أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: أَفْعَالُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
المؤلف: محمد بن سليمان بن عبد الله الأشقر العتيبي (المتوفى: 1430هـ)
عدد الأجزاء: 2        
 
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتِحَة القَول
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وصلوات الله وتسليمه على نبيه الأمين، الذي حمل وحيه، وأدّاه إلينا كاملاً، مبيناً، لا عوج فيه، فعلمنا به من الجهالة، وهدانا به من الضلالة، وجمعنا به بعد الفرقة، وجعل لنا في الدنيا والآخرة مكاناً لا تنكره الأمم.
وبعد، فإن نهر الشريعة الخالد ينبع أوّلاً من كتاب الله العظيم وحي الله المبارك، وكلمته إلى العالمين. ويستمد هذا النهر بعدُ من سنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
منذ أن اختار اللُه نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - لحمل الرسالة، استشعر عظم المهمة التي ألقيت على عاتقه لهداية البشر، وتخوّف ثقل القول الذي كلّف به. لقد أهمّه أمر الجموع الزائغة من البشر، في الجزيرة وخارجها، من يهديها؟ وتلك الأجيال المتلاحقة عبر الزمان إلى أن تقوم الساعة، من يعلمها أحكام الله!
حتى وردت الطمأنينة له من السماء: {ما ودّعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى} الله معك، أما أنت فاستقم كما أمرت، ولا تحد عنه. لا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل، وحدّث الناس بما جاءك من الوحي، واعبد الله واتّقِه حق تقاته. فهذا الذي عليك. ولست عليهم بمسيطر.
إذن الأمر هيّن: تبليغ واستقامة، بيان بالقول، وضرب مثل بالفعل. أما الهداية والإضلال فهما بيد الله وحده.
(1/7)
 
 
فشرح الله صدره للأمر، ووضع عنه وزره الذي أنقض ظهره، ويسر له ما كان عليه عسيراً.
ولكن هل كانت المهمة يسيرة حقاً؟ لقد كان عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الليل إلا قليلاً، يتدبّر تلك الكلمات الإلهية، ويقوّم بقيلها فكره وقلبه، حتى إذا أصبح، بلّغها قومه، واستقام عليها ليُقْتَدَى به، ونفّذ ما علّمه الله، ليكون شاهداً عليهم، كما أرسل اللُه إلى فرعون رسولاً، فعصاه فأخذه الله أخذاً وبيلاً. فالأمر جدّ، وليس عبثاً.
لقد حرصت الأمة على تدوين ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله، وحفظ الله الذّكر بتلك الجهود المضنية التي بذلتها الأمّة، في شتّى ميادين العلم، والتي تكاد تماثل ما بذلته من الجهود في الجهاد والتبليغ. فكان في كلا النوعين من الجهاد، رفع ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر قومه في العالمين.
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقيقة الأمر أكثر من أقواله أضعافاً مضاعفة.
وهذا ملاحظ في سائر البشر. فقلّما ينفكّ البشر عن فعل. ولكنه لا يتكلم إلاّ إذا بدا له ذلك.
والتقرير أكثر من ذلك كله، فإن ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفعال الصحابة وتروكهم، وما رآه في بيئته من الأمور فلم يغيره، لا يحصى، والذي أنكره من ذلك قليل جداً.
لكن ما نقل إلينا في دواوين السنة من الأفعال والتقارير، أقلّ من الأقوال أو يساويه. وقد جمع السيوطي عامة السنن المروية في جامعه الكبير، فكانت الروايات الفعلية مساوياً تقريباً للروايات القولية.
ومع ذلك، فهل خدَمَ الأصوليون الأفعال التي نقلت كما خدموا الأقوال؟
إن كتب الأصول الشاملة تعرضت للأقوال، من جميع جوانبها تقريباً. فبحثت في الأمر والنهي، والعموم والخصوص، والحقيقة والمجاز، وغيرها.
(1/8)
 
 
بل تعرضوا لألفاظٍ معينة ودلالتها، فتكلموا في من وإلى وعن وعلى وأمثالها.
وهناك المباحث التي تدخل فيها الأفعال مع الأقوال، كالحكم، والنسخ، والبيان والإجمال، وما سواها، كادت هذه المباحث أن تكون في كلام الأصوليين مقصورة على الأقوال، ولا يذكر الفعل فيها إلاّ لِماماً، كأنه ضيف زائر، أو حبيب معاتَب.
وكتب الباحثون المتخصصون قديماً وحديثاً في مباحث الأقوال، وأفردوا أكثرها بمؤلفات متخصصة. فكتبوا في الأمر والنهي، وفي الحقيقة والمجاز، وفي تفسير النصوص المجملة. وكتبوا في العموم والخصوص وغير ذلك.
وبالإضافة إلى ذلك كانت الدراسات اللغوية في النحو والبيان والمعاني تقوم بخدمة الأقوال، وبيان أدقّ الفروق في دلالاتها.
لقد حرمت الأفعال النبوية إلاّ من مجهودات ضئيلة، لقد مسّها الأصوليون مسّاً سريعاً في مؤلفاتهم الأصولية الشاملة.
فهل ذلك هو الوزن الحقيقيّ للأفعال؟ هل أعطيت الأفعال (كامل حقوقها وما ينبغي لها؟) إن استقراء مواقع الخلاف بين الفقهاء يظهر بجلاء، أن من أسباب الخلاف بينهم اختلافهم في الأحكام المستفادة من الأفعال، بل لعلّي لا أكون مبالِغاً إذا قلت: إنّ الخلاف في قواعد الأفعال هذه هو السبب الأكبر في الخلاف الفقهي.
ولم نجد، بعد طول البحث، أحداً خصّ الأفعال بمؤلّف خاص، ما عدا اثنين من فضلاء المتأخرين، أحدهما الشيخ أبو شامة المقدسي، من رجال القرن السابع. ورسالته في ستين ورقة تقريباً. والآخر من رجال القرن الثامن وهو الحافظ العلائيّ، ورسالته في نحو ثلاثين ورقة.
لم يُغَطِّ المؤلفان المذكورات جميع نواحي مباحث الأفعال، وكان بحثهما في المواضع التي طرقاها قاصراً من جهات.
(1/9)
 
 
لقد كان ذلك كله حافزاً لاختيار الأفعال النبوية موضوعاً لدراسة أصولية، أخدم بها السنة المطهرة.
وقد سرت في عملي بحماس شديد شاعراً بعظم المهمة، ناظراً إلى الفراغ الكبير الذي ينتظر السداد.
لقد كان السير في الطريق الممهّدة سيراً رفيقاً. أما الفراغ الذي لم يطرق من قبل فقد كان السير فيه عسيراً مضلِّلاً، لولا عون الله وتسديده وتوفيقه.
وحرصاً على الطريق الممهّدة، لم أشأ أن أبدأ السير قبل أن أطّلع على كتابات شاملة في الأفعال، فحرصت كل الحرص على الحصول على رسالتي الحافظ العلائي وأبي شامة.
أما الأولى فقد حصلت عليها بيسر، إذ وجدتها هنا بالقاهرة.
وأما الأخرى، فقد طال البحث عنها في مكتبات العالم العربي فلم توجد فيه. ثم يسّر الله الكريم العثور عليها صدفة في إحدى المكتبات النائية في أوروبا، ولعلها النسخة الوحيدة في العالم من المؤلف المذكور. فحصّلت صورتها بعد عناء شديد.
إلاّ أنه قد تبيّن أن كلاً من الرسالتين المذكورتين عجالة، تغني من جوع ولكنها لا تُسمِن، وتنقع الغلة دون أن تعطي الريّ أو تشفي الصدر.
واستعنت بالله.
ورأيت أن من الأفعال ما ليس في فعليّته خفاء، كالصلاة والصوم والجهاد والركوع والسجود والأكل والشرب والنوم.
وأنّ من الأفعال ما اختلف في أنه فعل أو ليس بفعل كالترك والكتابة والإشارة والسكوت والإقرار.
فخصصت النوع الأول بباب وسمّيته باب الأفعال الصريحة.
(1/10)
 
 
وخصصت النوع الثاني بباب وسمّيته باب الأفعال غير الصريحة.
وجعلت للتعارض بين الأفعال وما سواها من الدلائل باباً ثالثاً.
وقد مهّدت للرسالة بتعريف السنة لغة واصطلاحاً. وبيان حجية السنة إجمالاً ومنزلتها من القرآن. وفي تحرير المهمات النبوية وبيان دور الأفعال في أدائها على الوجه الأكمل.
وأما الباب الأول وهو باب الأفعال الصريحة فقد انتظم في تسعة فصول:
الفصل الأول تعرضت فيه للبيان بالأفعال في حالة انفرادها أو اجتماعها مختلفة أو متفقة. وفي حال اجتماعها مع الأقوال.
والفصل الثاني تعرضت فيه لأحكام أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأوضحت أن فعله قد يصدر عن النصوص القرآنية، أو عن اجتهاد، أو تفويض، وأنه قد يصدر على أساس مرتبة العفو، أي عدم الحكم.
وبينت في الفصل الثاني أن الأفعال التي تصدر عنه - صلى الله عليه وسلم -، إما أن تكون من قبيل الواجبات، أو المندوبات، أو المباحات، وتعرضت للعصمة عن المكروهات والمحرمات.
وذكرت الطرق التي يتعيّن بها حكم فعله - صلى الله عليه وسلم -. فحصرت ذلك، وناقشت النظريات التي أُورِدَت في أماكن شتى من كلام الأصوليين حول ذلك.
وفي الفصل الثالث بيّنت أن الأفعال النبوية من حيث الجملة حجّة شرعية. وناقشت المخالفين في ذلك. وأوردت الأدلة المقنعة.
وفي الفصل الرابع قسّمت الأفعال النبوية الصريحة عشرة أقسام: الفعل الجبِلّيّ. والعاديّ. والدنيويّ. والخصائص. والمعجزات. والفعل البيانيّ. والامتثاليّ. والمتعدّي. والمفعول لانتظار الوحي. ثم الفعل المجرّد.
وخصصت كل واحد منها بمبحث خاص أوضحت ما يستدل به منها وما لا يستدل به، وكيفية ذلك.
(1/11)
 
 
غير أني خصصت الفعل المجرّد بفصل خاص هو الفصل الخامس، لمَّا أنه لبُّ باب الأفعال، وهو الذي يقع فيه الخلاف.
وفي الفصل السادس تحدثت عن الأحكام التي يصح استفادتها من الأفعال، ومن أين يؤخذ كل منها، سواء الأفعال التكليفية والوضعية.
وفي الفصل السابع تحدثت عن صفة الدلالة الفعليّة، وطبيعتها، وهل تنتمي إلى الدلالة المطابقيّة أو التضمنيّة أو الالتزامية. وذكرت أن الفعل قد يدل بالمفهوم. وبيّنت كيفية انسحاب حكم الفعل النبويّ على أفعال الأمة.
وتعرضت في الفصل الثامن لدلالة متعلّقات الفعل النبوي. فذكرت دلالة سبب الفعل، وفاعله، ومفعوله، ومكانه، وزمانه، وهيئته، وما يقارنه، وأدواته المادّية، وعدد الفعل ومقداره.
وفي الفصل التاسع ذكرت مباحث متنوّعة تتعلق بالأفعال، فعقدت مبحثاً بيّنْتُ فيه للمجتهد الطريق العمليَّ الذي يسلكه لاستفادة الحكم من الفعل النبويّ؛
ومبحثاً آخر للاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالأفعال، وكيف الجواب عنها.
ومبحثاً ثالثاً لنقل الفعل النبوي، وما قد يقع من الخلل في أدوات النقل وعباراته، وما يحصل من الأوهام بسبب ذلك، ليحصل التنبه لها، والحذر من الوقوع فيها.
أما الباب الثاني: فقد عقدته للأفعال غير الصريحة وهي الكتابة والإشارة والأوجه الفعلية للقول، والترك، والسكوت، والتقرير، والهم بالفعل. وعقدت لكل منها فصلاً. ثم عقدت فصلًا لأمور تلحق بالأفعال النبوية.
أما الباب الثالث: فقد عقدته للتعارض بين الأفعال النبوية بعضها ببعض، والتعارض بينها وبين الأدلة الأخرى. وانتظم عندي في أربعة فصول. وألحقت به قطعة من رسالة الحافظ العلائيّ المسمّاة (تفصيل الإجمال في تعارض
(1/12)
 
 
الأقوال والأفعال) رأيت من الضروري أن تكون بين يدَيْ من يطّلع على هذا البحث.
وقد كان مما أخذته على نفسي في هذا البحث أن أزن الأمور بما تستحقه، فلا أستقلّ قولاً للجهالة بقائله، أو لأنه نُبِزَ بوصف غير لائق، ولا أغترّ بقول نسب إلى الجمهور أو الكثير، أو إلى فلان أو فلان من المشهورين.
وقد أوردت من الفروع الفقهية أمثلة تتّضح بها القواعد، ويبين بها المراد. وأخذت على نفسي ألاّ أستطرد وراء تلك الفروع نقاشاً واستدلالاً إلاّ بمقدار ما تتضح به القاعدة الأصولية ويبين به المراد منها. والذي يريد دراسة الفرع الفقهيّ ينبغي أن يأخذه من مظانّه من كتب الفقه.
وخرّجت ما ورد في هذه الرسالة من الآيات والأحاديث. وترجمت للأعلام المستغربة نوعاً ما، وتركت الترجمة للمشهورين اكتفاء بشهرتهم.
ولست أدّعي العصمة، ولا أزعم الإحاطة. وإنما أدّعي وأزعم أنني بذلت جهداً في جمع شمل نواحي هذا الموضوع الهام، وأنني حللت جزءاً من تلك المشكلات، وسلطت الأضواء على مواضع الإشكال الأخرى.
وليس ذلك بحولي ولا بقوّتي، وإنما بفضل الله وعونه وتيسيره لكل صعب، لمست ذلك عندما رأيت تفتّح المقفلات، وتيسير الشدائد، وتسهيل كل عسير.
وأتقدم بالشكر إلى أستاذي فضيلة الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق، الذي كان لتشجيعه وتوجيهه أثره الكبير في خروج هذه الرسالة على هذا الوضع، ولكل من أسدى في ذلك يداً.
"والحمد لله أولاً وآخراً"
القاهرة - مدينة نصر
يوم الخميس 17 من رجب الحرام 1396 هـ
15 من يوليو 1976 م
(1/13)
 
 
تمهيد
1 - السنة في اللغة وفي الاصطلاح.
2 - حجية السنة إجمالاً، ومنزلتها من القرآن.
3 - تحرير المهمات النبوية وبيان دور الأفعال في أدائها على الوجه الأكمل.
4 - تعريف (الفعل) وانقسامه إلى صريح وغير صريح.
5 - الأفعال النبوية في الدراسات الحديثية والأصولية.
(1/15)
 
 
المبحث الأول السنّة فى اللغة وفي الاصطلاح
السنة في اللغة الطريق: المسلوك حسياً كان أو معنوياً (1). قال صاحب اللسان: "السنة، وسُنن الطريق وسَنَنُهُ، نهجه. وقال شمر: السنة في الأصل سنة الطريق. وهو طريق سنّه أوائل الناس فصار مسلكاً لمن بعدهم".
وقال اللُه تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} (2) أي: "سن الله في الذين نافقوا الأنبياء وأرجفوا بهم أن يقتلوا أينما وجدوا" (3). وقال أيضاً: فهل ينظرون إلا سنة الأولين {فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلاً} (4)، أي: "إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. فقد أجرى الله العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذِّب بمثله من استحقه. لا يقدر أحد أن يبدّل ذلك" (5).
وسواء أكانت الطريقة حميدة أو ذميمة، فكلاهما في اللغة سنة، يدلّ للنوع الأول قول لبيد في معلقته:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
__________
(1) المعاني الحسية الواردة في اللغة لمادة (سنن) ثلاثة:
1 - السن بمعنى تحديد السكين ونحوها.
2 - السنة بمعنى الحظ. وقد ذكر في اللسان من معاني السنة الخط في جلد الحمار (الوحشي).
3 - السنن والسنة بمعنى الطريق.
(2) سورة الأحزاب: آية 38 و62
(3) تفسير الآية عن لسان العرب.
(4) سورة فاطر: آية 43.
(5) تفسير هذه الآية عن القرطبي 14/ 360
(1/17)
 
 
ويدل للنوع الثاني قول خالد بن زهير:
ولا تَعْجَبَنّ من سيرةٍ أنتَ سرتَها (1) ... فأول راضٍ سُنّةً مَنْ يسيرها
بل ورد هذا الاستعمال في السنة، كما في حديث الصحيحين، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعُنّ سُنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه" (2).
وبهذا يتبيّن ضعف قول الخطابي: "إن "السنة" في اللغة للطريقة المحمودة خاصة" (3).
 
"السنة" في الاصطلاح:
السنة في اصطلاح الأصوليين ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من الأقوال والأفعال.
وهي في اصطلاح المحدّثين لمعنى أوسع من ذلك، إذ هي عندهم: "ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، من قول، أو فعل، أو صفة خَلْقيّة، أو خُلُقيّة، وما يتصل بالرسالة من أحواله الشريفة قبل البعثة ونحو ذلك" (4). وإنما جعلوها كذلك لأنهم أهل العناية برواية الأخبار.
وتطلق السنة على ما يقابل البدعة. وبذلك تصدق على كل الشريعة، من قرآن، وحديث ثابت، واجتهاد صحيح. ومن هنا استعمل الاصطلاح المشهور
__________
(1) هذه رواية ابن قتيبة في (عيون الأخبار) 4/ 108 ولكن في (الشعر والشعراء): و (الأغاني. ط بولاق 6/ 62 - 63): فلا تجزعن من سنة أنت سرتها. وللبيت قصة، فلتراجع في هذه المواضع.
(2) متفق عليه (الفتح الكبير).
(3) إرشاد الفحول ص 33
(4) محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون / 10
(1/18)
 
 
"أهل السنة" تمييزاً لهم عن المبتدعة في الأعمال أو الاعتقادات، كالمعتزلة، والشيعة، والخوارج. ولهذا الاستعمال أصل في الحديث النبوي، قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. تَمَسّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1). فقابل السنن بالبدع.
وفي الصدر الأول كانت السنّة تطلق على طريقة الخلفاء الراشدين، بالإضافة إلى طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (سنة الخلفاء الراشدين) كما في الحديث الآنف الذكر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "جلَد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سنة" (2). إلا أنه لما أخذ الفقهاء فيما بعد بالمبدأ القائل بأنه لا حجّة في قول أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قُصِرت دلالة لفظ "السنة" على أقوالِ وأفعالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده. قال ابن فارس: "كره العلماء قول من قال: سنة أبي بكر وعمر، وإنما يقال سنة الله وسنة رسوله" (3).
أما في اصطلاح الفقهاء فالسنة بمعنى النافلة والمندوب، أي ما يتقرب به إلى الله تعالى مما ليس بمتحتم على المسلم.
وبعضهم جعله لنوع خاص من القربة هي ما داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التعبدات، كالوتر والرواتب وصوم الاثنين والخميس، دون ما لم يداوم عليه، كالنوافل المطلقة. واستعمل الفقهاء "السنة" في باب الطلاق خاصة للدلالة على الجواز الشرعي، فقالوا: طلاق السنة، وقابلوه بقولهم: طلاق البدعة، وهو غير المشروع، كالطلاق في الحيض، وطلاق الثلاث دفعة واحدة.
هذا ويلاحظ على تعريف الأصوليين للسنة، أنه يدخل فيه ما لم يكن من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله حجة، كأفعاله وأقواله في شؤون الدنيا الصرفة، لقوله:
__________
(1) رواه أبو داود 12/ 360 وحسنه الترمذي. ورواه الترمذي وابن ماجه (الفتح الكبير).
(2) رواه مسلم (نيل الأوطار 7/ 147).
(3) إرشاد الفحول ص 6
(1/19)
 
 
"أنتم أعلم بأمر دنياكم" (1). والأولى إخراج مثل هذا (2)، ولعلّهم إنما تركوا التصريح به لظهوره، لأن من ترك العمل بما لا حجة فيه، لا يقال إنه تارك للسنة. ويشير إلى هذا قول عائشة: "نزول الأبطح ليس بسنّة، إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أسمح لخروجه" (3). مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله.
ويلاحظ أيضاً أن أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم -، قبل النبوة، ليست بتشريع، وتخرج بقولهم في التعريف (ما صدر عن النبي) فإن ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة لا يصدق عليه أنه (صادر عن النبي).
وملاحظة ثالثة، وهي أن قول المحدّثين (ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أشمل مما قال الأصوليون، فالحديث عند المحدثين سنة بقطع النظر عن ثبوته. ولا يكون سنة عند الأصوليين إلاّ بقيد ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أجل ذلك عبّروا بقولهم (ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -).
وملاحظة رابعة، وهي أن بعض الأصوليين قال في تعريف السنة: إنها ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، وبعضهم يضيف الترك، وبعضهم يضيف الهمّ والإشارة ونحو ذلك. والأولى ترك ذكر ما عدا الأقوال والأفعال، كما صنع البيضاوي في المنهاج، لأن كلّ ما ذكر مما سواهما فهو فعل على الراجح، كما سنذكره في مواضعه إن شاء الله.
وأما من ادّعى أن شيئاً مما ذكر ليس فعلاً، وأنه حجة، فيلزمه ذكره في التعريف.
__________
(1) رواه مسلم 16/ 118
(2) عبد الوهاب خلاف نص على أن ذلك "من السنة ولكنه ليس تشريعاً واجباً اتباعه". وعندي أن ذلك هو من "السنة" في اصطلاح المحدثين لا في اصطلاح الأصوليين لأن الأصوليين يعتمدون (الحجية). وقد أشار إلى اعتبار قيد الحجية في التعريف صاحب تيسير التحرير 3/ 20
(3) رواه مسلم 9/ 58
(1/20)
 
 
المبحث الثاني حجية السنّة إجمالاً
الاحتجاج بالسنة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتبارها أحد أصول الشريعة الإسلاميّة الدالة على الأحكام الشرعية، هو دأب المسلمين قديماً وحديثاً. والذين يعرضون عن اتخاذها كذلك، ولا يعتبرونها عليهم حجة، قوم زائغون منحرفون عن الحق. بل قال الشوكاني: "إن ثبوت حجيّتها، واستقلالها بتشريع الأحكام، ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلّا من لا حظّ له في دين الإسلام" (1).
 
القرآنيون:
وقد نبغ بين المسلمين قوم سمّوا أنفسهم "القرآنيين"، ادّعوا أن الشريعة لا تؤخذ إلّا من القرآن، وأن المسلمين ليسوا بحاجة إلى السنة. وصنعوا من فهمهم المجرد للقرآن تركيبة شرعيّة في الطهارات والصلاة والزكاة والحج وغيرها، يعلم المطّلع عليها يقيناً أنها مخالفة لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ولهؤلاء القوم المعاصرين المذكورين سلف فيمن مضى، لم يزالوا تذرّ نجومهم، فتطمسها شموس الحق من أئمة الهدى في كل زمان. وقد ألّف السيوطي رسالته المشهورة "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" للرد على من وجد من دعاة هذه الفكرة في زمانه من الرافضة. وذكر فيه أن أصحاب هذا الرأي من الزنادقة والرافضة، كانوا موجودين
__________
(1) إرشاد الفحول ص 33
(1/21)
 
 
بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم "وتصدى لهم الأئمة الأربعة، وأصحابهم، في دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم" (1).
وذكر الشاطبيّ (2) طائفة شبيهاً حالها بحال هؤلاء، إلّا أنها كانت تقبل الحديث إذا وافق القرآن. ومع ذلك فقد قال الشاطبي عنهم: "أنهم قوم لا خلاق لهم". ولا شك أنهم أهل لهذا الحكم.
ومما تمسّك به هؤلاء ظواهر قرآنية، نحو ظاهر قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (3) وقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (4).
والجواب أن الآية الأولى ليس المراد بالكتاب فيها القرآن، بل اللوح المحفوظ، كما هو واضح من السياق. وكان القرآن تبياناً لكل شيء بما دل عليه من الأدلة الأخرى، وهي السنة والإجماع والقياس.
ومما تمسّكوا به أيضاً أحاديث ضعيفة مردودة، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله؟ ". قال عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة وضعوا هذا الحديث" (5). وقال الصَّغَاني: "هذا الحديث موضوع" (6).
ومنه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه" (7). وهو معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبوا لأبي شاهٍ" (8). وإذنه لعبد الله بن عمرو (9) في كتابة ما يسمعه منه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) السيوطي: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص 3، 4
(2) الموافقات 4/ 17، 18
(3) سورة الأنعام: آية 38
(4) سورة النحل: آية 89
(5) الموافقات للشاطبي 4/ 18
(6) المقاصد الحسنة. وانظر أيضاً: السيوطي: مفتاح الجنة، ص 14
(7) رواه أحمد ومسلم (الفتح الكبير).
(8) رواه البخاري (فتح الباري) ط مصطفى الحلبي 1/ 216
(9) رواه أحمد وأبو داود (فتح الباري ط مصطفى الحلبي 1/ 218)
(1/22)
 
 
الحديثيون:
ونحن وإن كنا ننعى على القوم الذين تقدّم ذكرهم أسلوبهم في فهم الدين، لا يسعنا إلّا أن نوجّه اللوم -منصفين- إلى قوم انتسبوا إلى الحديث الشريف انتساباً جعلهم يعرضون عن كتاب الله، ولا يتدبّرونه حقّ التدبر لاستفادة الأحكام منه. بل كل اعتمادهم على السنة وحدها. ولو سألت أحد (علمائهم) عن حكم شرعي ودليله، لما عَرّج على كلام ربه، ولا التفت إليه، بل يسارع إلى الاستشهاد بالحديث والاستدلال به، ولو كان الحكم في القرآن بيّناً واضحاً لا لبس فيه.
ولست أعني أنهم يعتقدون وجوب تقديم السنة على الكتاب، ولكن الذي أعنيه تصرفهم العمليّ في دراساتهم وتآليفهم وفتاواهم ونحو ذلك. وكان الواجب علهيم إنزال السنّة منزلتها الحقيقية، منزلة الخادم لكتاب الله، التابع له، الواقف حياله، يترجم عنه، ويوضّح ما غمض من معانيه.
وليس هناك -في ما نعلم- طائفة من المسلمين يعتقدون تنحية القرآن عن الاحتجاج به في الدين، ولا طائفة معينة يعتقدون تقديم السنة على القرآن، وإن نقل القول بذلك عن قوم لم يعينوا (1). بل المسلمون ما بين معتقد لمساواة القرآن للسنة في الاحتجاج، وبين معتقد لتقديمه عليها، وهو الراجح، كما في الحديث المشهور من إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ إذ قال: "أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنّة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي ولا آلو" (2). وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال في كتابه إلى شريح قاضيه على الكوفة: "إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (3). وفي رواية: "إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره".
__________
(1) نقله الشاطبي في الموافقات 4/ 8 - 10 ونقله الجويني (إرشاد الفحول ص 273).
(2) بمعنى ما في سنن أبي داود (9/ 509) وفي عون المعبود: أخرجه الترمذي وقال "ليس إسناده بمتصل" ولكن قال الخطيب: "لما احتجوا به جميعاً أغنى عن طلب الإسناد له".
(3) هذا الأثر بروايتيه ذكره الشاطبي في الموافقات (4/ 8) وقد انفرد به النسائي 4/ 231
(1/23)
 
 
هذا وقد ورد عن بعض أهل العلم أنه قال: "السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السنة" (1). ومعناه أن السنة تبين مجمل القرآن، وتخصص عامه، وتقيّد مطلقه. ولكن هذا القائل عبّر تعبيراً غير موفق، أوجد نوعاً من التصور الفاسد لتقديم السنة على القرآن، وفتح لأعداء الإسلام مطعناً، إذ ادّعوا أن تقييم المسلمين للسنة تطوّر صُعُداً، حتى قدموها على القرآن. وقد ذكر أن الإمام أحمد سمع مثل هذا القول، فكان تعليقه على ذلك أن قال: "لا أجسر أن أقوله، ولكن أقول: السنة تفسر القرآن وتبيّنه" (2).
 
أدلة حجية السنة النبوية:
1 - من القرآن:
قوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول} (3). وقوله: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (4)، {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (5) وهو - صلى الله عليه وسلم - أمَرنا باتباع سنته، والأخذ بها، فيلزم طاعته في ذلك، ليتحقق امتثال هذه الآيات المذكورة وأمثالها.
وهو - صلى الله عليه وسلم - قد أمَرَنا أيضاً بأمور تفصيلية، ونهانا عن غيرها، فيلزمنا طاعته فيها عملاً بالآيات المذكورة أعلاه، وذلك هو الأخذ بالسنة.
وورد في كتاب الله تعالى أمره لنا باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتعليق فلاحنا على ذلك، وجعله مقتضى محبتنا الله، ومقتضياً لمحبة الله لنا.
فقد قال تعالى: {الذين يتّبعون الرسول النبيّ الأمّي الذي يجدونه مكتوباً
__________
(1) ذكره الشاطبي في الموافقات (4/ 10) ونقل أيضاً في مادة (السنة) من دائرة المعارف
الإسلامية (12/ 284) غير منسوب إلى قائل معين، ولم نجده في مصدر مسند.
(2) نقله الشاطبي في الموافقات 4/ 26
(3) سورة آل عمران / 32.
(4) سورة آل عمران: آية 132
(5) سورة الأحزاب: آية 71
(1/24)
 
 
عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزِل معه أولئك هم المفلحون} (1).
وقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (2).
وإذا ثبتت مشروعية اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الاتباع هو سلوك السبيل الذي سلكه المتبوع. وسبيل محمد - صلى الله عليه وسلم - هي سنته، وهو المطلوب.
بل قد ورد في القرآن الكريم بيان أن تعليم السنة، بالإضافة إلى تعليم الكتاب، هو من مهمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيّهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (3).
قال قتادة: "الحكمة السنّة وبيان الشرائع" (4).
ولكن يحتمل أن يقال: إن المراد بالحكمة الفهم العميق، ومعرفة معالجة الأمور بما تستحقه، كما فسّرها آخرون. وعلى هذا الوجه لا تكون الآية حجة في هذه المسألة.
إلا أنه ورد في سورة الأحزاب قوله تعالى: {يا نساء النبيّ لستنّ كأحد من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ... } إلى قوله: { ... واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة} (5) وهو يبيّن أن الحكمة شيء خاص متميّز كان {يتلى} أو يصنع به ما هو شبيه بالتلاوة (6) من المذاكرة
__________
(1) سورة الأعراف: آية 175
(2) سورة آل عمران: آية 31
(3) سورة الجمعة: آية 2
(4) تفسير القرطبي 2/ 131 وهو عند البخاري (فتح الباري ط الحلبي 10/ 39)
(5) سورة الأحزاب: آية 34، 35
(6) على حد ما قال النحويون في قول الشاعر:
علفتها تبناً وماءاً بارداً ... حتى شَتَتْ همّالةً عيناها
(1/25)
 
 
والتحفظ والدراسة. وهذا يبيّن أن تفسير قتادة للحكمة هو الصواب، وتكون الآية دليلاً على حجية السنة كما تقدم (1). ومما يؤكد هذا المعنى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا (يتعلمون السنة كما يتعلمون القرآن) ففي صحيح مسلم: "جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة" (2).
 
2 - من السنة:
شهد المسلمون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله حقاً، بدلالة المعجزات التي أجراها الله على يديه، وهذا يقتضي الإيمان بعصمته من الكذب فيما يبلغنا إياه عن ربه عزّ وجل، وما جاء به من أمر الدين.
وقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسَّكتم بهما، كتاب الله وسنة نبيه" (3).
أخبر أن في التمسّك بالسنّة، كالكتاب، أماناً من الضلال. وهذا يقتضي أنها حق ودليل صحيح على الأحكام.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته، يُحَدَّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله".
__________
(1) قال الشافعي رضي الله عنه ( ... ما من الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الرسالة ص 32) وقال: "سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. قال (الشافعي): "وهذا يشبه ما قال والله أعلم، لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله منَّةً على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة. فلم يجز أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول اللُه" والآية الأخرى التي ذكرناها أشد وضوحاً في الدلالة على المراد. والحمد لله على توفيقه.
(2) صحيح مسلم: 13/ 46
(3) رواه مالك بلاغاً في الموطأ (عبد الباقي) 2/ 899
(1/26)
 
 
وفي رواية عند أحمد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه، ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ ينثني شبعاناً [كذا بالأصل] على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرّموه. ألا لا يحل لكم الحمار الأهليّ، ولا كلُّ ذي نابٍ من السباع، ألا ولا لُقَطة من مال مُعَاهَد، إلا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوهم، فإن لم يَقْروهم فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم" (1).
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه" أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن. وكمثال على ذلك نذكر أن الله آتى نبيه، تحريم الخبائث، فُصِّل بعضها في القرآن، كالميتة والدم ولحم الخنزير وبعضها بالسنة، كما ذكر في هذا الحديث، كلحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع.
وقال: "العلم ثلاثة. وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنّة قائمة، أو فريضة عادلة" (2).
لا يقال: أن هذا الاحتجاج للسنة بالسنة، فكيف يحتج بها قبل أن يثبت أنها حجة؟
لأن المراد أنه لما ثبت إخباره في هذه الأحاديث وأمثالها بكون سنته حقاً، ومثل القرآن في لزوم اتّباعها، فإما أن يكون خبره هذا كذباً، وهو مستحيل، لدلالة المعجزة على صدقه، ولما ثبت من عصمته عن الكذب في أمر الدين. فلا يبقى إلاّ أن قوله هذا حقّ. وهو المطلوب.
 
3 - دلالة الإجماع:
إن المتتبع لتصرفات الصحابة رضي الله عنهم في تعرّفهم لأحكام الدين لأجل العمل به، يجد أنهم إذا وجدوا السنة عملوا بها، وجعلوها حجة في الدين، ولم يستجيزوا مخالفتها وإغفالها واطّراحها.
__________
(1) المسند 4/ 131
(2) رواه أبو داود (عون المعبود 8/ 92) وابن ماجه.
(1/27)
 
 
نجد ذلك في تصرفات أبي بكر مثلاً:
فعنه أنه قال: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} (1) وإنا سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه".
وطلبت فاطمة والعباس من أبي بكر رضي الله عنهم ميراثهما من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنعهما أن يعطيهما شيئاً، وقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نورث. ما تركنا صدقة" (2).
وأمر أبو بكر عُمّاله على الصدقة أن يعملوا بما سنّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا نص مطلع كتابه: عن أنس بن مالك أن أبا بكر كتب لهم: "إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوق ذلك فلا يعط" (3) ثم بين المقادير.
وعمر رضي الله عنه لما جادل أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، قال: "كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها. وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال" (4).
وكان عمر يَقْصُر في السفر الآمن، ويقول: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (5).
__________
(1) سورة المائدة: آية 105
(2) مسند أحمد تحقيق أحمد شاكر 1/ 158 وقال: إسناده صحيح.
(3) رواه أحمد (1/ 183) وأبو داود والنسائي والدارقطني، ورواه البخاري مفرقاً في مواضع من صحيحه (أحمد محمد شاكر في تحقيق المسند).
(4) الحديث إسناده صحيح. رواه أحمد في المسند. تحقيق أحمد شاكر 1/ 207
(5) رواه مسلم 5/ 196 وأبو داود والترمذي.
(1/28)
 
 
وعثمان رضي الله عنه قال: في مملوكة ولدت من زنا: "أقضي بينكما بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الولد للفراش، وللعاهر الحجر" (1).
وذكّر الناس في يوم الفطر والنحر، وقال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذين اليومين" (2).
وكان يعلّم الناس الوضوء بفعله، ويقول: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا" (3).
وعليّ رضي الله عنه جلد الشارب أربعين، واحتجّ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورجم الزانية محتجّاً بأن ذلك سنة رسول الله".
في وقائع كثيرة، لا تنحصر كثرة، ثبتت عن الأربعة الراشدين، وغيرهم من الصحابة الأكرمين، مما لا يدع مجالاً للشك أنه كان متقرراً لديهم أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة لله على عباده، وأن العمل بها عمل بدين الله وشرعه. فانعقد على ذلك إجماعهم، ولم يخالف فيه أحد منهم. واستمرّت الأمة الإسلامية على ذلك، "ولم يخالف فيه إلاّ من لا حظّ له في الإسلام"، كما قال الشوكاني.
 
أنواع الحديث النبوي من جهة دلالته على الأحكام:
ذكر وليّ الله الدهلوي أن مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودُوِّن في كتب الحديث، على قسمين، قال: "الأول: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة" (4)، وفيه قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (5).
ومن هذا القسم علوم المعاد وعجائب الملكوت. وهذا كلّه مستند إلى الوحي.
__________
(1) رواه أحمد 1/ 338، وإسناده حسن (أحمد شاكر).
(2) رواه أحمد 1/ 427 وإسناده صحيح (أحمد شاكر).
(3) رواه مسلم 3/ 108
(4) حجة الله البالغة 1/ 272، 273
(5) سورة الحشر: آية 7
(1/29)
 
 
ومنه شرائع وضبط للعبادات والاتفاقات وهذه بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد واجتهاده - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الوحي، لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرّر رأيه على الخطأ.
ومنه حكم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقّتها ولم يبيّن حدودها ...
والثاني: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
فمنه الطبّ، ومنه باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالأدهم الأقرح" (1) ومستنده التجربة.
ومنه ما فعله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل العادة، وبحسب الاتفاق دون القصد ...
ومنه ما ذكره كما كان يذكره قومه كحديث أم زرع.
ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش، وتعيين الشعار ...
ومنه حكم وقضاء خاص. وإنما كان يتّبع فيه البينات والأيمان". اهـ.
وهو تقسيم جيد وتحديد واضح. وسوف نفصل القول في مثل ذلك في ما يتعلق بالأفعال النبوية في ما نستقبله من هذا البحث إن شاء الله.
 
منزلة السنة من القرآن:
يتبيّن مما تقدم أن في منزلة السنة في القرآن ثلاثة أقوال:
الأول: أن القرآن مقدّم في الرتبة على السنة، فلا يُنْسخ القرآن بالسنة. وقد
__________
(1) أي من الخيل، والأدهم الأسود، والأقرح الذي في جبهته بياض دون الغرة. والحديث رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن ماجه عن أبي قتادة مرفوعاً بلفظ "خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم المحجل ثلاث. فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصِّفَة. وهو صحيح (صحيح الجامع الصغير).
(1/30)
 
 
نسب ابن السمعاني (1) هذا القول إلى الشافعي في عامة كتبه، وإلى أبي حامد الإسفراييني، وابن سُريج. ومعنى ذلك أن السنة لا يمكن أن تأتي بما يعارض القرآن على وجه لا يمكن الجمع بينهما. فإن روي من ذلك شيء، فلا بدّ أن السنة منسوخة، أو في الاستدلال بها دخَل، أو تكون الآية منسوخة بآية أخرى. وإلّا فإنّ الرواية لا تكون ثابتة.
الثاني: أنهما متساويان. وعند التعارض يقدَّم المتأخر وروداً منهما. فإن لم يعلم يتوقّف في المسألة.
وأصحاب القول الثاني يجيزون نسخ القرآن بالسنة. وقد نسب ابن السمعاني (2) هذا القول إلى الحنفية وعامة المتكلمين. وقال: قيل إنه اختيار ابن سريج.
الثالث: إن السنة مقدمة على الكتاب. فيطرح الكتاب عند التعارض. وهو قول مردود، لا ينسب إلى قائل معين.
ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذكر أدلّة أصحاب القولين الأولين ومناقشاتها، بعد أن نعلم أنه لم يرد شيء من الأحاديث الصحيحة يتعين أنه ناسخ للكتاب، حتى نقل الغزالي عن بعضهم "إن ذلك لم يقع أصلاً" (3).
وكل ما قيل فيه من الأحاديث إنه ناسخ للقرآن خمسة ليس غيرها فيما نعلم:
1 - حديث: "لا وصية لوارث" (4). قيل إنه ناسخ لآية: {الوصية للوالدين والأقربين} (5).
__________
(1) القواطع ق 148 أ. على أن ابن السمعاني ذكر الاتفاق على أن السنة الآحادية لا تنسخ القرآن. فعلى هذا: المقصود بالسنة التي يصح أن تكون ناسخة للقرآن عندهم المتواترة دون الآحادية.
(2) القواطع ق 148 أ.
(3) المستصفى 1/ 80
(4) صحيح (تفسير القرطبي 2/ 263).
(5) سورة البقرة: آية 180
(1/31)
 
 
والصحيح أن النسخ إنما هو بآيات المواريث، ولكن لمّا احتمل أن آية المواريث تَضُمُّ للوالد والقريب حظّاً آخر، أو تبدل حظّاً من حظ، جاء الحديث مبيّناً أن المراد الاحتمال الثاني. فلولا هذا الحديث لأمكن الجمع للوارث بين الميراث والوصية. فكان الحديث مبيناً لا ناسخاً (1).
2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: الثّيب بالثّيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (2). قال بعضهم: هو ناسخ لآية إمساك الزواني في البيوت حتى يتوفاهن الموت.
والصواب أن الحديث مبيّن للسبيل المذكور في الآية.
3 - حديث قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الطائف في ذي القعدة الحرام. قال بعض الفقهاء إن ذلك ناسخ لقوله تعالى (3): {يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتال فيه كبير} ونحوها من الآيات الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم.
والصواب أن تحريم القتال فيها غير منسوخ، بل هو باقٍ مؤبّد مؤكّد. وما كان من قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لثقيف إنما كان من باب ردّ العدوان المذكور مع تحريم الأشهر الحرم في آية واحدة، هي قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (4)، وقد كانت ثقيف وسائر هوازن تجمعت بعد فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة، وسارت إليه، فقابلهم بحنين وهزمهم، فلجأ فلّهم إلى الطائف. فكان من تمام المعركة -بحسب المنطق العسكري الذي يدل عليه قول تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} - ملاحقة المنهزمين قبل أن يتمكنوا من إعادة الكرة، وفي الحديث عن جابر ما يدل على ذلك، حيث قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغزو في الشهر الحرام إلاّ أن يُغْزَى، أو يغزو، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ" (5).
__________
(1) أشار السمعاني (ق 152أ) إلى أن الحديث مبين للآية، ولم يوضح معنى البيان كما وضحناه.
(2) رواه مسلم وأحمد من حديث عبادة بن الصامت (الفتح الكبير).
(3) سورة البقرة: آية 217.
(4) سورة البقرة: آية 194.
(5) رواه أحمد 3/ 334، 345
(1/32)
 
 
4 - ذكروا (1) أن آياتٍ نسخت بأحاديث، الصحيح فيها أنها مخصصة وليست ناسخة، منها: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} (2) نسخت في حق ابن خَطَل حينما قال - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوه" (3). وقد كان متعلقاً بأستار الكعبة. والصواب أن هذا تخصيص وليس نسخاً.
5 - ومنها آية: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّماً على طاعمٍ يطعمه إلّا أن يكون ميتة ... } (4) الآية ذكروا نسخها بحديث النهي عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
وواضح أن هذا تخصيص أيضاً وليس بنسخ.
وممن نبّه إلى قلة جدوى الخوض في هذه المسألة الشاطبي، حيث قال: "البحث في هذه المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه" (5). وصرّح ابن تيمية بأنه يذهب إلى امتناع نسخ القرآن بالسنة وأن ذلك مقتضى حرمة القرآن (6). وقال الشوكاني: "وبه جزم الصيرفي والخفاف، بل نقل بعضهم إجماع الشافعية عليه" (7).
هذا بالنظر إلى ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما يقطع بذلك من يسمعها منه مباشرة، أو تنقل إليه نقلاً قطعياً. فإن نقلت نقلاً آحادياً انضم إلى المسألة عنصر جديد يؤيد عدم الأخذ بها فيما عارض القرآن، إذ إن احتمالات كذب الرواة ووهمِهم تدخل في البين، لتخفف من وزن الحديث في ميزان الترجيح. ويوافق في هذا المقام على مرجوحية السنة، كثير ممن عارض ذلك في المقام الأول. فقال الشوكاني: هذا رأي الجمهور. وذكر أن ابن السمعاني وسليماً الرازي نقلا الإجماع عليه (8).
__________
(1) ابن السمعاني (ق 149 أ).
(2) سورة البقرة: آية 192
(3) صحيح مسلم 9/ 131
(4) سورة الأنعام: آية 145
(5) الموافقات: 4/ 11
(6) الفتاوى الكبرى. ط الرياض 20/ 397 - 399
(7) إرشاد الفحول: 1/ 190
(8) إرشاد الفحول: 1/ 190.
(1/33)
 
 
مجالات خدمة السنة الشريفة للقرآن العظيم:
يمكن حصر المجالات التي تخدم فيها السنة القرآن العظيم فيما يلي:
1 - تقرير مضمون الكتاب وتثبيت حقائقه بما يقطع احتمال المجاز، وذلك بأن تأمر بعين ما أمر به، وتنهى عن عين ما نهى عنه، وتخبر بعين ما أخبر به.
مثاله أن الله تعالى أمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإتمام الصوم، والحج، ونحوها من الفرائض، أعني الأمر بأصل الفعل. فجاءت السنة آمرة بذلك أيضاً. وفَعَلها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك جاء الكتاب ناهياً عن نكاح الربيبة، والجمع بين الأختين، فامتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وأكّد أنه حرام (1). وقد يسمى هذا النوع بيان التقرير. وهو لا يزيد عن أن يكون توكيداً لما في الكتاب.
2 - تفسير ما في القرآن من مجمل. وذلك أن يَرِد القرآن بنص لا يُدرى المراد به أصلاً، ولا يتمكن المجتهد من استنباط التفاصيل، إذ إنها تُعلم من قبل القائل الأول. ومثاله أنه تعالى أمر بالصلاة، ولم يبين أوقاتها، ولا أعدادها، ولا عدد ركعاتها، ولا هيئاتها؛ فلا اللغة تبين ذلك من لفظ (الصلاة)، ولا أحيل في بيانها على شيء آخر. فلم يبق إلا أن يُبين ذلك من قبل الله تعالى. فكان ذلك بالسنّة. ويسمى هذا النوع بيان التفسير.
3 - وقريب من هذا النوع بيان التخصيص للعام، وبيان التقييد للمطلق، وبيان إرادة خلاف الظاهر.
فالأول مثل أن الله أمر بقطع السارق، وهذا يعمّ سارق القليل والكثير، وجاء في الحديث إخراج صور معينة، لا قطع فيها، كمن سرق دون النصاب، أو سرق الثمر المعلّق وأكله في مكانه. فهذا بيان أنّ المراد بقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (2) ما عدا ما أُخرِج بالسنة.
__________
(1) انظر صحيح مسلم 9/ 15 ورواه البخاري وأبو داود وأحمد.
(2) سورة المائدة: آية 38
(1/34)
 
 
ومن هذا النوع سائر ما بُيِّن من الشرائط لتنفيذ الأوامر الشرعية في العبادات
والحدود وغيرها.
والثاني، وهو تقييد المطلق، مثل قوله تعالى في كفارة اليمين: {أو تحرير رقبة} (1) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد عتق جارية بكماء، كفارةً عن ضربه لها: "أعتقها فإنها مؤمنة" (2) فقاسَ بعض الفقهاء على ذلك كفارة اليمين وأوجب فيها أن تكون مؤمنة.
وأما بيان إرادة خلاف الظاهر، فمثاله ما ورد أنه لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} (3) أهمَّ ذلك الصحابة، وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه؟ فبيّن لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه تعالى يريد بالظلم الشرك خاصة.
4 - تبديل ما في القرآن بأحكام أخرى. وهو النسخ. فهذا يثبتُه بعض الأصوليين، وينفيه آخرون. ونفيه هو الذي رجحّناه، كما تقدم.
5 - هذا وقد تضيف السنة إلى الشريعة أحكاماً مستقلة ليست في القرآن. وهذا النوع قسمان (4):
أ- قسم يمكن إرجاعه إلى القرآن بنوع من القياس، أو من العمل بالمقاصد العامة التي أرشد إليها القرآن. فمثال القياس أن الله تعالى قال: {حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ... وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (5) فذكر سبع محرمات بالنسب واثنتين بالرضاعة. فجاءت السنة تحرم سائر السبع من الرضاع، بحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (6).
ومثال العمل بالمقاصد العامة: إباحة المسح على الخفين والعمامة والجبيرة، رخصة لدفع الحرج أو الضرر المشهود لهما في القرآن.
__________
(1) سورة المائدة: آية 89
(2) رواه مسلم 5/ 24 وأبو داود 9/ 106
(3) سورة الأنعام: آية 82
(4) الموافقات 4/ 12 وما بعدها.
(5) سورة النساء: آية 23. والمقصود بالقياس في هذا المثال الإلحاق بنفي الفارق.
(6) متفق عليه (الفتح الكبير).
(1/35)
 
 
ب- وقسم يمكن إرجاعه إلى القرآن على معنى أنّ القرآن أرشد إلى العمل بالسنة. ومثاله ما ورد عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" (1). فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت؟ فقال: "وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في كتاب الله ... ". قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (2) ولو أنه رضي الله عنه أجابها إذ أنكرت كون ذلك في القرآن، بأنه بيان لقوله تعالى عن الشيطان: {ولآمرنهم فليغيّرنّ خلق الله} (3) لكان جواباً، ولكنه قطع عليها خط الرجعة، بما يدل على حجية السنة ولو كانت مستقلة عن القرآن في الدلالة على الأحكام.
ومن ذلك أن السنة نهت عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير (4)، وليس ذلك في القرآن.
وحرمت على المحرم لبس الثياب المفصّلة المخيطة، وليس ذلك في القرآن.
وقد ذكر الشاطبي أن بعضهم رام أن يرجع ما في الأحاديث إلى النصوص القرآنية بالتفصيل بحيث يجد في القرآن دلالة تفصيلية، نصّاً أو إشارة، إلى ما دلّت عليه الأحاديث النبوية. قال: "ولكنه لا يفي بما ادّعاه، إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب، ولا يوافق على مثلها السلف الصالح، ولا العلماء الراسخون في العلم" وذكر أن: "هذا الرجل المشار إليه نصب نفسه لاستخراج معاني الأحاديث التي أخرجها مسلم في صحيحه، دون سواه" (5).
وليت الشاطبي أشار إلى اسم هذا المؤلف، ليمكن العثور على ما صنعه، إذ أنه مبحث جدير بالاهتمام.
وسنعود إلى هذه المسألة بشيء من التفصيل في الفصل الثاني من الباب الأول إن شاء الله.
__________
(1) حديث ابن مسعود، مع قصة الحديث، رواه مسلم 13/ 106 ورواه أحمد والبخاري وأبو داود.
(2) سورة الحشر: آية 7
(3) سورة النساء: آية 119
(4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود (الفتح الكبير).
(5) الموافقات 4/ 52
(1/36)
 
 
المبحث الثالث تحديد المهمات النبويّة وبيان دور الأفعال النبوية في أدائها على الوجه الأكمل
تعرّضت آيات الكتاب العزيز، بالتفصيل، للغرض من البعثة النبوية الشريفة. فذكرت أن الله أرسل رسوله {رحمة للعالمين} (1) و {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (2) و {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين} (3) و {ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} (4) و {ليقوم الناس بالقسط} (5).
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف السامية، أنزل الله تعالى كتابه العظيم، على رسوله الكريم.
تدبيران كل منهما بالغ الحكمة: أن جعل الله بين أيدي البشر كتاباً مشتملاً على ما يريد لهم أن يعلموه، وما يريد لهم أن يعملوا به.
وأن حَمَّل هذا الكتاب بشراً اختاره لكي يؤديه عن الله إلى عباد الله. وهما تدبيران متكاملان، يكوّنان تدبيراً واحداً، هدفه أن يعلم العباد ما يريد الله منهم، فتكون له عليهم الحجّة، فيؤمن به من شاء الله له أن يؤمن، فتتحقق له رحمه الله، ويحق القول على الكافرين، ولتنفذ شريعة الله في الأرض
__________
(1) سورة الأنبياء: آية 107
(2) سورة النساء: آية 165
(3) سورة يس: آية 70
(4) سورة الطلاق: آية 11
(5) سورة الحديد: آية 25
(1/37)
 
 
فيقوم الناس بالقسط، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور. وبذلك تتحقق الأهداف المطلوبة من البعثة النبوية.
وفي سبيل ذلك حمّلت الكلمات الإلهية محمداً - صلى الله عليه وسلم - مهمات جسيمة. وقد استقرأنا الآيات التي تعرضت لذلك، فتبين أن المهمات الرئيسية التي ذكرتها خمس هي كما يلي:
المهمة الأولى: التبليغ، والمراد به تبليغ القرآن، وتبليغ أحكام أخرى زائدة على ما يتضمنه القرآن العظيم. قال اللُه تعالى: {إن عليك إلاّ البلاغ} (1)، {ما على الرسول إلاّ البلاغ} (2).
ومن البلاغ تلاوة القرآن، ليُسمع فيُعلم، وليُعرف كيف يُقرأ. قال الله تعالى: {قد أنزل الله إليكم ذكراً * رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات} (3).
المهمة الثانية: بيان القرآن، أي تفسير ما غمض من معانيه، وإيضاح ما أشكل منه، ورفع ما فيه من إجمال، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامّه، لكيما يفهم وينفذ على الوجه الذي أراده الله. قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكّرون} (4).
المهمة الثالثة: الدعوة إلى الله، بأن يطلب من الكفار الإيمان، وأن يدعو العصاة والمذنبين إلى الإقلاع عما يبعدهم عن رحمة الله. فكان - صلى الله عليه وسلم - مكلفاً بأن يكون داعياً إلى الخلاص من الكفر والفسوق والعصيان في الدنيا، والخلاص كنتيجة لذلك من آثارها المدمرة في الآخرة. كما أنه كُلِّف أن يدعو إلى الأعمال الصالحة من العبادة وفعل الخير، ليكون ذلك موصلاً فاعله إلى جنة الله.
وفي سبيل ذلك كلف، - صلى الله عليه وسلم -، بمهمات أخرى معاونة لهذه المهمة، وهي مهمات: التذكير، والتبشير، والإنذار.
__________
(1) سورة الشورى: آية 48
(2) سورة النور: آية 54 وسورة العنكبوت: آية 18
(3) سورة الطلاق: آية 10، 11
(4) سورة النحل: آية 44
(1/38)
 
 
قال الله تعالى: {فذكّر إنِما أنت مذكّر * لست عليهم بمسيطر} (1) وقال: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (2).
وأُمر - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد، تحقيقاً للدعوة، لإزالة كل ما يقف في طريقها من ظلم المتعسفين، الذين يحولون بقوتهم وسيطرتهم، بين الناس وبين أن يسمعوا كلام ربهم ويستجيبوا له.
المهمة الرابعة: تعليم الأمة القرآن، والسنن. فيعلّمهم تلاوة القرآن وحفظه، ويعوّدهم على تدبّره وتفهّمه واستنباط الأحكام منه، حتى يصبحوا به علماء من جميع الوجوه. وكذلك الشأن في السنن التي أراد لها أن تظهر وتصدر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما بعثت معلماً" (3)، وقال: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم" (4)، وقال: "لكن الله بعثني معلماً ميسراً" (5).
المهمة الخامسة: التزكية، وهي التربية، أي تنمية الغرائز والمَلَكَات والقدرات الصالحة في المؤمنين به، وتطهيرهم من خبائث الاعتقادات والأخلاق والعادات والأعمال والأقوال، حتى تكون الأمة أمّة قوية نافذة في أمورها، متحررة من جميع الانحرافات التي تزيغ بها عن الطريق، وبذلك يصبحون أهلاً للخلافة في الأرض، فيقوموا بحق الخلافة بقوة وصدق، ليستحقوا أن يكونوا هم الوارثين {الذين يرثون الفردوس} (6).
هذا وإن المهمة الرابعة والمهمة الخامسة، تكادان أن تكونا مهمة واحدة، لشدة الترابط، ولأن أولاهما تؤدي إلى أخراهما، فمن تَعلّم الكتاب والسنة حقاً استقامت حاله في جميع النواحي التي ذكرناها.
وقد ذكر الله هاتين المهمتين، مع مهمة التبليغ، مجتمعة جميعاً، في أربعة
__________
(1) سورة الغاشية: آية 21
(2) سورة الأحزاب: آية 46، 47
(3) رواه ابن ماجه 1/ 17وفي الزوائد: إسناده ضعيف.
(4) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان (الفتح الكبير).
(5) رواه أحمد 3/ 328
(6) سورة المؤمنون: آية 11
(1/39)
 
 
مواضع من كتابه الكريم. منها في سورة الجمعة {هو الذي بعث في الأمّيّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (1).
ومن الملاحظ أن التبليغ والبيان والدعوة، تتمّ وتتأدَّى بالمرة الواحدة مع المبلّغ والمبين له والمدعوّ.
وأما التعليم والتزكية فأمرهما أشد من ذلك، إذ "إن التعلّم لا يقتصر على اكتساب الحقائق والمعارف والمعلومات، وإنما هو أوسع من ذلك. إذ يشمل اكتساب المهارات الحركية، والعادات السلوكية، والاتجاهات الاجتماعية، والقيم الخلقية، والدوافع الثانوية" (2).
وهذا يستدعي من المعلّم الملاحقة والمواصلة لعملية التعليم يوماً بعد يوم بل وربما ساعة بعد ساعة. وأن ينتهز الفرص لإلقاء المعلومات، وتفسيرها. وتكرارها، والمناقشة فيها، وتصحيح أخطاء المتعلمين عند استذكارها وتطبيقها، والثناء عليهم إذا أحسنوا استيعابها والعمل بها، وأن لا يُخْليهم من ذلك كله إلاّ بعد أن يطمئن إلى أنّ ما حصّلوه رسخ لديهم على وجه مستقيم، وأصبحت لهم ملكة فيه قوية.
وهكذا كان شأنه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه رضي الله عنهم.
 
دور الأفعال:
هذا وإن الأقوال كانت هي الوسيلة الرئيسية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء هذه المهمات.
ولكن مع ذلك كانت الأفعال النبوية تؤدي دوراً بارزاً في تنفيذ المهمات المطلوبة منه، وخصوصاً مهمة البيان، ومهمة التعليم والتزكية.
__________
(1) سورة الجمعة/ 2، وانظر المواضع الأخرى: في سورة البقرة في موضعين: الآيتان 129، 151، وفي سورة آل عمران/ 164.
(2) أبو الفتوح رضوان: المدرس في المدرسة والمجتمع ص 106، 107.
(1/40)
 
 
طرائق التعليم:
كشفت الدراسات التربوية عن أن تأثر شخص ما بشخص آخر، في تحصيل أنواع من المعرفة والتعلم، واكتساب الاتجاهات والقيم والعادات، يمكن أن يتمّ بثلاث طرق: الاستماع للأقوال، والمشاهدة للأفعال والاقتداء بها، والممارسة من جانب المتعلم مع التصحيح من جانب المعلم.
وإن دراسة طبيعة هذه الطرق وخصائصها، يكشف لنا عن مدى حاجة البشر إلى رسول منهم، يؤدي المهمات المذكورة إليهم. وتتبين بها حكمة الله في ذلك، وعظيم منته التي ذكرها في سورة آل عمران في قوله: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
 
أولاً: طريقة الاستماع للقول:
إن القول أساسي في عملية التعليم. وبه تنتقل الأفكار والمعلومات من ذهن المعلم إلى ذهن المتعلم، عن طريق حاسة السمع، ويمكن بهذه الواسطة نقل معلومات وافرة في برهة قصيرة.
وتمتاز هذه الطريقة، بإمكان التحديد الدقيق للمعلومات، وربط الأسباب بالمسببات، وذكر الصيغ بدرجة العموم والخصوص المطلوبة، وذلك بما توفره أداة اللغة من إمكانيات لا تكاد تقف عند حد، يستطاع بواسطتها أداء الفكرة على درجة عالية من الكمال، بحسب تمكن المعلّم من الفصاحة والبلاغة، ووفرة محصوله من الألفاظ والتراكيب.
وتسمى هذه الطريقة في عالم التدريس بطريقة الإلقاء والمحاضرة.
ومن أجل الميزات المذكورة لهذه الطريقة، جعل الله أصل الشريعة الأصيل قولاً يتلى ويسمع، وسمّاه {قرآناً مبيناً}، وجعله مشتملاً على المسائل الرئيسية في الشريعة، وأمر بتلاوته وتدبّره وتفهّمه، ووعد على ذلك الأجر الجزيل، وجعل لقراءته واستماعه مناسبات دينية تتكرّر بتكرر الساعات والأيام والشهور،
(1/41)
 
 
كالصلوات الخمس، والجمعات والأعياد، وكقيام الليل، وخاصة قيام شهر رمضان شهر القرآن.
وجعله عزّ وجل مكتوباً محفوظاً ليبقى دون تحريف ولا تغيير، ينتقل بين أيدي البشر جيلاً بعد جيل، ليستمعوا كلام الله غضّاً كما أُنْزِل، فتحصل منه المنافع المشار إليها لكل من وفّقه الله لرفقة القرآن.
كما أن القسم الأكبر من السنة النبوية هو سنن قولية.
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلّغ بلفظه ما يوحى إليه من أحكام، ويبينّ بلفظه ما أشكل من معاني القرآن، ويجيب على الأسئلة والاستفسارات الموجّهة إليه من صحابته الكرام، ويدعو إلى الله تعالى الأفراد والجماعات، في لقاءات خاصة، أو اجتماعات عامة لأمور واقعة، أو لمناسبات تتكرر، كما في مجالس حديثه مع المؤمنين، في المسجد، والسوق، والمنزل، والسفر والإقامة، وكما في خطبه في الجمعات والأعياد والحج وغير ذلك. واتخذ المنبر ليسمع قوله أكبر عدد من الحاضرين، بأكبر قدر من الوضوح. واتخذ له أصحابه دكّةً من طين في المسجد يجلس عليها إذا أراد أن يكلّمهم ويعلّمهم.
وواضح أن طريقة الإلقاء والقول كانت هي الوسيلة الكبرى لأداء المهمّات النبوية الخمس التي أشرنا إليها.
 
الطريقة الثانية للتعلّم: مشاهدة الفعل لأجل الاقتداء به:
الراغب في تعلم مهنة ما، يدرس أولاً أسسها نظريّاً، ويتفهم قواعدها وأصولها من الأقوال المسموعة أو المدونة في دواوين تلك المهنة. فإذا انتهى من ذلك وخرج إلى الحياة العملية مزوَّداً بتلك المعلومات، وهو يظن أنه قد أتقن ما سمع وعلمه حق العلم، يجد أنه عند المباشرة لتطبيق المعلومات التي حصلها يخفى عليه شيء كثير من التفاصيل التي تجدّ عليه، والتي هي بحاجة إلى أن يستكشف أسرارها وطرق علاجها.
والمشاهدة لفعل نموذجيٍّ من معلم نموذجي، من أعلى المستويات في تلك المهنة ذي خبرة بدقائقها وأسرارها، يطبق المعلومات النظرية، هذه المشاهدة هي
(1/42)
 
 
وسيلة حية، ومصدر مهمّ، يتعلم منه طالب العلم الشيء الكثير عن المادة التي يدرسها. وخاصة إذا كانت "مشاهدة قصدية، وموجهة توجيهاً صحيحاً، لنواحي مختلفة من عمل المدرس. وهي ضرورية مع الطلبة الصغار والكبار على السواء وينبغي ألا تتوقف طيلة مدة الدراسة. وهي طريقة ناجحة في تنمية اتجاهات محمودة نحو المهنة موضوع الدرس، وكذلك في تنمية مهارات كافية في تلك المهنة" (1).
هذا وقد أصبح استخدام وسائل الإيضاح المشاهدة جزءاً أساسياً من عملية التعليم في العصر الحاضر، وأولتها المؤسسات التعليمية الاهتمام البالغ. إذ إنها تعطي للمعلومات مزيداً من الحيوية، وتجعل الطالب متشوّقاً إلى المادة العلمية، ومتمتعاً متلذذاً بما يصحله منها، بالإضافة إلى معاونتها للطالب على تحليل المادة الدراسية، وفهمها فهماً جيداً. فإن من طبيعة هذه الوسائل أن توضح ما غمض في المادة. وتفسّر ما يصعب التعبير عنه بالقول.
كما أن هذه الوسائل من شأنها أن تجعل المعلومات المدروسة ذات قيمة تطبيقية عملية، يستطيع الطالب أن يستفيد منها في فعالياته المختلفة في حياته.
وكل ذلك يعود إلى الميزة البارزة في وسائل الإيضاح، وهي ربطها للمعلومات الجديدة التي يقدمها المعلم إلى الطالب بالمعلومات القديمة، وبذلك تعين الوسائل الإيضاحية على تثبيت ما يعرضه المدرّس من المادة في ذهن الطالب.
وبالإضافة إلى ذلك، تثير الوسائل الإيضاحية الملاحظة والتأمّل في الأشياء والحوادث والمواقف الجديدة، حتى تطلب النفس الجواب على ما يقع من المشكلات التي يشاهد الطالب وقوعها، وتتحدد أمامه مجسمة واضحة، فيقع الجواب عنها لديه موقعاً مستقراً.
وواضح أن المعلومات تصل إلى ذهن الطالب، في طريقة المشاهدة، عن طريق حاسة البصر.
__________
(1) محمد حسين آل ياسين: مبادئ في طرق التدريس. بيروت، المكتبة العصرية ص 284
(1/43)
 
 
ويؤكِّد علماء النفس أن الإدراك الحسي لشيء ما، يقوى ويتعاظم لدى الفرد كلما اشترك في إدراكه من الحواس عدد أكبر. فإذا وصف المدرس للطلبة نهراً معيناً تحصَّل لديهم فكرة ما عن هذا النهر. ولكن إذا رسم المدرس النهر، أو أخذهم إليه، تتوسع فكرتهم عن هذا النهر، وترسخ معلوماتهم عنه حتى لا تكاد تَمّحي من أذهانهم، فيسهل تذكرهم له واستعادة صورته.
فإذا سبحوا في مائه، وشربوا منه، وشعروا ببرده أو حرِّه، قويت معرفتهم وازدادت رسوخاً.
وبذلك تخرج المعلومات بالمشاهدة من عالم العقل إلى عالم الواقع، ومن القول إلى الفعل، ومن التصور المجرد إلى الحقيقة الواقعة (1).
 
الأفعال النبوية كوسيلة بيانية وتعليمية مشاهدة:
إن الله وهو العالم بطبائع البشر، الخبير بما يصلح لهم ويصلحهم، لم يشأ أن تكون معرفتهم بالدين عن طريق كتاب يلقى إليهم دون بيان رسول وينتهي الأمر، أو عن طريق رسول يبلّغهم الكتاب وينتهي الأمر، ولكن، لكي تتم حجّة الله على العالمين، جعل هذا الرسول نموذجاً بشرياً لذلك الكتاب، حتى كأنّ ذلك الرسول قرآن متحرك. أو كأنّ المنهج القرآني تحول "إلى حقيقة واقعة، تتحرك بين الناس. تحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره، مبادئ ذلك المنهج ومعانيه"، "ووضع الله في شخص ذلك الرسول الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي، الصورة الحية الخالدة على مدار التاريخ" (2).
وقد سأل سعد بن هشام عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "ألستَ تقرأ القرآن؟ " قال: "بلى"، قالت: "فإن خلق
__________
(1) محمد حسين آل ياسين: مبادئ في طرق التدريس، ص 252، 253، وأيضاً: أبو الفتوح رضوان وآخرون: المدرس في المدرسة والمجتمع ص 222 - 225
(2) محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ص 220
(1/44)
 
 
نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن"، قال: "فهمت أن أقوم ولا أسأل عن شيء حتى أموت" (1).
لقد تمثّلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - خصائص المنهج الرّبّاني في الحياة البشرية كما تمثّلت في حياته تفاصيل ذلك المنهج، فالذي شاهد حياته وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - فقد شاهد ذلك المنهج، ومن قبس منه، فقد قبس من النور الذي أرسله الله لهداية البشر. ومن هنا نعلم وجه وصفه بالسراج في الآية التي حددت مهماته - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال الله عز وجل: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (2).
إن مشاهدة الناس للمبادئ القرآنية متمثّلة في الواقع الأرضي البشري، يعطي لهم دفعات من الثقة والتصديق بذلك المنهج، لأنهم يرونه بعيونهم متحققاً، فيُسارعون إلى تطبيق تلك المبادئ، اقتداءً بمن رأوها متمثلة فيه. ولو أن القرآن نزل مجرداً عن رسول حامل له ممثِّل لما فيه، لتعوّقت كثير من النفوس عن امتثاله، توهّماً أن ذلك أمر صعب المنال، أو لا يمكن تحقيقه في واقع الحياة.
هذا وإن الذين شاهدوه - صلى الله عليه وسلم - بأعينهم، تأثّروا به، وتعلّموا منه على أتم ما يمكن من أحوال هذه الطريقة.
ولكن الذين لم يشاهدوه يتيسّر لهم الاطلاع على أفعاله وأحواله بما نقل إليهم عن طريق الذين شاهدوه، ويكون هذا الاطلاع وسيلة قريبة من المشاهدة، تؤدي إلى ثمارٍ قريب من ثمار المشاهدة. فهو قدوة متجددة حيثما ذكرت سيرته وأخباره وأحواله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تمثّلت فيه - صلى الله عليه وسلم - صور متنوعة، كل منها يوضّح للبشر كيف يكون الملتزم بالمنهج الرباني في ناحية معينة من نواحي الحياة.
فالعالم يرى في محمد - صلى الله عليه وسلم - الصورة السامية المثاليّة للعالم، والعابد يرى فيه
__________
(1) الحديث بأتم من هذا. رواه مسلم 6/ 26 وأحمد وأبو داود.
(2) سورة الأحزاب: آية 45
(1/45)
 
 
صورة المثل الأعلى للعابد، وهكذا الداعية، ورجل السياسة، ورجل الحرب، والأب، والزوج، والقريب، والصاحب والصديق، حتى العدوّ يستطيع أن يتعلم منه كيف ينبغي أن يعامل عدوّه.
و"كل هذه الصور كانت مجتمعة في محمد - صلى الله عليه وسلم - على توافق وانسجام" (1) وتعادل، لا يطغى بعضها على بعض كما قد تطغى بعض الصفات في الأبطال على سائر الصفات.
 
هل كان محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى:
يقول جولد تسيهر: "لو أن الإسلام قد تمسّك بشهادة التاريخ الحق تمسكاً دقيقاً لوجد أنه لا يستطيع أن يُمدَّ المؤمنين به بفكرة مثاليّة للحياة الأخلاقية، وهي فكرة اتخاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى واحتذائه. لكن المؤمنين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بصورة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما رسمها التاريخ الصادق، بل حلّ محلها من أول الأمر، الصورة المثاليّة للنبي في رأيهم".
ثم يقول: "إن علم الكلام في الإسلام، حقق هذا المطلب، بما رسم للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - من صورة تمثله بطلاً ونموذجاً لأعلى الفضائل، لا مجرد أداة للوحي الإلهي ونشره بين غير المؤمنين. على أنه يبدو أن هذا لم يرده محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه، فقد قال إن الله أرسله {شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} أي إنه مرشد، لا نموذج ومثل أعلى، أو -على الأقل- إنه ليس كذلك {أسوة حسنة} إلاّ بفضل رجائه وذكره الله كثيراً (سورة الأحزاب: آية 21) ولقد كان على ما يبدو مدركاً بإخلاص ضعفه الإنساني، ومن ثَمَّ كان عمله أكثر من شخصه". اهـ (2).
هذا المعنى الذي ألح عليه المستشرق اليهودي، أشار إليه الآخر: يوسف شاخت، في مادة (أصول الفقه) في (دائرة المعارف الإسلامية) حيث ذكر أن
__________
(1) محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ص 223
(2) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام - ترجمة محمد يوسف موسى وزميليه ط ثانية. القاهرة، دار الكتب الحديثة (د. ت) ص 35
(1/46)
 
 
أقواله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن موضع شك منذ البداية، أما الأفعال فإنما اتّخذ فيها مثلاً أعلى رَغمْاً عن أن شريعته لا تدل على ذلك.
ونحن سنثبت -إن شاء الله- حجية أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفصل الثالث من الباب الأول. ولن نرد على ما في كلامهما من الباطل الذي دعاهما إليه الكفر. ولكن يهمنا هنا إثبات أنه - صلى الله عليه وسلم - جُعِل الصورة المقتدى بها في الدين، وأن بملاحظة أفعاله يحصل تعلم الدين، وأنه كان المثل الأعلى للبشر في حدود البشرية من جهة الدين، وأن ما أشار إليه جولد تسيهر وزاغ عنه، وهو قوله تعالى في الأخلاق والعبادة والمعاملة: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} دليل في ذلك. وسياق الآية في الثبات في الحرب، لا في مجرد العبادة.
وحتى الآية التي كفر بها جولد تسيهر، فيها أن الله أرسل نبيه {سراجاً منيراً}، والسراج يضيء من داخله.
وقد جاء ثلاثة رهط إلى أبيات النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسألون عن عبادته لربه، فأخبروا بها، فكأنهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فالتزم بعضهم أن لا ينكح النساء، والآخر أن يصوم ولا يفطر، والثالث: أن يقوم فلا ينام. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم، فقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر، وأقوم، وأنام، وأتزوّج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني" (1). فلم ينبّههم إلى الحق بذكر آية، أو تبليغ وحي، وإنما نبّههم إلى فعل نفسه، وإلى ما يلتزم به، وأن من ناقَضَ مقتضى الاقتداء به في ذلك، فليس على شريعته.
وأمر آخر يدل على المطلوب دلالة واضحة، وهي أن الله تعالى قصّ علينا في كتابه قصص أنبيائه والصالحين من عباده. وإنما قصّهم ليكونوا عبراً ومُثُلاً تحتذى، كما في توبة آدم، ودعوة شعيب، والتزام إبراهيم، ووصية يعقوب لبنيه بالتوحيد، وعفة يوسف، واستغفار يونس، وطاعة إسماعيل، وقوة موسى، وعبادة مريم،
__________
(1) بمعنى رواية البخاري (فتح الباري. ط مصطفى الحلبي 11/ 4) ورواه مسلم 9/ 176
(1/47)
 
 
وعبودية عيسى، عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه. فكيف لا تكون أفعال أفضلهم وأكرمهم وأتقاهم لله، قدوة ومثالاً يحتذى، وهو خاتمهم الذي جعل للناس كافة رسولاً؟ وكان خاتماً للرسل، فهو نبي جميع العصور اللاحقة حتى تقوم الساعة.
ومعلوم أن أفعاله يقتدى بها من حيث هي دليل على أحكام الله، لا لذاتها من حيث إنها أفعاله، وكونه (مثلاً أعلى) إنما هو في شدة تمسّكه بما أمره به ربه، وشدة متابعته للمنهج الذي رسمه له. وقد وضّح - صلى الله عليه وسلم - هذا عندما قال لمن أبي الاقتداء به في حكم ديني، محتجاً بأن الله يحل لرسوله ما شاء: قال له: "لكني أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي" فأشار إلى أنه قدوة من حيث كونه أعلى الناس في تقوى الله، مع كونه أعلمهم بأحكام الله. وقال لبعض الصحابة: "أما لكم فيّ أسوة" (1) وكلام المستشرق الآنف الذكر يوهم أن المسلمين جعلوه - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى تحتذى أفعاله لذاتها، على اعتبار أنه إن فعل شيئاً أصبح شرعاً، ولو لم يقصد به التشريع. وهذا لم يذهب إليه أحد من المسلمين، إلا بعضهم في أفعال محدودة سنبيّنها في موضعها إن شاء الله. بل أكثر كلام الأصوليين في باب الأفعال دائر حول تمييز ما هو دليل على الحكم الشرعي مما ليس بدليل.
وقد حقّق الاقتداءُ به - صلى الله عليه وسلم - مستويات عالية في الإيمان والإخلاص والجهاد والعلم والعبادة والدعوة، تمثّلت في أشخاص الصحابة الكرام، وفي المجاهدين المخلصين لله في كل عصر وجيل من أجيال أهل الإسلام. ولا تزال هذه القدوة العظيمة تنبت أبطالاً في كل عصر، يكونون شجىً في حلوق أعداء الله. وكأنّ الله عز وجل يشير إلى هذا بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ... } إلى قوله: { ... ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (2).
__________
(1) رواه مسلم 5/ 186
(2) سورة الفتح: آخر السورة.
(1/48)
 
 
الطريقة الثالثة للتعليم:
الممارسة للفعل تحت نظر المعلّم ليصحح للمتعلّم إن كان في فعله خطأ، ويقرّه عليه إن كان صواباً. ويقابلها في السنة النبوية (الإنكار والتقرير).
"والممارسة والعمل منهل من مناهل التعلم. وقد نادى ولا يزال ينادي بهما مربو العصر الحاضر. والقول المأثور (التعلم بالعمل) يهيمن على فلسفة جميع المدارس الأمريكية، ويسيطر على تفكير جميع مدرسيها، حتى إن المتأخرين من المربّين والمشتغلين بالتعليم أخذوا يضعون الأهميّة العظمى على الناحية العملية. وما (المدارس التجريبيّة) إلا مؤسسات أعِدّت لتطبيق هذه الفكرة، إذ نجد الطلاب في مثل هذه المدارس في غرف مملوءة بالآلات البخارية أو الكهربائية، كأننا في معمل من المعامل، لا في مدرسة جاء إليها الطلاب ليتلقّوا فيها العلوم. ومن أجل هذا فالطلاب في مثل هذه المدارس، يتلذّذون بكل ما يعهد إليهم عمله، ويتعلمون أكثر مما يتعلمه الطلاب في المدارس التقليدية" (1).
المدرسة النبوية قد طبّقت هذه الطريقة بمستوى رفيع: لقد حثّ القرآن طوائف الأمّة على النفير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنفير معه، ليتعلّموا أثناء النفير، ويعملوا بأحكام دينهم تحت سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصره. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصحح لهم وينقد لهم أفعالهم إن كان فيها خطأ، ويقرّ ما هو صالح وصحيح من أفعالهم، ويثني على ما هو حسن، حتى يستقرّ في نفوسهم الميل إليه واستحسانه.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حيثما أقام أو سافر أو غزا، يلاحظ أفعال صحابته ولا يترك الخطأ (يمر)، بل ينبّه عليه، كما حدث في حديث المسيء في صلاته، وحديث أنهم كانوا يحلفون بآبائهم فنهاهم، وغير ذلك مما هو معروف في دواوين السنة. وكان يكل إلى أصحابه المهامّ الجسيمة في السرايا والبعوث والولايات والوفود في غيبته، بل يكل إليهم أحياناً الحكم والخطابة والمفاوضة في حضرته. فيتعلّمون بالعمل. وهو - صلى الله عليه وسلم - يقرّ لهم الصواب فيعلمون أنه صواب، وينكر عليهم الخطأ فيجتنبونه.
__________
(1) محمد حسين آل ياسين: مبادئ في طرق التدريس ص 282، 283
(1/49)
 
 
المبحث الرابع تقسيم السّنن النَّبَويَّة إلى قوليَّة وفعليَّة صريحة وغير صريحة
تنقسم السنن النبوية من حيث طبيعتها قسمين رئيسيين:
الأول: الأقوال.
والثاني: الأفعال.
والزركشي في البحر المحيط توسّع في ذكر أقسام السنن بالتفصيل، فجعلها ثمانية: الأول: القول، الثاني: الفعل، الثالث: التقرير، الرابع: ما همّ به، الخامس: الإشارة، السادس: الكتابة، السابع: الترك، الثامن: التنبيه على العلة، نقله عن أبي منصور، والحارث المحاسبي (1).
ونحن نرى أن الخمسة التي ذكرها بعد الفعل راجعة إلى قسم الأفعال، وإن كانت ذات صفات خاصة تميّزها عن سائر الأفعال.
وأما الثامن، وهو التنبيه على العلة، فهو إما راجع إلى القول، إن كان الدليل قوليّاً، أو إلى الفعل إن كان الدليل فعليّاً.
ومن أجل ذلك فإن تقسيم السنن إلى أقوال وأفعال هو تقسيم حاصر. ثم الأفعال تنقسم إلى أنواع.
وسوف نسير في رسالتنا هذه على هذه الطريقة. فنقسم السنن إلى قسمين: قولية، وفعلية.
__________
(1) البحر المحيط 2/ 260 أ.
(1/50)
 
 
تعريف الفعل:
الفعل هو حركة البدن أو النفس.
وعرّفه صاحب اللسان بأنه: "كناية عن كل عمل متعدّ أو غير متعدّ".
والفعل عند المنطقيين "تأثير من جرم مختار أو مطبوع في جرم آخر، فيحيله عن بعض كيفيّاته إلى كيفيّات أخرى، كفعل السكّين والحجر، والقاطع بهما، فإنهما يحيلان القطوع، كالتفاحة مثلاً، عن حال الاجتماع إلى حال الافتراق. وقد يكون الفعل مجرداً، كالقيام والتحرك والتفكر، وما أشبه ذلك" (1).
وقال الجرجاني في التعريفات: "الفعل هو الهيئة العارضة للمؤثّر في غيره بسبب التأثير، كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعاً ... ومنه الفعل العلاجي، وهو ما يحتاج حدوثه إلى تحريك عضو كالضرب والشتم" (2).
ثم ذكر ابن حزم أن الفعل ينقسم إلى ما يبقى أثره بعد انقضائه، كفعل الحرّاث والنجّار والزوّاق، وما لا يبقى أثره بعد انقضائه كفعل السابح والماشي والمتكلّم، وما أشبه ذلك (3).
هذا وليس كل ما يعبر عنه بالفعل الصرفيّ مراداً هنا، فنحو مات وعاش، واسودّ وابيضّ، وكان وصار، وحُرِمَ ورُحِمَ، هذه أفعال عند الصرفيين ولكنها ليست عند المناطقة والأصوليين أفعالاً، لأن من نسبت إليه لم يفعلها.
والقول هو فعل من بعض الوجود. وسيأتي بيان ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني إن شاء الله.
 
فعل غيره بأمره صلى الله عليه وسلم:
لو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد المسلمين أن يفعل شيئاً ففعله، فهل يكون ذلك فعلاً نبوياً حتى يستدلَّ به على طريقة الاستدلال بالأفعال، أم هو قول يفهم كغيره من الأوامر؟
__________
(1) بتصرف عن ابن حزم: التقريب لحد المنطق، بيروت، دار مكتبة الحياة، ص 60
(2) ص 75
(3) التقريب لحد المنطق.
(1/51)
 
 
يمثّل الأصوليون في باب الأفعال النبوية بأنه - صلى الله عليه وسلم - (رَجَم) ماعزاً، و (قطع) سارق رداء صفوان. ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يباشر ذلك، ولكن فعل بأمره.
وقد اعترض على التمثيل بذلك ابن الهمام في التحرير، ثم قال: "إلا أن يُجعل فعل المأمور كفعله - صلى الله عليه وسلم - لمّا كان بأمره، وفيه ما فيه" (1)
وأنا أقول: إن القول النبوي الذي بمعنى الإفتاء والإخبار بحكم الشرع هو (قول)، وما فعل بناء عليه يكون منسوباً إلى فاعله لا إلى الآمر به. وذلك كما نصلي ونصوم ونحج ولا ينسب فعلنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الأمر التنفيذيّ الصادر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بوصفه (إمام العامة) أو القائد أو الأمير، أو نحو ذلك، فإن ما يفعله المأمور تنفيذاً مطابقاً، فهو من جهةٍ فعل للمأمور، لأنه قام بالحركة، فتنسب إليه حقيقة. ويجوز نسبته إلى الآمر به، - صلى الله عليه وسلم -.
وأهل البيان يجعلون نسبة الفعل إلى الآمر به من المجاز العقليّ، لما كان الآمر هو السبب في وجود الفعل وليس هو الفاعل الحقيقي.
إلا أن مرادنا هنا توضيح أن مثل ذلك الفعل هل ينسب إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكون من باب الأفعال النبوية، ويستدل به كما يستدل بالأفعال، فيدل مثلاً إذا كان مجرداً على الاستحباب في ما هو من باب القرب، أو هو أمر فيستدل به على الوجوب؟ وهي مسألة مهمة تنبني عليها فروع كثيرة.
إن الشخص الذي وُجّه إليه الأمر التنفيذي يلزمه الطاعة، لأنه (مأمور) والأمر يقتضي الوجوب. ولكن غيره ممن لم يؤمر به، يقتدي بالفعل، ويعتبره كسائر أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، فيجري عليه قانون الاستدلال بالأفعال النبوية.
ووجه ذلك أن المأمور في هذه الحال لا يزيد عن كونه كالآلة للآمر، وخاصّة وأنه - صلى الله عليه وسلم - نبيّ ورسول، فتابعه المأمور ليس له الخيرة من أمره، ولا محيص له من التنفيذ، طاعة منه لأمر الله ورسوله، وثقةً بأن تقدير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحكم
__________
(1) التقرير والتحبير 2/ 302، 303
(1/52)
 
 
وللظروف والأسباب والطريقة والنتائج، تقدير هو الصواب بعينه، وليس لأحد من البشر أن يعقّب على حكمه.
وأهل اللغة عندما يسندون الأفعال إلى الآمر بها، المسؤول عن تقدير أسبابها وظروفها ونتائجها، إنما يصدرون في ذلك عن قناعة نفسية بأن الفعل يعتبر صادراً عن الأمر المسؤول كما يعتبر صادراً عن المأمور الذي لا يزيد عن كونه مجرد آلة (1)، بل أولى.
وكمثال لا تقدم نضرب ما ذكره ابن حزم في مسألة حكم إشعار الهدي. فقد روى ابن حزم (2) حديثاً من طريق النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ببدنته فأشعَر في سنامها من الشق الأيمن، ثم سَلت الدَّم عنها وقلدها نعلين.
ثم قال ابن حزم: "ليس في هذا الخبر أنه أمَر بالإشعار. ولو كان فيه، لقلنا بإيجابه مسارعين. وإنما فيه أنه (أمر ببدنته فأشعر في سنامها)، فمقتضاه أنه أمر بها، فأُدنِيَتْ إليه، فأشعر في سنامها، لأنه هو - صلى الله عليه وسلم - تولّى بيده إشعارها. بذلك صح الأثر". اهـ. أي فيدل على الاستحباب.
فليت شعري لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد أمر أجيره، أو خادمه أو أحد
__________
(1) ألمح إلى ذلك سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول (1/ 157) حيث يقول في نحو (أنبت الربيع البقل): ليس هنا مجاز وضعي أصلاً لا في المفرد ولا في المركب، بل عقلي، بأن أسند الفعل إلى غير ما يقتضي العقل إسناده إليه، تشبيهاً له بالفاعل الحقيقي.
قال: وليس المقصود بهذا التشبيه هو الذي يقال بالكاف وكأن ونحوهما، بل هي عبارة عن جهة راعوها في إعطاء الربيع -وهو الجدول- حكم القادر المختار، كما قالوا: شبه (ما) بـ (ليس) فرفع بها الاسم ونصب الخبر. اهـ. فجعله التشبيه هنا عبارة عن (جهة راعوها)، نظير لما ذكرنا من القناعة النفسية لدى أهل اللغة إذ ينسبون الفعل إلى الآمر الواجب الطاعة، ويسند الفعل في كل من الصورتين إلى غير فاعله على سبيل المجاز العقلي.
(2) المحلى 7/ 110، 112
(1/53)
 
 
الحاضرين، أن يتولّى عنه ما تولاه هو بنفسه، أكان ينتقل الحكم في حق الأمّة من الندب إلى الوجوب؟ إن الأوْلى أن يقال: إن الذي وجِهَ بالأمر يتعيّن عليه التنفيذ، ولكن ذلك الفعل ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كسائر أفعاله، ليجري على قانونها في حق الأمة.
وبهذا يتبيّن أن تمثيل الأصوليين للأفعال النبوية برجم ماعز، وقطع يد السارق، وقتال أهل مكة، وغير ذلك، هو تمثيل صحيح. واعتراض ابن الهمام الذي تقدم ذكره غير وارد. والله أعلم.
 
تقسيم الفعل إلى صريح وغير صريح:
من الأفعال ما هو صريح في الفعلية، فلا يختلف في كونه فعلاً.
وذلك كالضرب، والمشي، والحب. والمثال الأول وهو الضرب، هو للفعل المؤثّر لا غير فاعله، والثاني للمجرّد المشاهَد، والثالث للمجرّد النفسي.
ومن الأفعال ما ليس صريحاً في الفعلية، فيدور الوهم فيه بين أن يكون فعلاً أو لا يكون. ومن ذلك الكتابة، والإشارة، والترك الإيجابي الذي يعبّر عنه بالكفّ أو الإمس