الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب : الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)
 
وقالوا: قوله (ص): إنما الاعمال بالنيات دليل على أن لا عمل إلا بنية وأن: ما عمل بغير نية باطل.
قال أبو محمد: ليس ذلك كما ظنوا، ولكن لما قال الله تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * وقال تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * كان قد بطل كل أمر إلا تأدية ما أمرنا به من العبادة بإخلاص القصد بذلك إلى الله تعالى فبهذه الآية بطل أن يجزى عمل بغير نية إلا ما أوجبه نص أو
إجماع، فكان مستثنى من هذه الجملة، مثل ما ثبت بالاجماع المنقول إلى رسول الله (ص) من جواز لحاق دعاء الحي للميت بالميت، ومثل لحاق صيام الولي عن الميت بالميت وصدقته عنه، والحج عنه، وتأدية الديون إلى الله تعالى وللناس عنه، وإن لم يأمر هو بذلك ولا نواه، ولحاق الاجر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه، ولحاق الوزر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه.
وإنما وجب بالحديث الذي ذكروا أن من عمل شيئا بنية ما فله ما نوى، فإن نوى به الله تعالى وتأدية ما أمر به من كيفية ذلك العمل فله ذلك، وقد أدى ما لزمه، وإن نوى غير ذلك فله أيضا ما نوى، فإن لم ينو شيئا فلا ذكر له في هذا الحديث، لكن حكمه في سائر ما ذكرنا قبل.
والعجب ممن احتج بهذا الحديث من أصحاب القياس وهم أترك الناس له فأما الحنفيون فينبغي لهم التقنع عند ذكر هذا الحديث والاحتجاج به، فإنهم يجيزون تأدية صيام الفرض بلا نية أصلا بل بنية الفطر، وتأدية فرض الوضوء بغير نية الوضوء لكن بنية التبرد.
وقالوا كلهم وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك: إن كثيرا من فرائض الحج التي يبطل الحج بتركها تجزي بغير نية.
فأما الحنفيون فقالوا: من أحرم وحج ينوي التطوع أجزأه ذلك عن حج الاسلام.
وقال الشافعيون: أعمال الحج كلها، حاشا الاحرام، تجزيه بلا نية أداء الفرض.
وقال المالكيون: الوقوف بعرفة يجزي بلا نية، وأن الصيام لآخر يوم من رمضان يجزي بنية كانت قبله بنحو ثلاثين يوما، والصلاة تجزيه بلا نية مقترنة بها وقال بعضهم: غسل الجمعة يجزي من غسل الجنابة.
وقال بعضهم: دخول
(7/900)
 
 
الحمام بلا نية يجزي من غسل الجنابة.
فأبطلوا احتجاجهم بالحديث المذكور،
وأكذبوا قولهم في دليل الخطاب، وأوجبوا جواز أعمال بلا نية حيث أبطلها الله تعالى ورسوله (ص)، وأبطلوا صيام الولي عن الولي والحج عن الميت وأداء ديون الله تعالى عنه وقد أوجبها الله تعالى.
واحتجوا أن لا عمل إلا بنية العامل، ولا نية للمعمول عنه في ذلك فاستدركوا على ربهم ما لم يستدركوه على أنفسهم، وهذا غاية الخذلان.
واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن يعلى بن منبه رحمة الله عليه إذ سأل عن قصر الصلاة وقد ارتفع الخوف، قالوا: فلما جاء القصر في القرآن في حال الخوف دل ذلك على أن الامر بخلاف الخوف.
قال أبو محمد: وقد غلط في ذلك من أكابر أصحابنا أبو الحسن، عن عبد الله بن أحمد ابن المغلس: فظن مثل ما ذكرنا، وهذا لا حجة لهم فيه، لان الاصل في الصلوات كلها على ظاهر الامر الاتمام، وقد نص رسول الله (ص) على عدد ركعات كل صلاة، ثم جاء النص بعد ذلك في القصر في حال السفر مع الخوف، فكان ذلك مستثنى من سائر الاحوال، فلما رأى عمر القصر متماديا مع ارتفاع الخوف، أنكر خروج الحال التي لم تستثن في علمه عن حكم النص الوارد في إتمام الصلاة في سائر الاحوال غير الخوف، فأخبر (ص) أن حال السفر فقط مستثناة أيضا من إيجاب الاتمام، وإن لم يكن هنالك خوف، فكان هذا نصا زائدا في استثناء حال السفر مع الامن، فإنما أنكر ذلك من جهل أن هذه الصدقة الواجب قبولها قد نزل بها الشرع، وهو عمر رضي الله عنه، ولسنا ننكر مغيب الواحد من الصحابة أو الاكثر منهم عن نزول حكم قد علمه غيره منهم.
وأما الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها فرضت الصلاة فلا حجة فيه علينا، بل هو حجة لنا، وقد يظن عمر إذا نقلت صلاة الحضر إلى أربع ركعات أن صلاة السفر أيضا منقولة، والغلط غير مرفوع عن أحد بعد رسول الله (ص).
قال أبو محمد: وتعلل بعض من غلط في هذا الباب من أصحابنا بأن قالوا: قوله عليه السلام: استنشق اثنتين بالغتين إلا أن تكون صائما في حديث لقيط بن صبرة الايادي، في ذلك مانع من مبالغة الصائم في الاستنشاق.
(7/901)
 
 
قال أبو محمد: وليس ذلك كما ظنوا، ولكن حديث لقيط فيه إيجاب المبالغة على غير الصائم فرضا لا بد له من ذلك، وفيه استثناء الصائم من إيجاب ذلك عليه، فسقط عن الصائم فرض المبالغة وليس في سقوط الفرض ما وجب المنع منها، فليس في الحديث المذكور منع الصائم منها، لكنه له مباحة لا واجبة ولا محظورة لان الاباحة واسطة بين الحظر والايجاب.
فإذا سقط الايجاب لم ينتقل إلى الحظر إلا بنهي وارد، لكن ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الاباحة أو الندب، وإذا سقط التحريم ولم ينتقل إلى الوجوب إلا بأمر وارد، لكنه ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الاباحة أو الكراهة وقد بينا هذا في باب النسخ من هذا الكتاب.
قال أبو محمد: وقال بعض من غلط في هذا الفصل أيضا من أصحابنا: إن أمر رسول الله (ص) في حديث صفوان بن عسال المرادي ألا ينزع المسافرون الخفاف ثلاثا، إيجاب لنزعها بعد الثلاث، وإيجاب على المقيم نزعها بعد يوم وليلة، فأوجبوا من ذلك أن يصلي الماسح بعد انقضاء الامدين المذكورين، حتى ينزع خفيه، ولم يوجبوا عليه بعد ذلك أن يجدد غسل رجليه، ولا إعادة وضوئه، وأنكر ذلك أبو بكر بن داود رحمهما الله وأصاب في إنكاره.
قال أبو محمد: وليس في الحديث المذكور إيجاب نزع الخفين ولا المنع من نزعهما وإنما فيه المنع من إحداث مسح زائد فقط، وهو الخيار بعد انقضاء أحد الامدين بين أن ينزع ويصلي دون تجديد وضوء ولا غسل رجليه، وبين ألا ينزعهما ويصلي بالمسح المتقدم ما لم ينتقض وضوءه، فإذا انتقض وضوءه فقد حرم
عليه المسح، وإذا حرم عليه المسح لزمه فرض الوضوء، فلا بد حينئذ من غسل الرجلين، وإذا لم يكن بد من غسل الرجلين فلا سبيل إلى ذلك إلا بإزالة الخفين فحينئذ لزم نزع الخفين، لا قبل أن يحدث.
وبلغنا عن بعض أصحابنا أنه يقول: إن قول رسول الله (ص): الماء لا ينجسه شئ دليل على أن ما عداه ينجس، فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا ليس بشئ لوجوه: أولها أنها دعوة مجردة بلا دليل، ويقال: ما الفرق بينك وبين من قال: بل ما هو إلا دليل على أنه مثل الماء في أنه لا ينجس ؟ فإن قال: هذا قياس والقياس باطل، قيل له: هل كان القياس باطلا إلا لانه حكم بغير نص ؟
(7/902)
 
 
فلا بد له من: نعم، فنقول له: وهكذا حكمك لما عدا الماء أنه بخلاف الماء، حكم بغير نص ولا فرق، ومنها أننا نقول به: أرأيت قوله (ص): الطعام بالطعام مثلا بمثل، أفيه منع من بيع ما عدا الطعام مثل بمثل ؟ أرأيت قوله عليه السلام: نعم الادام الخل أفيه حكم على أن ما عداه بئس الادام ؟ أرأيت قوله عليه السلام: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أو لم ينجس على أنه أصح من حديث بئر بضاعة - أيصح منه أن ما دون القلتين ينجس ؟ ومثل هذا كثير لو تتبع، فلو قال: قد جاء فيما عدا ما ذكر في هذه الاحاديث نصوص صح بها عندنا حكمها، قلنا له: وقد جاء فيما عدا الماء نص على إباحته بقوله تعالى: * (فكلوا مما في الارض حلالا طيبا) * فلا سبيل إلى تحريم شئ من ذلك إلا بنص وارد فيه، ولا إلى تنجيس شئ منه من أجل نجاسة حلته إلا بنص وارد فيه، ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واحتجوا بأن الناس مجمعون على أن من قال لآخر: لا تعط غلامي درهما حتى يعمل شغلا كذا، قالوا: فهذا يقتضي أنه إذا عمله وجب أن
يعطي الدرهم.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، وإن أعطاه المقول له هذا القول الدرهم بعد انقضاء ذلك الشغل، وكان ذلك الدرهم من مال السيد:، فعليه ضمانه إن تلف الدرهم ولم يوجد المدفوع إليه، ودليل ذلك إجماع الناس على أن المقول له ذلك يسأل الآمر فيقول له: إذا عمل ذلك الشغل أعطيه الدرهم أم لا ؟ فلو اقتضى هذا الكلام إعطاءه الدرهم بعمل الشغل المذكور ما كان للاستفهام المأمور به معنى، وأيضا فإن الامة مجمعة على أن الآمر لو قال للمأمور عند استفهامه إياه: لا تعطه إياه حتى أجد لك ما تعمل فيه، أن ذلك حسن في الخطاب ولازم للمأمور، وإنما في الكلام المذكور المنع من إعطاء الدرهم قبل عمل الشغل، وليس فيه بعد عمل الشغل لا إعطاؤه ولا منعه، وذلك موقوف على أمر له حادث إما بمنع وإما بإعطاء.
فإن قالوا: فقول الله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * أليس إعطاؤهم الجزية مانعا من قتلهم ؟.
(7/903)
 
 
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إنما في الآية الامر بقتلهم إلى وقت إعطاء الجزية، ثم ليس فيها إلا المنع من قلتهم بعد إعطائها، ولا إيجاب قتلهم، ولكن لما قال رسول الله (ص): ولا يقتل ذا عهد في عهده وقال (ص): لمن كان يبعث من قواده: فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.
هذا نص كلامه (ص) لكل من يبعثه إلى كتابي حربي، حدثناه عبد الله ابن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن هاشم، قال أبو بكر: ثنا وكيع بن الجراح وقال إسحاق: ثنا يحيى بن آدم، وقال عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن مهدي كلهم قالوا: ثنا سفيان الثوري، عن
علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي (ص).
قال أبو محمد: فلما قال (ص) ذلك مبينا أن دماءهم وأموالهم وأذاهم بالظلم، وسبي عيالهم وأطفالهم -، حرام بإعطائهم الجزية، بنص قوله عليه السلام: كف عنهم فالكف يقتضي كل هذا، وكثير ممن يحتج علينا بما ذكرنا قد نسوا أنفسهم، فقالوا في نهيه (ص) عن بيع الزرع حتى يشتد: إن ذلك غير مبيح لبيعه بعد اشتداده، ولكن حتى يضفى من تبنه ويداس.
قال أبو محمد: وبيع الزرع عندنا بعد اشتداده مباح، وإن لم يصف ولا ديس، لقوله تعالى: * (وأحل الله البيع) * فلا يخرج من هذه الجملة إلا ما جاء نص أو إجماع بتحريمه، ولهذه الجملة أجزنا بيع منخل بعد أن تزهى، والعنب بعد أن يسود، والثمر بعد أن يبدو فيه الطيب، وليس لان هذه النواهي توجب إباحة البيع بعد حلول الصفات المذكورة فيها.
وكذلك قلنا في قوله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر) *، وإنما حرم الاكل من حين يتبين طلوع الفجر بالامر المتقدم لهذا النسخ، فإن الامر قد كان ورد بتحريم الاكل والشرب والوطئ مذ ينام المرء إلى غروب الشمس من غد، ثم نسخ ذلك وأبيح لنا الوطئ، والاكل والشرب إلى حين يتبين طلوع الفجر الثاني، فبقي ما بعده على الاصل المتقدم في التحريم، وبنصوص وردت في ذكر تحريم كل ذلك بطلوع الفجر الثاني، وبقوله
(7/904)
 
 
تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * ولو لم يكن ههنا إلا قوله تعالى: * (حتى يتبين لكم الخيط الابيض) * ما كان فيه إيجاب الصيام ولا المنع منه.
وكذلك قوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله إنما حرم القتال بقوله عليه السلام: فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وهكذا سائر
النصوص التي وردت على هذا الحسب، وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا في ذلك قوله (ص): من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع أو كما قال (ص).
قالوا: فدل ذلك على أن التي لم تؤبر بخلاف التي أبرت وأنها للمبتاع.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لاننا لم نقض من هذا الحديث أن الثمرة التي تؤبر للمبتاع، لكن لما كانت التي تؤبر غائبة لم تظهر بعد كانت معدومة، وكانت بعض ما في عمق النخلة المبيعة كانت داخلة في المبيع لانها بعضه.
ثم نقول لهم: وبعد أن بينا بطلان ظنكم فنحن نريكم إن شاء الله تعالى تناقضكم في هذا المكان فنقول: إن كنتم إذا قضيتم بأن المسكوت عنه بخلاف المذكور، فما قولكم لمن قال لكم: بل ما المسكوت عنه ههنا إلا في حكم المذكور قياسا عليه ؟ فتكون الثمرة التي لم تؤبر للبائع أيضا قياسا على التي أبرت ؟ وقد قال أبو حنيفة: لا فرق بين الابار وعدمه، فنسي قوله، لم يذكر (ص) السائمة إلا لانها بخلاف غير السائمة، ولولا ذلك لما كان في زكاة السائمة فائدة، وجعل ههنا ذكره عليه السلام الابار لا لفائدة، وجعله كترك الابار فبان اضطراب هؤلاء القوم جملة وبالله تعالى التوفيق.
واحتج الطحاوي في إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج بقول رسول الله (ص): منعت العراق قفيزها ودرهمها الحديث قال: فلو كان في أرض الخراج شئ غير الخراج لذكره (ص).
قال أبو محمد: فيقال للطحاوي: أرأيت إن قال لك قائل: إن قوله (ص): فيما سقت السماء العشر دليل على أن لا خراج على شئ من الارض لانه لو كان فيها خراج لذكره في هذا الحديث فإن قال: قد ذكر الخراج في الحديث
(7/905)
 
 
الذي قدمنا آنفا، قيل له: وقد ذكرالعشر ونصف العشر في الحديث الذي ذكر آنفا.
فإن قال قائل: ما تقولون فخطاب ورد من الله تعالى أو رسوله (ص) معلقا بشرط ؟ قيل له: ينظر، أتقدمت ذلك الخطاب جملة حاظرة لما أباح ذلك الخطاب، أو مبيحة لما حظر، أم لم يتقدمه جملة بشئ من ذلك، لكن تقدمت جملة تعمه وتعم معه غيره موافقة لما في ذلك النص.
ولا بد من أحد هذه الوجوه، لان الجملة التي نص عليها بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * مبيحة عامة لا يشذ عنها إلا ما نص عليه، وفصل بالتحريم، فلا سبيل إلى خروج شئ من النصوص عن هذه الجملة.
ولا بد لكل نص ورد من أن يكون مذكورا فيه بعض ما فيها بموافقة أو يكون مستثنى منها بتحريم، فإن وجدنا النص الوارد، وقد تقدمته جملة مخالفة له، استثنيناه منها، وتركنا سائر تلك الجملة على حالها، ولم نحظر إلا ما حظر ذلك النص فقط.
ولم نبح إلا ما أباح فقط، ولم نتعده، وإن وجدناه موافقا لجملة تقدمته، أبحنا ما أباح ذلك الخطاب، وأبحنا أيضا ما أباحته الجملة الشاملة له ولغيره معه، أو حظرنا ما حظره لك الخطاب، وحظرنا أيضا ما حظرته الجملة الشاملة له ولغيره معه، ولم نسقط من أجل ذلك الشرط شيئا مما هو مذكور في الجملة الشاملة له ولغيره، وهذا هو مفهوم الكلام في الطبائع في كل لغة من لغات بني آدم - عربهم وعجمهم - ولا يجوز غير ذلك.
وقد ذكرنا في باب الاخبار من كتابنا هذا بيان هذا العمل، ونظرناه بمسائل جمة، ولكن لا بد لنا أيضا ههنا من تشخيص شئ من ذلك ليتم البيان بحول الله وقوته، فليس كل أحد يسهل عليه تمثيل مسائل تقضيها الجملة التي ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
وليس قولنا آنفا: تقدمته جملة بمعنى تقدم وقت النزول، فليس لذلك عندنا معنى إلا في النسخ وحده، وإلا فالقرآن والحديث كله عندنا ككلمة واحدة،
وكأن نزل معا، لوجوب طاعة جميع ذلك علينا، وإنما نعني بقولنا: تقدمته أي عمت ذلك الخطاب وغيره معه، ولكن لما كنا نجعل تلك الجملة مقدمة يستثنى منها ذلك النص أو نضيفه إليها على معنى البيان لها: سمينا ورودها من أجل ما ذكرنا تقدما.
(7/906)
 
 
قال أبو محمد: فمما ذكرنا قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * الجملة المتقدمة لهذا الشرط هي أمره تعالى باستعمال الماء فرضا على كل حال لمن أراد الصلاة الواجبة أو التطوع، فإن تيمم مع وجود الماء والصحة ولم يستعمل الماء كان عاصيا، لانه لم يأت بما أمر به، ولانه لم يستعمل ما أمر باستعماله في غسل أعضائه المذكورة في آية الوضوء والغسل، فإن تيمم مع وجود الماء والصحة واستعمل الماء أيضا، كان متكلفا لم يؤمر به، والمتكلف لذلك إن سلم من سلم من الاسم لم يسلم من الفضول وسوء الاختيار، وقد أمر الله تعالى فيه (ص) أن يقول * (وما أنا من المتكلفين) * فإن اعتقد وجوب التيمم مع استعمال الماء في حال الصحة ووجود الماء كان عاصيا كافرا، لاعتقاده ما لا خلاف أنه لم يؤمر به وزيادته في الدين وتعديه حدود الله تعالى، فلما بطلت هذه الوجوه كلها لم يبق إلا استعمال التيمم عند عدم الماء المقدور عليه في السفر وعند المرض.
وهكذا القول في قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * إلى منتهى قوله (لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم) * قال أبو محمد: فنظرنا هل نجد جملة متقدمة لاباحة نكاح الفتيات المؤمنات بالزواج، فوجدنا قبلها متصلا بها ذكر ما حرم الله تعالى من النساء من قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * إلى منتهى قوله: * (والمحصنات من النساء) * فحرم الله تعالى بهذا
النص كل محصنة، والاحصان يقع على معان، منها العفة، ومنها الزوجية، ومنها الحرية، فلم يجز لنا إيقاع لفظة * (ة على بعض ما يقع تحتها دون بعض، بالبراهين التي ذكرنا في باب العموم، فحرم بقوله تعالى: كل عفيفة من أمة أو حرة، وكل حرة، وكل ذات زوج، وقد حرم الزواني من الاماء والحرائر بقوله تعالى: * (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) * فحرمت كل امرأة في الارض بهذين النصين إلا ما استثنى من ذلك بنص أو إجماع.
ثم قال تعالى متصلا بالتحريم المذكور غير مؤخر لبيان مراده تعالى: * (الا ملكت
(7/907)
 
 
أيمانكم) * فأباح تعالى ما شاء مما ملكت أيماننا، وليس في هذا إباحة الزواج، ثم زادنا تعالى بيانا متصلا فقال: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * فاستثنى تعالى الزواج أيضا بالاباحة المذكورة.
والعمل في هذا يكثر إلا أن اختصار القول والغاية في ذلك قول الله تعالى: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * فهذه آية لو تركنا وظاهرها، لكان كل ما خلق الله تعالى في الارض حلالا لنا، لكن حرم الله تعالى أشياء مما في الارض فكانت مستثناة من جملة التحليل، فمن ذلك قوله تعالى: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن) * مع الآية التي تلونا آنفا من قوله تعالى في آية التحريم: * (والمحصنات من النساء) * فلو تركنا وهذين النصين لحرم النساء كلهن وكن مستثنيات من جملة التحليل.
ثم قال تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * فاستثنى الله عزوجل من جملة النساء المحرمات، الازواج وملك اليمين، فلو تركنا وهذه الآية
لحلت كل امرأة بالزواج خاصة، وبملك اليمين فقط، لا بالزنى من أم أو إبنة أو حريمة، لان المتزوجات والمملوكات بعض النساء وكانت هذه الآية موافقة لقوله تعالى: * (فأنكحوا ما طاب لكم من النساء) * ولقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * ولا فرق بين شئ من هذه الآيات، ثم قال تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * إلى منتهى قوله: * (وأن تجمعوا بين الاختين) * وقال تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * وقال تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * وقال تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) *.
وحرم النبي (ص) الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وحرم بالرضاعة ما يحرم من النسب، وحرم النص فعل قوم لوط، ونكاح الزواني ونكاح الزناة للمسلمات، وحرم بالاجماع والنص بقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * إلى قوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * ووطئ البهائم، والمشركة، وبدليل النص أيضا، فكان كل ما ذكرنا مستثنى مما أبيح
(7/908)
 
 
من النساء بالزواج وملك اليمين، لان ما في هذه النصوص أقل مما ذكر في آية إباحة الازواج وملك اليمين.
وقال تعالى: * (اليوم أحل لكم الطيبات) * إلى قوله عزوجل: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) * فاستثنى تعالى الكتابيات بالنكاح خاصة، وهذا يقع على الاماء منهن والحرائر وبقيت الامة الكتابية حراما وطؤها بملك اليمين خاصة، وبقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * ولما يأت في شئ من النصوص ما يبيحها.
ثم نظرنا في قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * فوجدناه تعالى إنما ذكر في هذه الآية إباحة نكاح الامة لمن لم يجد طولا، وخشي العنت وبقي حكم واحد الطول الذي لا يخاف العنت فلم نجده تعالى ذكر في هذه الآية إباحة ولا تحريما عليه، فرجعنا إلى سائر الآي فوجدناه تعالى قد أباح نكاح الاماء المؤمنات لكل مسلم، ولم يخص فقيرا من غني، ولا من عنده حرة ممن ليست عنده حرة، بقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * فكان للعبد مباحا أن ينكح حرة وأمة، وللحر أيضا كذلك ولا فرق وكذلك الامة الكتابية نكاحها للمسلم حلال بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) * وهذا قول عثمان البتي وغيره.
والعجب من الحنفيين في منعهم الزكاة عن غير السائمة بذكره (ص) السائمة في حديث أنس وإباحتهم ههنا نكاح الامة المسلمة لمن وجد طولا لحرة مسلمة فهلا سألوا أنفسهم عن الفائدة في ذكره تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) * كما سألوا هناك عن الفائدة في ذكر السائمة ؟ ولكن هكذا يكون من اتبع رأيه وقياسه وهواه المضل.
والعجب من المالكيين في عكسهم ذلك فقالوا: ليس في قوله (ص) (في السائمة) ما يوجب أن يسقط الزكاة من غير السائمة، وقالوا ههنا: ذكره تعالى عادم الطول والامة المؤمنة موجب التحريم الامة الكتابية ثم في الوقت أباحوا الامة المؤمنة لواجد الطول.
(7/909)
 
 
قال أبو محمد: فكلا الفريقين تناقض كما ترى، وحرم بعضهم نكاح الامة المؤمنة على واجد الطول بحرة كتابية وليس هذا في نص الآية أصلا، وإنما منع من منع من ذلك قياسا للكتابية على المسلمة، وقد أكذب الله تعالى هذا القياس الفاسد
بقوله: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ئ ما لكم كيف تحكمون) * فلو كان القياس حقا لكان ههنا باطلا، وإذا قاسوا واجد الطول للحرة الكتابية على واجد الطول للحرة المسلمة، ولم ينص تعالى إلا على واجد الطول للحرة المسلمة فقط، فهلا فعلوا مثل ذلك، فقاسوا إباحة الامة الكتابية بالنكاح لعادم الطول لحرة وخائف العنت على إباحة الامة المؤمنة لخائف العنت وعادم الطول كما فعلوا في التي ذكرنا قبل ؟.
قال أبو محمد: وهذا مما تركوا فيه القول بدليل الخطاب، لانه كان يلزمهم على أصلهم أن يقولوا: إن ذكره تعالى: المحصنات المؤمنات دليل على أن الكافرات بخلافهن، ولكن أكثرهم لم يفعلوا ذلك فنقضوا أصلهم في دليل الخطاب.
ونحن وإن وافقنا أبا حنيفة في بعض قوله ههنا، فلسنا ننكر اتفاقنا مع خصومنا في هذه المسائل، وقد يجتمع المصيب والمخطئ في طريقهما الذي يطلبانه، أحدهما بالجد والبحث والعلم بيقين ما يطلب، والثاني بالجد والبحث والاتفاق، وغير منكر أن يخرجهم الرؤوف الرحيم تعالى إلى الغرض المطلوب وإن تعسفوا الطريق نحوه، ولكنهم مع ذلك تحكموا بلا دليل أصلا فقالوا: من كانت عنده حرة فحرام عليه نكاح الامة، وهذا قول ليس في النص ما يوجبه أصلا، وقولنا في هذا هو قول عثمان البتي وغيره.
وقد روي عن مالك إجازة نكاح الامة على الحرة إذا رضيت بذلك الحرة، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح المسلمة والكتابية لواجد طول لحرة مسلمة، وإن لم يخش العنت إذا لم تكن عنده حرة، فيؤخذ من قول كل واجد ما أصاب فيه، فبان بما ذكرنا تحليل الله تعالى حرائر أهل الكتاب وإماءهم في الزواج، وبقي ما ملكت منهن على التحريم لبراهين ذكرناها في باب الاخبار من كتابنا هذا.
ويقال لهم: إنكم منعتم من نكاح الامة الكتابية، وقلتم: ليست كالامة المسلمة فنقيسها عليها، وقد تناقضتم فأبحتم نكاح الحرة الكتابية لواجد طول لحرة مسلمة
وإن لم يخف عنتا، وحرمتم عليه نكاح الامة المسلمة حتى أن بعضهم قال: إن
(7/910)
 
 
من وجد طولا لحرة كتابية لم يحل له نكاح الامة المسلمة وحتم أن بعضهم لم يقتل الحر الكتابي المسلم، ولا خلاف بين مسلمين أن الامة المسلمة خير عند الله عزوجل وعند كل مسلم من كل حرة كتابية كانت في الدنيا أو تكون إلى يوم البعث.
فإن قالوا: فأي معنى أو أي فائدة في قصد الله تعالى بالذكر في الآية المذكورة آنفا عادم الطول وخائف العنت والمحصنة المؤمنة والامة المؤمنة إذا كان واجد الطول وآمن العنت والامة الذمية والمحصنة والكافرة سواء في كل ذلك ؟.
قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق: هذا سؤال إلحاد، وقد ذكر الله تعالى في بعض الآيات التي تلونا بعض ما ذكره في غيرهن، فلم يكن ذلك متعارضا، وقد قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله) * وليس تخصيصه الذين آمنوا بالذكر ههنا موجبا أن طاعة الله عزوجل لا تلزم الذين كفروا، بل هي لازمة للكفار كلزومها للمؤمنين ولا فرق وقد ذكرنا طرقا من هذا في باب الاخبار وفي باب العموم من كتابنا هذا.
قال أبو محمد: وكذلك قوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * وهم كلهم قد وافقونا على أن كل من لم يخف أيضا ألا يعدل فمباح له الاقتصار على واحدة وعلى ما ملكت يمينه، فتركوا ههنا مذهبهم في دليل الخطاب، وكان يلزمهم ألا يبيحوا الواحدة فقط إلا لمن خاف ألا يعدل.
فإن قالوا: إن ذلك إجماع، قيل لهم: قد أقررتم أن الاجماع قد صح بإسقاط قولكم في دليل الخطاب.
ويقال لهم: سلوا أنفسكم ههنا فقولوا: أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى
بالذكر من خاف أن يعدل ؟ كما قلتم لنا: أي فائدة، وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر لمن خاف العنت وعدم الطول ؟ وهذا ما لا انفكاك منه، والحمد لله.
فإن قالوا: فهلا قلتم مثل هذا في قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * وقوله تعالى أيضا: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) * وقوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * فتوجبوا إباحة الصيام من وجد الرقبة والهدي ؟ قلنا: لا سواء، والاصل أنه لا يلزمنا صيام فرض أصلا إلا ما أوجبه نص، كما أن
(7/911)
 
 
الاصل إباحة نكاحة الاماء بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * وقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * فلم نوجب الصوم فرضا إلا حيث أوجبه النص، وأحللنا النكاح في كلتا الآيتين لانهما معا نص واجب وطاعته.
وأيضا فإن حكم واجد الرقبة في كفارة الوطئ، وواجد النسك من الهدي في التمتع، وواجد الغنى في الاطعام والكسوة، والرقبة في كفارة اليمين، منصوص على لزوم كل ذلك لهم، فلو صام كان عاصيا لله عزوجل تاركا لما نص على وجوبه عليه، وليس كذلك واجد الطول وآمن العنت، لانه لا نص على منعه من نكاح الاماء أصلا، لا في نص ولا في إجماع فبين الامرين أعظم الفرق.
وقد ذهب بعضهم - وهو أبو يوسف - إلى المنع من صلاة الخوف على ما جاءت به الروايات، ولقوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * قال: فدل ذلك على أنه (ص) إذا لم يكن فينا لم نصل كذلك.
قال أبو محمد: فأول ما يدخل عليه أنه لا يلزمه ألا يأخذ الائمة زكاة من أحد، لان الله تعالى قال: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * فإنما خوطب بذلك
النبي (ص) كما خوطب بتعليمه كيفية صلاة الخوف ولا فرق فقد ظهر تناقضه.
وأيضا فإن قول النبي (ص): صلوا كما رأيتموني أصلي ملزم لنا أن نصلي صلاة الخوف وغير صلاة الخوف كما رئي (ص) يصليهما، وكذلك قوله (ص): أرضوا مصدقيكم وقوله (ص) في كتابه الزكاة: فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فرقها فلا يعط موجب لاخذ الائمة الزكاة بإرسال المصدقين، وبالله تعالى التوفيق.
(7/912)
 
 
فصل من هذا الباب قال أبو محمد: كل لفظ ورد بنفي ثم استثني منه بلفظة إلا أو لفظة حتى فهو غير جار إلا بما علق به، مثل قول رسول الله (ص): لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ.
ومثل: لا صلاة إلا بأم القرآن ولا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وهذا هو المفهوم من الخطاب بالضرورة، لانه نفى قبول الصلاة إلى أن يتوضأ، ووجب قبولها بعد الوضوء بالآية التي فيها: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * وبالحديث: من توضأ كما أمر ونفى الصلاة إلا بأم القرآن وأثبتها بأم القرآن، لانه لا بد لكل مصل من أن يقرأ أم القرآن أو لا يقرؤها.
ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا بوجه من الوجوه، والصلاة فرض، فلما لم يكن بد من الصلاة ولم يكن فيها بد من قراءة أم القرآن أو ترك قراءتها، وكان من لم يقرأها ليس مصليا، فمن قرأها فيها فهو مصل بلا شك، وفرض على كل مسلم بالغ أن يصلي كما أمر، ففرض عليه أن يقرأ أم القرآن وهذا برهان ضروري قاطع.
وكذلك نفيه (ص) القطع جملة، ثم أوجبه مستثنى في ربع دينار فصاعدا إلا أن هذا لو لم يتقدم فيه نص أو إجماع لم قطعنا إلا في الذهب فقط.
ولكن لما قال تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وقال رسول الله (ص): لعن
الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده وأجمعت الامة على أن حديث ربع دينار لم يقصد به (ص) إبطال القطع في غير الذهب وجب علينا أن نستعمل الآية على عمومها، فلا يخرج منها إلا سارق أقل من ربع دينار ذهب فقط.
فمن سرق أقل من ربع دينار ذهب فلا قطع عليه، ومن سرق من غير الذهب شيئا، قل أو كثر، أي شئ كان له قيمة وإن قلت، فعليه القطع بالآية والحديث الذي فيه: لعن الله السارق.
قال أبو محمد: ومن أبى هذا فإنما يلجأ أن يقول: المراد بقوله (ص) في ذكره ربع الدينار إنما عنى القيمة.
قال أبو محمد: وهذه دعوى لا دليل عليها، وأن من ظن النبي صلى الله عليه
(7/913)
 
 
وسلم سها عما تنبه له هذا المتعقب فقد عظم غلطه * (وما كان ربك نسيا) * وليت شعري أي شئ كان المانع لرسول الله (ص) أن يقول: لا قطع إلا في قيمة ربع الدينار فصاعدا، فيكشف عنا الاشكال، وقد أمره ربه تعالى بالبيان والذي نسبوه إلى رسول الله (ص) من أنه أراد القيمة ولم يبينها فإنما هو تلبيس لا بيان، وقد أعاذ الله تعالى من ذلك.
والحديث الذي فيه ذكر القيمة ليس فيه بيان بأن القطع من أجل القيمة، فليس لاحد أن يقول: إن التقويم كان من أجل القطع، إلا كان لآخر أن يقول: بل لتضمين السارق ما جنى في ذلك.
قال أبو محمد: ثم يقنعوا إلا بأن نسبوا إلى الذي وصفه ربه تعالى بأنه رؤوف بنا رحيم، وأنه عزيز عليه ما عنتنا، إنه زادنا تلبيسا بقوله (ص): لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده إنه إنما في بيضة الحديد التي يقاتل بها، وأنه (ص) عنى حبلا مزينا يساوي ربع دينار، هذا مع أنها دعاوى بارية
عارية من الادلة، فهي أيضا فاسدة، لانه (ص) لم يرد بهذا عذر السارق وكيف يريد عذره وهو يلعنه ؟ وإنما أراد (ص) شدة مهانة السارق ورذالته وأنه يبيح يده فيما لا خطب له من بيضة أو حبل، وهذا الذي لا يعقل سواه.
ولهم من مثل هذا، ما ينسبونه إلى مراد الله تعالى ومراد رسوله (ص) غثائث جمة يوقرون أنفسهم عن مثلها، فمن ذلك ما ينسبون إلى الآية التي في الوصية في السفر أن قول الله تعالى: * (وآخران من غيركم) * أي من غير قبيلتكم، وهذا من الهجنة بحيث لا يجوز أن ينسب إلى من له أدنى معرفة باللغة ومجاري الكلام، فكيف بخالق الكلام والبيان ؟ لا إله إلا هو.
ومن ذلك قول بعض المالكيين في قوله (ص): للذي خطب المرأة وهو لا شئ معه: التمس ولو خاتما من حديد قال هذا القائل: إنما كلفه عليه السلام خاتما مزينا مليحا يساوي ربع دينار.
(7/914)
 
 
وهذا وهم يسمعون كلام الرجل أنه لا يملك إلا إزاره فقط، وأنه لا يقدر على حيلة، فيقول له (ص): ولو خاتما من حديد أفيسوغ عن عقل من له مسكة أن يظن أن رسول الله (ص) يكلف من هذه صفته خاتما بديعا يساوي ربع مثقال ؟ وهذا مع ما فيه من الافتراء على رسول الله (ص) والكذب عليه، فقول مفضوح ظاهر العوار، لانه لم يكن بلغ عن غلاء الحديد بالمدينة، ومنه مساحيهم ومناحلهم لعمل النخل، ودروعهم للقتال، أن يساوي خاتم منه قريبا من وزنه من الذهب، ولو نطقت بهذا مخدرة غريرة لاضحكت بقولها، وبالله عزوجل نستعين.
قال أبو محمد: وقد اعترض بعض الحنفيين على قوله (ص): لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فقال: هذا اللفظ لا يوجب قطعا في الربع دينار.
قال أبو محمد: وهذه قحة ظاهرة، ومجاهرة لا يرضاها لنفسه من في وجهه حياء وهو بمنزلة من قال: * (حرمت عليكم الميتة) * أن هذا اللفظ لا يوجب نهيا ولا منعا ومن قال في مثل هذا أن هذا الخطاب لا يوجب القطع في ربع دينار وأن لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن ان لا يوجب القراءة ثم قال في الاوامر انها غير لازمة وانها على الندب ثم قال في الالفاظ انها على الخصوص ثم قال في الكلام أنه ليس على ظاهره ثم ترك النص فلم يحكم به ثم أتى إلى أشياء لم تنص فحرمها وأحلها برأيه فما نعلم أحدا ولا الحلاج ولا الغالية من الروافض أشد كيدا للاسلام منه وأما الجاهل فهو معذور وأما من قامت عليه الحجة فتمادى فهو فاسق بلا شك وسيرد فيعلم وما توفيقنا الا بالله.
فإن قال قائل ان هذا مثل قوله عليه السلام لا إيمان لمن لا أمانة له قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا على ظاهره ونعم لا إيمان اصلا لمن لا امانة له ولا يجوز ان نخص بذلك امانة دون امانة والاسلامك هو الامانة التى عرضها الله تعالى على السماوات والارض وقبول الشرائع فمن عدم هذه الامانة التى هي بعض
(7/915)
 
 
الامانات فلا إيمان له ومن قيل فيه لا أمانة له فهو محمول على كل أمانة لا على بعضها دون بعض.
وأما قوله (ص): لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه فكذلك نقول: إن الفعل المذموم منه ليس إيمانا، لان الايمان هو جميع الطاعات، والمعصية إذا فعلها فليس فعله إياها إيمانا، فإذا لم يفعل الايمان فلم يؤمن، يعني في تركه ذلك الفعل خاصة، وإن كان مؤمنا بفعله للطاعات في سائر أفعاله، وقد بينا هذا في كتاب الفصل والايمان هو الطاعات كلها، وليس التوحيد وحده إيمانا فقط، فمعنى: لا إيمان له أي لا طاعة، وكذلك إذا عصى فلم يطع، وإذا لم يطع فلم يؤمن،
وليس يلزمنا أنه إذا لم يؤمن في بعض أحواله أنه كفر، ولا أنه لا يؤمن في سائرها لكن فإن قال: أنه إذا لم يطع فلم يؤمن في الشئ الذي عصى به وآمن فيما أطاع فيه فإن قال يلزمكم بهذا أن تقولوا: إنه مؤمن لا مؤمن، قلنا نعم، هو مؤمن بما آمن به، غير مؤمن فيما لم يؤمن به، وهذا شئ يعلم ضرورة، ولم نقل إنه مؤمن لا مؤمن على الاطلاق، وهكذا يلزم خصومنا في مسئ ومحسن ولا فرق.
فإن قلتم: من أحسن في جهة وأساء في أخرى فهو مسئ عاص فيما أساء فيه، ومحسن طائع فيما أحسن فيه، أفترى يلزمكم من هذا أن تقولوا: هو عاص طائع ومحسن مسئ على الاطلاق ؟ ونحن لا نأبى هذا إذا كان من وجهين مختلفين ولا نعيب به أحدا.
وأما من قال: لا صلاة لمن لم يقرأ و: لا صيام لمن لن يبيته من الليل إنما معناه لا صلاة كاملة، فهذه دعوى لا دليل عليها، وأيضا فلو صح قولهم لكان عليهم لا لهم، لان الصلاة إذا لم تكن كاملة فهي بعض صلاة، وبعض الصلاة لا تقبل إذا لم تتم، كما أن صيام بعض يوم لا يقبل حتى يتم اليوم، فإن قال: إنما معناه أنها صلاة كاملة، إلا أن غيرها أكمل منها، فهذا تمويه، لان الصلاة إذا تمت بجميع فرائضها فليس غيرها أكمل منها في أنها صلاة، ولكن زادت قراءته وتطويله الذي لو تركه لم يضر، ولا سميت صلاته دون ذلك ناقصة، وقد أمر تعالى بإتمام الصيام وإقامة الصلاة، فمن لم يقمها ولا أتم صيامه فلم يصل ولا صام، لانه لم يأت بما أمر به، وإنما فعل غير ما أمر به، والناقص غير التام.
وقد قال (ص): من عمل
(7/916)
 
 
عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وليس هذا مما يكتفى به في إقامة الصلاة وإتمام الصيام فقط، لكن كل ما جاءت به الشريعة زائد أبدا ضم إلى هذا.
ومن العجب العجيب أن قوما لم يبطلوا الصلاة بما أبطلها به (ص)
من عدم القراءة لام القرآن، ومن ترك إقامة الاعضاء في الركوع والسجود، ومن فساد الصفوف، وأبطلوها بما لم يبطلها به الله تعالى ولا رسوله (ص) من وقوف الامام في موضع أرفع من المأمومين، ومن اختلاف نية الامام والمأموم.
ثم فعلوا مثل ذلك في الصيام، فلم يبطلوه بما أبطله به الله تعالى، من عدم النية في كل ليلة، ومن الغيبة والكذب، ثم أبطلوه بما لم يبطله به الله تعالى، من الاكل ناسيا، ومن الحقنة، ومن الكحل بالعقاقير، فقلبوا الديانة كما ترى، وحرموا الحلال، وأحلوا الحرام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، وإياه نسأل التوفيق، لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: وكذلك نقول في حديث أبي ذر رضي الله عنه فيما يقطع الصلاة فذكر الكلب الاسود وأنه سأل النبي (ص): ما بال الاسود من الاحمر من الاصفر من الابيض ؟ فقال (ص): الكلب الاسود شيطان فليس في هذا الحديث أن سائر الكلاب لا تقطع الصلاة ولا أنها تقطع، فلما ورد حديث أبي هريرة عن النبي (ص): تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب كان هذا عموما لكل كلب، وهو قول أنس وابن عباس وغيرهما.
ومن أنكر هذا علينا من الشافعيين والمالكيين فليتفكروا في قولهم في قول النبي (ص): ومن تولى رجلا بغير إذن مواليه فيلزمهم أن يبيحوا له تولي غير مواليه بإذنهم وهذا قول عطاء وغيره وهم يأبون ذلك، ومثل هذا من تناقضهم كثير.
(7/917)
 
 
فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد: والمفهوم من الخطاب هو أن التأكيد إذا ورد فإنه رفع للشغب وحسم لظن من ظن أن الكلام ليس على عمومه، وقد ضل قوم في قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * فقالوا: إن حملة العرش ومن غاب عن ذلك
المشهد لم يسجد.
قال أبو محمد: ويكفي من إبطال هذا الجنون قوله تعالى: * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) * فليت شعري من أين استحلوا أن يقولوا إن أحدا من الملائكة لم يسجد مع قوله تعالى: * (كلهم أجمعون إلا إبليس) * ومثل هذا من الاقدام يسئ الظن بمعتقد قائله، إذ ليس فيه إلا رد قول الله تعالى بالميت.
وقد رام بعض الشافعيين أن يجعل قول الله تعالى: * (من استطاع إليه سبيلا) * بعد قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * من استطاع إليه على معنى أن ذلك ليس بيانا للذين ألزموا الحج، ولا على أنه موافق لقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وقال: إن هذا خطاب فائدة أخرى، موجب أن الاستطاعة من غير قوة.
قال أبو محمد: ولسنا نأبى أن تكون الاستطاعة أيضا شيئا غير القوة للجسم، لكنا نقول: إن الاستطاعة كل ما كان سببا إلى تأدية الحج، من زاد وراحلة أو قوة جسم، ولا نقول كما قال المالكيون: إن الاستطاعة هي قوة الجسم فقط، وإن من عدمها وقدر على زاد وراحلة فهو غير مستطيع، ولا كما قال الشافعيون: إنما الاستطاعة إنما هي الزاد والراحلة فقط، وأن قوة الجسم ليست استطاعة، بل نقول: إن قوة الجسم دون الراحلة استطاعة، وإن الزاد والراحلة وإن كان واجدهما مقعد الرجلين مبطل اليدين أعمى، أنه مستطيع بماله، حملا للآية على عمومها مع شهادة قول الله تعالى وحديث النبي (ص) لصحة قولنا يعني حديث الخثعمية، وقوله تعالى: * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) *.
قال أبو محمد: وقد ذكرنا فيما خلا أن النبي (ص) إذا سئل عن شئ فأجاب، أن ذلك الجواب محمول على عموم لفظه لا على ما سئل عنه عليه السلام فقط، لانه عليه السلام إنما بعث معلما، فلا فرق بين ابتدائه بأمر
(7/918)
 
 
وتعليم، وبين جوابه عما سئل، ومخبرا أيضا عما لم يسأل عنه.
فإن قال قائل: فاحملوا قوله (ص): الخراج بالضمان على عمومه فاجعلوا الخراج للغاصب بضمانه، قيل له وبالله تعالى التوفيق: الحديث في ذلك لا يقوم بمثله حجة، لانه عن مخلد بن خفاف، وعن مسلم بن خالد الزنجي وكلاهما ليس قويا في الحديث، وأيضا فلو صح لمنع من حمله على الغاصب قوله عليه السلام من الطريق المرضية: ليس لعرق ظالم حق.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن إسحاق، عن ابن الاعرابي، عن سليمان ابن الاشعث، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، هو الثقفي، حدثنا أيوب، هو السختياني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد عن رسول الله (ص).
قال أبو محمد: فخص هذا الحديث الظالمين من جملة الضامنين، فنفى الخراج للمشتري بحق، وأيضا فقوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * مانع من أكل مال بغير حق جملة، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أمر (ص) بالبيان فلفظه كله، جوابا كان أو غير جواب، محمول على عمومه، فإن لم يعط الجواب عموما غير ما سئل عنه لم يحمل على ما سواه حينئذ، كما أفتى (ص) الواطئ في رمضان بالكفارة، فوجب ألا يجعل على غير الواطئ لانه ليس في لفظه (ص) ما يوجب مشاركة غير الواطئ للواطئ في ذلك، وكذلك أمره (ص) لمن أساء الصلاة، أو صلى خلف الصفوف منفردا بالاعادة، أمر لمن فعل مثل ذلك الفعل، وحكم في ذلك الفعل متى وجد، وأمره (ص) بغسل المحرم أمر في كل ميت في حال إحرام، وذكره (ص) أو ذكر ربه تعالى المسجد الحرام حكما في المسجد الحرام أنه لا يشركه فيه غيره، لانه ليس ههنا مسجد حرام غيره، وليس ولكل لفظ إلا
مقتضاه ومفهومه فقط، وكذلك قوله (ص): الائمة من قريش حكم في قريش لا يشاركهم فيه غيرهم، ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض، إلا من منع منه إجماع، من امرأة أو مجنون أو من لم يبلغ، وكذلك حب الانصار فضل في
(7/919)
 
 
جميع الانصار لا يعدوهم إلى غيرهم، ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض.
وكذلك ذو القربى وكذلك فضل أبي بكر لا يشركه فيه غيره، وكذلك فضل علي لا يشركه فيه غيره، لان الحكم على الاسماء، فكل اسم مسماه لا يعدي به إلى غيره، ولا يبدل منه غيره، ولا يقتصر به على بعض مسماه دون بعض ولا في الاحوال دون بعض.
فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد: قد أو عينا، بحول خالقنا تعالى لا بحولنا، الكلام في كل ما شغبوا به، وأبنا حل شكوكهم جملة، ثم نأتي بالبراهين المبطلة لدعواهم في ذلك إن شاء الله عزوجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقال لهم: أرأيتم قول الله عزوجل: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * أفيه إباحة أن يقرب مال من ليس يتيما بغير التي هي أحسن ؟ فإن قالوا: لا، ما فيه إباحة لذلك تركوا قولهم الفاسد إن ذكر السائمة دليل على أن غير السائمة بخلاف السائمة، ولا فرق بين ذكره (ص) السائمة في موضع، والغنم جملة في موضع آخر، وبين قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * في مكان ثم قال في آخر: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) *، وكذلك لا فرق بين من قال: إن الحديث الذي فيه ذكر السائمة بيان للحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة، وبين من قال: إن ذكر مال اليتيم في الآية بيان للاموال المحرمة، ويعلم أن المراد بها مال اليتيم خاصة.
ويقال لهم: أترون قول الله تعالى: * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والارض منهآ أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * مبيحا للظلم في سائر الاشهر غير الحرم ؟ أو ترون قوله تعالى: * (الملك يومئذ لله) * مانعا من أن يكون الملك في غير يومئذ لله ؟ وكذلك قوله تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصنا) * أتراه مبيحا للبغاء إن لم يردن تحصنا.
وكذلك قوله تعالى: * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * أتراه مبيحا لمواعدتهن في العدة جهرا وكذلك قوله تعالى: * (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) * أتراه مانعا من لعن من كفر من غير بني إسرائيل، وكذلك قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر
(7/920)
 
 
وطعامه متاعا لكم) * أتراه مانعا من أكل الثمار والحبوب وما ليس من صيد البحر ولا طعامه كما قال المالكيون إن قوله تعالى: * (لتركبوها وزينة) * مانع من أكل الخيل إذ لم يذكر الاكل، وإذا عارضوا بهذه الآية الحديث الذي فيه إباحة للخيل فهلا عارضوا بالآية التي ذكرنا إباحة كل ما اختلف فيه فحرموه بها.
ويقال لهم أترون قوله (ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها مسقطا لقتلهم إن جحدوا نبوة موسى وعيسى عليهما السلام ؟.
ويقال لهم: لو كان قولكم حقا إن الشئ إذا علق بصفة ما، دل على أن ما عداه بخلافه، لكان قول القائل: مات زيد كذبا، لانه كان يوجب على حكمهم أن غير زيد لم يمت، وكذلك زيد كاتب، وكذلك محمد رسول الله (ص) إذا كان ذلك يوجب ألا يكون غيره رسول الله، ويلزمهم أيضا، إذ قالوا بما ذكرنا، أن يبيحوا قتل الاولاد لغير الاملاق، لان الله تعالى إنما قال: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * ويلزمهم في قوله تعالى: * (ولا تشتروا بآياتي
ثمنا قليلا) * إن ذلك مبيح لان يشترى بها ثمن كثير.
فلما تركوا مذهبهم في كل ما ذكرنا، وكان قول القائل: مات زيد وزيد كاتب ومحمد رسول الله (ص) ومسيلمة كذاب، حقا ولم يكن في ذلك منع من أن غير زيد قد مات، وأن غير زيد كتاب كثير، وأن موسى وعيسى وإبراهيم رسل الله، وأن الاسود العنسي والمغيرة الجلاح وبناتا كذابون، بطل قول هؤلاء القوم إن الخطاب إذا ورد بصفة ما وفي اسم ما أو في زمان ما أن ما عداه بخلاف.
ولا يغلط علينا من سمع كلامنا هذا، فيظن أننا إذ أنكرنا قولهم: إن غير المذكور بخلاف المذكور، إننا نقول: إن غير المذكور موافق للمذكور، بل كلا الامرين عندنا خطأ فاحش، وبدعة عظيمة، وافتراء بغير هدى.
ولكنا نقول: إن الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضي لفظه فقط، وأن لكل قضية حكم اسمها فقط، وما عداه فغير محكوم له، لا بوفاقها ولا بخلافها لكنا نطلب دليل ما عداها من نص وارد اسمه، وحكم مسموع فيه، أو من إجماع، ولا بد من أحدهما، وبالله تعالى التوفيق.
(7/921)
 
 
فصل في عظيم تناقضهم في هذا الباب قال أبو محمد: وبالجملة فإن مذهبهم في القياس، ومذهبهم في دليل الخطاب ومذهبهم في الخصوص، مذاهب يبطل بعضها بعضا ويهدم بعضها بعضا، وذلك أنهم قالوا في القياس: إذا نص على حكم ما فنحن ندخل ما لا ينص عليه في حكم المنصوص عليه، ونتبع السنة ما لا سنة فيه، فإذا أوجب الربا في البر بالبر أوجبناه نحن في التبن بالتبن، وإذا وجبت الكفارة، على العامد في الصيد أوجبناه نحن على المخطئ، وقالوا في دليل الخطاب: إذا نص على حكم ما فنحن نخرج
ما لم ينص عليه من حكم المنصوص عليه، ولا نتبع السنة ما لا سنة فيه.
فقالت طوائف منهم لا نزكي غير السائمة، لانه ذكرت السائمة في بعض الاحاديث.
وقالت طائفة منهم: لا نأكل الخيل، لانه إنما ذكر في الآية الركوب والزينة.
وقالت طوائف منهم: لا نقضي بالمتعة إلا التي طلقت ولم تمس ولا فرض لها لان هذه قد ذكرت بصفتها في بعض الآيات.
قال أبو محمد: وهذا ضد قولهم في القياس وإبطاله.
وقالوا في الخصوص: لا نقضي لجميع ما اقتضاه النص، لكن نخرج منه بعض ما يقع عليه لفظ، فقالوا في قوله تعالى: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت) * إنما عنى الذكر من الاولاد دون الاناث.
وقالوا في قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *: إنما عنى من الاحرار لا من العبيد، ومن الاباعد لا من الاخوة والآباء والابناء والازواج.
وقالوا في قوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * وفي قوله تعالى: * (والجروح قصاص) * لا قصاص من جرح إلا من الموضحة فقط ولا قصاص من متلف ولا من لطم ولا من نتف شعر.
قال أبو محمد: وهذا مذهب يبطل قولهم في القياس وفي دليل الخطاب معا ونحن نرى إن شاء الله تعالى تناقضهم في مذاهبهم هذه في مسألة واحدة.
(7/922)
 
 
روى المالكيون حديث القطع في ربع دينار، فقالوا: لا يستباح فرج زوجة بأقل من ربع دينار، قياسا على ما يقطع فيه يد السارق، وذكر ربع الدينار في القطع موجب ألا يكون الصداق أقل منه، ثم قالوا: لا يقطع المستعير لانه ليس سارقا، وذكر الله تعالى السارق موجب ألا يقطع من ليس سارقا.
ثم قالوا: من سرق شيئا فأكله قبل أن يخرج من حرزه، وإن كان يساوي دنانير، فلا قطع عليه، فخصوا بالقطع بعض السراق دون بعض.
وكذلك فعل الحنفيون سواء بسواء، إلا أنهم قالوا: لا يقطع سارق لحم ولا مصحف ولا فاكهة ولا زرنيخ.
وروى محمد بن المغيرة المخزومي عن مالك: أن الاناء يغسل من ولوغ الخنزير سبعا، قياسا على الحديث الوارد في الكلب، ثم قالوا: لا يغسل من لعاب الكلب ثوب ولا جسد، لانه إنما ذكر في الحديث الاناء ولم يذكر غيره، ثم روى ابن القاسم عنه أنه قال: لا يهرق الاناء إلا أن يكون فيه ماء وأما غير الماء فلا يضره ولوغ الكلب.
وأما الشافعيون فأتوا إلى آية الظهار فقاسوا على الام والاخت، وقالوا: ذكر الله تعالى الام دليلا على أن الاخت مثلها، ثم قالوا: ذكر الله تعالى المظاهر دليل على أن المرأة إذا ظاهرت من زوجها بخلاف ذلك، ثم قالوا: ومن ظاهر من أمته فلا كفارة عليه، فخصوا بعض النساء المذكورات في الآية بلا دليل، كل ذلك ومثل هذا في أقوالهم كثير، بل هو أكثر أقوالهم، وما سلم منها من التناقض إلا الاقل، وكلها يهدم بعضها بعضا، ويدل هذا دلالة قطع على أن أقوالهم من عند غير الله تعالى، إذا ما كان من عند الله تعالى فلا اختلاف فيه ولا تعارض، وبعضه يصدق بعضا.
فصل من تناقضهم في ذلك أيضا قال أبو محمد: نص الله تعالى على إيجاب الدية والكفارة في قتل المؤمن خطأ، فأوجبها القياسيون قتل المؤمن الذمي خطأ، ولا ذكر له في الآية أصلا، ثم اختلفوا: فطائفة أوجبت الكفارة في قتل العمد قياسا على قتل الخطأ، وطائفة
(7/923)
 
 
منعت من ذلك، وكان تناقض هذه الطائفة أعظم، لانهم أوجبوا الكفارة على قاتل الصيد خطأ: قياسا على قاتله عمدا، ومنعوا من الكفارة في قتل المؤمن عمدا، ولم يقيسوه على قتله خطأ، هذا وكلهم يسمع قول الله تعالى: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * وقول رسول الله (ص): رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فوجب بهذين النصين أن لا يؤخذ أحد بخطأ من فعله، إلا ما جاء به النص من إيجاب الكفارة على المخطئ في قتل المؤمن، وما أجمعت الامة عليه من ضمان الخطأ في إتلاف الاموال، وأن الوضوء ينتقض بالاحداث الخارجة من المخرجين بالنسيان كالعمد فقط.
ومن تناقضهم أن قالت طوائف منهم في قول النبي (ص): من باع نخلا وفيها تمر قد أبر فهو للبائع إلا أن يشترط المبتاع فقال بعضهم: إذا ظهر، أبر أو لم يؤبر، فهو للبائع، وهذا قول أبي حنيفة، وقد كثر تناقض أصحابه في دليل الخطاب جدا.
وقالت طوائف منهم: واجب أن تكون الرقبة في الظهار إلا مؤمنة، لان الرقبة التي ذكرت في كفارة القتل لا تكون إلا مؤمنة، فوجب أن تكون الرقبة المسكوت عن ذكر دينها في الظهار مثل الرقبة المذكور دينها في القتل.
ثم قال بعض هذه الطائفة لما ذكر (ص) القلتين في قوله: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا وجب أن يكون لها ما دون القلتين بخلا ف القلتين.
قال أبو محمد: فهلا قالوا في الرقبة كذلك، وأوجبوا أن يكون المسكوت عنها بخلاف المذكور دينها، كما جعلوا المسكوت عنه فيما دون القلتين بخلاف المذكور من القلتين ؟ أو هلا جعلوا المسكوت عنه مما دون القلتين مثل القلتين، كما جعلوا المسكوت عن دينها في الظهار مثل المذكور دينها في القتل ؟.
وقالت طائفة أخرى منهم: لا يقول المأموم: سمع الله لمن حمده، لان ذلك
لم يذكر في بعض الاحاديث، ولا يقول الامام: آمين، لانه لم يذكر ذلك في بعض الاحاديث، وإن كان قد ذكر في غيرها، لكن يغلب المسكوت ههنا، فلا نقول إلا ما جاء في كلا الحديثين ذكره.
ثم قالت: الجزية من غير أهل الكتاب، وإن كان الله تعالى لم يأمر بأخذها إلا من أهل الكتاب، وادعوا
(7/924)
 
 
ذلك على عثمان رضي الله عنه.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح عن عثمان أصلا، وأول من أخذ الجزية من غير أهل الكتاب، فالقاسم بن محمد الثقفي قائد الفاسق الحجاج أخذها من عباد البد من كفرة أهل السند، وأما عثمان رضي الله عنه فلم يتجاوز إفريقية وأهلها نصارى، ولا تجاوز في الشرق خراسان وفي الشمال أذربيجان وأهلها مجوس.
ومن عجائبهم التي تغيظ كل ذي عقل ودين، والتي كان يجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في القول بها، أو يستحيوا من تقليد من أخطأ فيها، إطباقهم على أن قول الله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * فليس يدخل فيه القاتل خطأ وأن القاتل خطأ بخلاف القاتل عمدا في ذلك، ثم أجمع الحنفيون والشافعيون والمالكيون على قول الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا) * إلى منتهى قوله تعالى: * (ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه) * فقالوا كلهم: إن القاتل الصيد وهو محرم خطأ تحت هذا الحكم وهم يسمعون هذا الوعيد الشديد الذي لا يستحقه مخطئ بإجماع الامة، فيكون في عكس الحقائق والتحكم في دين الله تعالى أعظم من هذا التلاعب في حكمين وردا بلفظ العمد، ففرقوا بينهما كما ترى ؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقالوا: ذكر الله تعالى: * (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم) * فقالوا:
نقيس من يظاهر بجريمته أو بشئ محرم على الام، ونلحق المسكوت عنه بالمذكور.
ثم قالوا: لا نقيس تظاهر المرأة من زوجها بتظاهره منها، ولا نلحق عنه بالمذكور ثم قالوا: نوجب الكفارة على المرأة الموطوءة نهارا في رمضان قياسا على الرجل الواطئ في رمضان، فيلحق المسكوت عنه بالمذكور، وقد قالوا كما ذكرنا: نلحق الرقبة المسكوت عنها في الظهار بالرقبة المذكور دينها في القتل، ثم قالوا: نوجب في التعويض من الصيام في كفارة القتل إطعاما، وإن كان
(7/925)
 
 
قد عوض من الصيام بالاطعام في كفارة الظهار التي قسنا آنفا رقبتها على رقبة القتل، وقاس بعضهم التيمم على الوضوء، أن لا بد من بلوغ التيمم إلى المرفقين وأبوا أن يقيسوا مسح الرأس في التيمم على مسحه في الوضوء.
وقالوا: الحكم المسكوت عنه بحكم المذكور ههنا، ثم لم يقيسوا قوله تعالى في الرجعة: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * على قوله تعالى في الدين: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * فقالوا: هذا لا نحكم عنه للمسكوت عنه بحكم المذكور، وقالوا هنالك: نحكم للمسكوت عنه بحكم المذكور.
وأما الحنفيون فحكموا في آيتي الشهادة المسكوت عنه بحكم المذكور، فقبلوا النساء في الرجعة والطلاق والنكاح وفي آية التيمم، فأوجبوا إلى المرفقين، ولم يحكموا في رقب الظهار والقتل والكفارة للمسكوت عنه بحكم المذكور، ولا حكموا لغير السائمة بحكم السائمة، ففرقوا ههنا بين المسكوت عنه وبين المذكور، فكل طائفة منهم تحكمت في دين الله بعقولها وتقليدها الفاسد، بلا برهان.
وقد احتج بعضهم علي حيث وافق هواه، بأن البدل حكمه حكم المبدل منه فأعلمته بأن ذلك باطل بلغة العرب التي خوطبنا بها في القرآن والسنة، وبحكم الشريعة، أما اللغة فإن البدل على أربعة أضرب: بدل البعض من الكل، وبدل
البيان، وبدل الغلط، وبدل الصفة من الموصوف، فليس في هذه الوجوه بدل يكون حكمه حكم المبدل منه إلا بدل البيان وحده، كقولك: مررت بزيد رجل صالح على أن أحدهما نكرة الآخر معرفة، وأما القرآن فقد أبدل الله تعالى من عتق رقبة الكفارة، صيام ثلاثة أيام، ومن عتق رقبة الظهار صيام شهرين متتابعين، وأبدل من عتق رقبة الكفارة إطعام عشرة مساكين، ومن هؤلاء العشرة صيام ثلاثة أيام، وأبدل من صيام الشهرين إطعام ستين مسكينا، وأبدل تعالى من هدي المتعة صيام عشرة أيام، ومن هدي الاذى صيام ثلاثة أيام فبطل ما ادعوه.
وقالت طائفة منهم في قوله (ص): من مس فرجه فليتوضأ لا ينقض الوضوء إلا من مسة بباطن يده دون ظاهرها، فلم يحكموا في ذلك بكل ما يقع عليه اسم مس.
(7/926)
 
 
ثم قالوا في ذلك بحديث لا يصح فيه من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ.
قال أبو محمد: ولو صح لما كان مانعا من إيجاب الوضوء في مسه بغير اليد، لانه إنما يكون في هذه الرواية التي احتجوا بها ذكر الافضاء باليد فقط، وكان يكون في الحديث الآخر المس جملة، كما لم يكن في قوله (ص): من مس فرجه فليتوضأ ما يوجب إسقاط الوضوء من الريح والغائط، بل كان مضافا إليه ومجموعا معه.
ثم نقضوا هذا فقالوا في حديثين وردا: أحدهما: إذا وقعت الحدود فلا شفعة والآخر: إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فاستعملوا كلا اللفظين ولم يجعلوهما حديثا واحدا، بل أوجبوا قطع الشفعة بتحديد الحدود وإن لم تصرف الطرق، وقالوا: نعم إذا حدث الحدود فلا شفعة وإذا زيد في ذلك
فصرفت الطرق فلا شفعة أيضا.
قال أبو محمد: ولم يفعل ذلك الحنفيون ههنا ولكنهم قد نقضوه فيما ذكرنا آنفا من مس الفرج، ونقضه بعضهم في حديثين رويا عن رسول الله (ص) في أحدهما: أنه عليه السلام مسح بناصيته، وفي الآخر: أنه مسح على العمامة فقالوا: هذا حديث واحد، ولا يجزئ المسح على العمامة دون الناصية.
قال أبو محمد: وهذا خلاف ما فعلوا في الشفعة مع أن كون الحديث الذي فيه ذكر الناصية غير الحديث الذي فيه ذكر العمامة، أبين من أن يحتاج فيه كلفة، لان راوي الناصية المغيرة بن شعبة، وراوي العمامة فقط بلال وعمرو بن أبي أمية الضمري معا، فمن ادعى أنهما حديث واحد فقد افترى وقفا ما ليس له به علم، وذلك لا يحل وقد كان ينبغي لهم أن يحكموا المسكوت عنه من المسح على الرأس المستور، بحكمهم على الرجلين المستورين كما حكموا بالمسح على الجرموقين قياسا على الخفين، وكما قاسوا المسح على الجبائر في الذراعين على المسح على الخفين في الرجلين، والجبائر لم يأت ذكرها في نص صحيح أصلا، وإذا جاز عندهم تعويض المسح عليها من غسل الذراعين فتعويض المسح على العمامة من مسح الرأس أولى، لان هذا مسح عوض من مسح، وذلك مسح عوض من غسل، وكان قياس الرأس على الرجلين، لانهما طرفا الجسد، ولانهما جميعا يسقطان في التيمم:
(7/927)
 
 
أولى من قياس الذراعين بالجبائر على الرجلين، ولكن القوم ليسوا في شئ، وإنما يقولون ما خرج إلى أفواههم دون تعقب، وقلدهم من تلاهم.
وأتوا إلى قوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى) * فتناقضوا فقالوا: هذه الآية موجبة أنه لا يقتل الحر بالعبد وليست موجبة ألا يقتل الذكر بالانثى، أفيكون أقبح تحكما ممن يقول: إن قوله تعالى: * (الحر بالحر) *
موجب ألا يقتل حر بعبد ويقولون: إن قوله تعالى: * (والانثى بالانثى) * موجبا ألا تقتل الانثى بالذكر والذكر بالانثى ؟ وأما نحن فإن قوله (ص): المؤمنون تتكافأ دماؤهم عموم موجب عندنا قتل الحر بالعبد والعبد بالحر، والذكر بالانثى والانثى بالذكر، وكذلك قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * موجب القصاص بين الحر والعبد، والذكر والانثى، فيما دون النفس، يقص فيه للحر من العبد، وللعبد من الحر، والاماء والحرائر فيما بينهن، ومع الرجال كذلك ولا قصاص لكافر من مؤمن أصلا، لنصوص أخر ليس هذا مكان ذكرها.
وقال بعضهم: قوله تعالى: * (قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس) * يدل على أن الدم الذي يكون مسفوحا ليس حراما.
قال أبو محمد: وهم قد نسوا أنفسهم في هذه الآية، لانه إذا كان ذكر المسفوح موجبا أن يكون غير المسفوح مباحا، فوجب أن يكون ذكر لحم الخنزير في الآية نفسها موجبا إباحة جلده، وشعره، وهم لا يقولون هذا، فقد تناقضوا، فإن ادعوا إجماعا كذبوا، لان كثيرا من الفقهاء يبيحون بيع جلده، والانتفاع به إذا دبغ والخرز بشعره، فهذا تناقض لم يبعد عنهم فينسوه.
وأيضا فإن قوله تعالى في سورة المائدة في آية منها من آخر ما نزل: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) * مبين أن كل دم فهو حرام ويدخل في ذلك المسفوح وغير المسفوح وهذا بين وبالله تعالى التوفيق.
(7/928)
 
 
الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس في أحكام الدين قال أبو محمد: علي بن أحمد رضوان الله عليه: ذهب طوائف من المتأخرين من أهل الفتيا إلى القول بالقياس في الدين، وذكروا أن مسائل ونوازل ترد لا ذكر لها في نص كلام الله تعالى، ولا في سنة رسول الله (ص) ولا أجمع الناس عليها قالوا: فننظر إلى ما يشبهها مما ذكر في القرآن، أو في سنة رسول الله (ص)، فنحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم الوارد في نظيره في النص والاجماع، فالقياس عندهم هو أن يحكم لما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع، لاتفاقهما في العلة التي هي علامة الحكم، هذا قول جميع حذاق أصحاب القياس وهم جميع أصحاب الشافعي وطوائف من الحنفيين والمالكيين، وقالت طوائف من الحنفيين والمالكيين: لاتفاقهما في نوع من الشبه فقط.
وقال بعض من لا يدري، ما القياس ولا الفقه من المتأخرين، وهو محمد بن الطيب الباقلاني: القياس هو حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الاحكام لهما أو إسقاطه عنهما من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه.
قال علي: وهذا كلام لا يعقل، وهو أشبه بكلام المرورين منه بكلام غيرهم، وكله خبط وتخليط، ثم لو تحصل منه شئ، وهو لا يتحصل، لكان دعوى كاذبة بلا برهان، وأطرف شئ قوله: أحد المعلومين فليت شعري، ما هذان المعلومان ومن علمهما ؟ ثم ذكر إيجاب بعض الاحكام أو إسقاطه وهما ضدان، ثم قال: من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه وهذه لكنه وعي وتخليط ونسأل الله السلامة، وإنما أوردناه ليقف على تخليطه كل من له أدنى فهم، ثم نعود إلى ما يتحصل منه معنى يفهم، وإن كان باطلا من أقوال سائر أهل القياس وقال أبو حنيفة: الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله (ص) أولى من القياس،
ولا يحل القياس مع وجوده قال: والرواية عن الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم، أولى القياس: قال: ولا يجوز الحكم بالقياس في الكفارات، ولا في الحدود، ولا في المقدرات.
وقال الشافعي: لا يجوز القياس مع نص قرآن، أو خبر
(7/929)
 
 
صحيح مسند فقط، وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم، وقال أبو الفرج القاضي، وأبو بكر الابهري المالكيان: القياس أولى من خبر الواحد المسند والمرسل، وما نعلم هذا القول عن مسلم، يرى قبول خبر الواحد قبلهما.
وقسموا القياس بثلاثة أقسام: فقسم هو قسم الاشبه والاولى، وهو إن قالوا: إذا حكم في أمر كذا بحكم كذا، فأمر كذا أولى بذلك الحكم، وذلك نحو قول أصحاب الشافعي: إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ وفي اليمين التي ليست غموسا، فقاتل العمد وحالف اليمين الغموس أولى بذلك وأحوج إلى الكفارة، وكقول المالكي والشافعي: إذا فرق بين الرجل وامرأته لعدم الجماع، فالفرقة بينهم العدم النفقة التي هي أوكد من الجماع أولى وأوجب، وكقول الحنفي والشافعي والمالكي: إذا لزمت المظاهر بظهر الام الكفارة، فالمظاهر بفرج أمه أولى.
وقسم ثان وهو قسم المثل، وهو نحو قول أبي حنيفة ومالك: إذا كان الواطئ في نهار رمضان عمدا تلزمه الكفارة، فالمتعمد للاكل مثله في ذلك، وإذا كان الرجل يلزمه في ذلك الكفارة فالمرأة، الموطوءة باختيارها عامدة، في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل، وكقول من قال من التابعين ومن بعدهم: إذا كان ظهار الرجل من امرأته يوجب عليه الكفارة فالمرأة المظاهرة من زوجها في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل.
وكقول الشافعي: إذا وجب غسل الاناء من ولوغ الكلب فيه سبعا فهو من الخنزير كذلك.
وكقول المالكيين: إذا وجب على الزاني الذي ليس محصنا جلد مائة وتغريب عام، فقاتل العمد إذا عفي له عن دمه مثله،
وكقول الحسن: إذا ورثت المطلقة ثلاثا في المرض، فهو في وجوب الميراث له منها إن ماتت كذلك أيضا.
والقسم الثالث قسم الادنى، وهو نحو قول مالك وأبي حنيفة: إذا وجب القطع في مقدار ما في السرقة، وهو عضو يستباح، فالصداق في النكاح مثله، وكقول أبي حنيفة: إذا كان خروج البول والغائط وهما نجسان ينقض الوضوء فخروج الدم وهو نجس متى خرج من الجسد أيضا كذلك، وكقول الشافعي: إذا كان مس الذكر ينقض الوضوء فمس الدبر الذي هو عورة مثله كذلك، وكقول المالكي: إذا كان قول: أف عمدا في الصلاة يبطلها، فالنفخ فيها عمدا كذلك.
(7/930)
 
 
قال أبو محمد: فهذه أقسام القياس عند المتحذلقين القائلين به.
وذهب أصحاب الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة، وقالوا: لا يجوز الحكم البتة في شئ من الاشياء كلها، إلا بنص كلام الله تعالى، أو نص كلام النبي (ص)، أو بما صح عنه (ص) من فعل أو إقرار، أو إجماع من جميع علماء الامة كلها، متيقن أنه قاله كل واحد منهم، دون مخالف من أحد منهم، أو بدليل من النص أو من الاجماع المذكور الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا، والاجماع عند هؤلاء راجع إلى توقيف من رسول الله (ص) ولابد، من لا يجوز غير ذلك أصلا، وهذا هو قولنا الذي ندين الله به، ونسأله عزوجل أن يثبتنا فيه، ويميتنا عليه بمنه ورحمته.
آمين.
وشغب أصحاب القول بالقياس بأشياء موهوا بها، ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما احتجوا به، ونحتج لهم بكل ما يمكن أن يعترضوا به، ونبين بحول الله تعالى وقوته بطلان تعلقهم بكل ما تعلقوا به في ذلك، ثم نبتدئ بعون الله عزوجل بإيراد البراهين الواضحة الضرورية على إبطال القياس،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فما شغبوا به أن قالوا: قال الله عزوجل: * (ولا تقل لهمآ أف) * فوجب إذ منع من قول: * (لهمآ) * للوالدين أن يكون ضربهما أو قتلهما ممنوع، لانهما أولى من قول: * (أف) * وقال تعالى: * (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * قالوا: فوجب أن ما فوق القنطار وما دونه داخل كل ذلك في حكم القنطار في المنع من أخذه.
وقال تعالى: * (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها) * قالوا: فعلمنا أن ما دون مثقال حبة وما فوقها داخلان في حكم مثقال حبة الخردل، أنه تعالى يأتي بها، وقال تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا ير ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * قالوا: فعلمنا أن ما فوق مثقال الذرة وما دونها يرى أيضا.
وقال تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) * قالوا: فعلمنا أن ما فوق القنطار والدينار وما دونهما في حكم القنطار والدينار، وقال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * قالوا:
(7/931)
 
 
فعلمنا أن ما عدا الاكل من اللباس وغيره حرام إذا كان بالباطل، وقال تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * فعلمنا أن قتلهم لغير الاملاق حرام، كما هو خشية الاملاق، قالوا: وقول الناس: لا تعط فلانا حبة، فإنه مفهوم منه أن ما فوق الحبة وما دونها داخل كل ذلك في حكم الحبة، قالوا: ومن ادعى من هذه الآي فهم ما عدا ما فيها من غيرها فهو خارج عن المعقول وعن اللغة.
قالوا: وأنتم توافقوننا في كل ما قلنا في هذه الآيات وهذا الفصل، وتقرون معنا بأن ما عدا هذه المنصوصات فإنه داخل في حكمها، قالوا: وهذا إقرار منكم بالقياس، وترك لمذهبكم في إبطاله.
قال أبو محمد: قال الله عزوجل: * (أم للانسان ما تمنى) * وكل ما ذكروا فلا
حجة لهم فيه أصلا، بل هو أعظم حجة عليهم، لانه ينعكس عليهم في القول بدليل الخطاب، فإنهم، على ما ذكرنا في بابه في هذا الديوان، يقولون: إن ما عدا المنصوص فهو مخالف للمنصوص، فيلزمهم على ذلك الاصل أن يقولوا ههنا: إن ما عدا * (أف) * فإنه مباح، وما عدا الدينار والقنطار، والاكل، ومثقال الخردلة والذرة، وخشية الاملاق، بخلاف حكم ذلك، فقد ظهر تناقضهم وهدم مذاهبهم بعضها لبعض، ثم نعود فنقول وبالله تعالى التوفيق: أما قول الله تعالى: * (ولا تقل لهمآ أف) * فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما ولا قتلهما.
ولما كان فيها إلا تحريم قول * (أف) * ؟ فقط.
ولكن لما قال الله تعالى في الآية نفسها: * (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) *.
اقتضت هذه الالفاظ من الاحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل والرحمة لهما، والمنع من انتهارهما، وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق، فبهذه الالفاظ وبالاحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى، والمنع من كل ضرر وعقوق بأي وجه كان، لا بالنهي عن قول: * (أف) * ؟ وبالالفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة
(7/932)
 
 
أن من سبهما أو تبرم عليهما أو منعهما رفده في أي شئ كان من غير الحرام، فلم يحسن إليهما ولاخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
ولو كان النهي عن قول: * (أف) * ؟ مغنيا عما سواه من وجوه الاذى لما كان لذكر الله تعالى في الآية نفسها، مع النهي عن قول: * (أف) * ؟، النهي عن النهر والامر بالاحسان، وخفض الجناح والذل لهما معنى، فلما لم يقتصر تعالى على ذكر الاف وحده، بطل قول من ادعى أن بذكر الاف علم ما عداه.
وصح
ضرورة أن لكل لفظة من الآية معنى غير سائر ألفاظها، ولكنهم جروا على عادة لهم ذميمة من الاقتصار على بعض الآية والاضراب عن سائرها، تمويها على من اغتر بهم، ومجاهرة لله تعالى بما لا يحل من التدليس في دينه.
كما فعلوا في ذكرهم في الاستنباط قول الله تعالى: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وأضربوا عن أول الآية في قوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الامر منكم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وأول الآية مبطل للاستنباط.
وكما فعل من فعل منهم في قول الله تعالى: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * وأضربوا عما بعدها من قوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) *.
قال أبو محمد: ومن البرهان الضروري على أن نهي الله تعالى عن أن يقول المرء لوالديه: (أف ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عما عدا الاف، أن من حدث عن إنسان قتل آخر أو ضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود، وبصق في وجهه فشهد عليه من شهد ذلك كله، فقال الشاهد: إن زيدا، يعني القاتل أو القاذف أو الضارب، قال لعمرو: يعني المقتول أو المضروب أو المقذوف، لكان بإجماع منا ومنهم كاذبا آفكا شاهد زور مفتريا مردود الشهادة فكيف يريد هؤلاء القوم بنا أن نحكم بما يقرون أنه كذب ؟.
فكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله تعالى الحكم بما يشهدون أنه كذب ؟ ونحن نعوذ بالله العظيم من أن نقول: إن نهي الله عزوجل عن قول: للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب لهما أو القتل أو القذف، فالذي لا شك فيه عند كل من له معرفة بشئ من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شئ من ذلك فبلا شك يعلم
(7/933)
 
 
كل ذي عقل أن النهي عن قول ليس نهيا عن القتل ولا عن الضرب
ولا عن القذف، وأنه إنما هو نهي عن قول: فقط.
وأما ذكره تعالى القنطار في آية الصداق وآية وفاء أهل الكتاب، فما فهمنا قط أن ما عدا القنطار فهو حكم القنطار من هاتين الآيتين، لكن لما قال تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) *.
قال أبو محمد: فبهذه الآية حرم على الزوج أن يأخذ مما أعطى زوجته شيئا، وسواء قل أو كثر، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، أو تطيب نفسها كما قال تعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * لولا هذه الآية، وما في معناها من سائر الآيات والاحاديث التي فيها تحريم الاموال جملة وتحريم العود في الهبات، لما كان في آية القنطار مانع مما عدا القنطار أصلا.
وبرهان عن ذلك أنه لو شهد شاهدان لزيد: أن له على عمرو قنطارا، وكان في علمهما الصحيح أنه له عليه قنطارين أو أكثر من قنطار أو أقل من قنطار، لكانا شاهدي زور كذابين آفكين، وما علمنا في طبيعة بشر أحدا يفهم من قول القائل أخذ لي عمرو قنطارا، أنه آخذ له أكثر من قنطار، ومدعي هذا مفتر على اللغة ومكابر للحس، داخل في نصاب الموسوسين مبطل للحقائق، ويقال له: لعله تعالى إذا ذكر سبع سموات، إنما أراد بها خمس عشرة أو أكثر من ذلك، وهذا هو بطلان الحقائق، وفساد العقل على الحقيقة.
وأما الآية التي فيها ذكر الدينار والقنطار في ائتمان أهل الكتاب فقد أخبرنا تعالى أنهم يقولون أو من قال منهم: * (ليس علينا في الاميين سبيل) * ففي هذا استجازة أهل الكتاب لخون أماناتنا، قلت أو كثرت، وقد علمنا بضرورة العقل
والمشاهدة، وعلم الناس قبل نزول هذه الآية المذكورة، أن في أهل الكتاب وفي المسلمين أوفياء، يفون بالقليل والكثير، وغدرة يغدرون بالقليل والكثير، لان هذا من صفات الناس، وإن في الناس من يفي بالقليل تصنعا ويخون الكثير
(7/934)
 
 
رغبة، وأن فيهم من يغدر بالقليل خسة نفس واستهانة، ويفي بالكثير مخافة الشهرة أو انقطاع رزقه إن كان لا يعيش في مكسبة إلا بائتمان الناس إياه وهذا كله موجود مشاهد، معلوم بالحس.
فإن قالوا: فما فائدة الآية إذن ؟ قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: الفائدة فيها عظيمة، فأول ذلك الاجر العظيم في تلاوتها في التصديق أنها من عند الله عز وجل.
وأيضا فالتنبيه لنا على التفكر في عظيم القدرة في ترتيبه لنا طبائع الناس، فمنهم الوفي الكافر، والخائن الكافر، وأيضا فائتمانهم على المال فإن ذلك مباح لنا إذا قدرنا فيهم الامانة، وإبطال قول من منع من الوصية إليهم بالمال وهذا مثل قوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت) * ومثل قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * وقد علمنا ذلك قبل نزول القرآن ولكنه تنبيه ووعظ وتحريك إلى اكتساب الاجر بالاعتبار والفكرة في قدرة الله عزوجل وذكره تعالى القنطار ههنا كذكره السبعين استغفارة في قوله تعالى: * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) * وقد سبق في علم الله تعالى أنه سيبين مراده من ذلك أنه تعالى لا يقبل استغفاره لهم أصلا، وقد قلنا غير مرة إن مثل هذا السؤال فاسد، وأنه تعالى لا يسأل عما يفعل، ونحن نسأل عن كل فعلنا وقولنا.
وأما قوله تعالى: * (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *، وقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فإنما علمنا عموم ذلك كله فيما دون الذرة وما فوقها من قوله تعالى: * (ما لهذا الكتاب
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * وبقوله تعالى: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) * وبقوله تعالى * (ووفيت كل نفس ما كسبت) * فهذه الآيات بينت أن ما فوق الذرة والخردلة وما دونها محسوب كل ذلك ومجازي به، وكذلك قوله تعالى: * (ان تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الارض يأت بها الله) * فإنما علمنا العموم في ذلك من قول الله تعالى: * (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) * فشمل تعالى جميع أرزاق الحيوان في هذه الآية، فدخل في ذلك ما هو دون الخردلة وما فوقها.
(7/935)
 
 
وقد أجاب أبو بكر بن داود عن هذا السؤال أن قال: إن الذي هو فوق الذرة ذرة وذرة وهكذا ما زاد لانه زاد على الذرة بعض ذرة، فذاك البعض إذا أضيف إلى أبعاض الذرة جاء من ذلك مقدار الذرة، وأما ما دون مثقال الذرة فحكمه مأخوذ من غير هذا المكان.
قال علي: وهذا جواب صحيح ضروري والذي نعتمد عليه عموما في جميع هذا الباب، فهو الذي قلنا آنفا، وأن المرجوع إليه في كل ما جرى هذا المجرى نصوص أخر، أو إجماع متيقن أو ضرورة المشاهد بالحواس والعقل فقط، فإن لم نجد نصا ولا إجماعا ولا ضرورة اقتصرنا على ما جاء به النص، وقفنا حيث وقف ولا مزيد وإلا فإن ذكره تعالى لما ذكر من هذه المقادير، وهذه الاحوال في هذه الآيات كذكره تعالى أخبار بعض الانبياء عليهم السلام في مكان، وذكره تعالى لهم في مكان آخر بأكمل مما ذكرهم به في غيرها، ولا يسأل عما يفعل.
وأما قوله عزوجل: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * فإنما علمنا أن ما عدا الاكل حرام بقول رسول الله (ص) في حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم
وأعراضكم عليكم حرام وبآيات أخر وأحاديث أخر، فبالحديث المذكور حرم التصرف في أموال الناس بغير ما أمر الله تعالى به بالاكل وغير الاكل، ولو تركنا والآية المذكورة ما حرم بها شئ غير الاكل، ولكان ما عدا الاكل موقوفا على طلب الدليل فيه إما بمنع وإما إباحة من غيرها، ولما وجب أن تحكم فيما عدا الاكل من الآية لا بتحريم ولا بتحليل كما يقولون معنا: إن الله حرم الاكل على الصائم ولم يحل عليه تملك الطعام، ولا ما عدا الاكل من بيه وهبة وغير ذلك فأي فرق بين الاكل المحرم على الصائم، وبين الاكل المحرم على الناس في أموالهم ؟ وكما أباحوا هم ونحن الاكل من بيت الاب والام والصديق والاقارب المنصوصين، فهلا أباحوا أخذ ما وجدوا للاقارب ما عدا الاكل قياسا على الاكل المباح أهلا حرموا على الصائم تملك الطعام وبيعه قياسا على ما صح من تحريم الاكل عليه ؟ كما زعموا أنهم إنما حرموا تملك الاموال بالظلم والباطل قياسا على تحريم الله تعالى أكلها بالباطل، فإذ لم يفعلوا
(7/936)
 
 
ذلك، فقد تركوا القياس الذي يقرون أنه حق، فظهر تناقضهم والحمد لله رب العالمين.
وحتى لو لم يرد نص جلي في تحريم الاموال جملة، لكان الاجماع على تحريمها كافيا، ولعلمنا حينئذ أن اسم الاكل موضوع على أخذ منقول عن موضوعه المختص له في اللغة كما تقول العرب، أكلتنا السنة أي أفنت أموالنا، وكما قال الشاعر: فإن قومي لم تأكلهم الضبع يريد لم تفنهم.
وأما قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * فإنما حرم قتلهم جملة لغير الاملاق من آيات أخر، وهي قول الله تعالى: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) * وبقوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * وبقوله تعالى: * (وإذا الموءودة سئلت ئ بأى ذنب قتلت) * وبقول رسول الله (ص): إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام.
وأما قوله تعالى: * (ما يملكون من قطمير) * فإنما أخبر عزوجل في موضع آخر على أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وما كان هذا فبالضرورة نعلم أنها لا تملك شيئا.
وهكذا الحكم في كل ما موهوا به، فإن الله تعالى قد بين لنا مراده، ولو لم يرد غير النصوص التي ذكرنا لوجب ألا نتعدى البتة إلى ما لم يذكر بها وللزم أن لا نحكم بها أصلا إلا فيما وردت فيه، ومن تعدى هذا فإنه متعد لحدود الله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * نعوذ بالله من ذلك.
وأما قول الناس: لا تعط فلانا حبة، فإنما يعلم مراد القائل في ذلك، أمجدا قال ذلك أم هازلا أم مقتصرا على الحبة أم لاكثر منها، بما يشهده من حال الامر في امتناعه وتسهله، وأكثر ذلك فهذا القول من قائله لا يتأتى مجردا البتة.
ولا بد ضرورة من أن يقول: لا تعطه البتة شيئا ولا حبة، وربما زاد لا قليلا ولا كثيرا، فهذا هو المعهود من تخاطب الناس فيما بينهم، ومن ادعى غير هذا فهو مجاهر مدع على العقل ما ليس فيه، بل هو مخالف لموجب العقل ولمقتضى اللغة على الحقيقة، وبالله تعالى نعتصم.
فإن ذكروا قول الله تعالى: * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * فقد قال تعالى في آية أخرى * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق) * فنص
(7/937)
 
 
تعالى على الامساك، والامساك على عمومه يقتضي النقير وغير النقير، وأقل من النقير وأكثر منه.
واحتجوا في ذلك أيضا بقول الله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * وبقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قالوا: فلم يخص الله تعالى ما قال أولو الامر منا
بتوقيف من النبي (ص) مما قالوه بقياس.
قال أبو محمد: هذا الاحتجاج منهم جمع الشناعة والاثم لان الله تعالى لم يأمر قط أولي الامر منا أن يقولوا بآرائهم ولا بقياساتهم، ولا أن يقولوا ما شاؤوا، وإنما أمرهم الله تعالى أن يقولوا ما سمعوا، أو يتفقهوا في الدين الذي أنزله الله تعالى على نبيه (ص) وينذروا بذلك قومهم، وهذا بين في قوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *، وفي قوله تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *، وفي قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، وفي قوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
قال أبو محمد: ومن قال بقياسه فقد تعدى حدود الله، وقفا ما لا علم به، وأخبر عن الله تعالى بما لا يعلم أحد ما عند الله تعالى إلا بإخبار من الله تعالى بذلك، وإلا فهو باطل، وقد بينا فيما خلا أن قول الله تعالى: * (أولي الامر منكم) * إنما هو جميع أولي الامر لا بعضهم ولم يجمعوا قط على القول بالقياس، فكيف نكون نحن مأمورين باتباعهم فيما افترقوا فيه ؟.
وهذا ضد أمر الله تعالى في القرآن وبرهان قاطع وهو أن الله تعالى قال: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * وحدود الله تعالى هي كل ما حد وبين فصح أنه ليس لاحد أن يتعدى في شئ من الدين ما حده الله تعالى في القرآن، وعلى لسان رسوله (ص) بالوحي فبطل أن يحمل أولوا الامر على تعدي حدود الله تعالى، لانه باطل فقد اتفقنا أنهم لا يجمعون على باطل، وكل ما ل