤيده من النقل ولا من العقل؛ فإن النقل إنما جاء بالأمر بالتفقه في الدين ومعرفة حكم الله جل وعلا بالطريق الصحيح والعمل به: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة 122] «رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها»، ولم يتعبدنا الله جل وعلا بقراءة كتاب غير كتابه ولا بحفظ كلام سوى كلامه، ولم يتعبدنا الله بالاجتهاد في فهم معميات المختصرات، ولا بالاجتهاد في منطوق
(1/9)
 
 
كلام أحد من خلقه ومفهومه إلا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو حجة يجب تأملها والنظر فيها وفق ما تقرر من قواعد الفهم والاستدلال.
وأما العقل فإنه يقتضي ضرورة البحث عن الحق بأيسر وسيلة وأقربها، وأن لا يضيع الإنسان عمره في سلوك الدروب المتعرجة مع تمكنه من الوصول إلى الغاية بالطريق المستقيم.
وليس معنى هذا الكلام الدعوة إلى ترك كتب المتقدمين والاكتفاء عنها بكتب المتأخرين، وإنما المقصود أن لا يظن من لم يسعفه ذهنه بإدراك كتب المتقدمين أن الطريق أمامه موصدة فيرضى بمرتبة التقليد، بل عليه أن يعرف مما كتبه المحدثون ما يمكنه من الاختيار والترجيح، ويعينه على معرفة القول الباطل من الصحيح.
2 - تعريف أصول الفقه:
لا أظن أن هذا العلم بعد اشتهاره وكثرة المؤلفات فيه بحاجة إلى تعريف، فهو أشهر من أن يعرف، ولكن العادة جرت بأن كل من كتب في أصول الفقه يذكر تعريفه، إما لأن هذا العلم متداخل مع علوم شتى من علوم الشريعة مثل الفقه والحديث والتفسير، ومتداخل مع علوم اللغة كعلم المعاني والبيان والنحو، وإما لأن الذين كتبوا في هذا العلم من المتقدمين اعتادوا أن يذكروا تعريفه لأنه لم يتميز في عهدهم تميزا كاملا عن غيره من العلوم ثم جاء من بعدهم فقلدهم، وإما لأنهم تأثروا بما يقوله أهل المنطق من أنه يجب على كل من درس علما أن يعرف تعريفه وموضوعه وغايته، ثم يشرع في تعلم مسائله.
وإرضاء لرغبة عامة طلاب العلم أذكر التعريف المختار لهذا العلم بالنظر إلى كونه مركباً إضافياً، وبالنظر إلى كونه عَلَماً على عِلم مخصوص من علوم الشريعة.
(1/10)
 
 
أـ ... تعريف أصول الفقه بالنظر الأول:
أصول الفقه مركب من مضاف ومضاف إليه، وتعريفه يقتضي معرفة جزءيه، والمضاف إليه آصل من المضاف، فينبغي أن نعرفه أولا ثم نعرف المضاف.
تعريف الفقه:
الفقه في اللغة: الفهم، أو هو معرفة باطن الشيء والوصول إلى أعماقه، كما يقول الراغب الأصفهاني في المفردات، أو هو فهم الأشياء الدقيقة، ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء44] {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود91].
وفي الاصطلاح: «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية».
شرح التعريف:
قولهم: (العلم): جنس، يشمل العلم بالأحكام الشرعية وبغيرها من التصورات والأحكام. والمراد به هنا مطلق الإدراك الشامل للظن واليقين. وليس المراد به الإدراك القطعي اليقيني؛ لأن كثيرا من مسائل الفقه ظنية، بل إن من العلماء من خص الفقه بمعرفة المسائل الاجتهادية ولم يجعل المسائل الظاهرة التي يشترك في معرفتها العامة والخاصة من الفقه. أو يقال: المراد بالعلم مجموعة المعارف المندرجة تحت هدف كلي واحد، كما يقال: علم الطب، وعلم الفلك، مع أن كثيرا من قضاياهما ظني. وهذا أولى من جواب الرازي الذي زعم فيه أن الفقه ليس من باب الظنون؛ لأنه مبني على مقدمتين قطعيتين فيكون قطعياً.
(1/11)
 
 
وهاتان المقدمتان هما:
1 - مقدمة وجدانية، وهي ما يجده المجتهد في نفسه من الظن بأن هذا حكم الله.
2 - مقدمة إجماعية، وهي الإجماع على أن ما هذا شأنه يجب العمل به.
وإنما قلت: إن هذا أولى؛ لما في جواب الرازي من التكلف.
وقولهم: (بالأحكام): قيد أخرج العلم بما لا حكم فيه وهو التصور. والحكم يراد به هنا: إثبات أمر لآخر أو نفيه عنه.
وقولهم: (الشرعية): أخرج العلم بالأحكام غير الشرعية كالحكم بصحة العبارة لغة أو بخطئها، وكالعلم بنفع هذا الدواء للمريض وضرره، فالأول حكم لغوي، والثاني طبي.
وقولهم: (العملية) أي: المتعلقة بما يصدر عن الناس من أعمال كالصلاة والزكاة والصوم والبيع، وهذا القيد يخرج الأحكام الاعتقادية، فإن العلم بها لا يسمى فقها في الاصطلاح؛ لاختصاص الفقه بالعلم بالأحكام العملية، وهذا لا ينفي أنهم كانوا يطلقون اسم الفقه الأكبر على مسائل الاعتقاد، ولكن هذا العلم اختص باسم آخر وهو علم التوحيد أو علم الكلام.
وقولهم: (المكتسب): صفة للعلم، والعلم المكتسب هو الحادث الذي يحصل باجتهاد وعمل، فيخرج علم الله جل وعلا فإنه أزلي، وعلم جبريل عليه السلام فإنه حصل بإعلام الله له ولا كسب له فيه، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه فإنه علم لدُنِّيٌّ فلا يسمى فقها في الاصطلاح، وأما ما حصل باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم فيدخل في مسمى الفقه.
وقولهم: (من أدلتها التفصيلية)، متعلق بقولهم المكتسب، فالأدلة هي وسيلة اكتساب هذا العلم، وهذا يخرج علم المقلد فإنه ليس مكتسبا من الأدلة بل
(1/12)
 
 
اكتسبه بتقليد غيره.
والأدلة التفصيلية: هي الأدلة الجزئية الخاصة بكل مسألة فقهية، مثل آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة 3] الدالة على تحريم كل أجزاء الميتة. وحديث: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» (أخرجه أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عباس مرفوعا، ومعناه في صحيح مسلم) الدال على طهارة جلد الميتة بالدبغ، وقياس الخنزير على الكلب في وجوب غسل الإناء من سؤره سبعا، وهكذا سائر الأدلة التفصيلية.
ومع أن كلمة الفقه لم تكن تطلق في الاصطلاح الأول إلا على الأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية بنوع من الاجتهاد، غير أن المتأخرين أصبحوا يطلقون هذه الكلمة على جميع الأحكام العملية التي تحويها كتب الفقه المصنفة مع أن فيها ما يشترك في معرفته الخاص والعام من المسلمين؛ لدلالة النصوص القطعية المشتهرة عليه، فيكون الفقه اسما لمجموع تلك المسائل لا للعلم بها أو ببعضها.
وتأسيساً على ما سبق أصبح اسم الفقيه يطلق على من عرف تلك الأحكام، سواء عرفها بنظر واجتهاد، أو عرفها تقليدا لإمام من الأئمة.
ولو راعينا المعنى المراد من كلمة الفقه في عرف القرآن والسنة وعرف الصحابة والتابعين، لقصرنا اسم الفقيه على من عرف الأحكام الشرعية التي تحتاج في إدراكها إلى نظر واجتهاد دون ما يشترك فيه عامة المسلمين، وكانت معرفته مبنية على إدراك أدلتها لا تقليداً لغيره، ولم نفرق بين الأحكام الاعتقادية والعملية.
وهاهنا سؤال أورده الآمدي وغيره، خلاصته: أن الفقه إذا كان هو العلم بالأحكام الخ، فينبغي أن لا يسمى فقيها إلا من علم تلك الأحكام كلها، وهذا
(1/13)
 
 
لا يجتمع لواحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن العلماء توقفهم في بعض المسائل ولم يمنع ذلك من إطلاق وصف الفقه عليهم، ولم يخرجوا من الفقهاء لتوقفهم.
والجواب عنه: أن المراد بالعلم بتلك الأحكام ليس حضورها في ذهن العالم بالفعل، وإنما حضور أكثرها في ذهنه، وقدرته على استنباط بعضها بعد النظر والاجتهاد، فيكون علمه لبعضها بالفعل وللباقي بالقوة القريبة بحيث يستطيع معرفتها دون حاجة إلى تعلم علم جديد.
 
تعريف الأصول:
الأصول: جمع أصل، وهو في اللغة: ما يبنى عليه غيره. ويطلق على منشأ الشيء.
وفي الاصطلاح: أطلق لفظ الأصل على عدة معان، أهمها ما يلي:
1 - الدليل: كما يقول الفقهاء: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة والإجماع، أي: الدليل عليها.
2 - القاعدة المستمرة: كما يقول الأصوليون: الأصل أن الخاص مقدم على العام عند التعارض، وكما يقول النحاة: الأصل في المبتدأ التقديم وفي الخبر التأخير.
3 - الراجح: كما يقول الأصوليون: الأصل بقاء ما كان على ما كان. والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية.
4 - مخرج المسألة الفرضية، أي: العدد الذي تخرج منه الفروض المقدرة بلا كسر، كما يقول الفرضيون: أصل هذه المسألة كذا، وأصول المسائل 2، 3، 4، 6، 8، 12، 18، 24.
(1/14)
 
 
5 - المقيس عليه، كما يقول الأصوليون في باب القياس: أركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم.
وأقرب هذه المعاني لإطلاق الأصل هنا هو المعنى الأول ثم الثاني.
ب ـ ... تعريف أصول الفقه باعتباره علَماً:
وأما أصول الفقه الذي هو علَم على علم من علوم الشريعة فهو: كما عرفه الرازي: «مجموع طرق الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد».
شرح التعريف:
قوله: (مجموع طرق الفقه) أي: مجموع الطرق التي توصل إلى إدراك الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
وعبَّر بالطرق دون الأدلة؛ لأن الأدلة عند كثير من العلماء لا تشمل ما يفيد الظن مثل القياس والاستصلاح ونحوهما من الطرق التي جعلها الفقهاء أمارات على الأحكام، وإنما تطلق على النصوص القطعية والإجماع القطعي فحسب.
قوله: (الإجمالية): نسبة إلى الإجمال وهو ضد التفصيل، وعبر بالإجمالية ليخرج طرق الفقه التفصيلية التي يعد الاشتغال بها من عمل الفقيه كما أسلفنا.
وبحث الأصولي لا يتعلق بآية من القرآن بخصوصها كيف تدل على ما دلت عليه من الأحكام، ولا حديث بعينه، ولا قياس بعينه، وإنما يبحث في حجية الكتاب وحجية السنة وحجية القياس، وهكذا. فهو يبحث في عوارض تلك الأدلة وما توصف به من قوة أو ضعف وإحكام أو نسخ، وفي شروطها وترتيبها وكيفية الجمع بينها عند تعارضها في نظر من لم يتأملها جيدا.
(1/15)
 
 
قوله: (وكيفية الاستفادة منها) أي: طرق استفادة الأحكام من الأدلة والأمارات الموصلة إليها، وهذا يشمل طرق الدلالة اللفظية والعقلية، وطرق نصب الدليل الذي يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي، سواء أكان الدليل نصّاً من قرآن أو سنة ونحوهما أم معقولا من النص كالقياس والاستصلاح وغيرهما، وهذا يدخل ما ذكره الأصوليون في دلالات الألفاظ من العام والخاص والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، والمنطوق والمفهوم، كما يُدخل طرق معرفة العلة المستنبطة ونحو ذلك مما لا يخفى.
قوله: (وحال المستفيد) أي: وكيفية حال المستفيد، والمراد بالمستفيد صنفان: المجتهد والمقلد، فالمجتهد يستفيد الحكم من الدليل أو الأمارة التي نصبها الشرع لتهدي إلى الحكم. والمقلد يستفيد الحكم من المجتهد بسؤاله عنه.
وحال المجتهد والمقلد مما يدخل في أصول الفقه، فالعلم بشروط الاجتهاد وحكمه، وأنواع المجتهدين وآداب الاجتهاد وحكم التقليد وآداب الاستفتاء، وما يتبع ذلك كله داخل في أصول الفقه.
وهذا التعريف من أجود التعريفات التي ذكرها الأصوليون، غير أنه عبر بلفظ الكيفية، وهي مصدر صناعي من الكيف، وليست فصيحة كما يقول أهل اللغة، والأولى أن يستعاض عنها بلفظ صفة.
كما أنه يمكن الاستعاضة عن قوله: «طرق الفقه» بـ «أدلة الفقه»؛ لأن الدليل يطلق على القطعي والظني على الصحيح من قولي العلماء كما سيأتي.
وهناك من جعل أصول الفقه هو العلم بتلك الأدلة على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها. الخ.
والأصولي: هو من عرف طرق الفقه الإجمالية وصفة الاستفادة منها وحال المستفيد.
(1/16)
 
 
وقد شاع إطلاق اسم الأصولي على كل من له اشتغال بعلم أصول الفقه تعليما وتأليفا، كما شاع إطلاق أصول الفقه على الجملة الغالبة من مسائل هذا العلم، فصح أن يسمى أصوليا من أدرك غالب مسائله بالفعل وكانت له ملكة تمكنه من إدراك ما عداها دون حاجة إلى تعلم علم جديد أو التلقي عن عالم آخر.
3 - موضوع أصول الفقه:
موضوع هذا العلم: الأدلة، سواء أكانت قطعية أم ظنية.
وقيل: موضوعه: الأدلة والأحكام.
والذي يظهر من تعريف الفخر الرازي الذي نقلناه فيما سبق، أن هذا العلم له ثلاثة موضوعات رئيسة هي:
1 - طرق الفقه على سبيل الإجمال، ويقصد بها الأدلة بنوعيها القطعي والظني، أو المتفق عليه والمختلف فيه، والبحث فيها يشمل حجيتها وقوتها في الإيصال إلى الحكم، وشروط حجيتها وترتيبها وجميع عوارضها.
2 - صفة الاستفادة منها، وهذا يشمل طرق الدلالة أهي عقلية أم لفظية؟ حقيقية أم مجازية؟ بطريق المنطوق أم المفهوم؟ بطريق الخصوص أم العموم؟. وهذا يعرف عند المتأخرين بطرق الاستنباط، كما يشمل طرف معرفة العلة وإجراء الأقيسة.
3 - صفة المجتهد والمقلد وما يتبع ذلك من شروط الاجتهاد وأحكامه، وسبيل دفع التعارض والمرجحات، ومعنى التقليد وأحكامه.
(1/17)
 
 
4 - فوائد علم أصول الفقه:
لا شك أن العلم يشرف بشرف الغاية من تعلمه، وأصول الفقه له غايات عظيمة وفوائد كبيرة في الدنيا والآخرة، وأهم غاياته وأهدافه ما يلي:
1 - التفقه في الدين، ومعرفة ما للمكلف وما عليه من الحقوق والواجبات، وهذا يحصل بمعرفة أصول الفقه وتطبيق قواعده على الأدلة التفصيلية وعلى الحوادث الجزئية.
وقد يقول قائل إن الفقه قد جمع من قبل العلماء السابقين، ودونت فيه الدواوين الكبيرة فلا حاجة إلى البدء من حيث بدأوا، فلم تبق حاجة لدراسة علم أصول الفقه.
والجواب أن كثرة ما كتب في علم الفقه يدعو طالب العلم إلى تعلم أصول الفقه؛ ليعرض هذه الثروة الفقهية الضخمة التي اختلفت فيها أقوال الفقهاء وتعددت أدلتهم على الميزان العادل، والمحك المظهر للخطأ من الصواب، وهو أصول الفقه، فمن عرف أصول الفقه نظرا وتطبيقا يمكنه أن يعرف من تلك الأقوال والمذاهب ما هو أقرب إلى الحق وأجرى على قواعد الشريعة. والخلاصة أن كثرة المؤلفات الفقهية تدعو إلى تعلم هذا العلم والتعمق فيه لنقد الأقوال وبيان الراجح من المرجوح.
2 - معرفة الحكم الشرعي لكل ما يجدُّ من الحوادث والوقائع التي لم يرد فيها بخصوصها نص صريح ولا ظاهر بيِّن، ولم يتكلم عنها الفقهاء السابقون لعدم وجودها في عصرهم. ونحن نرى في هذه الأيام حجم المسائل التي تعرض على المجامع الفقهية من حيث عددها ومن حيث خطورتها وأهميتها وتعقيدها، حتى إن بعضها يتوقف فيه علماء المجمع الفقهي ولا يصدرون فيه فتوى لعدم اكتمال صورته في أذهانهم، أو للحاجة إلى مزيد بحث في
(1/18)
 
 
الأدلة، أو للاختلاف في تكييفه.
ومن القضايا التي جدت في هذا العصر على غير مثال سابق: التلقيح الصناعي، وأطفال الأنابيب، والرحم المستعار، وتجميد الأجنة والبويضات، والاستنساخ، وقضايا الحاسوب وبرامجه، وقضايا الانترنت، وإجراء العقود عن طريقه، والقضايا السياسية وكيفية حلها كالقضايا الحدودية بين الدول وما أشبه ذلك.
3 - معرفة حِكَم الشريعة وأسرارها بالتأمل في علل الأحكام ومقاصدها ومعرفة المقاصد الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية، وتنزيل كل مقصد في منزلته عند التزاحم، ومعرفة ترتيب الواجبات والمستحبات لتقديم الأقوى دليلا والأكثر نفعا على ما سواه، ومعرفة المصالح والمفاسد ومعرفة المعتبر منها في الشرع والملغى، ومعرفة درجات المعتبر لتقديم ما يستحق التقديم.
4 - مواجهة خصوم الشريعة الإسلامية الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة للتطبيق في هذا الزمن، وذلك ببيان قدرة الشريعة على استيعاب حاجات الناس في الحاضر والمستقبل، وقدرتها على حل مشاكل الناس بما يتفق مع نصوص الوحي وعمل الصحابة والتابعين، وهذا لا يتم إلا بمعرفة أصول الفقه والقدرة على القياس والتخريج، والإحاطة بطرق الاستنباط من منطوق ومفهوم، وخصوص وعموم، وإطلاق وتقييد ونحو ذلك مما يدرس في أصول الفقه، ولو انصرف الناس عن دراسة هذا العلم لانسد باب الاجتهاد، ووقف الناس عندما اشتملت عليه كتب الفقه القديمة التي كتبت لتستوعب مشاكل العصر الذي هي فيه.
5 - حماية الفقيه من التناقض، فالفقيه الذي لم يتعمق في دراسة هذا العلم تأتي فتاواه متناقضة فيفرق بين المتماثلات، ويسوي بين المختلفات، وهذا
(1/19)
 
 
يضعف الثقة فيما يقول، ويسيء إلى الشريعة ويقلل من قيمتها في نفوس الجاهلين بها من المسلمين أو غيرهم. وأما من أحاط بأصول الفقه تأصيلا وتطبيقا فإنه يبرز الوجه المشرق للشريعة الربانية، ويكون بفتاواه وآرائه داعيا للإسلام مرغبا فيه ذابا عنه شبه الأعداء.
وأخيراً ربما يظن كثير من الناس أن أصول الفقه تقتصر فائدته على الفقه في المسائل العملية، والحق خلاف ذلك؛ فإن فائدة هذا العلم لا يستغني عنها المفسر والمحدث والمتكلم والباحث في العقائد، وكل من يحتاج إلى فهم نصوص الوحي والاستدلال بها، فإن هذا العلم عبارة عن قواعد للفهم الصحيح والاستدلال الصحيح، والجمع بين ما ظاهره التعارض، ولهذا نستطيع القول إن تسميته بأصول الفقه لا يعني اقتصار فائدته على استنباط الأحكام الفقهية، ولعل الذين سموا مؤلفاتهم بالأصول من غير تقييد بالفقه لحظوا هذا الملحظ فعمموا، ومن هؤلاء الغزالي الذي سمى كتابه: «المستصفى من علم الأصول» والرازي سمى كتابه: «المحصول من علم الأصول» والبيضاوي سماه: «منهاج الأصول في علم الأصول» والشوكاني سماه: «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول».
والناظر في مسائل هذا العلم يجد كلامهم عن أصول التفسير وأصول الحديث إلى جانب طرق الاستنباط من الأدلة النقلية التي يستوي في الحاجة إليها المفسر والمحدث وغيرهما.
(1/20)
 
 
5 - استمداد أصول الفقه:
يستمد علم أصول الفقه مادته مما يلي:
1 - القرآن الكريم والسنة النبوية:
فإن هذين المصدرين هما أساس العلوم الشرعية كلها، فكل علم لا أصل له في الكتاب والسنة فليس من علوم الشريعة.
ووجه استمداده من هذين المصدرين أن موضوعات علم أصول الفقه ثلاثة أنواع كما سبق، أهمها أدلة الأحكام، والقرآن والسنة ترجع إليهما جميع الأدلة التي يذكرها الأصوليون سواء أكانت نقلية أم عقلية، محل اتفاق أم محل اختلاف، فحجية الإجماع والقياس والمصالح والاستحسان والعرف وشرع من قبلنا وأقوال الصحابة، راجعة إلى الكتاب والسنة، وطرق الدلالة، وطرق دفع التعارض بين الأدلة، وبيان منزلة كل دليل، راجع إلى الكتاب والسنة، ولهذا نجد أن أكثر القواعد الأصولية قد استدل عليها بالقرآن أو بالسنة أو بهما معاً.
2 - علم أصول الدين، ويعبر عنه أكثرهم بعلم الكلام:
ووجه استمداد أصول الفقه منه أن العلم بالأدلة الإجمالية وصحة الاستدلال بها مبني على معرفة الله تعالى وصفاته وما يجب له سبحانه وما يجوز له وما يمتنع إطلاقه عليه، والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه وما يجوز أن يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز.
3 ـ اللغة العربية:
ووجه استمداده من اللغة العربية: أن اللغة هي وعاء الكتاب والسنة، والكتاب نزل بلغة العرب، والسنة القولية جاءت بلسان الرسول العربي، والاستدلال بهما مبني على معرفة طرق العرب في الإفهام والفهم، ومن جملة
(1/21)
 
 
أصول الفقه طرق دلالة الألفاظ على المعاني من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، واشتراك وإجمال، ومنطوق ومفهوم، وحقيقة ومجاز، وهذه كلها إنما يتبع فيها ما جرى عليه عرف أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها، إلا أن يكون للشرع عرف حادث فيقدم عند الاحتمال.
وفي هذا يقول إمام الحرمين: «ومن مواد أصول الفقه العربية؛ فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ، ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة العربية» (1).
4 ـ الفقه:
وجَعْل الفقه مما يستمد منه أصول الفقه مشكل؛ من جهة أن الفقه كما عرفوه هو: «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية» فلو كان الأصول مستمدا من الفقه لما عرف إلا بعد معرفة الفقه، والحال أن الفقه لا يعرف إلا بعد معرفة الأصول فيكون دوراً ممتنعاً.
وعدل الآمدي وغيره إلى الاستعاضة عن الفقه بالأحكام الشرعية، وأوضح أن المقصود تصوُّر تلك الأحكام ومعرفة حقائقها حتى يتصور إثباتها أو نفيها، ولا يقصد معرفة وجودها أو نفيها في آحاد المسائل؛ فإن هذا لا يعرف إلا بمعرفة أصول الفقه.
ومراد من عبر بالفقه: أن أصول الفقه يحتاج في إدراكه إلى إدراك أمثلة من الفقه يمثل بها لتتضح القواعد الأصولية، فالأصولي حين يتكلم عن طرق الدلالة يحتاج إلى ضرب أمثلة فقهية توضح مقصده، وإلا كان كلامه نظريا يصعب استيعابه وفهمه، كما أنه لا بد له من معرفة معنى الأحكام الفقهية
_________
(1) البرهان 1/ 84.
(1/22)
 
 
كالواجب والمندوب والحرام والمكروه الخ؛ لأنه حين يقرر حجية السنة يقرر أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، وأن معصيته حرام، ولا بد من تصور معنى الواجب والحرام، وهكذا سائر القواعد الأصولية.
وأما من جعل المستمد منه الأحكام الشرعية كالآمدي ومن تبعه، فمراده تصور معنى المحرم والمكروه والمباح والواجب والمندوب والصحيح والفاسد، ونحو ذلك من الأحكام.
(1/23)
 
 
الباب الأول
الحكم الشرعي
تعريفه:
الحكم في اللغة: المنع، ومنه سميت حَكَمَةُ الدابة وهي حديدة في اللجام، لأنها تمنع الدابة من مخالفة مراد صاحبها. ويطلق الحكم بمعنى القضاء، وفيه معنى المنع؛ لأن قضاء القاضي يمنع ضياع الحقوق.
وفي اصطلاح جمهور الأصوليين: «خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع».
وعند الفقهاء: هو مقتضى خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين الخ، أو مدلول خطاب الله الخ.
ومال بعض الأصوليين إلى اختيار هذا التعريف؛ لأن التعريف الأول يلزم منه اتحاد الدليل والحكم في التعريف، والمعروف عند الفقهاء التفريق بينهما.
شرح التعريف:
قولهم: (خطاب الله)، الخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير لإفهامه. والمرادا بخطاب الله هنا: أمره ونهيه، وخبره وما تفرع عنه من وعد ووعيد، وتعليق على سبب أو شرط ونحو ذلك. وهو يشمل ما عرف من كلامه المقروء الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم سواء أكان قرآنا أم سنة، وما عرف من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عرف من سائر الأدلة فإنها عائدة إلى الوحي المتلو أو غير المتلو، وما هو عائد إليهما أو إلى أحدهما فهو بمنزلتهما.
(1/24)
 
 
وهذا التفسير أولى من تفسير بعضهم للخطاب بأنه الكلام النفسي؛ لأن إطلاق هذا اللفظ يجر إلى الوقوع في مذهب القائلين إن كلام الله ليس هو اللفظ المسموع، بل هو معنى قائم بذاته، وأن القرآن المسموع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله. وهذا مردود بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة 6]. فإنه يدل على أن كلام الله هو ذلك اللفظ المسموع المقروء، وما تضمنه من المعنى المراد لله جل وعلا.
ولا يمكن تفسير الخطاب هنا بأنه كلام الله بلفظه ومعناه؛ لأنه حينئذ لا يشمل إلا الخطاب الوارد في القرآن فيخرج ما دلت عليه السنة وما دل عليه الإجماع والقياس وغيرهما من الأدلة؛ لأن لفظها ليس من الله.
وقولهم: (المتعلق بأفعال المكلفين)، أي: الذي له ارتباط بأفعال المكلفين من جهة كونها مطلوبة أو غير مطلوبة، ومن جهة صحتها وفسادها وما يتبع ذلك.
وأفعال المكلفين: كل ما يدخل تحت قدرة المكلف، فتشمل الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح فيدخل في ذلك إيجاب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، كما تدخل أفعال الجوارح من صلاة وحج وزكاة ونحو ذلك.
وتشمل الإقدام على الفعل والكف عنه، فيدخل إيجاب الصوم الذي هو كف عن الطعام والشراب والجماع بنية، كما يدخل إيجاب الصلاة التي هي عبارة عن أفعال وأقوال مخصوصة.
والمراد بالمكلفين: من توافرت فيهم شروط التكليف الآتي ذكرها. والأولى أن يعبر بلفظ العباد؛ ليشمل المكلف وغيره؛ لأن من الأحكام ما يتعلق بالصغير والمجنون، وليسا مكلفين.
(1/25)
 
 
وقولنا: المتعلق بأفعال المكلفين (أو العباد على ما هو الأولى)، يخرج كل خطاب من الله جل وعلا تعلَّق بما عدا ذلك، كالخطاب المتعلق بما لا يعقل من وصف للكون وما فيه من جبال وأشجار وأنهار وشمس وقمر ونحو ذلك، كقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات 47 - 48]، وكذلك ما ورد من ذكر أحوال الماضين كقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} [الفجر 7 - 11] فهذه الآيات وأمثالها ليست بالنظر إلى ذاتها حكما شرعيا، ولكن إذا ضم إليها ما ورد من الأمر بالتصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي وما ورد من وجوب الاعتبار في أحوال الماضين والاتعاظ بما جرى لهم صارت متعلقة بأفعال المكلفين فتكون حكما.
وكذلك الآيات المتعلقة بذوات المكلفين كأصل خلقهم الوارد في قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه 55] وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص 71]، فمن حيث إنها متعلقة بذوات المكلفين لا يصدق عليها تعريف الحكم، ولكن إذا ضممنا إلى ذلك ما أراده الله جل وعلا وأمر به من وجوب شكر النعمة صارت أحكاما. ولهذا المعنى قال بعض العلماء إن جميع آيات القرآن الكريم تستنبط منها أحكام شرعية، وأنكروا على من حصر آيات الأحكام في خمسمائة آية أو نحوها.
وقولهم: (بالاقتضاء)، المراد بالاقتضاء: الطلب، سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.
وطلب الفعل نوعان: طلب الفعل طلبا جازما، وهذا يسمى إيجابا، وطلب
(1/26)
 
 
الفعل طلبا غير جازم ويسمى الندب.
وأما طلب الترك فنوعان أيضا وهما: طلب الترك طلبا جازما، وهو المسمى بالتحريم، وطلب الترك طلبا غير جازم، وهو المسمى بالكراهة.
ويعرف كون الطلب جازما أو غير جازم بطرق سيأتي بيانها عند الكلام عن أقسام الحكم التكليفي وتعريف كلٍّ منها.
وقولهم: (أو التخيير)؛ لإدخال القسم الخامس من أقسام الحكم التكليفي وهو الإباحة، وهو تخيير الشارع بين الفعل والترك، وقد أسقط بعضهم هذه الزيادة؛ لأن الإباحة ليست حكما شرعيا عنده بل هي حكم عقلي سابق للأحكام الشرعية، وهذا خطأ؛ فإن الإباحة حكم شرعي ولكنها قد تعرف بخطاب التخيير، وقد تعرف بسكوت الشارع عن الأمر والنهي، وقد تعرف بما سوى ذلك.
وقولهم: (أو الوضع)، المراد بالوضع: جعْلُ الشيءِ سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو وصفه بالصحة أو الفساد أو البطلان.
وهذه الزيادة أسقطها بعضهم من تعريف الحكم؛ لأن ما عرف بالأحكام الوضعية راجع عنده إلى الأحكام التكليفية فلا حاجة إلى هذه الزيادة، وأما الذين أثبتوها فقد رأوا أن نصب الأسباب والشروط والموانع والإخبار عن التصرفات بأنها صحيحة أو فاسدة لا يدخل في التعريف إلا بهذه الزيادة.
وأما تعريف الحكم الشرعي عند الفقهاء فهو: مقتضى خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين الخ. والسبب في ميلهم إلى هذا أن الحكم عندهم صفة لفعل المكلف، ولهذا يقسمونه إلى حرام ومكروه وواجب ومندوب ومباح.
وعند الأصوليين الحكم اسم للخطاب الوارد من الله جل وعلا، فلا يقسمونه إلى حرام وواجب الخ , بل إلى تحريم وإيجاب الخ كما سيأتي.
(1/27)
 
 
أقسام الحكم الشرعي:
الحكم الشرعي عند الأصوليين قسمان: الحكم التكليفي، والحكم الوضعي.
هذا هو الشائع عندهم، ولكن الأولى أن يقسم ثلاثة أقسام كما هو واضح من تعريفه السابق، وهذه الأقسام هي:
1 - الحكم التكليفي.
2 - الحكم التخييري.
3 - الحكم الوضعي.
وذلك لأن الإباحة ليست من الأحكام التكليفية على الصحيح، وإنما عدت مع الأحكام التكليفية للاكتفاء بتقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي، وعدم زيادة قسم ثالث في أقسام الحكم الشرعي غير القسمين المذكورين.
وقد تكلف بعضهم لإدخال الإباحة في الحكم التكليفي فقال: إن دخولها في هذا القسم جاء من جهة وجوب اعتقاد الإباحة فيما سوَّى الشرع فيه بين الفعل والترك، ولا يخفى أنها حينئذ ليست إباحة وإنما هي إيجاب، وأن الحكم الوضعي يساوي الإباحة في ذلك، فلا بد أن نعتقد سببيَّة ما جعله الله سببا وشرطيَّة ما جعله شرطا.
والحكم التكليفي هو: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء. وهذا يشمل الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة.
فالإيجاب: طلب الفعل طلباً مشعراً بالذم على الترك. كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء 78].
والندب: طلب الفعل طلباً مُشعراً بعدم الذم على الترك. كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ
(1/28)
 
 
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور 33]، وقد عرف كونه مشعرا بعدم الذم على الترك من جهة أن الكتابة بيع العبد نفسه، وقد استقر في الأفهام أن الله لا يوجب على الإنسان بيع ماله، أو من حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه؛ فإنه لم يلزم أحدا منهم بمكاتبة عبده.
والتحريم: طلب ترك الفعل طلبا مشعراً بالذم على الفعل. كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء 32].
والكراهة: طلب ترك الفعل طلبا مشعرا بعدم الذم على الفعل. كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمش أحدكم بالنعل الواحدة»، وقد علم إشعاره بعدم الذم من كونه أدبا قصد به عدم تضرر الماشي.
وأما الحكم التخييري فهو: التسوية بين الفعل والترك. كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة 187].
وأما الحكم الوضعي فهو: خطاب الله بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا. وسيأتي تعريف كل منها وأمثلته بعد الفراغ من أقسام الحكم التكليفي عند الفقهاء.
 
تقسيم الحكم التكليفي عند الفقهاء:
الفقهاء يتكلمون في بيان حكم أفعال العباد، ولذلك جعلوا الحكم صفة لفعل العبد وقسموه إلى خمسة أقسام هي: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح.
والحنفية زادوا على هذه الأقسام قسمين آخرين هما: الفرض، والمكروه كراهة تحريم.
وسنتكلم عن كل واحد من هذه الأقسام باختصار؛ لأن المقصود من ذكرها معرفة اصطلاحات الفقهاء، والقدرة على تصور الأحكام الشرعية.
(1/29)
 
 
الواجب
تعريفه:
الواجب في اللغة: الساقط، يقال: وجب إذا سقط. ويطلق الواجب بمعنى اللازم. وهذا الإطلاق ذكره بعض أهل اللغة ولكنه قد يكون متأثرا بالمعنى الشرعي للكلمة.
وفي الشرع هو: كل ما ورد الشرع بذم تاركه مطلقا.
وهو يشمل ما جاء في الشرع ذم لتاركه سواء أكان عملاً أم اعتقاداً.
ولفظ (مطلقاً) متعلق بتاركه، أي أن الذم يتناول من ترك الواجب تركا مطلقا، فلم يتركه في أول الوقت دون آخره، ولم يتركه ليفعل ما يقوم مقامه، ولم يتركه لقيام غيره من المكلفين به.
وهذا القيد في التعريف جيء به ليكون الحد جامعا لثلاثة أنواع من الواجبات هي:
1 - الواجب الموسع: كالصلاة التي يجوز تركها في أول الوقت مع فعلها في أثنائه، فلولا زيادة لفظ مطلقا لقيل إن الواجب الموسع في أول الوقت ليس بواجب؛ لأنه لا يذم تاركه.
2 - الواجب المخير: مثل وجوب التكفير عن اليمين الحانثة بواحد من ثلاثة: العتق، والإطعام، والكسوة. فكل واحد من هذه الثلاثة بخصوصه يجوز تركه من غير ذم لكن بشرط أن يفعل غيره، فلولا زيادة وصف الترك بالإطلاق لقيل الواجب المخير ليس داخلا.
(1/30)
 
 
3 - الواجب الكفائي: مثل غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فهذا واجب على عموم المسلمين العالمين بموت ذلك المسلم، ولكن لو تركه بعضهم وفعله آخرون لم يأثم التارك ولم يذم، فلو لم نصف الترك بقولنا مطلقا، للزم خروج الواجب الكفائي لأن تاركه لا يذم، ولما زدنا هذا الوصف دخل الواجب الكفائي؛ لأن تركه ليس مطلقا بل من بعض المكلفين دون بعض.
(1/31)
 
 
أقسام الواجب
1 - تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته:
ينقسم الواجب بالنظر إلى ذاته قسمين: معين، ومخير.
فالمعيَّن هو: ما طلبه الشرع بعينه من غير تخيير بينه وبين غيره. مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك.
والمخير هو: الواجب الذي خُيِّر فيه المكلف بين أشياء محصورة. مثل كفارة اليمين فإنها واجبة، ولكن المكلف مخير بين ثلاثة أشياء: العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين.
وهذا النوع أنكره المعتزلة؛ لوجود التضاد بين الإيجاب والتخيير، وقالوا كيف يسمى واجباً ثم يوصف بالتخيير.
والخلاف بينهم وبين الجمهور خلاف لفظي لا فائدة فيه؛ لأن المنكرين لوجود الواجب المخير يقولون: هذه الخصال واجبة على البدل، ولا يقولون يجب على المكلف أن يفعل الثلاثة ولا أنه يأثم على ترك الثلاثة كل على حدة، والمثبتون يقولون الواجب واحد غير معين. وقد جعل بعضهم من أثر الخلاف أن المكلف لو فعل اثنتين من خصال الكفارة دفعة واحدة فهل يثاب ثواب الفرض عليهما؟ وجعل مقتضى مذهب المعتزلة أنه يثاب عليهما ثواب فرض، ومقتضى مذهب الجمهور أنه يثاب على إحداهما ثواب الفرض وعلى الأخرى ثواب النافلة، ولا يخفى أن تقدير الثواب غيب عنا، وتحكمه عوامل أخرى من الإخلاص وطيب النفس بما يبذل الإنسان وغير ذلك.
2 - تقسيم الواجب بالنظر إلى وقته:
ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى مؤقت وغير مؤقت:
فالمؤقت: هو ما حدد له الشرع وقتا معينا، له بداية ونهاية. مثل الصلاة.
(1/32)
 
 
وغير المؤقت: هو المطلق عن التوقيت الذي لم يحدد له الشرع وقتا معينا. مثل أداء النذور والكفارات.
والمؤقت ينقسم قسمين: مضيق، وموسع.
فالواجب المضيق: هو الذي حدد له الشرع وقتا لا يتسع لغيره من جنسه معه. مثل الصيام، فإن الصيام له وقت محدد يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا الوقت لا يتسع إلا لصيام واحد، فلا يمكن أن يصوم يوما واحدا عن القضاء وعن النذر مثلا، ولكن هذا الوقت يتسع لغير الصيام من الواجبات والمندوبات التي ليست صياما، ولهذا المعنى قلنا: لا يتسع لغيره من جنسه معه.
والموسع: عكس المضيق، فهو: الذي حدد له الشرع وقتا يتسع له ولغيره من جنسه معه. ومثاله: الصلاة، فإن الوقت المحدد لصلاة العشاء مثلا يبدأ من غروب الشفق الأحمر ويمتد إلى نصف الليل لمن لا عذر له. فهذا الوقت يتسع لصلاة الفرض ولصلاة أخرى غير فرض العشاء.
وهذا النوع أنكر بعض الحنفية وجوده، فقالوا: ليس في الشرع واجب موسع؛ لأن التوسع ينافي التوقيت، ولأن ما يسميه الجمهور واجبا موسعا يجوز تركه في أول الوقت ولا يجوز تركه إلى خروج الوقت باتفاق. والحجة عليهم قائمة بوجوده في الشرع، كالصلاة التي لها وقت حدده الشرع وهو أوسع مما يحتاج إليه المكلف لأدائها، وقد ورد في الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس مرة في أول الوقت، ومرة في آخره ثم قال: «الوقت ما بين هذين» (أخرجه الترمذي وأحمد والنسائي بألفاظ متقاربة).
وقد انقسم الحنفية عند الجواب عن هذا الدليل إلى فرق:
أ ـ ... فرقة قالت: الصلاة في أول الوقت نفل سد مسد الفرض، ولا تكون
(1/33)
 
 
فرضا إلا حين يضيق الوقت فلا يبقى منه إلا ما يكفي لأدائها.
ب ـ وفرقة قالت: من صلى الصلاة في أول الوقت تكون في حقه فرضا إن جاء آخر الوقت وهو مكلف بالصلاة أي: بالغ عاقل. وإن جاء آخر الوقت وهو ليس بأهل للصلاة عددنا صلاته قبل ذلك نافلة.
ج ـ وفرقة قالت: الوقت يتضيق عليه بالشروع فيها، فإذا شرع فيها فذلك وقتها.
وقولهم: إنه يجوز تركه في أول الوقت دون آخره، يجاب عنه بأنه في أول الوقت يجوز تركه بشرط العزم على الفعل في الوقت الآتي، وهذا يختلف عن حد المندوب؛ فإن المندوب يجوز تركه بلا شرط.
والخلاف بين الفريقين راجع إلى أن سبب وجوب الصلاة أهو آخر الوقت أم كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا؟ فمن جعله آخر الوقت أنكر التوسع في الوجوب، ومن جعل كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا أثبته.
وقد بنوا على الخلاف مسائل فرعية، أهمها:
1 - أن من سافر بعد دخول الوقت يقتضي مذهب الجمهور أنه لا يجوز له القصر، ويقتضي مذهب الحنفية أنه يجوز له ذلك. ولكن جمهور العلماء على جواز القصر، وعذرهم عن عدم تطبيق قاعدتهم: أن القصر صفة في الصلاة فيراعى بها حالة أدائها، فالمقيم الذي دخل عليه الوقت وجب عليه أداء الصلاة من غير تحديد لعدد ركعاتها، فإن صلاها في الحضر صلاها أربعا، وإن صلاها في السفر صلاها اثنتين. قال النووي: «ففي وجه قاله المزني وابن سريج لا يجوز القصر، وعلى الصحيح المنصوص وقول جمهور أصحابنا يجوز القصر، فعلى هذا إنما جاز القصر لأنه صفة للصلاة، والاعتبار في صفتها بحال فعلها لا بحال وجوبها، ولهذا لو فاته صلاة في
(1/34)
 
 
حال قدرته على القيام أو الماء ثم عجز عنهما صلاها قاعدا بالتيمم وأجزأته» (1).
2 - إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة بزمن كان يمكنها أن تؤدي الصلاة فيه، فعلى القول بأن كل جزء من الوقت سبب للوجوب فيجب عليها القضاء إذا طهرت، وعلى القول بأن سبب الوجوب آخر الوقت فلا قضاء عليها.
والمنصوص عليه عند الحنفية أنها لا قضاء عليها، وعلله بعضهم بأنها لم تدرك الوقت الذي تعلق به الوجوب، وعلله آخرون بأنها إذا لم تصل في أول الوقت انتقلت السببية إلى الوقت الذي يليه، وهكذا إلى أن يتضيق الوقت.
والجمهور اختلفوا في ذلك: فمنهم من أوجب القضاء؛ لأن كل جزء من الوقت يصلح سببا، فإذا حاضت بعد دخوله استقر الواجب في ذمتها، ومنهم من قال لا قضاء عليها لأنها فعلت ما يجوز لها فعله وهو ترك الصلاة في أول الوقت، مع العزم على فعلها في آخره ثم حيل بينها وبين أدائها بسبب ليس من جهتها، والقول الأول أقرب؛ لقاعدتهم في الواجب الموسع.
3 - إذا أخر الواجب الموسع فمات في أثنائه قبل ضيق الوقت، فعلى القول بإنكار التوسع لا إثم عليه، وعلى القول بإثبات التوسع اختلفوا:
فمنهم من قال: إن أخرها ذاكرا، ولم يعزم على الفعل في الوقت يكون آثما، وإن أخرها ناسيا أو عازما على الفعل في الوقت فلا إثم عليه، وهذا
_________
(1) 3/ 51.
(1/35)
 
 
هو المناسب للقول بالتوسع، وبأن أول الوقت سبب لوجوب الصلاة.
وقيل: لا إثم عليه وإن لم يعزم على الفعل في آخر الوقت، وهو مرجوح؛ لأنه إذا كان ذاكرا فإما أن يفعل أو يعزم على الفعل أو يعزم على الترك، فإذا لم يفعل فليس أمامه سوى خيارين، وأحدهما محرم، فيكون الثاني واجبا لأنه لا يتم ترك الحرام إلا به فيكون واجبا، وهو العزم على الفعل في تالي الوقت (1).
الفرق بين الواجب الموسع والواجب المضيق:
1 - الواجب الموسع لا يصح أداؤه إلا بنية اتفاقا، وأما الواجب المضيق كالصوم في رمضان، فعند أكثر الحنفية أنه لا يحتاج إلى نية الفرض، بل ينصرف الصوم إليه من غير نية تخصيصه، وعند الجمهور لا بد من النية (2).
2 - أن الواجب الموسع لا يمتنع صحة غيره من الواجبات في زمنه، فله أن يصلي في وقت الظهر ظهرا فائتة أو صلاة أخرى، وأما الواجب المضيق فليس له أن يؤدي في وقته غيره إلا إذا كان ممن يجوز له ترك هذا الواجب كالمسافر في رمضان، فقد اختلفوا هل يجوز أن ينوي بصيامه في رمضان واجبا آخر كالكفارة والنذر مثلا؟ فقال بعضهم: لا يجوز؛ لأن وقت رمضان مضيق فلا يتسع لغيره، وقال بعضهم: إذا كان معذورا لا يكون مطالبا بصيام رمضان، ولا دليل على منعه من صيام نذر أو كفارة (3).
_________
(1) المستصفى 1/ 70.
(2) أصول السرخسي 1/ 35.
(3) أصول السرخسي 1/ 36.
(1/36)
 
 
3 - تقسيم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله:
ينقسم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله قسمين: عيني وكفائي:
الواجب العيني: وهو ما طلب الشرع فعله من كل مكلف بعينه، كالصلاة والزكاة والحج.
الواجب الكفائي: وهو ما طلب الشرع حصوله من غير تعيين فاعله.
وهذا النوع يدخل فيه ما أوجبه الله على الأمة بمجموعها من غير تخصيص أفراد بأعيانهم كالجهاد، وما أوجبه على جماعة محصورة من غير تحديد من يقوم به منهم بعينه كوجوب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإن ذلك واجب على من حوله من المسلمين.
أهم الفروق بين الواجب العيني والواجب الكفائي:
1 - أن الواجب العيني مطلوب من كل واحد من المكلفين بعينه، فلا يقوم فعل غيره مقام فعله إلا بإذنه، فإن أذن له في فعله نيابة عنه فإن كان الواجب مما تدخله النيابة أجزأه ما يفعله ذلك الغير عنه وإلا فلا. وأما الواجب الكفائي فلا يطلب من كل واحد ولا من واحد معين، بل إذا قام به من يكفي أجزأ، ولا يشترط فيه الإذن، بل مهما فعل أجزأ عمن لم يفعل وسقط عنه الإثم.
2 - أن الواجب العيني مصلحته ترجع إلى فاعله، أما الواجب الكفائي فمصلحته عامة.
3 - الواجب الكفائي ينوب فيه البعض عن الكل، وأما الواجب العيني فلا يكفي فعل بعض المكلفين عن بعضهم الآخر.
4 - الأمر في الواجب العيني موجه لجميع المكلفين، أي: لكل واحد منهم،
(1/37)
 
 
والأمر في الواجب الكفائي اختلف فيه:
فقيل: إنه موجه للجميع لكن يسقط بفعل البعض.
وقيل: موجه إلى بعض غير معين.
وقيل: متوجه إلى المجموع من حيث هو مجموع.
واستدل الأولون بأدلة منها:
1 - أن الواجبات الكفائية الواردة في القرآن والسنة جاءت بصيغة العموم كالواجبات العينية، فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة 216]، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة 183]، مع أن الأول كفائي والثاني عيني.
2 - أن الإثم يلحق الجميع إذا تركوا، ولو لم يكونوا مخاطبين به ما أثموا.
واستدل القائلون بأنه موجه إلى بعض مبهم بدليلين:
1 - قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة 122]. فالخطاب هنا موجه إلى بعض مبهم وهو متعلق بواجب كفائي.
2 - أنه يسقط بفعل بعض المكلفين، ولو خوطب به الجميع لما سقط إلا بفعل الجميع كسائر الواجبات العينية.
وأما القائلون إن الخطاب موجه إلى المجموع لا إلى الجميع، أي إلى الهيئة الاجتماعية، فاستدلوا بدليل واحد هو: أنه لو وجه الخطاب فيه إلى الجميع (إلى كل فرد) لما سقط بفعل بعضهم، ولو وجه إلى بعض مبهم لترك؛ لأن كل مكلف سيقول لست مقصودا، فلم يبق إلا أن نقول متوجه إلى المجموع من حيث
(1/38)
 
 
هو مجموع.
والراجح: أنه متوجه إلى الجميع ويسقط بفعل بعضهم؛ لرجحان أدلة هذا القول.
وأما استدلال من أوجبه على بعض مبهم بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة 122] فيجاب بأن الأمر هنا ليس أمر إيجاب بل ندب واستحباب؛ بدليل أنه جاء بصيغة الحض والترغيب في النفقة.
وأما استدلالهم بأنه يسقط بفعل بعض المكلفين، فيجاب بأنه لا تلازم بين الأمر بالشيء والمخاطبة به، وسقوط الفعل، فإن الواجب العيني لا خلاف في توجه الأمر فيه إلى كل واحد من المكلفين، ومع ذلك يسقط من غير فعل بالنسخ، أو بفوات الوقت المحدد للعبادة عند من يرى ذلك، أو بأخذ الواجب منه دون إذنه، أو بإسقاط صاحب الحق إن كان حقا لآدمي.
وأيضا فإن سقوط الواجب الكفائي بفعل بعض الأمة؛ لأجل أن المقصود من فرضيته إيجاده بغض النظر عن موجده. ومما يدل على صحة هذا القول أنهم لو فعلوه جميعا أثيبوا ثواب الفرض، ولو تركوه جميعا عوقبوا عقاب تارك الفرض.
4 - انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد:
مما يذكره الأصوليون هنا انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد.
ويعنون بالمحدد: ما ورد تقديره في الشرع بمقدار ظاهر لكل أحد، كمقادير الزكاة، وأروش الجنايات، ومدة المسح.
ويعنون بغير المحدد: ما طلب فعله من غير تحديد مقداره، مثل الطمأنينة في الركوع والسجود. وهو تقسيم لا يترتب عليه كبير فائدة.
(1/39)
 
 
ما لا يتم الواجب إلا به
هذه القاعدة من القواعد الأصولية المهمة التي انبنى عليها فقه كثير، وهي ليست على الإطلاق المذكور في العنوان، ولا تصدق بعمومها. وإنما نقول: ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم قسمين:
1 ـ ما لا يتم الوجوب إلا به، كشروط الوجوب، وأسبابه، وانتفاء موانعه، فهذه ليست واجبة باتفاق، فليس على المكلف أن يمسك عن إنفاق ما عنده من مال حتى يتم الحول ويزكيه، وليس عليه أن يمسك ما عنده من بهيمة الأنعام أو يزيدها حتى تبلغ نصابا لتجب فيها الزكاة مثلا. وإنما يتصرف في ماله تصرفا عاديا من غير هروب من الزكاة، فإذا حال الحول وعنده نصاب زكاة زكاه وإلا فلا. فهذه الشروط والأسباب وإن كانت داخلة في عموم «ما لا يتم الواجب إلا به» لكنها غير مرادة.
2 ـ ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً أو عادةً أن يفعل الواجب تاما إلا بفعله، وهذا ينقسم أيضا قسمين:
أ ـ ... ما ليس بمقدور للمكلف، كغسل اليد في الوضوء إذا تعذر لقطع ونحوه، وكالركوع والسجود إذا تعذر ليبس في ظهره ونحو ذلك. فهذا خارج عن القاعدة فلا يجب باتفاق.
ب ـ ما هو مقدور للمكلف، مثل غسل جميع الثوب الذي أصابته نجاسة ولا يدري موضعها، وإمساك جزء من الليل مع النهار حتى يتم صيام النهار، والوضوء للصلاة، ونيتها. وهذا ينقسم أيضا قسمين:
1 - ما ورد في إيجابه نص مستقل كالوضوء والنية للصلاة، وهذا واجب
(1/40)
 
 
باتفاق، ولم ينقل عن أحد فيه خلاف.
2 - ما لم يرد فيه بخصوصه دليل مستقل، وهذا هو موضع النزاع، وهو الذي قال بعض العلماء فيه: لا نسميه واجبا وإن وجب فعله تبعا.
والخلاف في هذه القاعدة ضعيف، والقاعدة معمول بها عند جميع الأئمة، ومن نقل فيها خلافا فإنما هو في التسمية، وفي استحقاق هذه الزيادة ثوابا مستقلا. وإنما قال الجمهور: تسمى هذه الزيادة واجبا؛ لأنها لا يجوز تركها أبدا إلا بترك الواجب، وترك الواجب يذم عليه المكلف فكذلك ما لازمه.
ومن فروع هذه المسألة:
1 - إذا اشتبهت أخته بأجنبية اشتباها لا يمكن معه معرفة المحرمة عليه منهما بأي طريق، وجب عليه ترك نكاح الاثنتين. ويؤيده حديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». ولكن لو اشتبهت أخته بنساء قرية لا يحرم عليه النكاح من نساء تلك القرية؛ لأن القاعدة هنا عارضتها قاعدة أخرى وهي قاعدة: «العبرة بالغالب لا بالنادر».
2 - إذا اشتبهت الميتة بمذكاة وجب اجتنابهما معا؛ لأن إحداهما منصوص على تحريمها، والأخرى لا يتم اجتناب الحرام إلا باجتنابها.
3 - إذا أصابت النجاسة طرفاً من ثوبه كالكم ـ مثلا ـ ولم يعرف موضعها، فإنه يغسل ما يتيقن بغسله أنه غسل النجاسة، وحينئذ يكون قد غسل ما وجب غسله بالنص وما لا يتم فعل ذلك الواجب إلا به.
4 - إذا امتنع المدين من سداد الدين وعنده عقار زائد عن حاجة السكنى وجب عليه بيعه لسداد الغرماء، فإن امتنع أجبره القاضي.
(1/41)
 
 
زيادة الواجب غير المحددة هل تكون واجبة؟:
هذه المسألة تذكر بعد قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»؛ لشبهها بها، وذلك لأن كلا منهما زيادة في الواجب، غير أن الأولى كالشرط للواجب فلا يتم بدونها، والثانية متصلة به من آخره، وهذه الزيادة إذا كانت متميزة لا يختلفون في أنها ليست واجبة، مثل أن يدفع في زكاة الفطر كيسا من الأرز فيه عشرون صاعا، وزكاته هو وأسرته خمسة عشر صاعا، فهذه الزيادة مندوبة، وأما إن كانت غير متميزة مثل الزيادة في الركوع والسجود على القدر الذي تحصل به الطمأنينة، فهذه اختلفوا فيها على قولين، ولا يترتب على الخلاف فيها كبير فائدة؛ إذ لا يظهر للخلاف فائدة إلا مقدار الثواب أيثاب عليها ثواب فرض أم ثواب نافلة؟ ومقدار الثواب يرجع إلى أمور أخرى من الإخلاص وإتقان العمل، وهو أمر مغيب عنا، فلا نطيل بذكر الأدلة.
(1/42)
 
 
المندوب
تعريفه وطرق معرفته:
المندوب في اللغة: اسم مفعول، من الندب، وهو الدعاء، فيكون معنى المندوب: المدعو إليه.
وفي الاصطلاح: هو ما طلب الشرع فعله طلبا غير جازم.
ويعرف كون الفعل مندوباً بطرق كثيرة منها:
1 - الأمر المقترن بما يدل على جواز الترك، كالأمر في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور 33] فالأمر بمكاتبة العبيد للندب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشدد على الصحابة في مكاتبة عبيدهم، بل أقرهم على إمساك الأرقاء مع علمه بما فيهم من الخير.
2 - الترغيب فيه بذكر ثوابه من غير أمر، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل» (متفق عليه).
3 - بيان محبة الله للفعل، كقوله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (متفق عليه).
4 - مدح فاعله، كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان 63].
(1/43)
 
 
5 - فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للفعل تقربا من غير أن يأمر به، مثل الاعتكاف.
 
هل المندوب مأمور به حقيقة؟:
اختلف العلماء في تسمية المندوب مأموراً به حقيقة:
فذهب الأكثر إلى أنه مأمورٌ به حقيقة، واستدلوا بأن فعله يسمى طاعة، والطاعة هي امتثال الأمر، وبأن انقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب شائع ذائع عند حملة الشرع.
وذهب آخرون إلى أنه ليس مأمورا به حقيقة، بل مجازا، واستدلوا بحديث: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (متفق عليه).
ووجه الاستدلال من الحديث أنه يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالسواك خشية المشقة، مع أنه ندبهم إليه بقوله وفعله، فعلم من هذا أن الندب ليس أمرا حقيقة وأن المندوب ليس مأمورا به حقيقة، وهذا الاستدلال قوي.
وقد أجاب عنه الأولون بأن المراد لأمرتهم أمر إيجاب. وفي الجواب نظر؛ لأنه تأويل لا حاجة له.
ومما يشكل على القول الأول أنه يلزم منه أن الأمر مشترك بين الإيجاب والندب، وهذا خلاف ما عليه الجمهور في مقتضى الأمر كما سيأتي.
 
أسماء المندوب:
يسمى المندوب عند جمهور العلماء من المذاهب الثلاثة غير المذهب الحنفي بأسماء كثيرة، أهمها: السنة، والمستحب، والرغيبة، والنافلة، والتطوع، ونحو ذلك.
(1/44)
 
 
وعند بعض الحنفية ينقسم المندوب إلى:
سنة هدى: وهي ما كان أخذها هدى، وتركها ضلالة، ويمثلونها بصلاة العيد، والأذان، والإقامة، والصلاة في جماعة، وتركها يستوجب اللوم والعتاب. وهذا النوع يسميه الجمهور سنة مؤكدة، ويمثلونه بصلاة الوتر، ولهذا قال أحمد: «تارك الوتر رجل سوء» مع أنه لا يرى وجوب الوتر.
سنة مطلقة: وهي ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به أمر إيجاب، مثل السنن الرواتب، وصيام الاثنين والخميس، ونحو ذلك.
نافلة: وهي ما شرع من العبادات الزائدة على الفروض.
وذهب بعض الحنابلة إلى تقسيم المندوب إلى ثلاثة أقسام:
سنة: وهي ما عظم أجره.
نافلة: وهي ما قل أجره.
فضيلة ورغيبة: وهو ما توسط أجره.
وهذا تقسيم مبني على عظم الأجر، وذلك أمر مغيب عنا، والأجر يختلف باختلاف النية والإخلاص وإحسان الفعل.
ومن الألفاظ المشهورة عند الفقهاء:
السنة المؤكدة: وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه في الحضر والسفر، مثل الوتر وسنة الفجر.
والمستحب: وهو ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعله أو لم يفعله، مثل صيام يوم وترك يوم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» ولم يفعل هذا، ومما فعله صيام الاثنين والخميس، وصيام عاشوراء.
(1/45)
 
 
هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟:
اختلف العلماء في ذلك، ومحل الخلاف فيما عدا الحج والعمرة والصدقة، فأما الحج والعمرة فقد اتفقوا على وجوب إتمامهما؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة 196]. وأما الصدقة بالمال كالنفقة على الفقير فلا خلاف في جواز قطعها.
1 - ذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى أن المندوب يجب بالشروع فيه، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
أـ ... قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد 33]، ووجه الدلالة: أن الآية فيها نهي عن إبطال العمل، والنهي يقتضي التحريم، وإذا حرم إبطال المندوب وجب إتمامه.
ب ـ ... ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة ـ وكان صائما صوم تطوع ـ: «كل وصم يوما مكانه» (أخرجه الدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه -) ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالقضاء، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يأمر بقضائه إلا إذا كان واجبا.
ج ـ ... أن المندوب ينقلب واجبا إذا نذره، فالنذر صير المندوب واجبا بالقول، أي بقوله: لله علي كذا، والشروع في المندوب فعل صيّر المندوب لله فوجبت صيانته عن الإفساد. وخلاصة هذا الدليل قياس الشروع في الفعل على النذر.
د ـ ... القياس على الحج والعمرة.
وذهب الجمهور إلى عدم وجوبه بالشروع فيه، واستدلوا بأدلة منها:
(1/46)
 
 
أ ـ ... قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر»، ووجه الدلالة من الحديث ظاهرة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصائم المتطوع مخيرا بين الصيام والفطر، وإذا كان الصيام المندوب لا يجب بالشروع فيه فكذلك سائر المندوبات، إلا ما قام عليه دليل بخصوصه كالحج.
ب ـ ... أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل أهله: «أعندكم طعام؟» فإن قالوا نعم أكل منه، وإلا قال: «إني إذا صائم» (أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة). ووجه الاستدلال أنه يكون ناويا الصوم، ثم إن وجد طعاما أكل وإلا أكمل صيامه.
ج ـ ... أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي كان صائما أن يفطر كما مر في الحديث الذي استدل به للحنفية. ووجه دلالته على عدم الوجوب أنه لو كان إتمامه واجبا لما أمره بالفطر؛ لأنه يكون آمرا بمعصية، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بمعصية.
وقول الجمهور أرجح.
وأما الاستدلال بالآية فالمقصود بها إبطال الأعمال بالرياء أو بالردة.
وأما الحديث فهو دليل للجمهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز للصائم المتطوع أن يفطر، وقوله: «صم يوماً مكانه» ندب؛ لأنه عوض عن ندب.
وأما تشبيه الشروع بالنذر فبعيد جدا، وإلا لوجب على من شرع في الإنفاق على فقير أن يستمر، ولم يقل بذلك أحد.
وأما القياس على الحج والعمرة فمردود؛ للفرق بينهما وبين سائر الواجبات.
وثمرة الخلاف تظهر في إيجاب القضاء، فعند أبي حنيفة إذا شرع في نفل ثم قطعه وجب عليه القضاء، وعند الجمهور لا يجب.
(1/47)
 
 
الحرام
تعريفه وطرق معرفته:
هو ما يذم شرعا فاعله. أي: ما عُرف من الشرع ذم فاعله، سواء عرف ذلك بقرآن أو سنة أو إجماع أو دليل آخر.
ويعرف كون الفعل حراماً بطرق منها:
1 - النهي عنه من غير أن تصحبه قرينة تدل على أنه للكراهة. مثل الزنا، فقد نهى الله عنه بقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء32].
2 - النص على الخبر بتحريمه، كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة275].
3 - ذم فاعله، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس مرفوعا).
4 - توعد الفاعل بالعقاب، كقوله تعالى ـ بعد ذكر بعض المحرمات ـ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان68 - 69].
 
أقسام الحرام:
يقسم بعض العلماء الحرام قسمين:
1 - حرام لذاته: وهو ما كان مفسدة في ذاته. مثل القتل، والسرقة، وأكل لحم الخنزير.
(1/48)
 
 
2 - حرام لغيره: وهو ما تكون مفسدته ناشئة من وصف قام به لا من ذاته. مثل الصلاة في المقبرة، والبيع وقت نداء الجمعة الثاني.
وقد يطلق الحرام لغيره على ما حرِّم لكونه وسيلة إلى الحرام، مثل النظر إلى مفاتن المرأة الأجنبية.
 
التضاد بين الحرام والواجب:
الحرام ضد الواجب، والنهي ضد الأمر، ولهذا لا يمكن أن يكون الشيء الواحد بالعين حراما واجبا، مأمورا به منهيا عنه من جهة واحدة.
وما قد يبدو أنه كذلك فإما أن يكون واحداً بالجنس لا بالعين كالسجود، فإنه إذا وقع للصنم كان حراما، وإذا وقع لله كان واجبا أو مندوبا، فهذا ليس من الواحد بالعين، بل من الواحد بالجنس أو بالنوع، وإما أن يكون الواحد بالعين له جهتان تنفك إحداهما عن الأخرى فيكون حراما من جهة وطاعة من جهة أخرى، ومثّل له بعضهم بالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنها من حيث كونها صلاة طاعة لله، ومن حيث كونها في دار مغصوبة معصية؛ لأن الغصب محرم، ولذا قالوا إنها صحيحة ومجزئة وعليه إثم الغصب، ونظيرها أن يأمر السيد عبده بخياطة ثوبه وينهاه عن دخول دار بعينها، فلو دخل الدار وخاط الثوب استحق المدح على خياطة الثوب واستحق الذم على دخول الدار.
وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة في الدار المغصوبة ليس لها إلا جهة واحدة فلا يمكن أن تكون صحيحة، واستدلوا على ذلك بأن الصلاة عبارة عن قيام وقعود وركوع وسجود، ولا بد لهذه الأفعال من مكان تفعل فيه عادة، فالمكان شرط عادي لأداء الصلاة، فإذا كان المكان منهيا عن اللبث فيه كان البقاء فيه حراما وجميع ما يفعل فيه باطلا محرما لا يمكن أن يكون طاعة.
والصحيح: أن الواحد بالعين إذا كان النهي ليس منصبا عليه بذاته، ولا
(1/49)
 
 
على هيئته المكونة من الفعل وصفته لا يبطل، وإلا كان باطلا، فالوارد في الشرع في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ليس فيه النهي عن الصلاة ولا عن الصلاة في الدار المغصوبة، بل فيه النهي عن الغصب والأمر بالصلاة، فالجهة منفكة فتصح الصلاة ويأثم على الغصب.
أما إذا انصب النهي على ذات المأمور به فيكون نسخا كالنهي عن المتعة بعد الأمر بها، وكذلك إذا اتجه النهي إلى الموصوف مع صفته كالنهي عن بيع الملامسة والمنابذة، والنهي عن الصلاة في المقبرة ونحوها، فالمنهي عنه باطل.
فإذا ضبط الطالب هذه القاعدة أمكنه أن يعرف الفعل الذي له جهتان تنفك إحداهما عن الأخرى فيمكن أن يكون حراما من جهة وطاعة من جهة، والفعل الذي ليس له إلا جهة واحدة أو له جهتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى فلا يمكن أن يكون حراما طاعة.
(1/50)
 
 
المكروه
تعريفه وطرق معرفته:
المكروه في اللغة: المبغَض.
وفي الشرع: هو المحرَّم؛ لأن الله تعالى ذكر بعض المحرمات، ثم قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء38]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -).
والمقصود بقيل وقال: نقل الكلام للنميمة أو للغيبة، والمذكورات في الحديث محرَّمة.
وفي اصطلاح الأصوليين والفقهاء، يطلقه الجمهور على: «ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم» أو: «ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله» مثل المشي بنعل واحدة، والإعطاء والأخذ بالشمال.
ويطلقه الحنفية على شيئين:
1 - المكروه كراهة تحريم، وهو: ما نهى عنه الشرع نهيا جازما، ولكنه ثبت بطريق ظني، مثل أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
2 - المكروه كراهة تنزيه، وهو: ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم. وهو مرادف للمكروه عند الجمهور.
(1/51)
 
 
وكون الشيء مكروها كراهة تنزيه يعرف بأمور، منها:
1 - النهي عنه مع وجود قرينة تدل على عدم العقاب على الترك، مثل: المشي بنعل واحدة؛ فإن النهي عنه خرج مخرج التأديب والحمل على ما يناسب المروءة، وترك ما يضادها.
2 - أن يترتب على فعل الشيء الحرمان من فضيلة، مثل: أكل الثوم والبصل، فمن أكلهما ممنوع من دخول المسجد.
(1/52)
 
 
المباح
تعريفه وطرق معرفته:
وهو في اللغة: المأذون فيه، والمطلق.
وشرعا: ما خير الشرع فيه بين الفعل والترك. مثل: أكل اللحوم وغيرها من الأطعمة مما لم يأت نهي عن أكله.
والإباحة تعرف بطرق منها:
1 - النص على التخيير بين الفعل والترك. مثل:
ـ ... قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الوضوء من لحوم الغنم: «إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ» (رواه مسلم)، وهو يدل على إباحة الأمرين، وقد يستدل على فضل الوضوء بدليل آخر.
ـ ... وتخيير بريرة ـ حين عتقت وزوجها عبد ـ بين المفارقة والبقاء تحته (متفق عليه) فهو يدل على إباحة الأمرين.
ـ ... وقوله ـ لمن سأل عن صيام رمضان في السفر ـ: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» (رواه البخاري).
2 - نفي الإثم والمؤاخذة، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة 173]، وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة 229].
3 - النص على الحل، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
(1/53)
 
 
نِسَائِكُمْ} [البقرة 187].
4 - الأمر الوارد بعد الحظر، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة 10].
5 - كون الفعل مسكوتا عنه؛ فإن الأصل في الأشياء المنتفع بها الحل، ومن أمثلة ذلك: الانتفاع بوسائل الحياة المتطورة في هذا العصر، من مآكل ومشارب، ووسائل الاتصال الحديثة، والنقل، ونحو ذلك.
(1/54)
 
 
القسم الثاني
 
الحكم الوضعي
تعريفه:
الحكم الوضعي: هو خطاب الله تعالى بجعْلِ الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً.
 
أقسام الحكم الوضعي:
أـ ... السبب:
السبب في اللغة: ما يحصل الشيءُ عنده لا به. ومنه سمي الحَبْل سببا، كما في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج 15].
وفي الاصطلاح: يطلق على عدة معانٍ هي:
1 - العلامة المعرِّفة للحكم، مثل قولهم: غروب الشمس سبب للفطر، وطلوع الفجر سبب لوجوب الإمساك في رمضان.
2 - العلة الكاملة، أي: العلة المستكملة شروطها المنتفية موانعها، كما يقال: أخذ المكلف، المال البالغ ربع دينار فصاعدا، خفية، من حرز مثله، بلا شبهة، سبب القطع في السرقة. وكقولهم: الوطء في فرج محرم، بلا شبهة، من مكلف، هو سبب حد الزنى.
وبالنظر إلى هذين المعنيين عرفه بعضهم بأنه: «ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته»، وهذا التعريف ينطبق على المعنى الثاني (العلة
(1/55)
 
 
الكاملة)؛ وذلك لأن السرقة إذا توافرت فيها الشروط وانتفت الموانع لزم من وجودها وجوب القطع، وإذا انعدمت انعدم القطع لأجلها، ولا يمتنع قصاصا، وهذا فائدة قولهم: «لذاته» أي: أن وجود المسبب لذات السبب وعدمه لعدم ذات السبب.
3 - العلة مع تخلف شرطها، كما يقولون: ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة وإن لم يحُلِ الحول.
4 - ما يقابل المباشرة، فمن حرَّض على القتل ولم يقتل يسمى متسببا، والقاتل يسمى مباشرا، والفقهاء يقولون: إذا اجتمع المباشر والمتسبب في الجناية يكون الحكم على المباشر إلا إذا كان غير مكلف لجنون أو لصغر فيحكم على المتسبب.
ب ـ ... العلة:
العلة في اللغة: المرض، أو ما اقتضى تغييرا في المحل.
وفي الاصطلاح: «وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم».
ومثالها: الإسكار علة لتحريم الخمر، والطعم مع اتحاد الجنس علة لتحريم التفاضل في بيع البر بالبر والتمر بالتمر وما جرى مجراهما.
والفقهاء قد يجعلون العلة مرادفة للسبب، وقد يجعلونها مباينة له، فيطلقون السبب على ما لا تعرف حكمته مما هو علامة على ثبوت حكم أو نفيه، مثل غروب الشمس، الذي هو علامة على وجوب صلاة المغرب، ويطلقون العلة على ما عرفت حكمته مما هو علامة على ثبوت حكم أو نفيه، مثل الإسكار علة للتحريم.
(1/56)
 
 
وقد يجعلون السبب أعم من العلة، فيقولون: السبب يطلق على ما عرفت حكمته وما لم تعرف. وأما العلة فلا تطلق إلا على ما عرفت حكمته. فهذه ثلاثة اصطلاحات لهم مشهورة.
ج ـ ... الشرط:
وهو في اللغة التأثير، أو العلامة.
وفي الاصطلاح: وصف يلزم من عدمه عدم ما علق عليه، ولا يلزم من وجوده وجوده ولا عدمه.
مثاله: الطهارة شرط لصحة الصلاة، فيلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة صحة الصلاة ولا عدمها؛ لأن الطهارة قد تحصل ولا تحصل صلاة، أو تحصل صلاة غير مستوفية لبقية الشروط والأركان.
والشرط ينقسم أربعة أقسام بالنظر إلى طريق معرفته:
1 - شرعي: وهو ما عرف اشتراطه بالشرع، مثل: الطهارة للصلاة.
2 - عقلي: وهو ما عرف اشتراطه بالعقل، مثل: الحياة شرط للعلم.
3 - عادي: وهو ما عرف اشتراطه بالعادة، مثل: وجود السلم شرط لصعود السطح.
4 - لغوي: وهو التعليق الحاصل بإحدى أدوات الشرط المعروفة في اللغة، كإن وإذا ونحوهما.
وهذا النوع الأخير يسمى شرطا من حيث الاسم، وهو سبب من حيث المعنى؛ لأنه ينطبق عليه تعريف السبب؛ لأنه يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته. وهذا معنى قولهم: «الشروط اللغوية أسباب».
(1/57)
 
 
د ـ ... المانع:
هو في اللغة بمعنى: الحاجز أو الحائل.
وفي الاصطلاح: وصفٌ يلزم من وجوده عدم متعلقه، ولا يلزم من عدمه وجوده ولا عدمه.
مثل: الرق مانع من الإرث، والدَّين الحال مانع من الزكاة على الصحيح. فالرق وصف متعلق بشخص هو ابن للميت مثلا، فلولا هذا الوصف لورث من تركته، ولكن لوجود هذا الوصف منع من الإرث، فيكون هذا الوصف مانعا من موانع الإرث. وعدم الرق لا أثر له في وجود الإرث ولا عدمه، فقد يعدم الرق ولكن يكون الشخص ليس من الوارثين أصلا أو محجوبا بوارث آخر، كأن يكون الميت له ابن وابن ابن وكلاهما حر غير رقيق، فابن الابن لا يرث مع أنه ليس برقيق؛ لأنه محجوب بالابن.
هـ ـ ... الصحة:
الصحة في اللغة: ضد المرض.
وفي الاصطلاح: ترتب الآثار المقصودة من الفعل عليه.
وهذا التعريف يصلح للصحة في العبادات وفي المعاملات؛ فإن الآثار المقصودة من فعل العبادة عند الفقهاء هي براءة الذمة وسقوط المطالبة به، وهذه تحصل من الفعل الصحيح للعبادة. وعند المتكلمين المقصود من فعل العبادة موافقة الأمر، ولهذا جعلوا الصحة هي موافقة الأمر، سواء أسقط القضاء بالفعل أم لا.
والآثار المقصودة من المعاملة تختلف باختلاف نوعها، فإن كانت بيعا فهي دخول الثمن في ملك البائع والمبيع في ملك المشتري، وهذا يترتب على العقد
(1/58)
 
 
الصحيح، وإن كانت إجارة فالمقصود منها تمكين المستأجر من العين المستأجرة لينتفع بها، وتمكين المؤجر من تملك الأجرة لينتفع بها، وهذا كله يحصل من العقد الصحيح.
ومن العلماء من فرق بين تعريف الصحة في العبادات وتعريفها في المعاملات؛ فجعل التعريف الذي ذكرته صالحا لتعريف الصحة في المعاملات، وأما تعريف الصحة في العبادات فقد ذكروا له تعريفين: أحدهما للمتكلمين، وهو: موافقة الفعل لأمر الشارع. والآخر للفقهاء، وهو: سقوط القضاء.
والصحيح: ما ترتبت آثاره المقصودة منه عليه، وهذا يصدق على الصحيح من العبادات والعقود والإيقاعات كالطلاق والعتاق.
و ـ ... الفساد والبطلان:
الفساد في اللغة: ضد الصلاح.
والبطلان: ذهابُ الشيء خُسْراً وهَدَراً.
وفي الاصطلاح: تخلف الآثار المقصودة من الفعل عنه. فإن كانت عبادة ففسادها أن لا تبرأ بها الذمة، ولا يحصل بها الثواب. وإن كان عقدا أو نحوه ففساده أن لا يترتب عليه أثره من نقل الملك أو حل الاستمتاع ونحو ذلك.
 
الفرق بين الفاسد والباطل:
الفاسد والباطل عند الجمهور بمعنى واحد، وهو: ما لا يترتب عليه أثره.
وعند الحنفية يفرق بينهما بأن الفاسد: ما شرع بأصله ولم يشرع بوصفه، والباطل: ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه.
ومثال الفاسد عندهم: العقود الربوية، فإذا باع رشيد من رشيد درهما بدرهمين فالعقد فاسد وليس بباطل، ومثال الباطل عندهم: إذا باعه حمل
(1/59)
 
 
الحمل الذي في بطن ناقته، أو باع الدم بدراهم، فالعقد باطل في الصورتين؛ لأن الخلل في المبيع، فحمل حمل الناقة معدوم، والدم نجس.
وبين العقدين ـ عندهم ـ فرق كبير؛ فإن العقد الفاسد إذا اتصل بالقبض يفيد الملك الخبيث، والباطل لا يفيد شيئا. والعقد الفاسد يمكن إصلاحه برد الزيادة إذا كانت هي سبب الفساد فيكون الباقي حلالا طيبا، أما الباطل فهو لغو لا فائدة فيه ولا يمكن إصلاحه.
تنبيه:
وقع التفريق بين الفاسد والباطل للشافعية في عقد الكتابة، فجعلوا منها فاسدا وباطلا، وفرقوا بينهما. ووقع مثل ذلك للحنابلة في النكاح ففرقوا بين العقد الفاسد والباطل وجعلوا الباطل ما اختل ركنه ككون الزوجة معتدة، والفاسد ما اختل شرطه كالنكاح بلا ولي.
والصحة والفساد جعلهما الرازي وأتباعه من الأحكام التكليفية، وقالوا الصحة ليست شيئا زائدا على الاقتضاء والتخيير، بل هي راجعة إلى واحد من الأحكام التكليفية الخمسة.
وجعلها ابن الحاجب من الأحكام العقلية لا من الأحكام الشرعية.
(1/60)
 
 
أوصاف العبادة المؤقتة
العبادة المؤقتة بوقت محدد سواء أكانت فرضا أم نفلا تتصف بإحدى صفات ثلاث هي:
أ ـ ... الأداء: وهو فعل العبادة في وقتها المعين غير مسبوق بفعل مختل.
فقولنا: (فعلها في وقتها المعين)، يخرج فعلها بعد فوات وقتها، فلا يسمى أداء.
وقولنا: (غير مسبوق بفعل مختل)، يخرج الإعادة.
ب ـ القضاء: وهو فعل العبادة المؤقتة بعد فوات وقتها. كأداء صلاة الصبح بعد طلوع الشمس لعذر النوم.
ج ـ الإعادة: وهي فعل العبادة في وقتها بعد فعل مختل.
فقولنا: (بعد فعل مختل)، يخرج الأداء؛ لأنه لا يكون مسبوقا بفعل. ووصف الفعل السابق بالخلل يشمل ما اختل شرطه أو ركنه، وما نقص ثوابه وإن استكمل الشروط والأركان، مثل الصلاة منفردا، فمن صلى منفردا ثم وجد جماعة سن له أن يعيد لاستدراك الفضل الذي فاته، فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
وأما الواجب الذي لم يؤقت بوقت محدد كالكفارات، فيوصف بالإعادة ولا يوصف بالأداء والقضاء الاصطلاحيين. ولا يمتنع أن يقول: أديت ما وجب علي من كفارة، ولكن لا يقصد بذلك الأداء الاصطلاحي بل مجرد الفعل، يدل على ذلك أنك لا تقول: صيام الكفارة أداء أم قضاء؟ وأما الإعادة فيوصف بها كل فِعل فُعِل أوَّلا على ضرب من الخلل، سواء أكان له زمن محدد أم لا (1).
_________
(1) الإبهاج 1/ 75.
(1/61)
 
 
تقسيم الحكم إلى عزيمة ورخصة
عَدَّ بعض العلماء من أقسام الخطاب الوضعي وصف الحكم بالعزيمة أو الرخصة، وبعضهم جعله تقسيما آخر للحكم وهو أولى، ولكنه تقسيم للحكم التكليفي والتخييري لا للحكم الوضعي، فلا يوصف السبب والشرط والمانع بالعزيمة والرخصة.
والعزيمة في اللغة: القصد المؤكد، كما قال تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه 115].
وفي الاصطلاح: وصف للحكم الثابت ابتداء لا لأجل عذر.
ويوصف به الواجب والمندوب والمكروه والحرام والمباح، ولا يطلق إلا في مقابل الرخصة.
والرخصة في اللغة: التسهيل والتيسير، ومنه قولهم: رخص السعر، وقولهم: أرض رخصة أو رخيصة، إذا كانت دمثة لينة.
وفي الاصطلاح: وصف للحكم الثابت على خلاف دليل شرعي باق لعذر.
فقولنا: (على خلاف دليل شرعي)، يخرج كل حكم لم يشرع على خلاف دليل شرعي آخر.
وقولنا: (باق)، يخرج ما شرع على خلاف دليل منسوخ فلا يسمى رخصة اصطلاحا.
وقولنا: (لعذر)، يخرج ما شرع على خلاف دليل شرعي لمخصص لا لأجل العذر.
(1/62)
 
 
الفرق بين الرخصة والمخصوص من العموم:
الفرق بين الحكم المخصوص من العموم