الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم قال الفقيه الامام أبو محمد، على بن أحمد، رحمة الله عليه ورضوانه: الحمد لله الذى امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الة ممى بأن أرسل إليهم مقدمة المؤلف قال الفقيه الامام أبو محمد، علي بن أحمد، رحمة الله عليه ورضوانه: الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وخص من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له، ويسره لفهمه، وسدده لاختياره، وسهل عليه سبيله، وخذل منهم من شاء، فطبع على قلبه، ووعر عليه طريق الحق، ووفق قوما في سبيل ما، ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى، كما قال عز وجل: من يشأ لله يضلله ومن يشأ يجعله على طراط مستقيم.
ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون دون * (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) * و * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون) * أن يجبر مريد حق على إرادته، أو يقسر قاصد باطل على قصده، أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه، أو ندبه إليه، لكن كما قال عز وجل: * (وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم
الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ئ فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) * وكما قال تعالى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، وقال تعالى (وكذلك زينا لكل أمة عملهم) وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم * (فلمآ رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين) * ويقول يوسف * (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والانس بالدين القيم بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
وبعد: فإن الله عز وجل ركب في النفس الانسانية قوة مختلفة، فمنها عدل يزين لها الانصاف، ويحبب إليها موافقة الحق.
قال تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين) * ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد، قال تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) * وقال تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) * فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى، والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله
(1/5)
 
 
في أخراه وهلاكه في معاده.
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب، وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهرا جليا.
ومنها جهل يطمس عليها الطرق، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتردد، وفي ريب تتلدد، ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو إحجاما، أو إلفا وسوء اختيار، قال تعالى: * (ل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * وقال تعالى: * (انما يخشى الله من عباده العلماء) *.
ومنها قوة التمييز التي سماها الاوائل المنطق، فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز وجل، وإلى معرفة الاشياء ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل، فيها تكون معرفة الحق من الباطل.
قال تعالى: فبشر عبادي الذين يستعمون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هدا هم الله وألئك هم أولوا الالباب ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم، وعلى اعتقاد ذلك علما، وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا، وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة، والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) *.
قال أبو محمد علي: أراد بذلك العقل، وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر، وغير متذكر، ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له، قال تعالى، شاهدا لما قلنا: * (أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقال بعض السلف الصالح: ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من أطاع الله عز وجل.
قال أبو محمد علي: هذه كلمة جامعة كافية، لان طاعة الله عز وجل، هي جماع
(1/6)
 
 
الفضائل واجتناب الرذائل، وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم، لا إله إلا هو، فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به، أو حض عليه، ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه، وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها، من علو صوت، أو عرض
جاه، أو نمو مال، أو نيل لذة من طاعة أو معصية، فليس ذلك عقلا، بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار، وقائد إلى الهلاك في دار الخلود.
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور، وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار، ضعيف العقل، فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم، فهو يشهد أن اختيار الشئ القليل في عدده، الضعيف في منفعته، المشوب بالآلام والمكاره، الفاني بسرعة، على الكثير في عدده العظيم في منفعته، الخالص من الكدر والمضار، الخالد أبدا، حمق شديد وعدم للعقل البتة.
ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق، واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار، ونواوير وأزهار، وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر، ومال عريض، إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها، وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة، وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة، وفي أثنائها أهوال ومتالف، ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال، فيسكنها مائة عام، فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء، يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه، وفاسد العقل جدا، ظاهر الحمق ردئ الاختيار، مذموما مدحورا ملوما.
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه.
فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا.
اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه، متحيرا في مصيره، فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين.
(1/7)
 
 
وكل ما قلنا فلم نقله جزافا، بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى
شاهدا بصحته، وميزه العقل، عالما بحقيقته، والحمد لله رب العالمين.
وإن الله عز وجل ابتلى الامم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة، فمؤمن وكافر، فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار، وعبده المنتخب من جميع ولد آدم، محمدا (ص) الهاشمي المكي، إلى جميع خلقه من الجن والانس، فنسخ بملته جميع الملل، وختم به الرسل، وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه، واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا.
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار، ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود، وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك، وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت، غرور، وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس، خطأ، إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور، والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله (ص)، وإحياء سنن الحق، وإماتة طوالع الجور.
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل، وأصوات مستحسنة، متقضية بهبوب الرياح، ومشام مستطرفة، منحلة بعيد ساعات، ومذاوق مستعذبة، مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة، وملابس معجبة، متبدلة في أيسر زمان تبدلا موحشا، باطلا.
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول، إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق، وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء، كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه، وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل، وإخراجهم إلى بيان الحق ونور
(1/8)
 
 
اليقين.
فقد أخبر رسول الله (ص) أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير له من حمر النعم.
وأخبر عليه السلام أن من سن سنة خير في الاسلام، كان له مثل أجر كل عمل بها، لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا.
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها.
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة: فمن أوكدها وأحسنها مغبة، بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله (ص)، وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه، والعبارات الواردة فيه، فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس.
فإثم من قلدهم إثمين: إثم التقليد، وإثم الخطأ.
ونقصت أجور من اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد.
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير، وامتن عليه بتزايد الاجر، وهو في التراب رميم.
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب، وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب، وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه، ورجونا بذلك الاجر من الله عز وجل، فكان ذلك الكتاب أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل، وكتبنا أيضا كتابنا المرسوم بالفصل، فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب.
ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شئ من ذلك مساغا، والحمد لله كثيرا.
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات، والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا.
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا، موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الاحكام في الديانة مستوفى، مستقصى، محذوف
(1/9)
 
 
الفضول، محكم الفصول، راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات، وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه، فيضرب لنا في ذلك بقسط، ويتفضل علينا منه بحظ، فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شئ: لا إله إلا هو.
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق: إنه لما صح أن العالم مخلوق، وأن له خالقا لم يزل عز وجل، وصح أنه ابتعث رسوله محمدا (ص) إلى جميع الناس، ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لاوليائه عز وجل، وليكب من عصاه في النار الحامية، وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه (ص) شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع، يوصل إلى الفوز، وينجي من الهلاك، وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله (ص) بتبليغه إلينا، وسماه قرآنا، وفي الكلام الذي أنطق به رسوله (ص) وسماه وحيا غير قرآن، وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه عليه السلام، لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب، ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود، ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *
فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل، فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل، والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم، مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الاحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل، لا يشذ عنها شئ من ذلك، فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله عليه السلام
(1/10)
 
 
وطاعة أولي الامر، ومن هم أولو الامر، وبيان التنازع الواقع منا، وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا، وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام، وهذا هو جماع الديانة كلها.
ووجدناه قد قال تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) * فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى، وكل ما كمل فليس لاحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله.
فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل، ثم على لسان رسول الله (ص) فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز وجل ونهيه وإباحته، لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد غيره.
وهو عليه السلام لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى، ثم على ألسنة أولي الامر منا، فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد جيل ما أتى به رسول الله (ص) عن الله تعالى، وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا، لكن عن النبي عليه السلام، هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل، وليس من الدين، إذ ما لم يكن من عند الله تعالى، فليس من دين الله أصلا، وما لم يبينه رسول الله (ص)،
فليس من الدين أصلا، وما لم يبلغه إلينا أولو الامر منا عن رسول الله (ص) فليس من الدين أصلا.
فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب، بأن ترك ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية، أو عامدا لها، أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك، فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين: إما ترك، وإما زيادة، ولخصنا الحق تلخيصا لا يشكل على نصح نفسه.
وقصد الله عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا بالله عز وجل.
وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه، ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه، رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه، ورجاء ثواب الله عز وجل في ذلك، وبالله تعالى نتأيد.
(1/11)
 
 
باب ترتيب الابواب، وهو الباب الثاني - إذ الباب الاول في صدر هذا الكتاب، وذكر الغرض فيه وهو الذي تم قبل هذا الابتداء.
الباب الثاني: هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب الباب الثالث: في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة، وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه.
الباب الرابع: في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الاشياء ويتخاطب بها الناس.
الباب الخامس: في الالفاظ الدائرة بين أهل النظر.
الباب السادس: هل الاشياء في العقل على الحظر أو الاباحة.
أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز وجل.
الباب السابع: في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي
دليل أو لا.
الباب الثامن: في معنى البيان.
الباب التاسع: في تأخير البيان.
الباب العاشر: في القول بموجب القرآن.
الباب الحادي عشر: في الاخبار التي هي السنن - وفي بعض فصول هذا الباب - سبب الاختلاف الواقع بين الائمة.
الباب الثاني عشر: في الاوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والاخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور.
أو الندب أو التراخي.
الباب الثالث عشر: في حملها على العموم أو الخصوص.
الباب الرابع عشر: في أقل الجمع الوارد فيها.
الباب الخامس عشر: في الاستثناء منها.
الباب السادس عشر: في الكتابة بالضمير.
الباب السابع عشر: في الكتابة بالاشارة.
الباب الثامن عشر: في المجاز والتشبيه.
(1/12)
 
 
الباب التاسع عشر: في أفعال رسول الله (ص) وفي الشئ يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الامر به أو النهي عنه.
الباب الموفي عشرين: في النسخ.
الباب الحادي والعشرون: في المتشابه من القرآن والمحكم، والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام.
الباب الثاني والعشرون: في الاجماع.
الباب الثالث والعشرون: في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط
إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته، وهو باب من الدليل الاجماعي.
الباب الرابع والعشرون: في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع الدليل الاجماعي.
الباب الخامس والعشرون: في ذم الاختلاف والنهي عنه.
الباب السادس والعشرون: في أن الحق في واحد وسائر الاقوال كلها خطأ.
الباب السابع والعشرون: في الشذوذ، ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها.
الباب الثامن والعشرون: في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم.
الباب التاسع والعشرون: في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس.
الباب الموفي ثلاثين: في لزوم الشريعة الاسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للانسان.
الباب الحادي والثلاثون: في صفة طلب الفقه، وصفة المفتي، وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه.
الباب الثاني والثلاثون: في وجوب النيات في الاعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود، والعمد المقصود بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق.
الباب الثالث والثلاثون: في شرائع الانبياء قبل نبينا (ص) أتلزمنا أم لا.
(1/13)
 
 
الباب الرابع والثلاثون: في الاحتياط وقطع الذرائع.
الباب الخامس والثلاثون: في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي.
الباب السادس والثلاثون: في إبطال التقليد.
الباب السابع والثلاثون: في دليل الخطاب.
الباب الثامن والثلاثون: في إبطال القياس.
الباب التاسع والثلاثون: في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الاسباب والاغراض والمعاني والعلامات والامارات.
الباب الموفي أربعين: في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به، ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطئ عند الله عز وجل وإن خالفناه.
الباب الثالث في إثبات حجج العقول قال أبو محمد: قال قوم: لا يعلم شئ إلا بالالهام، وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بقول الامام، وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاما معدوم المكان، متلف العين، ضالة من الضوال.
وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بالخبر.
وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بالتقليد، واحتجوا في إبطال حجة العقل بأن قالوا: قد يرى الانسان يعتقد بشئ ويجادل عنه، ولا يشك في أنه حق.
ثم يلوح له غير ذلك، فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها.
قال أبو محمد: هذا تمويه فاسد، ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده، ويناضل عنه، لاننا لم نقل: إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه، ولا قلنا: إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق.
(1/14)
 
 
ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول.
لكن قلنا: إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الاحكام في كتاب التقريب.
وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا
على مذهب فاسد، وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح، وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور، ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الايضاح.
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلالية فاسدا، إما الاول، وإما الثاني، وقد يكونان معا فاسدين، فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد.
أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد، أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح.
لا بد من أحد هذه الوجوه، ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة.
لان الشئ لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد.
وقد يكون أقساما كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد، وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر، فمال بهوى أو تهور بشهوة، أو أحجم لفرط جبنه، أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها.
وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدة، فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب، فيكل فيها الذهن الكليل، ويدخل مع طول الامر وكثرة العمل ودقته السآمة، فيتولد فيها الشك والخبال والسهو، كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه، على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس، فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط، حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشئ وقف على اليقين بلا شك.
(1/15)
 
 
هذا شئ يوجد حسا كما ترى، وقد يدخل أيضا على الحواس، فيرى المرء بعينه شخصا، فربما ظنه زيدا وكابر عليه، حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو، وهكذا
يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق، وقد يعرض ذلك الشئ، يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده، ثم يجده بعد ذلك، فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة، فكذلك يعرض في الاستدلال، وليس شئ من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس، ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس، ولولاه لم نعلم أصلا، كما أن حواس المجنون المطب والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها، وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف، ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع، يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب، وأنه مبطل وقاح، أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه، فهذا معذور، وإنما نكلم الانفس لسنا نقصد بكلامنا الالسنة.
ولا علينا قصر الالسنة بالحجة إلى الاذعان بالحق، وإنما علينا قسر الانفس إلى تيقن معرفته فقط.
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت، إنما هو خطأ صريح، فمن هنا دخلت عليهم الشبهة، وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا، فهو حجة العقل، وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل، بل العقل يبطلها، فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين.
وقد أحكمنا هذا غاية الاحكام والحمد لله رب العالمين، في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل، ترجمته (باب الكلام على من قال بتكافؤ الادلة).
وقد سألوا أيضا فقالوا: بأي شئ عرفتم صحة حجة العقل ؟ أبحجة عقل أم بغير ذلك ؟ فإن قلتم: عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم، وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه.
قال أبو محمد، وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها، والجواب على ذلك وبالله تعالى
(1/16)
 
 
چالتوفيق: أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا، وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشئ لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة، وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان، فلا وقت للاستدلال فيه، ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فعل الله عز وجل في النفوس فقط.
ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل.
ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا.
وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل، وكتابنا الموسوم بالتقريب، وتقصينا هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى، وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال بإلهام: ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه.
والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل، وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء، وأن المدعين للالهام، ولادراك ما يدركه غيرهم بأول عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم، إلهاما أو إدراكا، فصح بلا شك أنهم كذبة.
وأن الذي بهم وسواس.
وأيضا فإن الالهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أعطي كل امرئ بدعواه المعراة لما ثبت حق، ولا بطل باطل،
ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم، ولا صحت ديانة أحد أبدا، لانه لا يعجز أحد عن أن يقول: ألهمت أن دم فلان حلال، وأن ماله مباح لي أخذه، وأن زوجه مباح لي وطؤها، وهذا لا ينفك منه، وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا، وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا، فلا بد من حاكم
(1/17)
 
 
يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله.
وقد بينا ذلك في كتاب التقريب.
وقال أبو محمد: ويقال لمن قال بالامام: بأي شئ عرفت صحة قول الامام، أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام ؟ أم بقوله مجردا ؟.
فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به، ولا سبيل له إليه، وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاما، وإن قالوا بالالهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الالهام، وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل، ولا سبيل إلى وجه خامس أصلا.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال بالتقليد: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت، بل كفر من قلدته أنت أو جهله.
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد، وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد، وقد أفردنا في إبطال التقليد بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق.
قال أبو محمد علي: ويقال لمن قال لا يدرك شئ إلا من طريق الخبر، أخبرنا الخبر كله حق ؟ أم كله باطل ؟ أم منه حق وباطل ؟ فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شئ إلا به، وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم، وإن قال حق كله، عورض بأخبار مبطلة لمذهبه، فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشئ وضده في وقت واحد، وذلك ما لا سبيل إليه، وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى
الباطل فهو باطل ضرورة، فلم يبق إلا أن من الخبر حقا وباطلا، فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه، إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما، وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل.
قال أبو محمد علي: ثم يقال لجميعهم: بأي شئ عرفتم صحة ما تدعون إليه، وصحة
(1/18)
 
 
التوحيد والنبوة، ودينك الذي أنت عليه، أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل ؟ وبأي شئ عرفت فضل من قلدت، أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه ولا مقلدا له برهة من دهرك ؟ وبأي شئ عرفت صحة ما بلغك من الاخبار بعد أن لم تكن بلغتك ؟ وهل لك من عقل أم لا عقل لك ؟ فإن قال: عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته، وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه، فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ، فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه، وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه، وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق.
فإن قال: لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك مذهبه الفاسد ضرورة.
قال أبو محمد: واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى * (لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) * والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) *.
قال أبو محمد: وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم، وهو قوله تعالى: فيمن يحاج بعد ظهور الحق، وهذه صفة المعاند للحق، الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها، وهذا مذموم عند كل ذي عقل.
ومنها قوله تعالى: * (وقالوا أآلهتنا خير
أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) *.
قال أبو محمد: وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل، وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات، من إحياء الموتى وغير ذلك.
ومنها قوله تعالى: * (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) *، ومنها قوله تعالى: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني قال أبو محمد قال تعالى: * ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا) * فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف، فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به، فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك، فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم، ووجه
(1/19)
 
 
الجدال المأمور به المحمود، لانا قد وجدناه تعالى قد قال: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) * ووجدناه تعالى قد قال: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية، وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال كلها من الرفق والبيان، والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة.
وقال تعالى: * (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ئ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *.
ولم يأمر الله عز وجل رسوله (ص) أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه، ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم، مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الاهدى واتباعه الامر الاصوب، وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول خصمه، ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل، فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه.
وقال تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني
له ما في السماوات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ئ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *.
قال أبو محمد: ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة، والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة، وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل، وأنه مفتر على الله تعالى، وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل، وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة، ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الانصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة، وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله.
وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها، ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا، لاننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث، وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الادلة، قبل اعتقاد مدلولاتها، حتى وفقنا، ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين، وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون.
(1/20)
 
 
وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه.
وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الاحاديث والآي في ظاهر اللفظ، ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا، ولعلها ثابتة في نقلها، فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها، إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين.
وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) * فأمر عز وجل كما ترى
بإيجاب المناظرة في رفق، وبالانصاف في الجدال، وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشئ من ذلك، فيعارض حينئذ بما ينبغي.
وقال تعالى: * (فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه) فذكر عز وجل تقرير ابراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله، وأن ذلك لدليل على خلقها، وبرهان على حدوثها فقال عز وجل: * (وتلك حجتنا آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) *.
وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة، فمرة للملك ومرة لقومه، والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه، ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون.
قال الله عز وجل: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) * فنحن المتبعون لابراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة، فنحن أولى الناس به، وسائر الناس مأمورون بذلك.
قال الله تعالى: * (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * ومن ملته المناظرة كما ذكرنا، فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله عز وجل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما.
قال الله عز وجل، وقد أثنى على أصحاب
(1/21)
 
 
الكهف: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلو بهم إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إليها لقد قلنا أذا شططا.
هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بساهان بين، فمن أظلم ممن افترى * فأثنى الله عز وجل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينه وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولا بلا دليل فهو مفتر على الله عز وجل الكذب.
وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات
ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) * فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى، ومن كلام نبيه (ص) فأعرض عنه، وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وقال تعالى: * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين) * فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم، وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار، وقال تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم.
فقال تعالى: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فصح بكل ماذ كرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه قال أبو محمد: في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة، وألا يأتي ما قامت عليه الحجة، فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه، أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان، أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن، وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطئ ويصيب.
وقال تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فأوجب تعالى أن من كان صادقا في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل، أو جاهل.
وقال تعالى: * (هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم، ومنع منها بغير علم.
وقال تعالى: * (فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا)
(1/22)
 
 
قال أبو محمد: فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة، ولم يوجب قبول شئ إلا ببرهان، وجب علينا تطلب الحجاج المذموم
على ما قدمناه فوجدناه قد قال: * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق فذم تعالى الباطل، وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة، وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة، وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق.
وقال تعالى: * (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) *.
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم، والجدال المحمود الواجب، فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق، والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا: أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه، وفي هذا بيان أن الحق في واحد، وأنه لا شئ إلا ما قامت عليه حجة العقل، وهؤلاء المذمومون الذين قال الله تعالى فيهم: * (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) * وقوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) * وقوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ئ ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * وبقوله تعالى: * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ئ كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) * فبين تعالى كما ترى أن الجدال ا لمحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم.
قال أبو محمد: ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال: * (مآ أريكم إلا مآ أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * * (وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) *، فبأي شئ يعرف المحق منهما من
المبطل: هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها ؟.
(1/23)
 
 
فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارئ قد نصصناه في اتباع البرهان، وتكذيب قول من لا حجة في يديه، وهو الذي لا يسع مسلما خلافه.
لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره، فيقال له: أترى رسول الله (ص) كان شاكا إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر، وأمره بطلب البرهان، وإقامة الحجة على كل من خالفه، ولا قول من قال: أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه، أو كلاما هذا معناه.
قال أبو محمد: وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الارض، فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه، ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليدا بلا برهان، وألا يقبلا برهان الاسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة.
قال الله عز وجل ألا لعنة الله على الظلالمين الذين يصدوق عن سبيل الله ويبغونها عوجا.
قال أبو محمد: فإذا قد حض الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز وجل، بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه، فهو صاد عن سبيل الله تعالى، ظالم ملعون بلا تأويل إلا الا عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم.
وقال تعالى: * (ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح.
ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي، والاعداد الجمة، وأفاضل الصحابة الذين لا نظير
لهم، إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد (ص) عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين.
وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمدا (ص) أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق، أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
وقال تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لان السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك
(1/24)
 
 
البرهان، بل هو لنا أبدا، ودامغ لقول مخالفينا، ومزهق له أبدا.
ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقا كثيرا فأزهقته، منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه، ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم، ولعن قتلتهم، وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط.
قال أبو محمد: وقد علمنا عز وجل الحجة على الدهرية في قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار) *.
وقوله تعالى: * (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا) * وعلمنا الحجة على الثنوية بقوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) * وعلى النصارى وعلى جميع الملل، وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار البرهان بغاية الايجاز والاختصار.
وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله (ص)، كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال: أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، حدثنا ابن الاعرابي، أنبأنا أبو داود، أبو موسى بن إسماعيل، ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص): جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.
قال أبو محمد: وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الامر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله.
قال أبو محمد: وقد علمنا رسول الله (ص) وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما، واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، هو ابن دينار، عن طاوس قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله (ص): احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدر الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة.
فحج آدم موسى.
(1/25)
 
 
قال أبو محمد: فموسى (ص) وضع الملامة في غير موضعها، فصار محجوجا، وذلك لانه لام آدم (ص) على أمر لم يفعله، وهو خروج الناس من الجنة، وإنما هو فعل الله عز وجل، ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعا للملامة موضعها، ولكان آدم محجوجا وليس أحد ملوما إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله، ولا مما فعله غيره.
والكافر إنما يلام على الفعل، لا على دخول النار، والقاتل إنما يلام على فعله، لاعلى موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه.
فعلمنا رسول الله (ص) في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة، وبين لنا (ص) أن المحاجة جائزة، وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجا، وظهر بذلك قول الله عز وجل: * (كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *.
والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن
مواضعه، ويطلب فيه ما ليس فيه، وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شئ، وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر.
قال أبو محمد: وقد تحاج المهاجرون والانصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه، وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق.
فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم.
وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال.
ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج، ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة، لانه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل، لان حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها.
وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف، أو معاند سخيف.
والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره.
وإزهاق الباطل وتبينه.
فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد.
وهو من أهل الباطل حقا.
والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه عليه السلام: أبغض الرجال إلى الله الالد الخصم أو كما قال (ص).
فإذا قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الالهام
(1/26)
 
 
والتقليد، وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه، ولا يتميز حقه من كذبه، وواجبه من غير واجبه، إلا بدليل من غيره، فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها، وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الاشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الامور الكائنات، وتمييز المحال منها.
وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع، فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة.
وهما طرفان
أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل، والثاني قصر فخرج عن حكم العقل، ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه، ولا فرق.
ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معا، إحداهما: التي تبطل حجج العقل جملة.
والثانية: التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم، فثقفوها هم ورتبوها رتبا أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها، وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها.
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكا عظيما، وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول.
وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الاشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته، والعمل بما صححه العقل من ذلك كله، وسائر ما هو في العالم موجود، مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط.
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا، أو يكون التيس حراما أو حلالا، أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق، أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه، أو أن يتزوج أربعا ولا يتزوج خمسا، أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء المقتول.
أو أن يكون الانسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع، أو أن تخص
(1/27)
 
 
صورة الانسان بالتمييز دون صورة الفرس، أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا، وكذلك سائر رتب العالم كلها.
فهذا ما لا مجال للعقل
فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لاوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه، والاقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضا علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد.
ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق، وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق.
الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات أعن توقيف أم عن اصطلاح قال أبو محمد: أكثر الناس في هذا، والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري.
فأما السمع فقول الله عز وجل: * (وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين) *.
وأما الضروري بالبرهان: فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم، وتدربت عقولهم، وتمت علومهم، ووقفوا على الاشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها، واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الانسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره.
إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته.
ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه، فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع، ويعاني به الامراض، ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك.
وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله، لانه عمل المصطلحين، وكل عمل لا بد من أن يكون
له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة.
(1/28)
 
 
قال علي: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الانساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الاول تبارك وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لانه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك، وكل فعل فعله فله زمان ابتدئ فيه، لان الفعل حركة تعدها المدد، فصح أن لهذا التأليف أولا، والانسان لا يوجد دونه.
وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثا بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه.
ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.
قال علي: وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها.
أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها.
وذلك الاتفاق على فهم تلك الاشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الاشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم.
لابد من ذلك.
فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.
ولم يبق إلا أن يقول قائل: إن الكلام فعل الطبيعة.
قال علي: وهذا يبطل ببرهان ضروري.
وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة، وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى.
وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الاماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
قال علي: وهذا محال ممتنع، لانه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الامكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه.
وهذا يرى بالعيان بطلانه لان كل مكان في الاغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم.
فبطل ما قالوا: وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء.
ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له من أحد هذين الوجهين.
فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.
(1/29)
 
 
إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الاشياء وكيفياتها وحدودها، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولا، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارة، وأقلها إشكالا، وأشدها اختصارا وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل: * (وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين) * فهذا التأكيد يرفع الاشكال ويقطع الشغب فيما قلنا.
وقد قال قوم: هي السريانية وقال قوم: هي اليونانية: وقال قوم: هي العبرانية.
وقال قوم هي العربية.
والله أعلم.
إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الاندلسي، وإذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الاندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتها.
ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل
قرطبة.
وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الالفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق.
فنجدهم يقولون في العنب: العينب وفي السوط أسطوط.
وفي ثلاثة دنانير ثلثدا.
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة.
وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا أراد أن يقول محمدا.
ومثل هذا كثير.
فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الازمان واختلاف البلدان ومجاورة الامم.
وأنها لغة واحدة في الاصل.
وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا، والمستفيض أن
(1/30)
 
 
أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده.
والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم.
فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم: إن اليونانية أبسط اللغات.
ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها.
ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الامة وعلومها وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم وأخبارها قوة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم، هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة.
ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الاعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة.
فكيف تفلت أكثرها، والله تعالى اعلم.
ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا، ولا ندري لعل قائلا يقول: لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها، وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلا، وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن.
ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الاسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة، إذ توزعها بنوه بعد ذلك، وهذا هو الاظهر عندنا والاقرب، إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها، ولكن هذا هو الاغلب عندنا، نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها، وإنما ظننا هذا لاننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى، وعظيم التعب في ذلك لغير معنى، ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه، فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيئ الاختيار، مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه، وعما هو آكد عليه من أمور معاده، ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة.
ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم،
(1/31)
 
 
ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعا بل نقول: إنه ممكن بعيد جدا، فإن قالوا: لعل ملكا كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم، قلنا لهم: هذا ضد وضع اللغات الكثيرة، بل هو جمع اللغات على لغة واحدة، ثم نقول: وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئا ؟ وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخف وأمكن من إحداث لغة مستأنفة، وعلم ذلك عند الله عز وجل.
وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.
وهذا لا معنى له لان وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) * وقال تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) *.
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لان سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع.
قال علي: وهذا جهل شديد لان كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.
وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لانه بها كلام الله تعالى.
قال علي: وهذا لا معنى له، لان الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه.
وقال تعالى: * (إني إذا لفي ضلال مبين) * وقال تعالى: * (وإنه لفي زبر الاولين) * فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه.
وقد أنزل التوراة والانجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا.
وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع، ولا نص ولا إجماع في ذلك، إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها: إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات
(1/32)
 
 
القائمة بيننا الآن، وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات، وإما أن تكون لهم لغات شتى: لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنه يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم، أو بغيرها مما الله
تعالى أعلم به.
وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم، واحتج بقول الله عز وجل: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * فقلت له: فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: * (وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * ولانهم قالوا: * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) * ولانهم قالوا: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * فقال لي: نعم، فقلت له: فاقض أن موسى وجميع الانبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية، لان كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية، فإن قلت هذا كذبت ربك، وكذبك ربك في قوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) * فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم، ليبين لنا عز وجل فقط، وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح، ولا حسن في بعضها دون بعض، وهي تلك بأعيانها في كل لغة، فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أدى هذا الوسواس العامي، اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية، وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الاعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها، وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1/33)
 
 
الباب الخامس في الالفاظ الدائرة بين أهل النظر قال أبو محمد: هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه، وشبك بين
المعاني وأوقع الاسماء على غير مسمياتها، ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت المضرة وخفيت الحقائق، ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها، فنقول وبالله تعالى نتأيد: الحد: هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشئ المخبر عنه كقولك: الجسم هو كل طويل عريض عميق، فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسما، فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم.
والرسم: هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبئ عن طبيعته كقولك: الانسان هو الضحاك، فإنك ميزت الانسان بهذا اللفظ تمييزا صحيحا مما سواه، إلا أنك لم تخبر بطبيعته لانك لو توهمت الضحك مرتفعا عن الانسان لم تبطل بذلك عنه الانسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها.
قال أبو محمد علي: ولما كان هذان المعنيان متغايرين، كل واحد منهما غير صاحبه، وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر، ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الاشكال ولكنا ظالمين لهم جدا وغير ناصحين لهم، وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء، إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه (ص): ليبينه للناس ولا يكتمونه، ومن لبس الحقائق فقد كتمها.
والعلم: هو تيقن الشئ على ما هو عليه، إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك، وإما أول بالحس أو ببديهة العقل، وإما حادث عن أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس، إما من
(1/34)
 
 
قرب وإما من بعد، وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه، فوافق فيه الحق، وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال، برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده، وأن رسول الله (ص) دعا الناس كلهم إلى الايمان بالله تعالى، وبما جاء به والنطق بذلك، ولم يشترط عليه السلام عليهم ان ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال، بل قنع بهذا من العالم والجاهل، والحر والعبد، والمسبي والمستعرب، واجتمعت الامة على ذلك بعده عليه إلى اليوم.
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه، ولم يشترط عليهم استدلالا في ذلك، فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به، إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك، ولحرم عليه اعتقاده لان الله تعالى يقول: * (ولا تقف ما ليس لك به علم * وقال تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به، ومنهي عن القول بما لا يعلم، وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال، ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به، وعن قفو ما لا نعلم، كان مدعيا بلا دليل، ومبطلا في قوله لانه يقول: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * إلا في الايمان، فاقف فيه ما لا علم لك به، وهذا كذب على الله تعالى مجرد.
فإن قال قائل: فإن الله يقول: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * قلنا: نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل، ولا برهان لصاحب الباطل، وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم، سواء علمه المعتقد له أو جهله، وإنما يكف البرهان أهل الباطل لادحاض باطلهم، ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا، لانه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا، فإن كان محقا مثله فهو معنت له، والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في الحق، قال
تعالى: * (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) * وقال تعالى: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) * فلا يجوز تكليف المحق برهانا إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة، لان من فعل ذلك يكون معارضا للحق، ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز، قال تعالى ذاما لقوم: * (كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق
(1/35)
 
 
فأخذتهم فكيف كان عقاب) وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة، فقالوا: الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث، وهذا كلام موجب الكفر، لانهم يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث، لان كل محدود متناه ومركب، وكل مركب فمخلوق، لانه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه، فقد جعلوا ربهم محدثا تعالى الله عن ذلك وقالوا: حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل.
قال علي: وهذا حد فاسد لان النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل، ولا تسمى عالمة، وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان.
وقالت طائفة منهم: حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله.
قال علي: وكلا الحدين فاسد، ونحن نسألهم: أهذه الصفة التي ذكرتم ؟ أهي والموصوف بها شئ واحد ؟ أم هي والموصوف بها شيئان متغايران ؟ فإن قالوا شئ واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى، ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط، وأيضا فإن كون الصفة والموصوف شيئا واحدا غير موجود في العالم لان الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتي، والموصوف باق بحسبه، ولا شك في أن
الفاني غير الباقي، والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا، ولكن اتباعا منا للنص الوارد في أن له علما فقط، إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضا، ونحن لم نسم الباري تعالى عالما، وإنما قلنا: إنه عليم كما قال تعالى.
فإن قالوا: فأي فرق بين عالم وعليم.
قيل لهم: وأي فرق بين الجبار والمتجبر، فسموا ربكم متجبرا، وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين، وأن له مكرا، ولا نسميه ماكرا، وكذلك نسميه حكيما ولا نسميه عاقلا ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ.
وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست مشتقة أصلا
(1/36)
 
 
وبالله التوفيق.
فإن قالوا: إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم.
والاعتقاد: هو استقرار حكم بشئ ما في النفس.
إما عن برهان، أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا ولابد، وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو باطلا، وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبخت وإما باطلا بسوء الجد.
والبرهان: كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشئ.
والدليل: قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى، وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده، فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت، وقد يسمى المرء الدال دليلا أيضا.
والحجة: هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا.
والدال: هو المعرف بحقيقة الشئ وقد يكون إنسانا معلما، وقد يعبر به
عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم، وقد يسمى الدليل دالا على المجاز، ويسمى الدال دليلا أيضا كذلك في اللغة العربية.
والاستدلال: طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم.
والدلالة: فعل الدال، وقد تضاف إلى الدليل على المجاز والاقناع: قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شئ ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله.
والشغب: تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة.
والتقليد: هو اعتقاد الشئ لان فلانا قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان، وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليدا، بل هو طاعة حق لله تعالى.
(1/37)
 
 
والالهام: علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد، وهو لا يكون إلا: إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضا كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك، وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك: أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء، وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل.
والنبوة: اختصاص الله عز وجل رجلا أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها، إما بواسطة ملك، أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات، وقد انقطعت بعد محمد (ص).
والرسالة: أن يأمر الله تعالى نبيا بإنذار قوم وقبول عهده، وكل رسول نبي
وليس كل نبي رسولا.
والبيان: كون الشئ في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه.
والابانة والتبيين: فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الاشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة، وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الافهام مبينا كما تقول بين لي الموت أن الناس لا يخلدون، والتبيين فعل نفس المبين للشئ في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا والمبين هو الدال نفسه.
والصدق: هو الاخبار عن الشئ بما هو عليه.
والحق: هو كون الشئ صحيح الوجود، ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقا.
فليعلم أن هذا شغب فاسد، لان وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحا، بل هو معدوم، فرضا الله تعالى بهما باطل، وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه، فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه، وإلا وقع الاشكال وتحير الناظر.
وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه، لان
(1/38)
 
 
الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلا إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص، ولا يحل فيها التصريف، فظهر فساد هذا الفرق بيقين، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن الله تعالى قال: * (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل) * ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا.
فظهر فساد هذا الفرق.
والباطل: ما ليس حقا.
والكذب: هو الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه.
والاصل: هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل.
والفرع: كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما أنتج منه أيضا.
والمعلوم: قسمان: معلوم بالاصل المذكور، ومعلوم بالمقدمات الراجعة إلى الاصل كما بينا.
وكل ما نقل بتواتر على النبي (ص) أو أجمع عليه نقل جميع علماء الامة عنه عليه السلام أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه عليه السلام، فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة.
والنص: هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنة المستدل به على حكم الاشياء وهو الظاهر نفسه.
وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصا.
والتأويل: نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق، وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل.
والعموم: حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة، وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر عموما، إذ قد يكون الظاهر خبرا عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد.
والخصوص: محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفا ولا فرق.
والالفاظ إما دالة على واحد، وإما على أكثر من واحد، فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدرا.
والمجمل: لفظ يقتضي تفسيرا فيؤخذ من لفظ آخر.
(1/39)
 
 
والمفسر: لفظ يفهم منه معنى المجمل المذكور.
والامر: إلزام الآمر المأمور عملا ما، فإن كان الخالق تعالى أو رسوله (ص) فالطاعة لهما فرض، وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له.
والنهي: إلزام الناهي المنهي ترك عمل ما، والقول فيه كالقول في الامر فلا فرق وطاعة الائمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز وجل بذلك.
والفرض: ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو: الواحب، واللازم، والحتم.
والحرام: وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور، والذي لا يجوز، والممنوع.
والطاعة: تنفيذ الامر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه، وقد يسمى كل بر طاعة.
والمعصية: ضد ذلك.
والندب: أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور، وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو: الائتساء، والمستحسن، والمستحب، وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر.
والكراهة: نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثوابا وليس في فعله أجر ولا إثم، وذلك نحو ترك كل تطوع، ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد، والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء، وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل، وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم، والحلق في غير علة أو حج أو عمرة، والاكل متكئا.
والاباحة: تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شئ منهما ولا عقاب، كمن جلس متربعا أو رافعا إحدى ركبتيه، أو كمن صبغ ثوبه أخضر، أو لازوديا، وسائر الامور كذلك وهو الحلال.
والقياس: عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشئ ما بحكم لم يأت به نص
(1/40)
 
 
لشبهه شئ آخر ورد فيه ذلك الحكم، وهو باطل كله.
والعلة: طبيعة في الشئ يقتضي صفة تصحيحها، ولا توجد الصفة دونها ككون النار علة للاحراق والاحراق هو معلولها، والعلة أيضا المرض ولا علة في شئ من الدين أصلا، والقول بها في الدين بدعة وباطل.
والسبب: أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلا آخر من أجله، ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سببا لعقوبة المذنب.
والغرض: نتيجة يقصدها الفاعل بفعله، كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله.
وقد يكون الغرض اختيارا، كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه.
والامارة: علامة بين المصطلحين على شئ ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه.
والنية: قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها.
والشرط: تعليق حكم ما بوجوب آخر، ورفعه برفعه وهو باطل ما لم يأت به نص، وذلك نحو قول القائل: إن خدمتني شهرا أعطيتك درهما.
والتفسير والشرح: هما التبيين.
والنسخ: ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الاول.
والاستثناء: ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الاول ما بقي بعد المستثنى منه، وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء، لان النسخ كان فيه اللفظ الاول مرادا كله طول مدته، وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الاول مرادا كله قط.
والجدل والجدال: إخبار كل واحد من المختلفين بحجته، أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلا، وقد يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا، إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما، ولا سبيل أن يكونا معا محقين في ألفاظهما ومعانيهما.
والاجتهاد: بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق، فمصيب موقف أو محروم والرأي: ما تخيلته النفس صوابا دون برهان، ولا يجوز الحكم به أصلا.
(1/41)
 
 
والاستحسان: هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأ أو صوابا.
والصواب: إصابة الحق.
والخطأ: العدول عنه بغير قصد إلى ذلك.
والعناد: العدول عنه بالقصد إلى ذلك.
والاحتياط: طلب السلامة.
والورع: تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفا أن يكون ذلك فيه.
والجهل: مغيب حقيقة العلم عن النفس.
والطبيعة: صفات موجودة في الشئ يوجد بها على ما هو عليه، ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه.
ودليل الخطاب: هو ضد القياس، وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه.
والشريعة: هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه (ص) في الديانة وعلى ألسنة الانبياء عليهم السلام قبله، والحكم منها للناسخ، وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب والشارب من النهر، قال تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم
وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب) * وقال امرؤ القيس: ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج يفئ عليها الظل عرمضها طامي واللغة: ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها، ولكل أمة لغتهم.
قال الله عز وجل: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) *) * ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات.
واللفظ: هو كل ما حرك به اللسان.
قال تعالى ما يلفظ من قول إلا لدية: * (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد) * وحده على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والاضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود، وهذا أيضا هو الكلام نفسه.
والخلاف: هو التنازع في أي شئ كان، وهو أن يأخذ الانسان في مسالك من القول أو العقل، ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة، إذ لا يحل
(1/42)
 
 
خلاف ما أثبته الله تعالى فيها، وقال تعالى: * (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) * وقال تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وهو التفريق أيضا، قال تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا والاجماع: هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعدا وهو الاتفاق، وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه، وأما الاجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم (ص)، وليس الاجماع في الدين شيئا غير هذا، وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم، ولو واحد منهم عن في الكلام فيه.
والسنة: هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشئ وظاهره، قال الشاعر: تريك سنة وجه غير مقرفة ما ساء ليس بها خال ولا ندب وأقسام السنة في الشريعة: فرض، أو ندب، أو إباحة، أو كراهة، أو تحريم كل ذلك قد سنه رسول الله (ص) عن الله عز وجل والبدعة: كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه (ص)، وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله (ص) إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه، ويغدر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا، وهو ما كان أصله الاباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه، نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص.
ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به.
والكتابة: لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات، وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية.
والاشارة: تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار إليه أو تنبيه عليه.
(1/43)
 
 
والمجاز: هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الاماكن، ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر، ولا يعلم ذلك إلامن دليل من اتفاق أو مشاهدة.
وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله (ص) عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان، ولا يقبل من أحد في شئ من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر، أو جماع متيقن، أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقيا، لان التسمية لله عز وجل
فإذا سمى تعالى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشئ على الحقيقة في ذلك المكان، وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى، قال عز وجل: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) *.
والتشبيه: هو أن يشبه شئ بشئ في بعض صفاته، وهذا لا يوجب في الدين حكما أصلا وهو أصل القياس، وهو باطل لان كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه، ومخالف أيضا بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه، وهو أيضا التمثيل.
والمتشابه: لا يوجد في شئ من الشرائع إلا بالاضافة إلى من جهل دون من علم، وهو في القرآن، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه، وأمرنا بالايمان به جملة، وليس هو في القرآن إلا للاقسام التي في السورة كقوله تعالى: * (والضحى والليل إذا سجى) * والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم.
والمفصل: هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض، تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك.
والاستنباط: إخراج الشئ المعيب من شئ آخر كان فيه، وهو في الدين إن كان منصوصا على جملة معناه فهو حق، وإن كان غير
(1/44)
 
 
منصوص على جملة