كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي
المؤلف : عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري (المتوفى : 730هـ)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله مصور النسم في شبكات الأرحام بلا مظاهرة ومعونة, ومقدر القسم لطبقات الأنام بلا كلفة ومئونة, شارع مشارع الأحكام بلطفه وأفضاله, ناهج مناهج الحلال والحرام بكرمه ونواله, مبدع فرائد الدرر من خطرات الفكر بسحائب فضله وإكرامه, منشئ لطائف العبر من شواهد النظر برواتب طوله وإنعامه, الذي أكمل بعنايته رونق الدين وأبهة الإسلام, وصير برعايته الملة الحنيفية مرتفعة الأعلام, نحمده حمدا تاه في وصفه أفهام العقلاء, ونشكره شكرا حار في قدره أوهام الألباء, على ما أوضح مناهج الشرع ورفع معالمه, وأحكم قواعد الدين وأثبت دعائمه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رسخت عروقها في صميم الجنان, ودعت صاحبها إلى نعيم الجنان.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جبله الله من سلالة المجد والكرم, وبعثه إلى كافة الخلق والأمم, فأبان معالم الدين وأثاره, وأضاء سبل اليقين ومناره, حتى سطع نور الشرع عن ظلام الجفاء بحسن عنايته, وظهر نور الدين عن أكمام الخفاء بيمن كفايته, صلى الله عليه وعلى آله الذين لم تستر أقمار دينهم بغمام الشك والبداء, ولم تحتجب أنوار يقينهم بأكمام الأهواء, صلاة تتجدد على تعاقب الليالي والأيام, وتتزايد على انتقاص الشهور والأعوام, وسلم تسليما.
"وبعد" فإن علوم الدين أحق المفاخر بالتوقير والتبجيل, وأولى الفضائل بالتفضيل والتحصيل, إذ هي الطريقة المسلوكة لنيل السعادات في الدنيا, والمرقاة المنصوبة إلى الفوز بالكرامات في العقبى, بنورها يهتدى من ظلمات الغواية إلى سبيل الرشاد, وبيمنها يرتقى من حضيض الجهالة إلى ذروة الاجتهاد, لا سيما علم أصول الفقه الذي هو أصعبها مدارك, وأدقها مسالك, وأعمها عوائد, وأتمها فوائد, لولاه لبقيت
(1/7)
 
 
لطائف علوم الدين كامنة الآثار, ونجوم سماء الفقه والحكمة مطموسة الأنوار, لا تدخل ميامنه تحت الإحصاء, ولا تدرك محاسنه بالاستقصاء. ثم إن كتاب أصول الفقه المنسوب إلى الشيخ الإمام المعظم, والحبر الهمام المكرم, العالم العامل الرباني, مؤيد المذهب النعماني, قدوة المحققين أسوة المدققين صاحب المقامات العلية والكرامات السنية مفخر الأنام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين البزدوي تغمده الله بالرحمة والرضوان, وأسكنه أعلى منازل الجنان, امتاز من بين الكتب المصنفة في هذا الفن شرفا وسموا, وحل محله مقام الثريا مجدا وعلوا, ضمن فيه أصول الشرع وأحكامه, وأدرج فيه ما به نظام الفقه وقوامه, وهو كتاب عجيب الصنعة رائع الترتيب, صحيح الأسلوب مليح التركيب, ليس في جودة تركيبه وحسن ترتيبه مرية, وليس وراء عبادان قرية, لكنه صعب المرام, أبي الزمام, لا سبيل إلى الوصول إلى معرفة لطفه وغرائبه, ولا طريق إلى الإحاطة بطرفه وعجائبه, إلا لمن أقبل بكليته على تحقيقه وتحصيله, وشد حيازيمه للإحاطة لجملته وتفصيله, بعد أن رزق في اقتباس العلم ذهنا جليا, وذرعا من هو أجس أضاليل المنى خليا, وقد تبحر مع ذلك في الأحكام والفروع, وأحاط بما جاء فيها من المنقول والمسموع. وقد سألني إخواني في الدين, وأعواني على طلب اليقين, أن أكتب لهم شرحا يكشف عن أوجه غوامض معانيه نقابها, ويرفع عن اللطائف المستترة في مبانيه حجابها, ويوضح ما أبهم من رموزه وإشاراته المعضلة, ويبين ما أجمل من ألفاظه وعباراته المشكلة, ظنا منهم أني لما استسعدت بخدمة شيخي, وسيدي وسندي وأستاذي وعمي, وهو الإمام المحقق الرباني, والقرم المدقق الصمداني, ناصب رايات الشريعة, كاشف آيات الحقيقة, فتاح أقفال المشكلات, كشاف غوامض المعضلات, فخر الحق والدين, ملاذ العلماء في العالمين, قطب المتهجدين, ختم المجتهدين, محمد بن إلياس المايمرغي1 أفاض الله عليه سجال إنعامه وغفرانه, وصب عليه شآبيب إكرامه ورضوانه, ونشأت في حجره برواتب بره وأفضاله, وربيت في بيته بصنائع جوده ونواله, لعلي فزت بدرر من غرر فرائده. وأخذت حظا وافرا من موائد فوائده, وإنه قد كان مختصا من بين العلماء باتفاق الأنام بتحقيق دقائق مصنفات فخر الإسلام فاستعفيت عن هذا الأمر الخطير وتشبثت بأهداب المعاذير, علما مني بأني لست من فرسان هذا الميدان, ولا لي بالإبلاء في مواقفه يدان, وأين أنا من ذلك وقد تحيرت الفحول في حل مشكلاته,
ـــــــ
1 هو محمد بن محمد بن إلياس المايمرغي فقيه حنفي توفي سنة 751 هـ.
(1/8)
 
 
بعد تهالكهم في بحثه وتنقيره, وعجزت التحارير عن درك معضلاته, مع حرصهم على تحقيقه وتفكيره, فلم يزدهم ذلك إلا المبالغة في الإلحاح علي, والإقامة في مواقف الاقتراح لدي, فلم أجد بدا من إنجاح مسئولهم, ولا مندوحة عن تحقيق مأمولهم, فأجبتهم إلى ملتمسهم تفاديا من عقوقهم, وسعيا إلى أداء حقوقهم, وشرعت في هذا الأمر العظيم المهم, والخطب الجسيم المدلهم, مستعينا بالله الكريم الجليل, راجيا منه أن يهديني سواء السبيل, متوكلا على كرمه الشامل في طلب التوفيق لإتمامه, معتمدا على إنعامه العام في سؤال التيسير لابتدائه واختتامه. راغبا إليه في أن يجعل ما أقاسيه خالصا لوجهه الكريم, متعوذا به من أن يتلقاني بسخطه وعقابه الأليم, مبتهلا إليه في أن يحفظني عن الخطإ والزلل, ويلهمني طريق الصواب والسداد في القول والعمل, متضرعا إليه في أن ينفعني به وأئمة الإسلام, ويجمعني وإياهم ببركات جمعه في دار السلام.
ولما كان هذا الكتاب كاشفا عن غوامض محتجبة عن الأبصار ناسب أن سميته كشف الأسرار.
وأرجو أن يكون كتابا سبق عامة الشروح ترتيبا وجمالا, وفاق نظائره تحقيقا وكمالا, ومن نظر فيه بعين الإنصاف, عرف دعوى الصدق من الخلاف, ثم إني, وإن لم آل جهدا في تأليف هذا الكتاب وترتيبه, ولم أدخر جدا في تسديده وتهذيبه, فلا بد من أن يقع فيه عثرة وزلل, وأن يوجد فيه خطأ وخطل, فلا يتعجب الواقف عليه عنه, فإن ذلك مما لا ينجو منه أحد ولا يستنكفه بشر وقد روى البويطي1 عن الشافعي2 رحمه الله أنه قال له إني صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب فلا بد أن يوجد فيها ما يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه السلام قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] فما وجدتم فيها مما يخالف كتاب الله وسنة رسوله فإني راجع عنه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وقال المزني3 قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة فما من مرة
ـــــــ
1 البويطي: هو أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي من كبار أصحاب الشافعي توفي سنة 332هـ.
2 الإمام المجتهد ناصر السنة محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي القرشي ولد في غزة سنة 150 هـ توفي سنة 204 هـ.
3 هو الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني توفي سنة 264 هـ.
(1/9)
 
 
إلا وكان نقف على خطأ فقال الشافعي: هيه أبى الله أن يكون كتاب صحيحا غير كتابه.
فالمأمول ممن وقف عليه بعد أن جانب التعصب والتعسف ونبذ وراء ظهره التكلف والتصلف, أن يسعى في إصلاحه بقدر الوسع والإمكان, أداء لحق الأخوة في الإيمان, وإحرازا لحسن الأحدوثة بين الأنام, وإدخارا لجزيل المثوبة في دار السلام, والله الموفق والمثيب عليه أتوكل وإليه أنيب.
"قال العبد الضعيف" عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري ستر الله عيوبه وغفر ذنوبه. حدثني بهذا الكتاب شيخي وأستاذي وعمي الذي تقدم ذكره آنفا قراءة عليه بسرخس1 في المدرسة الملكية العباسية قال حدثني به أستاذ أئمة الدنيا مظهر كلمة الله العليا شمس الأئمة محمد بن عبد الستار بن محمد الكردري2 من أول الكتاب إلى باب أسباب الشرائع ومنه إلى آخر الكتاب الشيخ الإمام والقرم الهمام بدر الملة والدين محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري3 المعروف بخواهر زاده راويا عن خاله هذا قال حدثنا شيخ شيوخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني4 قال حدثنا إمام الأئمة ومقتدى الأمة نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد النسفي5 عن الشيخ الإمام المصنف قدس الله أرواحهم.
ـــــــ
1 سرخس: مدينة من نواحي خراسان بين نيسابور ومرو معجم البلدان 3/208 – 209.
2 هو محمد بن عبد الستار بن الكردري شمس الأئمة فقيه حنفي ولد سنة 559 هـ وتوفي سنة 642 هـ.
3 محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري بدر الدين المعروف بخواهر زاده توفي سنة 651 هـ.
4 هو برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني الرشداني المعروف بالمرغيناني توفي سنة 593 هـ.
5 هو نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن لقمان النسفي ولد سنة 461 هـ وتوفي سنة 537 هـ.
(1/10)
 
 
أصول فخر الإسلام البزدوي
...
أصول الفخر الإسلام البزدوي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله خالق النسم ورازق القسم
ـــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "الحمد لله خالق النسم ورازق القسم" جرت سنة السلف والخلف بذكر الحمد في أوائل تصانيفهم اقتداء بكتاب الله تعالى. فإنه معنون به وعملا بقوله عليه السلام: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" 1.
والحمد هو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها يقال حمدته على إنعامه وحمدته على شجاعته واللام فيه لاستغراق الجنس عند أهل السنة على ما عرف أي الحمد كله لله والله اسم تفرد به الباري سبحانه يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام لا شركة فيه لأحد قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2 [سورة مريم 65] أي هل تعلم أحدا يسمى بهذا الاسم غيره كذا روي عن الخليل وابن كيسان ولهذا اختص الحمد بهذا الاسم; لأنه لما كان كالعلم للذات كان مستجمعا لجميع الصفات فكان إضافة الحمد إليه إضافة له إلى جميع أسمائه وصفاته ألا ترى أن الإيمان اختص بهذا الاسم حيث قال عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 3 مع أن الإيمان بجميع الأسماء والصفات واجب; لأنه مستجمع للصفات.
ثم لما كان من سنة التأليف أن يوافق التحميد مضمونه. وغرض الشيخ من هذا التصنيف بيان أصول الفقه والفقه على ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله معرفة النفس ما لها وما عليها قال: "خالق النسم" إذ لا بد من وجود النفس لتعرف ما شرع لها
ـــــــ
1 حديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" أخرجه أبو داود في الأدب حديث رقم 484 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه ابن ماجة في النكاح حديث رقم 1894 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/359.
2 أخرجه البخاري 1/13 ومسلم 1/38 والترمذي 5/3 – 4 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/19, 35, 37, 48, وابن ماجة 1/28 والنسائي 5/14.
3 هو الإمام المعظم والمجتهد الأكبر: أبو حنيفج النعمان بن ثابت الكوفي التيمي بالولاء ولد ونشأ بالكوفة وتفقه على حماد بن سليمان توفي سنة 150 هـ.
(1/11)
 
 
مبدع البدائع وشارع الشرائع دينا رضيا ونورا مضيا وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام.
ـــــــ
مثل العقود وما شرع عليها مثل الواجبات والخالق ههنا بمعنى الإيجاد والنسمة الإنسان كذا في الصحاح والنسم جمع نسمة وفي المغرب النسمة النفس من نسم الريح ثم سميت بها النفس ومنها أعتق النسمة والله بارئ النسم ولما كان الإنسان محتاجا إلى العطاء في حالة البقاء أعقبه بقوله "رازق القسم" أي معطي العطايا, والرزق العطاء, وهو مصدر قولك رزقه الله.
والقسم جمع قسمة بمعنى القسم, وهو الحظ والنصيب من الخير.
وفي ذكر الرزق دون الإعطاء لطف, وهو أن الرزق ما يفرض للفقراء بخلاف العطاء, فإنه اسم لما يفرض للعمال مثل المقاتلة والإنسان في أول أمره فقير محتاج لا قوة له على كسب وعمل فكان ذكر الرزق أشد مناسبة من ذكر العطاء مع أن فيه رعاية صنعة الترصيع.
قوله: "مبدع البدائع وشارع الشرائع" الإبداع الاختراع لا على مثال والبدائع جمع بديع بمعنى مبتدع أي مخترع الموجودات بلا مادة ومثال بقدرته الكاملة وحكمته الشاملة.
وفي ذكر هذه القضية بدون الواو بدلا من قوله "خالق النسم" إشارة إلى أن خلق مثل هذا الموجود الذي فيه أنموذج من جميع ما في هذا العالم حتى قيل هو العالم الأصغر من عجائب قدرته وغرائب حكمته ثم هذا الجنس لما خلقوا على همم شتى وطبائع مختلفة وأهواء متباينة لا يكادون يجتمعون على شيء ويبعث لكل واحد همته إلى ما يستلذ طبعه وفيه من الفساد ما لا يخفى; لأن ذلك يؤدي في العاجل إلى التقاتل والتفاني وفي الآجل إلى استحقاق العذاب الأليم, شرع الشرائع زاجرا لهم عن ذلك وجامعا لهم على طريق واحد مستقيم فكان من أجل النعم.
والشرع الإظهار وشرع لهم كذا أي بين والشرائع جمع شريعة, وهي ما شرع الله تعالى لعباده من الدين ثم ضمن الشارع معنى الجعل والتصيير فانتصب دينا على أنه مفعول ثان أي جاعل الشرائع دينا رضيا أو انتصب على الحال من الشرائع مع أنه ليس بصفة لوجود معنى الصفة فيه باعتبار وصفه كما انتصب قرآنا على الحال في قوله عز اسمه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [فصلت: 3] مع أنه ليس بصفة لكونه موصوفا بوصف أي فصلت آياته في حال كونه موصوفا بالعربية. وهو مثل قولك جاءني زيد رجلا صالحا.
(1/12)
 
 
................................................................................................
والدين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات والرضى المرضي ووصفه به اقتداء بقوله عز وجل: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] أي اخترته لكم من بين الأديان ويجوز أن يكون المراد من الشرائع مشروعات هذه الملة خاصة بدليل قوله دينا على صيغة الواحد ولو كان المراد جميع الشرائع من لدن آدم إلى عهد النبي عليهما السلام لقيل أديانا رضية وأنوارا مضيئة.
والنور: لغة اسم للكيفية العارضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر الأجسام الكثيفة مثل الأرض والجدار ومن خاصيته أن تصير المرئيات بسببه متجلية منكشفة ولذا قيل في تعريفه هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره. ثم تسمية الدين نورا بطريق الاستعارة; لأنه سبب لظهور الحق للبصيرة كما أن النور الجسماني سبب لظهور الأشياء للبصر والإضاءة متعد ولازم قال النابعة الجعدي1:
أضاءت لنا النار وجها ... أغر ملتبسا بالفؤاد التباسا
يضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا
فاستعمله بالمعنيين واللزوم هو المختار والضياء أقوى من النور وأتم منه; لأنه أضيف إلى الشمس والنور إلى القمر في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس: 5] ثم الشيخ وصف الدين بالنور أولا كما وصفه الله تعالى به في قوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} [الشورى: 52] أي جعلنا الإيمان نورا وفي قوله عز اسمه: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] أي دينه ثم وصفه بالإضاءة ثانيا; لأنه في أول الأمر في حق المتمسك به بمنزلة نور القمر ثم يتزايد بالتأمل والاستدلال إلى أن يبلغ ضوء الشمس. ولأن الخلق كانوا في ظلمة ظلماء قبل البعث فكان ظهور الدين فيها بمنزلة ظهور نور القمر في الظلمة الجسمانية ثم ازداد حتى بلغ المشرق والمغرب بمنزلة ضياء الشمس; فلهذا وصفه بهما; ولأن استنارة العالم الجسماني بهذين الكوكبين فوصفه بالنور والإضاءة فكأنه قال: هو الشمس والقمر في العالم الروحاني بطريق الاستعارة التخييلية.
قوله: "وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام" الذكر ههنا الشرف قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الانبياء: 10] أي شرفكم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1] قيل ذي الشرف والأنام الخلق, وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه والمطية المركب والمطاء الظهر, وهذا الكلام بطريق الاستعارة يعني كما أن المطية
ـــــــ
1 هو الشاعر أبو ليلى عبد الله بن قيس من بني جعدة بن كعب المتوفى سنة 684.
(1/13)
 
 
أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان ونيل أسباب الغفران.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأصلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى الأنبياء والمرسلين وأصحابهم أجمعين.
ـــــــ
وسيلة إلى الوصول إلى المقصد فكذلك الدين وسيلة إلى الوصول إلى المقصد الأقصى, وهو دار السلام وسميت الجنة دار السلام لسلامة أهلها وما فيها من النعم عن الآفات والفناء أو لكثرة السلام فيها قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [ابراهيم: 23] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يّس:58] والسلام من أسماء الله تعالى فأضيفت الدار إليه تعظيما لها.
قوله: "أحمده على الوسع والإمكان" ولما نظر الشيخ رحمه الله في جلائل نعم الله تعالى على عباده وكمال قدرته وعظمته وعرف أن القدرة البشرية لا تفي بالقيام بمواجب حمده كما هو يستحقه, وإن سلوك طريق النجاة لا يتيسر إلا بإعانته وتيسيره قال: "أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان" يعني أحمده على حسب وسعي وطاقتي وبقدر ما يمكن الإقدام عليه من التحميد لا على حسب النعم إذا ليس ذلك وسع أحد قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ثم الإمكان أعم من الوسع; لأن الممكن قد يكون مقدورا للبشر وغير مقدور له ألا ترى أن نسف الجبال ممكن في نفسه. وإن لم يكن مقدورا للبشر والوسع راجع إلى الفاعل والإمكان إلى المحل وخص طلب الرضوان أي الرضا بالاستعانة فيه; لأنه أعظم النعم وأعلاها قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ثم ذكر الشهادتين; لأن ذلك من سنة الخطبة قال عليه السلام: " كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" 1.
قوله: "وأصلي عليه وعلى آله" أي ذريته وأصحابه أي متابعيه من المهاجرين والأنصار أو المراد من الآل الأتقياء من المؤمنين على ما قال عليه السلام: "آلي كل مؤمن تقي" 2 وتخصيص الأصحاب بالذكر بعد دخولهم في ذلك العموم لزيادة التعظيم.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في النكاح 3/414 وأبو داود في النكاح 4/261 وأخرجه الإمام في المسند 2/303 كلهم عن أبي هريرة.
2 أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس انظر المقاصد الحسنة ص 5 وفيض القدير 1/55 – 56 وكشف الخفاء ومزيد الإلباس 1/17 – 18.
(1/14)
 
 
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد أبو الحسن علي بن محمد البزدوي رحمه الله: العلم نوعان: علم التوحيد والصفات وعلم الشرائع والأحكام.
ـــــــ
وتقديم الآل والأصحاب في الصلاة على عامة الأنبياء والمرسلين لتكميل الصلاة على النبي لا لتفضيلهم على الأنبياء إذ لا فضل لولي على نبي قط.
قوله: "العلم نوعان" اختلف في تفسير العلم:
فقيل لا يمكن تعريفه; لأنه ضروري إذ كل أحد يعلم وجوده ضرورة; ولأن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم فلو علم العلم بغيره كان دورا.
وقيل إنه صفة توجب في الأمور المعنوية تمييزا لا يحتمل النقيض.
وقوله لا يحتمل النقيض احتراز عن الظن ونحوه.
وقيل هو صفة ينتفي بها عن الحي الجهل والشك والظن والسهو.
ومختار الشيخ أبي منصور الماتريدي1 رحمه الله أنه صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به.
ثم أنه عام يتناول علم النحو والطب والنجوم وسائر علوم الفلسفة كما يتناول علم التوحيد والشرائع فلا يستقيم تقسيمه بالنوعين واكتفاؤه عليهما كما لا يستقيم تقسيم الحيوان بأنه نوعان: إنسان وفرس منحصرا عليهما; لأنه أعم من ذلك إلا بتقييد, وهو أن يقال المراد العلم المنجي أو العلم الذي ابتلينا به نوعان, وكان الشيخ رحمه الله أخرج بقوله العلم نوعان غير هذين النوعين عن كونه علما لعدم ظهور فائدته في الآخرة وانحصار الفائدة فيها على النوعين فكان هذا من قبيل قولك العالم في البلد زيد مع وجود غيره من العلماء فيه; لأنك لا تعدهم علماء في مقابلته علم التوحيد هو العلم بأن الله تعالى واحد لا شريك له وعلم الصفات هو العلم بأن لله تعالى صفات ثبوتية قائمة بذاته قديمة غير محدثة مثل العلم والحياة والقدرة وغيرها من أوصاف الكمال لا كما زعمت المعتزلة2 من نفي الصفات, ولا كما زعمت الكرامية3 من حدوث بعض الصفات "وعلم الشرائع" هو العلم بالمشروعات من السبب والعلة والشرط والحل
ـــــــ
1 هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي المتوفى سنة 333 هـ 944 م إمام المتكلمين وعلماء العقائد.
2 المعتزلة فرقة كبيرة من فرق المسلمين تشعبت إلى مذاهب عديدة وأصولهم ترجع إلى خمسة: التوحيد العدل الوعد والوعيد المنزلة بين المنزلتين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 الكرامية هم أتباع أبي عبد الله بن كرام وقد تفرعوا إلى مذاهب.
(1/15)
 
 
والأصل في النوع الأول هو التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة
ـــــــ
والحرمة والجواز والفساد والأحكام, وإن دخلت في المشروعات لكنها لكونها مقصودة أفردت بالذكر "والأصل في النوع الأول التمسك بالكتاب والسنة" أي بمحكم الكتاب والسنة المتواترة. وهذا في المباحثة مع النفس أو مع أهل القبلة الذين أقروا برسالة النبي عليه السلام وبحقية القرآن وانتحلوا نحلة الإسلام إلا أنهم بسبب أهوائهم خرجوا عن حوزة الإسلام ونبذوا التوحيد وراء ظهورهم وأنكروا الصفات التي نطق بها القرآن والسنة زاعمين أن ما ذهبوا إليه هو عين الحق ومحض التوحيد, فأما في المباحثة مع من أنكر الرسالة والقرآن مثل المجوس1 والثنوية2 والفلاسفة3 فلا ينفع التمسك فيها بالكتاب والسنة لإنكار الخصم حقيتهما فيتمسك إذن بالمعقول الصرف. "ومجانبة الهوى والبدعة" الهوى: ميلان النفس إلى ما تستلذه من غير داعية الشرع والبدعة الأمر المحدث في الدين الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون يعني يتمسك بالكتاب والسنة مجانبا لهوى نفسه ومجانبا لما أحدثه غيره في الدين مما لم يكن منه فلا يحمل الكتاب والسنة على ما تهواه نفسه ولا على ما يوافق ما أبدعه غيره مثل ما قالت الرافضة4 المراد من الخمر والميسر والأنصاب أبو بكر وعمر وعثمان ومن الظلم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] أبو بكر ومن قوله: {لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً} [الفرقان: 28] عمر ومثل ما قالت المعتزلة في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] أنه مشروط بشرط التوبة ليستقيم قولهم بالتخليد في النار لأصحاب الكبائر من المؤمنين ومثل حملهم المشيئة في قوله تعالى: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] ونظائره على مشيئة القسر ليستقيم قولهم بعدم دخول الشرور والقبائح تحت
ـــــــ
1 لمجوس والمجوسية دين قديم واللفظج وردت في القرآن الكريم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17] وقد تفرقوا أديانا وفرقا.
2 الثنوية: هم القائلون بأن أصل كل شيء النور والظلمة وهما قديمان أزليان وقد تفرقوا إلى منانية وديصانية ومرقونية ومزدكية.
3 الفلاسفة أو الحكماء غير الإسلاميين كأرسطوا وأفلاطون وأفلوطين والإسلاميين كالفارابي وابن سينا.
4 الرافضة: في تسميتهم خلاف وهم من فرق الشيعة أو هم عموما فرق الشيعة فبعضهم يقول بأنهم سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر كأبي الحسن الأشعري يقول بأنهم فرقة من فرق الشيعة كالنوبختي وبعضهم يقول بأنهم سموا كذلك في الكوفة لكونهم رفضوا زيد بن علي كالطبري.
(1/16)
 
 
ولزوم طريق السنة والجماعة الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه الصالحون وهو الذي كان عليه أدركنا مشايخنا, وكان على ذلك سلفنا أعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وعامة أصحابهم رحمهم الله وقد صنف أبو حنيفة رضي الله عنه في ذلك كتاب الفقه الأكبر وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله وأن ذلك كله بمشيئته وأثبت الاستطاعة مع الفعل,
ـــــــ
مشيئة الله تعالى وإرادته, "ولزوم طريق السنة" أي عقيدة الرسول "والجماعة" أي عقيدة الصحابة, "أدركنا مشايخنا" أي أستاذينا والسلف جمع سالف من سلف يسلف سلفا إذا مضى وعامة أصحابهم أي أكثرهم. وإنما قيد به; لأن بعضهم كان موسوما بالبدعة مثل بشر بن غياث المريسي1.
واعلم أن غرض الشيخ من تقرير هذه الكلمات في أول هذا الكتاب إبطال دعوى من زعم من المعتزلة أن أبا حنيفة رحمه الله كان على معتقدهم استدلالا بما نقل عنه أنه قال كل مجتهد مصيب ودفع طعن من طعن فيه من الشافعية وغيرهم من أصحاب الظواهر أنه كان من أصحاب الرأي وأنه كان يقدم الرأي على السنة فبدأ أولا بإبطال دعوى المعتزلة فقال "وقد صنف أبو حنيفة في ذلك" أي في علم التوحيد والصفات "كتاب الفقه الأكبر" سماه أكبر; لأن شرف العلم وعظمته بحسب شرف المعلوم ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته فلذلك سماه أكبر وذكر فيه إثبات الصفات فقال لم يزل ولا يزال بصفاته وأسمائه لم يحدث له صفة ولا اسم لم يزل عالما بعلمه والعلم صفته في الأزل وقادرا بقدرته والقدرة صفته في الأزل وخالقا بتخليقه والتخليق صفته في الأزل وفاعلا بفعله وفعله صفته في الأزل فالفاعل هو الله سبحانه وفعله صفته في الأزل والمفعول مخلوق وفعل الله تعالى غير مخلوق وصفاته أزلية غير مخلوقة ولا محدثة فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة أو وقف فيها أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى "وإثبات تقدير الخير والشر من الله عز وجل" أي ذكر ذلك فيه أيضا فقال يجب أن يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره من الله تعالى, "وإن ذلك كله بمشيئته" أي ذكر ذلك أيضا فقال جميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها. وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره والطاعات كلها بمحبته ورضائه والمعاصي كلها بتقديره وعلمه وقضائه ومشيئته لا بمحبته ورضاه وأما مسألتا الاستطاعة والأصلح فما وجدتهما في النسخ التي كانت عندي من الفقه الأكبر وليس في كلام الشيخ أيضا ما يوجب أنه قد ذكرهما فيه,
ـــــــ
1 هو أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي مات سنة ببغداد سنة 218 هـ.
(1/17)
 
 
وإن أفعال العباد مخلوقة بخلق الله تعالى إياها كلها ورد القول بالأصلح وصنف كتاب العالم والمتعلم وكتاب الرسالة وقال فيه لا يكفر أحد بذنب ولا يخرج به من الإيمان ويترحم له وكان في علم الأصول إماما صادقا
ـــــــ
فإنه لم يعطف ذلك على ما تقدم حيث لم يقل وإثبات الاستطاعة ولم يقل أيضا وأثبت فيه الاستطاعة ورد فيه القول بالأصلح بل استأنف الكلام وقال وأثبت الاستطاعة ورد القول بالأصلح مطلقا فلعله أثبتهما في موضع آخر أو في مباحثه ونحو ذلك. قوله: "وقال فيه لا يكفر أحد بذنب" أي قال فيه فقد ذكر في كتاب العالم والمتعلم أن المؤمن لا يكون لله عدوا, وإن ركب جميع الذنوب بعد أن لا يدع التوحيد; لأنه حين يرتكب العظيم من الذنب فالله أحب إليه مما سواه, فإنه لو خير بين أن يحرق بالنار وبين أن يفتري على الله من قلبه لكان الاحتراق أحب إليه من ذلك "ولا يخرج به من الإيمان" ذكر فيه أيضا قال المتعلم رحمه الله فما قولك في أناس رووا "أن المؤمن إذا زنى يخلع عنه الإيمان كما يخلع عنه القميص ثم إذا تاب أعيد إليه إيمانه" 1 أتكذبهم في قولهم أو تصدقهم فإن صدقت قولهم فقد دخلت في قول الخوارج2, وإن كذبت قولهم قالوا أنت مكذب للنبي عليه السلام, فإنهم رووا ذلك عن رجال شتى حتى انتهى إلى النبي عليه السلام.
قال العالم رحمه الله أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهم تكذيبا للنبي صلى الله عليه وسلم بل يكون تكذيبا للرواية عنه, فإن الرجل إذا قال أنا مؤمن بكل شيء تكلم به النبي عم, غير أنه لم يتكلم بالجور ولم يخالف القرآن كان هذا القول منه تصديقا بالنبي وبالقرآن وتنزيها له من الخلاف على القرآن وقد قال الله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] فقوله منكم لم يعن به اليهود ولا النصارى, وإنما عني به المسلمون وذكر في الفقه الأكبر أيضا ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب. وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسميه مؤمنا حقيقة, "ويترحم له" أي يدعى له بالرحمة ويقال رحمه الله قال عليه السلام لعدي بن حاتم: "لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه" أي لقلنا له رحمه الله3.
ـــــــ
1 أخرجه الديلمي في الفردوس 1/149 "الإيمان سربال يسربله الله عز وجل لمن يشاء فإذا زنى العبد نزع عنه السربال فإذا تاب يرد عليه" .
2 الخوارج فرقة من فرق المسلمين تفرعت أيضا إلى مذاهب مختلفة كالمحكمة والإباضة والأزارقة.
3 أخرجه الترمذي في نوادر الأصول 3/1287.
(1/18)
 
 
................................................................................................
وذكر فيه أيضا قال المتعلم أخبرني عن الاستغفار لصاحب الكبيرة أهو أفضل أم الدعاء عليه باللعنة؟
قال العالم رحمه الله الذنب على منزلتين غير الإشراك بالله فأي الذنبين ركب هذا العبد, فإن الدعاء له بالاستغفار أفضل; لأنه مؤمن من أهل الشهادة, والدعاء لأهل هذه الشهادة بالمغفرة أفضل لحرمة هذه الشهادة إذا ليس شيء يطاع الله تعالى به أفضل من الإقرار بهذه الشهادة وجميع ما أمر الله تعالى من فرائضه في جنب هذه الشهادة أصغر من بيضة في جنب السموات والأرضين وما بينهن فكما أن ذنب الإشراك أعظم كذلك أجر هذه الشهادة أعظم "وكان في علم الأصول إماما صادقا" أي إماما على التحقيق والشيء إذا بولغ في وصفه يوصف بالصدق يقال للرجل الشجاع وللفرس الجواد إنه لذو صدق أي صادق الحملة وصادق الجري كأنه ذو صدق فيما يعدك من ذلك قال صاحب الكشاف: في قوله تعالى: {قَدَمَ صِدْقٍ} , وفي إضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل, وإنه من السوابق العظيمة.
ومما يدل على تبحره فيه ما روى يحيى بن شيبان عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال كنت رجلا أعطيت جدلا في الكلام فمضى دهر فيه أتردد وبه أخاصم وعنه أناضل. وكان أكثر أصحاب الخصومات بالبصرة فدخلتها نيفا وعشرين مرة أقيم سنة وأقل وأكثر وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الإباضية1 وغيرهم وطبقات المعتزلة وسائر طبقات أهل الأهواء وكنت بحمد الله أغلبهم وأقهرهم ولم يكن في طبقات أهل الأهواء أحد جدلا من المعتزلة; لأن ظاهر كلامهم مموه يقبله القلوب وكنت أزيل تمويههم بمبدأ الكلام وأما الروافض وأهل الإرجاء الذين يخالفون الحق فكانوا بالكوفة أكثر وكنت قهرتهم بحمد الله أيضا وكنت أعد الكلام أفضل العلوم وأرفعها فراجعت نفسي بعدما مضى لي فيه عمر وتدبرت فقلت إن المتقدمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم والتابعين وأتباعهم لم يكن يفوتهم شيء مما ندركه نحن وكانوا عليه أقدر وبه أعرف وأعلم بحقائق الأمور ثم لم يتهايئوا فيه متنازعين ولا مجادلين ولم يخوضوا فيه بل أمسكوا عن ذلك ونهوا أشد النهي ورأيت خوضهم في الشرائع وأبواب الفقه وكلامهم فيه, عليه تجالسوا وإليه دعوا وكانوا يطلقون الكلام والمنازعة فيه ويتناظرون عليه وعلى ذلك مضى الصدر الأول من السابقين وتبعهم التابعون فلما ظهر لنا
ـــــــ
1 هو أتباع عبد الله بن إباض ظهر في زمن مروان بن محمد آخر خلفاء أمية.
(1/19)
 
 
وقد صح عن أبي يوسف أنه قال ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن ستة أشهر فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر وصح هذا القول عن محمد رحمه الله ودلت المسائل المتفرقة عن أصحابنا في المبسوط
ـــــــ
من أمورهم ذلك تركنا المنازعة والخوض في الكلام ورجعنا إلى ما كان عليه السلف وشرعنا فيما شرعوا وجالسنا أهل المعرفة بذلك مع أني رأيت من ينتحل الكلام ويجادل فيه قوما ليس سيماهم سيما المتقدمين ولا منهاجهم منهاج الصالحين رأيتهم قاسية قلوبهم غليظة أفئدتهم لا يبالون مخالفة الكتاب والسنة والسلف الصالح فهجرتهم ولله الحمد كذا ذكر الإمام ظهير الدين المرغيناني1 في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمهما الله قوله: "ودلت المسائل المتفرقة إلى آخره" اعلم أن أهل الأهواء تفرقوا أولا على ست فرق القدرية2 والجبرية3 والرافضة والخارجية4 والمشبهة5 والمرجئة6 ثم تفرقت كل فرقة على اثنتي عشرة فرقة فصار الكل اثنتين وسبعين فرقة على ما عرف ففي المسائل المذكورة في المبسوط والجامع الصغير وغيرهما دليل على أنهم لم يميلوا إلى شيء من هذه المذاهب فقالوا في قوم صلوا بجماعة في ليلة مظلمة بالتحري فوقع تحري كل أحد إلى جهة إن من علم منهم بحال إمامه فسدت صلاته; لأن إمامه في زعمه مخطئ فلو كان كل مجتهد مصيبا عندهم كما هو مذهب المعتزلة لما صح القول منهم بفساد الصلاة كما لو صلوا كذلك في جوف الكعبة.
فإن قيل إنما حكموا بفساد الصلاة; لأن حقية كل جهة مختصة بمتحريها إذ اجتهاد كل مجتهد حق في حق نفسه لا في حق غيره حتى لم يجز العمل باجتهاده لغيره من المجتهدين كحل الميتة ثابت في حق المضطر دون غيره بخلاف الصلاة في الكعبة, فإن كل جهة فيها حق بالنسبة إلى جميع الناس؟
قلنا إذا كان اجتهاد كل مجتهد حقا بالنسبة إليه لا بد من أن يعتقد الغير الحقية بتلك النسبة كحل الميتة لما ثبت في حق المضطر لا بد من أن يعتقد غير المضطر الحل
ـــــــ
1 هو ظهير الدين أبو المحاسن الحسن بن علي المرغيناني توفي حوالي 600 هـ.
2 القدرية: وسموا بذلك لقولهم بأن كل عبد خالق لفعله وقادر عليه ويلقبون بالقدرية والعدلية.
3 الجبرية: يقول الشهرستاني: وهو الذين لا يثنون للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا.
4 أي الخوارج.
5 المشبهة: هو الذين يذهبون إلى تشبيه الخالق بالمخلوق في الصفات الخبرية ومدلولاتها.
6 المرجئة: وتنقسم إلى أربعة أصناف: مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة.
(1/20)
 
 
................................................................................................
في حقه, وإن لم يثبت ذلك في حق غير المضطر وههنا اعتقده مخطئا مطلقا فأوجب فساد الصلاة ولو كان الأمر على ما قالوا لما أوجب فساد الصلاة كالمتوضئ إذا اقتدى بالمتيمم صح صلاته عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وإن كان جواز الأداء بالتيمم ثابتا في حق الإمام دون المقتدي; لأنه لم يعتقد إمامه على الخطإ وقال أبو حنيفة رحمه الله في ميراث قسم بين الغرماء أو الورثة لا آخذ كفيلا من الغريم ولا من الوارث هو شيء احتاط به بعض القضاة, وهو جور سمى اجتهاد ذلك البعض جورا ولو كان كل مجتهد مصيبا عنده لما صح وصفه بالجور.
وقالوا فيمن حلف إن لم آتك غدا إن استطعت فكذا إنه واقع على سلامة الأسباب والآلات للعرف فإن قال عنيت به استطاعة القضاء صدق ديانة حتى لا يحنث وإن لم يأته مع عدم المانع فدل أنهم قائلون بالاستطاعة مع الفعل على خلاف ما قاله المعتزلة.
وقالوا بجواز إمامة الفاسق, وإن كانت مع الكراهية وفيه رد لمذهب الخوارج, فإنهم قالوا بكفر من ارتكب معصية وإمامة الكافر لا تجوز ولمذهب الرافضة أيضا; لأنهم شرطوا لصحة الإمامة الإمام المعصوم وقالوا إذا قضى القاضي بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه; لأنهم مسلمون وفيه رد لمذهب الخوارج والاعتزال.
وقالوا بفرضية غسل الرجلين وفيه رد لمذهب الروافض واتفقوا على عدم جواز الدعاء بقوله اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك من القعود; لأنه يشير إلى التمكن واختلفوا في جوازه بقوله بمعقد العز من العقد فقال أبو يوسف لا بأس به للحديث الوارد فيه1 وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهم الله لا يجوز; لأنه يوجب تعلق العز بالعرش ويوهم حدوث هذه الصفة والله تعالى بجميع أوصافه قديم أزلي والحديث شاذ لا يجوز العمل به في مثل هذه الصورة وفيه رد لمذهب المشبهة واختلفوا أيضا في الحلف بوجه الله فقال أبو يوسف يكون يمينا; لأن الوجه يذكر بمعنى الذات قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] وقال أبو حنيفة ومحمد لا يكون يمينا وأنه من إيمان السفلة أي الجهلة الذين يذكرونه بمعنى العضو الجارحة كذا في المبسوط وفيه رد لمذهب المشبهة أيضا.
وقالوا إذا ارتكب العبد ذنبا يوجب الحد فأجري عليه الحد لا يحصل له التطهير به من غير توبة وندم للحديث الوارد فيه إليه أشير في سرقة المبسوط وفيه رد لمذهب
ـــــــ
1 حديث "اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك...." أخرجه الديلمي في الفردوس عن ابن مسعود 1/551.
(1/21)
 
 
وغير المبسوط على أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب الاعتزال وإلى سائر الأهواء وأنهم قالوا بحقية رؤية الله تعالى بالإبصار في دار الآخرة وحقية عذاب القبر لمن شاء وحقية خلق الجنة والنار اليوم حتى قال أبو حنيفة لجهم اخرج عني يا كافر وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة على ما نطق به الكتاب والسنة,
ـــــــ
المرجئة, فإن عندهم لا يضر ذنب مع الإيمان كما لا ينفع طاعة مع الكفر وبنوا مسائل لا تعد ولا تحصى على اختيار العبد وفيها رد لمذهب المجبرة فثبت أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب أهل الأهواء وخص نفي الاعتزال عنهم بالذكر أولا ثم عمم نفي جميع الأهواء عنهم; لأن المعتزلة هم المدعون أنهم كانوا على مذهبهم لا غيرهم من أهل الأهواء. قوله: "وإنهم قالوا" بكسر الهمزة على أنه كلام مستأنف لا بفتحها عطفا على أنهم لم يميلوا; لأنه لم يوجد في المسائل ما يدل على حقية رؤية الله تعالى وحقية ما ذكر ولكنه ذكر في الفقه الأكبر والله تعالى يرى في الآخرة يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رءوسهم بلا شبيه ولا كيفية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة, وحقية عذاب القبر لمن شاء ذكر في الفقه الأكبر وإعادة الروح إلى العبد في قبره حق وضغطة القبر حق كائن وعذابه حق كائن للكفار كلهم أجمعين ولبعض المسلمين.
وعن حماد بن أبي حنيفة أنه قال سألت أبي عن عذاب القبر أحق هو فقال هو حق أتت به السنة وجاءت به الآثار, وحقية خلق الجنة والنار يعني أقروا بخلق الجنة والنار وبأنهما موجودتان اليوم كذا ذكر في الفقه الأكبر أيضا أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تموت الحور أبدا ولا يفنى عذاب الله تعالى ولا ثوابه سرمدا, حتى قال أبو حنيفة لجهم1 بعدما طال مناظرتهما وظهر مكابرته اخرج عني يا كافر, وهو جهم بن صفوان رئيس الجبرية, وكان من مذهبه أنهما ليستا بموجودتين اليوم. وإنما تخلقان يوم القيامة كما هو مذهب المعتزلة كذا سمعت من بعض الثقات وعليه يدل سياق كلام الشيخ من مذهبه أيضا أنهما مع أهاليهما تفنيان, وإن الإيمان هو المعرفة فقط دون الإقرار وأنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا لله تعالى, وإن العباد فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الريح والإنسان مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار كذا في المغرب والكفاية وتسميته إياه كافرا إما باعتبار غلوه في هواه أو على سبيل الشتم, وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة من البعث بعد الموت وقراءة الكتب ووزن الأعمال والصراط والشفاعة كل ذلك مذكور في الفقه الأكبر, على ما نطق به الكتاب والسنة
ـــــــ
1 هو جهم بن صفوان تنسب إليه الجهمية وينسب إليه القول بنص الصفات والجبر وفناء الجنة والنار.
(1/22)
 
 
وهذا فصل يطول تعداده.
والنوع الثاني علم الفروع وهو الفقه, وهو ثلاثة أقسام: علم المشروع بنفسه والقسم الثاني إتقان المعرفة به وهو معرفة النصوص بمعانيها وضبط
ـــــــ
مثل قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يّس: 79] {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ} [الاسراء: 71] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الانبياء: 47] وقوله عليه السلام: "إن الصراط جسر ممدود على وجه جهنم أو على متن جهنم" 1 "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" 2, وهذا أي النوع الأول, وهو علم التوحيد والصفات وما يتعلق به مما يجب الاعتقاد به. قوله: "والنوع الثاني علم الفروع", وهو الفقه سمي هذا النوع فرعا لتوقف صحة الأدلة الكلية فيه مثل كون الكتاب حجة مثلا على معرفة الله تعالى وصفاته وعلى صدق المبلغ وهو الرسول عليه السلام, وإنما يعرف ذلك من النوع الأول فكان هذا النوع فرعا له من هذا الوجه إذ الفرع على ما قيل هو الذي يفتقر في وجوده إلى الغير, وهو ثلاثة أقسام, أي ثلاثة أجزاء بدليل قوله فإذا تمت هذه الأوجه كان فقها, علم المشروع بنفسه, أي علم الأحكام مثل الحلال والحرام والصحيح والفاسد والواجب والمنهي والمندوب والمكروه, إتقان المعرفة به, أي أحكام العرفان بذلك المشروع, وهو أي ذلك الإتقان هو, معرفة النصوص بمعانيها, أي مع معانيها كقولك دخلت عليه بثياب السفر أي معها واشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معهما أو معناه ملتبسة بمعانيها وكانت الجملة واقعة موقع الحال كما في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أي ملتبسة بالدهن والمراد من المعاني المعاني اللغوية والمعاني الشرعية التي تسمى عللا, وكان السلف لا يستعملون لفظ العلة, وإنما يستعملون لفظ المعنى أخذا من قوله عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث" 3 أي علل بدليل قوله إحدى بلفظة التأنيث وثلاث بدون الهاء, وضبط الأصول بفروعها أي الأصول المختصة
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الرقاق 8/146 – 147 ومسلم في الإيمان رقم 182, 183.
2 رواه أبو داود في السنة 4/236 والترمذي في صفة القيامة 4/625.
3 أخرجه البخاري في الديات 9/6 ومسلم في القسامة 5/106 والترمذي 4/29 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/382, 428, 444, 465.
(1/23)
 
 
الأصول بفروعها والقسم الثالث هو العمل به حتى لا يصير نفس العلم مقصودا فإذا تمت هذه الأوجه كان فقيها وقد دل على هذا المعنى أن الله تعالى سمى علم الشريعة حكمة فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] وقد فسر ابن عباس رضي الله
ـــــــ
بهذا النوع مع فروعها مثال ما ذكرنا أن يعرف أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] كناية عن الحدث, فهذا معرفة معناه اللغوي ويعرف أن المعنى الشرعي المؤثر في الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحي فإذا أتقن المعرفة بهذا الطريق عرف الحكم في غير السبيلين ومثال ضبط الأصل بفرعه أن يعرف أن الشك لا يعارض اليقين فإذا شك في طهارته وقد تيقن بالحدث وجب عليه الوضوء وبالعكس لا يجب.
والقسم الثالث هو العمل به; لأنه هو المقصود من العلم لا نفسه إذ الابتلاء يحصل به لا بالعلم نفسه ولا يقال إن الشيخ قسم نفس العلم أولا ثم أدخل العمل في قسمة العلم وهو مخالف لحد العلم وحقيقته; لأنا نقول إنما أدخل العمل في التقسيم بالتقييد الذي ذكرناه, وهو أن المراد هو العلم المنجي والنجاة ليست إلا في انضمام العمل إليه إلا أن العمل في النوع الأول بالقلب, وهو الاعتقاد وفي هذا النوع بالجوارح مع أنا لا نسلم أن دخول العمل في التقسيم يضر به لأنك إذا فسرت الحيوان مثلا بأنه حساس متحرك بالإرادة وقسمته بأنه أنواع إنسان وفرس وكذا وكذا ثم فسرت الإنسان بأنه حيوان ناطق فدخول النطق في التقسيم لا يضر به, وإن كان مغايرا للحيوانية حقيقة لوجود الحيوانية بكمالها مع زيادة قيد فكذا الشيخ قسم العلم بالنوعين ثم فسر أحد النوعين وهو الفقه بأنه العلم المنضم إليه العمل فكان صحيحا مستقيما ثم استدل على ما ادعى فقال, وقد دل على هذا المعنى أي على أن الفقه هو الوجوه الثلاثة أنه تعالى سماه حكمة والحكمة لغة اسم للعلم المتقن والعمل به ألا ترى أن ضده السفه, وهو العمل على خلاف موجب العقل وضد العلم الجهل وذكر في بعض النسخ الحكيم هو الذي يمنع نفسه عن هواها وعن القبائح مأخوذ من حكمة الفرس, وهي التي تمنعه عن الحدة والجموحة وذكر في الكشاف والحكيم عند الله تعالى هو العالم العامل وفي عين المعاني كنهها ما يرد العقل من الخوض في معاني الربوبية إلى المحافظة على مباني العبودية فلأن يعود العقل معترفا بقصوره أحمد له من أن يتهم بإربه في أموره والتنكير في قوله تعالى: {خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 4] تنكير تعظيم كأنه قال فقد أوتي أي خير
(1/24)
 
 
عنهما الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] أي بالفقه والشريعة والحكمة: في اللغة هو العلم والعمل فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم وهو الفقه دليل عليه, وهو العلم بصفة الإتقان مع اتصال العمل به قال الشاعر:
أرسلت فيها قرما ذا إقحام ... طبا فقيها بذوات الإبلام
سماه فقيها لعلمه بما يصلح وبما لا يصلح والعمل به فمن حوى هذه الجملة كان فقيها مطلقا وإلا فهو فقيه من وجه دون وجه وقد ندب الله تعالى
ـــــــ
كثير والموعظة الحسنة هي التي لا تخفى على من تعظه أنك تناصحه بها وتقصد نفعه فيها ووصف الموعظة بالحسن دون الحكمة; لأن الموعظة ربما آلت إلى القبح بأن وقعت في غير موضعها ووقتها. قال ابن مسعود رضي الله عنه كان النبي عليه السلام يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة1 فأما الحكمة فحسنة أينما وجدت إذ هي عبارة عن القول الصواب والفعل الصواب. قوله: "قال الشاعر", وهو رؤبة2 أرسلت فيها أي في النوق وكلمة في لبيان موضع الإرسال ومحلها كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} [الصافات:72] لا لتعدية الإرسال إلى المفعول الثاني, فإنه تعدى إليه بإلى, والقرم البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل ولكن يكون للفحلة ومنه قيل للسيد قرم تشبيها له به, والإقحام إلقاء النفس في الشدة وفي تاج المصادر الإقحام در آوردن جيزي در جيزي بعنف والطب هو الماهر بالضراب والأبلام بفتح الهمزة جمع بلمة يقال ناقة بها بلمة شديدة إذا اشتدت ضبعتها أي رغبتها إلى الفحل وبكسر الهمزة مصدر أبلمت الناقة إذا ورم حياؤها من شدة الضبعة ووجه التمسك بالبيت هو ما ذكر الشيخ أنه لما وجد فيه العلم والعمل أطلق عليه اسم الفقيه فثبت أن الفقه اسم للجميع, فمن حوى أي جمع. هذه الجملة أي الوجوه الثلاثة, كان فقيها مطلقا أي كاملا تاما, وإلا أي, وإن يجمعها واقتصر على وجه أو وجهين, فهو فقيه من وجه دون وجه لوجود بعض أجزاء الحقيقة دون البعض ويسمي الشيخ هذا النوع حقيقة قاصرة قوله: "وقد ندب الله تعالى إليه" أي دعا يجوز أن يكون ابتداء كلام في بيان فضيلة الفقه ويجوز أن يكون من تتمة الدليل على أن الفقه هو العلم والعمل. وبيانه أن الشرع قد ورد بفضائل الفقه مطلقا في غير
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في العلم باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة وباب جعل لأهل العلم أياما معلومة وأخرجه مسلم في المنافقين باب الاقتصاد في الموعظة والترمذي في الأدب باب ما جاء في الفصاحة والبيان.
2 هو رؤبة بن العجاج البصري التميمي شاعر راجز توفي سنة 145 هـ.
(1/25)
 
 
إليه بقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وصفهم بالإنذار وهو الدعوة إلى العلم
ـــــــ
آية وحديث, ومعلوم أن تلك الفضائل منتفية عنه عند تجرده عن العمل بدليل النصوص المطلقة الواردة في حق العلماء السوء مثل قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] وقوله عز اسمه: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] وقوله جل ذكره: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وقوله عليه السلام: "ويل للجاهل مرة وللعالم سبعين مرة" وما روي أنه عليه السلام سئل عن شرار الخلق فقال "اللهم غفرا حتى كرر عليه" فقال هم العلماء السوء إلى غير ذلك من الأحاديث فثبت أن مطلقه واقع على العلم والعمل جميعا توضيحه أن قوله عليه السلام: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" 1 ورد فيمن يجمع بين العلم والعمل كما أشار الشيخ إليه فأما من أقبل على العلم وترك العمل به فهو سخرة الشيطان وضحكته فكيف يكون مثله أشد عليه من ألف عابد وذكر الإمام الغزالي2 رحمه الله في بيان تبديل أسامي العلوم أن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على دقائقها وعللها واسم الفقه في العصر الأول كان منطلقا على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا قال الله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] والإنذار بهذا النوع من العلم دون تفاريع السلم والإجارة وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله" وروي أيضا موقوفا عن أبي الدرداء رضي الله عنه ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت فقيها بعينك إنما الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بذنبه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين فكان اسم الفقه متناولا لهذه العلوم وللفتاوى أيضا فخص بالفتاوى لا غير فتجرد الناس به لأغراض الجاه والاستتباع استرواحا بما جاء في فضيلة الفقه.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] اللام لتأكيد النفي ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤد إلى مفسدة لوجب لوجوب التفقه على الكافة; ولأن طلب العلم فريضة.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في العمل 5/48 وابن ماجة في المقدمة 1/81.
2 هو أبو حامد الغزالي محمد بن محمد حجة الإسلام الفقيه المتكلم الفيلسوف الصوفي الأصولي 450 – 505 هـ.
(1/26)
 
 
................................................................................................
على كل مسلم ومسلمة {فَلَوْلا نَفَرَ} [التوبة: 122] أي فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة يكفونهم النفير {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة وتؤمونه من المقاصد الركيكة من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا وفشو داء الضرائر بينهم وانقلاب حمالق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه وتهالكه على أن يكون موطئ العقب دون الناس كلهم فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل: {لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص: 83] {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحا ووجه آخر, وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك وبعدما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن استماع الوحي والتفقه في الدين فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة أعظم أثرا من الجهاد بالسيف وقوله {لِيَتَفَقَّهُوا} الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه كذا في الكشاف ولا يقال هذه الآية على الوجه الثاني معارضة بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] لأنا نقول هذه الآية ناسخة للآيات التي توجب نفر الكل. وهو قول الحسن وأبي بكر الأصم أو هي نازلة حال كثرة المؤمنين وتلك في حال قلتهم أو هي محمولة على غير حالة هجوم العدو وتلك على حالة الهجوم إليه أشير في شرح التأويلات والإنذار هو الدعوة إلى العلم والعمل لأن المنذر إذا لم يعمل بما ينذر به لا يلتفت إليه ولا إلى كلامه أصلا كمن أشار إلى طعام لذيذ وقال لا تأكلوه, فإنه مسموم ثم أخذ في أكله لا يلتفت إلى كلامه أصلا فثبت أنه لا بد للإنذار من العمل به وقد وصف الله تعالى الفقهاء بالإنذار بقوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} فلا بد من أن يكونوا عالمين بما أنذروا به فثبت أن الفقيه هو العالم العامل والفقه هو العلم والعمل ألا ترى أنه تعالى ذم أقواما على الإنذار بدون العمل بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:+
(1/27)
 
 
والعمل به وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" 1 وقال: "إذا أراد الله بعبد خيرا يفقهه في الدين" 2 وأصحابنا هم السابقون في هذا الباب ولهم الرتبة العليا والدرجة القصوى في علم الشريعة
ـــــــ
من الآية44] وبقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] وقد حرضهم ههنا عليه فثبت أنه هو الدعوة إلى العلم والعمل جميعا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي الناس أكرم قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا ليس عن هذا نسألك قال: "أكرم الناس يوسف ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا ليس عن هذا نسألك قال: "فعن معادن العرب تسألونني" قالوا نعم قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" فقه الرجل بالكسر فقها فهم وفقه فقاهة إذا صار فقيها قوله: "وأصحابنا" أي أصحاب مذهبنا وهم أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه, هم السابقون أي المتقدمون, في هذا الباب أي الفقه ذكر ضمير الفصل ليدل على نوع تخصيص وحصر أي هم المختصون بالسبق فيه لا غيرهم; لأنه لم يتقدمهم أحد في تخريج المسائل وتصحيح الأجوبة ولم يبلغ غايتهم في ترتيب الفروع على الأصول وبذل المجهود في تلك, ولهم الرتبة العليا أي المنزلة التي لا منزلة فوقها والعليا والقصوى تأنيث الأعلى والأقصى, وكان القياس أن تقلب واو القصوى ياء كواو العليا; لأنها من الصفات الجارية مجرى الأسماء وواو فعلى تقلب ياء في مثل هذا الموضع إلا أنها جاءت بالواو أيضا في بعض اللغات على سبيل الشذوذ كما جاءت بالياء قال الإمام عبد القاهر3, وإذا كانت اللام واوا في فعلى, فإنها تقلب في الصفات الجارية مجرى الأسماء إلى الياء من غير علة مثل الدنيا والعليا والقصيا وقد قالوا القصوى فجاء على الأصل كما جاء قود واستحوذ وذكر في الكشاف القصوى كالقودى في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر كما كثر استعمال استصوب مع مجيء استصاب وأغليت مع غالت, الرباني في المتأله العارف بالله تعالى كذا في الصحاح وفي الكشاف الرباني الشديد التمسك بدين الله وطاعته وقيل هو الذي يرب الناس بصغار العلوم قبل كباره
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الأنبياء عن أبي هريرة 4/170 ومسلم في الفضائل 7/103 وأخرجه الإمام أحمد 4/101.
2 حديث "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن معاوية والترمذي وأحمد عن ابن عباس وابن ماجة عن أبي هريرة فيض القدير 6/242.
3 هو على الأرجح عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني أبو بكر النحوي البياني المتكلم المفسر المتوفى سنة 471 هـ.
(1/28)
 
 
وهم الربانيون في علم الكتاب والسنة وملازمة القدوة وهم أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء حتى سموهم أصحاب الرأي والرأي
ـــــــ
وقيل هو الذي يرب الناس بعلمه وعمله بعمله, وهو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للتعظيم كاللحياني والنوراني وقد جاء ربى بفتح الراء وكسرها وضمها والقياس هو الفتح والباقي من تغيرات النسب, والقدوة من الاقتداء كالأسوة من الايتساء لفظا ومعنى ويقال فلان قدوة أي يقتدى به يعني أنهم كانوا يلازمون طريق الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في أخذ الأحكام من الكتاب ثم من السنة ثم من الإجماع ثم القياس ويسلكون نهجهم ولا يخترعون من عند أنفسهم ما يخالف طريقتهم في استخراج الأحكام واستنباطها. قوله:
"وهم أصحاب الحديث والمعاني" ولما طعن الخصوم في أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله أنهم كانوا أصحاب الرأي دون الحديث يعنون به أنهم وضعوا الأحكام باقتضاء آرائهم فإن وافق الحديث رأيهم قبلوه وإلا قدموا رأيهم على الحديث ولم يلتفتوا إليه رد عليهم طعنهم بقوله وهم أصحاب الحديث. وقد حكي أن الشيخ المصنف رحمه الله ناظر إمام الحرمين1 في ألوان تحصيله ببخارى بإشارة أخيه شيخ الأنام صدر الإسلام أبي اليسر2 وأفحمه فلما تفرقوا قال إمام الحرمين إن المعاني قد تيسرت لأصحاب أبي حنيفة ولكن لا ممارسة لهم بالحديث فبلغ الشيخ فرده في هذا التصنيف وقال وهم أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء أي سلموها لهم إجمالا وتفصيلا أما إجمالا; فلأنهم سموهم أصحاب الرأي تعبيرا لهم بذلك, وإنما سموهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام ودقة نظرهم فيها وكثرة تفريعهم عليها وقد عجز عن ذلك عامة أهل زمانهم فنسبوا أنفسهم إلى الحديث وأبا حنيفة وأصحابه إلى الرأي والرأي هو نظر القلب يقال رأى رأيا بدل ديد ورأى رؤيا بغير تنوين بخواب ديد ورأى رؤية بجشم ديد وفي المغرب الرأي ما ارتأه الإنسان واعتقده وأما تفصيلا فما روي عن مالك بن أنس أنه كان يقول اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتا وكلمته في مسائل كثيرة فما رأيت رجلا أفقه منه ولا أغوص منه في معنى وحجة وروي أنه كان ينظر في كتب أبي حنيفة رحمهما الله
ـــــــ
1 إمام الحرمين هو: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن عبد الله الجويني أحد كبار فقهاء الشافعية وعلماء الكلام والأصول ولد سنة 419 هـ وتوفي سنة 478 هـ.
2 هو أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي أخو البزدوي صاحب الأصول.
(1/29)
 
 
اسم للفقه الذي ذكرنا وهم أولى بالحديث أيضا ألا ترى أنهم جوزوا نسخ
ـــــــ
وتفقه بها وعن حرملة أنه سمع الشافعي رحمه الله يقول من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة رحمه الله وعن أبي عبيد القاسم بن سلام1 عن الشافعي أنه قال من أراد الفقه فليلزم أصحاب أبي حنيفة رحمه الله والله ما صرت فقيها إلا باطلاعي في كتب أبي حنيفة لو لحقته قد لازمت مجلسه وبلغ ابن سريج2 أن رجلا وقع في أبي حنيفة فدعاه وقال يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الأمة ثلاثة أرباع العلم. وهو لا يسلم لهم الربع قال كيف ذاك فقال العلم قسمان سؤال وجواب وأنه وضع المسائل فسلم له النصف ثم أجاب فيها ووافقوه في النصف أو أكثر فسلم له الربع الآخر, وإنما خالفوه في الباقي, وهو لا يسلم لهم ذلك فبقي الربع متنازعا فيه بينه وبين الكل.
قوله: "وهم أولى بالحديث" أي بأن يكونوا من أصحاب الحديث أيضا تفصيلا وإجمالا أما تفصيلا فلما روي عن حي بن آدم أنه قال إن في الحديث ناسخا ومنسوخا كما في القرآن, وكان النعمان جمع حديث أهل بلده كله فنظر إلى آخر ما قبض عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ به فكان فقيها وعن نعيم بن عمرو قال سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: عجبا للناس يقولون إني أقول بالرأي وما أفتي إلا بالأثر وعن النضر بن محمد قال ما رأيت أحدا أكثر أخذا للآثار من أبي حنيفة وعن يحيى بن نصر قال سمعت أبا حنيفة يقول عندي صناديق من الحديث ما أخرجت منها إلا اليسير الذي ينتفع به.
وعن أحمد بن يونس قال سمعت أبي يقول كان أبو حنيفة شديد الاتباع للأحاديث الصحاح, وعن الفضيل بن عياض قال كان أبو حنيفة فقيها معروفا بالفقه مشهورا بالورع واسع المال صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار كثير الصمت هاربا من مال السلطان, وكان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه, وإن كان فيها قول عن الصحابة والتابعين أخذ به وإلا قاس فأحسن القياس, وقيل لعبد الله بن المبارك المراد من الحديث الذي جاء: "أصحاب الرأي أعداء السنة" أبو حنيفة وأمثاله فقال سبحان الله أبو حنيفة يجهد جهده أن يكون عمله على السنة فلا يفارقها في شيء منه فكيف يكون من أعادي السنة إنما هم أهل الأهواء والخصومات الذين يتركون الكتاب والسنة ويتبعون أهواءهم. وأما إجمالا فما ذكر الشيخ في الكتاب, والمرسل المطلق, وهو في اصطلاح
ـــــــ
1 هو أبو عبيد القاسم بن سلام 150 – 222 هـ المحدث الفقيه المقريء.
2 هو القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي كان من عظماء الشافعية وأئمة المسلمين ولد سنة 249 توفي سنة 306 هـ.
(1/30)
 
 
الكتاب بالسنة لقوة منزلة السنة عندهم وعملوا بالمراسيل تمسكا بالسنة والحديث ورأوا العمل به مع الإرسال أولى من الرأي, ومن رد المراسيل فقد رد كثيرا من السنة وعمل بالفرع بتعطيل الأصل وقدموا رواية المجهول على القياس وقدموا قول الصحابي على القياس وقال محمد1 رحمه الله تعالى في كتاب أدب القاضي: لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا يستقيم الرأي إلا
ـــــــ
المحدثين ما يرويه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر من بينه وبين الرسول كما يفعل ذلك سعيد بن المسيب والنخعي والحسن, والمراسيل اسم جمع له كالمناكير للمنكر كذا في المغرب, تمسكا بالسنة والحديث, السنة أعم من الحديث; لأنها تتناول الفعل والقول والحديث مختص بالقول. وقيل إنما جمع بينهما لئلا يتوهم أن ذلك العام قد خص منه فأكده بذكر الحديث والأظهر أنهما مترادفان ههنا, ورأوا أي اعتقدوا العمل به أي بالمرسل مع صفة الإرسال, أولى من الرأي, أي من العمل به, كثيرا من السنة, فإنهم جمعوا المراسيل فبلغ دفترا قريبا من خمسين جزءا أو أقل أو أكثر, وعمل بالفرع, وهو القياس, بتعطيل الأصل, أي ملتبسا به يعني عمل بالقياس معطلا للأصل, وهو الحديث ومن شرط صحة العمل بالفرع أن يكون مقررا للأصل لا معطلا له, وقدموا رواية المجهول, وهو الذي لم يشتهر برواية الحديث ولم يعرف إلا برواية حديث أو حديثين, على القياس, حتى قدموا رواية معقل بن سنان على القياس في مسألة المفوضة وقدموا قول الصحابي لاحتمال السماع من الرسول على ما يعرف كل واحد مما ذكرنا في موضعه من أقسام السنة وأبواب النسخ, وإذا أثبت ما ذكرنا من مذهبهم كيف يظن بهم أنهم كانوا يقدمون الرأي على الحديث الصحيح الثابت المتن ومع ذلك قدموا قول الصحابي ورواية المجهول على القياس فلو زعم أحد أنهم خالفوا الحديث في صورة كذا وكذا فذلك لمعارضة حديث آخر ثابت عندهم يؤيده القياس أو لدلالة آية أو نحو ذلك على ما بين في الكتب الطوال فأما أن يكون الرأي عندهم مقدما على السنة كما ظنه الطاعن فكلا قوله: "لا يستقيم الحديث إلا بالرأي" أي باستعمال الرأي فيه بأن يدرك معانيه الشرعية التي هي مناط الأحكام ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث أي لا يستقيم العمل بالرأي والأخذ به إلا بانضمام الحديث إليه, مثال الأول أنه سئل واحد من أهل الحديث عن صبيين ارتضعا لبن شاة هل ثبتت بينهما حرمة الرضاع فأجاب بأنها ثبتت عملا بقوله عليه السلام: "كل
ـــــــ
1 هو الإمام المجتهد صاحب أبي حنيفة رضي الله عنه محمد بن فرقد الشيباني ولد سنة 132 هـ توفي سنة 189 هـ.
(1/31)
 
 
بالحديث حتى أن من لا يحسن الحديث أو علم الحديث ولا يحسن الرأي فلا يصلح للقضاء والفتوى وقد ملأ كتبه من الحديث, ومن استراح بظاهر الحديث عن بحث المعاني ونكل عن ترتيب الفروع على الأصول انتسب إلى ظاهر الحديث, وهذا الكتاب لبيان النصوص بمعانيها وتعريف الأصول
ـــــــ
صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم أحدهما على الآخر" 1 فأخطأ لفوات الرأي. وهو أنه لم يتأمل أن الحكم متعلق بالجزئية والبعضية, وذلك إنما يثبت بين الآدميين لا بين الشاة والآدمي, وسمعت عن شيخي رحمه الله أنه قال كان واحد من أصحاب الحديث يوتر بعد الاستنجاء عملا بقوله عليه السلام من استنجى فليوتر, ونظير الثاني أن الرأي يقتضي أن لا تنتقض الطهارة بالقهقهة في الصلاة; لأنها ليست بخارجة نجسة كما هي ليست بحدث خارج الصلاة لكن ثبت بحديث الأعرابي أنها حدث فوجب تركه به, وكذلك الاستسقاء في الصوم لا يكون ناقضا له بمقتضى الرأي; لأنه خارج وليس بداخل والصوم إنما يفسد مما يدخل لكن ثبت بالحديث أنه مفسد للصوم فيترك الرأي به فثبت أن كل واحد لا يستقيم بدون الآخر, ولا يتخالجن في وهمك ما وقع في وهم بعض الطلبة أن قوله لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا الرأي إلا بالحديث مقتض للدور فيكون باطلا; لأن معنى الدور أن يجعل كل واحد منهما في وجوده مفتقرا إلى الآخر كما إذا قيل لا يوجد الخمر إلا بالعنب ولا العنب إلا بالخمر فيبطل وليس الأمر كذلك ههنا; لأن الرأي ليس بمفتقر في وجوده إلى الحديث ولا الحديث إلى الرأي ولكن افتقار كل واحد إلى الآخر في أمر آخر هو إثبات الحكم الشرعي في الحادثة كعلة ذات وصفين يفتقر كل وصف إلى الآخر في إثبات الحكم وليس هذا من الدور في شيء. وهو كما يقال لا يصير السكر سكنجبينا إلا بالخل ولا يصير الخل كذلك إلا بالسكر فكان توقف كل واحد منهما على الآخر في صيرورته سكنجبينا لا في وجوده فكذا ههنا فصار معنى الكلام لا يستقيم الحديث إلا بالرأي لإثبات الحكم الشرعي ولا الرأي إلا بالحديث لإثبات الحكم أيضا وليس فيها دور كما ترى, يقال استراح فلان بزيد عن عمرو أي طلب راحة نفسه بالاشتغال بزيد والإعراض عن عمرو ومنه الحديث: "مستريح أو مستراح منه" , فمن استراح بظاهر الحديث, أي اكتفى به وأعرض عن بحث المعاني, ونكل عن ترتيب الفروع, أي أعرض من نكل عن العدو وعن اليمين إذا جبن.
لبيان النصوص بمعانيها, أي مع معانيها الدالة على الأحكام مثل الخصوص
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الوضوء 1/229 ومسلم في الطهارة رقم 237 ومالك في الموطأ 1/190.
(1/32)
 
 
بفروعها على شرط الإيجاز والاختصار إن شاء الله تعالى وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب حسبنا الله ونعم الوكيل.
اعلم أن أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والأصل الرابع القياس بالمعنى المستنبط من هذه الأصول.
ـــــــ
والعموم والحقيقة والمجاز إلى تمام الأقسام المذكورة, وتعريف الأصول بفروعها, يعني بين فيه الأصول ثم بنى على كل أصل فروعه مما يليق ذكره فيه, على شرط الإيجاز والاختصار, قد صنف الشيخ في أصول الفقه كتابا أطول من هذا الكتاب وبسط فيه الكلام بسطا, وكان في مطالعة شيخي رحمه الله فوعد أن هذا التصنيف أوجز منه, وما توفيقي, من باب إضافة الصدر إلى المفعول القائم مقام الفاعل, فإن التوفيق ههنا مصدر وفق المبني للمفعول لا مصدر وفق أي وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما قصدت من تصنيف هذا الكتاب ووقوعه موافقا لرضاء الله إلا بمعونته وتأييده والمعنى أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه وطلب منه التأييد في ذلك, والتوفيق جعل الشيء موافقا للشيء وتوفيق الله تعالى للعبد أن يجعل أفعاله الظاهرة موافقة لأوامره مع بقاء اختياره فيها وأن نيات قلبه موافقة لما يحبه, إليه أشير في حصص الأتقياء, والتوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه مع رعاية الأسباب, والإنابة الإقبال إليه. وقيل التوبة الرجوع عن المعصية إلى الله والأوبة الرجوع عن الطاعة إليه بأن لا يعتمد على طاعته بل على فضله وكرمه والإنابة الرجوع إليه في جميع الأحوال فكانت أعم من الأوليين, وفي تقديم عليه وإليه على الفعل أشار إلى التخصيص كما في إياك نعبد أي أخصه بتفويض الأمر إليه والاعتماد عليه وأخصه بالإقبال إليه في جميع الأمور والأحوال.
قوله: "اعلم أن أصول الشرع ثلاثة إلى قوله من هذه الأصول" اعلم كلمة تذكر في ابتداء الكلام تنبيها للسامع على أن ما يلقى إليه من القول كلام يلزم حفظه ويجب ضبطه فيتنبه السامع له ويصغي إليه ويحضر قلبه وفهمه ويقبل عليه بكليته ولا يضيع الكلام فحسن موقعه في مثل هذا الموضع كما حسن موقع واستمع في قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [قّ: 41], وهو كما يروى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "سبعة أيام لمعاذ رضي الله عنه اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك" , والأصول ههنا الأدلة إذ أصل كل علم ما يستند إليه تحقق ذلك العلم ويرجع فيه إليه ومرجع الأحكام إلى هذه الأدلة, والشرع الإظهار في اللغة, وهو إما بمعنى الشارع كالعدل والزور بمعنى العادل والزائر فيكون المعنى أدلة الشارع أي الأدلة التي نصبها الشارع على المشروعات أربعة ويكون
(1/33)
 
 
...............................................................................................
اللام للعهد والمقصود من الإضافة تعظيم المضاف كقولك بيت الله وناقة الله, أو بمعنى المشروع كالضرب بمعنى المضروب والخلق بمعنى المخلوق فيكون المعنى أدلة المشروع أي الأدلة التي تثبت المشروعات أربعة ويكون اللام للجنس والمقصود من الإضافة تعظيم المضاف إليه كقولك أستاذي فلان وكقولنا الله إلهنا ومحمد نبينا أي المشروعات التي تثبت بمثل هذه الأدلة معظمة يلزم رعايتها ويجب تلقيها بالقبول. ثم المشروع يتناول العلل والأسباب والشروط كما يتناول الأحكام فإن كان المراد منه الجميع ومن المعلوم أن القياس لا مدخل له في إثبات ما سوى الأحكام فالمعنى مجموع الأدلة التي تثبت بها المشروعات أربعة من غير نظر إلى أن كل واحد يثبت الجميع أو البعض, وإن كان المراد منه الأحكام لا غير, وهو الظاهر فالمعنى الأدلة التي تثبت بكل واحد منها الأحكام أربعة, أو هو اسم لهذا الدين المشتمل على الأصول والفروع وغيرهما كالشريعة يقال شرع محمد كما يقال شريعته, وكأنه إنما عدل عن لفظ الفقه إلى لفظ الشرع مخالفا لسائر الأصوليين; لأن الإضافة تفيد الاختصاص, وهذه الأدلة سوى القياس لا تختص بالفقه بل هي حجة فيما سواه من أصول الدين ولفظة الشرع أعم ويطلق على أصول الدين كإطلاقه على فروعه قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية فيكون إضافة الأصول إلى الشرع أعم فائدة وأكثر تعظيما للأصول, ثم قدم الكتاب على الجميع; لأنه في الشرع أصل مطلق من كل وجه وبكل اعتبار, وأعقبه بالسنة; لأن كونها حجة ثابت بالكتاب كما ستعرف, وأخر الإجماع عنهما لتوقف موجبيته عليهما ولكن الثلاثة مع تفاوت درجاتها حجج موجبة للأحكام قطعا ولا تتوقف في إثبات الأحكام على شيء فقدمت على القياس الذي يتوقف في إثبات الحكم على المقيس عليه, ولهذا أفرده بالذكر بقوله والأصل الرابع; لأنه لما توقف في إثبات الحكم على المقيس عليه ولم يمكن إثبات الحكم به ابتداء كان فرعا له. وإلى هذه الفرعية أشار بقوله المستنبط من هذه الأصول, وإن كان فيه احتراز عن القياس العقلي أيضا, ولما لم يكن الحكم ثابتا في محل القياس بدونه كان أصلا للحكم وإليه أشار بقوله والأصل الرابع فلما كان أصلا من وجه دون وجه لا يدخل تحت المطلق; لأنه يتناول الكامل الذي هو موجود من كل وجه أو أفرده بالذكر; لأنه ظني في الأصل وقطعيته بعارض وما سواه من الأصول على العكس من ذلك وبعد كونه ظنيا أثره في تغيير وصف الحكم من الخصوص إلى العموم لا في إثبات أصله وأثر ما سواه من الأصول في إثبات أصل الحكم; فلهذا وجب تمييزه عنها, والاستنباط استخراج الماء من العين يقال نبط الماء من العين إذا خرج
(1/34)
 
 
...............................................................................................
والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر وسمي النبط بهذا الاسم لاستخراجهم مياه القنى فاستعير لما يستخرجه الرجل بفرط ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم فكان في العدول عن لفظ الاستخراج إلى لفظ الاستنباط إشارة إلى الكلفة في استخراج المعنى من النصوص التي بها عظمت أقدار العلماء وارتفعت درجاتهم, فإنه, لولا المشقة ساد الناس كلهم, وإلى أن حياة الروح والدين بالعلم والغوص في بحاره كما أن حياة الجسد والأرض بالماء قال تعالى: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9] {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9]: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [قّ: 11]. وقال جل ذكره {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أي كافرا فهديناه, وإليه وقعت الإشارة النبوية في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "الناس كلهم موتى إلا العالمون" الحديث.
ثم مثال الاستنباط من الكتاب انتقاض الطهارة في الخارج من غير السبيلين بكونه خارجا نجسا قياسا على الخارج من السبيلين الثابت حكمه بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43], ومن السنة جريان الربا في الجص والنورة والحديد والصفر بالقدر والجنس قياسا على الأشياء الستة المنصوص عليها في قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" الحديث, ومن الإجماع سقوط تقوم منافع المغصوب بعلة أنها ليست بمحرزة قياسا على سقوط تقوم منافع البدل في ولد المغرور الثابت بالإجماع; لأنهم لما أوجبوا قيمة الولد وسكتوا عن تقوم منافع البدن صار إجماعا منهم على سقوط تقومها; لأن السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان, قد قيل في وجه انحصار الأصول على الأربعة أن الحكم إما أن يثبت بالوحي أو بغيره والأول إما أن يكون متلوا, وهو الذي تعلق بنظمه الإعجاز وجواز الصلاة وحرمة القراءة على الحائض والجنب أو لم يكن والأول هو الكتاب والثاني هو السنة, وإن ثبت بغيره فإما أن يثبت بالرأي الصحيح أو بغيره والأول إن كان رأي الجميع فهو الإجماع, وإن لم يكن فهو القياس والثاني الاستدلالات الفاسدة. وأفعال النبي داخلة فيها, وبعض أصحاب الشافعي حصرها بوجه آخر فقال الدليل الشرعي إما أن يكون واردا من جهة الرسول أو لم يكن والأول إن كان متلوا فهو الكتاب وإن لم يكن فهو السنة ويدخل فيها أقوال النبي وأفعاله, والثاني إن شرط فيه عصمة من صدر منه فهو الإجماع, وإن لم يشترط فهو القياس, ولكن الأولى أن يضاف ذلك إلى الاستقراء الصحيح لأن الدلائل الموجبة للأصالة لم تقم إلا على هذه الأربعة; لأن العقل يوجب حصرها على الأربعة.
(1/35)
 
 
الدليل الأول: الكتاب
أما الكتاب فالقرآن المنزل على رسول الله المكتوب في المصاحف
ـــــــ
قوله: "أما الكتاب فالقرآن" اعلم أن الحد ونعني به المعرف للشيء لفظي ورسمي وحقيقي.
1 - فاللفظي هو ما أنبأ عن الشيء بلفظ أظهر عند السائل من اللفظ المسئول عنه مرادف له كقولنا العقار الخمر والغضنفر الأسد لمن يكون الخمر والأسد أظهر عنده من العقار والغضنفر.
2 - والرسمي هو ما أنبأ عن الشيء بلازم له مختص به كقولك الإنسان ضاحك منتصب القامة عريض الأظفار بادي البشرة.
3 - والحقيقي ما أنبأ عن ماهية تمام الشيء وحقيقته كقولك في جسد الإنسان هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق, فالأولان مؤنتها خفيفة إذ المطلوب منهما تبديل لفظ بلفظ أو ذكر وصف يتميز به المحدود عن غيره. وأما الحقيقي فمن شرائطه أن يذكر جميع أجزاء الحد من الجنس والفصول وأن يذكر جميع ذاتياته بحيث لا يشذ واحد وأن يقدم الأعم على الأخص وأن لا يذكر الجنس البعيد مع وجود الجنس القريب وأن يحترز عن الألفاظ الوحشية الغريبة والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة وأن يجتهد في الإيجاز فإن أتى بلفظ مستعار أو مشترك وعرف مراده بالتصريح أو بالقرينة فلا يستعظم ذلك إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات إذ هو المقصود وغيره تزيينات وتحسينات فلا يبالي بتركها لكن من شرط الجميع الاطراد. وهو أنه متى وجد الحد وجد المحدود والانعكاس وهو أنه إذا عدم الحد عدم المحدود; لأنه لو لم يكن مطردا لما كان مانعا لكونه أعم من المحدود ولو لم يكن منعكسا لما كان جامعا لكونه أخص من المحدود وعلى التقديرين لا يحصل التعريف, إذا عرف هذا فنقول ما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى ليس بحد حقيقي سواء أراد به تعريف مجموع الكتاب من حيث هو مجموع أو تعريف ما يطلق عليه لفظ الكتاب في الشرع حقيقة أو مجازا حتى دخل فيه الكل والبعض; لأنه تعرض فيه للكتابة في المصحف والنقل وهما من العوارض ألا ترى
(1/36)
 
 
المنقول عن النبي عليه السلام نقلا متواترا بلا شبهة, وهو النظم والمعنى
ـــــــ
في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قرآنا بدون هذين الوصفين ولم يتعرض للإعجاز وهو معنى ذاتي لهذا الكتاب المحدود.
ثم قيل هو حد رسمي وأحسن الحدود الرسمية ما وضع فيه الجنس الأقرب وأتم باللوازم المشهورة فلا جرم قال فالقرآن وهو مصدر كالقراءة قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18], أي قراءته وأنه بمعنى المقروء ههنا فيتناول جميع ما يقرأ من الكتب السماوية وغيرها, فاحترز بقوله المنزل عن غير الكتب السماوية وعن الوحي الذي ليس بمتلو; لأن المراد من المنزل ما أنزل نظمه ومعناه والوحي الذي ليس بمتلو لم ينزل إلا معناه, وبقوله على رسول الله عما أنزل على غيره من الأنبياء عليهم السلام من التوراة والإنجيل والزبور أو نحوها. وبقوله المكتوب في المصاحف عما نسخت تلاوته وبقيت أحكامه مثل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله, وبقوله المنقول عنه نقلا متواترا عما اختص بمثل مصحف أبي1 وغيره مما نقل بطريق الآحاد نحو قوله: فعدة من أيام أخر متتابعات, وبقوله بلا شبهة عما اختص بمثل مصحف ابن مسعود رضي الله عنه مما نقل بطريق الشهرة, وهذا على قول الجصاص2 ظاهر, فإنه جعل المشهور أحد قسمي المتواتر وعلى قول غيره يكون قوله نقلا متواترا احترازا عنهما وقوله بلا شبهة تأكيدا, وهذا الموضع صالح للتأكيد لقوة شبه المشهور بالمتواتر.
فعلى هذا القول يكون هذا تعريف الكتاب بالمعنى الثاني فيدخل فيه الكل والبعض, وإنما لم يتعرض للإعجاز; لأنه يدل على صدق الرسول لا على كونه كتاب الله تعالى إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكلام الله تعالى إليه أشير في التقويم; ولأن بعض الآية ليس بمعجز, وهو من الكتاب كذا قيل; ولأن أصالته للأحكام وكونه حجة فيه لا يتعلق بصفة الإعجاز, وإنما يتعلق بما ذكر من الأوصاف.
وقيل هو حد لفظي; لأن القرآن اسم علم للمنزل على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي المتلو كالتوراة اسم للمنزل على موسى والإنجيل اسم للمنزل على عيسى عليهما السلام قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2], والدليل عليه ما ذكر في الميزان أما الكتاب فهو المسمى بالقرآن وأنه. وإن أطلق على المعنى القائم بذات الله تعالى بالاشتراك
ـــــــ
1 هو أبي بن كعب الصحابي الجليل سيد القراء شهد العقبة وبردرا.
2 هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص من فقهاء الحنفية توفي سنة 370 هـ.
(1/37)
 
 
................................................................................................
أو بطريق المجاز, وهو المراد من قولنا القرآن غير مخلوق لكنه من هذا الإطلاق أوضح من لفظ الكتاب; لأنه لا يطلق إلا على هذين المعنيين بخلاف الكتاب; فلهذا فسره به, ثم قيده بالمنزل على رسول الله احترازا عن المعنى القائم بالذات وبالمكتوب احترازا عن المنسوخ تلاوته لا عن الوحي الغير المتلو كما ظنه البعض; لأنه بداخل ليجب الاحتراز عنه والباقي على ما فسرنا فعلى هذا الطريق المنزل على الرسول قيد واحد بخلاف الطريق الأول ويكون هذا تعريفا للكتاب بالمعنى الأول فلا يدخل فيه البعض; لأنه ليس القرآن حقيقة وعلى قول من جعل اسم القرآن حقيقة للبعض كما هو حقيقة للكل أن يكون هذا تعريفا لفظيا للكتاب بالمعنى الثاني إن كان للمشترك عموم عنده, قال ابن الحاجب1 هذا تحديد للشيء بما يتوقف تصوره على ذلك الشيء; لأن الوجود الذهني للمصحف فرع تصور القرآن فيكون دور أو هو باطل2, قلت ليس الأمر كما زعم; لأن الأصحاف لغة جمع الصحائف في شيء لا جمع صحائف القرآن لا غير يقال أصحف أي جمعت فيه الصحف كذا في الصحاح والمصحف حقيقته مجمع الصحف وعلى هذا لا يتوقف معرفته على تصور القرآن, فإن معرفته كانت ثابتة لهم قبل كتابة القرآن في المصحف بل قبل إنزال القرآن; ولكون معناه معلوما سموه مصحفا; لأنه كان متفرقا في صحائف أولا فجمعوه بين الدفتين وسموه به ويجوز أن يسمى غيره بهذا الاسم إذا وجد هذا المعنى وإني قد رأيت دفاتر من الجامع الصحيح للبخاري مكتوبا عليها المصحف الأول المصحف الثاني فعلى هذا يكون قوله المكتوب في المصاحف احترازا عما لم يكتب من القرآن أصلا إن جاز الاحتراز عنه مثل ما ارتفع بالنسيان قبل الكتابة, فإنه روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة والأولى أن يحمل المصحف على المعهود وأن يمنع لزوم الدور على هذا الحد, فإنه تعريف للكتاب وتوقف وجود المصحف في الذهن على تصور القرآن لا يمنع صحته; لأن القرآن معلوم عند السامع متصور في ذهنه. وإن لم يكن الكتاب معلوما له ولو لم ي